-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (75)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (1)
صـ 471 إلى صـ 475
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، في قوله تعالى : يعدلون [ 6 \ 1 ] ، وجهان للعلماء :
أحدهما : أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف ، والميل عنه ، وعلى هذا فقوله : بربهم متعلق بقوله : كفروا ، وعليه فالمعنى : إن الذين كفروا بربهم يميلون وينحرفون عن طريق الحق إلى الكفر والضلال ، وقيل على هذا الوجه : إن " الباء " بمعنى " عن " أي : يعدلون عن ربهم ، فلا يتوجهون إليه بطاعة ، ولا إيمان .
والثاني : أن " الباء " متعلقة بيعدلون ، ومعنى يعدلون يجعلون له نظيرا في العبادة ، من قول العرب : عدلت فلانا بفلان إذا جعلته له نظيرا وعديلا ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]
أثعلبة الفوارس أم رياحا عدلت بهم طهية والخشابا
يعني أجعلت طهية والخشاب نظراء وأمثالا لبني ثعلبة وبني رياح ، وهذا الوجه الأخير يدل له القرآن ، كقوله تعالى ، عن الكفار الذين عدلوا به غيره : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ 26 \ 97 ، 98 ] ، وقوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله [ 2 \ 165 ] ، وأشار تعالى في آيات كثيرة إلى أن الكفار ساووا بين المخلوق والخالق ، قبحهم الله تعالى ، كقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء الآية [ 30 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وعدل الشيء في اللغة مثله ونظيره ، قال بعض علماء العربية : إذا كان من جنسه ، فهو عدل بكسر العين ، وإذا كان من غير جنسه ، فهو عدل بفتح العين ، ومن الأول قول مهلهل : [ الوافر ]
[ ص: 470 ]
على أن ليس عدلا من كليب إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا اضطرب العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب غداة بلابل الأمر الكبير
يعني أن القتلى الذين قتلهم من بكر بن وائل بأخيه كليب الذي قتله جساس بن مرة البكري لا يكافئونه ، ولا يعادلونه في الشرف .
ومن الثاني قوله تعالى : أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] ; لأن المراد نظير الإطعام من الصيام ، وليس من جنسه ، وقوله : وإن تعدل كل عدل [ 6 \ 70 ] ، وقوله : ولا يقبل منها عدل [ 2 \ 123 ] ، والعدل : الفداء ، لأنه كأنه قيمة معادلة للفدى تؤخذ بدله ، قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير ، وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى :
الأول : أن المعنى وهو الله في السماوات وفي الأرض ، أي : وهو الإله المعبود في السماوات والأرض ; لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء ، وعلى هذا فجملة يعلم حال ، أو خبر ، وهذا المعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ 43 \ 84 ] ، أي : وهو المعبود في السماء والأرض بحق ، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره ; لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي ، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] .
وهذا القول في الآية أظهر الأقوال ، واختاره القرطبي .
الوجه الثاني : أن قوله : في السماوات وفي الأرض [ 6 \ 3 ] ، يتعلق بقوله : يعلم سركم ، أي : وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ; ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 6 ] .
قال النحاس : وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية ، نقله عنه القرطبي .
[ ص: 471 ] الوجه الثالث : وهو اختيار ابن جرير ، أن الوقف تام على قوله في : السماوات ، وقوله : وفي الأرض يتعلق بما بعده ، أي يعلم سركم وجهركم في الأرض ، ومعنى هذا القول : أنه جل وعلا مستو على عرشه فوق جميع خلقه ، مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك .
ويبين هذا القول ، ويشهد له قوله تعالى : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا الآية [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وقوله : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، مع قوله : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] ، وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام بإيضاح في سورة " الأعراف " ، واعلم أن ما يزعمه الجهمية من أن الله تعالى في كل مكان ، مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض ، ضلال مبين ، وجهل بالله تعالى ; لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السماوات والأرض ، الذي هو أعظم من كل شيء ، وأعلى من كل شيء ، محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء ، فالسماوات والأرض في يده - جل وعلا - أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى ، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال : إنه حال فيها ، أو في كل جزء من أجزائها ، لا وكلا ، هي أصغر وأحقر من ذلك ، فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن رب السماوات والأرض أكبر من كل شيء ، وأعظم من كل شيء ، محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء ، ولا يكون فوقه شيء :لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 34 \ 3 ] ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا لا نحصي ثناء عليه ، هو كما أثنى على نفسه : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] .
قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ، ذكر في هذه الآية الكريمة : أن الكفار لو نزل الله عليهم كتابا مكتوبا في قرطاس ، أي صحيفة ، إجابة لما اقترحوه ، كما قال تعالى عنهم : ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه الآية [ 17 \ 93 ] ، فعاينوا ذلك الكتاب المنزل ، ولمسته أيديهم ، لعاندوا ، وادعوا أن ذلك من أجل أنه سحرهم ، وهذا العناد واللجاج العظيم والمكابرة الذي هو شأن الكفار بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله : [ ص: 472 ] ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 ، 15 ] .
وقوله : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم [ 52 \ 44 ] ، وقوله : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [ 6 \ 111 ] ، وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية الآية [ 10 \ 96 ، 97 ] ، وقوله : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقوله : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها [ 7 \ 146 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وذكر تعالى نحو هذا العناد واللجاج عن فرعون وقومه في قوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] .
قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، لم يبين هنا ماذا يريدون بإنزال الملك المقترح ، ولكنه بين في موضع آخر أنهم يريدون بإنزال الملك أن يكون نذيرا آخر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في قوله : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا الآية [ 25 \ 7 ] .
قوله تعالى : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ، يعني : أنه لو نزل عليهم الملائكة وهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي ، لجاءهم من الله العذاب ، من غير إمهال ولا إنظار ، لأنه حكم بأن الملائكة لا تنزل عليهم إلا بذلك ، كما بينه تعالى بقوله : ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 15 \ 8 ] ، وقوله : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين الآية [ 25 \ 22 ] .
قوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ، أي : لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا ، لكان على هيئة الرجل ; لتمكنهم مخاطبته ، والانتفاع بالأخذ عنه ; لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من شدة النور ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة الرسول البشري .
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الرسول ينبغي أن يكون من نوع المرسل إليهم ، كما أشار تعالى إلى ذلك أيضا بقوله : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 95 ] .
قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ ص: 473 ] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار استهزءوا برسل قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأنهم حاق بهم العذاب بسبب ذلك ، ولم يفصل هنا كيفية استهزائهم ، ولا كيفية العذاب الذي أهلكوا به ، ولكنه فصل كثيرا من ذلك من مواضع متعددة ، في ذكر نوح وقومه ، وهود وقومه ، وصالح وقومه ، ولوط وقومه ، وشعيب وقومه ، إلى غير ذلك .
فمن استهزائهم بنوح قولهم له : " بعد أن كنت نبيا صرت نجارا " ، وقد قال الله تعالى عن نوح : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون [ 11 \ 38 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 49 \ 14 ] ، وأمثالها من الآيات .
ومن استهزائهم بهود ما ذكره الله عنهم من قولهم : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء [ 11 \ 54 ] ، وقوله عنهم أيضا : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك الآية [ 11 \ 53 ] ، وذكر ما حاق بهم من العذاب في قوله : أرسلنا عليهم الريح العقيم الآية [ 51 \ 41 ] ، وأمثالها من الآيات .
ومن استهزائهم بصالح قولهم فيما ذكر الله عنهم : ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وقولهم : ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا الآية [ 11 \ 62 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [ 11 \ 94 ] ، ونحوها من الآيات .
ومن استهزائهم بلوط قولهم فيما حكى الله عنهم : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، وقولهم له أيضا : لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين [ 26 \ 167 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 \ 74 ] ، ونحوها من الآيات .
ومن استهزائهم بشعيب قولهم فيما حكى الله عنهم : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز [ 11 \ 91 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم [ 26 \ 189 ] ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم ، يعني : أنه تعالى هو الذي يرزق الخلائق ، وهو الغني المطلق فليس بمحتاج إلى رزق ، وقد بين تعالى هذا بقوله : [ ص: 474 ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 ، 57 ، 58 ] ، وقراءة الجمهور على أن الفعلين من الإطعام ، والأول مبني للفاعل ، والثاني مبني للمفعول ، كما بيناه ، وأوضحته الآية الأخرى ، وقرأ سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والأعمش الفعل الأول كقراءة الجمهور ، والثاني بفتح الياء والعين ، مضارع طعم الثلاثي بكسر العين في الماضي ، أي أنه يرزق عباده ويطعمهم ، وهو جل وعلا لا يأكل ; لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوق من الغداء ; لأنه جل وعلا الغني لذاته ، الغني المطلق ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] .
والقراءة التي ذكرنا عن سعيد ، ومجاهد ، والأعمش موافقة لأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى : الله الصمد [ 112 \ 2 ] ، قال بعض العلماء : الصمد السيد ، الذي يلجأ إليه عند الشدائد والحوائج ، وقال بعضهم : هو السيد الذي تكامل سؤدده ، وشرفه ، وعظمته ، وعلمه ، وحكمته ، وقال بعضهم : الصمد هو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ; وعليه ، فما بعده تفسير له ، وقال بعضهم : هو الباقي بعد فناء خلقه ، وقال بعضهم : الصمد هو الذي لا جوف له ، ولا يأكل الطعام ، وهو محل الشاهد ، وممن قال بهذا القول ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعبد الله بن بريدة ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطية العوفي ، والضحاك ، والسدي ، كما نقله عنهم ابن كثير ، وابن جرير وغيرهما .
قال مقيده - عفا الله عنه : من المعروف في كلام العرب إطلاق الصمد على السيد العظيم ، وعلى الشيء المصمت الذي لا جوف له ، فمن الأول قول الزبرقان : [ البسيط ]
سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ولا رهينة إلا سيد صمد
وقول الآخر : [ البسيط ]
علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقول الآخر : [ الطويل ]
ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
ومن الثاني قول الشاعر : [ الطويل ]
[ ص: 475 ]
شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
فإذا علمت ذلك ، فالله تعالى هو السيد الذي هو وحده الملجأ عند الشدائد والحاجات ، وهو الذي تنزه وتقدس وتعالى عن صفات المخلوقين ، كأكل الطعام ونحوه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
قوله تعالى : قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم الآية ، يعني أول من أسلم من هذه الأمة التي أرسلت إليها ، وليس المراد أول من أسلم من جميع الناس ، كما بينه تعالى بآيات كثيرة تدل على وجود المسلمين قبل وجوده - صلى الله عليه وسلم - ووجود أمته ، كقوله عن إبراهيم : إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين [ 2 \ 131 ] ، وقوله عن يوسف : توفني مسلما وألحقني بالصالحين [ 12 \ 101 ] ، وقوله : يحكم بها النبيون الذين أسلموا [ 5 \ 44 ] ، وقوله عن لوط وأهله : فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ، أشار تعالى بقوله هنا : فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] ، بعد قوله : وإن يمسسك بخير ، إلى أن فضله وعطاءه الجزيل لا يقدر أحد على رده ، عمن أراده له تعالى ، كما صرح بذلك في قوله : وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء الآية [ 10 \ 107 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (76)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (2)
صـ 476 إلى صـ 480
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذِرٌ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
أَمَّا عُمُومُ إِنْذَارِهِ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ 7 \ 158 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 34 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 25 \ 1 ] .
وَأَمَّا دُخُولُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ النَّارَ ، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ 11 \ 17 ] .
[ ص: 476 ] وَأَمَّا مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ ، يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الَّذِي سَبَقَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَوْ وُجِدَ كَيْفَ يَكُونُ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى لَا يَكُونُ ، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ 6 \ 28 ] ، وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، لَا يَخْرُجُونَ إِلَيْهَا مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 46 ] ، وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا الْآيَةَ [ 9 \ 47 ] ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ 23 \ 75 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الْآيَةَ ، صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْزُنُهُ مَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ مِنْ تَكْذِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَهَاهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [ 35 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ 5 \ 68 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [ 18 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ 26 \ 3 ] ، وَالْبَاخِعُ : هُوَ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ : [ الطَّوِيلُ ]
أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
وَقَوْلُهُ : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ، فِي الْآيَتَيْنِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ ، وَنَظِيرُهُ : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [ 11 \ 12 ] ، أَيْ لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَزَنًا عَلَيْهِمْ فِي الْأَوَّلِ ، وَلَا تَتْرُكْ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ فِي الثَّانِي .
[ ص: 477 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ .
قَالَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ : الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ : الْكُفَّارُ ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ الْآيَةَ [ 6 \ 122 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [ 35 \ 22 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [ 35 \ 22 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قوله تعالى : قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ، ذكر في هذه الآية الكريمة : أنه قادر على تنزيل الآية التي اقترحها الكفار على رسوله ، وأشار لحكمة عدم إنزالها بقوله : ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 6 \ 37 ] ، وبين في موضع آخر أن حكمة عدم إنزالها : أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا بها لنزل بهم العذاب العاجل ، كما وقع بقوم صالح لما اقترحوا عليه إخراج ناقة عشراء ، وبراء ، جوفاء ، من صخرة صماء ، فأخرجها الله لهم منها بقدرته ومشيئته ، فعقروها وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا [ 7 \ 77 ] ، فأهلكهم الله دفعة واحدة بعذاب استئصال ، وذلك في قوله : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [ 17 \ 59 ] ، وبين في مواضع أخر أنه لا داعي إلى ما اقترحوا من الآيات ; لأنه أنزل عليهم آية أعظم من جميع الآيات التي اقترحوها وغيرها ، وتلك الآية هي هذا القرآن العظيم ; وذلك في قوله : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ 29 \ 51 ] ، فإنكاره جل وعلا عليهم عدم الاكتفاء بهذا الكتاب عن الآيات المقترحة يدل على أنه أعظم وأفخم من كل آية ، وهو كذلك ; ألا ترى أنه آية واضحة ، ومعجزة باهرة ، أعجزت جميع أهل الأرض ، وهي باقية تتردد في آذان الخلق غضة طرية حتى يأتي أمر الله ، بخلاف غيره من معجزات الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فإنها كلها مضت وانقضت .
قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذا أتاهم عذاب من الله ، أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده ، ونسوا ما كانوا يشركون به ; لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا .
ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله ، ولم يبين هنا أيضا إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم ، أو يرجعون إلى كفرهم [ ص: 478 ] وشركهم ، ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر .
فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص ، هو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك ، كأن يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه ، ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده ، كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق الآية [ 10 \ 22 ، 23 ] ، وقوله : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه [ 17 \ 67 ] ، وقوله : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين [ 29 \ 65 ] ، وقوله : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين [ 31 \ 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب ، رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع كثيرة ، كقوله : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ، وقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ، وقوله : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [ 6 \ 64 ] ، وقوله : فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبين تعالى أن رجوعهم للشرك ، بعد أن نجاهم الله من الغرق ، من شدة جهلهم وعماهم ; لأنه قادر على أن يهلكهم في البر ، كقدرته على إهلاكهم في البحر ، وقادر على أن يعيدهم في البحر مرة أخرى ، ويهلكهم فيه بالغرق ، فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها ; لأنها من جهلهم وضلالهم ، وذلك في قوله : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 68 ، 69 ] .
قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأمره في آية أخرى أن يصبر نفسه معهم ، وأن لا تعدو عيناه عنهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا ، ونهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك وهي قوله :
[ ص: 479 ] واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [ 18 \ 28 ] ، كما أمره هنا بالسلام عليهم ، وبشارتهم برحمة ربهم جل وعلا في قوله :
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة الآية [ 6 \ 54 ] ، وبين في آيات أخر أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا - صلى الله عليه وسلم - فنهاه الله عنه ، طلبه أيضا قوم نوح من نوح ، فأبى كقوله تعالى عنه : وما أنا بطارد الذين آمنوا الآية [ 11 \ 29 ] ، وقوله : ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية [ 11 \ 30 ] ، وقوله : وما أنا بطارد المؤمنين [ 26 \ 114 ] ، وهذا من تشابه قلوب الكفار المذكور في قوله تعالى : تشابهت قلوبهم الآية [ 2 \ 118 ] .
قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ، أجرى الله تعالى الحكمة بأن أكثر أتباع الرسل ضعفاء الناس ، ولذلك لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا - صلى الله عليه وسلم : " أأشراف الناس يتبعونه ، أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، قال : هم أتباع الرسل " .
فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه تعالى أشار إلى أن من حكمة ذلك فتنة بعض الناس ببعض ، فإن أهل المكانة والشرف والجاه يقولون : لو كان في هذا الدين خير لما سبقنا إليه هؤلاء ; لأنا أحق منهم بكل خير كما قال هنا : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الآية [ 6 \ 53 ] ، إنكارا منهم أن يمن الله على هؤلاء الضعفاء دونهم ، زعما منهم أنهم أحق بالخير منهم ، وقد رد الله قولهم هنا بقوله : أليس الله بأعلم بالشاكرين .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه الآية [ 46 \ 11 ] ، وقوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا [ 19 \ 73 ] .
والمعنى : أنهم لما رأوا أنفسهم أحسن منازل ومتاعا من ضعفاء المسلمين اعتقدوا أنهم أولى منهم بكل خير ، وأن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو كان خيرا ما سبقوهم إليه ، ورد الله افتراءهم هذا بقوله : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا [ ص: 480 ] [ 19 \ 74 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 ، 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به الآية ، أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يخبر الكفار ، أن تعجيل العذاب عليهم الذي يطلبونه منه - صلى الله عليه وسلم - ليس عنده ، وإنما هو عند الله ، إن شاء عجله ، وإن شاء أخره عنهم ، ثم أمره أن يخبرهم بأنه لو كان عنده لعجله عليهم بقوله : قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم الآية [ 6 \ 58 ] .
وبين في مواضع أخر أنهم ما حملهم على استعجال العذاب إلا الكفر والتكذيب ، وأنهم إن عاينوا ذلك العذاب علموا أنه عظيم هائل ، لا يستعجل به إلا جاهل مثلهم ، كقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 11 \ 8 ] ، وقوله : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها الآية [ 42 \ 54 ] ، وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] ، وقوله : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون [ 10 \ 50 ] .
وبين في موضع آخر أنه لولا أن الله حدد لهم أجلا لا يأتيهم العذاب قبله لعجله عليهم ، وهو قوله :ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم الآية [ 29 \ 53 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (77)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (3)
صـ 481 إلى صـ 485
تنبيه
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر الآية ، صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم ، مع أنه ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل الله إليه ملك الجبال ، وقال له : إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها ، فقال - صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا " .
والظاهر في الجواب : هو ما أجاب به ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ، [ ص: 481 ] وهو : أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم ، لعجله عليهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت ، بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم ، ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره .
قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية ، بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير [ 31 \ 34 ] ، فقد أخرج البخاري ، وأحمد ، وغيرهما عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة ، والمفاتح الخزائن ، جمع مفتح بفتح الميم بمعنى المخزن ، وقيل : هي المفاتيح ، جمع مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ، وتدل له قراءة ابن السميقع .
" مفاتيح " بياء بعد التاء جمع مفتاح ، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، وهو كذلك ; لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية " ، والله يقول : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، أخرجه مسلم ، والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب ، وذلك في قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ 6 \ 50 ] .
ولذا لما رميت عائشة - رضي الله عنها - بالإفك ، لم يعلم ، أهي بريئة أم لا ، حتى أخبره الله تعالى بقوله : أولئك مبرءون مما يقولون [ 24 \ 26 ] .
وقد ذبح إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عجله للملائكة ، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه ، وقالوا له : إنا أرسلنا إلى قوم لوط [ 11 \ 70 ] ، ولما جاءوا لوطا لم يعلم أيضا أنهم ملائكة ، ولذا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب [ 11 \ 77 ] ، يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة ، حتى قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ 11 \ 80 ] ، ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له : إنا رسل ربك لن يصلوا إليك الآيات [ 11 \ 81 ] .
[ ص: 482 ] ويعقوب - عليه السلام - ابيضت عيناه من الحزن على يوسف ، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف .
وسليمان - عليه السلام - مع أن الله سخر له الشياطين والريح ، ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد ، وقال له : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين الآيات [ 27 \ 22 ] .
ونوح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم ، حتى قال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق الآية [ 11 \ 45 ] ، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله : قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين [ 11 \ 46 ] .
وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود : ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 6 \ 50 ] ، والملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما قال لهم : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا [ 2 \ 31 ، 32 ] .
فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل ، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى ، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء ، كما أشار له بقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء [ 3 \ 179 ] ، وقوله : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 ، 27 ] .
تنبيه
لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين ، وبعض منها يكون كفرا .
ولذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما " ، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة ، والكهانة ، والعرافة ، والطرق ، والزجر ، والنجوم ، وكل ذلك يدخل في الكهانة ; لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الاطلاع على علم الغيب .
وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان ، فقال : " ليسوا بشيء " .
[ ص: 483 ] وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : فمن قال إنه ينزل الغيث غدا وجزم به ، فهو كافر ، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا ، وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر ، فإن لم يجزم ، وقال : إن النوء ينزل به الماء عادة ، وإنه سبب الماء عادة ، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه ، لم يكفر ، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به ، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر ، وجهلا بلطيف حكمته ; لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا ، ومرة دون النوء .
قال الله تعالى : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب " ، على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى .
قال ابن العربي : وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة ، فهو ذكر ، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى ، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ، ولم يفسق .
وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر ، أو أخبر عن الكوائن المجملة ، أو المفصلة ، في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا ، فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر ، فقد قال علماؤنا : يؤدب ولا يسجن ، أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا : إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل ، حسبما أخبر الله عنه من قوله : والقمر قدرناه منازل [ 36 \ 39 ] .
وأما أدبهم ، فلأنهم يدخلون الشك على العامة ، إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره ، فيشوشون عقائدهم ، ويتركون قواعدهم في اليقين ، فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به .
قلت : ومن هذا الباب ما جاء في " صحيح مسلم " عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " ، والعراف : هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب ، وهي العرافة ، وصاحبها عراف ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها ، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر ، والطرق ، والنجوم ، وأسباب معتادة في ذلك ، وهذا الفن هو العيافة بالياء ، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة ، قاله القاضي عياض .
والكهانة : ادعاء علم الغيب .
قال أبو عمر بن عبد البر في " الكافي " : من المكاسب المجتمع على تحريمها [ ص: 484 ] الربا ، ومهور البغايا ، والسحت ، والرشا ، وأخذ الأجرة على النياحة والغناء ، وعلى الكهانة ، وادعاء الغيب ، وأخبار السماء ، وعلى الزمر واللعب ، والباطل كله . اهـ من القرطبي بلفظه ، وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن .
وقال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ، ومكان الضالة ونحو ذلك ، وقال أبو العباس بن تيمية : العراف : اسم للكاهن والمنجم والرمال ، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .
والمراد بالطرق : قيل الخط الذي يدعي به الاطلاع على الغيب ، وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء ، والزجر هو العيافة ، وهي التشاؤم والتيامن بالطير ، وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ، ومواقعها ، وأسمائها ، وألوانها ، وجهاتها التي تطير إليها .
ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي : [ البسيط ]
ومن تعرض للغربان يزجرها على سلامته لا بد مشئوم
وكان أشد العرب عيافة بنو لهب ، حتى قال فيهم الشاعر : [ الطويل ]
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت
وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب : [ الرجز ]
في مدلج بن بكر القيافة كما للهب كانت العيافة
ولقد صدق من قال : [ الطويل ]
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الاطلاع على الغيب ، أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه ، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، وقوله هنا : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، ونحو ذلك .
وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية : أن حلوان الكاهن لا يحل له ، ولا يرد لمن أعطاه له ، بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها بعض علماء المالكية بقوله : [ الرجز ]
وأي مال حرموا أن ينتفع موهوبه به ورده منع
[ ص: 485 ] حلوان كاهن وأجرة الغنا ونائح ورشوة مهر الزنا
هكذا قيل ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن النوم وفاة ، وأشار في موضع آخر إلى أنه وفاة صغرى ، وأن صاحبها لم يمت حقيقة ، وأنه تعالى يرسل روحه إلى بدنه حتى ينقضي أجله ، وأن وفاة الموت التي هي الكبرى قد مات صاحبها ، ولذا يمسك روحه عنده ، وذلك في قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ 39 \ 42 ] .
قوله تعالى : ويرسل عليكم حفظة الآية ، لم يبين هنا ماذا يحفظون ، وبينه في مواضع أخر ، فذكر أن مما يحفظونه بدن الإنسان ، بقوله : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] ، وذكر أن مما يحفظونه جميع أعماله من خير وشر ، بقوله : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 ، 11 ، 12 ] ، وقوله : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 17 ، 18 ] ، وقوله : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون .
قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، نهى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة عن مجالسة الخائضين في آياته ، ولم يبين كيفية خوضهم فيها ، التي هي سبب منع مجالستهم ، ولم يذكر حكم مجالستهم هنا ، وبين ذلك كله في موضع آخر ، فبين أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء بقوله : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم الآية [ 4 \ 140 ] .
وبين أن من جالسهم في وقت خوضهم فيها مثلهم في الإثم ، بقوله : إنكم إذا مثلهم ، وبين حكم من جالسهم ناسيا ، ثم تذكر بقوله هنا : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، كما تقدم في سورة النساء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (78)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (4)
صـ 486 إلى صـ 490
قوله تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ، الآيات ، قوله : هذا ربي [ 6 \ 76 ] ، في المواضع الثلاثة محتمل لأنه كان يظن ذلك ، كما روي عن ابن عباس وغيره ، [ ص: 486 ] ومحتمل ، لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله ، ومراده هذا ربي في زعمكم الباطل ، أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار ، والقرآن يبين بطلان الأول ، وصحة الثاني .
أما بطلان الأول : فالله تعالى نفى كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله : وما كان من المشركين [ 3 \ 67 ] ، في عدة آيات ، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي ، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوما ما .
وأما كونه جازما موقنا بعدم ربوبية غير الله ، فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ، إلى آخره ، " بالفاء " على قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ 6 \ 75 ] ; فدل على أنه قال ذلك موقنا مناظرا ومحاجا لهم ، كما دل عليه قوله تعالى : وحاجه قومه [ 6 \ 80 ] ، وقوله : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه الآية [ 6 \ 83 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية ، المراد بالظلم هنا الشرك ، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في " صحيح البخاري " من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وقد بينه قوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 12 \ 254 ] ، وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] .
قوله تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم الآية ، قال مجاهد وغيره هي قوله تعالى : وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن الآية [ 6 \ 81 ] ، وقد صدقه الله ، وحكم له بالأمن والهداية ، فقال : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] .
والظاهر شمولها لجميع احتجاجاته عليهم ، كما في قوله : لا أحب الآفلين الآية [ 6 \ 76 ] ; لأن الأفول الواقع في الكوكب ، والشمس ، والقمر ، أكبر دليل وأوضح حجة على انتفاء الربوبية عنها ، وقد استدل إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - بالأفول على انتفاء الربوبية في قوله : لا أحب الآفلين ، فعدم إدخال هذه الحجة في قوله : وتلك حجتنا ، غير ظاهر ، وبما ذكرنا من شمول الحجة لجميع احتجاجاته المذكورة صدر [ ص: 487 ] القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ، ذكر تعالى أن هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة لو أشركوا بالله لحبط جميع أعمالهم .
وصرح في موضع آخر بأنه أوحي هذا إلى نبينا والأنبياء قبله - عليهم كلهم صلوات الله وسلامه - وهو قوله : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك الآية [ 39 \ 65 ] ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع ، كقوله : قل إن كان للرحمن ولد الآية [ 43 \ 81 ] ، على القول بأن " إن " شرطية ، وقوله : لو أردنا أن نتخذ لهوا الآية [ 21 \ 17 ] ، وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا الآية [ 39 \ 41 ] .
قوله تعالى : ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ، أي : لا أحد أظلم ممن قال : أنزل مثل ما أنزل الله ، ونظيرها قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا [ 8 \ 31 ] ، وقد بين الله تعالى كذبهم في افترائهم هذا حيث تحدى جميع العرب بسورة واحدة منه ، كما ذكره تعالى في البقرة بقوله : فأتوا بسورة من مثله [ 2 \ 23 ] ، وفي يونس بقوله : قل فأتوا بسورة مثله [ 2 \ 38 ] ، وتحداهم في هود بعشر سور مثله في قوله : قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وتحداهم به كله في الطور بقوله : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .
ثم صرح في سورة بني إسرائيل بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله في قوله : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 \ 88 ] ، فاتضح بطلان دعواهم الكاذبة .
قوله تعالى : والملائكة باسطو أيديهم الآية ، لم يصرح هنا بالشيء الذي بسطوا إليه الأيدي ، ولكنه أشار إلى أنه التعذيب بقوله : أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الآية [ 6 \ 93 ] ، وصرح بذلك في قوله : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 8 \ 50 ] ، وبين في مواضع أخر أنه يراد ببسط اليد التناول بالسوء كقوله : ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء [ 60 \ 2 ] ، وقوله : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني الآية [ 5 \ 28 ] .
قوله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ، [ ص: 488 ] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يأتون يوم القيامة كل واحد منهم بمفرده ليس معهم شركاؤهم ، وصرح تعالى بأن كل واحد يأتي فردا في قوله : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 95 ] ، وقوله في هذه الآية : كما خلقناكم أول مرة [ 6 \ 94 ] ، أي منفردين لا مال ، ولا أثاث ، ولا رقيق ، ولا خول عندكم ، حفاة ، عراة ، غرلا ، أي : غير مختونين : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 4 ] ، وقد عرفت من الآية أن واحد الفرادى فرد ، ويقال فيه أيضا : فرد بالتحريك ، ومنه قول نابغة ذبيان : [ البسيط ]
من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
قوله تعالى : لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن الأنداد التي كانوا يعبدونها في الدنيا تضل عنهم يوم القيامة ، وينقطع ما كان بينهم وبينها من الصلات في الدنيا ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ، كقوله : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 6 ] ، وقوله : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] ، وقوله : إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] ، وقوله : أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون [ 26 \ 92 ، 93 ] ، وقوله هنا : وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم [ 6 \ 94 ] .
قوله تعالى : وجعل الليل سكنا ، أي : مظلما ساجيا ليسكن فيه الخلق ; فيستريحوا من تعب الكد بالنهار ، كما بينه قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا [ 10 \ 67 ] ، وقوله : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ 28 \ 71 ، 72 ، 73 ] ، وقوله : لتسكنوا فيه يعني : الليل ، ولتبتغوا من فضله يعني : بالنهار ، ومن آياته الليل والنهار الآية [ 41 \ 37 ] .
قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، ظاهر هذه [ ص: 489 ] الآية الكريمة أن حكمة خلق النجوم هي الاهتداء بها فقط ، كقوله : وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 16 ] ، ولكنه تعالى بين في غير هذا الموضع أن لها حكمتين أخريين غير الاهتداء بها ؛ وهما تزيين السماء الدنيا ، ورجم الشياطين بها ، كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين الآية [ 67 \ 5 ] ، وقوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، 10 ] ، وقوله : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم [ 41 \ 12 ] .
قوله تعالى : وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر الآية ، لم يبين هنا كيفية إنشائهم من نفس واحدة ، ولكنه بين في مواضع أخر أن كيفيته أنه خلق من تلك الواحدة التي هي آدم زوجها حواء ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء كقوله : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] ، وقوله : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] .
قوله تعالى : لا تدركه الأبصار الآية ، أشار في مواضع أخر إلى أن نفي الإدراك المذكور هنا لا يقتضي نفي مطلق الرؤية ، كقوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 ، 23 ] ، وقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، والحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ، وقوله : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ 83 \ 15 ] ، يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه ، وهو كذلك .
قوله تعالى : وليقولوا درست الآية ، يعني ليزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تعلم هذا القرآن بالدرس والتعليم من غيره من أهل الكتاب ، كما زعم كفار مكة أنه - صلى الله عليه وسلم - تعلم هذا القرآن من جبر ويسار ، وكانا غلامين نصرانيين بمكة ، وقد أوضح الله تعالى بطلان افترائهم هذا في آيات كثيرة ، كقوله : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] ، وقوله : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر [ 74 \ 24 ، 25 ، 26 ] ، ومعنى يؤثر : يرويه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن غيره في زعمهم الباطل ، وقوله : [ ص: 490 ] وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 4 ، 5 ، 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وفي قوله : درست [ 6 \ 105 ] ، ثلاث قراءات سبعيات :
قرأه ابن كثير ، وأبو عمر دارست بألف بعد الدال مع إسكان السين وفتح التاء من المفاعلة بمعنى : دارست أهل الكتاب ودارسوك حتى حصلت هذا العلم .
وقرأه بقية السبعة غير ابن عامر : درست بإسقاط الألف ، مع إسكان السين وفتح التاء أيضا ، بمعنى درست هذا على أهل الكتاب حتى تعلمته منهم .
وقرأه ابن عامر : درست بفتح الدال والراء والسين وإسكان التاء على أنها تاء التأنيث ، والفاعل ضمير عائد إلى الآيات المذكورة في قوله : وكذلك نصرف الآيات [ 6 \ 105 ] .
قال القرطبي : وأحسن ما قيل في قراءة ابن عامر أن المعنى : ولئلا يقولوا انقطعت وانمحت ، وليس يأتي محمد - صلى الله عليه وسلم - بغيرها . اهـ .
وقال القرطبي : وليقولوا درست ، الواو للعطف على مضمر ، أي : نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست ، وقيل : وليقولوا درست صرفناها .
قال مقيده - عفا الله عنه : ومعناهما آيل إلى شيء واحد ، ويشهد له القرآن في آيات كثيرة دالة على أنه يبين الحق واضحا في هذه الكتاب ، ليهدي به قوما ، ويجعله حجة على آخرين ، كقوله : لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى [ 41 \ 44 ] ، وقوله : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء [ 74 \ 31 ] ، كما قال هنا : وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ، فالأشقياء يقولون : تعلمته من البشر بالدراسة ، وأهل العلم والسعداء يعلمون أنه الحق الذي لا شك فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (79)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (5)
صـ 491 إلى صـ 495
قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن الآية ، ذكر تعالى في [ ص: 491 ] هذه الآية الكريمة أنه جعل لكل نبي عدوا ، وبين هنا أن أعداء الأنبياء هم شياطين الإنس والجن ، وصرح في موضع آخر أن أعداء الأنبياء من المجرمين ، وهو قوله : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين [ 25 \ 31 ] ; فدل ذلك على أن المراد بالمجرمين شياطين الإنس والجن ، وذكر في هذه الآية أن من الإنس شياطين ، وصرح بذلك في قوله : وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم الآية [ 2 \ 14 ] ، وقد جاء الخبر بذلك مرفوعا من حديث أبي ذر عند الإمام أحمد وغيره ، والعرب تسمي كل متمرد شيطانا ، سواء كان من الجن أو من الإنس كما ذكرنا ، أو من غيرهما ، وفي الحديث : " الكلب الأسود شيطان " ، وقوله : شياطين ، بدل من قوله : عدوا ، أو مفعول أول لـ " جعلنا " ، والثاني : " عدوا " ، أي : جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا .
قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن إطاعة أكثر أهل الأرض ضلال ، وبين في مواضع أخر أن أكثر أهل الأرض غير مؤمنين ، وأن ذلك واقع في الأمم الماضية ، كقوله : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 13 \ 1 ] ، وقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم الآية ، التحقيق أنه فصله لهم بقوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية [ 6 \ 145 ] ، ومعنى الآية : أي شيء يمنعكم أن تأكلوا ما ذكيتم ، وذكرتم عليه اسم الله ؟ ، والحال أن الله فصل لكم المحرم أكله عليكم في قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ 6 \ 145 ] ، وليس هذا منه .
وما يزعمه كثير من المفسرين من أنه فصله لهم بقوله : حرمت عليكم الميتة الآية [ 5 \ 3 ] ، فهو غلط ; لأن قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة من سورة المائدة ، وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة ، وقوله : وقد فصل لكم ما حرم عليكم [ 119 ] ، من سورة الأنعام ، وهي مكية ، فالحق هو ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه جعل في كل قرية أكابر المجرمين منها ليمكروا فيها ، [ ص: 492 ] ولم يبين المراد بالأكابر هنا ، ولا كيفية مكرهم ، وبين جميع ذلك في مواضع أخر : فبين أن مجرميها الأكابر هم أهل الترف ، والنعمة في الدنيا ، بقوله : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] ، وقوله : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] . ونحو ذلك من الآيات .
وبين أن مكر الأكابر المذكور : هو أمرهم بالكفر بالله تعالى ، وجعل الأنداد له بقوله : وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [ 34 \ 33 ] ، وقوله : ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم الآية [ 71 \ 22 ، 23 ] .
وأظهر أوجه الإعراب المذكورة في الآية عندي اثنان :
أحدهما : أن أكابر مضاف إلى مجرميها ، وهو المفعول الأول لجعل التي بمعنى صير ، والمفعول الثاني هو الجار والمجرور ، أعني في كل قرية .
والثاني : أن مجرميها مفعول أول ، و أكابر مفعول ثان ، أي : جعلنا مجرميها أكابرها ، والأكابر جمع الأكبر .
قوله تعالى : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ، يعنون أنهم لن يؤمنوا حتى يأتيهم الملائكة بالرسالة ، كما أتت الرسل ، كما بينه تعالى في آيات أخر ، كقوله : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا الآية [ 25 \ 21 ] ، وقوله : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا الآية [ 17 \ 92 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام الآية .
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن هذه الآية الكريمة ، فقيل : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ - صلى الله عليه وسلم - قال : " نور يقذف فيه ، فينشرح له ، وينفسح " ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " ، ويدل لهذا قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [ 39 \ 22 ] .
[ ص: 493 ] قوله تعالى : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم الآية .
قال بعض العلماء : المراد بالرسل من الجن نذرهم الذين يسمعون كلام الرسل ، فيبلغونه إلى قومهم ; ويشهد لهذا أن الله ذكر أنهم منذرون لقومهم في قوله : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين [ 46 \ 29 ] .
وقال بعض العلماء : رسل منكم [ 6 \ 130 ] أي : من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس ; لأنه لا رسل من الجن ، ويستأنس لهذا القول بأن القرآن ربما أطلق فيه المجموع مرادا بعضه ، كقوله : وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] ، وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] ، مع أن العاقر واحد منهم ، كما بينه بقوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] . واعلم أن ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وغيره من أجلاء العلماء في تفسير هذه الآية : من أن قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ 55 \ 22 ] يراد به البحر الملح خاصة دون العذب غلط كبير ، لا يجوز القول به ; لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى ; لأن الله ذكر البحرين الملح والعذب بقوله : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج [ 35 \ 12 ] ، ثم صرح باستخراج اللؤلؤ والمرجان منها جميعا بقوله : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ، والحلية المذكورة هي اللؤلؤ والمرجان ، فقصره على الملح مناقض للآية صريحا ، كما ترى .
قوله تعالى : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ، النفي في هذه الآية الكريمة منصب على الجملة الحالية ، والمعنى أنه لا يهلك قوما في حال غفلتهم ، أي عدم إنذارهم ، بل لا يهلك أحدا إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - كما بين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 494 ] قوله تعالى : ولكل درجات مما عملوا ، بين في موضع آخر : أن تفاضل درجات العاملين في الآخرة أكبر ، وأن تفضيلها أعظم من درجات أهل الدنيا ، وهو قوله : انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 \ 21 ] .
قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده الآية .
اختلف العلماء في المراد بهذا الحق المذكور هنا ، وهل هو منسوخ أو لا ؟ فقال جماعة من العلماء : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وممن قال بهذا أنس بن مالك ، وابن عباس ، وطاوس ، والحسن ، وابن زيد ، وابن الحنفية ، والضحاك ، وسعيد بن المسيب ، ومالك ، ونقله عنهم القرطبي ، نقله ابن كثير عن أنس وسعيد ، وغيرهما ، ونقله ابن جرير عن ابن عباس ، وأنس ، والحسن ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، وطاوس ، ومحمد ابن الحنفية ، والضحاك ، وابن زيد .
وقال قوم : ليس المراد به الزكاة ، وإنما المراد به أنه يعطي من حضر من المساكين يوم الحصاد القبضة ، والضغث ، ونحو ذلك ، وحمله بعضهم على الوجوب ، وحمله بعضهم على الندب ، قال القرطبي : وقال علي بن الحسين ، وعطاء ، والحكم ، وحماد ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد : هو حق في المال سوى الزكاة ، أمر الله به ندبا ، وروي عن ابن عمر ، ومحمد ابن الحنفية أيضا ، ورواه أبو سعيد الخدري عنه - صلى الله عليه وسلم - قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل ، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ ، وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه ، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته .
وقال قوم : هو حق واجب غير الزكاة ، وهو غير محدد بقدر معين ، وممن قال به عطاء ، كما نقله عنه ابن جرير .
وقال قوم : هي منسوخة بالزكاة ، واختاره ابن جرير ، وعزاه الشوكاني في " تفسيره " لجمهور العلماء ، وأيده بأن هذه السورة مكية ، وآية الزكاة نزلت بالمدينة في السنة الثانية بعد الهجرة .
وقال ابن كثير : في القول بالنسخ نظر ; لأنه قد كان شيئا واجبا في الأصل ، ثم إنه فصل بيانه ، وبين مقدار المخرج وكميته ، قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة ، والله أعلم ، انتهى من ابن كثير .
ومراده أن شرع الزكاة بيان لهذا الحق لا نسخ له ، وممن روى عنه القول بالنسخ ابن [ ص: 495 ] عباس ، ومحمد ابن الحنفية ، والحسن ، والنخعي ، وطاوس ، وأبو الشعثاء ، وقتادة والضحاك ، وابن جريج ، نقله عنهم الشوكاني ، والقرطبي أيضا ونقله عن السدي وعطية ، ونقله ابن جرير أيضا عن ابن عباس ، وابن الحنفية ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، والحسن ، والسدي ، وعطية ، واستدل ابن جرير للنسخ بالإجماع على أن زكاة الحرث لا تؤخذ إلا بعد التذرية والتنقية ، وزكاة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجذاذ ، فدل على عدم الأخذ يوم الحصاد ، فعلم أن الآية منسوخة ، أو أنها على سبيل الندب ، فالأمر واضح .
وعلى أن المراد بها الزكاة ، فقد أشير إلى أن هذا الحق المذكور هو جزء المال الواجب في النصاب في آيات الزكاة ، وهو المذكور في قوله : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض الآية [ 2 \ 267 ] ، وبينته السنة ، فإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه يحتاج هنا إلى بيان ثلاثة أشياء :
الأول : تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض .
الثاني : تعيين القدر الذي تجب فيه الزكاة منه .
الثالث : تعيين القدر الواجب فيه وسنبينها إن شاء الله مفصلة .
اعلم أولا أنه لا خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب .
واختلف فيما سواها مما تنبته الأرض ، فقال قوم : لا زكاة في غيرها من جميع ما تنبته الأرض ، وروي ذلك عنالحسن ، وابن سيرين ، والشعبي .
وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وابن المبارك ، ويحيى بن آدم ، وإليه ذهب أبو عبيد .
وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب أبي موسى ، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، كما نقله عنهم القرطبي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (80)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (6)
صـ 496 إلى صـ 500
واستدل أهل هذا القول بما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وفي رواية عن أبيه ، عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " والعشر في التمر [ ص: 496 ] والزبيب والحنطة والشعير " ، وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال : " إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في هذه الأربعة : الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب " .
وعن أبي بردة ، عن أبي موسى ، ومعاذ : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم ، فأمرهم ألا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة ، الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب " ، رواها كلها الدارقطني ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
قال مقيده - عفا الله عنه : أما ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده من أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة ، فإسناده واه ; لأنه من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي ، وهو متروك ، قاله ابن حجر في " التلخيص " ، وما رواه الدارقطني من حديث موسى بن طلحة ، عن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة ، قال فيه أبو زرعة : موسى عن عمر مرسل ، قاله ابن حجر أيضا ، وما عزاه للدارقطني عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، ومعاذ ، رواه الحاكم ، والبيهقي ، عن أبي بردة ، عنهما .
وقال البيهقي : رواته ثقات ، وهو متصل ، قاله ابن حجر أيضا ، وقال مالك وأصحابه : تجب الزكاة في كل مقتات مدخر ، وذلك عنده في ثمار الأشجار ، إنما هو التمر والزبيب فقط ، ومشهور مذهبه وجوب الزكاة في الزيتون ، إذا بلغ حبه خمسة أوسق ، ولكنها تخرج من زيته بعد العصر ، فيخرج عشره أو نصف عشره على ما سيأتي ، فإن لم يبلغ حبه خمسة أوسق ، فلا زكاة عنده في زيته ، وحكم السمسم ، وبزر الفجل الأحمر ، والقرطم حكم الزيتون في مشهور مذهبه ، يخرج من زيتها إن بلغ حبها النصاب .
وقال اللخمي : لا يضم زيت بعضها إلى بعض لاختلاف أجناسها ، ومشهور مذهبه عدم وجوبها في التين ، وأوجبها فيه جماعة من أصحابه بمقتضى أصوله ، وقال ابن عبد البر : أظن مالكا ما كان يعلم أن التين ييبس ، ويقتات ، ويدخر ، ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب ، ولما عده مع الفواكه التي لا تيبس ، ولا تدخر كالرمان ، والفرسك ، والذي تجب فيه من الحبوب عنده هو ما يقتات ويدخر ، وذلك الحنطة ، والشعير ، والسلت والعلس ، والدخن ، والذرة ، والأرز ، والعدس ، والجلبان ، واللوبيا ، والجلجلان ، والترمس ، والفول ، والحمص ، والبسيلة .
ومشهور مذهبه أن الكرسنة لا زكاة فيها ; لأنها علف ، وعن أشهب وجوب الزكاة فيها ، وهي من القطاني على مشهور مذهبه في باب الربا ، دون باب الزكاة .
[ ص: 497 ] وقيل هي البسيلة ، وجميع أنواع القطاني عند مالك جنس واحد في الزكاة ، فلو حصد وسقا من فول ، ووسقا من حمص ، وآخر من عدس ، وآخر من جلبان ، وآخر من لوبيا ، وجب عليه أن يضم بعضها إلى بعض ، ويخرج الزكاة منها كل واحد بحسبه ، وكذلك يضم عنده القمح ، والشعير ، والسلت بعضها إلى بعض ، كالصنف الواحد ، وتخرج الزكاة منها كل بحسبه ، ولا يضم عنده تمر إلى زبيب ، ولا حنطة إلى قطنية ، ولا تمر إلى حنطة ، ولا أي جنس إلى جنس آخر ، غير ما ذكرنا عنه ضمه لتقارب المنفعة فيه عنده ، والنوع الواحد ، كالتمر ، والزبيب ، والحنطة يضم بعض أنواعه إلى بعض كصيحاني ، وبرني ، وسمراء ، ومحمولة ، وزبيب أسود ، وزبيب أحمر ، ونحو ذلك .
ولا زكاة عند مالك - رحمه الله - في شيء من الفواكه غير ما ذكرنا ، كالرمان - والتفاح - والخوخ والإجاص ، والكمثرى ، واللوز ، والجوز ، والجلوز ، ونحو ذلك كما لا زكاة عنده في شيء من الخضراوات ، قال في " الموطإ " : السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، والذي سمعت من أهل العلم : أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة ، الرمان ، والفرسك ، والتين ، وما أشبه ذلك ، وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه .
قال : ولا في القضب ، ولا في البقول كلها صدقة ، ولا في أثمانها إذا بيعت صدقة ، حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ، ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب . اهـ .
والفرسك : بكسر الفاء والسين بينها راء ساكنة آخره كاف - الخوخ ، وهي لغة يمانية ، وقيل : نوع مثله في القدر ، وهو أجرد أملس أحمر وأصفر جيد ، وقيل : ما ليس ينفلق عن نواة من الخوخ . وإذا كان الزرع أو الثمر مشتركا بين اثنين فأكثر ، فقد قال فيه مالك في " الموطإ " : في النخيل يكون بين الرجلين فيجذان منه ثمانية أوسق من التمر أنه لا صدقة عليهما فيها ، وأنه إن كان لأحدهما منها ما يجذ منه خمسة أوسق ، وللآخر ما يجذ أربعة أوسق ، أو أقل من ذلك في أرض واحدة ، كانت الصدقة على صاحب الخمسة الأوسق ، وليس على الذي جذ أربعة أوسق أو أقل منها صدقة ، وكذلك العمل في الشركاء كلهم في كل زرع من الحبوب كلها يحصد ، أو النخل يجذ ، أو الكرم يقطف ، فإنه إذا كان كل رجل منهم يجذ من التمر ، أو يقطف من الزبيب خمسة أوسق ، أو يحصد من الحنطة خمسة أوسق ، فعليه الزكاة ، ومن كان حقه أقل من خمسة أوسق ، فلا صدقة عليه .
وإنما تجب الصدقة على من بلغ جذاذه ، أو قطافه ، أو حصاده خمسة أوسق ، انتهى من [ ص: 498 ] " موطإ " مالك - رحمه الله .
وإذا أمسك ذلك الحب أو التمر الذي أخرج زكاته سنين ، ثم باعه - فحكمه عند مالك ما ذكره في " موطئه " حيث قال : السنة عندنا أن كل ما أخرجت زكاته من هذه الأصناف كلها الحنطة ، والتمر ، والزبيب ، والحبوب كلها ، ثم أمسكه صاحبه بعد أن أدى صدقته سنين ، ثم باعه ، أنه ليس عليه في ثمنه زكاة ، حتى يحول على ثمنه الحول من يوم باعه ، إذا كان أصل تلك الأصناف من فائدة أو غيرها ، وأنه لم يكن للتجارة .
وإنما ذلك بمنزلة الطعام ، والحبوب ، والعروض يفيدها الرجل ، ثم يمسكها سنين ، ثم يبيعها بذهب أو ورق ، فلا يكون عليه في ثمنها زكاة حتى يحول عليها الحول من يوم باعها ، فإن كان أصل تلك العروض للتجارة ; فعلى صاحبها فيها الزكاة حين يبيعها ، إذا كان حبسها سنة من يوم زكى المال الذي ابتاعها به ، انتهى في " الموطإ " ، وهذا في المحتكر ، أما المدير فإنه يقومها بعد حول من زكاته ، كما في " المدونة " عن ابن القاسم .
هذا هو حاصل مذهب مالك - رحمه الله - فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب ، ومذهب الشافعي - رحمه الله : أنه لا تجب الزكاة في شيء من ثمار الأشجار أيضا ، إلا فيما كان قوتا يدخر ، وذلك عنده التمر والزبيب فقط ، كما تقدم عن مالك ، ولا تجب عنده في سواهما من الثمار كالتين ، والتفاح ، والسفرجل ، والرمان ، ونحو ذلك ; لأنه ليس من الأقوات ولا من الأموال المدخرة ، ولا تجب عنده في طلع الفحال ; لأنه لا يجيء منه الثمار .
واختلف قوله في الزيتون ، فقال في القديم ، تجب فيه الزكاة ; لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه جعل في الزيت العشر ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : في الزيتون الزكاة ، وقال في الجديد : لا زكاة في الزيتون ; لأنه ليس بقوت فهو كالخضراوات .
واختلف قول الشافعي - رحمه الله - أيضا في الورس ، فقال في القديم : تجب فيه الزكاة ، لما روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كتب إلى بني خفاش ، أن أدوا زكاة الذرة والورس ، وقال في الجديد : لا زكاة فيه ; لأنه نبت لا يقتات ، فأشبه الخضراوات ، وقال الشافعي - رحمه الله - من قال : لا عشر في الورس لم يوجب في الزعفران ، ومن قال : يجب في الورس ، فيحتمل أن يوجب في الزعفران ; لأنهما [ ص: 499 ] طيبان ، ويحتمل ألا يوجب في الزعفران ، ويفرق بينهما بأن الورس شجر له ساق ، والزعفران نبات ، واختلف قوله أيضا في العسل فقال في القديم : يحتمل أن تجب فيه ، ووجهه ما روي أن بني شبابة " بطن من فهم " كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحل كان عندهم العشر ، من عشر قرب قربة ، وقال في الجديد : لا تجب ; لأنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض .
واختلف قوله أيضا في القرطم ، وهو حب العصفر ، فقال في القديم : تجب إن صح فيه حديث أبي بكر - رضي الله عنه - وقال في الجديد : لا تجب ; لأنه ليس بقوت ، فأشبه الخضراوات ، قاله كله صاحب " المهذب " ، وقال النووي في " شرح المهذب " : الأثر المروي عن عمر : " أنه جعل في الزيت العشر " ، ضعيف ، رواه البيهقي ، وقال : إسناده منقطع ، وراويه ليس بقوي ، قال : وأصح ما روي في الزيتون قول الزهري : مضت السنة في زكاة الزيتون ، أن يؤخذ ممن عصر زيتونه حين يعصره ، فيما سقت السماء أو كان بعلا العشر ، وفيما سقي برش الناضح نصف العشر ، وهذا موقوف لا يعلم اشتهاره ، ولا يحتج به على الصحيح .
وقال البيهقي : وحديث معاذ بن جبل ، وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - أعلى ، وأولى أن يؤخذ به ، يعني روايتهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهما ، لما بعثهما إلى اليمن : " لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة : الشعير ، والحنطة ، والتمر ، والزبيب " .
وأما الأثر المذكور عن ابن عباس فضعيف أيضا ، والأثر المذكور عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ضعيف أيضا ، ذكره الشافعي وضعفه هو وغيره ، واتفق الحفاظ على ضعفه ، واتفق أصحابنا في كتب المذهب على ضعفه ، قال البيهقي : ولم يثبت في هذا إسناد تقوم به حجة ، قال : والأصل عدم الوجوب فلا زكاة فيما لم يرد فيه حديث صحيح ، أو كان في معنى ما ورد به حديث صحيح ، وأما حديث بني شبابة في العسل فرواه أبو داود ، والبيهقي ، وغيرهما من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده بإسناد ضعيف ، قال الترمذي في جامعه : لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا كبير شيء ، قال البيهقي : قال الترمذي في كتاب " العلل " : قال البخاري : ليس في زكاة العسل شيء يصح .
فالحاصل أن جميع الآثار ، والأحاديث التي في هذا الفصل ضعيفة ، انتهى كلام [ ص: 500 ] النووي .
وقال ابن حجر في " التلخيص " في أثر عمر المذكور في الزيتون : رواه البيهقي بإسناد منقطع ، والراوي له عثمان بن عطاء ضعيف ، قال : وأصح ما في الباب قول ابن شهاب : " مضت السنة في زكاة الزيتون " إلخ .
وقال في " التلخيص " أيضا ، في أثر ابن عباس المذكور في الزيتون : ذكره " صاحب المهذب " ، عن ابن عباس ، وضعفه النووي ، وقد أخرجه ابن أبي شيبة ، وفي إسناده ليث بن أبي سليم .
وقال ابن حجر أيضا : روى الحاكم في تاريخ " نيسابور " من طريق عروة ، عن عائشة مرفوعا : " الزكاة في خمس : في البر ، والشعير ، والأعناب ، والنخيل ، والزيتون " ، وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن ، وهو الوقاصي : متروك الحديث .
وقال ابن حجر في الأثر المذكور عن أبي بكر : أنه كان يأخذ الزكاة من حب العصفر ، وهو القرطم ، لم أجد له أصلا ، وقال في " التلخيص " أيضا في خبر أخذه - صلى الله عليه وسلم - زكاة العسل : أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " في العسل في كل عشرة أزقاق زق " ، وقال في إسناده مقال ، ولا يصح ، وفي إسناده صدقة السمين ، وهو ضعيف الحفظ .
وقد خولف ، وقال النسائي : هذا حديث منكر ، ورواه البيهقي ، وقال : تفرد به صدقة ، وهو ضعيف ، وقد تابعه طلحة بن زيد ، عن موسى بن يسار ، ذكره المروزي ، ونقل عن أحمد تضعيفه ، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه ، فقال : هو عن نافع ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل ، ونقل الحاكم في تاريخ " نيسابور " ، عن أبي حاتم ، عن أبيه ، قال : حدث محمد بن يحيى الذهلي بحديث كاد أن يهلك ، حدث عن عارم ، عن ابن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا : " أخذ من العسل العشر " .
قال أبو حاتم : وإنما هو عن أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده كذلك : حدثناه عارم ، وغيره قال : ولعله سقط من كتابه عمرو بن شعيب ، فدخله هذا الوهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (81)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (7)
صـ 501 إلى صـ 505
قال الترمذي : وفي الباب عن عبد الله بن عمرو ، قلت : رواه أبو داود والنسائي من [ ص: 501 ] رواية عمرو بن الحارث المصري ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : " جاء هلال " أحد بني متعان " إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشور نحل له ، وسأله أن يحمي واديا له يقال له " سلبة " فحماه له ، فلما ولى عمر كتب إلى سفيان بن وهب ، إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فاحم له سلبة ، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء .
قال الدارقطني : يروى عن عبد الرحمن بن الحارث ، وابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب مسندا ، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عمرو بن شعيب مرسلا ، عن عمر مرسلا ، قلت : فهذه علته ، وعبد الرحمن ، وابن لهيعة ليسا من أهل الإتقان ، ولكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات ، وتابعهما أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب عند ابن ماجه ، وغيره كما مضى .
قال الترمذي : وفيه عن أبي سيارة ، قلت : هو المتعي ، قال : " قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي نحلا ، قال : " أد العشور " ، قال : قلت يا رسول الله احم لي جبلها ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، والبيهقي من رواية سليمان بن موسى ، عن أبي سيارة ، وهو منقطع .
قال البخاري : لم يدرك سليمان أحدا من الصحابة ، وليس في زكاة العسل شيء يصح ، وقال أبو عمر : لا تقوم بهذا حجة ، قال : وعن أبي هريرة ، قلت : رواه البيهقي ، وفي إسناده عبد الله بن محرر ، وهو متروك ، ورواه أيضا من حديث سعد بن أبي ذباب : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمله على قومه ، وأنه قال لهم : " أدوا العشر في العسل " ، وأتى به عمر ، فقبضه ، فباعه ، ثم جعله في صدقات المسلمين " ، وفي إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري ، والأزدي ، وغيرهما .
قال الشافعي : وسعد بن أبي ذباب ، يحكي ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بشيء ، وأنه شيء رآه هو فتطوع له به قومه ، وقال الزعفراني ، عن الشافعي : الحديث في أن في العسل العشر ضعيف ، واختياري أنه لا يؤخذ منه ، وقال البخاري : لا يصح فيه شيء .
وقال ابن المنذر : ليس فيه شيء ثابت ، وفي " الموطأ " عن عبد الله بن أبي بكر قال : " جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي ، وهو بمنى : ألا تأخذ من الخيل ، ولا من العسل صدقة " ، انتهى كلام ابن حجر بلفظه .
[ ص: 502 ] وقال في " التلخيص " أيضا : إن حديث معاذ : أنه لم يأخذ زكاة العسل ، وأنه قال : " لم يأمرني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء " ، أخرجه أبو داود في " المراسيل " ، والحميدي في " مسنده " ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي من طريق طاوس عنه ، وفيه انقطاع بين طاوس ومعاذ ، لكن قال البيهقي : هو قوي ; لأن طاوسا كان عارفا بقضايا معاذ .
قال مقيده - عفا الله عنه : ولا شك أن إخراج زكاته أحوط ، وهو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - ونقله صاحب " المغني " عن مكحول ، والزهري ، وسليمان بن موسى ، والأوزاعي ، وإسحاق .
وحجتهم الأحاديث التي رأيت ، ولا شيء فيه عند مالك ، والشافعي في الجديد ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح ، وابن المنذر ، وغيرهم .
وحجتهم عدم صحة ما ورد فيه ، وأن الأصل براءة الذمة ، وأنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن .
وقال أبو حنيفة : إن كان في أرض للعشر ففيه الزكاة ، وإلا فلا زكاة فيه ، ونصاب العسل ، قيل : خمسة أفراق ، وهو قول الزهري ، وقيل : خمسة أوسق ، وبه قال أبو يوسف ، ومحمد .
وقال أبو حنيفة : تجب في قليله وكثيره ، والفرق ستة عشر رطلا بالعراقي ، وقيل : ستون رطلا ، وقيل : مائة وعشرون رطلا ، وقيل : ثلاثة آصع ، وقيل : غير ذلك . قاله في " المغني " .
وأما الحبوب : فلا تجب الزكاة عند الشافعي إلا فيما يقتات ويدخر منها ، ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه التي لا تقتات ولا تدخر ، ولا في شيء من الخضراوات ، فمذهبه يوافق مذهب مالك ، كما قدمنا ، إلا أن الشافعي لا يضم بعض الأنواع إلى بعض ، ومالك يضم القطاني بعضها إلى بعض في الزكاة ، وكذلك القمح ، والشعير ، والسلت ، كما تقدم .
وأما مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - فهو وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض ، مما ييبس ، ويبقى ، مما يكال . فأوصاف المزكي عنده مما تنبته الأرض ثلاثة : وهي الكيل ، والبقاء ، واليبس ، فما كان كذلك من الحبوب والثمار وجبت فيه عنده ، سواء كان قوتا أم لا ، وما لم يكن كذلك لم تجب فيه ; فتجب عنده في الحنطة ، والشعير ، والسلت ، [ ص: 503 ] والأرز ، والذرة ، والدخن ، والقطاني كالباقلا ، والعدس ، والحمص ، والأبازير كالكمون ، والكراويا ، والبزر كبزر الكتان ، والقثاء ، والخيار ، وحب البقول كالرشاد ، وحب الفجل ، والقرطم ، والسمسم ، ونحو ذلك من سائر الحبوب ، كما تجب عنده أيضا فيما جمع الأوصاف المذكورة من الثمار ، كالتمر ، والزبيب ، واللوز ، والفستق ، والبندق . ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه : كالخوخ ، والإجاص ، والكمثرى ، والتفاح ، والتين ، والجوز ، ولا في شيء من الخضر : كالقثاء ، والخيار ، والباذنجان ، واللفت ، والجزر ، ونحو ذلك .
ويروى نحو ما ذكرنا عن أحمد في الحبوب ، عن عطاء ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وقال أبو عبد الله بن حامد : لا شيء في الأبازير ، ولا البزر ، ولا حب البقول .
قال صاحب " المغني " : ولعله لا يوجب الزكاة إلا فيما كان قوتا ، أو أدما ; لأن ما عداه لا نص فيه ، ولا هو في معنى المنصوص ; فيبقى على النفي الأصلي . ولا زكاة في مشهور مذهب أحمد - رحمه الله - فيما ينبت من المباح الذي لا يملك ، إلا بأخذه : كالبطم ، وشعير الجبل ، وبزر قطونا ، وبزر البقلة ، وحب النمام ، وبزر الأشنان ، ونحو ذلك ، وعن القاضي : أنه تجب فيه الزكاة ، إذا نبت بأرضه .
والصحيح الأول ، فإن تساقط في أرضه حب كحنطة مثلا فنبت ، ففيه الزكاة ; لأنه يملكه . ولا تجب الزكاة فيما ليس بحب ، ولا ثمر ، سواء وجد فيه الكيل والادخار أو لم يوجد ، فلا تجب في ورق مثل ورق السدر ، والخطمي ، والأشنان ، والصعتر ، والآس ، ونحوه ; لأنه ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص ، ولا زكاة عنده في الأزهار : كالزعفران ، والعصفر ، والقطن ; لأنها ليست بحب ، ولا ثمر ، ولا هي بمكيل ; فلم تجب فيها زكاة كالخضراوات .
قال الإمام أحمد - رحمه الله : ليس في القطن شيء ، وقال : ليس في الزعفران زكاة ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
واختلفت عن أحمد - رحمه الله - الرواية في الزيتون : فروى عنه ابنه صالح : أن فيه الزكاة ، وروي عنه : أنه لا زكاة فيه ، وهو اختيار أبي بكر ، وظاهر كلام الخرقي يقتضيه ، قاله أيضا صاحب المغني ، وأما أبو حنيفة - رحمه الله - فإنه قائل بوجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض ، طعاما كان أو غيره ، وقال أبو يوسف عنه : إلا الحطب ، والحشيش ، والقصب ، والتبن ، والسعف ، وقصب الذريرة ، وقصب السكر . اهـ . والذريرة : قصب [ ص: 504 ] يجاء به من الهند ، كقصب النشاب ، أحمر يتداوى به ، وممن قال مثل قول أبي حنيفة النخعي ، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز ، وهو قول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، ونصره ابن العربي المالكي في أحكامه ، قال : وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق . هذا هو حاصل مذاهب الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - في تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض ، وسنشير إن شاء الله إلى دليل كل واحد منهم فيما ذهب إليه .
أما أبو حنيفة : فقد احتج على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من قليل وكثير بعموم هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها ; لأن الله قال فيها : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] الآية ، وبعموم قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض الآية [ 2 \ 267 ] ، وبعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، الحديث ، ولم يقبل تخصيصه بحديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ; لأن القاعدة المقررة في أصوله - رحمه الله : أن العام قطعي الشمول ، والتناول لجميع أفراده كما أشار له في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
وهو على فرد يدل حتما وفهم الاستغراق ليس جزما بل هو عند الجل بالرجحان
والقطع فيه مذهب النعمان
فما كان أقل من خمسة أوسق يدخل عنده دخولا مجزوما به في عموم الآيات المذكورة والحديث ، فلا يلزم عنده تخصيص العام بالخاص ، بل يتعارضان ، وتقديم ما دل على الوجوب أولى من تقديم ما دل على غيره للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب .
وأما مالك والشافعي - رحمهما الله تعالى - فحجتهما في قولهما : إنه لا زكاة غير النخل والعنب من الأشجار ، ولا في شيء من الحبوب إلا فيما يقتات ويدخر ، ولا زكاة في الفواكه ولا الخضراوات ; لأن النص والإجماع دلا على وجوب الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وكل واحد منها مقتات مدخر ، فألحقوا بها كل ما كان في معناها لكونه مقتاتا ومدخرا ، ولم يريا أن في الأشجار مقتاتا ولا مدخرا غير التمر والزبيب ; فلم يشاركهما في العلة غيرهما من الثمار ، ولذا قال جماعة من أصحاب مالك بوجوبها في التين [ ص: 505 ] على أصول مذهب مالك ; لأنه كالزبيب في الاقتيات والادخار .
وقال ابن عبد البر : الظاهر أن مالكا ما كان يعلم أن التين كذلك ، وأما الحبوب فيوجد فيها الاقتيات والادخار ، فألحقا بالحنطة والشعير كل ما كان مقتاتا مدخرا ، كالأرز ، والذرة ، والدخن ، والقطاني ، ونحو ذلك ، فهو إلحاق منهما - رحمهما الله - للمسكوت بالمنطوق ; بجامع العلة التي هي عندهما الاقتيات والادخار ; لأن كونه مقتاتا مدخرا مناسب لوجوب الصدقة فيه ; لاحتياج المساكين إلى قوت يأكلون منه ويدخرون .
وأما أحمد - رحمه الله - فحجته في قوله : إن الزكاة تجب فيما يبقى وييبس ويكال ، أما ما لا ييبس ولا يبقى ، كالفواكه ، والخضراوات ، لم تكن تؤخذ منه الزكاة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ولا زمن الخلفاء الراشدين .
ودليله في اشتراطه الكيل قوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ، قال : فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن محل الواجب في الوسق ، وهو خاص بالمكيل ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
أما دليل الجمهور منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - على أن الفواكه والخضراوات لا زكاة فيها فظاهر ; لأن الخضراوات كانت كثيرة بالمدينة جدا ، والفواكه كانت كثيرة بالطائف ، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه أنه أخذ الزكاة من شيء من ذلك .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية : وقد كان بالطائف الرمان ، والفرسك ، والأترج ، فما اعترضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ذكره ، ولا أحد من خلفائه ، قلت : وهذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة ، وأن الخضراوات ليس فيها شيء ، وأما الآية فقد اختلف فيها : هل هي محكمة أو منسوخة ، أو محمولة على الندب ؟ ولا قاطع يبين أحد محاملها ، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه : أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد استقرار الأحكام بالمدينة ، أفيجوز أن يتوهم متوهم ، أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ، ولا خلافة أبي بكر حتى عمل بذلك الكوفيون ؟ إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا ، أو قال به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (82)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (8)
صـ 506 إلى صـ 510
قلت : ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [ 5 \ 67 ] ، أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه [ ص: 506 ] أو بيانه ؟ حاشاه من ذلك ، وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ 5 \ 3 ] ، ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا ، وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - فيما رواه الدارقطني : إن المقاثئ كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء . وقال الزهري والحسن : تزكى أثمان الخضر إذا أينعت وبلغ الثمن مائتي درهم ، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه ، ولا حجة في قولهما لما ذكرنا .
وقد روى الترمذي عن معاذ : أنه كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الخضراوات ، وهي البقول ، فقال : " ليس فيها شيء " ، وقد روي هذا المعنى عن جابر ، وأنس ، وعلي ، ومحمد بن عبد الله بن جحش ، وأبي موسى ، وعائشة ، ذكر أحاديثهم الدارقطني - رحمه الله - وقال الترمذي : ليس يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء ، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة - رحمه الله - بحديث صالح بن موسى عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة " ، قال أبو عمر : وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا ، وإنما هو من قول إبراهيم .
قلت وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها ، لم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية ، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، بما ذكرنا . اهـ . كلام القرطبي .
وحجة من قال : بأنه لا زكاة في غير الأربعة المجمع عليها التي هي : الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، هي الأحاديث التي قدمنا في أول هذا المبحث ، وفيها حديث معاذ وأبي موسى الذي تقدم عن البيهقي أنه قوي متصل ، وقال أبو يوسف ومحمد : ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية ، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة ، وكان محمد يعتبر في العصفر ، والكتان ، والبزر ، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق ; كان العصفر والكتان تبعا للبزر ، وأخذ منه العشر أو نصف العشر ، وأما القطن فليس عنده فيما دون خمسة أحمال شيء ، والحمل ثلاثمائة من بالعراقي ، والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منهما شيء ، فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة ، وقال أبو يوسف : وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر ، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج فيه ما في الزعفران ، وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول ، وهو مخالف لما عليه أهل مذهبه مالك وأصحابه . قاله القرطبي .
[ ص: 507 ] تنبيه
من قال : لا زكاة في الرمان ، وهم جمهور العلماء ، ومن قال : لا زكاة في الزيتون ، يلزم على قول كل منهم أن تكون الآية التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ، منسوخة أو مرادا بها غير الزكاة ; لأنها على تقدير أنها محكمة ، وأنها في الزكاة المفروضة ، لا يمكن معها القول بعدم زكاة الزيتون والرمان ; لأنها على ذلك صريحة فيها ; لأن المذكورات في قوله تعالى : والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ، يرجع إلى كلها الضمير في قوله : كلوا من ثمره [ 6 \ 141 ] ، وقوله : وآتوا حقه يوم حصاده ، كما هو واضح لا لبس فيه . فيدخل فيه الزيتون والرمان دخولا أوليا لا شك فيه ، فقول أكثر أهل العلم بعدم الزكاة في الرمان يقوي القول بنسخ الآية ، أو أنها في غير الزكاة المفروضة ، والله تعالى أعلم ، وعنأبي يوسف : أنه أوجب الزكاة في الحناء ، واعلم أن مذهب داود بن علي الظاهري في هذه المسألة قوي جدا من جهة النظر ; لأنه قال : ما أنبتته الأرض ضربان : موسق ، وغير موسق ، فما كان موسقا وجبت الزكاة فيما بلغ منه خمسة أوسق ; لقوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا زكاة فيما دونها منه " ، وما كان غير موسق ففي قليله وكثيره الزكاة ; لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، ولا يخصص بحديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ; لأنه غير موسق أصلا .
قال مقيده - عفا الله عنه : وهذا القول هو أسعد الأقوال بظاهر النصوص وفيه نوع من الجمع بينها ، إلا أنه يرد عليه ما قدمنا من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض للخضراوات مع كثرتها في المدينة ، ولا الفواكه مع كثرتها بالطائف ، ولو كان العموم شاملا لذلك لبينه - صلى الله عليه وسلم - وإذا عرفت كلام العلماء في تعيين ما تجب فيه الزكاة ، وأدلة أقوالهم مما ذكرنا .
فاعلم أن جمهور العلماء قالوا : لا تجب الزكاة إلا في خمسة أوسق فصاعدا ; لقوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " الحديث . أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ومسلم من حديث جابر - رضي الله عنه .
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - وأصحابهم ، وهو قول ابن عمر ، وجابر ، وأبي أمامة بن سهل ، وعمر بن عبد العزيز ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وعطاء ، ومكحول ، والحكم ، والنخعي ، وأهل المدينة ، والثوري والأوزاعي ، وابن أبي [ ص: 508 ] ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وسائر أهل العلم ، كما نقله عنهم ابن قدامة وغيره .
وقال ابن قدامة في " المغني " : لا نعلم أحدا خالف فيه إلا أبا حنيفة ، ومن تابعه ، ومجاهدا ، وقد أجمع جميع العلماء على أن الوسق ستون صاعا ، وهو بفتح الواو وكسرها والفتح أشهر وأفصح ، وقيل : هو بالكسر اسم وبالفتح مصدر ، ويجمع على أوسق في القلة وأوساق ، وعلى وسوق في الكثرة . واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده - صلى الله عليه وسلم - والمد بالتقريب : ملء اليدين المتوسطتين ، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين ، وتحديده بالضبط وزن رطل وثلث بالبغدادي ، فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد ، ومن الصيعان ثلاثمائة ، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل ، والرطل : وزن مائة وثمانية وعشرين درهما مكيا ، وزاد بعض أهل العلم أربعة أسباع درهم ، كل درهم وزن خمسين وخمسي حبة من مطلق الشعير ، كما حرره علماء المالكية ، ومالك - رحمه الله - من أدرى الناس بحقيقة المد والصاع كما هو معلوم ، وقيل فيه غير ما ذكرنا .
وأما الحكم الثالث من أحكام هذه المسألة الثالثة المذكورة في أول هذا المبحث ، وهو تعيين القدر الواجب إخراجه ، فلا خلاف فيه بين العلماء وهو العشر فيما ليس في سقيه مشقة ، كالذي يسقيه المطر ، أو النهر ، أو عروقه في الأرض ، وأما ما يسقى بالآلة كالذي يسقى بالنواضح ففيه نصف العشر ، وهذا ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر ، وابن عمر ، فإن سقى تارة بمطر السماء مثلا ، وتارة بالسانية فإن استويا فثلاثة أرباع العشر ، بلا خلاف بين العلماء ، وإن كان أحد الأمرين أغلب فقيل : يغلب الأكثر ويكون الأقل تبعا له ، وبه قال أحمد ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وعطاء ، وهو أحد قولي الشافعي ، وقيل : يؤخذ بالتقسيط ، وهذان القولان كل منهما شهره بعض المالكية ، وحكى بعضهم رواية عن مالك : أن المعتبر ما حيي به الزرع وتم ، وممن قال بالتقسيط من الحنابلة : ابن حامد ، فإن جهل المقدار وجب العشر احتياطا ، كما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في رواية عبد الله ، قاله في " المغني " ; وعلله بأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط نصفه بتحقق الكلفة ، وإذا لم يتحقق المسقط وجب البقاء على الأصل وهو ظاهر جدا . وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر ؟ فالقول قول رب المال بغير يمين ; لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم ، ولا وقص في الحبوب والثمار ، بل كل ما زاد على النصاب أخرج منه بحسبه .
[ ص: 509 ] مسائل تتعلق بهذا المبحث
المسألة الأولى : قد قدمنا إجماع العلماء على وجوب الزكاة في التمر والزبيب ، وجمهورهم على أنهما يخرصان إذا بدا صلاحهما ; لأن المالكين يحتاجون إلى أكل الرطب والعنب ; فبسبب ذلك شرع خرص التمر والعنب ، ويخرص كل واحد منهما شجرة شجرة ، حتى يعلم قدر ما في الجميع الآن من الأوساق ، ثم يسقط منه قدر ما ينقصه الجفاف ، فلو كان فيه خمسة أوسق من العنب أو الرطب ، وإذا جف كانت أربعة أوسق مثلا ، فلا زكاة فيه ; لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين ، لا من الرطب والعنب ، وإذا خرص على الوجه الذي ذكرنا خلى بين مالكيه وبينه ، وبعد الجذاذ يأتون بقدر الزكاة على الخرص المذكور تمرا أو زبيبا ، وبذلك يحصل الجمع بين الاحتياط للفقراء ، والرفق بأرباب الثمار ، فإن أصابته بعد الخرص جائحة ، اعتبرت ، وسقطت زكاة ما اجتاحته الجائحة ، فإن بقي بعدها خمسة أوسق فصاعدا أخرج الزكاة ، وإلا فلا . ولا خلاف في اعتبار الجائحة بعد الخرص بين العلماء .
وممن قال بخرص النخيل والأعناب : الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله تعالى - وعمر بن الخطاب ، وسهل بن أبي حثمة ، ومروان ، والقاسم بن محمد ، والحسن ، وعطاء ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، وعبد الكريم بن أبي المخارق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأكثر أهل العلم كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " ، وحكي عن الشعبي : أن الخرص بدعة ، ومنعه الثوري ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم ، وإنما كان الخرص تخويفا للقائمين على الثمار ; لئلا يخونوا ، فأما أن يلزم به حكم فلا .
قال مقيده - عفا الله عنه : لا يخفى أن هذا القول تبطله نصوص السنة الصحيحة الصريحة ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة " تبوك " فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " اخرصوها " ، فخرصناها ، وخرصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسق ، وقال : " أحصيها حتى نرجع إليك ، إن شاء الله " ، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك ، فذكر الحديث .
قال : " ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة عن حديقتها [ ص: 510 ] كم بلغ ثمرها ؟ قالت : بلغ عشرة أوسق " ، فهذا الحديث المتفق عليه دليل واضح على مشروعية الخرص ، كما ترى .
وعن عتاب بن أسيد - رضي الله عنه : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم " أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان .
وعن عتاب - رضي الله عنه - أيضا قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب ، كما يخرص النخل ، فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا " ، أخرجه أيضا أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والدارقطني .
والتحقيق في حديث عتاب هذا : أنه من مراسيل سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى ; لأنه لم يدرك عتابا ; لأن مولد سعيد في خلافة عمر ، وعتاب مات يوم مات أبو بكر - رضي الله عنهما - وقد أثبت الحجة بمراسيل سعيد كثير ممن يقولون بعدم الاحتجاج بالمرسل ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إن من أصحابنا : من قال يحتج بمراسيل ابن المسيب مطلقا ، والأصح أنه إنما يحتج بمراسيله إذا اعتضدت بأحد أربعة أمور : أن يسند ، أو يرسل من جهة أخرى ، أو يقول به بعض الصحابة ، أو أكثر العلماء ، وقد وجد ذلك هنا ; فقد أجمع العلماء من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر ، والزبيب .
قال مقيده - عفا الله عنه : وبما ذكره النووي تعلم اتفاق الشافعية على الاحتجاج بهذا المرسل ، والأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل مطلقا ، فظهر إجماع المذاهب الأربعة على الاحتجاج بمثل هذا المرسل ، وروى هذا الحديث الدارقطني بسند فيه الواقدي متصلا ، فقال عن سعيد بن المسيب ، عن المسور بن مخرمة ، عن عتاب بن أسيد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (83)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (9)
صـ 511 إلى صـ 515
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة ، فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ، ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص ، أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص ; لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق " ، أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وقد أعل بأن فيه واسطة بين ابن جريج والزهري ، ولم يعرف ، وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني بدون الواسطة المذكورة ، وابن جريج مدلس ; فلعله تركها تدليسا ، قاله ابن حجر ، وقال ذكر الدارقطني الاختلاف فيه قال : فرواه صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، وأرسله معمر ، ومالك ، وعقيل : فلم يذكروا أبا [ ص: 511 ] هريرة ، وأخرج أبو داود من طريق ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق .
وقال ابن حجر في " التلخيص " أيضا : روى أحمد من حديث ابن عمر : " أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم " ، الحديث .
وروى أبو داود والدارقطني من حديث جابر : " لما فتح الله على رسوله خيبر أقرهم ، وجعلها بينه وبينهم ، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم " ، الحديث ، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس .
وروى الدارقطني عن سهل بن أبي حثمة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أباه خارصا ، فجاء رجل فقال : يا رسول الله ، إن أبا حثمة قد زاد علي " الحديث ، ثم ذكر ابن حجر حديث عتاب ، وحديث عائشة اللذين قدمناهما ، ثم قال وفي الصحابة ، لأبي نعيم من طريق الصلت بن زبيد بن الصلت ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله على الخرص ، فقال : " أثبت لنا النصف ، وأبق لهم النصف ، فإنهم يسرقون ، ولا نصل إليهم " .
فبهذا الذي ذكرنا كله تعلم أن الخرص حكم ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ظن وتخمين باطل ، بل هو اجتهاد ورد به الشرع في معرفة قدر الثمر ، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير ، فهو كتقويم المتلفات ، ووقت الخرص حين يبدو صلاح الثمر ، كما قدمنا لما قدمنا من الرواية : " بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث الخارص ، فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل " ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء .
والجمهور القائلون بالخرص اختلفوا في حكمه ، فقيل : هو سنة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر به ، وقيل : واجب ; لما تقدم في حديث عتاب من قوله : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب " ، الحديث المتقدم ، قالوا : الأمر للوجوب ، ولأنه إن ترك الخرص قد يضيع شيء من حق الفقراء ، والأظهر عدم الوجوب ; لأن الحكم بأن هذا الأمر واجب يستوجب تركه العقاب يحتاج إلى دليل ظاهر قوي ، والله تعالى أعلم .
واختلف العلماء القائلون بالخرص ، هل على الخارص أن يترك شيئا ؟ ، فقال بعض العلماء : عليه أن يترك الثلث أو الربع ، لما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححاه عن سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه - قال : قال [ ص: 512 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا خرصتم فخذوا ، ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع " ، فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي ، عن سهل بن أبي حثمة ، وقد قال البزار : إنه انفرد به ، وقال ابن القطان : لا يعرف حاله ، فالجواب : أن له شاهدا بإسناد متفق على صحته : " أن عمر بن الخطاب أمر به ، قاله الحاكم ، ومن شواهده : ما رواه ابن عبد البر عن جابر مرفوعا : " خففوا في الخرص " ، الحديث ، وفي إسناده ابن لهيعة .
وممن قال بهذا القول الإمام أحمد ، وإسحاق ، والليث ، وأبو عبيد ، وغيرهم ، ومشهور مذهب مالك ، والصحيح في مذهب الشافعي : أن الخارص لا يترك شيئا .
قال مقيده - عفا الله عنه : والقول بأنه يترك الثلث أو الربع هو الصواب ; لثبوت الحديث الذي صححه ابن حبان ، والحاكم بذلك ، ولم يثبت ما يعارضه ; ولأن الناس يحتاجون إلى أن يأكلوا ويطعموا جيرانهم ، وضيوفهم ، وأصدقاءهم ، وسؤالهم ; ولأن بعض الثمر يتساقط ، وتنتابه الطير ، وتأكل منه المارة ، فإن لم يترك لهم الخارص شيئا ، فالظاهر أن لهم الأكل بقدر ما كان يلزم إسقاطه ، ولا يحسب عليهم .
وهذا مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - وهو مقتضى ما دل عليه الحديث المذكور ، فإن زاد الثمر أو نقص عما خرصه به الخارص ، فقال بعض العلماء : لا زكاة عليه فيما زاد ، وتلزمه فيما نقص ; لأنه حكم مضى .
وقال بعضهم : يندب الإخراج في الزائد ، ولا تسقط عنه زكاة ما نقص .
قال مقيده - عفا الله عنه ، أما فيما بينه وبين الله ، فلا شك أنه لا تجب عليه زكاة شيء لم يوجد ، وأما فيما بينه وبين الناس ، فإنها قد تجب عليه ، قال خليل بن إسحاق المالكي في " مختصره " : وإن زادت على تخريص عارف فالأحب الإخراج ، وهل على ظاهره أو الوجوب ؟ تأويلان .
قال شارحه المواق من المدونة : قال مالك : من خرص عليه أربعة أوسق فرفع خمسة أوسق أحببت له أن يزكي ابن يونس ، قال بعض شيوخنا : لفظة أحببت ها هنا على الإيجاب ، وهو صواب كالحاكم يحكم بحكم ، ثم يظهر أنه خطأ صراح . ابن عرفة ، على هذا حملها الأكثر ، وحملها ابن رشيد ، وعياض على الاستحباب .
قال مقيده - عفا الله عنه : ووجوب الزكاة في الزائد هو الأظهر ، وعليه أكثر المالكية ، وهو الصحيح عند الشافعية ، وأما النقص : فإذا ثبت ببينة أنها نقصت عما خرصت به ، [ ص: 513 ] فالظاهر أنه تسقط عنه زكاة ما نقصت به ، وإن ادعى غلط الخارص .
فقد قال بعض أهل العلم : لم تقبل دعواه لأن الخارص أمين ، وقال بعض العلماء : تقبل دعواه غلط الخارص ، إذا كانت مشبهة ، أما إذا كانت بعيدة ، كدعواه زيادة النصف أو الثلثين ، فلا يقبل قوله في الجميع ، وهذا التفصيل هو مذهب الشافعي ، وأحمد ، إلا أن بعض الشافعية قال : يسقط عنه من الكثير الذي ادعى قدر النقص الذي تقبل دعواه فيه ، وأما إن ادعى أن الخارص جار عليه عمدا ، فلا تقبل دعواه عليه بلا خلاف ، كما لو ادعى جور الحاكم ، أو كذب الشاهد ، وكذا إذا ادعى أنه غلط في الخرص ، ولم يبين قدر ما زاد لم يقبل منه ، نص عليه علماء الشافعية ، وإن ادعى رب الثمر : أنه أصابته جائحة أذهبت بعضه ، فالظاهر تصديقه فيما يشبه قوله ، كما لو ادعى أن بعضه سرق بالليل مثلا قيل بيمين .
وقيل : لا ، وإن أضاف هلاك الثمرة إلى سبب يكذبه الحس ، كأن يقول : هلكت بحريق ، وقع في الجرين في وقت كذا ، وعلمنا أنه لم يحترق في ذلك الوقت لم يلتفت إلى كلامه ، فإن علم وقوع السبب الذي ذكر ، وعموم أثره صدق بلا يمين ، وإن اتهم حلف ، قيل : وجوبا ، وقيل : استحبابا ، وإن لم يعرف عدم السبب المذكور ولا وجوده ، فالصحيح أنه يكلف بالبينة على وجود أصل السبب ، ثم القول قوله في الهلاك به ، وهذا التفصيل الأخير للشافعية ذكره النووي في شرح المهذب ، ووجهه ظاهر ، والله تعالى أعلم .
وجمهور العلماء على أنه لا يخرص غير التمر ، والزبيب ، فلا يخرص الزيتون ، والزرع ، ولا غيرهما ، وأجازه بعض العلماء في الزيتون ، وأجازه بعضهم في سائر الحبوب .
والصحيح أنه لا يجوز إلا في التمر ، والعنب لثلاثة أمور :
الأول : أن النص الدال على الخرص لم يرد إلا فيهما كما تقدم في حديث عتاب بن أسيد ، وغيره من الأحاديث .
الثاني : أن غيرهما ليس في معناهما ; لأن الحاجة تدعو غالبا إلى أكل الرطب قبل أن يكون تمرا ، والعنب قبل أن يكون زبيبا ، وليس غيرهما كذلك .
الثالث : أن ثمرة النخل ظاهرة مجتمعة في عذوقها ، والعنب ظاهر أيضا مجتمع في عناقيده ، فحرزهما ممكن ، بخلاف غيرهما من الحبوب ، فإنه متفرق في شجره ، والزرع مستتر في سنبله .
[ ص: 514 ] والظاهر أن ما جرت العادة بالحاجة إلى أكله لا يحسب ; لما قدمنا ، وقال المالكية : يحسب عليهم كلما أكلوه من الحب ، ولا يحسب ما تأكله الدواب في درسها .
المسألة الثانية : لا يجوز إخراج زكاة الثمار إلا من التمر اليابس والزبيب اليابس ، وكذلك زكاة الحبوب لا يجوز إخراجها إلا من الحب اليابس بعد التصفية ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، وأجرة القيام على الثمار والحبوب حتى تيبس وتصفى من خالص مال رب الثمرة والزرع ، فإن دفع زكاة التمر بسرا أو رطبا ، أو دفع زكاة الزبيب عنبا ، لم يجزه ذلك ; لأنه دفع غير الواجب ; لأن الواجب تمر وزبيب يابسان إجماعا .
وقد قال ابن قدامة في " المغني " : فإن كان المخرج للرطب رب المال لم يجزه ، ولزمه إخراج الفضل بعد التجفيف ; لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه ، كما لو أخرج الصغير عن الماشية الكبار ، وهو نص صريح منه في أن الرطب غير الواجب ، وأن منزلته من التمر الذي هو الواجب كمنزلة صغار الماشية من الكبار التي هي الواجبة في زكاة الماشية .
وقال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : فلو أخرج الرطب والعنب في الحال لم يجزئه بلا خلاف ، ولو أخذه الساعي غرمه بلا خلاف ; لأنه قبضه بغير حق ، وكيف يغرمه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف في آخر الباب .
الصحيح : الذي قطع به الجمهور ، ونص عليه الشافعي - رضي الله عنه - أنه يلزمه قيمته .
والثاني : يلزمه مثله وهما مبنيان على أن الرطب والعنب مثليان أم لا ، والصحيح المشهور أنهما ليسا مثليين ، ولو جف عند الساعي ، فإن كان قدر الزكاة أجزأ ، وإلا رد التفاوت ، أو أخذه ، كذا قاله العراقيون وغيرهم ، وحكى ابن كج وجها أنه لا يجزئ بحال لفساد القبض ، قال الرافعي : وهذا الوجه أولى والمختار ما سبق . انتهى كلام النووي بلفظه ، وهو صريح في عدم إجزاء الرطب والعنب بلا خلاف عند الشافعية .
وقال صاحب " المهذب " ما نصه : فإن أخذ الرطب وجب رده ، وإن فات وجب رد قيمته ، ومن أصحابنا من قال : يجب رد مثله ، والمذهب الأول لأنه لا مثل له ; لأنه يتفاوت ، ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض . اهـ . منه بلفظه ، وهو صريح في عدم إجزاء [ ص: 515 ] الرطب في زكاة التمر ، وهذا الذي ذكرنا عن عامة العلماء من أن الزكاة لا تؤخذ إلا من التمر ، والزبيب اليابسين ، هو مذهب مالك وعامة أصحابه وفي الموطإ ما نصه :
قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا أن النخل تخرص على أهلها وثمرها في رؤوسها إذا طاب وحل بيعه ، ويؤخذ منه صدقته تمرا عند الجذاذ ، إلى أن قال : وكذلك العمل في الكرم . انتهى محل الفرض منه بلفظه ، وفيه تصريح مالك - رحمه الله - بأن الأمر المجتمع عليه من علماء زمنه ، أن الزكاة تخرج تمرا ، وهو يدل دلالة واضحة على أن من ادعى جواز إخراجها من الرطب أو البسر ، فدعواه مخالفة للأمر المجتمع عليه عند مالك وعلماء زمنه .
ومن أوضح الأدلة على ذلك : أن البلح الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يتزبب كبلح مصر وعنبها ، لا يجوز الإخراج منه مع تعذر الواجب الذي هو التمر والزبيب اليابسان ، بل تدفع الزكاة من ثمنه أو قيمته عند مالك وأصحابه ، فلم يجعلوا العنب والرطب أصلا ، ولم يقبلوهما بدلا عن الأصل ، وقالوا : بوجوب الثمن إن بيع ، والقيمة إن أكل .
قال خليل في مختصره : وثمن غير ذي الزيت وما لا يجف ، ومراده بقوله : وما لا يجف ، أن الرطب والعنب اللذين لا ييبسان يجب الإخراج من ثمنهما لا من نفس الرطب والعنب ، وفي المواق في شرح قول خليل ، وإن لم يجف ما نصه :
قال مالك : إن كان رطب هذا النخل لا يكون تمرا ، ولا هذا العنب زبيبا ، فليخرص أن لو كان ذلك فيه ممكنا ، فإن صح في التقدير خمسة أوسق أخذ من ثمنه . انتهى محل الفرض منه بلفظه ، وهو نص صريح عن مالك أنه لا يرى إخراج الرطب ، والعنب في الزكاة ; لعدوله عنهما إلى الثمن في حال تعذر التمر والزبيب اليابسين ، فكيف بالحالة التي لم يتعذرا فيها .
والحاصل أن إخراج الرطب والعنب عما يبس من رطب وعنب ، لم يقل به أحد من العلماء ، ولا دل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس ، وأما الذي لا ييبس كبلح مصر وعنبها ، ففيه قول مرجوح عند المالكية بإجزاء الرطب والعنب ، ونقل هذا القول عن ابن رشد ، وسترى - إن شاء الله - في آخر هذا المبحث كلام الشافعية والحنابلة فيه ، فإن قيل : فما الدليل على أنه لا يجزئ إلا التمر والزبيب اليابسان دون الرطب والعنب ؟
فالجواب : أن ذلك دلت عليه عدة أدلة :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (84)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (10)
صـ 516 إلى صـ 520
[ ص: 516 ] الأول : هو ما قدمنا من حديث عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب كما يخرص النخل ؛ فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا " ، وقد قدمنا أن هذا الحديث أخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والدارقطني ، وقد قدمنا أنه من مراسيل سعيد بن المسيب ، وقدمنا أيضا أن الاحتجاج بمثل هذا المرسل من مراسيل سعيد صحيح عند الأئمة الأربعة ، فإذا علمت صحة الاحتجاج بحديث سعيد بن المسيب هذا ، فاعلم أنه نص صريح في : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بخرص العنب والنخل ، وأن تؤخذ زكاة العنب زبيبا ، وصدقة النخيل تمرا ، فمن ادعى جواز أخذ زكاة النخل رطبا أو بسرا ، فدعواه مخالفة لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه أمر بأخذها في حال كونها تمرا في النخل وزبيبا في العنب ، ومعلوم أن الحال وصف لصاحبها ، قيد لعاملها ، فكون زكاة النخل تمرا وصف لها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجها في حال كونها متصفة به ، وكذلك كونها تمرا قيد لأخذها ، فهو تقييد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخذها بأن يكون في حال كونها تمرا ، فيفهم منه أنها لا تؤخذ على غير تلك الحال ، ككونها رطبا مثلا ، وإذا اتضح لك أن أخذها رطبا - مثلا - مخالف لما أمر به - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه قال في الحديث المتفق عليه : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ، فهو رد " ، وفي رواية في الصحيح : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وفي الكتاب العزيز : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] .
ومما يوضح لك أن إخراج الرطب مثلا في الزكاة مخالف لما سنه وشرعه - صلى الله عليه وسلم - من أخذها تمرا ، وزبيبا يابسين ما ذكره البيهقي في " السنن الكبرى " في باب " كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب " ، فإنه قال فيه : وأخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه المهرجاني ، أنبأ بشر بن أحمد ، أنبأ أحمد بن الحسين بن نصر الحذاء ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا يزيد بن زريع ، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، أخبرني الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب كما يخرص النخل ، ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا " ، قال : فتلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النخل والعنب . اهـ منه بلفظه ، وفيه التصريح بأن : إخراج التمر والزبيب هو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمخرج الرطب والعنب مخالف لسنته - صلى الله عليه وسلم - كما ترى .
الدليل الثاني : إجماع المسلمين على أن زكاة الثمار والحبوب من نوع ما تجب الزكاة في عينه ، والعين الواجبة فيها الزكاة هي : التمر والزبيب اليابسان ، لا الرطب [ ص: 517 ] والعنب بدليل إجماع القائلين بالنصاب في الثمار ، على أن خمسة الأوسق التي هي النصاب لا تعتبر من الرطب ، ولا من العنب ، فمن كان عنده خمسة أوسق من الرطب أو العنب ، ولكنها إذا جفت نقصت عن خمسة أوسق ، فلا زكاة عليه ; لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين ، فلو أخرج الزكاة من الرطب أو العنب لكان مخرجا من غير ما تجب في عينه الزكاة كما ترى ، ويدل له ما ذكره الزرقاني في " شرح الموطإ " ، فإنه قال فيه في شرح قول مالك : ثم يؤدون الزكاة على ما خرص عليهم ، ما نصه : ومبنى التخريص أن يحزر ما في النخل ، أو العنب من التمر اليابس إذا جذ ، على حسب جنسه ، وما علم من حاله أنه يصير إليه عند الإتمار ; لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرا . انتهى محل الفرض منه بلفظه .
وقد تقرر عند جماهير العلماء أن لفظة إنما للحصر وهو الحق ، فقول الزرقاني : لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرا ، معناه : حصر أخذ زكاة النخل في خصوص التمر دون غيره من رطب ونحوه ; معللا بذلك اعتبار النصاب من التمر اليابس ; لأن الإخراج مما تجب في عينه الزكاة من الثمار والحبوب وهو واضح ، ولا يرد على ما ذكرنا أن وقت وجوب الزكاة هو وقت طيب الثمر قبل أن يكون يابسا ; لإجماع العلماء على أنه لا يجب إخراجها بالفعل إلا بعد أن يصير تمرا يابسا ; ولإجماعهم أيضا على أنه إن أصابته جائحة اعتبرت ، فتسقط زكاة ما أجيح ، كما تسقط زكاة الكل إن لم يبق منه نصاب ، وسيأتي له زيادة إيضاح .
الدليل الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذها تمرا بعد الجذاذ ، لا بلحا ، ولا رطبا ، والله جل وعلا يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، ويقول : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، ويقول : من يطع الرسول فقد أطاع الله الآية [ 4 \ 80 ] ، ويقول : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني الآية [ 3 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قال البخاري في " صحيحه " ، باب " أخذ صدقة التمر عند صرام النخل " : وهل يترك الصبي فيمس الصدقة ، حدثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي ، حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالتمر عند صرام النخل ، فيجيء هذا بتمره ، وهذا من تمره ، حتى يصير عنده كوما من تمر ، فجعل الحسن والحسين - رضي الله عنهما - يلعبان بذلك التمر ، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه ، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجها من فيه ، فقال : " أما [ ص: 518 ] علمت أن آل محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يأكلون الصدقة " . اهـ .
فهذا الحديث الصحيح نص صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ صدقة النخل تمرا بعد الجذاذ ، وقد تقرر في الأصول أن صيغة المضارع بعد لفظة كان في نحو : كان يفعل كذا ، تدل على كثرة التكرار والمداومة على ذلك الفعل ، فقول أبي هريرة في هذا الحديث المرفوع الصحيح : كان صلى الله عليه وسلم " يؤتى بالتمر عند صرام النخل " .
الحديث يدل دلالة واضحة على أن إخراج التمر عند الجذاذ هو الذي كان يفعل دائما في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يأخذ في الزكاة ذلك التمر اليابس ، فمن ادعى جواز إخراج زكاة النخل رطبا أو بلحا ، فهو مخالف لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرح هذا الحديث المذكور آنفا ما نصه : " قال الإسماعيلي : قوله عند صرام النخل ، أي : بعد أن يصير تمرا ; لأن النخل قد يصرم وهو رطب ، فيتمر في المربد ، ولكن ذلك لا يتطاول ، فحسن أن ينسب إلى الصرام ، كما في قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ، فإن المراد بعد أن يداس وينقى ، والله تعالى أعلم " ، اهـ . منه بلفظه وهو واضح فيما ذكرنا .
وبما ذكرنا تعلم أن ما يدعيه بعض أهل العلم من المتأخرين من جواز إخراج زكاة النخل رطبا وبسرا غير صحيح ، ولا وجه له ، ولا دليل عليه ، وأما إن كان التمر لا ييبس ، كبلح مصر ، وعنبها ، فقد قدمنا عن مالك وأصحابه : أن الزكاة تخرج من ثمنه إن بيع ، أو قيمته إن أكل ، لا من نفس الرطب أو العنب .
وقد قدمنا عن ابن رشد قولا مرجوحا بإجزاء الرطب والعنب في خصوص ما لا ييبس ، ومذهب الشافعي - رحمه الله - في زكاة ما لا ييبس : أنه على القول بأن القسمة تمييز حق لا بيع ، فيجوز القسم ، ويجعل العشر أو نصفه متميزا في نخلات ، ثم ينظر المصدق ، فإن رأى أن يفرق عليهم فعل ، وإن رأى البيع وقسمة الثمن فعل ، وأما على القول بأن القسمة بيع فلا تجوز في الرطب والعنب ، ويقبض المصدق عشرها مشاعا بالتخلية بينه وبينها ، ويستقر عليه ملك المساكين ، ثم يبيعه ويأخذ ثمنه ويفرقه عليهم ، وهكذا الحكم عنده فيما إذا احتيج إلى قطع الثمرة رطبا ، خوفا عليها من العطش ونحوه .
وحكم هذه المسألة في المذهب الحنبلي فيه قولان :
أحدهما : أنه يخير الساعي بين أن يقاسم رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص ، [ ص: 519 ] ويأخذ نصيبهم نخلة مفردة ، ويأخذ ثمرتها ، وبين أن يجذها ويقاسمه إياها بالكيل ، ويقسم الثمرة في الفقراء ، وبين أن يبيعها من رب المال أو غيره ، قبل الجذاذ أو بعده ، ويقسم ثمنها في الفقراء .
القول الثاني : أن عليه الزكاة من تمر وزبيب يابسين ، قاله أبو بكر ، وذكر أن أحمد رحمه الله نص عليه ، قاله صاحب " المغني " ، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب أحمد - رحمه الله - في المسألتين ، أعني الثمر الذي لا ييبس ، والذي احتيج لقطعه قبل اليبس .
المسألة الثالثة : اختلف في وقت وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض من ثمر وحب ، فقال جمهور العلماء : تجب في الحب إذا اشتد ، وفي الثمر إذا بدا صلاحه ، فتعلق الوجوب عند طيب التمر ، ووجوب الإخراج بعد الجذاذ .
وفائدة الخلاف أنه لو تصرف في الثمر والحب قبل الوجوب لم يكن عليه شيء ، وإن تصرف في ذلك بعد وجوب الزكاة لم تسقط الزكاة عنه .
ومن فوائده أيضا : أنه إذا مات بعد وقت الوجوب زكيت على ملكه ، وإن مات قبل الوجوب زكيت على ملك الورثة ، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال :
الأول : أنه وقت الجذاذ ، قاله محمد بن مسلمة ; لقوله تعالى : يوم حصاده .
الثاني : يوم الطيب ; لأن ما قبل الطيب يكون علفا ، لا قوتا ولا طعاما ، فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به ، وجب الحق الذي أمر الله به ، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة ، ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطيب .
الثالث : أنه يكون بعد تمام الخرص ; لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة ، فيكون شرطا لوجوبها ، كمجيء الساعي في الغنم ، وبه قال المغيرة ، والصحيح الأول ; لنص التنزيل ، والمشهور في المذهب الثاني ، وبه قال الشافعي . اهـ منه .
وقد قدمنا أن مالكا - رحمه الله - يقول : بأن كل ما أكله المالك أو تصدق به يحسب عليه ، وجمهور العلماء يخالفونه - رحمه الله - في ذلك ، واحتجوا لأن ما يأكله لا يحسب عليه بقوله تعالى : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده . وبالحديث المتقدم : أن على الخارص أن يدع الثلث أو الربع ، وقوله تعالى : يوم حصاده ، قرأه ابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم بفتح الحاء ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان مشهورتان [ ص: 520 ] كالصرام والصرام ، والجذاذ والجذاذ ، والقطاف والقطاف .
فائدة : ينبغي لصاحب الحائط إذا أراد الجذاذ ألا يمنع المساكين من الدخول ، وأن يتصدق عليهم ; لقوله تعالى في ذم أصحاب الجنة المذكورة في سورة القلم : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين الآيات [ \ 17 ] ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الآية [ 6 \ 145 ] . هذه الآية الكريمة صريحة في أنه لم يحرم من المطعومات إلا هذه الأربعة المذكورة فيها ، التي هي : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير الله ، ولكنه تعالى بين في بعض المواضع تحريم غير المذكورات ، كتصريحه بتحريم الخمر في سورة المائدة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .
وقال بعض العلماء لا يحرم مطعوم إلا هذه الأربعة المذكورة ، وهو قول يروى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، قال القرطبي : ويروى عنهم أيضا خلافه ، وقال البخاري في " صحيحه " : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال عمرو : قلت لجابر بن زيد : يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن لحوم الحمر الأهلية " ، فقال : " قد كان يقول ذلك الحكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس ، وقرأ : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما . اهـ . وقال ابن خويز منداد من المالكية : تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره ، إلا ما استثني في الآية من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير .
ولهذا قلنا : إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان ، والخنزير مباحة .
وقال القرطبي : روي عن عائشة ، وابن عباس ، وابن عمر إباحة أكل لحوم السباع ، والحمر ، والبغال ، وذكر حديث البخاري الذي قدمنا آنفا .
ثم قال : وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع ، فقال : لا بأس بها ، فقيل له حديث أبي ثعلبة الخشني ، فقال : لا ندع كتاب ربنا لحديث أعرابي يبول على ساقيه .
وسئل الشعبي عن لحم الفيل ، والأسد ، فتلا هذه الآية .
وقال القاسم : كانت عائشة تقول - لما سمعت الناس يقولون : حرم كل ذي ناب من السباع - ذلك حلال ، وتتلو هذه الآية : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (85)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (11)
صـ 521 إلى صـ 525
قال مقيده - عفا الله عنه : اعلم أنا نريد في هذا المبحث أن نبين حجة من قال بعدم تحريم لحوم السباع ، والحمير ، ونحوها ، وحجة من قال بمنعها ، ثم نذكر الراجح بدليله .
واعلم أولا : أن دعوى أنه لا يحرم مطعوم غير الأربعة المذكورة في هذه الآية باطلة ، بإجماع المسلمين ; لإجماع جميع المسلمين ; ودلالة الكتاب والسنة على تحريم الخمر ، فهو دليل قاطع على تحريم غير الأربعة .
ومن زعم أن الخمر حلال لهذه الآية ، فهو كافر بلا نزاع بين العلماء ، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذين استدلوا بهذه الآية على عدم تحريم ما ذكر ، قالوا : إن الله حصر المحرمات فيها في الأربعة المذكورة ، وحصرها أيضا في النحل فيها في قوله : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به [ 2 \ 173 ] ; لأن إنما أداة حصر عند الجمهور ، والنحل بعد الأنعام ; بدليل قوله في النحل : وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل الآية [ 16 \ 118 ] ، والمقصوص المحال عليه هو المذكور في الأنعام ، في قوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية [ 6 \ 146 ] ; ولأنه تعالى قال في الأنعام : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية [ 6 \ 148 ] ، ثم صرح في النحل بأنهم قالوا ذلك بالفعل ، في قوله : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء الآية [ 16 \ 135 ] ; فدل ذلك على أن النحل بعد الأنعام ، وحصر التحريم أيضا في الأربعة المذكورة في سورة البقرة ، في قوله : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، فقالوا : هذا الحصر السماوي الذي ينزل به الملك مرة بعد مرة في مكة في الأنعام ، والنحل ، وفي المدينة عند تشريع الأحكام في البقرة لا يمكننا معارضته ، ولا إخراج شيء منه إلا بدليل قطعي المتن ، متواتر كتواتر القرآن العظيم .
فالخمر مثلا دل القرآن على أنها محرمة فحرمناها ; لأن دليلها قطعي ، أما غيرها كالسباع ، والحمر ، والبغال : فأدلة تحريمها أخبار آحاد يقدم عليها القاطع ، وهى الآيات المذكورة آنفا .
تنبيه
اعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره من أن زيادة تحريم السباع والحمر مثلا بالسنة على [ ص: 522 ] الأربعة المذكورة في الآيات ، كزيادة التغريب بالسنة على جلد الزاني مائة الثابت بالقرآن ، أو زيادة الحكم بالشاهد واليمين في الأموال الثابت بالسنة على الشاهدين ، أو الشاهد والمرأتين المذكور في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ 2 \ 282 ] ، غير ظاهر عندي ; لوضوح الفرق بين الأمرين ; لأن زيادة التغريب والحكم بالشاهد واليمين على آية : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 \ 2 ] ، في الأول ، وآية : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية ، في الثاني زيادة شيء لم يتعرض له القرآن بنفي ولا إثبات ، ومثل هذه الزيادة لا مانع منه عند جمهور العلماء ; لأن الزيادة على النص ليست نسخا له عند الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله .
وبناء على ذلك منع التغريب والحكم بالشاهد واليمين ; لأن الزيادة عنده نسخ ، والقرآن لا ينسخ بأخبار الآحاد ; لأنه قطعي المتن وليست كذلك ، أما زيادة محرم آخر على قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية ، فليست زيادة شيء سكت عنه القرآن كالأول ، وإنما هي زيادة شيء نفاه القرآن ; لدلالة الحصر القرآني على نفي التحريم عن غير الأربعة المذكورة ، وبين الأمرين فرق واضح ، وبه تعلم أن مالكا - رحمه الله - ليس ممن يقول : بأن الزيادة على النص نسخ ، اللهم إلا إذا كانت الزيادة أثبتت ما كان منفيا بالنص قبلها ، فكونها إذن ناسخة واضح ، وهناك نظر آخر ، قال به بعض العلماء : وهو أن إباحة غير الأربعة المذكورة من الإباحة العقلية المعروفة عند أهل الأصول بالبراءة الأصلية ، وهي استصحاب العدم الأصلي ; لأن الأصل عدم تحريم شيء إلا بدليل ، كما قاله جمع من أهل الأصول .
وإذا كانت إباحته عقلية : فرفعها ليس بنسخ حتى يشترط في ناسخها التواتر ، وعن ابن كثير في " تفسيره " هذا القول بعدم النسخ للأكثرين من المتأخرين .
قال مقيده - عفا الله عنه : وكونه نسخا أظهر عندي ; لأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى الأربعة شرعا ، فتكون إباحة شرعية ; لدلالة القرآن عليها ، ورفع الإباحة الشرعية نسخ بلا خلاف ، وأشار في " مراقي السعود " إلى أن الزيادة التي لا تناقض الحكم الأول ليست نسخا بقوله : [ الرجز ]
وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا
وهذا قول جمهور العلماء ، ووجهوه بعدم منافاة الزيادة للمزيد ، وما لا ينافي لا يكون [ ص: 523 ] ناسخا ، وهو ظاهر .
واعلم أن مالك بن أنس - رحمه الله - اختلفت عنه الرواية في لحوم السباع ، فروي عنه أنها حرام ، وهذا القول هو الذي اقتصر عليه في " الموطأ " ; لأنه ترجم فيه بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع ، ثم ساق حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - بإسناده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع " ، ثم ساق بإسناده حديث أبي هريرة مرفوعا : " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " ، ثم قال : وهو الأمر عندنا ، وهذا صريح في أن الصحيح عنده تحريمها ، وجزم القرطبي بأن هذا هو الصحيح من مذهبه ، وروي عنه أيضا أنها مكروهة ، وهو ظاهر " المدونة " ، وهو المشهور عند أهل مذهبه ، ودليل هذا القول هو الآيات التي ذكرنا ، ومن جملتها الآية التي نحن بصددها .
وما روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة من إباحتها ، وهو قول الأوزاعي .
قال مقيده - عفا الله عنه : الذي يظهر رجحانه بالدليل هو ما ذهب إليه الجمهور : من أن كل ما ثبت تحريمه بطريق صحيحة من كتاب أو سنة فهو حرام ، ويزاد على الأربعة المذكورة في الآيات ، ولا يكون في ذلك أي مناقضة للقرآن ; لأن المحرمات المزيدة عليها حرمت بعدها .
وقد قرر العلماء : أنه لا تناقض يثبت بين القضيتين إذا اختلف زمنهما ; لاحتمال صدق كل منهما في وقتها ، وقد اشترط عامة النظار في التناقض اتحاد الزمان ; لأنه إن اختلف جاز صدق كل منهما في وقتها ، كما لو قلت : لم يستقبل بيت المقدس ، قد استقبل بيت المقدس ، وعنيت بالأولى ما بعد النسخ ، وبالثانية ما قبله ، فكلتاهما تكون صادقة ، وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى أنه : يشترط في تناقض القضيتين اتحادهما فيما سوى الكيف ، أعني الإيجاب والسلب ، من زمان ، ومكان ، وشرط ، وإضافة ، وقوة ، وفعل ، وتحصيل ، وعدول ، وموضوع ، ومحمول ، وجزء ، وكل ، بقولي : [ الرجز ]
والاتحاد لازم بينهما فيما سوى الكيف كشرط علما والجزء والكل مع المكان والفعل والقوة والزمان إضافة تحصيل أو عدول ووحدة الموضوع والمحمول
فوقت نزول الآيات المذكورة لم يكن حراما غير الأربعة المذكورة ، فحصرها صادق قبل تحريم غيرها بلا شك ، فإذا طرأ تحريم شيء آخر بأمر جديد ، فذلك لا ينافي الحصر [ ص: 524 ] الأول لتجدده بعده ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى ، وبه يتضح أن الحق جواز نسخ المتواتر بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه ، وإن منعه أكثر أهل الأصول .
وإذا عرفت ذلك : فسنفصل لك إن شاء الله تعالى المحرمات التي حرمت بعد هذا ، وأقوال العلماء فيها .
فمن ذلك كل ذي ناب من السباع ، فالتحقيق تحريمه لما قدمنا من حديث أبي هريرة ، وأبي ثعلبة الخشني من النهي عنها ، وتحريمها ، أما حديث أبي ثعلبة فمتفق عليه ، وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه مسلم في " صحيحه " عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ : " كل ذي ناب من السباع ، فأكله حرام " .
والأحاديث في الباب كثيرة ، وبه تعلم أن التحقيق : هو تحريم أكل كل ذي ناب من السباع .
والتحقيق أن أكل كل ذي مخلب من الطير منهي عنه ، ولا عبرة بقول من قال من المالكية وغيرهم : أنه لم يثبت النهي عنه - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث ابن عباس : أنه - صلى الله عليه وسلم : " نهى عن كل ذي ناب من السباع ، وذي مخلب من الطير " . اهـ .
فقرن في الصحيح بما صرح بأنه حرام مع أن كلا منهما ذو عداء وافتراس ، فدل كل ذلك على أنه منهي عنه .
والأصل في النهي التحريم ، وبتحريم ذي الناب من السباع ، وذي المخلب من الطير ، قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة وداود .
وقد قدمنا أنه الصحيح عن مالك في السباع ، وأن مشهور مذهبه الكراهة ، وعنه قول بالجواز وهو أضعفها ، والحق التحريم لما ذكرنا .
ومن ذلك الحمر الأهلية ، فالتحقيق أيضا أنها حرام ، وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف ; لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بتحريمها ، وقد روى البخاري ومسلم تحريمها من حديث علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، وسلمة بن الأكوع ، وعبد الله بن عمر ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وأنس ، وأبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنهم - وأحاديثهم دالة دلالة صريحة على التحريم ، فلفظ حديث أبي ثعلبة عند البخاري ، ومسلم : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية " ، وهذا صريح صراحة [ ص: 525 ] تامة في التحريم ، ولفظ حديث أنس عندهما أيضا : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس " ، وفي رواية لمسلم : " فإنها رجس من عمل الشيطان " ، وفي رواية له أيضا : " فإنها رجس " أو " نجس " .
قال مقيده - عفا الله عنه : حديث أنس هذا المتفق عليه الذي صرح فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لحوم الحمر الأهلية رجس ، صريح في تحريم أكلها ، ونجاسة لحمها ، وأن علة تحريمها ليست لأنها لم يخرج خمسها ، ولا أنها حمولة كما زعمه بعض أهل العلم . والله تعالى أعلم .
ولا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بما رواه أبو داود من حديث غالب بن أبجر المزني - رضي الله عنه - قال : " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أصابتنا السنة ، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر ، وإنك حرمت الحمر الأهلية ، فقال : أطعم أهلك من سمين حمرك ، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية " . اهـ .
والجوال : جمع جالة ، وهي التي تأكل الجلة ، وهي في الأصل البعر ، والمراد به هنا أكل النجاسات كالعذرة .
قال النووي في " شرح المهذب " : اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث .
قال الخطابي ، والبيهقي : هو حديث يختلف في إسناده ، يعنون مضطربا ، وما كان كذلك لا تعارض به الأحاديث المتفق عليها .
وأما البغال فلا يجوز أكلها أيضا ; لما رواه أحمد ، والترمذي من حديث جابر ، قال : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني يوم خيبر ، لحوم الحمر الإنسية ، ولحوم البغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير " ، أصل حديث جابر هذا في " الصحيحين " كما تقدم ، وهو بهذا اللفظ ، بسند لا بأس به . قاله ابن حجر والشوكاني .
وقال ابن كثير " في تفسيره " : وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم ، عن جابر قال : " ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمر ، ولم ينهنا عن الخيل " ، وهو دليل واضح على تحريم البغال ، ويؤيده أنها متولدة عن الحمير وهي حرام قطعا ; لصحة النصوص بتحريمها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (86)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (12)
صـ 526 إلى صـ 530
وأما الخيل فقد اختلف في جواز أكلها العلماء :
فمنعها مالك - رحمه الله - في أحد القولين ، وعنه أنها مكروهة ، وكل من القولين صححه بعض المالكية ، والتحريم أشهر عندهم .
وقال أبو حنيفة - رحمه الله : أكره لحم الخيل ، وحمله أبو بكر الرازي على التنزيه ، وقال : لم يطلق أبو حنيفة فيها التحريم ، وليست عنده كالحمار الأهلي .
وصحح عنه صاحب " المحيط " ، وصاحب " الهداية " ، وصاحب " الذخيرة " التحريم ، وهو قول أكثر الحنفية .
وممن رويت عنه كراهة لحوم الخيل : الأوزاعي ، وأبو عبيد ، وخالد بن الوليد - رضي الله عنه - وابن عباس ، والحكم .
ومذهب الشافعي وأحمد - رحمهما الله تعالى - جواز أكل الخيل ، وبه قال أكثر أهل العلم .
وممن قال به : عبد الله بن الزبير ، وفضالة بن عبيد ، وأنس بن مالك ، وأسماء بنت أبي بكر ، وسويد بن غفلة ، وعلقمة ، والأسود ، وعطاء ، وشريح ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وإسحاق ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وداود ، وغيرهم .
كما نقله عنهم النووي ، في " شرح المهذب " ، وسنبين - إن شاء الله - حجج الجميع ، وما يقتضي الدليل رجحانه .
اعلم أن من منع أكل لحم الخيل احتج بآية وحديث :
أما الآية ، فقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، فقال : قد قال تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ 16 \ 5 ] ، فهذه للأكل ، وقال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها ، فهذه للركوب لا للأكل ، وهذا تفصيل من خلقها وامتن بها ، وأكد ذلك بأمور :
أحدها : أن اللام للتعليل ، أي خلقها لكم لعلة الركوب والزينة ، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر ، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية .
ثانيها : عطف البغال والحمير عليها ، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم .
ثالثها : أن الآية الكريمة سيقت للامتنان ، وسورة النحل تسمى سورة الامتنان .
[ ص: 527 ] والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ، ويترك أعلاها ، لا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها .
رابعها : لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة .
وأما الحديث : فهو ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير " .
ورد الجمهور الاستدلال بالآية الكريمة ، بأن آية النحل نزلت في مكة اتفاقا ، والإذن في أكل الخيل يوم خيبر كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين ، فلو فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - المنع من الآية لما أذن في الأكل ، وأيضا آية النحل ليست صريحة في منع أكل الخيل ، بل فهم من التعليل ، وحديث جابر ، وحديث أسماء بنت أبي بكر المتفق عليهما ، كلاهما صريح في جواز أكل الخيل ، والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول .
وأيضا فالآية على تسليم صحة دلالتها المذكورة ، فهي إنما تدل على ترك الأكل ، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه ، أو خلاف الأولى ، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز .
وأيضا فلو سلمنا أن اللام للتعليل ، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة . فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما ، وفي غير الأكل اتفاقا ، وإنما ذكر الركوب والزينة ; لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل .
ونظيره حديث البقرة المذكور في " الصحيحين " حين خاطبت راكبها فقالت : " إنا لم نخلق لهذا ، إنا خلقنا للحرث " ، فإنه مع كونه أصرح في الحصر ، لم يقصد به إلا الأغلب ، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا .
وأيضا فلو سلم الاستدلال المذكور للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير للحصر المزعوم في الركوب والزينة ، ولا قائل بذلك .
وأما الاستدلال بعطف الحمير والبغال عليها ، فهو استدلال بدلالة الاقتران ، وقد ضعفها أكثر العلماء من أهل الأصول ، كما أشار له في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوى المذكور
[ ص: 528 ] وأما الاستدلال بأن الآية الكريمة سيقت للامتنان : فيجاب عنه بأنه قصد به ما كان الانتفاع به أغلب عند العرب ، فخوطبوا بما عرفوا وألفوا ، ولم يكونوا يألفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم ، وشدة الحاجة إليها في القتال ، بخلاف الأنعام : فأكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال ، وللأكل ; فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به فيه .
فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر كما قدمنا .
وأما الاستدلال بأن الإذن في أكلها ، سبب لفنائها وانقراضها :
فيجاب عنه : بأنه أذن في أكل الأنعام ولم تنقرض ، ولو كان الخوف عن ذلك علة لمنع في الأنعام لئلا تنقرض ، فيتعطل الانتفاع بها في غير الأكل ، قاله ابن حجر .
وأما الاستدلال بحديث خالد بن الوليد - رضي الله عنه : فهو مردود من وجهين :
الأول : أنه ضعفه علماء الحديث ، فقد قال ابن حجر في " فتح الباري " في باب " لحوم الخيل " ما نصه : " وقد ضعف حديث خالد أحمد ، والبخاري ، وموسى بن هارون ، والدارقطني ، والخطابي ، وابن عبد البر ، وعبد الحق ، وآخرون .
وقال النووي في " شرح المهذب " : واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم ، على أن حديث خالد المذكور حديث ضعيف ، وذكر أسانيد بعضهم بذلك ، وحديث خالد المذكور مع أنه مضطرب ، في إسناده صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب ، ضعفه غير واحد ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : لين ، وفيه أيضا : والده يحيى المذكور ، الذي هو شيخه في هذا الحديث ، قال فيه في " التقريب " : مستور .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا عدم ضعف حديث خالد ، فإنه معارض بما هو أقوى منه ، كحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر ، ورخص في لحوم الخيل " ، وفي لفظ في " الصحيح " : " وأذن في لحوم الخيل " ، وكحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - قالت : " نحرنا فرسا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه " متفق عليهما .
ولا شك في أنهما أقوى من حديث خالد ، وبهذا كله تعلم أن الذي يقتضي الدليل الصريح رجحانه إباحة أكل لحم الخيل ، والعلم عند الله تعالى ، ولا يخفى أن الخروج من الخلاف أحوط ، كما قال بعض أهل العلم : [ الرجز ]
[ ص: 529 ] وإن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفا فاستبن
ومن ذلك الكلب : فإن أكله حرام عند عامة العلماء ، وعن مالك قول ضعيف جدا بالكراهة .
ولتحريمه أدلة كثيرة ، منها : ما تقدم في ذي الناب من السباع ; لأن الكلب سبع ذو ناب ، ومنها أنه لو جاز أكله لجاز بيعه ، وقد ثبت النهي عن ثمنه في " الصحيحين " من حديث أبي مسعود الأنصاري ، مقرونا بحلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وأخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة ، وأخرجه مسلم من حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - بلفظ : " ثمن الكلب خبيث " ، الحديث ، وذلك نص في التحريم لقوله تعالى : ويحرم عليهم الخبائث الآية [ 7 \ 157 ] .
فإن قيل : ما كل خبيث يحرم ; لما ورد في الثوم أنه خبيث ، وفي كسب الحجام أنه خبيث ، مع أنه لم يحرم واحد منهما .
فالجواب : أن ما ثبت بنص أنه خبيث كان ذلك دليلا على تحريمه ، وما أخرجه دليل يخرج ، ويبقى النص حجة فيما لم يقم دليل على إخراجه ، كما هو الحكم في جل عمومات الكتاب والسنة ، يخرج منها بعض الأفراد بمخصص ، وتبقى حجة في الباقي ، وهذا مذهب الجمهور ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معينا يبن
فإن قيل : تحريم الخبائث لعلة الخبث ، وإذا وجد خبيث غير محرم كان ذلك نقضا في العلة لا تخصيصا لها .
فالجواب : أن أكثر العلماء على أن النقض تخصيص للعلة ، لا إبطال لها ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]
منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
إلخ . . . . كما حررناه في غير هذا الموضع .
ومن الأدلة على تحريم الكلب : ما ثبت في " الصحيحين " من الأحاديث الصريحة في تحريم اقتنائه ، وأن اقتناءه ينقص أجر مقتنيه كل يوم ، فلو كان أكله مباحا ، لكان اقتناؤه [ ص: 530 ] مباحا .
وإنما رخص - صلى الله عليه وسلم - في كلب الصيد ، والزرع ، والماشية ; للضرورة ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من اتخذ كلبا ، إلا كلب صيد ، أو زرع ، أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، ومنه أيضا ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث سفيان بن أبي زهير الشنائي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ، ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط " ، ورواه البخاري عن ابن عمر بثلاث طرق بلفظ : " نقص كل يوم من عمله قيراطان " ، وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عمر من طرق في بعضها قيراط ، وفي بعضها قيراطان .
والأحاديث في الباب كثيرة ، وهذا أوضح دليل على أن الكلب لا يجوز أكله ، إذ لو جاز أكله لجاز اقتناؤه للأكل ، وهو ظاهر ، ومن ذلك ما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث جابر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن المغفل - رضي الله عنهم : من أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب ، ولو كانت مباحة الأكل لما أمر بقتلها ، ولم يرخص - صلى الله عليه وسلم - فيها إلا لضرورة الصيد ، أو الزرع ، أو الماشية .
وإذا عرفت أن في كلب الصيد ، وما ذكر معه ، بعض المنافع المباحة ، كالانتفاع بصيده ، أو حراسته الماشية ، أو الزرع ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في بيعه .
فمنهم من قال : بيعه تابع للحمه ، ولحمه حرام ; فبيعه حرام ، وهذا هو أظهر الأقوال دليلا ; لما قدمنا من أن ثمن الكلب خبيث ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ، مقرونا بحلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وهو نص صحيح صريح في منع بيعه .
ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا ، قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب " ، وقال : " إن جاء يطلب ثمن الكلب ، فاملأ كفه ترابا " .
قال النووي في " شرح المهذب " ، وابن حجر في " الفتح " : إسناده صحيح ، وروى أبو داود أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا : " لا يحل ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغي " ، قال ابن حجر في " الفتح " : إسناده حسن ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إسناده حسن صحيح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (87)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (13)
صـ 531 إلى صـ 535
وإذا حققت ذلك ، فاعلم أن القول بمنع بيع الكلب الذي ذكرنا أنه هو الحق ، عام في المأذون في اتخاذه وغيره ; لعموم الأدلة ، وممن قال بذلك : أبو هريرة ، والحسن البصري ، والأوزاعي ، وربيعة ، والحكم ، وحماد ، والشافعي ، وأحمد ، وداود ، وابن المنذر ، وغيرهم ، وهو المشهور الصحيح من مذهب مالك ، خلافا لما ذكره القرطبي في " المفهم " : من أن مشهور مذهبه الكراهة ، وروي عن مالك أيضا جواز بيع كلب الصيد ونحوه ، دون الذي لم يؤذن في اتخاذه ، وهو قول سحنون ; لأنه قال : أبيع كلب الصيد وأحج بثمنه .
وأجاز بيعه أبو حنيفة مطلقا إن كانت فيه منفعة من صيد ، أو حراسة لماشية مثلا ، وحكى نحوه ابن المنذر عن جابر ، وعطاء ، والنخعي ، قاله النووي .
وإن قتل الكلب الماذون فيه ككلب الصيد ، ففيه القيمة عند مالك ، ولا شيء فيه عند أحمد ، والشافعي ، وأوجبها فيه أبو حنيفة مطلقا إن كانت فيه منفعة .
وحجة من قال : لا قيمة فيه ، أن القيمة ثمن ، والنص الصحيح نهى عن ثمن الكلب ، وجاء فيه التصريح بأن طالبه تملأ كفه ترابا ، وذلك أبلغ عبارة في المنع منه .
واحتج من أوجبها بأنه فوت منفعة جائزة فعليه غرمها .
واحتج من أجاز بيع الكلب ، وألزم قيمته إن قتل ، بما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد " ، وعن عمر - رضي الله عنه : أنه غرم رجلا عن كلب قتله عشرين بعيرا ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما ، وقضى في كلب ماشية بكبش .
واحتجوا أيضا بأن الكلب المأذون فيه تجوز الوصية به ، والانتفاع به ، فأشبه الحمار .
وأجاب الجمهور بأن الأحاديث والآثار المروية في جواز بيع كلب الصيد ولزوم قيمته كلها ضعيفة .
قال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : " وأما الجواب عما احتجوا به من الأحاديث والآثار فكلها ضعيفة باتفاق المحدثين " ، وهكذا أوضح الترمذي ، والدارقطني ، والبيهقي ضعفها ، والاحتجاج بجواز الوصية به وشبهه بالحمار مردود بالنصوص الصحيحة ، المصرحة بعدم حلية ثمنه ، وما ذكره ابن عاصم المالكي في " تحفته " من قوله : [ الرجز ]
واتفقوا أن كلاب الباديه يجوز بيعها ككلب الماشيه
[ ص: 532 ] فقد رده عليه - رحمه الله - علماء المالكية ، وقد قدمنا أنه قول سحنون .
واعلم أن ما روي عن جابر ، وابن عمر مرفوعا مما يدل على جواز بيع كلب الصيد كله ضعيف ، كما بين تضعيفه ابن حجر في " فتح الباري " في باب " ثمن الكلب " .
قال القرطبي : وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس .
ومن ذلك القرد ، فإنه لا يجوز أكله ، قال القرطبي في " تفسيره " : قال أبو عمر ، يعني ابن عبد البر : أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكله ، ولا يجوز بيعه ; لأنه لا منفعة فيه .
قال : وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب : سئل مجاهد عن أكل القرد ، فقال : ليس من بهيمة الأنعام ، قلت : ذكر ابن المنذر أنه قال : روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم ، قال : يحكم به ذوا عدل ، قال : فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه ; لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد ، وفي " بحر المذهب " للروياني على مذهب الشافعي .
وقال الشافعي : يجوز بيع القرد ; لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع . اهـ .
وقال النووي في " شرح المهذب " : القرد حرام عندنا ، وبه قال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، ومكحول ، والحسن ، وابن حبيب المالكي .
وقال ابن قدامة في " المغني " : وقال ابن عبد البر : لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا أن القرد لا يؤكل ، ولا يجوز بيعه ، وروي عن الشعبي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن لحم القرد " ، ولأنه سبع ، فيدخل في عموم الخبر ، ولأنه مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة .
وقد قدمنا جزم ابن حبيب ، وابن عبد البر من المالكية : بأنه حرام ، وقال الباجي : الأظهر عندي من مذهب مالك وأصحابه : أنه ليس بحرام .
ومن ذلك الفيل : فالظاهر فيه أنه من ذوات الناب من السباع ، وقد قدمنا أن التحقيق فيها التحريم ; لثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب الجمهور .
وممن صححه من المالكية : ابن عبد البر ، والقرطبي .
[ ص: 533 ] وقال بعض المالكية كراهته أخف من كراهة السبع ، وأباحه أشهب ، وعن مالك في " المدونة " : كراهة الانتفاع بالعاج ، وهو سن الفيل .
وقال ابن قدامة في " المغني " : والفيل محرم ، قال أحمد : ليس هو من أطعمة المسلمين ، وقال الحسن : هو مسخ ، وكرهه أبو حنيفة ، والشافعي ، ورخص في أكله الشعبي ، ولنا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وهو من أعظمها نابا ; ولأنه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة للخبائث . اهـ .
وقال النووي في " شرح المهذب " : الفيل حرام عندنا ، وعند أبي حنيفة ، والكوفيين ، والحسن ، وأباحه الشعبي ، وابن شهاب ، ومالك في رواية .
وحجة الأولين أنه ذو ناب . اهـ .
ومن ذلك الهر ، والثعلب ، والدب : فهي عند مالك من ذوات الناب من السباع ، وعنه رواية أخرى أنها مكروهة كراهة تنزيه ، ولا تحريم فيها قولا واحدا ، والهر الأهلي والوحشي عنده سواء .
وفرق بينهما غيره من الأئمة كالشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة : فمنعوا الأهلي .
قال ابن قدامة في " المغني " : فأما الأهلي فمحرم في قول إمامنا ومالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن أكل الهر ، وقال ابن قدامة في " المغني " أيضا : واختلفت الرواية في الثعلب ، فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه ، وهذا قول أبي هريرة ، ومالك ، وأبي حنيفة ; لأنه سبع ; فيدخل في عموم النهي ، ونقل عن أحمد إباحته ، واختاره الشريف أبو جعفر ، ورخص فيه عطاء ، وطاوس ، وقتادة ، والليث ، وسفيان بن عيينة ، والشافعي ; لأنه يفدى في الإحرام والحرم ، إلى أن قال : واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر ، والقول فيه كالقول في الثعلب .
وحكى النووي اتفاق الشافعية على إباحة الثعلب ، وقال صاحب " المهذب " : وفي سنور الوحش وجهان :
أحدهما : لا يحل ; لأنه يصطاد بنابه فلم يحل ، كالأسد والفهد .
والثاني : يحل ; لأنه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي ، فيحرم الأهلي منه ، [ ص: 534 ] ويحل الوحشي كالحمار .
وأما الدب : فهو سبع ذو ناب عند مالك ، والشافعي ، وأصحاب أبي حنيفة ، وقال أحمد : إن كان الدب ذا ناب منع أكله ، وإن لم يكن ذا ناب فلا بأس بأكله .
واختلف العلماء في جواز أكل الضبع : وهو عند مالك كالثعلب ، وقد قدمنا عنه أنه سبع في رواية ، وفي أخرى أنه مكروه ، ولا قول فيه بالتحريم ، والأحاديث التي قدمناها في سورة " المائدة " بأن الضبع صيد تدل على إباحة أكلها ، وروي عن سعد بن أبي وقاص : أنه كان يأكل الضباع ، قاله القرطبي ، ورخص في أكلها الشافعي وغيره ، وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : قال الشافعي : وما يباع لحم الضباع بمكة إلا بين الصفا والمروة .
وحجة مالك في مشهور مذهبه : أن الضبع من جملة السباع ; فيدخل في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ولم يخص سبعا منها عن سبع ، قال القرطبي : وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي ; لأنه حديث انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ، وليس مشهورا بنقل العلم ، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه ، قال أبو عمر : وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة ، روى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات ، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار . اهـ .
قال مقيده - عفا الله عنه : للمخالف أن يقول أحاديث النهي عامة في كل ذي ناب من السباع ، ودليل إباحة الضبع خاص ، ولا يتعارض عام وخاص ; لأن الخاص يقضي على العام ، فيخصص عمومه به كما هو مقرر في الأصول .
ومن ذلك القنفذ : فقد قال بعض العلماء بتحريمه ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وأبي هريرة ، وأجاز أكله الجمهور ، منهم مالك ، والشافعي ، والليث ، وأبو ثور ، وغيرهم .
واحتج من منعه بما رواه أبو داود ، والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال : ذكر القنفذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " هو خبيث من الخبائث " .
واحتج من أباحه ، وهم الجمهور ، بأن الحديث لم يثبت ، ولا تحريم إلا بدليل . قال البيهقي في السنن الكبرى ، بعد أن ساق حديث أبي هريرة المذكور في خبث القنفذ : هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد ، وهو إسناد فيه ضعف .
وممن كره أكل القنفذ : أبو حنيفة وأصحابه . قاله القرطبي وغيره .
[ ص: 535 ] ومن ذلك حشرات الأرض : كالفأرة ، والحيات ، والأفاعي ، والعقارب ، والخنفساء ، والعظاية ، والضفادع ، والجرذان ، والوزغ ، والصراصير ، والعناكب ، وسام أبرص ، والجعلان ، وبنات وردان ، والديدان ، وحمار قبان ، ونحو ذلك .
فجمهور العلماء على تحريم أكل هذه الأشياء ; لأنها مستخبثة طبعا ، والله تعالى يقول : ويحرم عليهم الخبائث .
وممن قال بذلك : الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وابن شهاب ، وعروة ، وغيرهم - رحمهم الله تعالى .
ورخص في أكل ذلك : مالك ، واشترط في جواز أكل الحيات أن يؤمن سمها .
وممن روي عنه الترخيص في أكل الحشرات : الأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، واحتجوا بما رواه أبو داود ، والبيهقي ، من حديث ملقام بن تلب ، عن أبيه تلب بن ثعلبة بن ربيعة التميمي العنبري - رضي الله عنه - قال : صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما .
واحتجوا أيضا بأن الله حرم أشياء ، وأباح أشياء ، فما حرم فهو حرام ، وما أباح فهو مباح ، وما سكت عنه فهو عفو .
وقالت عائشة - رضي الله عنها - في الفأرة : ما هي بحرام ، وقرأت قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية .
ويجاب عن هذا بأن ملقام بن تلب مستور لا يعرف حاله ، وبأن قول أبيه تلب بن ثعلبة - رضي الله عنه - لم أسمع لحشرة الأرض تحريما لا يدل على عدم تحريمها ، كما قاله الخطابي ، والبيهقي ; لأن عدم سماع صحابي لشيء لا يقتضي انتفاءه كما هو معلوم ، وبأنه تعالى لم يسكت عن هذا ; لأنه حرم الخبائث ، وهذه خبائث ، لا يكاد طبع سليم يستسيغها ، فضلا عن أن يستطيبها ، والذين يأكلون مثل هذه الحشرات من العرب ، إنما يدعوهم لذلك شدة الجوع ، كما قال أحد شعرائهم : [ الطويل ]
أكلنا الربى يا أم عمرو ومن يكن غريبا لديكم يأكل الحشرات
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (88)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (14)
صـ 536 إلى صـ 540
والربى جمع ربية ، وهي الفأرة ، قاله القرطبي ، وفي " اللسان " أنها دويبة بين الفأرة وأم حبين ، ولتلك الحاجة الشديدة لما سئل بعض العرب عما يأكلون ، قال : كل ما دب [ ص: 536 ] ودرج ، إلا أم حبين ، فقال : لتهن أم حبين العافية .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح قتل الفأرة ، وما ذكر معها من الفواسق ، فدل ذلك على عدم إباحتها .
واعلم أن ما ذكره بعض أهل العلم ، كالشافعي ، من أن كل ما يستخبثه الطبع السليم من العرب الذين نزل القرآن عليهم في غير حال ضرورة الجوع حرام ; لقوله تعالى : ويحرم عليهم الخبائث الآية ، استدلال ظاهر ، لا وجه لما رده به أهل الظاهر من أن ذلك أمر لا يمكن أن يناط به حكم ; لأنه لا ينضبط ; لأن معنى الخبث معروف عندهم ، فما اتصف به فهو حرام ، للآية .
ولا يقدح في ذلك النص على إباحة بعض المستخبثات ، كالثوم ; لأن ما أخرجه الدليل يخصص به عموم النص ، ويبقى حجة فيما لم يخرجه دليل ، كما قدمنا .
ويدخل فيه أيضا كل ما نص الشرع على أنه خبيث ، إلا لدليل يدل على إباحته ، مع إطلاق اسم الخبث عليه .
واستثنى بعض أهل العلم من حشرات الأرض الوزغ ، فقد ادعى بعضهم الإجماع على تحريمه ، كما ذكره ابن قدامة في " المغني " عن ابن عبد البر .
قال مقيده - عفا الله عنه : ويدل له حديث أم شريك المتفق عليه : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأوزاغ ، وكذلك روى الشيخان أيضا عن حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - موصولا عند مسلم ، ومحتملا للإرسال عند البخاري ، فإن قوله : وزعم سعد بن أبي وقاص أنه أمر بقتله ، محتمل لأن يكون من قول عائشة ، ومحتمل لأن يكون من قول عروة ; وعليهما فالحديث متصل ، ويحتمل أن يكون من قول الزهري ; فيكون منقطعا ، واختاره ابن حجر في " الفتح " ، وقال : كأن الزهري وصله لمعمر ، وأرسله ليونس . اهـ ، ومن طريق يونس رواه البخاري ، ومن طريق معمر رواه مسلم ، وروى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة مرفوعا : الترغيب في قتل الوزغ ، وكل ذلك يدل على تحريمه .
واختلف العلماء أيضا في ابن آوى ، وابن عرس ، فقال بعض العلماء بتحريم أكلهما ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وأبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - قال في " المغني " : سئل أحمد عن ابن آوى ، وابن عرس ، فقال : كل شيء ينهش بأنيابه من السباع ، وبهذا قال [ ص: 537 ] أبو حنيفة ، وأصحابه . اهـ .
ومذهب الشافعي - رحمه الله - الفرق بينهما ، فابن عرس حلال عند الشافعية بلا خلاف ; لأنه ليس له ناب قوي ، فهو كالضب ، واختلف الشافعية في ابن آوى .
فقال بعضهم : يحل أكله ; لأنه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب .
والثاني : لا يحل ; لأنه مستخبث كريه الرائحة ، ولأنه من جنس الكلاب ، قاله النووي ، والظاهر من مذهب مالك كراهتهما .
وأما الوبر ، واليربوع ، فأكلهما جائز عند مالك وأصحابه ، وهو مذهب الشافعي ، وعليه عامة أصحابه ، إلا أن في الوبر وجها عندهم بالتحريم .
وقد قدمنا أن عمر أوجب في اليربوع جفرة ، فدل ذلك على أنه صيد ، ومشهور مذهب الإمام أحمد أيضا جواز أكل اليربوع ، والوبر .
وممن قال بإباحة الوبر : عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، وابن المنذر ، وأبو يوسف .
وممن قال بإباحة اليربوع أيضا : عروة ، وعطاء الخراساني ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، كما نقله عنهم صاحب " المغني " .
وقال القاضي من الحنابلة بتحريم الوبر ، قال في " المغني " : وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، إلا أبا يوسف ، وقال أيضا : إن أبا حنيفة قال في اليربوع أيضا : هو حرام ، وروي ذلك عن أحمد أيضا ، وعن ابن سيرين ، والحكم ، وحماد ; لأنه يشبه الفأر ، ونقل النووي في " شرح المهذب " عن صاحب " البيان " عن أبي حنيفة تحريم الوبر ، واليربوع ، والضب ، والقنفذ ، وابن عرس .
وممن قال بإباحة الخلد والضربوب : مالك وأصحابه .
وأما الأرنب : فالتحقيق أن أكلها مباح ; لما ثبت في " الصحيحين " عن أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم : " أهدي له عضو من أرنب فقبله " ، وفي بعض الروايات " فأكل منه " ، وقال ابن قدامة في " المغني " : أكل الأرنب سعد بن أبي وقاص ، ورخص فيها أبو سعيد ، وعطاء ، وابن المسيب ، والليث ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، ولا نعلم أحدا قائلا بتحريمها ، إلا شيئا روي عن عمرو بن العاص . اهـ .
[ ص: 538 ] وأما الضب : فالتحقيق أيضا جواز أكله ; لما ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عمر : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " كلوا أو أطعموا فإنه حلال " ، وقال : " لا بأس به ، ولكنه ليس من طعامي " ، يعني الضب ، ولما ثبت أيضا في " الصحيحين " من حديث خالد - رضي الله عنه : " أنه أكل ضبا في بيت ميمونة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه " ، وقد قدمنا قول صاحب " البيان " عن أبي حنيفة بتحريم الضب .
ونقل في " المغني " عن أبي حنيفة أيضا ، والثوري تحريم الضب ، ونقل عن علي النهي عنه ، ولم نعلم لتحريمه مستندا ، إلا ما رواه مسلم في " الصحيح " من حديث جابر - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أتي بضب ، فأبى أن يأكله " قال : " إني لا أدري لعله من القرون الأولى التي مسخت " ، وأخرج مسلم نحوه أيضا من حديث أبي سعيد مرفوعا ، فكأنه في هذا الحديث علل الامتناع منه باحتمال المسخ ، أو لأنه ينهش ، فأشبه ابن عرس ، ولكن هذا لا يعارض الأدلة الصحيحة الصريحة التي قدمناها بإباحة أكله ، وكان بعض العرب يزعمون أن الضب من الأمم التي مسخت ، كما يدل له قول الراجز : [ الرجز ]
قالت وكنت رجلا فطينا هذا لعمر الله إسرائينا
فإن هذه المرأة العربية أقسمت على أن الضب إسرائيلي مسخ .
وأما الجراد : فلا خلاف بين العلماء في جواز أكله ، وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث عبد الله بن أبي أوفى ، أنه قال : " غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد " . اهـ .
وميتة الجراد من غير ذكاة حلال عند جماهير العلماء ; لحديث " أحلت لنا ميتتان ودمان " الحديث .
وخالف مالك الجمهور ، فاشترط في جواز أكله ذكاته ، وذكاته عنده ما يموت به بقصد الذكاة ، وهو معنى قول خليل بن إسحاق المالكي في " مختصره " : وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به ، ولو لم يعجل كقطع جناح .
واحتج له المالكية بعدم ثبوت حديث ابن عمر المذكور : " أحلت لنا ميتتان " ، الحديث ; لأن طرقه لا تخلو من ضعف في الإسناد ، أو وقف ، والأصل الاحتياج إلى الذكاة ; لعموم : حرمت عليكم الميتة [ 5 \ 3 ] ، وقال ابن كثير في تفسير سورة المائدة ما نصه : " وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن [ ص: 539 ] أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان : فالسمك والجراد ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " ، وكذا رواه أحمد بن حنبل ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو ضعيف .
قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا ، قلت : وثلاثتهم كلهم ضعفاء ، ولكن بعضهم أصلح من بعض ، وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح . اهـ من ابن كثير ، وهو دليل لما قاله المالكية ، والله تعالى أعلم .
قال مقيده - عفا الله عنه : لكن للمخالف أن يقول : إن الرواية الموقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم عنه صحيحة ، ولها حكم الرفع ; لأن قول الصحابي : أحل لنا ، أو حرم علينا ، له حكم الرفع ; لأنه من المعلوم أنهم لا يحل لهم ، ولا يحرم عليهم ، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقرر في علوم الحديث ، وأشار النووي في " شرح المهذب " إلى أن الرواية الصحيحة الموقوفة على ابن عمر لها حكم الرفع ، كما ذكرنا وهو واضح ، وهو دليل لا لبس فيه على إباحة ميتة الجراد من غير ذكاة .
والمالكية قالوا : لم يصح الحديث مرفوعا ، وميتة الجراد داخلة في عموم قوله : حرمت عليكم الميتة الآية [ 5 \ 3 ] ، وافتقار الجراد إلى الذكاة بما يموت به ، كقطع رأسه بنية الذكاة ، أو صلقه ، أو قليه .
كذلك رواية أيضا عن الإمام أحمد ، نقلها عنه النووي في " شرح مسلم " و " شرح المهذب " ، والله تعالى أعلم .
وأما الطير : فجميع أنواعه مباحة الأكل إلا أشياء منها ، اختلف فيها العلماء .
فمن ذلك كل ذي مخلب من الطير يتقوى به ويصطاد : كالصقر ، والشاهين ، والبازي ، والعقاب ، والباشق ، ونحو ذلك .
وجمهور العلماء على تحريم كل ذي مخلب من الطير كما قدمنا ، ودليلهم ثبوت النهي عنه في " صحيح مسلم " ، وغيره ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة .
ومذهب مالك - رحمه الله : إباحة أكل ذي المخلب من الطير ; لعموم قوله تعالى : [ ص: 540 ] قل لا أجد الآية ; ولأنه لم يثبت عنده نص صريح في التحريم .
وممن قال كقول مالك : الليث ، والأوزاعي ، ويحيى بن سعيد ، وقال مالك : لم أر أحدا من أهل العلم يكره سباع الطير ، وقال ابن القاسم : لم يكره مالك أكل شيء من الطير كله ؛ الرخم ، والعقبان ، والنسور ، والحدأة ، والغربان ، وجميع سباع الطير ، وغير سباعها ، ما أكل الجيف منها ، وما لم يأكلها .
ولا بأس بأكل الهدهد ، والخطاف ، وروي على كراهة أكل الخطاف ابن رشد ; لقلة لحمها مع تحرمها بمن عششت عنده ، انتهى من " المواق " في شرحه لقول خليل في " مختصره " وطير ، ولو جلالة .
ومن ذلك الحدأة ، والغراب الأبقع لما تقدم من أنهما من الفواسق التي يحل قتلها في الحل والحرم ; وإباحة قتلها دليل على منع أكلها ، وهو مذهب الجمهور خلافا لمالك ، ومن وافقه ، كما ذكرنا آنفا .
وقالت عائشة - رضي الله عنها : إني لأعجب ممن يأكل الغراب ، وقد أذن - صلى الله عليه وسلم - في قتله ، وقال صاحب " المهذب " ، بعد أن ذكر تحريم أكل الغراب الأبقع : ويحرم الغراب الأسود الكبير ; لأنه مستخبث يأكل الجيف فهو كالأبقع .
وفي الغداف ، وغراب الزرع وجهان :
أحدهما : لا يحل ; للخبر .
والثاني : يحل ; لأنه مستطاب يلقط الحب ، فهو كالحمام ، والدجاج ، وقال ابن قدامة في " المغني " ويحرم منها ما يأكل الجيف ، كالنسور ، والرخم ، وغراب البين وهو أكبر الغربان ، والأبقع . قال عروة : ومن يأكل الغراب ، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسقا ؟ والله ما هو من الطيبات . اهـ .
قال مقيده - عفا الله عنه : الظاهر المتبادر أن كل شيء أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله بغير الذكاة الشرعية أنه محرم الأكل ; إذ لو كان الانتفاع بأكله جائزا لما أذن - صلى الله عليه وسلم - في إتلافه كما هو واضح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (89)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (15)
صـ 541 إلى صـ 545
وقال النووي : الغراب الأبقع حرام بلا خلاف ; للأحاديث الصحيحة ، والأسود الكبير فيه طريقان :
[ ص: 541 ] إحداهما : أنه حرام .
والأخرى : أن فيه وجهين ، أصحهما التحريم .
وغراب الزرع : فيه وجهان مشهوران : أصحهما أنه حلال ، وهو الزاغ ، وهو أسود صغير ، وقد يكون محمر المنقار والرجلين . اهـ ، منه بالمعنى في " شرح المهذب " .
ومن ذلك الصرد ، والهدهد ، والخطاف ، والخفاش وهو الوطواط .
ومذهب الشافعي : تحريم أكل الهدهد والخطاف .
قال صاحب " المهذب " : ويحرم أكل الهدهد والخطاف ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتلهما ، وقال النووي في " شرح المهذب : أما حديث النهي عن قتل الهدهد ، فرواه عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل أربع من الدواب : " النملة ، والنحلة ، والهدهد ، والصرد " ، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ، ومسلم ذكره في آخر كتابه ، ورواه ابن ماجه في كتاب الصيد بإسناد على شرط البخاري ، وأما النهي عن قتل الخطاف فهو ضعيف ومرسل ، رواه البيهقي بإسناده عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية ، وهو من تابعي التابعين ، أو من التابعين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن قتل الخطاطيف " ، ثم قال : قال البيهقي : هذا منقطع ، قال : وروى حمزة النصيبي فيه حديثا مسندا إلا أنه كان يرمى بالوضع . اهـ
ومما ذكره النووي : تعلم أن الصرد ، والهدهد لا يجوز أكلهما في مذهب الشافعي ; لثبوت النهي عن قتلهما ، وقال النووي أيضا : وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا عليه ، أنه قال : " لا تقتلوا الضفادع ; فإن نقيقها تسبيح ، ولا تقتلوا الخفاش ; فإنه لما خرب بيت المقدس قال : يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم ، قال البيهقي : إسناده صحيح .
قال مقيده - عفا الله عنه : والظاهر في مثل هذا الذي صح عن عبد الله بن عمرو ، من النهي عن قتل الخفاش ، والضفدع أنه في حكم المرفوع ; لأنه لا مجال للرأي فيه ; لأن علم تسبيح الضفدع ، وما قاله الخفاش لا يكون بالرأي ، وعليه فهو يدل على منع أكل الخفاش والضفدع .
وقال ابن قدامة في " المغني " : ويحرم الخطاف ، والخشاف ، أو الخفاش وهو الوطواط ، وقال الشاعر : [ الكامل ]
[ ص: 542 ]
مثل النهار يزيد أبصار الوري نورا ويعمي أعين الخفاش
قال أحمد : ومن يأكل الخشاف ؟ ، وسئل عن الخطاف ، فقال : لا أدري ، وقال النخعي : أكل الطير حلال إلا الخفاش ، وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تأكلها العرب . اهـ ، من " المغني " . والخشاف هو الخفاش ، وقد قدمنا عن مالك وأصحابه جواز أكل جميع أنواع الطير ، واستثنى بعضهم من ذلك الوطواط .
وفي الببغا ، والطاوس وجهان للشافعية : قال البغوي وغيره : وأصحهما التحريم .
وفي العندليب ، والحمرة لهم أيضا وجهان : والصحيح إباحتهما ، وقال أبو عاصم العبادي : يحرم ملاعب ظله ، وهو طائر يسبح في الجو مرارا كأنه ينصب على طائر ، وقال أبو عاصم أيضا : والبوم حرام كالرخم ، قال : والضوع ، بضم الضاد المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة ، حرام على أصح القولين ، قال الرافعي : هذا يقتضي أن الضوع غير البوم ، قال : لكن في " صحاح الجوهري " أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام ، وقال المفضل : هو ذكر البوم ، قال الرافعي : فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم إجراؤه في البوم ; لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان ، قاله النووي : ثم قال : قلت : الأشهر أن الضوع من جنس الهام ; فلا يلزم اشتراكهما في الحكم .
وأما حشرات الطير ، كالنحل ، والزنابير ، والذباب ، والبعوض ، ونحو ذلك : فأكلها حرام عند الشافعي ، وأحمد ، وأكثر العلماء ; لأنها مستخبثة طبعا ، والله تعالى يقول : ويحرم عليهم الخبائث .
ومن ذلك الجلالة : وهي التي تأكل النجس ، وأصلها التي تلتقط الجلة بتثليث الجيم : وهي البعر ، والمراد بها عند العلماء : التي تأكل النجاسات من الطير والدواب .
ومشهور مذهب الإمام مالك : جواز أكل لحم الجلالة مطلقا ، أما لبنها وبولها فنجسان في مشهور مذهبه ، ما دام النجس باقيا في جوفها ، ويطهر لبنها وبولها عنده إن أمسكت عن أكل النجس ، وعلفت علفا طاهرا مدة يغلب على الظن فيها عدم بقاء شيء في جوفها من الفضلات النجسة ، وكره كثير من العلماء لحم الجلالة ولبنها ، وحجتهم حديث ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ألبان الجلالة ، قال النووي في " شرح المهذب " : حديث ابن عباس صحيح ، رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . اهـ .
[ ص: 543 ] وقال النووي في حد الجلالة : والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة ، وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن ، فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة فجلالة ، وإلا فلا . وأكل لحم الجلالة وشرب لبنها مكروه عند الشافعية ، والصحيح عندهم أنها كراهة تنزيه ، وقيل : كراهة تحريم .
وقال ابن قدامة في " المغني " : قال أحمد : أكره لحوم الجلالة وألبانها ، قال القاضي في المجرد : هي التي تأكل القذر ، فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها .
وفي بيضها روايتان : وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها ، وتحديد الجلالة يكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ، ولا هو ظاهر كلامه ، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير ، وقال الليث : إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع وما أشبهه ، وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان :
إحداهما : أنها محرمة .
والثانية : أنها مكروهة غير محرمة ، وهذا قول الشافعي ، وكره أبو حنيفة لحومها ، والعمل عليها حتى تحبس ، ورخص الحسن في لحومها وألبانها ; لأن الحيوانات لا تتنجس بأكل النجاسات ; بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه ، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ، ولو نجس لما طهر بالإسلام ، ولا الاغتسال ، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس . اهـ .
والظاهر كراهة ركوب الجلالة ، وهو مكروه عند الشافعي ، وأحمد ، وعمر ، وابنه عبد الله ، وروي عن ابن عمر مرفوعا كراهة ركوب الجلالة ، أخرجه البيهقي وغيره .
والسخلة المرباة بلبن الكلبة حكمها حكم الجلالة فيما يظهر ، فيجري فيها ما جرى فيها ، والله تعالى أعلم .
ومن ذلك الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات ، أو سمدت بها ، فأكثر العلماء على أنها طاهرة ، وأن ذلك لا ينجسها ، وممن قال بذلك مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، خلافا للإمام أحمد ، وقال ابن قدامة في " المغني " : وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات ، أو سمدت بها ، وقال ابن عقيل : يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم ، ولا يحكم بتنجيسها ; لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة ، كالدم يستحيل في أعضاء [ ص: 544 ] الحيوان لحما ، ويصير لبنا ، وهذا قول أكثر الفقهاء ، منهم أبو حنيفة ، والشافعي ، وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول : مكتل عرة مكتل بر ، والعرة : عذرة الناس ، ولنا ما روي عن ابن عباس : كنا نكري أراضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس ، ولأنها تتغذى بالنجاسات ، وتترقى فيها أجزاؤها ، والاستحالة لا تطهر ، فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات ، كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات . اهـ ، من المغني بلفظه .
قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أنهم سيقولون : لو شاء الله ما أشركنا ، وذكر في غير هذا الموضع أنهم قالوا ذلك بالفعل ، كقوله في النحل : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه الآية [ \ 35 ] وقوله في الزخرف : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم الآية [ \ 20 ] .
ومرادهم : أن الله لما كان قادرا على منعهم من الإشراك ، ولم يمنعهم منه ، أن ذلك دليل على رضاه بشركهم ، ولذلك كذبهم هنا بقوله : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن [ 6 \ 148 ] ، وكذبهم في الزخرف ، بقوله : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ \ 20 ] ، وقال في الزمر : ولا يرضى لعباده الكفر الآية [ \ 7 ] .
قوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا
الآية ، الظاهر في قوله : ما حرم ربكم عليكم أنه مضمن معنى ما وصاكم به فعلا ، أو تركا ; لأن كلا من ترك الواجب ، وفعل الحرام حرام ، فالمعنى وصاكم ألا تشركوا ، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا .
وقد بين تعالى أن هذا هو المراد بقوله : ذلكم وصاكم به الآية [ 6 \ 185 ] .
قوله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق الآية ، نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن قتل الأولاد من أجل الفقر الواقع بالفعل ; ونهى في سورة الإسراء عن قتلهم خشية الفقر المترقب المخوف منه ، مع أنه غير واقع في الحال ، بقوله : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [ 17 \ 31 ] ، وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - معناه حين سأله عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه : " أي الذنب أعظم ؟ فقال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون الآية [ 25 \ 68 ] .
[ ص: 545 ] وأخذ بعض أهل العلم من هذه الآية منع العزل ; لأنه وأد خفي ، وحديث جابر : " كنا نعزل والوحي ينزل " يدل على جوازه ، لكن قال جماعة من أهل العلم : إنه لا يجوز عن الحرة إلا بإذنها ، ويجوز عن الأمة بغير إذنها . والإملاق : الفقر ، وقال بعض أهل العلم : الإملاق الجوع .
وحكاه النقاش عن مؤرج ، وقيل : الإملاق الإنفاق ، يقال : أملق ماله بمعنى أنفقه ، وذكر أن عليا قال لامرأته : أملقي ما شئت من مالك .
وحكي هذا القول عن منذر بن سعيد ، ذكره القرطبي ، وغيره ، والصحيح الأول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (90)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (16)
صـ 546 إلى صـ 549
قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده الآية ، قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة ، أعني مفهوم الغاية في قوله : حتى يبلغ أشده [ 6 \ 152 ] أنه إذا بلغ أشده ، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن ، وليس ذلك مرادا بالآية ، بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها : أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله ، إن أونس منه الرشد ، كما بينه تعالى بقوله : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم الآية [ 4 \ 6 ] .
والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ ; بدليل قوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا الآية .
والبلوغ يكون بعلامات كثيرة ، كالإنبات ، واحتلام الغلام ، وحيض الجارية ، وحملها ، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة ، ومن العلماء من قال : إذا بلغت قامته خمسة أشبار فقد بلغ ، ويروى هذا القول عن علي ، وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب : [ الكامل ]
ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار
يدني خوافق من خوافق تلتقي في ظل معتبط الغبار مثار
والأشد ، قال بعض العلماء : هو واحد لا جمع له كالآنك ، وهو الرصاص ، وقيل : واحده شد ، كفلس وأفلس ، قاله القرطبي وغيره ، وعن سيبويه أنه جمع شدة ، ومعناه حسن ; لأن العرب تقول : بلغ الغلام شدته ، إلا أن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود ، [ ص: 546 ] كما قاله الجوهري ، وأما أنعم ، فليس جمع نعمة ، وإنما هو جمع نعم من قولهم بئس ونعم ، قاله القرطبي ، وقال أيضا : وأصل الأشد من شد النهار إذا ارتفع ، يقال : أتيته شد النهار ، وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة : [ الكامل ]
عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال الآخر : [ الطويل ]
تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق
قال مقيده - عفا الله عنه : ومنه قول كعب بن زهير : [ البسيط ]
شد النهار ذراعا عيطل نصف قامت فجاوبها نكد مثاكيل
فقوله : " شد النهار " يعني وقت ارتفاعه ، وهو بدل من اليوم ، في قوله قبله :
يوما يظل به الحرباء مصطخدا كأن ضاحيه بالشمس محلول
فشد النهار بدل من قوله يوما ، بدل بعض من كل ، كما أن قوله : " يوما " بدل من إذا في قوله قبل ذلك : [ البسيط ]
كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل
لأن الزمن المعبر عنه " بإذا " هو بعينه اليوم المذكور في قوله : " يوما يظل " البيت ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى [ 79 \ 34 ، 35 ] ، وقوله : فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء الآية [ 80 \ 33 ، 34 ] ، وإعراب أبيات كعب هذه يدل على جواز تداخل البدل ، وقوله : " ذراعا عيطل " خبر كأن في قوله : " كأن أوب ذراعيها " البيت .
وقال السدي : الأشد ثلاثون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ستون سنة ، ولا يخفى أن هذه الأقوال بعيدة عن المراد بالآية كما بينا ، وإن جازت لغة ، كما قال سحيم بن وثيل : [ الوافر ]
أخو خمسين مجتمع أشدي ونجذني مداورة الشئون
[ ص: 547 ] تنبيه
قال مالك وأصحابه : إن الرشد الذي يدفع به المال إلى من بلغ النكاح ، هو حفظ المال ، وحسن النظر في التصرف فيه ، وإن كان فاسقا شريبا ، كما أن الصالح التقي إذا كان لا يحسن النظر في المال لا يدفع إليه ماله ، قال ابن عاصم المالكي في " تحفته " : [ الرجز ]
وشارب الخمر إذا ما ثمرا لما يلي من ماله لن يحجرا
وصالح ليس يجيد النظرا في المال إن خيف الضياع حجرا
وقال الشافعي ومن وافقه : لا يكون الفاسق العاصي رشيدا ; لأنه لا سفه أعظم من تعريضه نفسه لسخط الله وعذابه بارتكاب المعاصي ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بإيفاء الكيل والميزان بالعدل ، وذكر أن من أخل بإيفائه من غير قصد منه لذلك ، لا حرج عليه لعدم قصده ، ولم يذكر هنا عقابا لمن تعمد ذلك ، ولكن توعده بالويل في موضع آخر ، ووبخه بأنه لا يظن البعث ليوم القيامة ، وذلك في قوله : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 1 - 6 ] .
وذكر في موضع آخر أن إيفاء الكيل والميزان خير لفاعله ، وأحسن عاقبة ، وهو قوله تعالى : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا [ 17 \ 35 ] .
قوله تعالى : وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول ، ولو كان على ذي قرابة ، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك ، ولو كان على نفسه أو والديه ، وهو قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين الآية [ 4 \ 135 ] .
قوله تعالى : وبعهد الله أوفوا الآية ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله ، وصرح في موضع آخر أن عهد الله سيسأل عنه يوم القيامة ، بقوله : [ ص: 548 ] وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] ، أي : عنه .
قوله تعالى : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم قطع عذر كفار مكة ; لئلا يقولوا : لو أنزل علينا كتاب لعملنا به ، ولكنا أهدى من اليهود والنصارى ، الذين لم يعملوا بكتبهم ، وصرح في موضع آخر أنهم أقسموا على ذلك ، وأنه لما أنزل عليهم ، ما زادهم نزوله إلا نفورا وبعدا عن الحق ; لاستكبارهم ومكرهم السيئ ، وهو قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 42 ] .
قوله تعالى : فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها الآية .
قال بعض العلماء : إن هذا الفعل أعني " صدف " في هذه الآية لازم ، ومعناه أعرض عنها ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
وقال السدي : " صدف " في هذه الآية متعدية للمفعول ، والمفعول محذوف ، والمعنى : أنه صد غيره عن اتباع آيات الله ، والقرآن يدل لقول السدي ; لأن إعراض هذا الذي لا أحد أظلم منه عن آيات الله ، صرح به في قوله : فمن أظلم ممن كذب بآيات الله [ 6 \ 157 ] ، إذا لا إعراض أعظم من التكذيب ، فدل ذلك على أن المراد بقوله : وصدف عنها ، أنه صد غيره عنها ، فصار جامعا بين الضلال والإضلال .
وعلى القول الأول فمعنى " صدف " مستغنى عنه بقوله " كذب " ونظير الآية على القول الذي يشهد له القرآن ، وهو قول السدي .
قوله تعالى : وهم ينهون عنه وينأون عنه .
اهـ .
وقوله : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب الآية [ 16 \ 88 ] .
وقد يوجه قول ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد بأن المراد بتكذيبه ، وإعراضه : أنه لم يؤمن بها قلبه ، ولم تعمل بها جوارحه ، ونظيره قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ، 32 ] ، ونحوها من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه ، وترك العمل بجوارحه ، قال ابن كثير في " تفسيره " بعد أن أشار إلى هذا : [ ص: 549 ] ولكن كلام السدي أقوى وأظهر ، والله أعلم . اهـ .
وإطلاق " صدف " بمعنى أعرض كثير في كلام العرب ، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث : [ الطويل ]
عجبت لحكم الله فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزل
وروي أن ابن عباس أنشد بيت أبي سفيان هذا لهذا المعنى ، ومنه أيضا قول ابن الرقاع : [ البسيط ]
إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقى صدف
أي : معرضات .
قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة إتيان الله جل وعلا وملائكته يوم القيامة ، وذكر ذلك في موضع آخر ، وزاد فيه أن الملائكة يجيئون صفوفا ، وهو قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، وذكره في موضع آخر ، وزاد فيه أنه جل وعلا يأتي في ظلل من الغمام ، وهو قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة الآية [ 2 \ 210 ] ، ومثل هذا من صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يمر كما جاء ويؤمن بها ، ويعتقد أنه حق ، وأنه لا يشبه شيئا من صفات المخلوقين ، فسبحان من أحاط بكل شيء علما : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 210 ] .
قوله تعالى : قل إن صلاتي ونسكي الآية .
قال بعض العلماء : المراد بالنسك هنا النحر ، لأن الكفار كانوا يتقربون لأصنامهم بعبادة من أعظم العبادات : هي النحر ، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول إن صلاته ونحره كلاهما خالص لله تعالى ، ويدل لهذا قوله تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] ، وقال بعض العلماء : النسك جميع العبادات ، ويدخل فيه النحر ، وقال بعضهم : المراد بقوله : وانحر وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر في الصلاة ، والله تعالى أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (91)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(1)
صـ 3 إلى صـ 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْأَعْرَافِ
قوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج منه الآية .
قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : حرج أي شك ، أي لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقا ، وعلى هذا القول فالآية ، كقوله تعالى : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 2 \ 147 ] وقوله : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] ، وقوله : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 10 \ 49 ] .
والممتري : هو الشاك ; لأنه مفتعل من المرية وهي الشك ، وعلى هذا القول فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
والمراد نهي غيره عن الشك في القرآن ، كقول الراجز : [ الرجز ]
إياك أعني واسمعي يا جارة
وكقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] ، وقوله : ولئن اتبعت أهواءهم الآية [ 2 \ 120 و 145 ] و [ 13 \ 137 ] .
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا من ذلك ، ولكن الله يخاطبه ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم .
وجمهور العلماء : على أن المراد بالحرج في الآية الضيق . أي لا يكن في صدرك ضيق عن تبليغ ما أمرت به لشدة تكذيبهم لك ، لأن تحمل عداوة الكفار ، والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر ، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات مما يضيق به الصدر . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة " ، أخرجه مسلم . والثلغ : الشدخ ، وقيل ضرب الرطب باليابس حتى ينشدخ ، وهذا البطش مما [ ص: 4 ] يضيق به الصدر .
ويدل لهذا الوجه الأخير في الآية قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] ، وقوله : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ 15 \ 97 ] ، وقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 181 \ 6 ] وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] .
ويؤيد الوجه الأخير في الآية أن الحرج في لغة العرب : الضيق . وذلك معروف في كلامهم ، ومنه قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج [ 24 \ 61 ] ، وقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، وقوله : يجعل صدره ضيقا حرجا [ 6 \ 125 ] ، أي : شديد الضيق ، إلى غير ذلك من الآيات ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة ، أو جميل : [ الكامل ]
فخرجت خوف يمينها فتبسمت فعلمت أن يمينها لم تحرج
وقول العرجي [ السريع ] :
عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي
والمراد بالإحراج في البيتين :
الإدخال في الحرج . بمعنى الضيق كما ذكرنا .
قوله تعالى : لتنذر به وذكرى للمؤمنين .
لم يبين هنا المفعول به لقوله لتنذر ، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر ، كقوله : لينذر بأسا شديدا من لدنه الآية [ 18 \ 2 ] ، وقوله : فأنذرتكم نارا تلظى [ 92 \ 14 ] ، وقوله : إنا أنذرناكم عذابا قريبا الآية [ 78 \ 40 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله : لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] فالإنذار للكفار ، والذكرى للمؤمنين ، ويدل لذلك قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وقوله : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] .
[ ص: 5 ] ولا ينافي ما ذكرنا - من أن الإنذار للكفار ، والذكرى للمؤمنين - أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم ، في قوله تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم [ 36 \ 11 ] ; لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصورا عليهم ، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم ; لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم .
ومن أساليب اللغة العربية : التعبير عن قليل النفع بأنه لا شيء .
وحاصل تحرير المقام في هذا المبحث : أن الإنذار يطلق في القرآن إطلاقين :
أحدهما : عام لجميع الناس ، كقوله : ياأيها المدثر قم فأنذر [ 74 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .
وهذا الإنذار العام : هو الذي قصر على المؤمنين قصرا إضافيا في قوله : إنما تنذر من اتبع الذكر الآية ; لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم .
والثاني : إنذار خاص بالكفار ; لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب ، وهو الذي يذكر في القرآن مبينا أنه خاص بالكفار دون المؤمنين ، كقوله : لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ، وقوله هنا : لتنذر به وذكرى للمؤمنين اهـ .
والإنذار في اللغة العربية : الإعلام المقترن بتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .
قوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ، خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم ، بأنه أهلك كثيرا من القرى بسبب تكذيبهم الرسل ، فمنهم من أهلكها بياتا ، أي : ليلا ، ومنهم من أهلكها وهم قائلون ، أي في حال قيلولتهم ، والقيلولة : الاستراحة وسط النهار . يعني : فاحذروا تكذيب رسولي صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] ، وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 22 \ 45 ] ، وقوله : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين [ 28 \ 58 ] ، وقوله : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم ، ثم بين أنه [ ص: 6 ] يريد تهديدهم بذلك بقوله : وللكافرين أمثالها إلى غير ذلك من الآيات .
وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلا في حالة النوم ، أو ضحى في حالة اللعب ، في قوله تعالى : أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون [ 7 \ 97 ، 98 ] ، وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى : أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 45 ، 46 ، 47 ] .
قوله تعالى : فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات ، أو في حال القيلولة ، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين .
وأوضح هذا المعنى في قوله : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 11 - 15 ] .
قال ابن جرير رحمه الله : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " . حدثنا بذلك ابن حميد ، حدثنا جرير عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " قال : قلت لعبد الله كيف يكون ذلك ؟ قال : فقرأ هذه الآية : فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين [ 7 \ 5 ] .
قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين .
لم يبين هنا الشيء المسئول عنه المرسلون ، ولا الشيء المسئول عنه الذين أرسل إليهم .
وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم ، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم .
قال في الأول : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] .
[ ص: 7 ] وقال في الثاني : ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] .
وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون ، وهو قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 ، 93 ] .
وهنا إشكال معروف : وهو أنه تعالى قال هنا : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، وقال أيضا : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ، وقال : وقفوهم إنهم مسئولون [ 37 \ 24 ] ، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة ، مع أنه قال : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وقال : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] .
وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وسنزيده إيضاحا هنا إن شاء الله تعالى .
اعلم أولا : أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة ، أخص من السؤال المثبت فيها ; لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالا عن ذنوب خاصة ، فإنه قال : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] فخصه بكونه عن الذنوب ، وقال : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فخصه بذلك أيضا ، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والموءودة مثلا ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه ; لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب ، ويزيد ذلك إيضاحا قوله تعالى : ليسأل الصادقين عن صدقهم الآية [ 5 \ 119 ] ، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله الآية [ 33 \ 8 ] ، قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم الآية [ 33 \ 8 ] ، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات : المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام ; لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء ، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع ; لأنه نوع من أنواع العذاب ، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون .
وقوله : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون [ 52 \ 15 ] . إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين .
بين تعالى في هذه الآية [ ص: 8 ] الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا ، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائبا عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا ، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق ، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير ، وجليل وحقير ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [ 58 \ 7 ] ، وقوله : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] وقوله : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] .
تنبيه
في هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة النافين صفات المعاني ، القائلين : إنه تعالى عالم بذاته ، لا بصفة قامت بذاته ، هي العلم ، وهكذا في قولهم : قادر مريد ، حي سميع ، بصير متكلم ، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله : فلنقصن عليهم بعلم \ [ 7 \ 7 ] 30 ونظيره قوله تعالى : أنزله بعلمه الآية [ 4 \ 166 ] . وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه .
قوله تعالى : والوزن يومئذ الحق بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه ، ولا ظلم ، فلا يزاد في سيئات مسيء ، ولا ينقص من حسنات محسن .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] ، وقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية [ 4 \ 40 ] إلى غير ذلك من الآيات .
الحرف المنير \ سحر \ أضواء البيان \ ج 2 \ من ص 292 - إلى ص . . . . . . . . . 302
قوله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون .
[ ص: 9 ] بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من ثقلت موازينهم أفلحوا ، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم ، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا .
وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة ، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار ، وذلك في قوله : وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة ، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار ، وذلك في قوله : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 6 - 11 ] .
وبين أيضا خسران من خفت موازينه ، بقوله : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 23 \ 103 ، 104 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش . لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .
وقوله : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [ 20 \ 53 ، 54 ] .
وذكر كثيرا من ذلك في سورة النحل كقوله : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ \ 5 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك .
ال بعض العلماء : معناه : ما منعك أن تسجد ، و " لا " صلة ، ويشهد لهذا قوله تعالى : في سورة " ص " قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية [ \ 75 ] ، وقد أوضحنا زيادة لفظة " لا " وشواهد ذلك من القرآن ، ومن كلام العرب في سورة البلد ، في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (92)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(2)
صـ 10 إلى صـ 15
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الْجَانُّ الَّذِي هُوَ أَبُو الْجِنِّ ، فَقَدْ زَادَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَوْصَافًا لِلنَّارِ الَّتِي خَلَقَهُ مِنْهَا . مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا نَارُ السَّمُومِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [ 15 \ 27 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا خُصُوصُ الْمَارِجِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [ 55 \ 15 ] ، وَالْمَارِجُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ النَّارِ لِأَنَّهُ اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ .
وَسُمِّيَتْ نَارَ السَّمُومِ ; لِأَنَّهَا تَنْفُذُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ لِشِدَّةِ حَرِّهَا . وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا : " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ " . وَرَوَاهُ عَنْهَا أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ 7 \ 13 ] .
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّهُ عَامَلَ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ حَيْثُ كَانَ قَصْدُهُ التَّعَاظُمَ وَالتَّكَبُّرَ ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ صَاغِرًا حَقِيرًا ذَلِيلًا ، مُتَّصِفًا بِنَقِيضِ مَا كَانَ يُحَاوِلُهُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ 7 \ 13 ] ، وَالصَّغَارُ : أَشَدُّ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ ، وَقَوْلِهِ : اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [ 7 \ 18 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ لَا يَنَالُ مَا أَرَادَ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ نَقِيضُ ذَلِكَ . وَصَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [ 40 \ 56 ] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرًا مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنِ الْكِبْرِ ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِين َ مِنْهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِصَرْفِ صَاحِبِهِ عَنْ فَهْمِ آيَاتِ اللَّهِ ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [ 7 \ 146 ] . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الثَّوَاءِ فِي النَّارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِ ينَ [ 39 \ 60 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [ 37 \ 35 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ : لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ [ 16 \ 23 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اسْتَعَاذَ مِنَ الْمُتَّصِفِ بِهِ وَلَا يُسْتَعَاذُ إِلَّا مِمَّا هُوَ شَرٌّ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [ 40 \ 27 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ [ ص: 11 ] نَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ ، وَعَوَاقِبِهِ الْوَخِيمَةِ ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْآيَةِ : أَنَّ الْمُتَوَاضِعَ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا يَرْفَعُهُ اللَّهُ .
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى مَكَانَةِ الْمُتَوَاضِعِي نَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [ 25 \ 63 ] ، وَقَوْلِهِ : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ 28 \ 83 ] وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : [ الطَّوِيلُ ]
تَوَاضَعْ تَكُنْ كَالْبَدْرِ تُبْصِرُ وَجْهَهُ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَاءِ وَهُوَ رَفِيعُ وَلَا تَكُ كَالدُّخَّانِ يَعْلُو بِنَفْسِهِ
إِلَى صَفَحَاتِ الْجَوِّ وَهُوَ وَضِيعُ
وَقَالَ أَبُو الطِّيبِ الْمُتَنَبِّي : [ الْوَافِرُ ]
وَلَوْ لَمْ يَعْلُ إِلَّا ذُو مَحَلٍّ تَعَالَ الْجَيْشُ وَانْحَطَّ الْقَتَامُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمَنْظَرِينَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الْغَايَةَ الَّتِي أَنْظَرَهُ إِلَيْهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي " الْحِجْرِ " وَ " ص " مُبَيِّنًا أَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ الْإِنْظَارِ هُوَ يَوْمُ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ .
لِقَوْلِهِ : فِي سُورَةِ " الْحِجْرِ " وَ " ص " فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ \ 80 ] فَقَدْ طَلَبَ الشَّيْطَانُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ، وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ .
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : الْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأُولَى ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَ إِبْلِيسُ أَنَّهُ سَيُوقِعُ بَنِي آدَمَ فِيهِ قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ سَيُطِيعُونَهُ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " سَبَأٍ " أَنَّ ظَنَّهُ هَذَا صَدَقَ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ الْآيَةَ [ \ 20 ] ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [ 38 \ 84 ، 85 ] .
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَالَ لِإِبْلِيسَ : اخْرُجْ مِنْهَا فِي حَالِ كَوْنِكِ مَذْءُومًا مَدْحُورًا . وَالْمَذْءُومُ : الْمَعِيبُ أَوِ الْمَمْقُوتُ ، وَالْمَدْحُورُ : الْمُبْعَدُ عَنِ الرَّحْمَةِ ، الْمَطْرُودُ ، وَأَنَّهُ أَوْعَدَهُ بِمَلْءِ جَهَنَّمَ مِنْهُ . وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ [ ص: 12 ] أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ 38 \ 84 ، 85 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [ 17 \ 63 ، 64 ] ، وَقَوْلِهِ : فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [ 26 \ 94 ، 95 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ .
حَذَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَنِي آدَمَ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْهِمْ ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّهُ حَذَّرَ آدَمَ مِنْ مَكْرِ إِبْلِيسَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ ، وَلَمْ يُنْجِهِ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنْ عَدُوِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ 20 \ 117 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا الْآيَةَ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ، اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَصَوَابٌ ، بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَفْعَلُونَهَا ، وَأَنَّهُمْ مَا فَعَلُوهَا ، إِلَّا لِأَنَّهَا صَوَابٌ وَرُشْدٌ .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ 43 \ 23 ] .
وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 2 \ 170 ] ، وَقَوْلِهِ : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 5 \ 104 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [ 43 \ 24 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [ 37 \ 69 ، 70 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَى كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أَيْ كَمَا سَبَقَ لَكُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ ، فَإِنَّكُمْ تَصِيرُونَ إِلَيْهِ ، فَمَنْ سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَعِيدٌ صَارَ إِلَى السَّعَادَةِ ، وَمَنْ [ ص: 13 ] سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ شَقِيٌّ صَارَ إِلَى الشَّقَاوَةِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ : فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [ 7 \ 30 ] ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ 64 \ 2 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 119 ] ، أَيْ وَلِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ إِلَى شَقِيٍّ ، وَسَعِيدٍ خَلَقَهُمْ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ 7 \ 29 ] ، أَيْ كَمَا خَلَقَكُمْ أَوَّلًا ، وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا ، فَإِنَّهُ يُعِيدُكُمْ مَرَّةً أُخْرَى ، وَيَبْعَثُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ أَنْ مِتُّمْ وَصِرْتُمْ عِظَامًا رَمِيمًا ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ : كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا الْآيَةَ [ 21 \ 104 ] ، وَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [ 30 \ 27 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [ 36 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [ 22 \ 5 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .
وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَمِنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ طَاعَتُهُمْ لَهُمْ فِيمَا يُخَالِفُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَعَ ذَلِكَ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى هُدًى .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَخْسَرُ النَّاسِ عَمَلًا ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [ 18 \ 103 ، 104 ] .
تَنْبِيهٌ
هَذِهِ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْفَعُهُ ظَنُّهُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ لَمْ تَتْرُكْ فِي الْحَقِّ لَبْسًا وَلَا شُبْهَةً ، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِ لِلْكُفْرِ لَا يَكَادُ يُفَكِّرُ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ لَجَاجًا فِي الْبَاطِلِ ، وَعِنَادًا [ ص: 14 ] فَلِذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ .
مَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ سُؤَالَ إِنْكَارٍ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ، كَاللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ ، وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ كَالْأَنْعَامِ ، وَالْحَرْثِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْكُفَّارُ ، وَكَاللَّحْمِ وَالْوَدَكِ الَّذِي حَرَّمَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْحَجِّ .
وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا ، كَقَوْلِهِ : وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [ 16 \ 116 ] ، وَقَوْلِهِ : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [ 6 \ 140 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ 10 \ 59 ] ، وَطَلَبُهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ طَلَبُ إِعْجَازٍ أَنْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ، وَنَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَهِدَ لَهُمْ شُهُودُ زُورٍ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ \ [ 6 \ 150 ] 30 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنْ إِضْلَالِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُمْ سَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَتْبَاعَ يُطِيعُونَ السَّادَةَ الْكُبَرَاءَ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ الْآيَةَ [ 33 \ 67 ، 68 ] ، وَبَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " سَبَأٍ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [ \ 31 - 33 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ .
وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ : أَنَّ الْأَتْبَاعَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُضَاعِفَ الْعَذَابَ لِلْمَتْبُوعِين َ ، [ ص: 15 ] وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَنَّ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لِلْمَتْبُوعِين َ لَا تَنْفَعُ الْأَتْبَاعَ ، وَلَا تُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ ، كَقَوْلِهِ : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [ 43 \ 39 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا : قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ [ 7 \ 38 ] ، وَقَوْلِهِ : وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [ 7 \ 39 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [ 40 \ 48 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، يَنْزِعُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْحِقْدِ ، وَالْحَسَدِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَّهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارَ فِي الْجَنَّةِ ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ نَزْعَ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ يَقَعُ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ آمِنِينَ مِنَ النَّصَبِ ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الْحِجْرِ " : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [ \ 47 ، 48 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ حِجَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا الْحِجَابَ هُنَا ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِقَوْلِهِ : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ الْآيَةَ [ 57 \ 13 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ ، يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَلَا أَهْلِ النَّارِ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [ 3 \ 106 ] .
فَبَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ سِيمَا أَهْلِ النَّارِ ، كَمَا قَالَ أَيْضًا فِي سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [ 83 \ 24 ] ، وَقَالَ : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ الْآيَةَ [ 75 \ 22 ] ، وَقَالَ فِي سِيمَا أَهْلِ النَّارِ : كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا الْآيَةَ [ 10 \ 27 ] ، وَقَالَ : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ الْآيَةَ [ 80 \ 40 ] ، وَقَالَ : وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [ 20 \ 102 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (93)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(3)
صـ 16 إلى صـ 20
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ [ ص: 16 ] الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ قَالُوا لِرِجَالٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ : يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ ، وَلَا كَثْرَةُ جَمَاعَتِكُمْ وَأَنْصَارِكُمْ ، وَلَا اسْتِكْبَارُكُم ْ فِي الدُّنْيَا .
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَجْهَ ذَلِكَ : وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يُحْشَرُ فَرْدًا ، لَا مَالَ مَعَهُ ، وَلَا نَاصِرَ ، وَلَا خَادِمَ ، وَلَا خَوَلَ . وَأَنَّ اسْتِكْبَارَهُ فِي الدُّنْيَا يُجْزَى بِهِ عَذَابَ الْهَوْنِ فِي الْآخِرَةِ ، كَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [ 6 \ 94 ] ، وَقَوْلِهِ : وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [ 19 \ 95 ] ، وَقَوْلِهِ : وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ، وَقَوْلِهِ : فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [ 46 \ 20
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ .
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْكَفَّارَ ، إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ بِالْحَقِّ ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ شُفَعَاءُ فَيُنْقِذُوهُمْ ، أَوْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِيُصَدِّقُوا الرُّسُلَ ، وَيَعْمَلُوا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ ؟ وَهَلْ يُرَدُّونَ ؟ وَمَاذَا يَفْعَلُونَ لَوْ رُدُّوا ؟ وَهَلِ اعْتِرَافُهُمْ ذَلِكَ بِصِدْقِ الرُّسُلِ يَنْفَعُهُمْ ؟ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، فَبَيَّنَ : أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ بُقُولِهِ : فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ الْآيَةَ [ 26 \ 100 ] ، وَقَوْلِهِ : فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [ 74 \ 48 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [ 21 \ 28 ] مَعَ قَوْلِهِ : وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [ 39 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ \ [ 9 \ 96 ] 30 ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ، كَقَوْلِهِ : وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ 32 \ 12 ، 13 ]
فَقَوْلُهُ : وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الْآيَةَ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ وَجَبَتْ لَهُمْ ، فَلَا يُرَدُّونَ ، وَلَا يُعْذَرُونَ ، وَقَوْلُهُ : وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [ 35 \ 37 ] .
فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ قَطَعَ عُذْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا ; بِالْإِمْهَالِ مُدَّةً يَتَذَكَّرُونَ فِيهَا ; وَإِنْذَارِ الرُّسُلِ ، [ ص: 17 ] وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ رَدِّهِمْ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ 14 \ 44 ] ، جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ : أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ، وَقَوْلِهِ : ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [ 40 \ 12 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [ 40 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ الْآيَةَ [ 42 \ 45 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ : وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [ 42 \ 44 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [ 7 \ 53 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ : فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ الْآيَةَ .
فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا ، وَعَلَى وُجُوبِ الْعَذَابِ ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ ; وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ الْآيَةَ [ 6 \ 28 ] ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الْمُمْكِنَ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَيْفَ يَكُونُ لَوْ وُجِدَ ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى ، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَخَلِّفِي نَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لَا يَحْضُرُونَهَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 46 ] ، وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَا دُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ الْآيَةَ [ 9 \ 47 ] ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ 23 \ 75 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِمْ : قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ لَا يَنْفَعُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [ 67 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ 39 \ 71 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ . \ 5
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ .
لَمْ يُفَصِّلْ هُنَا ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَهُ فِي سُورَةِ " فُصِّلَتْ " بِقَوْلِهِ : قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ ص: 18 ] وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [ 9 \ 12 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ الْآيَةَ .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ : يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [ 48 \ 10 ] وَنَحْوَ ذَلِكَ ; أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِشْكَالًا ضَلَّ بِسَبَبِهِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، فَصَارَ قَوْمٌ إِلَى التَّعْطِيلِ وَقَوْمٌ إِلَى التَّشْبِيهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ ، وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ أَيَّ لَبْسٍ وَلَا إِشْكَالٍ ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ فِي صِفَاتِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَالثَّانِي : الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِفُ اللَّهَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [ 2 \ 140 ] ، وَلَا يَصِفُ اللَّهَ بَعْدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي قَالَ فِيهِ : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ 53 \ 3 ، 4 ] فَمِنْ نَفَى عَنِ اللَّهِ وَصْفًا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَاعِمًا أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَلْزَمُهُ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ أَعْلَمَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا . سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ .
وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ يُشَابِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ ، فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُلْحِدٌ ضَالٌّ ، وَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَنْزِيهِهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ ، وَالتَّنْزِيهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ ، سَالِمٌ مِنْ وَرْطَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ ، وَالْآيَةُ الَّتِي أَوْضَحَ اللَّهُ بِهَا هَذَا . هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ 42 \ 11 ] فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا مُمَاثَلَةَ الْحَوَادِثِ بِقَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْإِتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّرَّ فِي تَعْبِيرِهِ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا : [ ص: 19 ] وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ ; أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَتَّصِفُ بِهِمَا جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ ، فَبَيْنَ أَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِهِمَا ، وَلَكِنَّ وَصْفَهُ بِهِمَا عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ وَصْفِهِ تَعَالَى ، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ ، وَلِذَا جَاءَ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ بُعْدَ قَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيضَاحٌ لِلْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا لَبْسَ مَعَهُ وَلَا شُبْهَةَ الْبَتَّةَ ، وَسَنُوضِّحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا تَامًّا بِحَسْبِ طَاقَتِنَا ، وَبِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا التَّوْفِيقُ .
اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّ الْمُتَكَلِّمِي نَ قَسَّمُوا صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ :
صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ ، وَصِفَةُ مَعْنًى ، وَصِفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ جَامِعَةٌ ، وَالصِّفَةُ الْإِضَافِيَّةُ تَتَدَاخَلُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ ; لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ مِنْ مَادَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، فَهِيَ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ ، وَلَيْسَتْ كُلُّ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ فِعْلِيَّةً فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ ، يَجْتَمِعَانِ فِي نَحْوِ الْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، وَتَتَفَرَّدِ الْفِعْلِيَّةُ فِي نَحْوِ الِاسْتِوَاءِ ، وَتَتَفَرَّدُ الْإِضَافِيَّةُ فِي نَحْوِ كَوْنِهِ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ وَالْفَوْقِيَّة َ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ ، وَلَيْسَتَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِالْقَوَانِينِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْمَنْطِقِيّ َةِ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَأَنَّ فِيهِ مِنَ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اللَّهُ عَالِمٌ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِالنَّفْسِيَّة ِ فِي حَقِّ اللَّهِ الْوُجُودَ فَقَطْ وَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُوهِمَ لِلْمَحْذُورِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ صَحِيحًا ; لِأَنَّ الصِّفَةَ النَّفْسِيَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا تَكُونُ إِلَّا جِنْسًا أَوْ فَصْلًا ، فَالْجِنْسُ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، وَالْفَصْلُ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجِنْسَ فِي الِاصْطِلَاحِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَفْرَادٍ مُخْتَلِفَةِ الْحَقَائِقِ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ ، وَأَنَّ الْفَصْلَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ يَنْفَصِلُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُشَارِكَةِ لَهُ فِي الْجِنْسِ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، فَإِنَّهُ صِفَتُهُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي تَفْصِلُهُ عَنِ الْفَرَسِ مَثَلًا الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْجَوْهَرِيَّة ِ وَالْجِسْمِيَّة ِ وَالنَّمَائِيَّ ةِ وَالْحَسَاسِيَّ ةِ ، وَوَصْفُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِشَيْءٍ يُرَادُ بِهِ اصْطِلَاحًا مَا بَيِّنًا لَكَ ; مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَرَى ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ اشْتِرَاكٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ ، وَلَا مِنْ صِفَاتِهِ ، حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ .
[ ص: 20 ] وَالْفَصْلَ : هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَعْضَ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْجِنْسِ عَنْ بَعْضٍ ، سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَسَنُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ عَلَى تَقْسِيمِهِمْ لَهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا ، وَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ مَوْصُوفٌ بِهَا ، وَأَنَّهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا وَصْفُ الْمَخْلُوقِ بِهَا ، وَلَكِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِوَصْفِ الْمَخْلُوقِ ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ ، وَيَلْزَمُهُمْ ضَرُورَةٌ فِيمَا أَنْكَرُوا مِثْلَ مَا أَقَرُّوا بِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ .
فَمِنْ ذَلِكَ : الصِّفَاتُ السَّبْعُ ، الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَاتِ الْمَعَانِي وَهِيَ : الْقُدْرَةُ ، وَالْإِرَادَةُ ، وَالْعِلْمُ ، وَالْحَيَاةُ ، وَالسَّمْعُ ، وَالْبَصَرُ ، وَالْكَلَامُ .
فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُدْرَةِ :
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 2 \ 284 ] وَ [ 3 \ 29 ] وَ [ 3 \ 189 ] وَ [ 5 \ 19 ] وَ [ 5 \ 40 ] وَ [ 8 \ 41 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [ 5 \ 34 ] فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً حَقِيقِيَّةً لَائِقَةً بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ ، وَأَثْبَتَ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ قُدْرَةً مُنَاسِبَةً لِحَالِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالِافْتِقَارِ وَالْحُدُوثِ الْفَنَاءِ ، وَبَيْنَ قُدْرَتِهِ ، وَقُدْرَةِ مَخْلُوقِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِهِ وَذَاتِ مَخْلُوقِهِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْإِرَادَةِ : فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [ 11 \ 107 ] وَ [ 85 \ 16 ] ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ 36 \ 82 ] ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ 2 \ 185 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 8 \ 67 ] ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [ 33 \ 13 ] ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [ 61 \ 8 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَائِقَةٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ إِرَادَةٌ أَيْضًا مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ إِرَادَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (94)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(4)
صـ 21 إلى صـ 25
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ : وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ 24 \ 35 ] ، لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الْآيَةَ [ 4 \ 166 ] [ ص: 21 ] فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [ 7 \ 7 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [ 51 \ 28 ] ، وَقَالَ : وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [ 12 \ 68 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ عِلْمٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ عِلْمِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحَيَاةِ : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [ 2 \ 55 ] ، هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [ 40 \ 65 ] ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْآيَةَ [ 25 \ 58 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [ 19 \ 15 ] ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ 21 \ 30 ] ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ [ 30 \ 19 ] .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا حَيَاةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا حَيَاةٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ ; وَبَيْنَ حَيَاةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [ 22 \ 75 ] وَ [ 31 \ 28 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [ 76 \ 2 ] ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [ 19 \ 38 ] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا سَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقِيَّانِ يَلِيقَانِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ مُنَاسِبَانِ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ سَمْعِ الْخَالِقِ وَبَصَرِهِ ، وَسَمْعِ الْمَخْلُوقِ وَبَصَرِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ 4 \ 164 ] ، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [ 7 \ 144 ] ، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [ 9 \ 6 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
[ ص: 22 ] وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهِ : فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [ 12 \ 54 ] ، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [ 36 \ 65 ] ، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [ 19 \ 29 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; وَلِلْمَخْلُوقِ كَلَامٌ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ . وَبَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ يُثْبِتُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِنَفْيِ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي .
وَالْمُعْتَزِلَ ةُ يَنْفُونَهَا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا فَيَقُولُونَ : هُوَ تَعَالَى حَيٌّ قَادِرٌ ، مُرِيدٌ عَلِيمٌ ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، مُتَكَلِّمٌ بِذَاتِهِ لَا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ ، وَلَا إِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ ، هَكَذَا فِرَارًا مِنْهُمْ مِنْ تَعَدُّدِ الْقَدِيمِ ! !
وَمَذْهَبُهُمُ الْبَاطِلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَنَاقُضُهُ عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ إِذَا عُدِمَ فَالِاشْتِقَاقُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ فَإِذَا عُدِمَ السَّوَادُ عَنْ جِرْمٍ مَثَلًا اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ هُوَ أَسْوَدُ ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سَوَادٌ ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُمِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ بِذَاتٍ ، اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ : هِيَ عَالِمَةٌ قَادِرَةٌ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهَا بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَقُمْ بِهَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]
وَعِنْدَ فَقْدِ الْوَصْفِ لَا يُشْتَقُّ وَأَعْوَزَ الْمُعْتَزِلِيّ َ الْحَقُّ
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمَعْنَوِيَّة ُ عِنْدَهُمْ : فَهِيَ الْأَوْصَافُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى : قَادِرًا ، مُرِيدًا ، عَالِمًا حَيًّا ، سَمِيعًا بَصِيرًا ، مُتَكَلِّمًا .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالْمَعَانِي ، وَعَدُّ الْمُتَكَلِّمِي نَ لَهَا صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّة َ ، زَاعِمِينَ أَنَّهَا أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، وَلَا مَعْدُومٍ ; وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّة َ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ تَخْيِيلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَه َا ; لِأَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ حَاكِمٌ حُكْمًا لَا يَتَطَرَّقُهُ شَكٌّ بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ الْبَتَّةَ ، فَالْعُقَلَاءُ كَافَّةٌ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ ، فَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ قَطْعًا ، وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْدُومٍ ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ قَطْعًا ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا تَرَى .
[ ص: 23 ] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي اتِّصَافِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِالْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ مُنَافَاةَ صِفَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ مِثْلَهُ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَعْنَوِيّ َةِ الْمَذْكُورَةِ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي ، مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِهَا .
وَأَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ عِنْدَهُمْ : فَهِيَ خَمْسٌ ، وَهِيَ عِنْدُهُمُ : الْقِدَمُ ، وَالْبَقَاءُ ، وَالْوَحْدَانِي َّةُ ، وَالْمُخَالَفَة ُ لِلْخَلْقِ ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ .
وَضَابِطُ الصِّفَةِ السَّلْبِيَّةِ عِنْدَهُمْ : هِيَ الَّتِي لَا تَدُلُّ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ .
أَمَّا الصِّفَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ : فَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَةِ الْمَعْنَى ، فَالْقِدَمُ مَثَلًا عِنْدَهُمْ لَا مَعْنَى لَهُ بِالْمُطَابَقَة ِ ، إِلَّا سَلْبَ الْعَدَمِ السَّابِقِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْقُدْرَةُ مَثَلًا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْعَجْزِ ، وَالْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْجَهْلِ ، وَالْحَيَاةُ تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْمَوْتِ ، فَلِمَ لَا يُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ سَلْبِيَّةً أَيْضًا ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْقُدْرَةَ مَثَلًا تَدُلُّ بِالْمُطَابَقَة ِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ قَائِمٍ بِالذَّاتِ ، وَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي يَتَأَتَّى بِهَا إِيجَادُ الْمُمْكِنَاتِ وَإِعْدَامُهَا عَلَى وِفْقِ الْإِرَادَةِ ، وَإِنَّمَا سَلَبَتِ الْعَجْزَ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ ، وَهِيَ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ قِيَامَ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ بِالذَّاتِ يَلْزَمُهُ نَفْيُ ضِدِّهِ عَنْهَا لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ عَقْلًا ، وَهَكَذَا فِي بَاقِي الْمَعَانِي .
أَمَّا الْقِدَمُ عِنْدَهُمْ مَثَلًا : فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوُجُودُ ، إِلَّا سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ ، وَهَكَذَا فِي بَاقِي السَّلْبِيَّاتِ ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِدَمَ ، وَالْبَقَاءَ اللَّذَيْنِ يَصِفُ الْمُتَكَلِّمُو نَ بِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى زَاعِمِينَ ، أَنَّهُ وَصَفَ بِهِمَا نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ الْآيَةَ [ 57 \ 3 ] - جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَصْفُ الْحَادِثِ بِهِمَا أَيْضًا ، قَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْقِدَمِ : وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [ 36 \ 39 ] ، وَقَالَ : قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [ 12 \ 95 ] ، وَقَالَ : أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [ 26 \ 75 ، 76 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْبَقَاءِ : وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [ 37 \ 77 ] ، وَقَالَ : مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [ 16 \ 96 ] ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْحَادِثَ بِالْأَوَّلِيَّ ةِ وَالْآخِرِيَّةِ الْمَذْكُورَتَي ْنِ فِي الْآيَةِ ، قَالَ : أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ ، قَالَ : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [ 2 \ 163 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ [ ص: 24 ] وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْغِنَى : وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [ 35 \ 15 ] ، وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [ 14 \ 8 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغِنَى : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف ْ الْآيَةَ [ 4 \ 6 ] ، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ الْآيَةَ [ 24 \ 32 ] ، فَهُوَ جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَالْحَادِثُ مَوْصُوفٌ بِهَا أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحُدُوثِهِ وَفَنَائِهِ ، وَعَجْزِهِ وَافْتِقَارِهِ ، وَبَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي .
وَأَمَّا الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ عِنْدَهُمْ ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ : الْوُجُودُ ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى اللَّهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْوُجُودَ عَيْنَ الذَّاتِ فَلَمْ يَعُدَّهُ صِفَةً ، كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخَالِقَ مَوْجُودٌ ، وَالْمَخْلُوقَ مَوْجُودٌ ، وَوُجُودُ الْخَالِقِ يُنَافِي وُجُودَ الْمَخْلُوقِ ، كَمَا بَيَّنَّا .
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقِدَمَ وَالْبَقَاءَ صِفَتَانِ نَفْسِيَّتَانِ ، زَاعِمًا أَنَّهُمَا طَرَفَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ فِي زَعْمِهِمْ .
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ ، فَإِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِفِعْلِ الْمَخْلُوقِ كَمُنَافَاةِ ذَاتِهِ لِذَاتِهِ ، فَمِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ خَلْقَهُ ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْآيَةَ [ 51 \ 58 ] ، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [ 34 \ 39 ] ، وَقَالَ : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا الْآيَةَ [ 11 \ 6 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الْآيَةَ [ 4 \ 8 ] ، وَقَالَ : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 233 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ ، فَقَالَ : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا الْآيَةَ [ 36 \ 71 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ 66 \ 7 ] وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِتَعْلِيمِ خَلْقِهِ فَقَالَ : الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [ 55 \ 1 - 4 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الْآيَةَ [ 62 \ 2 ] .
وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [ 5 \ 4 ] ، وَوَصَفَ [ ص: 25 ] نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُنَبِّئُ ، وَوَصَفَ الْمَخْلُوقَ بِذَلِكَ ، وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [ 66 \ 3 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْإِيتَاءِ ، فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [ 2 \ 258 ] ، وَقَالَ : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [ 2 \ 269 ] ، وَقَالَ : وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [ 11 \ 3 ] ، وَقَالَ : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [ 57 \ 21 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ 4 \ 20 ] ، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [ 4 \ 2 ] ، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ 4 \ 4 ] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; وَمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَيْضًا ، عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ وَصْفِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْجَامِعَةُ ، كَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ وَالْعُلُوِّ ، وَالْمُلْكِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهَا أَيْضًا يَكْثُرُ جَدًّا وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ مِنْهَا مُنَافٍ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ . قَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْعُلُوِّ وَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ : وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [ 2 \ 255 ] ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [ 4 \ 34 ] ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [ 13 \ 9 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِظَمِ : فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ 26 \ 63 ] ، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [ 17 \ 40 ] ، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [ 27 \ 23 ] ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ 9 \ 129 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْكِبَرِ : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ 67 \ 12 ] ، وَقَالَ : إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [ 17 \ 31 ] ، وَقَالَ : إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [ 8 \ 73 ] ، وَقَالَ : وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [ 2 \ 143 ] ، وَقَالَ : وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ 2 \ 45 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (95)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(5)
صـ 26 إلى صـ 30
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعُلُوِّ : وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ 19 \ 57 ] ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [ 19 \ 50 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمُلْكِ : يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْآيَةَ [ 59 \ 23 ] ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْآيَةَ [ 59 \ 23 ] ، وَقَالَ : فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ الْآيَةَ [ 12 \ 43 ] ، وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [ 12 \ 50 ] ، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [ 18 \ 79 ] ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [ 2 \ 247 ] ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [ 3 \ 26 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِزَّةِ : فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ 2 \ 209 ] ، يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [ 62 \ 1 ] ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [ 38 \ 9 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِزَّةِ : قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآيَةَ [ 12 \ 51 ] ، فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ 38 \ 23 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [ 59 \ 23 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا : كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [ 40 \ 35 ] ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِ ينَ [ 39 \ 60 ] ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [ 26 \ 130 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ 51 \ 58 ] ، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ 22 \ 40 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً الْآيَةَ [ 41 \ 15 ] ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 52 ] ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [ 28 \ 26 ] ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً الْآيَةَ [ 30 \ 54 ] [ ص: 27 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ ، وَجَلَالِهِ . وَإِنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا لِذَوَاتِ الْحَوَادِثِ ، وَلَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُو نَ ; هَلْ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ أَنَّهَا صِفَاتُ مَعَانٍ أَثْبَتَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِنَفْسِهِ ، كَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ .
قَالَ فِي وَصْفِهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِهِمَا :
فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ 16 \ 47 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ 9 \ 128 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحِلْمِ : لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [ 22 \ 59 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [ 37 \ 101 ] ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ 9 \ 114 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمَغْفِرَةِ : إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ 2 \ 182 ] وَ [ 5 \ 34 ] وَ [ 5 \ 39 ] وَ [ 5 \ 98 ] وَ [ 8 \ 69 ] وَ [ 9 \ 5 ] وَ [ 9 \ 99 ] وَ [ 9 \ 102 ] وَ [ 24 \ 62 ] وَ [ 29 \ 14 ] وَ [ 60 \ 12 ] وَ [ 73 \ 20 ] . لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [ 49 \ 3 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ 42 \ 43 ] ، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ الْآيَةَ [ 45 \ 14 ] ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [ 2 \ 263 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالرِّضَى وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهِ أَيْضًا فَقَالَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [ 5 \ 119 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالْمَحَبَّةِ ، وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهَا ، فَقَالَ : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [ 5 \ 54 ] ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ 3 \ 31 ] .
[ ص: 28 ] وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَغْضَبُ إِنِ انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ فَقَالَ : قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 5 \ 60 ] ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 4 \ 93 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغَضَبِ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا .
وَالْمَقْصُودُ عِنْدَنَا ذِكْرُ أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، مَعَ إِيضَاحِ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ بَالِغٌ مِنْ غَايَاتِ الْكَمَالِ وَالْعُلُوِّ وَالشَّرَفِ مَا يَقْطَعُ عَلَائِقَ جَمِيعِ أَوْهَامِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَإِذَا حَقَّقْتَ كُلَّ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ ، وَوَصَفَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَتَمَدَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةَ الِاسْتِوَاءِ إِلَّا مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَالْجَلَالِ ; الْقَاضِيَةِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَأَنَّهُ الرَّبُّ وَحْدَهُ ، الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ .
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ : بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ . قَوْلُهُ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ 54 ] .
الْمَوْضِعُ الثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [ \ 3 ، 4 ] .
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ [ ص: 29 ] يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 ، 3 ، 4 ] .
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه : مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [ 2 - 6 ] .
الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ : قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [ 58 ، 59 ] .
الْمَوْضِعُ السَّادِسُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 4 ، 5 ] .
الْمَوْضِعُ السَّابِعُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ : هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [ 4 ] .
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ : لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 43 \ 13 ] ، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ الْآيَةَ [ 23 \ 28 ] ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ الْآيَةَ [ 11 \ 44 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِوَاءً لَائِقًا بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا اسْتِوَاءً مُنَاسِبًا لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ; عَلَى نَحْوِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ .
وَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّأَمُّلُ فِي أُمُورٍ :
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ : أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا وَاحِدٌ ، وَلَا [ ص: 30 ] يَجُوزُ فِي حَقِّهِ مُشَابَهَةُ الْحَوَادِثِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَثَلًا أَنَّهُ : سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ مُخَالِفَانِ لِأَسْمَاعِ الْحَوَادِثِ وَأَبْصَارِهِمْ ، لَزِمَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ; كَالِاسْتِوَاءِ ، وَالْيَدِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ بِحَالٍ .
الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ أَيْضًا ، فَكَمَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، لَهُ ذَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ ذَوَاتِ الْخَلْقِ ، فَلَهُ تَعَالَى صِفَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْخَلْقِ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ فِي الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ ; كَالِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا .
اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّهُ غَلِطَ فِي هَذَا خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، فَزَعَمُوا أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ - هُوَ مُشَابَهَةُ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ ، وَقَالُوا : يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَصْرِفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ كُفْرٌ ; لِأَنَّ مَنْ شَبَّهَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْقَوْلُ فِيهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قِيلَ لَهُ : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [ 16 \ 44 ] ، لَمْ يُبَيِّنْ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، وَأَحْرَى فِي الْعَقَائِدِ وَلَا سِيَّمَا مَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ ، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ الْوَصْفَ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ لَا يَلِيقُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَكْبَرِ الضَّلَالِ وَمِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ ، هُوَ التَّنْزِيهُ التَّامُّ عَنْ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (96)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(6)
صـ 31 إلى صـ 35
الْفَهُمُ الْمُتَبَادِرُ لِكُلِّ عَاقِلٍ : هُوَ مُنَافَاةُ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ فِي ذَاتِهِ ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ ، لَا وَاللَّهِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ * . ***
وَالْجَاهِلُ الْمُفْتَرِي الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ وَتَشْبِيهٌ - إِنَّمَا جَرَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ تَنْجِيسُ قَلْبِهِ ، بِقَدْرِ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ، فَأَدَّاهُ شُؤْمُ التَّشْبِيهِ إِلَى نَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهَا ، مَعَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، هُوَ الَّذِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ ، فَكَانَ هَذَا الْجَاهِلُ مُشَبِّهًا أَوَّلًا ، وَمُعَطِّلًا ثَانِيًا ، فَارْتَكَبَ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ، وَلَوْ كَانَ قَلْبُهُ عَارِفًا بِاللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي ، مُعَظِّمًا لِلَّهِ كَمَا يَنْبَغِي ، طَاهِرًا مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ - لَكَانَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدَهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِهِ : أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، بَالِغٌ مِنَ الْكَمَالِ ، وَالْجَلَالِ مَا يَقْطَعُ أَوْهَامَ عَلَائِقِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ، فَيَكُونُ قَلْبُهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ ، مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، فَلَوْ قَالَ مُتَنَطِّعٌ : بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِنَعْقِلَهَا ، قُلْنَا : أَعَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ ؟
فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ : لَا ، فَنَقُولُ : مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يُحْصِيَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ هُوَ ، كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [ 20 \ 110 ] ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [ 112 \ 1 - 4 ] ، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [ 16 \ 74 ] .
فَتَحَصَّلَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ :
الْأَوَّلُ : تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ .
وَالثَّانِي : الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْبَاتًا ، أَوْ نَفْيًا ; وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا كَانَ يَشْكُلُ عَلَيْهِمْ ، أَلَا تَرَى إِلَى [ ص: 32 ] قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ شَاعِرٌ فَقَطْ ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ ، فَهُوَ عَامِّيٌّ [ الطَّوِيلُ ] :
وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللَّهُ قَابِضٌ عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعَيْنِ فِي رَاحَةِ الْيَدِ
وَمُرَادُهُ بِالسَّبْعَيْنِ : سَبْعُ سَمَاوَاتٍ ، وَسَبْعُ أَرْضِينَ . فَمَنْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرَ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مُشَابَهَةُ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ زَالَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ .
وَيُرْوَى نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ رَحْمَتَهُ جَلَّ وَعَلَا قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُحْسِنِينَ ، وَأَوْضَحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ صِفَاتِ عَبِيدِهِ الَّذِينَ سَيَكْتُبُهَا لَهُمْ فِي قَوْلِهِ : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ الْآيَةَ [ 7 \ 156 ] .
وَوَجْهُ تَذْكِيرِ وَصْفِ الرَّحْمَةِ مَعَ أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ فِي قَوْلِهِ : قَرِيبٌ [ 7 \ 56 ] وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ ، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ تَزِيدُ عَلَى الْعَشْرَةِ . نَذْكُرُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضًا ، وَنَتْرُكُ مَا يَظْهَرُ لَنَا ضَعْفُهُ أَوْ بُعْدُهُ عَنِ الظَّاهِرِ .
مِنْهَا : أَنَّ الرَّحْمَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّحِمِ ، فَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى .
وَمِنْهَا : أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْقَرَابَةَ إِذَا كَانَتْ قَرَابَةَ نَسَبٍ تَعَيَّنَ التَّأْنِيثُ فِيهَا فِي الْأُنْثَى فَتَقُولُ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَرِيبَتِي أَيْ فِي النَّسَبِ ، وَلَا تَقُولُ : قَرِيبٌ مِنِّي . وَإِنْ كَانَتْ قَرَابَةَ مَسَافَةٍ جَازَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ ، فَتَقُولُ : دَارُهُ قَرِيبٌ وَقَرِيبَةٌ مِنِّي ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [ 42 \ 17 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [ 33 \ 63 ] ، وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ قَرِيبٌ وَلَا الْبَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وَمِنْهَا : أَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ إِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا .
وَمِنْهَا : أَنَّ قَوْلَهُ : قَرِيبٌ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ شَيْءٌ قَرِيبٌ مِنْ [ ص: 33 ] الْمُحْسِنِينَ .
وَمِنْهَا : أَنَّهَا شُبِّهَتْ بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عَلَى فَعِيلٍ رُبَّمَا شُبِّهَتْ بِالْمَصْدَرِ الْآتِي عَلَى فَعِيلٍ ، فَأُفْرِدَتْ لِذَلِكَ ; قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الصَّدِيقَ فِي قَوْلِهِ : أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [ 24 \ 61 ] ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
وَهُنَّ صَدِيقٌ لِمَنْ لَمْ يَشِبْ
ا اهـ وَالظَّهِيرَ فِي قَوْلِهِ : وَالْمَلَائِكَة ُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [ 66 \ 4 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْجُهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ .
قِرَاءَةُ عَاصِمٍ بُشْرًا بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَإِسْكَانِ الشِّينِ : جَمْعُ بَشِيرٍ ، لِأَنَّهَا تَنْتَشِرُ أَمَامَ الْمَطَرِ مُبَشِّرَةً بِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ الْآيَةَ [ 30 \ 46 ] ، وَقَوْلُهُ : بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [ 7 \ 57 ] ، يَعْنِي بِرَحْمَتِهِ الْمَطَرَ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [ 42 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [ 42 \ 28 ] .
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَحْمِلُ السَّحَابَ عَلَى الرِّيحِ ، ثُمَّ يَسُوقُهُ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [ 35 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [ 32 \ 27 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ الْآيَةَ ، أَنْكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ ، وَقَوْمِ هُودٍ عَجَبَهُمْ مِنْ إِرْسَالِ رَجُلٍ ; وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ . قَالَ فِي عَجَبِ قَوْمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ : أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [ 10 \ 2 ] ، وَقَالَ : بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ [ 50 \ 2 ] ، وَقَالَ عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ : ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ [ ص: 34 ] رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [ 64 \ 6 ] ، وَقَالَ : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ الْآيَةَ [ 54 \ 23 ، 24 ] ، وَقَالَ : وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [ 23 \ 34 ] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْعَجَبَ مِنْ إِرْسَالِ بَشَرٍ مَانِعٍ لِلنَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ : وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [ 17 \ 94 ] .
وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا الْآيَةَ [ 21 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْآيَةَ [ 25 \ 20 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا الْآيَةَ [ 6 \ 9 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِغْرَاقِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ الْآيَةَ [ 54 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ 29 \ 14 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَتُجَادِلُونَن ِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْآيَةَ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنْ هَذَا الْجِدَالِ الْوَاقِعِ بَيْنَ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَبَيْنَ عَادٍ . وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ قَطْعِهِ دَابِرَ عَادٍ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الْآيَةَ [ 69 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ : وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْآيَةَ [ 51 \ 41 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ الْآيَةَ .
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَقْرَهَا بَاشَرَتْهُ جَمَاعَةٌ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ : أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَادَوْا وَاحِدًا مِنْهُمْ ، فَبَاشَرَ [ ص: 35 ] عَقْرَهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [ 29 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ الْعَذَابُ كَقَوْلِهِ : وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [ 11 \ 64 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ 7 \ 73 ] ، وَقَوْلِهِ : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [ 11 \ 65 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ . لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ رَجْفَةِ الْأَرْضِ بِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ صَيْحَةُ الْمَلَكِ بِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الْآيَةَ [ 11 \ 67 ] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَكَ لَمَّا صَاحَ بِهِمْ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ مِنْ شِدَّةِ الصَّيْحَةِ ، وَفَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي .
وَبَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الرِّسَالَةَ الَّتِي أَبْلَغَهَا نَبِيُّهُ صَالِحٌ إِلَى قَوْمِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ .
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ اللِّوَاطُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ الْآيَةَ [ 7 \ 81 ] ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ : أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [ 26 \ 165 ] ، وَقَوْلِهِ : وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [ 29 \ 29 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (97)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(7)
صـ 36 إلى صـ 40
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ .
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مَعَ لُوطٍ إِلَّا خُصُوصُ أَهْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي " الذَّارِيَاتِ " بِقَوْلِهِ : فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ 51 \ 35 ، 36 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا : إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [ 7 \ 83 ] ، أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : فَبَيَّنَ أَنَّهَا خَائِنَةٌ ، وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِيمَا أَصَابَ قَوْمَهَا مِنَ الْهَلَاكِ ، قَالَ فِيهَا هِيَ وَامْرَأَةِ نُوحٍ : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [ 66 \ 10 ] ، وَقَالَ فِيهَا وَحْدَهَا : أَعْنِي امْرَأَةَ لُوطٍ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 81 ] [ ص: 36 ] وَقَوْلُهُ هُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [ 7 \ 84 ] .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْمَطَرَ مَا هُوَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَطَرُ حِجَارَةٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا كَقَوْلِهِ : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [ 15 \ 74 ] ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السِّجِّيلَ الطِّينُ بِقَوْلِهِ فِي " الذَّارِيَاتِ " : لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [ 51 \ 33 ] ، ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَطَرَ مَطَرُ سُوءٍ لَا رَحْمَةٍ بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [ 25 \ 40 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " الشُّعَرَاءِ " : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [ 173 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا .
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : وَتَبْغُونَهَا رَاجِعٌ إِلَى السَّبِيلِ وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ مُؤَنَّثَةٌ ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَذْكِيرِ السَّبِيلِ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [ 7 \ 146 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ .
بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [ 11 \ 94 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [ 7 \ 78 ] ، وَقَوْلِهِ : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ [ 7 \ 92 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ الْآيَةَ [ 26 \ 189 ] ، فَإِنْ قِيلَ : الْهَلَاكُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ رَجْفَةٌ ، وَذَكَرَ فِي هُودٍ أَنَّهُ صَيْحَةٌ ، وَذَكَرَ فِي الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ .
فَالْجَوَابُ : مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٍ وَوَهَجٍ عَظِيمٍ ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ ، وَخَمَدَتِ الْأَجْسَامُ . اهـ مِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ .
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا الرِّسَالَاتِ الَّتِي أَبْلَغَهَا رَسُولُهُ شُعَيْبٌ إِلَى قَوْمِهِ [ ص: 37 ] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [ 11 \ 84 ] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ ، وَبَيَّنَ نُصْحَهُ لَهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ الْآيَةَ [ 11 \ 89 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [ 7 \ 93 ] ، أَنْكَرَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَسَى ، أَيِ : الْحُزْنَ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْلَاغِهِمْ ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ لَجَاجًا وَعِنَادًا ، وَإِنْكَارُهُ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَنَهَى نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ 5 \ 68 ] ، وَمَعْنَى لَا تَأْسَ : لَا تَحْزَنْ ، وَقَوْلِهِ : وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [ 16 \ 127 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا .
ذَكَرَ أَنْبَاءَهُمْ مُفَصَّلَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ، كَالْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا خَبَرُ نُوحٍ وَهُودٍ ، وَصَالِحٍ وَلُوطٍ ، وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ ، مَعَ أُمَمِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ : بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ .
مِنْهَا : أَنَّ الْمَعْنَى فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ يَوْمَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ، لِاسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ فِيمَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَسٍ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [ 10 \ 96 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [ 10 \ 101 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ ، فَآمَنُوا كَرْهًا ، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ طَوْعًا . وَيُرْوَى هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْأَوَّلِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً لَكَفَرُوا أَيْضًا ، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا فِي الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ؛ أَيْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ . وَيَدُلُّ لِمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ الْآيَةَ [ 6 \ 28 ] لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ .
[ ص: 38 ] وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ أَوَّلَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ . وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ شُؤْمَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ سَبَبٌ لِلطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الْهُدَى ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [ 4 \ 155 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [ 61 \ 5 ] ، وَقَوْلِهِ : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [ 2 \ 10 ] ، وَقَوْلِهِ : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [ 63 \ 3 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ كُلُّهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ ، وَكُلُّهَا حَقٌّ . فَنَذْكُرُ جَمِيعَهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا الْآيَةَ .
بَيَّنَ تَعَالَى هُنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ظَلَمُوا بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا مُوسَى ، وَصَرَّحَ فِي النَّمْلِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ جَاحِدِينَ لَهَا ، مَعَ أَنَّهُمْ مُسْتَيْقِنُونَ أَنَّهَا حَقٌّ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَعُلُوِّهِمْ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ 13 ، 14 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ .
ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا أَنَّ مُوسَى نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَيَاضَ خَالٍ مِنَ الْبَرَصِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " وَ " الْقَصَصِ " فِي قَوْلِهِ فِيهِمَا : تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [ 12 \ 32 ] ، أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ .
بَيَّنَ هُنَا أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ بِآيَةِ الْعَصَا وَالْيَدِ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ سَاحِرٌ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا قَالَ فِرْعَوْنُ : وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي " الشُّعَرَاءِ " أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [ 26 \ 34 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا السِّحْرَ الْعَظِيمَ مَا هُوَ ؟ وَلِمَ يُبَيِّنْ هَلْ أَوْجَسَ مُوسَى فِي نَفْسِهِ الْخَوْفَ مِنْهُ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي [ ص: 39 ] يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ 66 - 96 ] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَنَّهُمْ تَوَاعَدُوا مَعَ مُوسَى مَوْعِدًا لِوَقْتِ مُغَالَبَتِهِ مَعَ السَّحَرَةِ ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " طَهَ " فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ : فَلَنَأْتِيَنَّ كَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ الْآيَةَ [ 58 - 59 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ لَأَصُلِّبَنَّك ُمْ أَجْمَعِينَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الشَّيْءَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَصْلُبُهُمْ فِيهِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، كَقَوْلِهِ فِي " طَهَ " وَلَأُصَلِّبَنّ َكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ الْآيَةَ [ 71 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِنْ أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ قَحْطٌ وَجَدْبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، تَطَيَّرُوا بِمُوسَى وَقَوْمِهِ فَقَالُوا : مَا جَاءَنَا هَذَا الْجَدْبُ وَالْقَحْطُ إِلَّا مِنْ شُؤْمِكُمْ ، وَذُكِرَ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ الْآيَةَ [ 4 \ 78 ] ، وَذُكِرَ نَحْوُهُ أَيْضًا عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَعَ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ : قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ الْآيَةَ [ 27 \ 47 ] ، وَذُكِرَ نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ فِي قَوْلِهِ : قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُ مْ الْآيَةَ [ 36 \ 18 ] ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ شُؤْمَهُمْ مِنْ قِبَلِ كُفْرِهِمْ ، وَمَعَاصِيهِمْ ، لَا مِنْ قِبَلِ الرُّسُلِ ؛ قَالَ فِي " الْأَعْرَافِ " : أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [ 131 ] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " فِي قَوْمِ صَالِحٍ : قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [ 27 \ 47 ] ، وَقَالَ فِي " يس " : قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ الْآيَةَ [ 19 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [ 59 ] ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [ 7 \ 137 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْحُسْنَى الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [ 28 \ 5 ، 6 ] .
[ ص: 40 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي الْآيَةَ .
اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ النَّافُونَ لِرُؤْيَةِ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمُ الْبَاطِلِ ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَ ، إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَبْصَارِهِمْ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ 75 \ 22 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ 83 \ 15 ] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مَحْجُوبِينَ عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [ 10 \ 26 ] الْحُسْنَى : الْجَنَّةُ ، وَالزِّيَادَةُ : النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ ، وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ 50 \ 35 ] ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ ، وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأَبْصَارِ : جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِهَا عَقْلًا فِي دَارِ الدُّنْيَا : قَوْلُ مُوسَى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [ 7 \ 143 ] ; لِأَنَّ مُوسَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْجَائِزُ وَالْمُسْتَحِيل ُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا شَرْعًا فَهِيَ جَائِزَةٌ وَوَاقِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ ، وَتَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَمْنُوعَةٌ شَرْعًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ " الْأَعْرَافِ " هَذِهِ ، وَحَدِيثُ " إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا " ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا ( دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَخَافَةَ عُقُولِ عَبَدَةِ الْعِجْلِ ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ، وَأَوْضَحَ هَذَا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا الْآيَةَ [ 89 ] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا حُذِفَ فِيهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا : وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا الْآيَةَ [ 7 \ 148 ] ، أَيِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النُّكْتَةَ فِي حَذْفِهِ دَائِمًا التَّنْبِيهُ : عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّلَفُّظُ بِأَنَّ عِجْلًا مُصْطَنَعًا مِنْ جَمَادٍ إِلَهٌ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ دَائِمًا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [ 20 \ 88 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (98)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(8)
صـ 41 إلى صـ 45
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لِنَكُونُنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
[ ص: 41 ] بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَبَدَةَ الْعِجْلِ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا ، وَصَرَّحَ فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " بِتَوْبَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ بِالْقَتْلِ وَتَوْبَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ 54 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ الْآيَةَ .
أَوْضَحَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ فِي " طَهَ " قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا الْآيَةَ [ 86 ، 87 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي الْآيَةَ .
أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى مَا اعْتَذَرَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ هَارُونَ لِأَخِيهِ مُوسَى عَمَّا وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّوْمِ ، وَأَوْضَحَهُ فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [ 94 ] ، وَصَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَاءَتِهِ بِقَوْلِهِ :
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ 20 \ 90 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 34 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 25 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ 11 \ 17 ] ، وَقَيَّدَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عُمُومَ رِسَالَتِهِ بِبُلُوغِ هَذَا الْقُرْآنِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ 6 \ 19 ] ، وَصَرَّحَ بِشُمُولِ رِسَالَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ : وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّين َ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ [ 3 \ 20 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَثْرَةَ كَلِمَاتِهِ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : [ ص: 42 ] قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [ 18 \ 109 ] ، وَقَوْلِهِ : الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [ 31 \ 27 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ الْآيَةَ .
هَذَا الْمِيثَاقُ الْمَذْكُورُ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [ 3 \ 187 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَى أَخْذِهِ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ : هُوَ إِيجَادُ قَرْنٍ مِنْهُمْ بَعْدَ قَرْنٍ ، وَإِنْشَاءُ قَوْمٍ بَعْدَ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [ 6 \ 133 ] ، وَقَالَ : هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ [ 35 \ 39 ] ، وَقَالَ : وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ [ 27 \ 62 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ : وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ 7 \ 172 ] ، أَنَّ إِشْهَادَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ بِأَنَّهُ رَبُّهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ لِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قَالُوا بَلَى ، أَيْ : قَالُوا ذَلِكَ بِلِسَانِ حَالِهِمْ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ ، وَنَظِيرُهُ مِنْ إِطْلَاقِ الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ لِسَانِ الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [ 9 \ 17 ] ، أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [ 100 \ 6 ، 7 ] أَيْ : بِلِسَانِ حَالِهِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا .
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ هَذَا الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ : أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [ 7 \ 172 ، 173 ] ، قَالُوا : فَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ الْمَذْكُورُ الْإِشْهَادَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ ، وَهُمْ فِي صُورَةِ الذَّرِّ لَمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ; [ ص: 43 ] لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَمَا لَا عِلْمَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِخْبَارُ الرُّسُلِ بِالْمِيثَاقِ الْمَذْكُورِ كَافٍ فِي ثُبُوتِهِ ، قُلْنَا :
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ : " الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ ، وَلِهَذَا قَالَ : أَنْ تَقُولُوا الْآيَةَ اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ، وَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ قَائِلُهُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْآخَرَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِ الْآبَاءِ فِي صُورَةِ الذَّرِّ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، ثُمَّ أَرْسَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الرُّسُلَ مُذَكِّرَةً بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الَّذِي نَسِيَهُ الْكُلُّ وَلَمْ يُولَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ وَإِخْبَارُ الرُّسُلِ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ بِوُجُودِهِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ يَدُلُّ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .
أَمَّا وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا أَقَامَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ ، وَمَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا - تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مُصَرِّحَةٌ - بِكَثْرَةٍ - بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ بِإِنْذَارِ الْفِطْرَةِ ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [ 17 \ 55 ] ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نَخْلُقَ عُقُولًا ، وَنَنْصُبَ أَدِلَّةً ، وَنُرَكِّزَ فِطْرَةً .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ 17 \ 15 ] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ عُذْرُهُمْ : هُوَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لَا نَصْبَ الْأَدِلَّةِ وَالْخَلْقِ عَلَى الْفِطْرَةِ .
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرُّسُلُ لِقَطْعِهَا بَيَّنَهَا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [ 134 ] ، وَأَشَارَ لَهَا فِي " الْقَصَصِ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ 47 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قُطِعَ عُذْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ ، وَلَمْ يَكْتَفِ فِي ذَلِكَ [ ص: 44 ] بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [ 67 \ 8 ، 9 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ 39 \ 71 ] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ : كُلَّمَا ، فِي قَوْلِهِ : كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ، صِيغَةُ عُمُومٍ ، وَأَنَّ لَفْظَةَ : الَّذِينَ ، فِي قَوْلِهِ : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، صِيغَةُ عُمُومٍ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَعُمُّ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهُ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي صُورَةِ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ كَمَا ذَكَرَ هُنَا ، وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : قَالَ أَبُو عُمَرَ ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ ، لَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرِهِمُ اهـ . مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا هَلْ يُكْتَفَى فِي الْإِلْزَامِ بِالتَّوْحِيدِ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرُوا ؟ هُوَ مَبْنَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ ، هَلْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِكُفْرِهِمْ ؟ وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " ، أَوْ يُعْذَرُونَ بِالْفَتْرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ :
ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعُ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي كِتَابِنَا ( دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ) فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ الْآيَةَ .
ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ لِهَذَا الْخَسِيسِ الَّذِي آتَاهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا - بِالْكَلْبِ ، وَلَمْ تَكُنْ حَقَارَةُ الْكَلْبِ مَانِعَةً مِنْ ضَرْبِهِ تَعَالَى الْمَثَلَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ فِي قَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [ 22 \ 73 ] ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِبَيْتِ [ ص: 45 ] الْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ : مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ 29 \ 41 ] ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْحِمَارِ فِي قَوْلِهِ : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ 62 \ 5 ] ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَحِي مِنْ بَيَانِ الْعُلُومِ النَّفِيسَةِ عَنْ طَرِيقِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِالْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
هَدَّدَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِتَهْدِيدَيْنِ :
الْأَوَّلُ : صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : وَذَرُوا فَإِنَّهَا لِلتَّهْدِيدِ .
وَالثَّانِي : فِي قَوْلِهِ : سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَهَدَّدَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِهِ فِي سُورَةِ حم " السَّجْدَةِ " بِأَنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [ 40 ] ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ الْآيَةَ ، وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ : الْمَيْلُ ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ ، وَمَعْنَى إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ مَا كَاشْتِقَاقِهِم ُ اسْمَ اللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ ، وَاسْمَ الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ ، وَاسْمَ مَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَحَدَ وَأَلْحَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَتَانِ يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَبِضَمِّهَا وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ الثَّانِي .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [ 79 \ 42 ، 43 ، 44 ] ، وَقَوْلِهِ : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [ 6 \ 59 ] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ [ 31 \ 34 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (99)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (1)
صـ 46 إلى صـ 50
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ .
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فِي قَوْلِهِ فِي " الْأَنْعَامِ " : قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [ ص: 46 ] [ 50 ] ، وَقَالَ : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [ 62 \ 26 ، 27 ] ، وَقَالَ : قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [ 27 \ 65 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قِيلَ : الْمَالُ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ الْخَيْرِ بِمَعْنَى الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ 100 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [ 2 \ 180 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ الْآيَةَ [ 2 \ 215 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِيهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَكْثِرٌ جِدًّا مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ; لِأَنَّ عَمَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ دِيمَةً ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ .
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ، أَيْ : لِيَأْلَفَهَا وَيَطْمَئِنَّ بِهَا ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ جَعَلَ أَزْوَاجَ ذُرِّيَّتِهِ كَذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [ 30 \ 21 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا :
الْأَوَّلُ : أَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ ، فَحَمَلَتْ ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ ، فَقَالَ لَهَا سَمِّي هَذَا الْوَلَدَ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ ، وَالْحَارِثُ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَقَالَ تَعَالَى : فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا [ 7 \ 190 ] أَيْ وَلَدًا إِنْسَانًا ذَكَرًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ بِتَسْمِيَتِهِ عَبْدَ الْحَارِثِ ، وَقَدْ جَاءَ بِنَحْوِ هَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَهُوَ مَعْلُولٌ كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا آتَى آدَمَ وَحَوَّاءَ صَالَحًا كَفَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا ، وَأَسْنَدَ فِعْلَ الذُّرِّيَّةِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ ; لِأَنَّهُمَا أَصْلٌ لِذُرِّيَّتِهِم َا كَمَا قَالَ : وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [ 7 \ 11 ] ، أَيْ بِتَصْوِيرِنَا لِأَبِيكُمْ آدَمَ لِأَنَّهُ أَصْلُهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ : ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ : [ ص: 47 ] فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [ 7 \ 190 ، 191 ] ، وَهَذَا نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ ، لَا آدَمُ وَحَوَّاءُ ، وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْجَهَلَةُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . فَبَيَّنَ أَنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ يُعَامَلُ بِاللِّينِ ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ جَهْلِهِ وَإِسَاءَتِهِ . وَأَنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ لَا مَنْجَى مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَ ةِ بِاللَّهِ مِنْهُ ، قَالَ فِي الْأَوَّلِ : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [ 7 \ 199 ] ، وَقَالَ فِي الثَّانِي : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ 7 \ 200 ] ، وَبَيَّنَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ 32 \ 1 ] ، قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [ 96 ] ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [ 79 ، 98 ] .
وَالثَّانِي : فِي حم " السَّجْدَةِ " قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [ 41 \ 34 ] ، وَزَادَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْطَاهُ كُلُّ النَّاسِ ، بَلْ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ إِلَّا لِذِي الْحَظِّ الْكَبِيرِ وَالْبَخْتِ الْعَظِيمِ عِنْدَهُ فَقَالَ : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [ 41 \ 35 ] ، ثُمَّ قَالَ فِي شَيْطَانِ الْجِنِّ : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ 41 \ 36 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ .
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِخْوَانَ الْإِنْسِ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّونَ الْإِنْسَ فِي الْغَيِّ ، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [ 19 \ 83 ] ، وَقَوْلِهِ : يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [ 6 \ 128 ] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ بَعْضَ الْإِنْسِ إِخْوَانٌ لِلشَّيَاطِينِ وَهُوَ قَوْلُهُ : إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ الْآيَةَ [ 17 \ 27 ] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْفَالِ هُنَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ مَا شَذَّ عَنِ الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأُخِذَ بِغَيْرِ حَرْبٍ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ يَذْهَبُ مِنَ الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْمُرَادُ بِالْأَنْفَالِ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَيْئًا ، وَهُوَ الْآتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [ 59 \ 6 ] ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْخُمُسُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُمُسُ الْخُمُسِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْفَالُ السَّرَايَا خَاصَّةً ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الشَّعْبِيُّ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ : مَا يُنَفِّلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ السَّرَايَا زِيَادَةً عَلَى قِسْمِهِمْ مَعَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَسْمِ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، وَقُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ قَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبْضِ " قَالَ : فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلَبِي ، قَالَ : فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اذْهَبْ فَخُذْ سَلَبَكَ " ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا : [ ص: 49 ] حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شَفَانِيَ اللَّهُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ ، فَقَالَ : " إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي ضَعْهُ " قَالَ : فَوَضَعْتُهُ ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ : عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا السَّيْفُ مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي ، قَالَ : فَإِذَا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي قَالَ : قُلْتُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ شَيْئًا ، قَالَ : كُنْتَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ ، وَلَيْسَ هُوَ لِي وَإِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِيَ فَهُوَ لَكَ ، قَالَ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ 8 \ 1 ] ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ ، أَخْبَرَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ : نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ : أَصَبْتُ سَيْفًا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : نَفِّلْنِيهِ ، فَقَالَ : " ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ " مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ عَاوَدْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ الْآيَةَ ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ فِي نُزُولِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [ 29 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [ 5 \ 90 ] ، وَآيَةِ الْوَصِيَّةِ ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ مَالِكَ بْنَ رَبِيعَةَ يَقُولُ : أَصَبْتُ سَيْفَ ابْنِ عَائِذٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَانَ السَّيْفُ يُدْعَى بِالْمَرْزُبَان ِ ، فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ النَّفْلِ أَقْبَلْتُ بِهِ فَأَلْقَيْتُهُ فِي النَّفْلِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ ، فَرَآهُ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيُّ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، اهـ كَلَامُ ابْنُ كَثِيرٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ لَمَّا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَحْنُ هُمُ الَّذِينَ حُزْنَا الْغَنَائِمَ ، وَحَوَيْنَاهَا فَلَيْسَ لِغَيْرِنَا فِيهَا نَصِيبٌ ، وَقَالَتِ الْمَشْيَخَةُ : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ رِدْءًا ، وَلَوْ هُزِمْتُمْ لَلَجَأْتُمْ إِلَيْنَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " ، وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " ، وَقَالَ ، صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ; وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، فَالْآيَةُ [ ص: 50 ] مُشْكِلَةٌ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [ 8 \ 41 ] .
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَزُولُ بِهَا الْإِشْكَالُ فِي الْآيَةِ ، هُوَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَنَسَبُهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ : إِنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ لَمْ تُخَمَّسْ لِأَنَّ آيَةَ الْخُمُسِ لَمْ تَنْزِلْ إِلَّا بَعْدَ قَسْمِ غَنَائِمِ بَدْرٍ - غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ " الْحَدِيثَ . فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي تَخْمِيسِ غَنَائِمِ بَدْرٍ ; لِأَنَّ قَوْلَ عَلَيٍّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَوْمَئِذٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا تَرَى .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، بَيَّنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ قَصْرَ الْغَنَائِمِ عَلَى الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ، وَأَنَّهَا تُعْطَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْهَا لَلْغَانِمِينَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ قَالَ : إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا ، وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِلْجُمْهُورِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثِ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا الْآيَةَ . فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّصْرِيحُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [ 9 \ 124 ] ، وَقَوْلِهِ : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ الْآيَةَ [ 48 \ 4 ] ، وَقَوْلِهِ : لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا الْآيَةَ [ 74 \ 31 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى الْآيَةَ [ 47 \ 17 ] .
وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَاتُ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُصُ أَيْضًا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ يَنْقُصُ ، وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ : " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ " ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (100)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (2)
صـ 51 إلى صـ 55
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَلْقَى النُّعَاسَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْعَلَ قُلُوبَهُمْ آمِنَةً غَيْرَ خَائِفَةٍ مِنْ عَدُوِّهَا ; لِأَنَّ الْخَائِفَ الْفَزِعَ لَا يَغْشَاهُ النُّعَاسُ ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا النُّعَاسَ أُلْقِيَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ [ ص: 51 ] هُنَا فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ ، كَمَا لَا يَخْفَى .
وَذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّ النُّعَاسَ غَشِيَهُمْ أَيْضًا يَوْمَ أُحُدٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا الْآيَةَ [ 154 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ .
الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : الْحُكْمُ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَأَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْحَجِيجَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ الْجَمَاعَةَ ، وَقَطَعَ الرَّحِمَ ، وَسَفَّهَ الْآبَاءَ ، وَعَابَ الدِّينَ ، ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِأَنْ يُهْلِكَ الظَّالِمَ مِنْهُمْ ، وَيَنْصُرَ الْمُحِقَّ ، فَحَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَهْلَكَهُمْ ، وَنَصَرَهُ ، وَأَنْزَلَ الْآيَةَ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ هُنَا الْحُكْمُ أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ [ 8 \ 19 ] ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ عَنْ شُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ : عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ 7 \ 87 ] ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : عَنْ شُعَيْبٍ فِي نَفْسِ الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [ 7 \ 87 ] ، وَهَذِهِ لُغَةُ حِمْيَرَ ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْقَاضِيَ فَتَّاحًا وَالْحُكُومَةَ فَتَّاحَةً .
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْوَافِرُ ]
أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولًا بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ
أَيْ عَنْ حُكُومَتِكُمْ وَقَضَائِكُمْ ، أَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا لِلْمُؤْمِنِينَ ، أَيْ : تَطْلُبُوا الْفَتْحَ وَالنَّصْرَ مِنَ اللَّهِ ، وَأَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِلْكَافِرِينَ ، فَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، كَمَا تَرَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .
أَمَرَ تَعَالَى النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَعْلَمُوا : أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ فِتْنَةٌ يُخْتَبَرُونَ بِهَا ، هَلْ يَكُونُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ؟ وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ فِتْنَةٌ أَيْضًا ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ ، فَأَمَرَ الْإِنْسَانَ بِالْحَذَرِ مِنْهُمْ أَنْ يُوقِعُوهُ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ إِنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا يَكْرَهُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ لَهُ وَأَخَصُّهُمْ بِهِ وَهُمُ الْأَوْلَادُ وَالْأَزْوَاجُ - أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ وَلَا يُؤَاخِذَهُمْ فَيَحَذَرَ مِنْهُمْ أَوَّلًا وَيَصْفَحَ [ ص: 52 ] عَنْهُمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّيْءِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي " التَّغَابُنِ " : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [ 64 \ 14 ، 15 ] .
وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ تُلْهِيَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذِكْرِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْخَاسِرُ الْمَغْبُونُ فِي حُظُوظِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ 63 \ 9 ] ، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ فِي الْآيَاتِ : الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْفِتْنَةِ فِي الْقُرْآنِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالضَّحَاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ : فُرْقَانًا : مَخْرَجًا ، زَادَ مُجَاهِدٌ : فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فُرْقَانًا : نَجَاةً ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : نَصْرًا . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : فُرْقَانًا أَيْ : فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ : الْمَخْرَجُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا الْآيَةَ [ 65 \ 2 ] ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ النَّجَاةُ أَوِ النَّصْرُ ، رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى هَذَا ; لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا أَنْجَاهُ وَنَصَرَهُ ، لَكِنَّ الَّذِي يَدُلُّ الْقُرْآنُ وَاللُّغَةُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ ; لِأَنَّ الْفُرْقَانَ مَصْدَرٌ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ ، وَأُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ أَيِ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [ 25 \ 1 ] ، أَيِ الْكِتَابَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَقَوْلِهِ : وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [ 3 \ 4 ] ، وَقَوْلِهِ : وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ 2 \ 53 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [ 21 \ 48 ] ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ هُنَا : الْعِلْمُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيدِ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْآيَةَ [ 57 \ 28 ] .
لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا : وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ، يَعْنِي : عِلْمًا وَهُدًى تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ هُنَا الْهُدَى ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ كَانَ [ ص: 53 ] كَافِرًا فَهَدَاهُ اللَّهُ : لَمُشْرِكُونَ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ الْآيَةَ [ 6 \ 122 ] ، فَجَعَلَ النُّورَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيدِ : هُوَ مَعْنَى الْفُرْقَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَنْفَالِ كَمَا تَرَى ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ ، وَالْغُفْرَانَ الْمُرَتَّبَ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ ، كَذَلِكَ جَاءَ مُرَتَّبًا أَيْضًا عَلَيْهَا فِي آيَةِ الْحَدِيدِ ، وَهُوَ بَيَانٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا الْآيَةَ .
قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِكَذِبِهِمْ ، وَتَعْجِيزِ اللَّهِ لَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهَا هُنَا ، وَقَوْلُهُ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْهُمْ : إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [ 8 \ 31 ] ، رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُم ْ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [ 25 \ 5 ، 6 ] ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَالِمُ السِّرِّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ ، وَكَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ 16 \ 103 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ :
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .
ذَكَرَ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ حَيْثُ قَالُوا : فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الْآيَةَ [ 8 \ 32 ] ، وَلَمْ يَقُولُوا فَاهْدِنَا إِلَيْهِ ، وَجَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ : وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ 38 \ 16 ] ، وَقَوْلِهِ : وَيَسْتَعْجِلُو نَكَ بِالْعَذَابِ الْآيَةَ [ 22 \ 47 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ [ 11 \ 8 ] ، وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ شِبْهَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ شُعَيْبٍ : فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ 26 \ 187 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ : يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ 7 \ 77 ] ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ " سَأَلَ سَائِلٌ " [ 70 \ 1 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ .
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَأَثْبَتَهَا لِخُصُوصِ الْمُتَّقِينَ ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [ ص: 54 ] أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [ 9 \ 17 ، 18 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً .
الْمُكَاءُ : الصَّفِيرُ ، وَالتَّصْدِيَةُ : التَّصْفِيقُ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَالْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ بِالصَّفِيرِ وَالتَّصْفِيقِ التَّخْلِيطُ حَتَّى لَا يَسْمَعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [ 41 \ 26 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ .
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَوَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ حَسْبَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ ، سَوَاءً أَوْجَفُوا عَلَيْهِ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ أَوْ لَا ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ ، أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ وَمَصَارِفُهُ الَّتِي بَيَّنَ أَنَّهُ يُصْرَفُ فِيهَا كَمَصَارِفِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فِي فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الْآيَةَ [ 6 ] ، ثُمَّ بَيَّنَ شُمُولَ الْحُكْمِ لِكُلِّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى بِقَوْلِهِ : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْآيَةَ [ 7 ] .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ : فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَقَالُوا : الْفَيْءُ : هُوَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ انْتِزَاعِهِ مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ ، كَفَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَكَّنُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَفْعَلُ فِيهَا مَا يَشَاءُ لِشِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَرَضِيَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْتَحِلُوا بِمَا يَحْمِلُونَ عَلَى الْإِبِلِ غَيْرَ السِّلَاحِ ، وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ : فَهِيَ مَا انْتَزَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكَفَّارِ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، مَعَ قَوْلِهِ : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أَوْجَفُوا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهِ كَمَا تَرَى ، وَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ عَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ : [ الرَّجَزُ ]
وَفَيْئُهُمْ وَالْفَيْءُ فِي الْأَنْفَالِ مَا لَمْ يَكُنْ أُخِذَ عَنْ قِتَالِ [ ص: 55 ] أَمَّا الْغَنِيمَةُ فَعَنْ زِحَافٍ
وَالْأَخْذُ عَنْوَةً لَدَى الزِّحَافِ
لِخَيْرِ مُرْسَلٍ إِلَخْ .
وَقَوْلُهُ : وَفَيْئُهُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِخَيْرِ مُرْسَلٍ ، وَقَوْلُهُ : وَالْفَيْءُ فِي الْأَنْفَالِ . . . إِلَخْ ، كَلَامٌ اعْتِرَاضِيٌّ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بَيَّنَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَاتِ ; لِأَنَّ آيَةَ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ ، ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْغَنِيمَةِ ، وَآيَةَ : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْفَيْءِ وَأُشِيرَ لِوَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْ نِ بِقَوْلِهِ : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ غَنِيمَةً لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ وَلَمْ تَنْتَزِعُوهُ بِالْقُوَّةِ مِنْ مَالِكِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ وَاحِدٌ ، فَجَمِيعُ مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ غَنِيمَةً وَفَيْئًا ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ ، فَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ الْفَيْءِ عَلَى الْغَنِيمَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ التَّغْلِبِيِّ : [ الْوَافِرُ ]
فَلَا وَأَبِي جَلِيلَةَ مَا أَفَأْنَا مِنَ النَّعَمِ الْمُؤَبَّلِ مِنْ بَعِيرِ
وَلَكِنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْبًا عَلَى الْأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنُّحُورِ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (101)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (3)
صـ 56 إلى صـ 60
فَلَا وَأَبِي جَلِيلَةَ مَا أَفَأْنَا مِنَ النَّعَمِ الْمُؤَبَّلِ مِنْ بَعِيرِ
وَلَكِنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْبًا عَلَى الْأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنُّحُورِ
يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِسَوْقِ الْغَنَائِمِ وَلَكِنْ بِقَتْلِ الرِّجَالِ فَقَوْلُهُ :
أَفَأْنَا : يَعْنِي غَنِمْنَا ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [ 33 \ 50 ] ; لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شُمُولُ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْمَسْبِيَّاتِ وَلَوْ كُنَّ مُنْتَزَعَاتٍ قَهْرًا ، وَلَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَتَدُلُّ لَهُ آيَةُ الْحَشْرِ الْمُتَقَدِّمَة ُ ، وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ فَآيَةُ الْحَشْرِ مُشْكِلَةٌ مَعَ آيَةِ الْأَنْفَالِ هَذِهِ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ قَالَ قَتَادَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : إِنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، نَاسِخَةٌ لِآيَةِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ الْآيَةَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ ، وَلَمْ يُلْجِئْ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا دَعْوَاهُ اتِّحَادَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ ، فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ لَعُلِمَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَآيَةَ الْحَشْرِ فِي الْفَيْءِ ، وَلَا إِشْكَالَ . وَوَجْهُ بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ : أَنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ ، نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، قَبْلَ قَسْمِ غَنِيمَةِ بَدْرٍ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَلِيٍّ الثَّابِتِ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " ، الدَّالِّ عَلَى أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ خُمِّسَتْ ، وَآيَةُ التَّخْمِيسِ الَّتِي شَرَعَهُ اللَّهُ بِهَا هِيَ هَذِهِ ، وَأَمَّا آيَةُ الْحَشْرِ فَهِيَ نَازِلَةٌ فِي غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ بِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَغَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِإِجْمَاعِ [ ص: 56 ] الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا مُنَازَعَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ لَا إِشْكَالَ فِي الْآيَاتِ ، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَمْرَ الْغَنَائِمِ وَالْفَيْءِ رَاجِعًا إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ ، فَلَا مُنَافَاةَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْنَ آيَةِ " الْحَشْرِ " ، وَآيَةِ التَّخْمِيسِ إِذَا رَآهُ الْإِمَامُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغُزَاةِ الَّذِينَ غَنِمُوهَا ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الْغَنِيمَةَ لِغَيْرِهِمْ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : غَنِمْتُمْ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَنِيمَةٌ لَهُمْ فَلَمَّا قَالَ : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، أَيْ : وَلِأَبِيهِ الثُّلْثَانِ الْبَاقِيَانِ إِجْمَاعًا ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ، أَيْ : وَلِلْغَانِمِين َ مَا بَقِيَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَمِمَّنْ حَكَى إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالدَّاوُدِيُّ ، وَالْمَازِرِيُّ ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَالْأَخْبَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُتَظَاهِرَةٌ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمُ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا ، قَالُوا : لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَ الْغَنِيمَةَ فِيمَا يَشَاءُ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَمْنَعَ مِنْهَا الْغُزَاةَ الْغَانِمِينَ .
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [ 18 \ 1 ] قَالُوا : الْأَنْفَالُ : الْغَنَائِمُ كُلُّهَا ، وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَا مَنْسُوخَةٌ ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِمَا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ ، وَقِصَّةِ حُنَيْنٍ قَالُوا : إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً بِعَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ ، وَمَنَّ عَلَى أَهْلِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا غَنِيمَةً وَلَمْ يُقَسِّمْهَا عَلَى الْجَيْشِ ، فَلَوْ كَانَ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ وَاجِبًا لَفَعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ ، قَالُوا : وَكَذَلِكَ غَنَائِمُ هَوَازِنَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ ، أَعْطَى مِنْهَا عَطَايَا عَظِيمَةً جِدًّا ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ خِيَارِ الْمُجَاهِدِينَ الْغَازِينَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ أَشَارَ لِعَطَايَاهُ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
[ ص: 57 ]
أَعْطَى عَطَايَا شَهِدَتْ بِالْكَرَمِ يَوْمَئِذٍ لَهُ وَلَمْ تُجَمْجَمِ أَعْطَى عَطَايَا أَخْجَلَتْ دَلْحَ الدِّيَمْ
إِذْ مَلَأَتْ رَحْبَ الْغَضَا مِنَ النَّعَمْ زُهَاءَ أَلْفَيْ نَاقَةٍ مِنْهَا وَمَا
مَلَأَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ غَنَمَا لِرَجُلٍ وَبَلِهٍ مَا لِحَلْقِهِ
مِنْهَا وَمِنْ رَقِيقِهِ وَوَرْقِهِ
إِلَخْ . . .
قَالُوا : لَوْ كَانَ يَجِبُ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي غَنِمَهَا ، لَمَا أَعْطَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَيْ نَاقَةٍ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ لِغَيْرِ الْغُزَاةِ ، وَلَمَا أَعْطَى مَا مَلَأَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنَ الْغَنَمِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ، وَكَذَلِكَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ ، حَتَّى غَارَ مِنْ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرَهُ الْمَشْهُورَ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
إِلَّا أَبَاعِيرَ أُعْطِيتُهَا عَدِيدَ قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ
وَكَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ إِنْ يَرْقُدُوا إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ
قَالُوا : فَلَوْ كَانَ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ الْغَانِمِينَ وَاجِبًا ، لَمَا فُضِّلَ الْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ فِي الْعَطَاءِ مِنَ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شِعْرَهُ الْمَذْكُورَ ، وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الِاحْتِجَاجَات ِ : فَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [ 8 \ 41 ] ، وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَالْجَوَابُ عَمَّا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ زَعَمُوا أَنَّ مَكَّةَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً ، وَلَكِنَّ أَهْلَهَا أَخَذُوا الْأَمَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَاسْتَدَلَّ قَائِلُوا هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " ، وَهُوَ [ ص: 58 ] ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي مَكَّةَ هَلْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْوَةً ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، أَوْ أَخَذَ لَهَا الْأَمَانَ ; وَالْأَمَانُ شِبْهُ الصُّلْحِ ، عَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ : فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ يَعْنِي مَكَّةَ : [ الرَّجَزُ ]
وَاخْتَلَفُوا فِيهَا فَقِيلَ أَمِنَتْ وَقِيلَ عَنْوَةً وَكَرْهًا أُخِذَتْ وَالْحَقُّ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَجْوِبَةِ عَمَّا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ ، أَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ ; لِأَنَّهَا حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ، فَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا هَذِهِ الْحُرْمَةُ الْعَظِيمَةُ .
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَطَابَ نُفُوسَ الْغُزَاةِ عَنِ الْغَنِيمَةِ ; لِيُؤَلِّفَ بِهَا قُلُوبَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِين َ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْصَارِ قَالَ : يَمْنَعُنَا وَيُعْطِي قُرَيْشًا ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ ، جَمَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَلَّمَهُمْ كَلَامَهُ الْمَشْهُورَ الْبَالِغَ فِي الْحُسْنِ ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : " أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ " ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ ، وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ ، وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمًا وَحَظًّا ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَنَوَّهَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِحُسْنِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ : [ الرَّجَزُ ]
وَوَكَّلَ الْأَنْصَارَ خَيْرَ الْعَالَمِينَ لِدِينِهِمْ إِذْ أَلَّفَ الْمُؤَلَّفِينَ
فَوَجَدُوا عَلَيْهِ أَنْ مَنَعَهُمْ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ مَنْ جَمَعَهُمْ
وَقَالَ قَوْلًا كَالْفَرِيدِ الْمُؤْنَقِ عَنْ نَظْمِهِ ضَعُفَ سِلْكُ مَنْطِقِي
فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أَوْجَفَ الْجَيْشُ عَلَيْهَا الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ لِلْغُزَاةِ الْغَانِمِينَ عَلَى التَّحْقِيقِ ، الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَقَدْ عَلِمْتَ الْجَوَابَ عَنْ حُجَجِ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ ; وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
[ ص: 59 ] وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِّلَ مِنْهَا بَعْضَ الشَّيْءِ بِاجْتِهَادِهِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ دَلِيلًا ، وَسَيَأْتِي لَهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هِيَ تَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي مَصَارِفِ الْخُمُسِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ; فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُجْعَلُ سِتَّةَ أَنْصِبَاءَ : نُصِيبٍ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَنَصِيبٍ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَصِيبٍ لِذِي الْقُرْبَى ، وَنَصِيبٍ لِلْيَتَامَى ، وَنَصِيبٍ لِلْمَسَاكِينِ ، وَنَصِيبٍ لِابْنِ السَّبِيلِ .
وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ ، قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيُخَمِّسُهَا عَلَى خَمْسَةٍ تَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْهَا لِمَنْ شَهِدَهَا ، ثُمَّ يُؤْخَذُ الْخُمُسُ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ ، فَيَأْخُذُ الَّذِي قَبَضَ كَفَّهُ ، فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ ، ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَهْمٌ لِذِي الْقُرْبَى ، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَنَصِيبُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا يُجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : إِنَّ نَصِيبَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَصِيبَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَنَصِيبَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ ، وَذِكْرُ اسْمِهِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلتَّعْظِيمِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الضَّحَّاكُ . وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُغِيرَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، عَنْ رَجُلٍ ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى ، وَهُوَ يَعْرِضُ فَرَسًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ ؟ فَقَالَ : " لِلَّهِ خُمُسُهَا ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْجَيْشِ " ، قُلْتُ : فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَ : " لَا وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جَيْبِكَ لَسْتَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ " ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الْكِنْدِيِّ ، أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَالْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَتَذَاكَرُوا [ ص: 60 ] حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِعُبَادَةَ : يَا عُبَادَةُ : يَا عُبَادَةُ كَلِمَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَأْنِ الْأَخْمَاسِ ، فَقَالَ عُبَادَةُ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فِي غَزْوَةٍ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ ; فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَنَاوَلَ وَبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ ، فَقَالَ : " إِنَّ هَذِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إِلَّا نَصِيبِي مَعَكُمُ الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ ، وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَجَاهِدُوا النَّاسَ فِي اللَّهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ ، وَلَا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عَظِيمٌ يُنْجِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ " .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَحْمَدَ هَذَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَظِيمٌ ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَكِنْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ الْخُمُسِ ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْغُلُولِ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ هَذَا الْبَعِيرِ ، ثُمَّ قَالَ : " وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذِهِ إِلَّا الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ .
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْخُمُسَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ ; لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ ذُكِرَ لِلتَّعْظِيمِ وَافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِهِ ، مَعَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَمْلُوكٌ لَهُ جَلَّ وَعَلَا ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْرِفُ نَصِيبَهُ ، الَّذِي هُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ ، فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا : " وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " ، وَهُوَ الْحَقُّ .
وَيَدُلُّ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ قُوتَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءِ بَنِيَ النَّضِيرِ ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَانْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِسُقُوطِ نَصِيبِهِ بِوَفَاتِهِ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ : أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ سُقُوطَ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى أَيْضًا بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (102)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (4)
صـ 61 إلى صـ 65
وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَصِيبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاقٍ ، وَأَنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ [ ص: 61 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَكُونُ نَصِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَلِيٍّ ، وَقَتَادَةَ ، وَجَمَاعَةٍ ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّحِيحُ ، وَأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ ، أَنَّهُ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالنَّبِيُّ قَالَ : " الْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ الْأَقْوَالِ فِي نَصِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; وَهُوَ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَصْرِفُونَهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَصْرِفَانِهِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ ذَوِي الْقُرْبَى بَاقٍ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ :
الْأُولَى : هَلْ يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ أَوْ لَا ؟
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ السُّقُوطِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِذِي الْقُرْبَى .
الثَّالِثَةُ : هَلْ يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ أَوْ لَا ؟
أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى : فَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ; عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا ، وَإِلَيْهِ ذَهَبُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، فِي كِتَابِ " فَرْضِ الْخُمُسِ " .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ : مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا ، وَنَحْنُ وَهَمَ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَقَالَ [ ص: 62 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ " .
قَالَ اللَّيْثَ : حَدَّثَنِي يُونُسُ وَزَادَ قَالَ جُبَيْرٌ : وَلَمْ يُقَسِّمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ . اهـ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ ، قَالَ : مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْنَا : أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ ، وَتَرَكْتَنَا ، وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ ، فَقَالَ : " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ " ، قَالَ جُبَيْرٌ : لَمْ يُقَسِّمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا اهـ .
وَإِيضَاحُ كَوْنِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ : أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ .
فَأَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ أَرْبَعَةٌ :
هَاشِمٌ ، وَالْمُطَّلِبُ ، وَعَبْدُ شَمْسٍ .
وَهُمْ : أَشِقَّاءُ أُمِّهِمْ : عَاتِكَةَ ، بِنْتِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيَّةَ ، إِحْدَى عَوَاتِكِ سُلَيْمٍ ; اللَّاتِي هُنَّ جَدَّاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُنَّ ثَلَاثٌ :
هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِيَةُ : عَمَّتُهَا ; وَهِيَ : عَاتِكَةُ بِنْتُ هِلَالٍ الَّتِي هِيَ أُمُّ عَبْدِ مَنَافٍ .
وَالثَّالِثَةُ : بِنْتُ أَخِي الْأُولَى ; وَهِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ ، وَهِيَ أُمُّ وَهْبٍ ، وَالِدِ آمِنَةَ ، أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَابِعُ أَوْلَادِ عَبْدِ مَنَافٍ : نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَأُمُّهُ : وَاقِدَةُ بِنْتُ أَبِي عَدِيٍّ ، وَاسْمُهُ نَوْفَلُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ .
قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ : [ الرَّجَزُ ]
عَبْدُ مَنَافٍ قَمَرُ الْبَطْحَاءِ
أَرْبَعَةٌ بَنُوهُ هَؤُلَاءِ
مُطَّلِبٌ ، وَهَاشِمٌ ، وَنَوْفَلُ
وَعَبْدُ شَمْسٍ ، هَاشِمٌ لَا يُجْهَلُ
وَقَالَ فِي بَيَانِ عَوَاتِكِ سُلَيْمٍ اللَّاتِي هُنَّ جَدَّاتٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ الرَّجَزُ ]
عَوَاتِكُ النَّبِيِّ : أُمُّ وَهْبِ
وَأُمُّ هَاشِمٍ ، وَأُمُّ النَّدْبِ
عَبْدِ مَنَافٍ ، وَذِهِ الْأَخِيرِهْ
عَمَّةُ عَمَّةِ الْأُولَى الصَّغِيرَهْ
[ ص: 63 ]
وَهُنَّ بِالتَّرْتِيبِ ذَا لِذِي الرِّجَالِ
الْأَوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالِ
فَبِهَذَا الَّذِي بَيَّنَّا يَتَّضِحُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ : بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، وَبَنِي نَوْفَلٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، وَبَنِي نَوْفَلٍ عَادَوُا الْهَاشِمِيِّين َ ، وَظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا ، فَصَارُوا كَالْأَبَاعِدِ مِنْهُمْ ; لِلْعَدَاوَةِ ، وَعَدَمِ النُّصْرَةِ .
وَلِذَا قَالَ فِيهِمْ أَبُو طَالِبٍ ; فِي لَامِيَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ : [ الطَّوِيلُ ]
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبَدَ شَمْسٍ ، وَنَوْفَلًا
عُقُوبَةَ شَرٍّ ، عَاجِلٍ ، غَيْرِ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً
لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ ، غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفِهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا
بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا ، وَالْغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصَّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ
وَآلِ قُصَيٍّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ
بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَا : يَتَّضِحُ عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : بِأَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهُمْ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ : عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَمُسْلِمٌ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ فِي سُنَنِهِ : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ كَتَبَ إِلَيْهِ : يَسْأَلُهُ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ : إِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّا هُمْ ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا ، وَقَالُوا : قُرَيْشٌ كُلُّهَا ذَوُو قُرْبَى .
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ : وَقَالُوا : " قُرَيْشٌ كُلُّهَا " تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو مَعْشَرٍ ، وَفِيهِ ضَعْفٌ .
وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِعْلِهِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ : يُعَيِّنُ أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ ، وَالْمُطَّلِبِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ ، وَأَنَّهُمْ هُمْ ذَوُو الْقُرْبَى الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ .
فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا : هَلْ يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ ، أَوْ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ ؟
فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ كَالْمِيرَاثِ ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ [ ص: 64 ] أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْن ِ .
قَالَ صَاحِبُ " الْإِنْصَافِ " : هَذَا الْمَذْهَبُ جَزَمَ بِهِ الْخِرَقِيُّ ، وَصَاحِبُ " الْهِدَايَةِ " ، وَ " الْمُذْهَبِ " ، وَ " مَسْبُوكِ الذَّهَبِ " ، وَ " الْعُمْدَةِ " ، وَ " الْوَجِيزِ " ، وَغَيْرِهِمْ ; وَقَدَّمَهُ فِي " الرِّعَايَتَيْن ِ " ، وَ " الْحَاوِيَيْنِ " ، وَغَيْرِهِمْ ، وَصَحَّحَهُ فِي " الْبُلْغَةِ " ، وَ " النَّظْمِ " ، وَغَيْرِهِمَا .
وَعَنْهُ : الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ; سَوَاءٌ . قَدَّمَهُ ابْنُ رُزَيْنٍ فِي شَرْحِهِ ; وَأَطْلَقَهُمَا فِي " الْمُغْنِي " ، وَ " الشَّرْحِ " ، وَ " الْمُحَرَّرِ " ، وَ " الْفُرُوعِ " ، اهـ مِنْ " الْإِنْصَافِ " .
وَتَفْضِيلُ ذَكَرِهِمْ عَلَى أُنْثَاهُمُ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا .
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : أَنَّهُ سَهْمٌ اسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ شَرْعًا ; بِدَلِيلِ أَنَّ أَوْلَادَ عَمَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ ; لَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ ، وَكَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا بِقَرَابَةِ الْأَبِ خَاصَّةً يَجْعَلُهُ كَالْمِيرَاثِ ; فَيُفَضَّلُ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ سَوَاءٌ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْمُزَنِيُّ : وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ فَضَّلَ ذَكَرَهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَالْمِيرَاثِ : أَنَّ الِابْنَ مِنْهُمْ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مَعَ وُجُودِ أَبِيهِ ، وَجَدِّهِ اهـ .
وَصَغِيرُهُمْ ، وَكَبِيرُهُمْ سَوَاءٌ ; وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِنَصِيبِ الْقَرَابَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى جَمِيعِهِمْ ; وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ خِلَافًا لِقَوْمٍ .
وَالظَّاهِرُ شُمُولُ غَنِيِّهِمْ ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّصَ بِهِ فُقَرَاءَهُمْ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَصِّصْ بِهِ فُقَرَاءَهُمْ ، بِخِلَافِ نَصِيبِ الْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ .
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ فُقَرَاؤُهُمْ ، وَلَا شَيْءَ لِأَغْنِيَائِهِ مْ ، فَقَدْ بَانَ لَكَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ ، وَسَهْمَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ ; وَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ; وَأَنَّ سَهْمَ الْقَرَابَةِ لِبَنِي [ ص: 65 ] هَاشِمٍ ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ; لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَأَنَّهُ لِجَمِيعِهِمْ : غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ ، قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا ، وَأَنَّ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ لِخُصُوصِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : سُقُوطُ سَهْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَهْمِ قَرَابَتِهِ بِمَوْتِهِ ، وَأَنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ : الَّتِي هِيَ الْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينُ ، وَابْنُ السَّبِيلِ .
قَالَ : وَيَبْدَأُ مِنَ الْخُمُسِ بِإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ ، وَالْجُنْدِ ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا .
وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَمْرَ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ ; فِيمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ ، وَيُعْطِي الْقَرَابَةَ بِاجْتِهَادِهِ ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا : وَبِقَوْلِ مَالِكٍ هَذَا : قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ، وَبِهِ عَمِلُوا ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَسِّمْهُ أَخْمَاسًا ، وَلَا أَثْلَاثًا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مَنْ ذَكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهَمِّ مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ .
قَالَ الزَّجَّاجُ : مُحْتَجًّا لِمَالِكٍ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالْأَقْرَبِين َ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ 2 \ 215 ] .
وَلِلرَّجُلِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ يُنْفِقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ ، إِذَا رَأَى ذَلِكَ ، وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : " خُمُسُ اللَّهِ ، وَخُمُسُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ مِنْهُ ، وَيُعْطِي مِنْهُ ، وَيَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ " اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ : " وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّ الْخُمُسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ ، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْفَيْءِ .
وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَةَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَكْثَرُ السَّلَفِ ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ .
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ رَأْيُ الْبُخَارِيِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ، يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمُ ذَلِكَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (103)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (5)
صـ 66 إلى صـ 70
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ ، وَخَازِنٌ ، وَاللَّهُ يُعْطِي " ، ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَ الْبَابِ ، فِي كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ ، وَسَتَأْتِي لَهُ أَدِلَّةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذَا ، وَلَكِنَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ لِلسَّلَامَةِ هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ خُمُسَ مَا غَنِمْنَا لِهَذِهِ الْمَصَارِفِ الْمَذْكُورَةِ ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا ، كَمَا تَرَى .
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : بِأَنَّ الْخُمُسَ كُلَّهُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ : يَتَامَاهُمْ ، وَمَسَاكِينُهُم ْ ، وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَكُونُ لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يُوَلِّيهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُمَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ ، وَالْفِضَّةَ ، وَسَائِرَ الْأَمْتِعَةِ ; كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ : يُخَمَّسُ ، وَيُقْسَّمُ الْبَاقِي عَلَى الْغَانِمِينَ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَمَّا أَرْضُهُمُ الْمَأْخُوذَةُ عَنْوَةً ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يُخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ قِسْمَتِهَا ، كَمَا يُفْعَلُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَلَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ، بَلْ هِيَ أَرْضُ عُشْرٍ مَمْلُوكَةٌ لِلْغَانِمِينَ ، وَبَيْنَ وَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِصِيغَةٍ .
وَقِيلَ : بِغَيْرِ صِيغَةٍ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَرْكُهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ مُسْتَمِرٍّ يُؤْخَذُ مِمَّنْ تَقَرُّ بِيَدِهِ ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : إِذَا قَسَّمَهَا الْإِمَامُ ، فَقِيلَ : تُخَمَّسُ ، وَهُوَ أَظْهَرُ ، وَقِيلَ : لَا ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ قَائِلًا : إِنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ لَمْ يُخَمَّسْ مَا قُسِّمَ مِنْهَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ خُمِّسَتْ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ .
وَهَذَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَسْمِ ، وَإِبْقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - هُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ .
وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا غَنِيمَةٌ يَجِبُ قَسْمُهَا عَلَى الْمُجَاهِدِينَ ، بَعْدَ [ ص: 67 ] إِخْرَاجِ الْخُمُسِ ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ حُجَجَ الْجَمِيعِ ، وَمَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ .
أَمَّا حُجَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهِيَ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ .
أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ ، فَهُوَ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ شُمُولَ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَسَّمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ ، بَعْدَ أَنْ خَمَّسَهَا ، وَبَنِي النَّضِيرِ ، وَنَصَّفَ أَرْضَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ .
قَالَ : فَلَوْ جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ إِخْرَاجَ الْأَرْضِ ، جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ إِخْرَاجَ غَيْرِهَا ، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْآيَةِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ ، الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ : ظَاهِرٌ ، وَبِالسُّنَّةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِالتَّخْيِيرِ ; لِأَنَّهُ يَقُولُ : كَانَ مُخَيَّرًا فَاخْتَارَ الْقَسْمَ ، فَلَيْسَ الْقَسْمُ وَاجِبًا ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى .
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَسَمَ نِصْفَ أَرْضِ خَيْبَرَ ، وَتَرَكَ نِصْفَهَا ، وَقَسَمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ ، وَتَرَكَ قَسْمَ مَكَّةَ ، فَدَلَّ قَسَمُهُ تَارَةً ، وَتَرْكُهُ الْقَسْمَ أُخْرَى ، عَلَى التَّخْيِيرِ .
فَفِي " السُّنَنِ " وَ " الْمُسْتَدْرَكِ " : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، جَمْعُ كُلِّ سَهْمٍ مِائَةُ سَهْمٍ ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِلْمُسْلِمِي نَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَزَلَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ ، وَالْأُمُورِ ، وَنَوَائِبِ النَّاسِ " ، هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ .
وَفِي لَفْظٍ : " عَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَهُوَ الشَّطْرُ لِنَوَائِبِهِ ، وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ ذَلِكَ : الْوَطِيحَ ، وَالْكُتَيْبَةَ ، وَالسُّلَالِمَ ، وَتَوَابِعَهَا " .
وَفِي لَفْظٍ أَيْضًا : " عَزَلَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ ، وَمَا يَنْزِلُ بِهِ ; الْوَطِيحَةَ ، وَالْكُتَيْبَةَ ، وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا ، وَعَزَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ : فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، الشَّقَّ ، وَالنَّطَاةَ ، وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا ، وَكَانَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا " .
وَرَدَّ الْمُخَالِفُ هَذَا الِاحْتِجَاجَ ، بِأَنَّ النِّصْفَ الْمَقْسُومَ مِنْ خَيْبَرَ : مَأْخُوذٌ عَنْوَةً ، وَالنِّصْفَ الَّذِي لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهَا : مَأْخُوذٌ صُلْحًا ، وَجَزَمَ بِهَذَا ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِيِّ " .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ : وَأَصَبْنَاهَا [ ص: 68 ] عَنْوَةً ، مَا نَصُّهُ قَالَ الْقَاضِي : قَالَ الْمَازِرِيُّ : ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا كُلَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ بَعْضَهَا فُتِحَ عَنْوَةً ، وَبَعْضُهَا صُلْحًا ، قَالَ : وَقَدْ يَشْكُلُ مَا رُوِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ ، أَنَّهُ قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ : نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ ، وَحَاجَتِهِ ، وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، قَالَ : وَجَوَابُهُ ، مَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهُ كَانَ حَوْلَهَا ضِيَاعٌ وَقُرًى أُجْلِيَ عَنْهَا أَهْلُهَا ، فَكَانَتْ خَالِصَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا سِوَاهَا لِلْغَانِمِينَ ، فَكَانَ قَدْرُ الَّذِي جَلَوْا عَنْهُ النِّصْفَ ، فَلِهَذَا قُسِمَ نِصْفَيْنِ . اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعِجْلِيُّ ، ثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ آدَمَ - ثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، وَبَعْضِ وَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ، قَالُوا : بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ تَحَصَّنُوا ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ ، وَيُسَيِّرَهُمْ ، فَفَعَلَ ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ فَدَكَ ، فَنَزَلُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ; لِأَنَّهَا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ : أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ عَنْوَةً " .
قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَقُرِئَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ ، وَأَنَا شَاهِدٌ ، أَخْبَرَهُمُ ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مَالِكٌ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ : أَنَّ خَيْبَرَ كَانَ بَعْضُهَا عَنْوَةً ، وَبَعْضُهَا صُلْحًا ، وَالْكُتَيْبَةُ أَكْثَرُهَا عَنْوَةً ، وَفِيهَا صُلْحٌ ; قُلْتُ لِمَالِكٍ : وَمَا الْكُتَيْبَةُ ؟ قَالَ : أَرْضُ خَيْبَرَ ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ عَذْقٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا : يَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ لِتَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الْقَسْمِ ، وَالْوَقْفِيَّة ُ بِقَضِيَّةِ خَيْبَرَ كَمَا تَرَى وَحُجَّةُ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ أَرْضَ الْعَدُوِّ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً تَكُونُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا - أُمُورٌ :
مِنْهَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مُنِعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا ، وَمُنِعَتِ الشَّامُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا ، وَمُنِعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ ، شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ ، لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ " .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَهُمْ بِالْحَدِيثِ : أَنَّ : " مُنِعَتِ الْعِرَاقُ . . . إِلَخْ " بِمَعْنَى [ ص: 69 ] سَتُمْنَعُ ; وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي إِيذَانًا بِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الْآيَةَ [ 18 \ 99 ] وَ [ 36 \ 51 ] وَ [ 39 ، 68 ] [ 50 \ 20 ] ، وَقَوْلِهِ : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ الْآيَةَ [ 16 \ 1 ] .
قَالُوا : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْغَانِمِينَ ; لِأَنَّ مَا مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ لَا يَكُونُ فِيهِ قَفِيزٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، وَلِحَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِيِّ " فِي كِتَابِ " فَرْضِ الْخُمُسِ " مَا نَصُّهُ : وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ : أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " مُنِعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا " الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ : لَا تُبَاعُ ، وَلَا تُقَسَّمُ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْعِ : مَنْعُ الْخَرَاجِ ، وَرَدُّهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْإِنْذَارِ بِمَا يَكُونُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُمْنَعُونَ حُقُوقَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا ، كَمَا قَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ " .
وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ : " أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا ، كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ ، وَلَكِنِّي أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ يَقْتَسِمُونَهَ ا " .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا : بِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ لَوْ كَانَتْ تُقَسَّمُ ، لَمْ يَبْقَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الْغَانِمِينَ شَيْءٌ ، وَاللَّهُ أَثْبَتَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ شَرِكَةً بِقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا الْآيَةَ [ 59 \ 10 ] ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا [ 59 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ [ 59 \ 9 ] ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ : يَقُولُونَ ، غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ يَقُولُ : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الْآيَةَ .
وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ وَيَلْعَنُونَهُ مْ ، وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ : وَالَّذِينَ جَاءُوا ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَجُمْلَةَ يَقُولُونَ ، حَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي " آلِ عِمْرَانَ " ، وَهِيَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا .
[ ص: 70 ] قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ ، لَا تَنْهَضُ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لَا يَتَعَيَّنُ وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا ، فَاخْتَارَ إِبْقَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، كَمَا قَدَّمْنَا .
وَالِاسْتِدْلَا لُ بِآيَةِ الْحَشْرِ الْمَذْكُورَةِ وَاضِحُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّهَا فِي الْفَيْءِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ كَمَا قَدَّمْنَا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ عُمَرَ فِي الْأَثَرِ الْمَارِّ آنِفًا ، وَبِهِ تَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةُ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا تَعَارُضٌ ، وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ .
وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ : أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى تَخْصِيصٍ وَاقِعٍ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ .
وَتَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ كَثِيرٌ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ ، مَا نَصُّهُ : " قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَكَأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ ، وَوَسَطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطْعًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ : " لَوْلَا آخِرُ النَّاسِ " ، فَلَمْ يُخْبِرْ بِنَسْخِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلَا بِتَخْصِيصِهِ بِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ الْقَسْمُ مِنْ خَيْبَرَ مَأْخُوذٌ عَنْوَةً ، وَمَا لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهَا مَأْخُوذٌ صُلْحًا ، وَالنَّضِيرُ فَيْءٌ ، وَقُرَيْظَةُ قُسِّمَتْ .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّهَا فَيْءٌ أَيْضًا ; لِنُزُولِهِمْ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَبْلَ أَنْ يُحَكِّمَ فِيهِمْ سَعْدًا ، لَكَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، وَلَكِنْ يَرُدُّهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَّسَهَا ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَغَيْرُهُ .
وَمَكَّةُ مَأْخُوذَةٌ صُلْحًا ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " .
هَذَا ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَلِذَلِكَ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (104)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (6)
صـ 71 إلى صـ 75
مِنْهَا : أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَهَا زَمَنَ الْفَتْحِ ، وَلَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَصَالَحَهُ عَلَى الْبَلَدِ ، وَإِنَّمَا جَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دَخَلَ دَارَهُ ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ ، [ ص: 71 ] أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، أَوْ أَلْقَى سِلَاحَهُ .
وَلَوْ كَانَتْ قَدْ فُتِحَتْ صُلْحًا لَمْ يَقُلْ : " مَنْ دَخَلَ دَارَهُ ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ ، أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ - فَهُوَ آمِنٌ " ، فَإِنَّ الصُّلْحَ يَقْتَضِي الْأَمَانَ الْعَامَّ .
وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِين َ ، وَإِنَّهُ أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " .
وَفِي لَفْظِ : " إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " .
وَفِي لَفْظٍ : " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُولُوا : إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ " ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، " أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ جَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى ، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي ، ثُمَّ قَالَ : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ " ، فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ ، فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، هَلْ تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : " انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصِدُوهُمْ حَصْدًا " ، وَأَخْفَى بِيَدِهِ ، وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ ، وَقَالَ : " مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا " ، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا ، قَالَ : فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَامُوهُ ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي تَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا ، فَبَيَّنُوا أَنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ اثْنَا عَشَرَ ، وَقِيلَ : قُتِلَ مِنْ قُرَيْشٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَمِنْ هُذَيْلٍ أَرْبَعَةٌ ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ ، وَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْمُيَلَاءِ الْجُهَنِيُّ ، وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ نِسْبَةً إِلَى مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ ، أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ ، وَقَالَ كُرْزٌ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ فِي دِفَاعِهِ عَنْ خُنَيْسٍ : [ الرَّجَزُ ]
[ ص: 72 ]
قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ مِنْ بَنِي فِهْرِ
نَقِيَّةُ اللَّوْنِ نَقِيَّةُ الصَّدْرِ
لَأَضْرِبَنَّ الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخْرِ
وَفِيهِ نَقْلُ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ ، وَرَجَزُ حَمَاسِ بْنِ قَيْسٍ الْمَشْهُورِ يَدُلُّ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَذَكَرَهُ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
وَزَعَمَ ابْنُ قَيْسٍ أَنْ سَيَحْفِدَا
نِسَاءَهُمْ خِلْتَهُ وَأَنْشَدَا
إِنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَالِيَ عِلَّهْ
هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ
وَشَهِدَ الْمَأْزَقَ فِيهِ حُطَمَا
مُرَبَّبٌ مِنْ قَوْمِهِ فَانْهَزَمَا
وَجَاءَ فَاسْتَغْلَقَ بَابَهَا الْبَتُولْ
فَاسْتَفْهَمَتْ هُ أَيْنَمَا كُنْتَ تَقُولْ
فَقَالَ وَالْفَزَعُ زَعْفَرَ دَمَهْ
إِنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ
إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُؤْتَمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْ نَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْبًا فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ
لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وَهَذَا الرَّجَزُ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَمِصْدَاقُهُ فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْهَا أَيْضًا : أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ ، بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَجَارَتْ رَجُلًا ، فَأَرَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ " ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي ، فَأَدْخَلْتُهُم َا بَيْتًا ، وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا بَابًا ، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّي عَلَيَّ ، فَتَفَلْتُ عَلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ " فَذَكَرْتُ حَدِيثَ الْأَمَانِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ " ، وَذَلِكَ ضُحًى بِبَطْنِ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَقِصَّتُهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ .
فَإِجَارَتُهَا لَهُ ، وَإِرَادَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ ، وَإِمْضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجَارَتَهَا - صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمَرَ بِقَتْلِ مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ ، وَابْنِ خَطَلٍ ، وَجَارِيَتَيْنِ .
وَلَوْ كَانَتْ فُتِحَتْ صُلْحًا ، لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَكَانَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ [ ص: 73 ] عَقْدِ الصُّلْحِ .
وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ مَنْ ذَكَرَ ، ثَابِتٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . \ 5 وَفِي السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، قَالَ : أَمِّنُوا النَّاسَ إِلَّا امْرَأَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ ; اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ " ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ .
فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ - فُتِحَتْ عَنْوَةً .
وَكَوْنُهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً : يَقْدَحُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ قَسْمِ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ عَنْوَةً .
فَالَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا أَيُّ تَعَارُضٍ : هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ قَسْمِ الْأَرْضِ ، وَإِبْقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْحُجَجِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي رِبَاعِ مَكَّةَ : هَلْ يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا ، وَبَيْعُهَا ، وَإِيجَارُهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَالْحَسَنُ ، وَإِسْحَاقُ . وَغَيْرُهُمْ .
وَكَرِهَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَجَازَ جَمِيعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ .
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَتَوَسَّطَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : تُمَلَّكُ ، وَتُوَرَّثُ ، وَلَا تُؤَجَّرُ ، وَلَا تُبَاعُ ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ : تَنَاظَرَ فِيهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَاضِرٌ ، فَأَسْكَتَ الشَّافِعِيُّ إِسْحَاقَ بِالْأَدِلَّةِ ، بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ : مَا أَحْوَجَنِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُكَ فِي مَوْضِعِكَ ، فَكُنْتُ آمُرُ بِفَرْكِ أُذُنَيْهِ ، أَنَا أَقُولُ لَكَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْتَ تَقُولُ : قَالَ طَاوُسٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَهَلْ لِأَحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ ؟ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ ، وَمَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ مِنْهَا .
[ ص: 74 ] فَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأُمُورٍ :
الْأَوَّلُ : حَدِيثُ أُسَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ : أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ ؟ " ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " مِنْ مَنْزِلٍ " ، وَفِي بَعْضِهَا " مَنْزِلًا " ، أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " فِي بَابِ " تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ ، وَشِرَائِهَا " إِلَخْ ، وَفِي كِتَابِ " الْمَغَازِي " فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فِي بَابِ : " أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ " ، وَفِي كِتَابِ " الْجِهَادِ " فِي بَابِ : " إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرْضُونَ فَهِيَ لَهُمْ " ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " فِي بَابِ : " النُّزُولِ بِمَكَّةَ لِلْحَاجِّ وَتَوْرِيثِ دُورِهَا " ، بِثَلَاثِ رِوَايَاتٍ هِيَ مِثْلُ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ .
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ " ، صَرِيحٌ فِي إِمْضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تِلْكَ الرِّبَاعَ .
وَلَوْ كَانَ بَيْعُهَا ، وَتَمَلُّكُهَا لَا يَصِحُّ لَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَضَافَ لِلْمُهَاجِرِين َ مِنْ مَكَّةَ دِيَارَهُمْ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُمْ فِي قَوْلِهِ : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [ 59 \ 8 ] .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَكُونُ الْإِضَافَةُ لِلْيَدِ وَالسُّكْنَى ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [ 33 \ 33 ] .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ حَكَمَ بِمِلْكِهَا لِزَيْدٍ ، وَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ السُّكْنَى وَالْيَدَ ، لَمْ يُقْبَلْ .
وَنَظِيرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : مَا احْتُجَّ بِهِ أَيْضًا مِنَ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " الْحَدِيثَ . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " .
الثَّالِثُ : الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ : " أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ ، اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، دَارَ السِّجْنِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بِأَرْبَعِمِائَ ةٍ " ، وَفِي رِوَايَةٍ : " بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ " ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ .
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَالْبَيْهَقِيّ ُ : أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بَاعَ دَارَ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِائَةِ أَلْفٍ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : يَا أَبَا خَالِدٍ بِعْتَ مَأْثَرَةَ [ ص: 75 ] قُرَيْشٍ وَكَرِيمَتَهَا ، فَقَالَ : هَيْهَاتَ ذَهَبَتِ الْمَكَارِمُ فَلَا مَكْرُمَةَ الْيَوْمَ إِلَّا الْإِسْلَامُ ، فَقَالَ : اشْهَدُوا أَنَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ يَعْنِي الدَّرَاهِمَ الَّتِي بَاعَهَا بِهَا .
وَعَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي قُصَيًّا : [ الرَّجَزُ ]
وَاتَّخَذَ النَّدْوَةَ لَا يُخْتَرَعُ
فِي غَيْرِهَا أَمْرٌ وَلَا تُدَّرَعُ
جَارِيَةٌ أَوْ يُعْذَرُ الْغُلَامُ
إِلَّا بِأَمْرِهِ بِهَا يُرَامُ
وَبَاعَهَا بَعْدُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامْ
وَأَنَّبُوهُ وَتَصَدَّقَ الْهُمَامْ
سَيِّدُ نَادِيهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ
إِذِ الْعُلَى بِالدِّينِ لَا بِالدِّمَنِ
الرَّابِعُ : أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، فَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ أَهْلِهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ضَعْفَ هَذَا الْوَجْهِ .
الْخَامِسُ : الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ أَرْضٌ حَيَّةٌ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً ، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَرْضِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : بِأَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ لَا تُمَلَّكُ وَلَا تُبَاعُ بِأَدِلَّةٍ :
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي [ 22 \ 25 ] ، قَالُوا : وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ : جَمِيعُ الْحَرَمِ كُلِّهِ لِكَثْرَةِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ فِي النُّصُوصِ ، كَقَوْلِهِ : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [ 17 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [ 9 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ 5 \ 95 ] ، مَعَ أَنَّ الْمَنْحَرَ الْأَكْبَرَ مِنَ الْحَرَمِ " مِنًى " .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [ 27 \ 91 ] قَالُوا : وَالْمُحَرَّمُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَمِنْهَا : مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَكَّةُ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا ، وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا " .
وَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَكَّةُ حَرَامٌ ، وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا ، وَحَرَامٌ أَجْرُ بُيُوتِهَا " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (105)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (7)
صـ 76 إلى صـ 80
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَبْنِي لَكَ بَيْتًا أَوْ بِنَاءً يُظِلُّكَ مِنَ الشَّمْسِ ؟ قَالَ : " لَا ، إِنَّمَا هُوَ مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ " ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ .
وَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْكِنَانِيِّ ، قَالَ : كَانَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ تُدْعَى السَّوَائِبَ ، لَمْ تُبَعْ رِبَاعُهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا أَبِي بَكْرٍ ، وَلَا عُمَرَ ، مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ .
وَمِنْهَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ " .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " فِي الْجَنَائِزِ ، فِي " بَابِ الدَّفْنِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَغَيْرُهُمْ ، بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَذَكَرَ فِي الْبُيُوعِ ، فِي الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ .
وَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : كَانَ عَطَاءٌ يَنْهَى عَنِ الْكِرَاءِ فِي الْحَرَمِ ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، كَانَ يَنْهَى عَنْ تَبْوِيبِ دُورِ مَكَّةَ لِأَنْ يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِهَا ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَوَّبَ دَارَهُ ، سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : أَنْظِرْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا تَاجِرًا ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ بَابَيْنِ يَحْبِسَانِ لِي ظَهْرِي ، فَقَالَ : ذَلِكَ لَكَ إِذَنْ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا ، لِيَنْزِلِ الْبَادِي حَيْثُ يَشَاءُ . اهـ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ : إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ ، لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، كَمَا قَدَّمْنَا ، وَلِلْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ مَكَّةَ بَقِيَتْ لَهُمْ دِيَارُهُمْ بَعْدَ الْفَتْحِ يَفْعَلُونَ بِهَا مَا شَاءُوا مِنْ بَيْعٍ ، وَإِجَارَةٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَجَابَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ عَنْ أَدِلَّةِ الْمُخَالِفِينَ ; فَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ : [ ص: 77 ] سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي [ 22 \ 25 ] ، بِأَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِنَفْسِ الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِ : وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْآيَةَ [ 22 \ 25 ] ، وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [ 27 \ 91 ] ، بِأَنَّ الْمُرَادَ : حَرَّمَ صَيْدَهَا ، وَشَجَرَهَا ، وَخَلَاهَا ، وَالْقِتَالَ فِيهَا ، كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعَ كَثْرَتِهَا النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ دُورِهَا ، وَعَنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ : بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : هُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِ إِسْمَاعِيلَ ، وَأَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ . اهـ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى : إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ضَعِيفٌ ، وَأَبُوهُ غَيْرُ قَوِيٍّ ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَرُوِيَ عَنْهُ هَكَذَا ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا بِبَعْضِ مَعْنَاهُ ، وَعَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَاتِ مِنَ الْحَرَمِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ .
وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي حَنِيفَةَ : بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَضْعِيفُ إِسْنَادِهِ بِابْنِ أَبِي زِيَادٍ الْمَذْكُورِ فِيهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ عِنْدَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَقَالُوا : رَفْعُهُ وَهْمٌ ، قَالَهُ : الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ .
وَعَنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِجَوَابَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ .
الثَّانِي : مَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَغَيْرُهُمْ : أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ : الْإِخْبَارُ عَنْ عَادَتِهِمُ الْكَرِيمَةِ فِي إِسْكَانِهِمْ مَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ مِنْ بُيُوتِهِمْ بِالْإِعَارَةِ تَبَرُّعًا ، وَجُودًا .
وَقَدْ أَخْبَرَ مَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِشَأْنِ مَكَّةَ مِنْهُ عَنْ جَرَيَانِ الْإِرْثِ ، وَالْبَيْعِ فِيهَا .
وَعَنْ حَدِيثِ " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " ، بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَوَاتِهَا ، وَمَوَاضِعِ نُزُولِ الْحَجِيجِ مِنْهَا ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ اهـ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لِحَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، وَحَدِيثِ [ ص: 78 ] عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ تَعَقَّبَهُ عَلَيْهِ مُحَشِّيهِ صَاحِبُ " الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ " ، بِمَا نَصُّهُ : " ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا فِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، فَضَعَّفَ إِسْمَاعِيلَ ، وَقَالَ عَنْ أَبِيهِ غَيْرُ قَوِيٍّ ، ثُمَّ أَسْنَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، ثُمَّ قَالَ : رَفْعُهُ وَهْمٌ ، وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ ، قُلْتُ : أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ ، ثُمَّ صَحَّحَ الْأَوَّلَ ، وَجَعَلَ الثَّانِيَ شَاهِدًا عَلَيْهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي آخِرِهِ حَدِيثًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا مُنْقَطِعٌ .
قُلْتُ : هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ وَغَيْرُهُ ، وَعَلْقَمَةُ هَذَا صَحَابِيٌّ ، كَذَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ ، وَإِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ ، كَانَ مَرْفُوعًا عَلَى مَا عُرِفَ بِهِ ، وَفِيهِ تَصْرِيحُ عُثْمَانَ بِالسَّمَاعِ عَنْ عَلْقَمَةَ ، فَمِنْ أَيْنَ الِانْقِطَاعُ ؟ اهـ كَلَامُ صَاحِبِ " الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ " .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَخْفَى سُقُوطُ اعْتِرَاضِ ابْنِ التُّرْكُمَانِي ِّ هَذَا عَلَى الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ ، فِي تَضْعِيفِهِ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ : فَلِأَنَّ تَصْحِيحَ الْحَاكِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ لَا يُصَيِّرُهُ صَحِيحًا .
وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَتَسَاهُلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرِ بْنِ جَابِرٍ الْبَجَلِيُّ قَدْ يَكُونُ لِلْمُنَاقَشَةِ فِي تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ بِهِ وَجْهٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ وَثَّقَهُ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ .
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ ، فِي " التَّقْرِيبِ " : " صَدُوقٌ لَيِّنُ الْحِفْظِ " ، أَمَّا ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّهُ ضَعِيفٌ ، وَتَضْعِيفُ الْحَدِيثِ بِهِ ظَاهِرٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ .
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : ضَعِيفٌ ، فَتَصْحِيحُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا وَجْهَ لَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي اعْتِرَاضِهِ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لِحَدِيثِ الثَّانِي ، فَمِنْ أَيْنَ الِانْقِطَاعُ - فَجَوَابُهُ : أَنَّ الِانْقِطَاعَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ نَضْلَةَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ ، وَزَعْمُ الشَّيْخِ ابْنِ التُّرْكُمَانِي ِّ ، أَنَّهُ صَحَابِيٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ - بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ - الْمَكِّيُّ كِنَانِيٌّ .
وَقِيلَ : كِنْدِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَقْبُولٌ ، أَخْطَأَ مَنْ عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ ، وَإِذَنْ فَوَجْهُ انْقِطَاعِهِ ظَاهِرٌ ، فَظَهَرَ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ ، وَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي تَضْعِيفِ [ ص: 79 ] الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ تَوَرَّعَ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِ مَكَّةَ ، وَإِيجَارِهَا خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ ، أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ ; لِأَنَّ مَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ .
تَنْبِيهٌ
أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ النُّسُكِ مِنَ الْحَرَمِ كَمَوْضِعِ السَّعْيِ ، وَمَوْضِعِ رَمْيِ الْجِمَارِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسَاجِدِ ، وَالْمُسْلِمُون َ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِيهَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْحَجِيجُ مِنْ مِنًى ، وَمُزْدَلِفَةَ كَذَلِكَ ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَيِّقَهُمَا بِالْبِنَاءِ الْمَمْلُوكِ حَتَّى تَضِيقَا بِالْحَجِيجِ ، وَيَبْقَى بَعْضُهُمْ لَمْ يَجِدْ مَنْزِلًا ; لِأَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ ، وَبِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ .
فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَيِّقَ مَحَلِّ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى لَا يَبْقَى مَا يَسَعُ الْحَجِيجَ كُلَّهُ ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ : " مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ " كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ فِيمَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ ، وَسَنَذْكُرُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ، وَأَدِلَّتَهُمْ ، وَمَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ .
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، كَمَا أَشَرْنَا لَهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَوَعَدْنَا بِإِيضَاحِهِ هُنَا ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ; لِأَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ الْمُوجِفِينَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، هَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ ، وَعَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهَا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ .
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ أَخْمَاسَ الْخُمُسِ الْأَرْبَعَةِ ، غَيْرُ خُمُسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَصَارِفَ مُعَيَّنَةٍ فِي قَوْلِهِ : وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ الْبَاقِيَةِ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ .
وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَنِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُنَفِّلُ إِلَّا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ، وَدَلِيلُهُ : مَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " : وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ ص: 80 ]
وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . أَنَّ لِلْإِمَامِ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ ، أَوِ الثُّلُثَ ، أَوْ أَكْثَرَ ، أَوْ أَقَلَّ بَعْدَ الْخُمُسِ ، وَبَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّنْفِيلُ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا جُمْلَةَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَنَحْنُ الْآنُ نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ .
اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّ التَّنْفِيلَ الَّذِي اقْتَضَى الدَّلِيلُ جَوَازَهُ أَقْسَامٌ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ : إِنْ غَنِمْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ شَيْئًا ، فَلَكُمْ مِنْهُ كَذَا بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ ، فَهَذَا جَائِزٌ ، وَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَهُمْ فِي حَالَةِ إِقْبَالِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفَّارِ الرُّبُعَ ، وَفِي حَالَةِ رُجُوعِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَوْطَانِهِمُ الثُّلُثَ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ .
وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ : إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إِفْسَادِ نِيَّاتِ الْمُجَاهِدِينَ ; لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُقَاتِلِينَ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ الَّذِي وَعَدَهُمُ الْإِمَامُ تَنْفِيلَهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازٍ ذَلِكَ : مَا رَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ مَالِكٍ الْقُرَشِيُّ الْفِهْرِيُّ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ ، وَنَفَّلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ " ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَابْنُ الْجَارُودِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي حَبِيبٍ الْمَذْكُورِ : أَنَّهُ صَحَابِيٌّ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ ، وَالرَّاجِحُ ثُبُوتُهَا لَكِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي " الصَّحِيحِ " ، فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (106)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (8)
صـ 81 إلى صـ 85
وقد روى عنه أبو داود هذا الحديث من ثلاثة أوجه :
منها : عن مكحول بن عبد الله الشامي ، قال : كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل ، فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه ، فيما أرى ، ثم أتيت الحجاز ، فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى ، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى ، ثم أتيت الشام فغربلتها ، كل ذلك : أسأل عن النفل فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشيء ، حتى لقيت شيخا يقال له : زياد بن [ ص: 81 ] جارية التميمي ، فقلت له : هل سمعت في النفل شيئا ؟ قال : نعم ، سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة اهـ .
وقد علمت أن الصحيح أنه صحابي ، وقد صرح في هذه الرواية بأنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع إلى آخر الحديث .
ومما يدل على ذلك أيضا : ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع ، وفي الرجعة الثلث " أخرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وصححه ابن حبان .
وفي رواية عند الإمام أحمد : كان إذا غاب في أرض العدو نفل الربع ، وإذا أقبل راجعا وكل الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ، ويقول : ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم .
وهذه النصوص تدل على ثبوت التنفيل من غير الخمس .
ويدل لذلك أيضا : ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن معن بن يزيد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا نفل إلا بعد الخمس " ، قال الشوكاني : في " نيل الأوطار " : هذا الحديث صححه الطحاوي اهـ .
والفرق بين البدأة والرجعة : أن المسلمين في البدأة : متوجهون إلى بلاد العدو ، والعدو في غفلة ، وأما في الرجعة : فالمسلمون راجعون إلى أوطانهم من أرض العدو ، والعدو في حذر ويقظة ، وبين الأمرين فرق ظاهر .
والأحاديث المذكورة تدل على أن السرية من العسكر إذا خرجت ، فغنمت ، أن سائر الجيش شركاؤهم ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، كما قاله القرطبي .
الثاني : من الأقسام التي اقتضى الدليل جوازها : تنفيل بعض الجيش ، لشدة بأسه ، وعنائه ، وتحمله ما لم يتحمله غيره ، والدليل على ذلك ما ثبت في " صحيح مسلم " ، ورواه الإمام أحمد ، وأبو داود عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، في قصة إغارة عبد الرحمن الفزاري ، على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستنقاذه منه ، قال سلمة : فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير فرساننا اليوم ، أبو قتادة ، وخير رجالتنا سلمة " ، قال : ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين : سهم الفارس ، وسهم الراجل فجمعهما لي [ ص: 82 ] جميعا ، الحديث . هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث طويل .
وقد قدمنا أن هذه غزوة " ذي قرد " في سورة " النساء " ، ويدل لهذا أيضا : حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في أول السورة ، فإن فيه : أن سعدا رضي الله عنه قال : لعله يعطي هذا السيف لرجل لم يبل بلائي ، ثم أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه لحسن بلائه وقتله صاحب السيف كما تقدم .
الثالث : من أقسام التنفيل التي اقتضى الدليل جوازها : أن يقول الإمام : " من قتل قتيلا فله سلبه " .
ومن الأدلة على ذلك : ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، قال : فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب ، فقال : ما للناس ؟ فقلت : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه " ، قال : فقمت ، ثم قلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك ، قال : فقمت ، فقلت : من يشهد لي ؟ ، ثم جلست ، ثم قال ذلك الثالثة ، فقمت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لك يا أبا قتادة ؟ " فقصصت عليه القصة ، فقال رجل من القوم ، صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي ; فأرضه من حقه ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لا ها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله ، فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق فأعطه إياه " ، فأعطاني ، قال : فبعت الدرع فابتعت بها مخرفا في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام . والأحاديث بذلك كثيرة .
وروى أبو داود ، وأحمد ، عن أنس : أن أبا طلحة يوم حنين قتل عشرين رجلا ، وأخذ أسلابهم ، وفي رواية عنه عند أحمد ، أحدا وعشرين ، وذكر أصحاب المغازي : أن أبا طلحة قال في قتله من ذكر : [ الرجز ]
أنا أبو طلحة واسمي زيد
وكل يوم في سلاحي صيد
والحق أنه لا يشترط في ذلك أن يكون في مبارزة ، ولا أن يكون الكافر المقتول [ ص: 83 ] مقبلا .
أما الدليل على عدم اشتراط المبارزة : فحديث أبي قتادة هذا المتفق عليه .
وأما الدليل على عدم اشتراط كونه قتله مقبلا إليه : فحديث سلمة بن الأكوع ، قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن ، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ، ثم انتزع طلقا من حقوه فقيد به الجمل ، ثم تقدم يتغدى مع القوم ، وجعل ينظر ، وفينا ضعفة ورقة في الظهر ، وبعضنا مشاة إذ خرج يشتد فأتى جمله ، فأطلق قيده ثم أناخه ، وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل ، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء ، قال سلمة : وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة ، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته ، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي ، فضربت به رأس الرجل فندر ، ثم جئت بالجمل أقوده وعليه رحله وسلاحه ، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس معه ، فقال : " من قتل الرجل ؟ " ، قالوا : ابن الأكوع ، قال : " له سلبه أجمع " ، متفق عليه ، واللفظ المذكور لمسلم في " كتاب الجهاد والسير " في باب : " استحقاق القاتل سلب القتيل " ، وأخرجه البخاري بمعناه " في كتاب الجهاد " في باب : " الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان " وهو صريح في عدم اشتراط المبارزة ، وعدم اشتراط قتله مقبلا لا مدبرا كما ترى .
ولا يستحق القاتل سلب المقتول ، إلا أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتالهم .
فأما إن قتل امرأة ، أو صبيا ، أو شيخا فانيا ، أو ضعيفا مهينا ، أو مثخنا بالجراح لم تبق فيه منفعة ، فليس له سلبه .
ولا خلاف بين العلماء : في أن من قتل صبيا ، أو امرأة ، أو شيخا فانيا ، لا يستحق سلبهم ، إلا قولا ضعيفا جدا يروى عن أبي ثور ، وابن المنذر : في استحقاق سلب المرأة .
والدليل على أن من قتل مثخنا بالجراح لا يستحق سلبه ، أن عبد الله بن مسعود ، هو الذي ذفف على أبي جهل يوم بدر ، وحز رأسه ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح الذي أثبته ، ولم يعط ابن مسعود شيئا .
وهذا هو الحق الذي جاء به الحديث المتفق عليه ، فلا يعارض بما رواه الإمام [ ص: 84 ] أحمد ، وأبو داود عن ابن مسعود : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفله سيف أبي جهل يوم بدر " ; لأنه من رواية ابنه أبي عبيدة ، ولم يسمع منه ، وكذلك المقدم للقتل صبرا لا يستحق قاتله سلبه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بقتل النضر بن الحارث العبدري ، وعقبة بن أبي معيط الأموي صبرا يوم بدر ولم يعط من قتلهما شيئا من سلبهما .
واختلفوا فيمن أسر أسيرا : هل يستحق سلبه إلحاقا للأسر بالقتل أو لا ؟ والظاهر أنه لا يستحقه ، لعدم الدليل ، فيجب استصحاب عموم واعلموا أنما غنمتم الآية ، حتى يرد مخصص من كتاب أو سنة صحيحة ، وقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، أسارى بدر ، وقتل بعضهم صبرا كما ذكرنا ، ولم يعط أحدا من الذين أسروهم شيئا من أسلابهم ، ولا من فدائهم بل جعل فداءهم غنيمة .
أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي المسلمين : فالظاهر أن لمن قتل أحدهما سلبه ; لأنه حينئذ ممن يجوز قتله ، فيدخل في عموم " من قتل قتيلا " الحديث ، وبهذا جزم غير واحد ، والعلم عند الله تعالى .
واعلم أن العلماء اختلفوا في استحقاق القاتل السلب ، هل يشترط فيه قول الإمام : " من قتل قتيلا فله سلبه " أو يستحقه مطلقا ، قال الإمام ذلك أو لم يقله ؟
وممن قال بهذا الأخير : الإمام أحمد ، والشافعي ، والأوزاعي ، والليث ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، والطبري ، وابن المنذر .
وممن قال بالأول : الذي هو أنه لا يستحقه إلا بقول الإمام : " من قتل قتيلا " إلخ ، الإمام أبو حنيفة ، ومالك ، والثوري .
وقد قدمنا عن مالك وأصحابه : أن قول الإمام ذلك : لا يجوز قبل القتال ، لئلا يؤدي إلى فساد النية ، ولكن بعد وقوع الواقع ، يقول الإمام : من قتل قتيلا . . . إلخ .
واحتج من قال : باستحقاق القاتل سلب المقتول مطلقا بعموم الأدلة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن من قتل قتيلا فله سلبه ، ولم يخصص بشيء ، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، كما علم في الأصول .
واحتج مالك ، وأبو حنيفة ، ومن وافقهما بأدلة :
منها : قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن الأكوع ، المتفق عليه السابق ذكره ، له سلبه [ ص: 85 ] أجمع ، قالوا : فلو كان السلب مستحقا له بمجرد قتله لما احتاج إلى تكرير هذا القول .
ومنها : حديث عبد الرحمن بن عوف ، المتفق عليه في قصة قتل معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء الأنصاريين لأبي جهل يوم بدر ، فإن فيه : " ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه ، فقال : " أيكما قتله ؟ ! " ، فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، فقال : " هل مسحتما سيفيكما ؟ " قالا : لا ، فنظر في السيفين ، فقال : " كلاكما قتله " ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح اهـ .
قالوا : فتصريحه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، المتفق عليه ، بأن كليهما قتله ، ثم تخصيص أحدهما بسلبه ، دون الآخر ، صريح في أن القاتل لا يستحق السلب ، إلا بقول الإمام : إنه له ، إذ لو كان استحقاقه له بمجرد القتل لما كان لمنع معاذ بن عفراء وجه ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قتله مع معاذ بن عمرو ، ولجعله بينهما .
ومنها : ما رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، عن عوف بن مالك قال : قتل رجل من حمير ، رجلا من العدو ، فأراد سلبه ، فمنعه خالد بن الوليد ، وكان واليا عليهم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عوف بن مالك فأخبره . فقال لخالد : " ما منعك أن تعطيه سلبه ؟ " ، قال : استكثرته يا رسول الله ، قال : " ادفعه إليه " ، فمر خالد بعوف فجر بردائه ، ثم قال : هل أنجزت ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فاستغضب ، فقال : لا تعطه يا خالد ، لا تعطه يا خالد ، هل أنتم تاركون لي أمرائي ، إنما مثلكم ومثلهم ، كمثل رجل استرعى إبلا ، أو غنما فرعاها ، ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه ، فشربت صفوه ، وتركت كدره ، فصفوه لكم وكدره عليهم .
وفي رواية عند مسلم أيضا : عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة ، في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من اليمن ، وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، غير أنه قال في الحديث : قال عوف بن مالك : فقلت : يا خالد ، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ، قال بلى ، ولكني استكثرته ، هذا لفظ مسلم في صحيحه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (107)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (9)
صـ 86 إلى صـ 90
وفي رواية عن عوف أيضا ، عند الإمام أحمد وأبي داود قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من أهل اليمن ، ومضينا فلقينا جموع الروم ، وفيهم رجل على فرس له ، أشقر ، عليه سرج مذهب ، وسلاح مذهب ، فجعل الرومي يفري في [ ص: 86 ] المسلمين ، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه ، فخر وعلاه فقتله . وحاز فرسه وسلاحه ، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد ، فأخذ السلب ، قال عوف : فأتيته ، فقلت : يا خالد ، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ، قال : بلى ، ولكن استكثرته ، قلت : لتردنه إليه ، أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يرد عليه ، قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقصصت عليه قصة المددي ، وما فعل خالد ، وذكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم اهـ .
فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح : " لا تعطه يا خالد " دليل على أنه لم يستحق السلب بمجرد القتل ، إذ لو استحقه به ، لما منعه منه النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنها : ما ذكره ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن الأسود بن قيس ، عن بشر بن علقمة ، قال : بارزت رجلا يوم القادسية ، فقتلته ، وأخذت سلبه ، فأتيت سعدا ، فخطب سعد أصحابه ، ثم قال : هذا سلب بشر بن علقمة فهو خير من اثني عشر ألف درهم ، وإنا قد نفلناه إياه .
فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أضاف الأمراء ذلك التنفيل إلى أنفسهم باجتهادهم ، ولأخذه القاتل دون أمرهم ، قاله القرطبي .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر القولين عندي دليلا ، أن القاتل لا يستحق السلب إلا بإعطاء الإمام ; لهذه الأدلة الصحيحة ، التي ذكرنا فإن قيل : هي شاهدة لقول إسحاق : إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل ، وإن كان كثيرا خمس .
فالجواب : أن ظاهرها العموم مع أن سلب أبي جهل لم يكن فيه كثرة زائدة ، وقد منع منه النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء .
تنبيه
جعل بعض العلماء منشأ الخلاف في سلب القاتل ، هل يحتاج إلى تنفيذ الإمام أو لا ؟ هو الاختلاف في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا " الحديث ، هل هو حكم ؟ وعليه فلا يعم بل يحتاج دائما إلى تنفيذ الإمام ، أو هو فتوى ؟ فيكون حكما عاما غير محتاج إلى تنفيذ الإمام .
قال صاحب " نشر البنود شرح مراقي السعود " في شرح قوله : [ الرجز ]
[ ص: 87 ]
وسائر حكاية الفعل بما
منه العموم ظاهرا قد علما
ما نصه : تنبيه : حكى ابن رشيد خلافا بين العلماء ، في قوله صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سلبه " ، هل يحتاج سلب القتيل إلى تنفيذ الإمام ، بناء على أن الحديث حكم فلا يعم ، أو لا يحتاج إليه بناء على أنه فتوى ؟ وكذا قوله لهند : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فيه خلاف ، هل هو حكم فلا يعم ، أو فتوى فيعم .
قال ميارة في " التكميل " : [ الرجز ]
وفي حديث هند الخلاف : هل
حكم يخصها أو افتاء شمل
واعلم أن العلماء اختلفوا في السلب ، هل يخمس أو لا ؟ على ثلاثة أقوال :
الأول : لا يخمس .
الثاني : يخمس .
الثالث : إن كان كثيرا خمس ، وإلا فلا .
وممن قال : إنه لا يخمس : الشافعي ، وأحمد ، وابن المنذر ، وابن جرير ، ويروى عن سعد بن أبي وقاص .
وممن روي عنه أنه يخمس : ابن عباس ، والأوزاعي ، ومكحول .
وممن فرق بين القليل والكثير : إسحاق ، واحتج من قال : لا يخمس بما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن حبان ، والطبراني ، عن عوف بن مالك ، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما ; أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب .
وقال القرطبي في " تفسيره " ، بعد أن ساق حديث عوف بن مالك الذي قدمنا عند مسلم ما نصه : " وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده ، الذي أخرجه به مسلم ، وزاد بيانا أن عوف بن مالك ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب " اهـ .
وقال ابن حجر في " التلخيص " في حديث خالد وعوف المتقدم ، ما لفظه : " وهو ثابت في " صحيح مسلم " في حديث طويل فيه قصة لعوف مع خالد بن الوليد ، وتعقبه الشوكاني في " نيل الأوطار " بما نصه : وفيه نظر ؛ فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم ، بل الذي فيه هو ما سيأتي قريبا ، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش ، وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مرارا " ، اهـ .
[ ص: 88 ] قال مقيده عفا الله عنه : وقد قدمنا حديث عوف المذكور بلفظ مسلم في صحيحه ، وليس فيه ما ذكره الحافظ بن حجر ، فهو وهم منه ، كما نبه عليه الشوكاني رحمهما الله تعالى .
والتحقيق في إسماعيل بن عياش أن روايته عن غير الشاميين ضعيفة ، وهو قوي في الشاميين ، دون غيرهم .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الحديث من رواية إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك ، وإسماعيل ، وشيخه في هذا الحديث ، الذي هو صفوان بن عمرو ، كلاهما حمصي ، فهو بلدي له :
وبه تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور ، مع قوة شاهده ، الذي قدمنا عن أبي بكر البرقاني ، بسند على شرط مسلم .
واحتج من قال بأن السلب يخمس : بعموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية .
واحتج من قال : يخمس الكثير دون اليسير : بما رواه أنس ، عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل ، إلا رجلا مبارزة ، وأنهم لما غزوا الزارة ، خرج دهقان الزارة ، فقال : رجل ورجل ، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ، ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده ، ثم أخذ السيف فذبحه ، وأخذ سلاحه ومنطقته ، وأتى به عمر ، فنفله السلاح ، وقوم المنطقة بثلاثين ألفا ، فخمسها ، وقال : إنها مال . اهـ بنقل القرطبي .
وقال قبل هذا : وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك ، حين بارز " المرزبان " فقتله ، فكانت قيمة منطقته ، وسواريه ثلاثين ألفا ، فخمس ذلك اهـ .
وقال ابن قدامة في " المغني " : وقال إسحاق : إن استكثر الإمام السلب ، فذلك إليه ، لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز " مرزبان " الزارة بالبحرين فطعنه ، فدق صلبه ، وأخذ سواريه ، وسلبه ، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره ، فقال : إنا كنا لا نخمس السلب ، وإن سلب البراء قد بلغ مالا ، وأنا خامسه ، فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء ، رواه سعيد في السنن .
وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا .
[ ص: 89 ] قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلا عندي أن السلب لا يخمس لحديث عوف وخالد المتقدم ، ويجاب عن أخذ الخمس من سلب البراء بن مالك ، بأن الذي تدل عليه القصة أن السلب لا يخمس ; لأن قول عمر : إنا كنا لا نخمس السلب ، وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام : يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ، وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا ، واتباع ذلك أولى .
قال الجوزجاني : لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء إلا اتباعه ، ولا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن قدامة في " المغني " ، والأدلة التي ذكرنا يخصص بها عموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم الآية [ 8 \ 41 ] .
واختلف العلماء فيما إذا ادعى أنه قتله ، ولم يقم على ذلك بينة ، فقال الأوزاعي : يعطاه بمجرد دعواه ، وجمهور العلماء على أنه لا بد من بينة على أنه قتله ، قال مقيده عفا الله عنه : لا ينبغي أن يختلف في اشتراط البينة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " من قتل قتيلا له عليه بينة " الحديث ، فهو يدل بإيضاح على أنه لا بد من البينة ، فإن قيل : فأين البينة التي أعطى بها النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله السابق ذكره .
فالجواب من وجهين : الأول : ما ذكره القرطبي في " تفسيره " ، قال : سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم ، يقول : إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأسود بن خزاعي ، وعبد الله بن أنيس ، وعلى هذا يندفع النزاع ، ويزول الإشكال ، ويطرد الحكم . اهـ .
الثاني : أنه أعطاه إياه بشهادة الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق ، سلب ذلك القتيل عندي " ، الحديث ، فإن قوله " صدق " شهادة صريحة لأبي قتادة أنه هو الذي قتله ، والاكتفاء بواحد في باب الخبر ، والأمور التي لم يقع فيها ترافع قال به كثير من العلماء ، وعقده ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله : [ الرجز ]
وواحد يجزئ في باب الخبر
واثنان أولى عند كل ذي نظر
وقال القرطبي في " تفسيره " :
إن أكثر العلماء على إجزاء شهادة واحد ، وقيل : يثبت ذلك بشاهد ويمين ، والله أعلم .
وأما على قول من قال : إن السلب موكول إلى نظر الإمام ، فللإمام أن يعطيه إياه ، [ ص: 90 ] ولو لم تقم بينة ، وإن اشترطها فذلك له ، قاله القرطبي ، والظاهر عندي أنه لا بد من بينة لورود النص الصحيح بذلك .
واختلف العلماء في السلب ما هو ؟
قال مقيده عفا الله عنه : لهذه المسألة طرفان ، وواسطة :
طرف أجمع العلماء على أنه من السلب : وهو سلاحه ، كسيفه ، ودرعه ، ونحو ذلك ، وكذلك ثيابه .
وطرف أجمع العلماء على أنه ليس من السلب : وهو ما لو وجد في هميانه ، أو منطقته دنانير . أو جواهر ، أو نحو ذلك .
وواسطة اختلف العلماء فيها : منها فرسه الذي مات وهو يقاتل عليه ، ففيه للعلماء قولان : وهما روايتان عن الإمام أحمد ، أصحهما أنه منه ، ومنها ما يتزين به للحرب ، فقال الأوزاعي : ذلك كله من السلب ، وقالت : فرقة ليس منه ، وهذا مروي عن سحنون إلا المنطقة ، فإنها عنده من السلب ، وقال ابن حبيب في الواضحة ، والسواران من السلب ، والله أعلم .
واعلم أن حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد ، وفيهم ابن عمر ، وأن سهمانهم بلغت اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا - دليل واضح على بطلان قول من قال : " لا تنفيل إلا من خمس الخمس " ; لأن الحديث صريح في أنه نفلهم نصف السدس .
ولا شك أن نصف السدس أكثر من خمس الخمس ، فكيف يصح تنفيل الأكثر من الأقل ، وهو واضح كما ترى ، وأما غير ذلك من الأقوال ، فالحديث محتمل له .
والذي يسبق إلى الذهن ، أن ما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر بلفظ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش ، والخمس في ذلك واجب كله اهـ .
يدل على أن ذلك التنفيل من الغنيمة بعد إخراج الخمس ، وهو ما دل عليه حديث حبيب بن سلمة المتقدم ، وهو الظاهر المتبادر خلافا لما قاله ابن حجر في " الفتح " من أنه محتمل لكل الأقوال المذكورة ، والله تعالى أعلم . \
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (108)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (10)
صـ 91 إلى صـ 95
[ ص: 91 ] المسألة السادسة : الحق الذي لا شك فيه أن الفارس يعطى من الغنيمة ثلاثة أسهم : سهمان لفرسه ، وسهم لنفسه ، وأن الراجل يعطى سهما واحدا ، والنصوص الصحيحة مصرحة بذلك ، فمن ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه ، ولفظ البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : جعل للفرس سهمين ، ولصاحبه سهما " .
ولفظ مسلم ، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين ، وللرجل سهما " اهـ .
وأكثر الروايات بلفظ : " وللرجل " ، فرواية الشيخين صريحة فيما ذكرنا ، وبذلك فسره راويه نافع ، قال البخاري في " صحيحه " في غزوة خيبر : قال : فسره نافع ، فقال : إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم ، فإن لم يكن له فرس فله سهم اهـ . وذلك هو معناه الذي لا يحتمل غيره في رواية الصحيحين المذكورة .
ومنها ما رواه أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهما له ، وسهمين لفرسه " .
حدثنا أحمد بن حنبل ، ثنا أبو معاوية ، ثنا عبد الله بن يزيد ، حدثني المسعودي ، حدثني أبو عمرة عن أبيه ، قال : " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ، ومعنا فرس ، فأعطى كل واحد منا سهما ، وأعطى الفرس سهمين " .
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، وعمر بن عبد العزيز ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث ، وحسين بن ثابت ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وابن جرير ، وأبي ثور .
وخالف أبو حنيفة - رحمه الله - الجمهور ، فقال : للفارس سهمان ، وللراجل سهم ; محتجا بما جاء في بعض الروايات : " أنه صلى الله عليه وسلم ، قسم يوم خيبر للفارس سهمين ، وللراجل سهما " رواه أبو داود من حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه ، وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن ، ويجاب عنه من وجهين :
الأول : أن المراد بسهمي الفارس خصوص السهمين اللذين استحقهما بفرسه ، كما يشعر به لفظ الفارس .
[ ص: 92 ] الثاني : أن النصوص المتقدمة أصح منه ، وأولى بالتقديم ، وقد قال أبو داود : حديث أبي معاوية أصح ، والعمل عليه ، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال : ثلاثمائة فارس ، وكانوا مائتي فارس اهـ .
وقال النووي في " شرح مسلم " : لم يقل بقول أبي حنيفة هذا أحد ، إلا ما روي عن علي ، وأبي موسى اهـ .
وإن كان عند بعض الغزاة خيل فلا يسهم إلا لفرس واحد ، وهذا مذهب الجمهور منهم مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والحسن ، ومحمد بن الحسن ، وغيرهم .
واحتجوا بأنه لا يمكنه أن يقاتل إلا على فرس واحد ، وقال الأوزاعي والثوري ، والليث ، وأبو يوسف : يسهم لفرسين دون ما زاد عليهما ، وهو مذهب الإمام أحمد ، ويروى عن الحسن ، ومكحول ، ويحيى الأنصاري ، وابن وهب ، وغيره من المالكيين .
واحتج أهل هذا القول بما روي عن الأوزاعي : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل ، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس " ، وبما روي عن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح ، أن يسهم للفرس من سهمين ، وللفرسين أربعة أسهم ، ولصاحبهما سهم ، فذلك خمسة أسهم ، وما كان فوق الفرسين فهي جنائب ، رواهما سعيد بن منصور ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
واحتجوا أيضا بأنه محتاج إلى الفرس الثاني ; لأن إدامة ركوب واحد تضعفه ، وتمنع القتال عليه فيسهم للثاني ; لأنه محتاج إليه كالأول ، بخلاف الثالث فإنه مستغن عنه ، ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين ، إلا شيئا روي عن سليمان بن موسى ، قاله النووي في " شرح مسلم " ، وغيره .
واختلف العلماء في البراذين والهجن على أربعة أقوال :
الأول : أنها يسهم لها كسهم الخيل العراب ، وممن قال به مالك ، والشافعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والثوري ، ونسبه الزرقاني في " شرح الموطأ " للجمهور ، واختاره الخلال ، وقال : رواه ثلاثة متيقظون عن أحمد ، وحجة هذا القول ما ذكره مالك في الموطأ ، قال : لا أرى البراذين والهجن ، إلا من الخيل ; لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ 16 \ 8 ] .
وقال عز وجل : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [ 8 \ 60 ] [ ص: 93 ] فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل إذا أجازها الوالي .
وقد قال سعيد بن المسيب ، وسئل عن البراذين : هل فيها من صدقة ؟ قال : وهل في الخيل من صدقة ؟ اهـ .
وحاصل هذا الاستدلال أن اسم الخيل في الآيتين المذكورتين يشمل البراذين والهجن فهما داخلان في عمومه ; لأنهما ليسا في البغال ولا الحمير بل من الخيل .
القول الثاني : أنه يسهم للبرذون والهجين سهم واحد قدر نصف سهم الفرس ، واحتج أهل هذا القول بما رواه الشافعي في " الأم " وسعيد بن منصور من طريق علي بن الأقمر الوادعي ، قال : أغارت الخيل فأدركت العراب ، وتأخرت البراذين ، فقام ابن المنذر الوادعي ، فقال : لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك ، فبلغ ذلك عمر فقال : هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به ! أمضوها على ما قال ، فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب ، وفي ذلك يقول شاعرهم : [ الطويل ]
ومنا الذي قد سن في الخيل سنة وكانت سواء قبل ذاك سهامها
وهذا منقطع كما ترى .
واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود في المراسيل ، وسعيد بن منصور ، عن مكحول : " أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر ، وعرب العربي ، فجعل للعربي سهمين ، وللهجين سهما " ، وهو منقطع أيضا كما ترى ، وبه أخذ الإمام أحمد في أشهر الروايات عنه .
واحتجوا أيضا بأن أثر الخيل العراب في الحرب أفضل من أثر البراذين وذلك يقتضي تفضيلها عليها في السهام .
القول الثالث : التفصيل بين ما يدرك من البراذين إدراك العراب ، فيسهم له كسهامها ، وبين ما لا يدرك إدراكها فلا يسهم له ، وبه قال ابن أبي شيبة ، وابن أبي خيثمة ، وأبو أيوب ، والجوزجاني .
ووجهه أنها من الخيل ، وقد عملت عملها فوجب جعلها منها .
القول الرابع : لا يسهم لها مطلقا ، وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي ووجهه أنها حيوان لا يعمل عمل الخيل فأشبه البغال .
قال ابن قدامة في " المغني " : ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق [ ص: 94 ] منها ، لما روى الجوزجاني بإسناده عن أبي موسى ، أنه كتب إلى عمر بن الخطاب : إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكنا ، فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها ، فكتب إليه : تلك البراذين فما قارب العتاق منها ، فاجعل له سهما واحدا ، وألغ ما سوى ذلك . اهـ .
والبراذين : جمع برذون ، بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة ، والمراد : الجفاة الخلقة من الخيل ، وأكثر ما تجلب من بلاد الروم ، ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية .
والهجين : هو ما أحد أبويه عربي ، وقيل : هو الذي أبوه عربي ، وأما الذي أمه عربية فيسمى المقرف ، وعن أحمد : الهجين البرذون ، ويحتمل أنه أراد في الحكم .
ومن إطلاق الإقراف على كون الأم عربية قول هند بنت النعمان بن بشير : [ الطويل ]
وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت مهرا كريما فبالحرى وإن يك إقراف فما أنجب الفحل
وقول جرير : [ الوافر ]
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب واختلف العلماء فيمن غزا على بعير ، هل يسهم لبعيره ؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يسهم للإبل ، قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل ، كذلك قال الحسن ، ومكحول ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة .
قال ابن قدامة في " المغني " : وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم " بدر " سبعون بعيرا ، ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل ، هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها ، ولو أسهم لها لنقل ، وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير ، ولو أسهم لبعير لم يخف ذلك ، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر ، فلم يسهم له كالبغل والحمار ، اهـ .
وقال الإمام أحمد : من غزا على بعير ، وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان ، وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع إمكان الغزو على فرس ، وعن أحمد : أنه يسهم [ ص: 95 ] للبعير سهم ، ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره ، وحكي نحو هذا عن الحسن ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
واحتج أهل هذا القول بقوله تعالى : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب [ 59 \ 6 ] ، قالوا : فذكر الركاب وهي الإبل مع الخيل ، وبأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس ; لأن تجويز المسابقة بعوض إنما هو في ثلاثة أشياء ، هي : النصل ، والخف ، والحافر ، دون غيرها ; لأنها آلات الجهاد ، فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها ، تحريضا على رياضتها ، وتعلم الإتقان فيها .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي - والله أعلم - أنه لا يسهم للإبل لما قدمنا آنفا ، وأما غير الخيل والإبل ، من البغال والحمير والفيلة ونحوها ، فلا يسهم لشيء منه ، وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل .
قال ابن قدامة : ولا خلاف في ذلك ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقسم لشيء من ذلك ، ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (109)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (11)
صـ 96 إلى صـ 100
المسألة السابعة : اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة ، والمراد بالغال من يكتم شيئا من الغنيمة ، فلا يطلع عليه الإمام ، ولا يضعه مع الغنيمة .
قال بعض العلماء : يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وبه قال الحسن وفقهاء الشام ، منهم مكحول ، والأوزاعي ، والوليد بن هشام ، ويزيد بن يزيد بن جابر ، وأتى سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه ، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه .
وقال يزيد بن يزيد بن جابر : السنة في الذي يغل أن يحرق رحله ، رواهما سعيد في سنته ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
ومن حجج أهل هذا القول : ما رواه أبو داود في سننه ، عن صالح بن محمد بن زائدة قال أبو داود وصالح هذا أبو واقد قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم ، فأتى برجل قد غل ، فسأل سالما عنه فقال : سمعت أبي يحدث ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه " ، قال : فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه ، فقال : بعه وتصدق بثمنه . اهـ بلفظه من أبي داود .
وذكر ابن قدامة أنه رواه أيضا الأثرم ، وسعيد ، وقال أبو داود أيضا : حدثنا أبو صالح [ ص: 96 ] محبوب بن موسى الأنطاكي ، قال : أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد ، قال : غزونا مع الوليد بن هشام ، ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، فغل رجل متاعا ، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ، ولم يعطه سهمه ، قال أبو داود : وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد : أن الوليد بن هشام أحرق رحل زياد بن سعد ، وكان قد غل ، وضربه .
حدثنا محمد بن عوف ، قال : ثنا موسى بن أيوب ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثنا زهير بن محمد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ، وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه " .
قال أبو داود : وزاد فيه علي بن بحر : عن الوليد ، ولم أسمعه منه ، ومنعوه سهمه ، قال أبو داود : وحدثنا به الوليد بن عتبة ، وعبد الوهاب بن نجدة ، قالا : ثنا الوليد ، عن زهير بن محمد ، عن عمرو بن شعيب قوله ، ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي منع سهمه ، اهـ من أبي داود بلفظه ، وحديث صالح بن محمد الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الترمذي ، والحاكم ، والبيهقي .
قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقال : سألت محمدا عن هذا الحديث ، فقال : إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة ، الذي يقال له أبو واقد الليثي ، وهو منكر الحديث .
قال المنذري : وصالح بن محمد بن زائدة : تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وقد قيل : إنه تفرد به ، وقال البخاري : عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول ، وهو باطل ليس بشيء ، وقال الدارقطني : أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد ، قال : وهذا حديث لم يتابع عليه ، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والمحفوظ أن سالما أمر بذلك ، وصحح أبو داود وقفه ، فرواه موقوفا من وجه آخر ، وقال : هذا أصح كما قدمنا ، وحديث عمرو بن شعيب الذي ذكرنا عند أبي داود ، أخرجه أيضا الحاكم ، والبيهقي ، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو الخراساني ، وقد قال فيه ابن حجر في " التقريب " : رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة ، فضعف بسببها ، وقال البخاري عن أحمد : كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر ، وقال أبو حاتم : حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه . اهـ .
وقال البيهقي : ويقال إنه غير الخراساني ، وإنه مجهول . اهـ ، وقد علمت فيما قدمنا [ ص: 97 ] عن أبي داود ، أنه رواه من وجه آخر موقوفا على عمرو بن شعيب وقال ابن حجر : إن وقفه هو الراجح .
وذهب الأئمة الثلاثة ، مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة : إلى أنه لا يحرق رحله ، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال ، و بما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس ، فيجيئون بغنائمهم ، فيخمسه ، ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر ، فقال : يا رسول الله ، هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة ، فقال : " أسمعت بلالا ينادي ثلاثا " ، قال : نعم ، قال : " فما منعك أن تجيء به ؟ " فاعتذر إليه ، فقال : " كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك " ، هذا لفظ أبي داود ، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، وأخرجه الحاكم وصححه .
وقال البخاري : قد روي في غير حديث عن الغال ، ولم يؤمر بحرق متاعه ، فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى ، وهم أكثر العلماء .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة : هو ما اختاره ابن القيم ، قال في " زاد المعاد " بعد أن ذكر الخلاف المذكور في المسألة : والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة ، فإنه حرق وترك ، وكذلك خلفاؤه من بعده ، ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة ، فليس بحد ، ولا منسوخ ، وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام . اهـ .
وإنما قلنا : إن هذا القول أرجح عندنا ; لأن الجمع واجب إذا أمكن ، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة ، كما علم في الأصول ، والعلم عند الله تعالى .
أما لو سرق واحد من الغانمين من الغنيمة قبل القسم ، أو وطئ جارية منها قبل القسم ، فقال مالك وجل أصحابه : يحد حد الزنى والسرقة في ذلك ; لأن تقرر الملك لا يكون بإحراز الغنيمة ، بل بالقسم .
وذهب الجمهور - منهم الأئمة الثلاثة - إلى أنه لا يحد للزنى ولا للسرقة ; لأن استحقاقه بعض الغنيمة شبهة تدرأ عنه الحد ، وبعض من قال بهذا يقول : إن ولدت فالولد حر يلحق نسبه به ، وهو قول أحمد ، والشافعي ، خلافا لأبي حنيفة ، وفرق بعض المالكية بين السرقة والزنى ، فقال : لا يحد للزنى ، ويقطع إن سرق أكثر من نصيبه بثلاثة دراهم .
[ ص: 98 ] وبهذا قال عبد الملك من المالكية ، كما نقله عنه ابن المواز .
واختلف العلماء فيما إذا مات أحد المجاهدين قبل قسم الغنيمة ، هل يورث عنه نصيبه ؟
فقال مالك في أشهر الأقوال ، والشافعي : إن حضر القتال : ورث عنه نصيبه وإن مات قبل إحراز الغنيمة ، وإن لم يحضر القتال فلا سهم له .
وقال أبو حنيفة : إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام خاصة ، أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له ; لأن ملك المسلمين لا يتم عليها عنده إلا بذلك .
وقال الأوزاعي : إن مات بعد ما يدرب قاصدا في سبيل الله ، قبل أو بعد ، أسهم له .
وقال الإمام أحمد : إن مات قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له ; لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها ، وسواء مات حال القتال أو قبله ، وإن مات بعد إحراز الغنيمة فسهمه لورثته .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا أظهر الأقوال عندي ، والله تعالى أعلم .
ولا يخفى أن مذهب الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة مشكل ; لأن حكمه بحد الزاني والسارق ، يدل على أنه لا شبهة للغانمين في الغنيمة قبل القسم ، وحكمه بإرث نصيب من مات قبل إحراز الغنيمة إن حضر القتال يدل على تقرر الملك بمجرد حضور القتال ، وهو كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة : أصح الأقوال دليلا : أنه لا يقسم للنساء والصبيان الذين لا قدرة لهم على القتال ، وما جرى مجراهم ، ولكن يرضخ لهم من الغنيمة باجتهاد الإمام ، ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه : عن ابن عباس ، لما سأله نجدة عن خمس خلال .
منها : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء ؟ وهل كان يضرب لهم بسهم ؟ فيكتب إليه ابن عباس : كتبت تسألني : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء ، وقد كان يغزو بهن ، فيداوين الجرحى ، ويحذين من الغنيمة ، وأما بسهم فلم يضرب لهن . الحديث .
وهو صريح فيما ذكرنا ، فيجب حمل ما ورد في غيره من أن النساء يسهم لهن على الرضخ المذكور في هذا الحديث المعبر عنه بقوله : " يحذين من الغنيمة " .
قال النووي : قوله " يحذين " ، هو بضم الياء وإسكان الحاء المهملة ، وفتح الذال المعجمة ، أي يعطين تلك العطية ، وتسمى الرضخ ، وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ ، [ ص: 99 ] ولا تستحق السهم ، وبهذا قال أبو حنيفة ، والثوري ، والليث ، والشافعي ، وجماهير العلماء .
وقال الأوزاعي : تستحق السهم إن كانت تقاتل ، أو تداوي الجرحى ، وقال مالك : لا رضخ لها ، وهذان المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح اهـ .
المسألة التاسعة : اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير ، لا من المغانم .
ودليل ذلك : حديث مالك بن أوس بن الحدثان المتفق عليه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : دخلت على عمر ، فأتاه حاجبه يرفأ ، فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد ؟ قال : نعم ، فأذن لهم ، ثم قال : هل لك في علي ، وعباس ؟ قال : نعم ، قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، قال : أنشدكم بالله ، الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ فقال : الرهط ، قد قال ذلك ، فأقبل على علي ، وعباس ، فقال : هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك ، قال عمر : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فقال عز وجل : وما أفاء الله على رسوله إلى قوله : قدير [ 59 \ 6 ] ، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه ، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، أنشدكم بالله ، هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي ، وعباس : أنشدكما بالله ، هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم ، قال عمر : فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، ثم جئتماني ، وكلمتكما واحدة ، وأمركما جميع : جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إلي اهـ .
هذا لفظ البخاري في " الصحيح " في بعض رواياته ، ومحل الشاهد من الحديث [ ص: 100 ] تصريح عمر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله نفقة سنته من فيء بني النضير ، وتصديق الجماعة المذكورة له في ذلك ، وهذا الحديث مخرج في " الصحيحين " وغيرهما من طرق متعددة بألفاظ متقاربة المعنى ، وهو نص في أن نفقة أهله صلى الله عليه وسلم كانت من الفيء ، لا من الغنيمة .
ويدل له أيضا الحديث المتقدم " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم " ، فإن قيل ما وجه الجمع بين ما ذكرتم ، وبين ما أخرجه أبو داود من طريق أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك ; فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه ، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء : جزئين بين المسلمين ، وجزءا نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين .
فالجواب - والله تعالى أعلم - أنه لا تعارض بين الروايتين ; لأن " فدك " ونصيبه صلى الله عليه وسلم من " خيبر " كلاهما فيء كما قدمنا عليه الأدلة الواضحة ، وكذلك " بنو النضير " ، فالجميع فيء كما تقدم إيضاحه ، فحكم الكل واحد .
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ، وفدك ، وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به ، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ .
فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي ، وعباس ، وأما خيبر ، وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم . و هذا لفظ البخاري في صحيحه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (110)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (12)
صـ 101 إلى صـ 105
وقال ابن حجر في " الفتح " : وقد ظهر بهذا أن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير ، وأما سهمه من خيبر ، وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده ، وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر ، وفدك ، وما فضل من ذلك جعله في المصالح ، وعمل عمر بعده بذلك ، فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه ، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم ، قال : جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان ، فقال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم ، ويزوج أيمهم ، [ ص: 101 ] وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى ، وكانت كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر ، ثم أقطعها مروان ؛ يعني في أيام عثمان .
قال الخطابي : إنما أقطع عثمان " فدك " لمروان ; لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده ، فاستغنى عثمان عنها بأمواله ، فوصل بها بعض قرابته ، ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الثابت في الصحيح بلفظ : " ما تركت بعد نفقة نسائي ، ومئونة عاملي فهو صدقة " .
فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما . اهـ .
واعلم أن فيء " بني النضير " تدخل فيه أموال " مخيريق " رضي الله عنه ، وكان يهوديا من " بني قينقاع " مقيما في بني النضير ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، قال لليهود : " ألا تنصرون محمدا صلى الله عليه وسلم ، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم " ، فقالوا : اليوم يوم السبت ، فقال : لا سبت ، وأخذ سيفه ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فلما حضره الموت قال : أموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء ، وكان له سبع حوائط ببني النضير وهي " الميثب " ، " والصائفة " ، " والدلال " ، " وحسنى " ، " وبرقة " ، " والأعواف " ، " ومشربة أم إبراهيم " .
وفي رواية الزبير بن بكار " الميثر " بدل " الميثب " ، " والمعوان " عوض " الأعواف " وزاد " مشربة أم إبراهيم " الذي يقال له " مهروز " .
وسميت " مشربة أم إبراهيم " ; لأنها كانت تسكنها " مارية " ، قاله بعض أصحاب المغازي ، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي " مخيريق " المذكور من شهداء أحد ، حيث قال في سردهم : [ الرجز ]
وذو الوصايا الجم للبشير وهو مخيريق بني النضير
ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام التي لها تعلق بهذه الآية الكريمة ، خوف الإطالة المملة .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .
أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو ، وذكر الله كثيرا مشيرا إلى أن ذلك سبب للفلاح ، والأمر بالشيء نهي عن ضده ، أو مستلزم للنهي عن ضده ، كما علم في الأصول ، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات [ ص: 102 ] أمام الكفار ، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [ 8 \ 15 ] ، إلى قوله : وبئس المصير [ 8 \ 16 ] ، وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال ، ولا سيما في وقت الضيق ، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد .
قال عنترة في معلقته : [ الكامل ]
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
وقال الآخر :
ذكرتك والخطي يخطر بيننا وقد نهلت فينا المثقفة السمر تنبيه
قال بعض العلماء : كل " لعل " في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 129 ] ، فهي بمعنى " كأنكم تخلدون " .
قال مقيده عفا الله عنه : لفظة " لعل " قد ترد في كلام العرب مرادا بها التعليل ، ومنه قوله : [ الطويل ]
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق فقوله " لعلنا نكف " يعني : " لأجل أن نكف " ، وكونها للتعليل لا ينافي " معنى الترجي " ; لأن وجود المعلول يرجى عند وجود علته .
قوله تعالى : ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم الآية .
نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع ، مبينا أنه سبب الفشل ، وذهاب القوة ، ونهى عن الفرقة أيضا في مواضع أخر ، كقوله : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ 3 \ 103 ] ، ونحوها من الآيات ، وقوله في هذه الآية : وتذهب ريحكم [ 8 \ 46 ] ، أي : قوتكم .
وقال بعض العلماء : نصركم ، كما تقول العرب : الريح لفلان ؛ إذا كان غالبا ، ومنه قوله : [ الوافر ]
[ ص: 103 ]
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون
واسم " إن " ضمير الشأن .
وقال صاحب الكشاف : الريح : الدولة ، شبهت في نفوذ أمرها ، وتمشيه بالريح في هبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ، ونفذ أمره ، ومنه قوله : [ البسيط ]
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي إلا عبيد قعود بين أذوادي
أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإن الريح للعادي
قوله تعالى : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ، إلى قوله : إني بريء منكم .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان غر الكفار ، وخدعهم ، وقال لهم : لا غالب لكم وأنا جار لكم .
وذكر المفسرون : أنه تمثل لهم في صورة " سراقة بن مالك بن جعشم " سيد بني مدلج بن بكر بن كنانة ، وقال لهم ما ذكر الله عنه ، وأنه مجيرهم من بني كنانة ، وكانت بينهم عداوة ، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه [ 8 \ 48 ] ، عندما رأى الملائكة وقال لهم : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ، فكان حاصل أمره أنه غرهم ، وخدعهم حتى أوردهم الهلاك ، ثم تبرأ منهم .
وهذه هي عادة الشيطان مع الإنسان كما بينه تعالى في آيات كثيرة ، كقوله : كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك الآية [ 59 \ 16 ] . وقوله : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى قوله : إني كفرت بما أشركتموني من قبل . وكقوله : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه : [ البسيط ]
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم لو يعلمون يقين الأمر ما ساروا دلاهم بغرور ثم أسلمهم إن الخبيث لمن ولاه غرار
[ ص: 104 ] قوله تعالى : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال [ 13 \ 11 ] ، وقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 \ 30 ] ، وقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ 4 \ 79 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين .
قال بعض العلماء : إن قوله : ومن اتبعك [ 8 \ 64 ] ، في محل رفع بالعطف على اسم الجلالة ، أي حسبك الله ، وحسبك أيضا من اتبعك من المؤمنين .
وممن قال بهذا : الحسن ، واختاره النحاس وغيره ، كما نقله القرطبي ، وقال بعض العلماء : هو في محل خفض بالعطف على الضمير الذي هو الكاف في قوله : حسبك ، وعليه فالمعنى : حسبك الله أي : كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين ، وبهذا قال الشعبي ، وابن زيد وغيرهما ، وصدر به صاحب " الكشاف " ، واقتصر عليه ابن كثير وغيره ، والآيات القرآنية تدل على تعيين الوجه الأخير ، وأن المعنى كافيك الله ، وكافي من اتبعك من المؤمنين لدلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده ، كقوله تعالى : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون [ 9 \ 59 ] ، فجعل الإيتاء لله ورسوله ، كما قال : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعل الحسب مختصا به وقال : أليس الله بكاف عبده [ 39 \ 36 ] ؟ فخص الكفاية التي هي الحسب به وحده ، وتمدح تعالى بذلك في قوله : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ 65 \ 3 ] ، وقال تعالى : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين [ 8 \ 62 ] ، ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده ، وجعل التأييد له بنصره وبعباده .
وقد أثنى سبحانه وتعالى على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه [ ص: 105 ] بالحسب ، فقال تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [ 3 \ 173 ] وقال تعالى : فإن تولوا فقل حسبي الله الآية [ 9 \ 129 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، فإن قيل : هذا الوجه الذي دل عليه القرآن ، فيه أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، ضعفه غير واحد من علماء العربية ، قال ابن مالك في " الخلاصة " : [ الرجز ]
وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازما قد جعلا فالجواب من أربعة أوجه :
الأول : أن جماعة من علماء العربية صححوا جواز العطف من غير إعادة الخافض ، قال ابن مالك في " الخلاصة " : [ الرجز ]
وليس عندي لازما إذ قد أتى في النظم والنثر الصحيح مثبتا
وقد قدمنا في " سورة النساء " في الكلام على قوله : وما يتلى عليكم في الكتاب [ 127 ] شواهده العربية ، ودلالة قراءة حمزة عليه ، في قوله تعالى : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام [ 4 \ 1 ] .
الوجه الثاني : أنه من العطف على المحل ; لأن الكاف مخفوض في محل نصب ; إذ معنى حسبك : يكفيك ، قال في " الخلاصة " : [ الرجز ]
وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن
الوجه الثالث : نصبه بكونه مفعولا معه ، على تقدير ضعف وجه العطف ، كما قال في " الخلاصة " : [ الرجز ]
والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق والنصب مختار لدى ضعف النسق الوجه الرابع : أن يكون ومن مبتدأ خبره محذوف ، أي ومن اتبعك من المؤمنين ، فحسبهم الله أيضا ، فيكون من عطف الجملة ، والعلم عند الله تعالى .
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (111)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (13)
صـ 106 إلى صـ 110
قوله تعالى : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم .
لم يعين تعالى في هذه الآية [ ص: 106 ] الكريمة المراد بأولي الأرحام ، واختلف العلماء في هذه الآية ، هل جاء في القرآن ما يبين المراد منها أو لا ، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها بينتها آيات المواريث ، كما قدمنا نظيره في قوله : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [ 4 \ 7 ] .
قالوا : فلا إرث لأحد من أولي الأرحام غير من عينت لهم حقوقهم في آيات المواريث .
وممن قال بهذا زيد بن ثابت ، ومالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وداود ، وابن جرير وغيرهم ، وقالوا : الباقي عن نصيب الورثة المنصوص على إرثهم لبيت مال المسلمين ، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي ، من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه أيضا الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسنه الترمذي وابن حجر ، ولا يضعف بأن في إسناده إسماعيل بن عياش ، لما قدمنا مرارا أن روايته عن الشاميين قوية ، وشيخه في حديث أبي أمامة هذا شرحبيل بن مسلم ، وهو شامي ثقة ، وقد صرح في روايته بالتحديث .
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق فيه لين ، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي صححه الترمذي ، من رواية عمرو بن خارجة ، وحسنه الترمذي ، وابن حجر من رواية أبي أمامة : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه " يدل بعمومه على أنه لم يبق في التركة حق لغير من عينت لهم أنصباؤهم في آيات المواريث .
وقد قال بعض أهل هذا القول : المراد بذوي الأرحام العصبة خاصة ، قالوا : ومنه قول العرب : وصلتك رحم ، يعنون قرابة الأب دون قرابة الأم ، ومنه قول قتيلة بن الحارث ، أو بنت النضر بنت الحارث : [ الكامل ]
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق
فأطلقت الأرحام على قرابة بني أبيه ، والأظهر على القول بعدم التوريث ، أن المراد بذوي الأرحام القرباء ، الذين بينت حقوقهم بالنص مطلقا . واحتج أيضا من قال : لا يرث ذوو الأرحام ، بما روي عن عطاء بن يسار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير في ميراث العمة والخالة فأنزل عليه : " لا ميراث لهما " ، أخرجه أبو داود ، في المراسيل والدارقطني ، والبيهقي ، من طريق زيد بن أسلم ، عن عطاء ، مرسلا ، وأخرجه النسائي في [ ص: 107 ] " سننه " ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، من مرسل زيد بن أسلم ، ليس فيه ذكر عطاء ، ورد المخالف هذا بأنه مرسل .
وأجيب بأن مشهور مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد : الاحتجاج بالمرسل ، وبأنه رواه البيهقي ، والحاكم ، والطبراني ، موصولا من حديث أبي سعيد ، وما ذكره البيهقي من وصله من طريقين .
إحداهما : من رواية ضرار بن صرد أبي نعيم .
والثانية : من رواية شريك بن أبي نمر ، عن الحارث بن عبد ، مرفوعا .
وقال محشيه ، صاحب " الجوهر النقي " في ضرار المذكور : إنه متروك ، وعزا ذلك للنسائي ، وعزا تكذيبه ليحيى بن معين .
وقال في ابن أبي نمر : فيه كلام يسير ، وفي الحارث بن عبد : إنه لا يعرفه ، ولا ذكر له إلا عند الحاكم في " المستدرك " في هذا الحديث .
قال مقيده عفا الله عنه : ما ذكره من أن ضرار بن صرد متروك غير صحيح ; لأنه صدوق له بعض أوهام لا توجب تركه .
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق له أوهام وخطأ ، ورمي بالتشيع ، وكان عارفا بالفرائض .
وأما ابن أبي نمر : فهو من رجال البخاري ، ومسلم .
وأما إسناد الحاكم : فقال فيه الشوكاني ، في " نيل الأوطار " : إنه ضعيف وقال في إسناد الطبراني : فيه محمد بن الحارث المخزومي ، قلت : قال فيه ابن حجر في " التقريب " : مقبول ، وقال الشوكاني أيضا ، قالوا : وصله أيضا الطبراني من حديث أبي هريرة .
ويجاب : بأنه ضعفه بمسعدة بن اليسع الباهلي .
قالوا : وصله الحاكم أيضا من حديث ابن عمر ، وصححه .
ويجاب : بأن في إسناده عبد الله بن جعفر المدني ، وهو ضعيف .
قالوا : روى له الحاكم شاهدا من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن الحارث بن عبد ، مرفوعا .
[ ص: 108 ] ويجاب : بأن في إسناده سليمان بن داود الشاذكوني ، وهو متروك .
قالوا : أخرجه الدارقطني من وجه آخر عن شريك .
ويجاب : بأنه مرسل . اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذه الطرق الموصولة والمرسلة يشد بعضها بعضا ، فيصلح مجموعها للاحتجاج ، ولا سيما أن منها ما صححه بعض العلماء ، كالطريق التي صححها الحاكم ، وتضعيفها بعبد الله بن جعفر المدني : فيه أنه من رجال مسلم ، وأخرج له البخاري تعليقا ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : ليس به بأس . اهـ .
واحتجوا أيضا بما رواه مالك في " الموطأ " ، والبيهقي ، عن محمد بن أبي بكر بن حزم ، عن عبد الرحمن بن حنظلة الزرقي : أنه أخبره عن مولى لقريش كان قديما يقال له ابن موسى ، أنه قال : كنت جالسا عند عمر بن الخطاب ، فلما صلى الظهر ، قال : " يا يرفأ " ، هلم ذلك الكتاب - لكتاب كتبه في شأن العمة - فنسأل عنها ، ونستخبر عنها ، فأتاه به " يرفأ " فدعا بتور أو قدح فيه ماء ، فمحا ذلك الكتاب فيه ، ثم قال : لو رضيك الله أقرك ، لو رضيك الله أقرك .
وقال مالك في " الموطأ " عن محمد بن أبي بكر بن حزم : أنه سمع أباه : كثيرا يقول : كان عمر بن الخطاب يقول : عجبا للعمة ترث ولا تورث ، والجميع فيه مقال ، وقال جماعة من أهل العلم : لا بيان للآية من القرآن ، بل هي باقية على عمومها ، فأوجبوا الميراث لذوي الأرحام .
وضابطهم : أنهم الأقارب الذين لا فرض لهم ولا تعصيب .
وهم أحد عشر حيزا :
1 - أولاد البنات .
2 - وأولاد الأخوات .
3 - وبنات الإخوة .
4 - وأولاد الإخوة من الأم .
5 - والعمات من جميع الجهات .
6 - والعم من الأم .
[ ص: 109 ] 7 - والأخوال .
8 - والخالات .
9 - وبنات الأعمام .
10 - والجد أبو الأم .
11 - وكل جدة أدلت بأب بين أمين ، أو بأب أعلى من الجد .
فهؤلاء ، ومن أدلى لهم يسمون ذوي الأرحام ، وممن قال بتوريثهم إذا لم يوجد وارث بفرض أو تعصيب إلا الزوج والزوجة الإمام أحمد .
ويروى هذا القول ، عن عمر ، وعلي ، وعبد الله ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وأبي الدرداء رضي الله عنهم ، وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وطاوس ، وعلقمة ، ومسروق ، وأهل الكوفة ، وغيرهم .
نقله ابن قدامة في " المغني " ، واحتجوا بعموم قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ 8 \ 75 ] ، وعموم قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية ، ومن السنة بحديث المقدام بن معديكرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " من ترك مالا فلورثته ، وأنا وارث من لا وارث له ، أعقل عنه ، وأرثه ، والخال وارث من لا وارث له ، يعقل عنه ويرثه " أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، والنسائي وابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم وصححاه ، وحسنه أبو زرعة الرازي ، وأعله البيهقي بالاضطراب ، ونقل عن يحيى بن معين ، أنه كان يقول : ليس فيه حديث قوي ، قاله في " نيل الأوطار " .
واحتجوا أيضا بما رواه أبو أمامة بن سهل ، أن رجلا رمى رجلا بسهم فقتله ، وليس له وارث إلا خال ، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر ، فكتب إليه عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الله ورسوله مولى من لا مولى له ، والخال وارث من لا وارث له " رواه أحمد ، وابن ماجه ، وروى الترمذي المرفوع منه ، وقال : حديث حسن .
قال الشوكاني رحمه الله : وفي الباب عن عائشة عند الترمذي والنسائي ، والدارقطني ، من رواية طاوس ، عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخال وارث من لا وارث له " ، قال الترمذي : حسن غريب ، وأعله النسائي بالاضطراب ، ورجح الدارقطني ، [ ص: 110 ] والبيهقي وقفه .
قال الترمذي : وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه عائشة .
وقال البزار : أحسن إسناد فيه حديث أبي أمامة بن سهل ، وأخرجه عبد الرزاق عن رجل من أهل المدينة ، والعقيلي وابن عساكر عن أبي الدرداء ، وابن النجار عن أبي هريرة ، كلها مرفوعة . اهـ .
قال الترمذي : وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام ، واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها : وفيه ابن لهيعة .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلا عندي ، أن الخال يرث من لا وارث له ، دون غيره من ذوي الأرحام ; لثبوت ذلك فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديثين المذكورين دون غيره ; لأن الميراث لا يثبت إلا بدليل ، وعموم الآيتين المذكورتين لا ينهض دليلا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه " كما تقدم .
فإذا علمت أقوال العلماء ، وحججهم في إرث ذوي الأرحام وعدمه ، فاعلم أن القائلين بالتوريث : اختلفوا في كيفيته ، فذهب المعروفون منهم بأهل التنزيل إلى تنزيل كل واحد منهم منزلة من يدلي به من الورثة ، فيجعل له نصيبه ، فإن بعدوا نزلوا درجة درجة ، إلى أن يصلوا من يدلون به ، فيأخذون ميراثه ، فإن كان واحدا أخذ المال كله ، وإن كانوا جماعة ، قسم المال بين من يدلون به ، فما حصل لكل وارث جعل لمن يدلي به ، فإن بقي من سهام المسألة شيء ، رد عليهم على قدر سهامهم .
وهذا هو مذهب الإمام أحمد ، وهو قول علقمة ، ومسروق ، والشعبي ، والنخعي ، وحماد ، ونعيم ، وشريك ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، وغيرهم ; كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " .
وقال أيضا : قد روي عن علي ، وعبد الله رضي الله عنهما : أنهما نزلا بنت البنت منزلة البنت ، وبنت الأخ منزلة الأخ ، وبنت الأخت منزلة الأخت ، والعمة منزلة الأب ، والخالة منزلة الأم ، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه في العمة ، والخالة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (112)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(1)
صـ 111 إلى صـ 115
وعن علي أيضا : أنه نزل العمة منزلة العم ، وروي ذلك عن علقمة ، ومسروق ، وهي الرواية الثانية عن أحمد ، وعن الثوري وأبي عبيد : أنهما نزلاها منزلة الجد مع ولد [ ص: 111 ] الإخوة والأخوات ، ونزلها آخرون منزلة الجدة .
وإنما صار هذا الخلاف في العمة ; لأنها أدلت بأربع جهات وارثات : فالأب والعم أخواها ، والجد والجدة أبواها ، ونزل قوم الخالة منزلة جدة ; لأن الجدة أمها ، والصحيح من ذلك تنزيل العمة أبا ، والخالة أما . اهـ . من " المغني " .
وذهبت جماعة أخرى ممن قال بالتوريث منهم أبو حنيفة ، وأصحابه إلى أنهم يورثون على ترتيب العصبات ، فقالوا : يقدم أولاد الميت وإن سفلوا ، ثم أولاد أبويه أو أحدهما وإن سفلوا ، ثم أولاد أبوي أبويه وإن سفلوا ، وهكذا أبدا لا يرث بنو أب أعلى وهناك بنو أب أقرب منه ، وإن نزلت درجتهم .
وعن أبي حنيفة : أنه جعل أبا الأم ، وإن علا أولى من ولد البنات ، ويسمى مذهب هؤلاء : مذهب أهل القرابة .
و العلم عند الله تعالى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ التَّوْبَةِ
اعلم أولا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم في سورة " براءة " ، هذه في المصاحف العثمانية ، واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة منها على أقوال :
منها : أن البسملة رحمة وأمان و " براءة " نزلت بالسيف ، فليس فيها أمان ، وهذا القول مروي عن علي رضي الله عنه ، وسفيان بن عيينة .
ومنها : أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتابا فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة ، فلما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم ، قرأها ، ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد ، نقل هذا القول بعض أهل العلم ، ولا يخفى ضعفه .
ومنها : أن الصحابة لما اختلفوا : هل " براءة " و " الأنفال " سورة واحدة أو سورتان ، تركوا بينهما فرجة لقول من قال : إنهما سورتان ، وتركوا البسملة لقول من قال : هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف .
ومنها : أن سورة " براءة " نسخ أولها فسقطت معه البسملة ، وهذا القول رواه ابن وهب ، وابن القاسم ، وابن عبد الحكم ، عن مالك ، كما نقله القرطبي .
وعن ابن عجلان ، وسعيد بن جبير ، أنها كانت تعدل سورة " البقرة " .
وقال القرطبي : والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة ; لأن جبريل لم ينزل بها فيها . قاله القشيري . اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة : أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة ، هو ما قاله عثمان رضي الله عنه لابن عباس .
فقد أخرج النسائي ، والترمذي ، وأبو داود ، والإمام أحمد ، وابن حبان ، في " صحيحه " والحاكم في " المستدرك " وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي [ ص: 113 ] من المثاني وإلى براءة وهي من المائين فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم [ 1 \ 1 ] ووضعتموهما في السبع الطول فما حملكم على ذلك ؟
فقال عثمان رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده ، فيقول : " ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا " ، وتنزل عليه الآيات فيقول : " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " ، وكانت " الأنفال " من أوائل ما أنزل بالمدينة ، و " براءة " من آخر ما أنزل من القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها ، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم [ 1 \ 1 ] ، ووضعتها في السبع الطول . اهـ .
تنبيهان
الأول : يؤخذ من هذا الحديث أن ترتيب آيات القرآن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو كذلك بلا شك ، كما يفهم منه أيضا : أن ترتيب سوره بتوقيف أيضا ، فيما عدا سورة " براءة " ، وهو أظهر الأقوال ، ودلالة الحديث عليه ظاهرة .
التنبيه الثاني : قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى : في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين : ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ، ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها ، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن ، فما ظنك بسائر الأحكام .
قوله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم إلى قوله تعالى : أربعة أشهر .
ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين ، وأنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله : في الأرض أربعة أشهر [ 9 \ 2 ] ، لا عهد لكافر .
وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء ، والذي يبينه القرآن ، ويشهد له من تلك الأقوال ، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير الموقتة بوقت معين ، أو من كانت مدة عهده الموقت أقل من أربعة أشهر ، فتكمل له أربعة أشهر ، أما أصحاب العهود الموقتة الباقي من مدتها أكثر من أربعة أشهر ، فإنه يجب لهم إتمام مدتهم ، ودليله المبين له من القرآن ، هو قوله تعالى : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين [ ص: 114 ] [ 9 \ 4 ] ، وهو اختيار ابن جرير ، وروي عن الكلبي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وغير واحد ، قاله ابن كثير ويؤيده حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، بعثه حين أنزلت " براءة " بأربع : ألا يطوف بالبيت عريان . \ 5 ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا .
ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته .
ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة .
قوله تعالى : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .
قال بعض العلماء : كان ابتداء التأجيل بالأشهر الأربعة المذكورة من شوال ، وآخره سلخ المحرم ، وبه قال الزهري رحمه الله تعالى ولكن القرآن يدل على أن ابتداءها من يوم النحر على الأصح من أنه يوم الحج الأكبر ، أو يوم عرفة على القول بأنه هو يوم الحج الأكبر ، وذلك في قوله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر . وهو صريح في أن ابتداء الإعلام المذكور من يوم الحج الأكبر ، وهو يوم النحر ، ولا يخفى انتهاؤها في العشر من ربيع الثاني .
قال ابن كثير : في تفسير هذه الآية وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال ، وآخره سلخ المحرم ، وهذا القول غريب ، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها ، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر ، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ولهذا قال تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر .
قوله تعالى : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم .
يفهم من مفهوم مخالفة هذه الآية : أن المشركين إذا نقضوا العهد جاز قتالهم ، ونظير ذلك أيضا قوله تعالى : فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم [ 9 \ 7 ] ، وهذا المفهوم في الآيتين صرح به جل وعلا في قوله : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون [ 9 \ 12 ] .
قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم الآية .
اختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية .
[ ص: 115 ] فقال ابن جرير : إنها المذكورة في قوله تعالى . منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ 9 \ 36 ] ، قال أبو جعفر الباقر .
ولكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم ، وحكى نحو قوله هذا علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وإليه ذهب الضحاك .
ولكن السياق يدل على أن المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .
قال ابن كثير : في تفسير هذه الآية : والذي يظهر من حيث السياق ، ما ذهب إليه ابن عباس ، في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها الأشهر الأربعة المنصوص عليها بقوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ثم قال : فإذا انسلخ الأشهر الحرم [ 9 \ 5 ] ، أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم قتالهم فيها ، وأجلناهم فيها ، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ; لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ، مع أن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى اهـ .
قوله تعالى : وهموا بإخراج الرسول .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن كفار مكة هموا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة ، وصرح في مواضع أخر بأنهم أخرجوه بالفعل ، كقوله : يخرجون الرسول وإياكم الآية [ 60 \ 1 ] ، وقوله : وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك [ 47 \ 13 ] ، وقوله : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا الآية [ 9 \ 40 ] ، وذكر في مواضع أخر : محاولتهم لإخراجه قبل أن يخرجوه ، كقوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك [ 8 \ 30 ] ، وقوله : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان الآية .
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن موالاة الكفار ، ولو كانوا قرباء ، وصرح في موضع آخر : بأن الاتصاف بوصف الإيمان مانع من موادة الكفار ولو كانوا قرباء ، وهو قوله : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم الآية [ 58 \ 22 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (113)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(2)
صـ 116 إلى صـ 120
قوله تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين .
[ ص: 116 ] ذكر تعالى ما أصاب المسلمين يوم حنين في هذه الآية الكريمة ، وذكر ما أصابهم يوم أحد بقوله : إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم [ 3 \ 153 ] ، وصرح بأنه تاب على من تولى يوم أحد بقوله : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم [ 3 \ 155 ] ، وأشار هنا إلى توبته على من تولى يوم حنين بقوله : ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم [ 9 \ 26 ] كما أشار بعض العلماء إليه .
قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله أظهر الأقوال وأقربها للصواب في معنى : يكنزون [ 9 \ 34 ] في هذه الآية الكريمة ، أن المراد بكنزهم الذهب والفضة وعدم إنفاقهم لها في سبيل الله ، أنهم لا يؤدون زكاتهما .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وأما الكنز ؟ فقال مالك : عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : هو المال الذي لا تؤدى زكاته .
وروى الثوري ، وغيره ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وقد روي هذا عن ابن عباس ، وجابر ، وأبي هريرة ، موقوفا ومرفوعا .
وقال عمر بن الخطاب نحوه : أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه ، وإن كان على وجه الأرض اهـ .
وممن روي عنه هذا القول عكرمة ، والسدي ، ولا شك أن هذا القول أصوب الأقوال ; لأن من أدى الحق الواجب في المال الذي هو الزكاة لا يكوى بالباقي إذا أمسكه ; لأن الزكاة تطهره كما قال تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، ولأن المواريث ما جعلت إلا في أموال تبقى بعد مالكيها .
ومن أصرح الأدلة في ذلك ، حديث طلحة بن عبيد الله وغيره في قصة الأعرابي أخي بني سعد ، من هوازن ، وهو ضمام بن ثعلبة لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم : بأن الله فرض عليه الزكاة ، وقال : هل علي غيرها ، فإن النبي قال له : " لا ، إلا أن تطوع " : وقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو [ 2 \ 219 ] ، وقد قدمنا في " البقرة " تحقيقا أنه ما زاد [ ص: 117 ] على الحاجة التي لا بد منها ، وقوله : " ليس فيما دون خمسة أوسق " الحديث ; لأن صدقة نكرة في سياق النفي فهي تعم نفي كل صدقة .
وفي الآية أقوال أخر :
منها : أنها منسوخة بآيات الزكاة كقوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية .
وذكر البخاري هذا القول بالنسخ عن ابن عمر أيضا ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك . اهـ .
وعن علي أنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كان أكثر من ذلك فهو كنز ، ومذهب أبي ذر رضي الله عنه في هذه الآية معروف ، وهو أنه يحرم على الإنسان أن يدخر شيئا فاضلا عن نفقة عياله . اهـ . ولا يخفى أن ادخار ما أديت حقوقه الواجبة لا بأس به ، وهو كالضروري عند عامة المسلمين .
فإن قيل : ما الجواب عما رواه الإمام أحمد ، عن علي رضي الله عنه ، قال : مات رجل من أهل الصفة ، وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان ، صلوا على صاحبكم " اهـ . وما رواه قتادة عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، صدي بن عجلان ، قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كية " ، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان " ، وما روى عبد الرزاق وغيره ، عن علي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تبا للذهب ، تبا للفضة " يقولها ثلاثا ، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر رضي الله عنه : أنا أعلم لكم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إن أصحابك قد شق عليهم ، وقالوا : فأي المال نتخذ ؟ فقال : " لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه " . ونحو ذلك من الأحاديث .
فالجواب - والله تعالى أعلم - أن هذا التغليظ كان أولا ثم نسخ بفرض الزكاة ، كما ذكره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " : قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك .
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانع الزكاة ، إلى أن [ ص: 118 ] قال : فكان ذلك واجبا في أول الأمر ، ثم نسخ ، ثم ذكر عن شداد بن أوس أنه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول . اهـ .
وقال بعض العلماء : هي في خصوص أهل الكتاب ، بدليل اقترانها مع قوله : إن كثيرا من الأحبار والرهبان الآية [ 9 \ 34 ] .
فإذا علمت أن التحقيق أن الآية عامة ، وأنها في من لا يؤدي الزكاة ، فاعلم أن المراد بها هو المشار إليه في آيات الزكاة ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أن البيان بالقرآن إذا كان غير واف بالمقصود نتمم البيان من السنة ، من حيث إنها بيان للقرآن المبين به ، وآيات الزكاة كقوله : خذ من أموالهم صدقة الآية ، وقوله : وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] وقوله : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض [ 2 \ 267 ] ، لا تفي بالبيان فتبينه بالسنة ، وقد قال ابن خويز منداد المالكي ، تضمنت هذه الآية : زكاة العين ، وهي تجب بأربعة شروط ، حرية ، وإسلام ، وحول ، ونصاب سليم من الدين . اهـ وفي بعض هذه الشروط خلاف .
مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : في قدر نصاب الذهب والفضة ، وفي القدر الواجب إخراجه منهما .
أما نصاب الفضة ، فقد أجمع جميع العلماء على أنه مائتا درهم شرعي ، ووزن الدرهم الشرعي ستة دوانق ، وكل عشرة دراهم شرعية فهي سبعة مثاقيل ، والأوقية أربعون درهما شرعيا .
وكل هذا أجمع عليه المسلمون فلا عبرة بقول المريسي ، الذي خرق به الإجماع ، وهو اعتبار العدد في الدراهم لا الوزن ، ولا بما انفرد به السرخسي من الشافعية ، زاعما أنه وجه في المذهب ، من أن الدارهم المغشوشة إذا بلغت قدرا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلا لبلغ نصابا أن الزكاة تجب فيه ، كما نقل عن أبي حنيفة ، ولا بقول ابن حبيب الأندلسي ، إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم ، ولا بما ذكره ابن عبد البر من اختلاف الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد ; لأن النصوص الصحيحة [ ص: 119 ] الصريحة التي أجمع عليها المسلمون مبينة أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي بالوزن الذي كان معروفا في مكة . اهـ .
إلى ص 435 وكل سبعة مثاقيل فهي عشرة دراهم ، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه ، وقد أجمع جميع المسلمين ، وجمهور أهل اللسان العربي ، على أن الأوقية أربعون درهما ، وما ذكره أبو عبيد وغيره - من أن الدرهم كان مجهولا قدره حتى جاء عبد الملك بن مروان ، فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل - لا يخفى سقوطه ، وأنه لا يمكن أن يكون نصاب الزكاة وقطع السرقة مجهولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، حتى يحققه عبد الملك ، والظاهر أن معنى ما نقل من ذلك : أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام ، وكانت مختلفة الوزن بالنسبة إلى العدد : فعشرة مثلا وزن عشرة ، وعشرة وزن ثمانية ، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصيرونها وزنا واحدا .
وقد ذكرنا تحقيق وزن الدرهم في الأنعام ، وقال بعض العلماء : يغتفر في نصاب الفضة النقص اليسير الذي تروج معه الدراهم رواج الكاملة .
وظاهر النصوص أنه لا زكاة إلا في نصاب كامل ; لأن الناقص ولو بقليل يصدق عليه أنه دون خمس أواق ، والنبي صلى الله عليه وسلم : " صرح بأن ما دونها ليس فيه صدقة " .
فإذا حققت النص والإجماع : على أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي ، وهي وزن مائة وأربعين مثقالا من الفضة الخالصة ، فاعلم أن القدر الواجب إخراجه منها ربع العشر بإجماع المسلمين ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وفي الرقة ربع العشر " والرقة : الفضة .
قال البخاري في صحيحه في باب " زكاة الغنم " : حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس ، أن أنسا حدثه ، أن أبا بكر رضي الله عنه ، كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه فريضة الصدقة ، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، والتي أمر الله بها رسوله " الحديث : وفيه ، وفي الرقة : ربع العشر ، وهو نص صريح صحيح [ ص: 120 ] أجمع عليه جميع المسلمين .
فتحصل أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب الزكاة في الفضة ، ولا خلاف بينهم في أن نصابها مائتا درهم شرعي ، ولا خلاف بينهم في أن اللازم فيها ربع العشر .
وجمهور العلماء : على أنها لا وقص فيها خلافا لأبي حنيفة ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن البصري ، والشعبي ، ومكحول ، وعمرو بن دينار ، والزهري ، القائلين : بأنه لا شيء في الزيادة على المائتين حتى تبلغ أربعين ، ففيها درهم .
وأما الذهب : فجماهير علماء المسلمين ، على أن نصابه عشرون دينارا ، والدينار : هو المثقال ، فلا عبرة بقول من شذ وخالف جماهير علماء المسلمين ، كما روي عن الحسن في أحد قوليه : أن نصاب الذهب أربعون دينارا ، وكقول طاوس ، إن نصاب الذهب معتبر بالتقويم بالفضة ، فما بلغ منه قيمة مائتي درهم وجبت فيه الزكاة ، وجماهير علماء المسلمين أيضا ، على أن الواجب فيه ربع العشر .
والدليل على ما ذكرنا عن جمهور علماء الأمة ، أن نصاب الذهب عشرون دينارا ، والواجب فيه ربع العشر ، ما أخرجه أبو داود ، في سننه ، حدثنا سليمان بن داود المهري ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، وسمي آخر ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، والحارث الأعور ، عن علي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم ، وليس عليك شيء " يعني في الذهب " حتى يكون لك عشرون دينارا ، فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ، ففيها نصف دينار ، فما زاد فبحساب ذلك " ، قال : فلا أدري أعلي يقول فبحساب ذلك ، أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ، إلا أن جريرا قال : ابن وهب ، يزيد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (114)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(3)
صـ 121 إلى صـ 125
فإن قيل : هذا الحديث مضعف بالحارث الأعور ، وعاصم بن ضمرة ; لأنهما ضعيفان ، وبأن الدارقطني ، قال : الصواب وقفه على علي ، وبأن ابن المواق قال : إن فيه علة خفية وهي : أن جرير بن حازم ، لم يسمعه من أبي إسحاق ، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب : سحنون ، وحرملة ، ويونس ، وبحر بن نصر ، وغيرهم ، عن ابن وهب ، عن جرير بن حازم ، والحارث بن نبهان ، عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق ، فذكره ، قال ابن المواق : الحمل فيه على سليمان ، شيخ أبي داود ، فإنه وهم في إسقاط [ ص: 121 ] رجل اهـ .
وبأن الشافعي رحمه الله قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق صدقة ، وأخذ المسلمون بعده في الذهب صدقة ، إما بخبر عنه لم يبلغنا ، وإما قياسا ، اهـ : وهو صريح عن الشافعي : بأنه يرى أن الذهب لم يثبت فيه شيء في علمه ، وبأن ابن عبد البر ، قال : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات .
لكن روى الحسن بن عمارة ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم ، والحارث ، عن علي ، فذكره ، وكذا رواه أبو حنيفة : ولو صح عنه لم يكن فيه حجة ; لأن الحسن بن عمارة متروك .
وبأن ابن حزم قال : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نصاب الذهب ، ولا في القدر الواجب فيه شيء .
وذكر : أن الحديث المذكور ، من رواية الحارث الأعور مرفوع ، والحارث ضعيف لا يحتج به ، وكذبه غير واحد ، قال : وأما رواية عاصم بن ضمرة ، فهي موقوفة على علي رضي الله عنه ، قال : وكذلك رواه شعبة ، وسفيان ، ومعمر عن أبي إسحاق ، عن عاصم ، موقوفا : وكذا كل ثقة رواه عن عاصم .
فالجواب من أوجه :
الأول : أن بعض العلماء قال : إن هذا الحديث ثابت ، قال الترمذي : وقد روى طرفا من هذا الحديث : وروى هذا الحديث الأعمش ، وأبو عوانة ، وغيرهما ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، ورواه سفيان الثوري ، وابن عيينة ، وغير واحد ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث عن علي ، وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث ، فقال : كلاهما عندي صحيح ، اهـ .
فترى الترمذي نقل عن البخاري ، تصحيح هذا الحديث ، وقال النووي في " شرح المهذب " : وأما حديث عاصم عن علي رضي الله عنه ، فرواه أبو داود وغيره بإسناد حسن ، أو صحيح ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، اهـ .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحديث علي هو من حديث أبي إسحاق ، عن الحارث الأعور ، وعاصم بن ضمرة ، وقد تقدم أن البخاري قال : كلاهما عنده صحيح ، وقد حسنه الحافظ ، اهـ محل الغرض من كلام الشوكاني .
[ ص: 122 ] الوجه الثاني : أنه يعتضد بما رواه الدارقطني ، من حديث محمد بن عبد الله بن جحش ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه أمر معاذا ، حين بعثه إلى اليمن ، أن يأخذ من كل أربعين دينارا دينارا ، الحديث ذكره ابن حجر ، في " التلخيص " وسكت عليه ، وبما رواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ولا في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء " ، قال النووي : غريب ، اهـ .
الوجه الثالث : المناقشة بحسب صناعة علم الحديث والأصول ، فنقول :
سلمنا أن الحارث الأعور ضعيف كما تقدم في المائدة ، وإن وثقه ابن معين ، فيبقى عاصم بن ضمرة ، الذي روى معه الحديث ، فإن حديثه حجة ، وقد وثقه ابن المديني .
وقال : النسائي : ليس به بأس .
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي ، صدوق وتعتضد روايته برواية الحارث ، وإن كان ضعيفا . وبما ذكرنا عن محمد بن عبد الله بن جحش ، وعمرو بن شعيب .
فبهذا تعلم أن تضعيف الحديث بضعف سنده مردود .
وقد قدمنا عن الترمذي ، أن البخاري قال : كلاهما صحيح .
وقد قدمنا أن النووي قال فيه : حسن أو صحيح .
ونقل الشوكاني ، عن ابن حجر : أنه حسنه .
أما ما أعله به ابن المواق ، من أن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق ; لأن بينهما الحسن بن عمارة وهو متروك ، فهو مردود ; لأن الحديث ثابت من طرق متعددة صحيحة إلى أبي إسحاق ، وقد قدمنا أن الترمذي قال ، وذكر طرفا منه ، هذا الحديث رواه الأعمش ، وأبو عوانة وغيرهما ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، ورواه سفيان ، الثوري ، وابن عيينة ، وغير واحد ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي . اهـ .
فترى : أن أبا عوانة ، والأعمش ، والسفيانين ، وغيرهم ، كلهم رووه عن أبي إسحاق .
وبه تعلم بأن إعلال ابن المواق له بأن راويه عن أبي إسحاق الحسن بن عمارة ، وهو متروك - إعلال ساقط ; لصحة الحديث إلى أبي إسحاق ، فإذا حققت رد تضعيفه بأن عاصما صدوق ، ورد إعلال ابن المواق له ، فاعلم أن إعلال ابن حزم له بأن المرفوع رواية [ ص: 123 ] الحارث ، وهو ضعيف : وأن رواية عاصم بن ضمرة ، موقوفة على علي ، مردود من وجهين :
الأول : أن قدر نصاب الزكاة ، وقدر الواجب فيه ، كلاهما أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه والاجتهاد ، والموقوف إن كان كذلك فله حكم الرفع ، كما علم في علم الحديث والأصول .
قال العلوي الشنقيطي في " طلعة الأنوار " :
وما أتى عن صاحب مما منع فيه مجال الرأي عندهم رفع وقال العراقي في ألفيته : [ الرجز ]
وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا حكمه الرفع على ما قال في المحصول نحو من أتى فالحاكم الرفع لهذا أثبتا الثاني : أن سند أبي داود الذي رواه به حسن ، أو صحيح ، كما قاله النووي ، وغيره ، والرفع من زيادات العدول ، وهي مقبولة ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]
والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ إلخ . . .
الوجه الرابع : اعتضاد الحديث المذكور بإجماع الحجة من علماء المسلمين إلا من شذ عن السواد الأعظم على العمل بمقتضاه ، وإجماع المسلمين إذا وافق خبر آحاد ، فبعض العلماء يقول : يصير بمواقفة الإجماع له قطعيا كالمتواتر .
وأكثر الأصوليين يقولون : لا يصير قطعيا بذلك .
وفرق قوم ، فقالوا : إن صرحوا بأن معتمدهم في إجماعهم هو ذلك الخبر - أفاد القطع ، وإلا فلا ، وأشار إلى ذلك في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
ولا يفيد القطع ما يوافق الإجماع والبعض بقطع ينطق وبعضهم يفيد حيث عولا عليه . . . . . . إلخ وعلى كل حال ، فلا يخفى أنه يعتضد بعمل المسلمين به .
الخامس : دلالة الكتاب ، والإجماع ، على أن الزكاة واجبة في الذهب .
أما الكتاب : فقوله تعالى : [ ص: 124 ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [ 9 \ 34 ، 35 ] .
وأما السنة : فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه ، ووجهه ، وظهره ، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة ، وإما إلى النار " ، الحديث . هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وهو صريح في وجوب الحق في الذهب ، كالفضة ، وقد أجمع على ذلك جميع العلماء ، وإذن يكون الحديث المذكور بيانا لشيء ثابت قطعا ، وقد تقرر في الأصول أن البيان يجوز بما هو دون المبين دلالة وسندا ، كما أوضحناه في ترجمة هذا الكتاب .
فتحصل أن نصاب الذهب عشرون مثقالا ، وما زاد فبحسابه ، وأن الواجب فيه ربع العشر ، كالفضة ، وأن الذهب والفضة ليس فيهما وقص ، بل كل ما زاد على النصاب فبحسابه ، خلافا لمن شذ فخالف في بعض ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه يجب اعتبار الوزن في نصاب الفضة والذهب بالوزن الذي كان معروفا عند أهل مكة ، كما يجب اعتبار الكيل في خمسة الأوسق التي هي نصاب الحبوب والثمار بالكيل الذي كان معروفا عند أهل المدينة .
قال النسائي في " سننه " في " كتاب الزكاة " : أخبرنا أحمد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حنظلة ، عن طاوس عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المكيال مكيال أهل المدينة ، والوزن وزن أهل مكة " .
وقال أبو داود في " سننه " في " كتاب البيوع " : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا ابن دكين عن حنظلة ، عن طاوس ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوزن وزن أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة " ، وقال النووي في " شرح المهذب " : وأما حديث " الميزان ميزان أهل مكة " إلى آخره فرواه أبو داود ، والنسائي بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم ، من رواية ابن عمر ، رضي الله عنهما .
وقال أبو داود : روي من رواية ابن عباس ، رضي الله عنهما ، اهـ .
[ ص: 125 ] قال الخطابي : معنى هذا الحديث أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة وزن أهل مكة ، وهي دار الإسلام ، قال ابن حزم : وبحثت عنه غاية البحث من كل من وثقت بتمييزه : وكل اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة ، وثلاثة أعشار حبة من حب الشعير المطلق ، والدرهم سبعة أعشار المثقال ، فوزن الدرهم : سبع وخمسون وستة أعشار حبة ، وعشر عشر حبة ، فالرطل مائة وواحد وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور . اهـ .
وفي القاموس في مادة " م ك ك " ، والمثقال : درهم وثلاثة أسباع ، والدرهم : ستة دوانق ، والدانق : قيراطان ، والقيراط : طسوجان ، والطسوج : حبتان ، والحبة : سدس ثمن درهم ، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من الدرهم . اهـ .
وقد قدمنا الكلام على قدر خمسة الأوسق في سورة " الأنعام " .
المسألة الثانية : هل يضم الذهب والفضة بعضهما إلى بعض في الزكاة أو لا ؟ لم أر في ذلك نصا صريحا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلماء مختلفون فيه ، وقد توقف الإمام أحمد - رحمه الله - عن ضم أحدهما إلى الآخر في رواية الأثرم ، وجماعة ، وقطع في رواية حنبل بأنه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل واحد منهما نصابا .
وممن قال بأن الذهب والفضة لا يضم بعضهما إلى بعض : الشافعي ، وأبو ثور ، وأبو عبيد وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح ، وشريك ، قال ابن قدامة : في " المغني " : واختاره أبو بكر عبد العزيز .
وممن قال : إن الذهب والفضة يضم بعضهما إلى بعض في تكميل النصاب : مالك ، والأوزاعي ، والحسن ، وقتادة ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه .
قال مقيده عفا الله عنه : والذي يظهر لي رجحانه بالدليل من القولين أن الذهب والفضة لا يضم أحدهما إلى الآخر لما ثبت في بعض الروايات الصحيحة ، كما رواه مسلم في " صحيحه " عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة " الحديث .
فلو كان عنده أربع أواق من الورق الذي هو : الفضة ، وما يكمل النصاب من الذهب فإنه يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه ليس عنده خمس أواق من الورق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (115)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(4)
صـ 126 إلى صـ 130
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه لا صدقة في أقل من خمس أواق [ ص: 126 ] من الورق ، وظاهر نص الحديث على اسم الورق يدل على أنه : لا زكاة في أقل من خمس أواق من الفضة ، ولو كان عنده ذهب كثير ، ولا دليل من النصوص يصرف عن هذا الظاهر ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اختلف العلماء في زكاة الحلي المباح ، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا زكاة فيه ، وممن قال به : مالك ، والشافعي ، وأحمد في أصح قوليهما ، وبه قال عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وعائشة ، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، والشعبي ، ومحمد بن علي ، والقاسم بن محمد ، وابن سيرين ، والزهري ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وابن المنذر .
وممن قال بأن الحلي المباح تجب فيه الزكاة : أبو حنيفة رحمه الله ، وروي عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وميمون بن مهران ، وجابر بن زيد ، والحسن بن صالح ، وسفيان الثوري ، وداود ، وحكاه ابن المنذر أيضا عن ابن المسيب ، وابن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وعبد الله بن شداد ، والزهري .
وسنذكر إن شاء الله تعالى حجج الفريقين ، ومناقشة أدلتهما على الطرق المعروفة في الأصول ، وعلم الحديث ; ليتبين للناظر الراجح من الخلاف .
اعلم أن من قال بأن الحلي المباح لا زكاة فيه ، تنحصر حجته في أربعة أمور :
الأول : حديث جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : آثار صحيحة عن بعض الصحابة يعتضد بها الحديث المذكور .
الثالث : القياس .
الرابع : وضع اللغة .
أما الحديث : فهو ما رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار من طريق عافية بن أيوب ، عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا زكاة في الحلي " .
قال البيهقي : وهذا الحديث لا أصل له ، إنما روي عن جابر من قوله غير مرفوع ، والذي يروى عن عافية بن أيوب ، عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر مرفوعا لا أصل له ، وعافية بن أيوب مجهول : فمن احتج به مرفوعا ، كان مغررا بدينه ، داخلا [ ص: 127 ] فيما نعيب به المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين ، والله يعصمنا من أمثال هذا .
قال مقيده عفا الله عنه : ما قاله الحافظ البيهقي - رحمه الله تعالى - من أن الحكم برواية عافية المذكور لهذا الحديث مرفوعا من جنس الاحتجاج برواية الكذابين فيه نظر ; لأن عافية المذكور لم يقل فيه أحد إنه كذاب ، وغاية ما في الباب أن البيهقي ظن أنه مجهول ; لأنه لم يطلع على كونه ثقة ، وقد اطلع غيره على أنه ثقة فوثقه ، فقد نقل ابن أبي حاتم توثيقه ، عن أبي زرعة ، قال ابن حجر في " التلخيص " : عافية بن أيوب ، قيل : ضعيف ، وقال ابن الجوزي : ما نعلم فيه جرحا ، وقال البيهقي ، مجهول ، ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة .
ولا يخفى أن من قال إنه مجهول يقدم عليه من قال إنه ثقة ; لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه مدعي أنه مجهول ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والتجريح لا يقبل مع الإجمال ، فعافية هذا وثقه أبو زرعة ، والتعديل والتجريح يكفي فيهما واحد على الصحيح في الرواية دون الشهادة ، قال العراقي في ألفيته : [ الرجز ]
وصححوا اكتفاءهم بالواحد جرحا وتعديلا خلاف الشاهد والتعديل يقبل مجملا
بخلاف الجرح للاختلاف في أسبابه
قال العراقي في ألفيته : [ الرجز ]
وصححوا قبول تعديل بلا ذكر لأسباب له أن تثقلا
ولم يروا قبول جرح أبهما للخلف في أسبابه وربما استفسر
الجرح فلم يقدح كما فسره شعبة بالركض فما هذا الذي عليه حفاظ الأثر كشيخي الصحيح مع أهل النظر إلخ . . .
وهذا هو الصحيح ، فلا شك أن قول البيهقي في عافية : إنه مجهول أولى منه بالتقديم قول أبي زرعة : إنه ثقة ; لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وإذا ثبت الاستدلال بالحديث المذكور ، فهو نص في محل النزاع .
ويؤيد ما ذكر من توثيق عافية المذكور أن ابن الجوزي مع سعة اطلاعه ، وشدة بحثه عن الرجال ، قال : إنه لا يعلم فيه جرحا .
وأما الآثار الدالة على ذلك : فمنها ما رواه الإمام مالك في " الموطأ " ، عن [ ص: 128 ] عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه : " أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي ، فلا تخرج من حليهن الزكاة " ، وهذا الإسناد عن عائشة في غاية الصحة ، كما ترى .
ومنها ما رواه مالك في " الموطأ " أيضا ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه كان يحلي بناته وجواريه الذهب ، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة ، وهذا الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما في غاية الصحة كما ترى .
وما قاله بعض أهل العلم من أن المانع من الزكاة في الأول أنه مال يتيمة ، وأنه لا تجب الزكاة على الصبي ، كما لا تجب عليه الصلاة ، مردود بأن عائشة ترى وجوب الزكاة في أموال اليتامى ، فالمانع من إخراجها الزكاة ، كونه حليا مباحا على التحقيق ، لا كونه مال يتيمة ، وكذلك دعوى أن المانع لابن عمر من زكاة الحلي أنه لجوار مملوكات ، وأن المملوك لا زكاة عليه ، مردود أيضا بأنه كان لا يزكي حلي بناته مع أنه كان يزوج البنت له على ألف دينار يحليها منها بأربعمائة ، ولا يزكي ذلك الحلي ، وتركه لزكاته لكونه حليا مباحا على التحقيق .
ومن الآثار الواردة في ذلك ما رواه الشافعي ، أنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، سمعت رجلا يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي ، فقال " زكاته عاريته " ، ذكره البيهقي في " السنن الكبرى " ، وابن حجر في " التلخيص " وزاد البيهقي ، فقال : وإن كان يبلغ ألف دينار فقال جابر : كثير .
ومنها ما رواه البيهقي عن علي بن سليم قال : سألت أنس بن مالك عن الحلي ، فقال : ليس فيه زكاة .
ومنها ما رواه البيهقي ، عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلي بناتها الذهب ولا تزكيه نحوا من خمسين ألفا .
وأما القياس فمن وجهين :
الأول : أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية ، ألحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان ، بجامع أن كلا معد للاستعمال لا للتنمية ، وقد أشار إلى هذا الإلحاق مالك رحمه الله في " الموطأ " بقوله : فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه ، فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله ، [ ص: 129 ] فليس على أهله فيه زكاة ، قال مالك : ليس في اللؤلؤ ، ولا في المسك ، والعنبر زكاة .
الثاني من وجهي القياس : هو النوع المعروف بقياس العكس ، وأشار له في " مراقي السعود " بقوله في كتاب الاستدلال : [ الرجز ]
منه قياس المنطقي والعكس ومنه فقد الشرط دون لبس
وخالف بعض العلماء في قبول هذا النوع من القياس ، وضابطه : هو إثبات عكس حكم شيء لشيء آخر لتعاكسهما في العلة ، ومثاله حديث مسلم : أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر ؟ ! قال : " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ " الحديث ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : أثبت في الجماع المباح أجرا ، وهو حكم عكس حكم الجماع الحرام ; لأن فيه الوزر ; لتعاكسهما في العلة ; لأن علة الأجر في الأول إعفاف امرأته ونفسه ، وعلة الوزر في الثاني كونه زنى .
ومن أمثلة هذا النوع من القياس عند المالكية : احتجاجهم على أن الوضوء لا يجب من كثير القيء ، بأنه لما لم يجب من قليله لم يجب من كثيره عكس البول لما وجب من قليله وجب من كثيره .
ومن أمثلته عند الحنفية ، قولهم : لما لم يجب القصاص من صغير المثقل ، لم يجب من كبيره عكس المحدد لما وجب من صغيره وجب من كبيره .
ووجه هذا النوع من القياس في هذه المسألة التي نحن بصددها ، هو أن العروض لا تجب في عينها الزكاة ، فإذا كانت للتجارة والنماء ، وجبت فيها الزكاة عكس العين ، فإن الزكاة واجبة في عينها ، فإذا صيغت حليا مباحا للاستعمال ، وانقطع عنها قصد التنمية بالتجارة ، صارت لا زكاة فيها ، فتعاكست أحكامها لتعاكسهما في العلة ، ومنع هذا النوع من القياس بعض الشافعية ، وقال ابن محرز : إنه أضعف من قياس الشبه ، ولا يخفى أن القياس يعتضد به ما سبق من الحديث المرفوع ، والآثار الثابتة عن بعض الصحابة ، لما تقرر في الأصول ، من أن موافقة النص للقياس من المرجحات ، وأما وضع اللغة ، فإن بعض العلماء يقول : الألفاظ الواردة في الصحيح في زكاة العين لا تشمل الحلي في لسان العرب .
قال أبو عبيد : الرقة عند العرب : الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس ، ولا تطلقها العرب على المصوغ ، وكذلك قيل في الأوقية .
[ ص: 130 ] قال مقيده عفا الله عنه : ما قاله أبو عبيد هو المعروف في كلام العرب ، قال الجوهري في " صحاحه " : الورق الدراهم المضروبة ، وكذلك الرقة ، والهاء عوض عن الواو ، وفي " القاموس " : الورق - مثلثة - وككتف : الدراهم المضروبة ، وجمعه أوراق ووراق كالرقة .
هذا هو حاصل حجة من قال : لا زكاة في الحلي .
وما ادعاه بعض أهل العلم من الاحتجاج لذلك بعمل أهل المدينة ، فيه أن بعض أهل المدينة مخالف في ذلك ، والحجة بعمل أهل المدينة عند من يقول بذلك - مالك - إنما هي في إجماعهم على أمر لا مجال للرأي فيه ، لا إن اختلفوا ، أو كان من مسائل الاجتهاد ، كما أشار له في " مراقي السعود " ، بقوله : [ الرجز ]
وأوجبن حجية للمدني فيما على التوقيف أمره بني
وقيل : مطلقا . . إلخ .
لأن مراده بالمدني : الإجماع المدني الواقع من الصحابة أو التابعين ، لا ما اختلفوا فيه كهذه المسألة ، وقيده بما بني على التوقيف دون مسائل الاجتهاد في القول الصحيح .
وأما حجة القائلين بأن الحلي تجب فيه الزكاة : فهي منحصرة في أربعة أمور أيضا :
الأول : أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الزكاة في الحلي .
الثاني : آثار وردت بذلك عن بعض الصحابة .
الثالث : وضع اللغة .
الرابع : القياس .
أما الأحاديث الواردة بذلك ، فمنها ما رواه أبو داود في " سننه " ، حدثنا أبو كامل ، وحميد بن مسعدة " المعنى " أن خالد بن الحارث حدثهم : ثنا حسين ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : " أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، فقال لها : " أتعطين زكاة هذا ؟ " قالت : لا ، قال : " أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ ! " قال : فخلعتهما ، فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : هما لله عز وجل ولرسوله " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (116)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(5)
صـ 131 إلى صـ 135
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت حسينا ، قال : حدثني عمرو بن شعيب ، قال : جاءت امرأة ، ومعها بنت لها ، وفي يد ابنتها مسكتان ، نحوه ، مرسل . قال أبو عبد الرحمن : خالد أثبت من المعتمر . اهـ .
وهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود ، والنسائي من طريق حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب أقل درجاته الحسن ، وبه تعلم أن قول الترمذي رحمه الله : لا يصح في الباب شيء غير صحيح ; لأنه لم يعلم برواية حسين المعلم له عن عمرو بن شعيب ، بل جزم بأنه لم يرو عن عمرو بن شعيب إلا من طريق ابن لهيعة ، والمثنى بن الصباح ، وقد تابعهما حجاج بن أرطاة والجميع ضعاف .
ومنها ما رواه أبو داود أيضا ، حدثنا محمد بن عيسى ، ثنا عتاب يعني ابن بشير ، عن ثابت بن عجلان ، عن عطاء ، عن أم سلمة ، قالت : كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال : " ما بلغ أن تؤدي زكاته ، فزكي فليس بكنز " ، وأخرج نحوه الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي . اهـ .
ومنها ما رواه أبو داود أيضا ، حدثنا محمد بن إدريس الرازي ، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق ، ثنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن أبي جعفر : أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال : دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق ، فقال : " ما هذا يا عائشة ؟ ! " ، فقلت : صنعتهن أتزين لك يا رسول الله ، قال : " أتؤدين زكاتهن ؟ " قلت : لا ، أو ما شاء الله ، قال : " هو حسبك من النار " .
حدثنا صفوان بن صالح ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا سفيان ، عن عمر بن يعلى ، فذكر الحديث نحو حديث الخاتم ، قيل لسفيان : كيف تزكيه ؟ قال : تضمه إلى غيره . اهـ .
وحديث عائشة هذا أخرج نحوه أيضا الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي . اهـ .
وأخرج الدارقطني ، عن عائشة ، من طريق عمرو بن شعيب ، عن عروة عنها ، قالت : لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته . اهـ .
[ ص: 132 ] قال البيهقي رحمه الله :
وقد انضم إلى حديث عمرو بن شعيب حديث أم سلمة ، وحديث عائشة ، وساقهما .
ومنها ما رواه الإمام أحمد ، عن أسماء بنت يزيد بلفظ : قالت : " دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلينا أساور من ذهب فقال لنا : " أتعطيان زكاته ؟ " ، فقلنا : لا ، قال : " أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار ؟ ! أديا زكاته " . اهـ .
وروى الدارقطني نحوه من حديث فاطمة بنت قيس ، وفي سنده أبو بكر الهذلي ، وهو متروك ، اهـ . قاله ابن حجر في " التلخيص " .
وأما الآثار : فمنها ما رواه ابن أبي شيبة ، والبيهقي من طريق شعيب بن يسار قال : كتب عمر إلى أبي موسى : أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهن . اهـ .
قال البيهقي : هذا مرسل ، شعيب بن يسار لم يدرك عمر . اهـ .
وقال ابن حجر في " التلخيص " : وهو مرسل ، قاله البخاري ، وقد أنكر الحسن ذلك فيما رواه ابن أبي شيبة قال : لا نعلم أحدا من الخلفاء قال : " في الحلي زكاة " .
ومنها ما رواه الطبراني ، والبيهقي ، عن ابن مسعود : أن امرأته سألته ، عن حلي لها ، فقال : إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة ، قالت : أضعها في بني أخ لي في حجري ؟ قال : نعم .
قال البيهقي : وقد روي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بشيء ، وقال : قال البخاري : مرسل ، ورواه الدارقطني من حديث ابن مسعود مرفوعا ، وقال : هذا وهم والصواب موقوف . قاله ابن حجر في " التلخيص " .
ومنها ما رواه البيهقي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنه كان يكتب إلى خازنه سالم ، أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة ، وما روي من ذلك عن ابن عباس ، قال الشافعي : لا أدري أيثبت عنه أم لا ؟ وحكاه ابن المنذر ، والبيهقي ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، وغيرهما . قاله في " التلخيص " أيضا .
وأما القياس : فإنهم قاسوا الحلي على المسكوك والمسبوك بجامع أن الجميع نقد .
وأما وضع اللغة : فزعموا أن لفظ الرقة ، ولفظ الأوقية الثابت في الصحيح يشمل [ ص: 133 ] المصوغ كما يشمل المسكوك ، وقد قدمنا أن التحقيق خلافه .
فإذا علمت حجج الفريقين ، فسنذكر لك ما يمكن أن يرجع به كل واحد منهما .
أما القول بوجوب زكاة الحلي ، فله مرجحات :
منها : أن من رواه من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ، كما قدمنا روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعائشة ، وأم سلمة ، وأسماء بنت يزيد ، رضي الله عنهم .
أما القول بعدم وجوب الزكاة فيه ، فلم يرو مرفوعا إلا من حديث جابر ، كما تقدم .
وكثرة الرواة من المرجحات على التحقيق ، كما قدمنا في سورة " البقرة " في الكلام على آية الربا .
ومنها : أن أحاديثه كحديث عمرو بن شعيب ، ومن ذكر معه أقوى سندا من حديث سقوط الزكاة الذي رواه عافية بن أيوب .
ومنها : أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة ; للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار المدلول : [ الرجز ]
وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة . . . إلخ .
ومعنى قوله : "
ثم هذا الآخر على إباحة
" أن ما دل على الأمر مقدم على ما دل على الإباحة كما ذكرنا .
ومنها : دلالة النصوص الصريحة على وجوب الزكاة في أصل الفضة ، والذهب ، وهي دليل على أن الحلي من نوع ما وجبت الزكاة في عينه ، هذا حاصل ما يمكن أن يرجح به هذا القول .
وأما القول بعدم وجوب الزكاة في الحلي المباح ، فيرجح بأن الأحاديث الواردة في التحريم إنما كانت في الزمن الذي كان فيه التحلي بالذهب محرما على النساء ، والحلي المحرم تجب فيه الزكاة اتفاقا .
وأما أدلة عدم الزكاة فيه ، فبعد أن صار التحلي بالذهب مباحا .
والتحقيق : أن التحلي بالذهب كان في أول الأمر محرما على النساء ، ثم أبيح ، كما يدل له ما ساقه البيهقي من أدلة تحريمه أولا وتحليله ثانيا ، وبهذا يحصل الجمع بين [ ص: 134 ] الأدلة ، والجمع واجب إن أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " : [ الرجز ]
والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا
ووجهه ظاهر ; لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ومعلوم أن الجمع إذا أمكن أولى من جميع الترجيحات .
فإن قيل : هذا الجمع يقدح فيه حديث عائشة المتقدم ، فإن فيه " فرأى في يدي فتخات من ورق " الحديث .
والورق : الفضة ، والفضة لم يسبق لها تحريم ، فالتحلي بها لم يمتنع يوما ما .
فالجواب ما قاله الحافظ البيهقي - رحمه الله تعالى - قال : من قال : لا زكاة في الحلي ، زعم أن الأحاديث والآثار الواردة في وجوب زكاته كانت حين كان التحلي بالذهب حراما على النساء ، فلما أبيح لهن سقطت زكاته .
قال : وكيف يصح هذا القول مع حديث عائشة ، إن كان ذكر الورق فيه محفوظا ، غير أن رواية القاسم ، وابن أبي مليكة ، عن عائشة في تركها إخراج زكاة الحلي مع ما ثبت من مذهبها من إخراج زكاة أموال اليتامى - يوقع ريبة في هذه الرواية المرفوعة ، فهي لا تخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه ، إلا فيما علمته منسوخا . اهـ .
وقد قدمنا في سورة " البقرة " الكلام على مخالفة الصحابي لما روي في آية الطلاق ، وبالجملة فلا يخفى أنه يبعد أن تعلم عائشة أن عدم زكاة الحلي فيه الوعيد من النبي لها بأنه حسبها من النار ، ثم تترك إخراجها بعد ذلك عمن في حجرها ، مع أنها معروف عنها القول بوجوب الزكاة في أموال اليتامى .
ومن أجوبة أهل هذا القول : أن المراد بزكاة الحلي عاريته ، ورواه البيهقي ، عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، في إحدى الروايتين عنه .
هذا حاصل الكلام في هذه المسألة .
وأقوى الوجوه بحسب المقرر في الأصول وعلم الحديث : الجمع إذا أمكن ، وقد أمكن هنا .
قال مقيده عفا الله عنه : وإخراج زكاة الحلي أحوط ; لأن " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " - " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 135 ] المسألة الرابعة : اعلم أن جماهير علماء المسلمين من الصحابة ومن بعدهم على وجوب الزكاة في عروض التجارة ، فتقوم عند الحول ، ويخرج ربع عشرها كزكاة العين ، قال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة ، قال : رويناه عن عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وابن عباس ، والفقهاء السبعة : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وخارجة بن زيد ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسليمان بن يسار ، والحسن البصري ، وطاوس ، وجابر بن زيد ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، والنعمان ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي عبيد ، اهـ ، بواسطة نقل النووي في " شرح المهذب " ، وابن قدامة في " المغني " ، ولمالك - رحمه الله - تفصيل في عروض التجارة ; لأن عروض التجارة عنده تنقسم إلى عرض تاجر مدير ، وعرض تاجر محتكر ، فالمدير هو الذي يبيع ويشتري دائما ، والمحتكر هو الذي يشتري السلع ويتربص بها حتى يرتفع سعرها فيبيعها ، وإن لم يرتفع سعرها لم يبعها ولو مكثت سنين .
فعروض المدير عنده وديونه التي يطالب بها الناس إن كانت مرجوة يزكيها عند كل حول ، والدين الحال يزكيه بالعدد ، والمؤجل بالقيمة .
أما عرض المحتكر فلا يقوم عنده ولا زكاة فيه حتى يباع بعين فيزكي العين على حول أصل العرض ، وإلى هذا أشار ابن عاشر ، في " المرشد المعين " بقوله : [ الرجز ]
والعرض ذو التجر ودين من أدار قيمتها كالعين ثم ذو احتكار زكى لقبض ثمن أو دين
عينا بشرط الحول للأصلين
زاد مالك في مشهور مذهبه شرطا ، وهو أنه يشترط في وجوب تقويم عروض المدير أن يصل يده شيء ناض من ذات الذهب أو الفضة ، ولو كان ربع درهم أو أقل ، وخالفه ابن حبيب من أهل مذهبه ، فوافق الجمهور في عدم اشتراط ذلك .
ولا يخفى أن مذهب الجمهور هو الظاهر ، ولم نعلم بأحد من أهل العلم خالف في وجوب زكاة عروض التجارة ، إلا ما يروى عن داود الظاهري ، وبعض أتباعه .
ودليل الجمهور آية ، وأحاديث ، وآثار وردت بذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يعلم أن أحدا منهم خالف في ذلك ، فهو إجماع سكوتي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (117)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(6)
صـ 136 إلى صـ 140
فمن الأحاديث الدالة على ذلك : ما رواه أبو ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه [ ص: 136 ] قال : " في الإبل صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البز صدقته " الحديث . أخرجه الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي .
وقال النووي في " شرح المهذب " : هذا الحديث رواه الدارقطني ، في " سننه " ، والحاكم أبو عبد الله في " المستدرك " ، والبيهقي ، بأسانيدهم ، ذكره الحاكم بإسنادين ، ثم قال : هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ، ومسلم ، اهـ .
ثم قال : قوله : " وفي البز صدقته " ، هو بفتح الباء وبالزاي ، هكذا رواه جميع الرواة ، وصرح بالزاي الدارقطني ، والبيهقي ، وقال ابن حجر في " التلخيص " : حديث أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " في الإبل صدقتها وفي البز صدقته " ، أخرجه الدارقطني ، عن أبي ذر من طريقين ، وقال في آخره : " وفي البز صدقته " ، قالها بالزاي ، وإسناده غير صحيح ، مداره على موسى بن عبيدة الربذي ، وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج ، عن عمران بن أبي أنس ، عن مالك بن أوس ، عن أبي ذر وهو معلول ; لأن ابن جريج ، رواه عن عمران : أنه بلغه عنه ، ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه ، وقال : سألت البخاري عنه فقال : لم يسمعه ابن جريج من عمران ، وله طريقة رابعة ، رواه الدارقطني أيضا ، والحاكم ، من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام ، عن عمران ، ولفظه : " في الإبل صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البقر صدقتها ، وفي البز صدقته ، ومن رفع دراهم أو دنانير لا يعدها لغريم ، ولا ينفقها في سبيل الله ، فهو كنز يكوى به يوم القيامة ، وهذا إسناد لا بأس به ، اهـ .
فترى ابن حجر قال : إن هذا الإسناد لا بأس به مع ما قدمنا عن الحاكم من صحة الإسنادين المذكورين ، وتصحيح النووي لذلك والذي رأيته في سنن البيهقي : أن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام يروي الحديث عن موسى المذكور ، عن عمران ، لا عن عمران مباشرة فانظره .
فإن قيل : قال ابن دقيق العيد : الذي رأيته في نسخة من " المستدرك " في هذا الحديث : " البر " بضم الموحدة وبالراء المهملة ، ورواية الدارقطني التي صرح فيها بالزاي في لفظة البز في الحديث ضعيفة ، وإذن فلا دليل في الحديث على تقرير صحته على وجوب زكاة عروض التجارة .
فالجواب هو ما قدمنا عن النووي ، من أن جميع رواته رووه بالزاي ، وصرح بأنه بالزاي البيهقي ، والدارقطني ، كما تقدم .
[ ص: 137 ] ومن الأحاديث الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة ما أخرجه أبو داود في " سننه " عن سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه ، قال : " أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع " ، وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده . وقد قال ابن حجر في " التلخيص " في هذا الحديث : رواه أبو داود ، والدارقطني ، والبزار ، من حديث سليمان بن سمرة عن أبيه وفي إسناده جهالة ، اهـ .
قال مقيده ، عفا الله عنه : في إسناد هذا الحديث عند أبي داود حبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب ، وهو مجهول ، وفيه جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، وهو ليس بالقوي ، وفيه سليمان بن موسى الزهري أبو داود ، وفيه لين ، ولكنه يعتضد بما قدمنا من حديث أبي ذر ، ويعتضد أيضا بما ثبت عن أبي عمرو بن حماس ، أن أباه حماسا قال : مررت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعلى عنقي أدم أحملها ، فقال : ألا تؤدي زكاتك يا حماس ؟ فقال : ما لي غير هذا ، وأهب في القرظ قال : ذلك مال فضع ، فوضعها بين يديه ، فحسبها فوجدت قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة ، قال ابن حجر في " التلخيص " في هذا الأثر : رواه الشافعي ، عن سفيان ، حدثنا يحيى ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال : مررت بعمر بن الخطاب ، فذكره ، ورواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، عن يحيى بن سعيد به ، ورواه الدارقطني ، من حديث حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي عمرو بن حماس ، عن أبيه ، نحوه ، ورواه الشافعي أيضا عن سفيان ، عن ابن عجلان ، عن أبي الزناد ، عن أبي عمرو بن حماس ، عن أبيه ، اهـ .
وحماس بكسر الحاء وتخفيف الميم وآخره سين مهملة ، فقد رأيت ثبوت أخذ الزكاة من عروض التجارة عن عمر ، ولم يعلم له مخالف من الصحابة ، وهذا النوع يسمى إجماعا سكوتيا ، وهو حجة عند أكثر العلماء ، ويؤيده أيضا ما رواه البيهقي عن ابن عمر : " أخبرنا أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن عمر بن قتادة ، من كتابه أنبأ أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا حفص بن غياث ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة . اهـ .
[ ص: 138 ] قال : وهذا قول عامة أهل العلم ، فالذي روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : لا زكاة في العرض ، قال فيه الشافعي في كتاب القديم : إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف ، فكان اتباع حديث ابن عمر لصحته ، والاحتياط في الزكاة أحب إلي ، والله أعلم ، قال : وقد حكى ابن المنذر ، عن عائشة ، وابن عباس مثل ما روينا عن ابن عمر ، ولم يحك خلافهم عن أحد فيحتمل أن يكون معنى قوله - إن صح - لا زكاة في العرض إذا لم يرد به التجارة " اهـ من سنن البيهقي ، ويؤيده ما رواه مالك في " الموطإ " ، عن يحيى بن سعيد ، عن زريق بن حيان ، وكان زريق على جواز مصر في زمان الوليد بن عبد الملك ، وسليمان ، وعمر بن عبد العزيز ، فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن انظر من يمر بك من المسلمين ، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات من كل أربعين دينارا دينارا ، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارا فإن نقصت ثلث دينار فدعها ، ولا تأخذ منها شيئا .
وأما الآية : فهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم [ 2 \ 267 ] ، على ما فسرها به مجاهد رحمه الله تعالى ، قال البيهقي في " سننه " باب : " زكاة التجارة " قال الله تعالى وجل ثناؤه : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم الآية ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو بكر بن الحسن القاضي ، وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالوا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا الحسن بن علي بن عفان ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا ورقاء ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، قال : التجارة ، ومما أخرجنا لكم من الأرض ، قال : النخل ، وقال البخاري في " صحيحه " ، " باب صدقة الكسب والتجارة " لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، إلى قوله : أن الله غني حميد ، قال ابن حجر في " الفتح " : هكذا أورد هذه الترجمة مقتصرا على الآية بغير حديث .
وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، قال : من التجارة الحلال ، أخرجه الطبري ، وابن أبي حاتم من طريق آدم عنه ، وأخرجه الطبري من طريق هشيم ، عن شعبة ، ولفظه : من طيبات ما كسبتم قال : من التجارة ومما أخرجنا لكم من الأرض ، قال : [ ص: 139 ] من الثمار .
ولا شك أن ما ذكره مجاهد داخل في عموم الآية ، فتحصل أن جميع ما ذكرناه من طرق حديث أبي ذر ، وحديث سمرة بن جندب المرفوعين وما صح من أخذ عمر زكاة الجلود من حماس ، وما روي عن أبي عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وظاهر عموم الآية الكريمة ، وما فسرها به مجاهد ، وإجماع عامة أهل العلم إلا من شذ عن السواد الأعظم - يكفي في الدلالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة : في زكاة الدين ، وهل الدين مسقط للزكاة عن المدين أو لا ؟ !
اختلف العلماء في ذلك ، ومذهب مالك - رحمه الله - أن الدين الذي للإنسان على غيره يجري مجرى عروض التجارة في الفرق بين المدير وبين المحتكر ، وقد أوضحنا ذلك في المسألة التي قبل هذا .
ومذهبه رحمه الله : أن الدين مانع من الزكاة في العين وعروض التجارة إن لم يفضل عن وفائه قدر ما تجب فيه الزكاة ، قال في " موطئه " : الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل يكون عليه دين وعنده من العروض ما فيه وفاء لما عليه من الدين ، ويكون عنده من الناض سوى ذلك ما تجب فيه الزكاة فإنه يزكي ما بيده من ناض تجب فيه الزكاة ، وإن لم يكن عنده من العروض والنقد إلا وفاء دينه فلا زكاة عليه ، حتى يكون عنده من الناض فضل عن دينه ما تجب فيه الزكاة ، فعليه أن يزكيه .
وأما الماشية ، والزروع ، والثمار ، فلا يسقط الدين وجوب زكاتها عنده . ومذهب الإمام الشافعي رحمه الله أن الدين إذا كان حالا على موسر مقر ، أو منكر وعليه بينة ، فزكاته واجبة إن كان عينا أو عرض تجارة ، وهذا قوله الجديد ، وأما القديم : فهو أن الزكاة لا تجب في الدين بحال .
أما إن كان الغريم معسرا ، أو جاحدا ولا بينة ، أو مماطلا ، أو غائبا ، فهو عنده كالمغصوب ، وفي وجوب الزكاة فيه خلاف ، والصحيح الوجوب ، ولكن لا تؤخذ منه بالفعل إلا بعد حصوله في اليد .
وإن كان الدين مؤجلا ففيه وجهان :
أحدهما لأبي إسحاق : أنه كالدين الحال على فقير أو على جاحد . فيكون على الخلاف الذي ذكرناه آنفا .
[ ص: 140 ] والثاني : لأبي علي بن أبي هريرة : لا تجب فيه الزكاة ، فإذا قبضه استقبل به الحول ، والأول أصح ، قاله صاحب المهذب .
أما إذا كان الدين ماشية ، كأربعين من الغنم ، أو غير لازم كدين الكتابة ، فلا تجب فيه الزكاة اتفاقا عندهم ، وإن كان عليه دين مستغرق ، أو لم يبق بعده كمال النصاب فقال الشافعي في " القديم " : يسقط الدين المستغرق ، أو الذي ينقص به المال عن النصاب وجوب الزكاة ; لأن الملك فيه غير مستقر ; لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء ، وقال في " الجديد " : تجب الزكاة ولا يسقطها الدين لاختلاف جهتهما ; لأن الزكاة تتعلق بعين المال والدين يتعلق بالذمة ، وإن حجر عليه ففيه خلاف كثير .
أصحه عند الشافعية : أنه يجري على حكم زكاة المغصوب ، وقد قدمنا حكمه ، وللشافعية قول ثالث ، وهو أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة ، وعروض التجارة ، ولا يمنعها في الظاهرة وهي الزروع ، والثمار ، والمواشي ، والمعادن .
والفرق أن الأموال الظاهرة نامية بنفسها بخلاف الباطنة ، وهذا هو مذهب مالك كما تقدم ، ودين الآدمي ، ودين الله عندهم سواء في منع وجوب الزكاة ، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله : أن من كان له دين على مليء مقر به غير مماطل ، فليس عليه إخراج زكاته حتى يقبضه ، فإن قبضه أدى زكاته فيما مضى من السنين .
وروي نحوه عن علي رضي الله عنه ، وبه قال الثوري ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وقال : عثمان ، وابن عمر ، وجابر ، رضي الله عنهم ، وطاوس ، والنخعي ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وميمون بن مهران ، والزهري ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، وإسحاق ، وأبو عبيد : عليه إخراج زكاته في الحال ; لأنه قادر على قبضه .
وقد قدمنا أنه قول مالك ، والشافعي ، فإن كان الدين على معسر ، أو جاحد ، أو مماطل ، فروايتان :
إحداهما : لا تجب فيه الزكاة ، وهو قول قتادة ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأهل العراق ; لأنه غير مقدور على الانتفاع به .
والثانية : يزكيه إذا قبضه لما مضى ، وهو قول الثوري ، وأبي عبيد ، وعن عمر بن عبد العزيز ، والحسن ، والليث ، والأوزاعي : يزكيه إذا قبضه لعام واحد ، وهذا هو قول مالك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (118)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(7)
صـ 141 إلى صـ 145
[ ص: 141 ] ومذهب أحمد رحمه الله : أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة ، التي هي الذهب والفضة ، وعروض التجارة ، وهذا لا خلاف فيه عنه ، وهو قول عطاء ، وسليمان بن يسار ، وميمون بن مهران ، والحسن ، والنخعي ، والليث ، والثوري ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، وقد قدمنا نحوه عن مالك رحمه الله .
وقال ربيعة ، وحماد بن أبي سليمان : لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الباطنة ، وقد قدمناه عن الشافعي ، في جديد قوليه .
وأما الأموال الظاهرة ، وهي السائمة ، والثمار ، والحبوب ، فقد اختلفت فيها الرواية ، عن أحمد رحمه الله ، فروي عنه أن الدين يمنع الزكاة فيها أيضا كالأموال الباطنة ، وعنه في رواية إسحاق بن إبراهيم : يبتدئ بالدين فيقضيه ، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة ، فيزكي ما بقي .
ولا يكون على أحد دينه أكثر من ماله صدقة في إبل ، أو بقر ، أو غنم ، أو زرع ، ولا زكاة ، وبهذا قال عطاء ، والحسن ، وسليمان ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، والثوري ، والليث ، وإسحاق .
وروي أن الدين لا يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة ، وبه قال الأوزاعي ، وقد قدمناه عن الشافعي في " الجديد " وهو قول مالك .
إذا عرفت أقوال العلماء في زكاة الدين ، وهل هو مانع من الزكاة ، فاعلم أن اختلافهم في الدين ، هل يزكى قبل القبض ، وهل إذا لم يزكه قبل القبض يكفي زكاة سنة واحدة ؟ ! أو لا بد من زكاته لما مضى من السنين ؟ !
الظاهر فيه أنه من الاختلاف في تحقيق المناط ، هل القدرة على التحصيل كالحصول بالفعل ، أو لا ؟ ! ولا نعلم في زكاة الدين نصا من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا كون الدين مانعا من وجوب الزكاة على المدين إن كان يستغرق ، أو ينقص النصاب ، إلا آثارا وردت عن بعض السلف .
منها ما رواه مالك في " الموطإ " عن ابن شهاب ، عن السائب بن يزيد ، عن عثمان بن عفان : أنه كان يقول : هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤد دينه ، حتى تحصل أموالكم فتؤدون منه الزكاة .
ومنها ما رواه مالك في " الموطإ " أيضا عن أيوب بن أبي ثميمة السختياني ، عن [ ص: 142 ] عمر بن عبد العزيز : أنه كتب في مال قبضه بعض الولاة ظلما ، يأمر برده إلى أهله ، ويؤخذ زكاته لما مضى من السنين ، ثم عقب بعد ذلك بكتاب ألا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة ، فإنه كان ضمارا . اهـ . وهو بكسر الضاد ، أي : غائبا عن ربه لا يقدر على أخذه ولا يعرف موضعه .
المسألة السادسة : في زكاة المعادن والركاز .
اعلم أن العلماء أجمعوا على وجوب إخراج حق شرعي من المعادن في الجملة ، لكن وقع بينهم الاختلاف في بعض الصور لذلك ، فقال قوم : لا يجب في شيء من المعادن الزكاة ، إلا الذهب والفضة خاصة ، فإذا أخرج من المعدن عشرين مثقالا من الذهب ، أو مائتي درهم من الفضة ، وجب عليه إخراج ربع العشر من ذلك من حين إخراجه ، ولا يستقبل به حولا .
وممن قال بهذا : مالك ، والشافعي ، ومذهب الإمام أحمد كمذهبهما . إلا أنه يوجب الزكاة في جميع المعادن من ذهب ، وفضة ، وزئبق ، ورصاص ، وصفر ، وحديد ، وياقوت ، وزبرجد ، ولؤلؤ ، وعقيق ، وسبج ، وكحل ، وزجاج ، وزرنيخ ، ومغرة ، ونحو ذلك ، وكذلك المعادن الجارية ، كالقار ، والنفط ، ونحوهما ، ويقوم بمائتي درهم ، أو عشرين مثقالا ، ما عدا الذهب والفضة ، فجميع المعادن عنده تزكى ، واللازم فيها ربع العشر .
وذهب أبو حنيفة رحمه الله ، إلى أن المعدن من جملة الركاز ، ففيه عنده الخمس ، وهو عنده الذهب والفضة ، وما ينطبع كالحديد والصفر والرصاص في أشهر الروايتين ، ولا يشترط عنده النصاب في المعدن والركاز .
وممن قال بلزوم العشر في المعدن : عمر بن عبد العزيز ، وحجة من قال بوجوب الزكاة في جميع المعادن ، عموم قوله تعالى ومما أخرجنا لكم من الأرض .
وحجة من قال بوجوبها في معدن الذهب والفضة فقط : أن الأصل عدم وجوب الزكاة ، فلم تجب في غير الذهب والفضة للنص عليهما دون غيرهما ، واحتجوا أيضا بحديث : " لا زكاة في حجر " ، وهو حديث ضعيف ، قال فيه ابن حجر في " التلخيص " رواه ابن عدي ، من حديث عمر بن أبي عمر الكلاعي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، ورواه البيهقي ، من طريقه ، وتابعه عثمان الوقاصي ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي ، كلاهما عن عمرو بن شعيب ، وهما متروكان . اهـ . وعمر بن أبي عمر الكلاعي ضعيف ، من [ ص: 143 ] شيوخ بقية المجهولين ، قاله في " التقريب " واحتج لوجوب الزكاة في المعدن بما رواه مالك في " الموطإ " عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية ، وهي من ناحية الفرع . فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة . وقال ابن حجر في " التلخيص " : ورواه أبو داود ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي موصولا ، ليست فيه زيادة : وهي من ناحية الفرع ، إلخ .
وقال الشافعي : بعد أن روى حديث مالك : ليس هذا ما يثبته أهل الحديث ولم يثبتوه ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه ، وأما الزكاة دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال البيهقي : وهو كما قال الشافعي في رواية مالك ، وقد روي عن الدراوردي ، عن ربيعة ، موصولا ، ثم أخرجه عن الحاكم ، والحاكم أخرجه في " المستدرك " وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية الدراوردي ، قال : ورواه أبو سبرة المديني ، عن مطرف ، عن مالك ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن ابن عباس قلت : أخرجه أبو داود ، من الوجهين . اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : الاستدلال بهذه الزيادة على الحديث المرفوع التي ذكرها مالك في " الموطإ " ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم - من نوع الاستدلال بالاستصحاب المقلوب ، وهو حجة عند جماعة من العلماء من المالكية ، والشافعية .
والاستصحاب المقلوب : هو الاستدلال بثبوت الأمر في الزمن الحاضر على ثبوته في الزمن الماضي ، لعدم ما يصلح للتغيير من الأول إلى الثاني .
قال صاحب " جمع الجوامع " : أما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فمقلوب ، وقد يقال فيه : لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس لكان غير ثابت ، فيقتضي استصحاب أمس أنه الآن غير ثابت ، وليس كذلك ، فدل على أنه ثابت .
وقال : في " نشر البنود " : وقد يقال في الاستصحاب المقلوب ليظهر الاستدلال به : لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس لكان غير ثابت أمس ; إذ لا واسطة بين الثبوت وعدمه ، فيقتضي استصحاب أمس الخالي عن الثبوت فيه ، أنه الآن غير ثابت ، وليس كذلك لأنه مفروض الثبوت الآن ، فدل ذلك على أنه ثابت أمس أيضا ، ومثل له بعض المالكية بالوقف ، إذا جهل مصرفه ووجد على حالة فإنه يجري عليها ; لأن وجوده على تلك الحالة [ ص: 144 ] دليل على أنه كان كذلك في عقد الوقف ، ومثل له " المحلى " ، بأن يقال في المكيال الموجود : كان على عهده صلى الله عليه وسلم ، باستصحاب الحال في الماضي ، ووجهه في المسألة التي نحن بصددها ; أن لفظ : فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم يدل بالاستصحاب المقلوب أنها كانت كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ما يصلح للتغيير كما ذكرنا .
وقد أشار في " مراقي السعود " إلى مسألة الاستصحاب المذكور في " كتاب الاستدلال " بقوله : [ الرجز ]
ورجحن كون الاستصحاب للعدم الأصلي من ذا الباب بعد قصارى البحث عن نص فلم يلف وهذا
البحث وفقا منحتم
إلى أن قال ، وهو محل الشاهد : [ الرجز ]
وما بماض مثبت للحال فهو مقلوب وعكس الخالي
كجري ما جهل فيه المصرف على الذي الآن لذاك يعرف
وأما الركاز : ففيه الخمس بلا نزاع ; لقوله صلى الله عليه وسلم " وفي الركاز الخمس " أخرجه الشيخان ، وأصحاب السنن ، والإمام أحمد ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، إلا أنهم اختلفوا في المراد بالركاز .
فذهب جمهور ، منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد ، إلى أن الركاز هو دفن الجاهلية ، وأنه لا يصدق على المعادن اسم الركاز .
واحتجوا بما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه الذي ذكرنا بعضا منه آنفا ; فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس " ، ففرق بين المعدن والركاز بالعطف المقتضي للمغايرة .
وذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وغيرهما إلى أن المعدن ركاز ، واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وفي الركاز الخمس ، قيل يا رسول الله ، وما الركاز ؟ قال : الذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السماوات والأرض " ، ورده الجمهور بأن الحديث ضعيف ، قال ابن حجر في " التلخيص " : رواه : البيهقي من حديث أبي يوسف ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي هريرة مرفوعا ، وتابعه حبان بن علي ، عن عبد الله بن سعيد ، [ ص: 145 ] وعبد الله متروك الحديث ، وحبان ضعيف .
وأصل الحديث ثابت في " الصحاح " ، وغيرها بدون الزيادة المذكورة . وقال الشافعي في " الجديد " : يشترط في وجوب الخمس في الركاز أن يكون ذهبا ، أو فضة دون غيرهما ، وخالفه جمهور أهل العلم ، وقال بعض العلماء : إذا كان في تحصيل المعدن مشقة ففيه ربع العشر ، وإن كان لا مشقة فيه فالواجب فيه الخمس ، وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا الآية .
لا يخفى ما في هذه الآية الكريمة من التشديد في الخروج إلى الجهاد على كل حال ، ولكنه تعالى بين رفع هذا التشديد بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج الآية [ 9 \ 91 ] ، فهي ناسخة لها .
قوله تعالى : وفي الرقاب .
قال الشافعي ، والليث : إن المراد بالرقاب : المكاتبون .
وروي نحوه عن أبي موسى الأشعري ، والحسن البصري ، ومقاتل بن حيان ، وعمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد ، ويدل لهذا القول قوله تعالى في المكاتبين : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم [ 24 \ 33 ] ، وقال ابن عباس : الرقاب أعم من المكاتبين ، فلا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب مالك ، وأحمد ، وإسحاق .
قوله تعالى : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم له العذاب الأليم .
وذكر في " الأحزاب " أنه ملعون في الدنيا والآخرة ، وأن له العذاب المهين ، وذلك في قوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ 33 \ 57 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (119)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(8)
صـ 146 إلى صـ 150
قوله تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة إلى قوله : ما تحذرون .
صرح في هذه الآية الكريمة بأن المنافقين يحذرون أن ينزل الله سورة تفضحهم ، وتبين ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخبث ، ثم بين أنه مخرج ما كانوا يحذرونه ، وذكر في موضع آخر أنه فاعل ذلك ، وهو قوله تعالى : أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم [ ص: 146 ] [ 47 \ 29 ] إلى قوله : ولتعرفنهم في لحن القول [ 47 \ 30 ] ، وبين في موضع آخر شدة خوفهم ، وهو قوله : يحسبون كل صيحة عليهم [ 63 \ 4 ] .
قوله تعالى : لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله .
صرح في هذه الآية الكريمة : أن المنافقين ما وجدوا شيئا ينقمونه ، أي : يعيبونه وينتقدونه ، إلا أن الله تفضل عليهم فأغناهم بما فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة .
والمعنى أنه لا يوجد شيء يحتمل أن يعاب أو ينقم بوجه من الوجوه ، والآية كقوله : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد [ 85 \ 8 ] ، وقوله : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا [ 7 \ 126 ] ، وقوله : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 40 ] .
ونظير ذلك من كلام العرب : قول نابغة ذبيان : [ الطويل ]
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وقول الآخر : [ المنسرح ]
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يضربون إن غضبوا
وقول الآخر : [ الوافر ]
فما يك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل
قوله تعالى : قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة شدة حر نار جهنم أعاذنا الله والمسلمين منها ، وبين ذلك في مواضع أخر كقوله : نارا وقودها الناس والحجارة [ 66 \ 6 ] ، وقوله : كلا إنها لظى نزاعة للشوى [ 7 \ 15 ، 16 ] ، وقوله : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها [ 4 \ 56 ] ، وقوله : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد [ 22 \ 19 - 21 ] ، وقوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] ، وقوله : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
اختلف العلماء في وزن جهنم بالميزان الصرفي ، فذهب بعض علماء العربية إلى أن [ ص: 147 ] وزنه " فعنل " فالنون المضعفة زائدة ، وأصل المادة : الجيم والهاء والميم ، من : تجهم : إذا عبس وجهه ; لأنها تلقاهم بوجه متجهم عابس ، وتتجهم وجوههم وتعبس فيها لما يلاقون من ألم العذاب .
ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري : [ الطويل ]
شكوت إليها حبها فتبسمت ولم أر شمسا قبلها تتبسم فقلت لها جودي فأبدت تجهما
لتقتلني يا حسنها إذ تجهم
وتقول العرب : جهمه : إذا استقبله بوجه كريه مجتمع ، ومنه قول عمرو بن الفضفاض الجهني : [ الطويل ]
ولا تجهمينا أم عمرو فإنما بنا داء ظبي لم تخنه عوامله
وقال بعض العلماء : جهنم فارسي معرب ، والأصل " كهنام " وهو بلسانهم " النار " ، فعربته العرب وأبدلوا الكاف جيما .
قوله تعالى : فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ، إلى قوله : الخالفين ، عاقب الله في هذه الآية الكريمة المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم لا يؤذن لهم في الخروج مع نبيه ، ولا القتال معه صلى الله عليه وسلم ; لأن شؤم المخالفة يؤدي إلى فوات الخير الكثير .
وقد جاء مثل هذا في آيات أخر كقوله : سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم [ 48 \ 15 ] إلى قوله : كذلكم قال الله من قبل ، وقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، والخالف هو الذي يتخلف عن الرجال في الغزو فيبقى مع النساء والصبيان ، ومنه قول الشنفرى : [ الطويل ]
ولا خالف دارية متربب يروح ويغدو داهنا يتكحل
قوله تعالى : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين .
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه إذا أنزل سورة فيها الأمر بالإيمان ، والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم استأذن الأغنياء من المنافقين في التخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركهم مع القاعدين المتخلفين عن الغزو .
وبين في موضع آخر أن هذا ليس من صفات المؤمنين ، وأنه من صفات الشاكين [ ص: 148 ] الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وذلك في قوله : لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 \ 44 ، 45 ] ، وبين أن السبيل عليهم بذلك ، وأنهم مطبوع على قلوبهم ، بقوله : إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم الآية [ 9 \ 93 ] ، وبين في مواضع أخر شدة جزعهم من الخروج إلى الجهاد ، كقوله : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت الآية [ 47 \ 20 ] ، وقوله : فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] إلى غير ذلك من الآيات
قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان ، أنهم داخلون معهم في رضوان الله تعالى ، والوعد بالخلود في الجنات ، والفوز العظيم ، وبين في مواضع أخر ، أن الذين اتبعوا السابقين بإحسان يشاركونهم في الخير كقوله جل وعلا : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم الآية [ 62 \ 3 ] ، وقوله : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الآية [ 59 \ 10 ] ، وقوله : والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم [ 8 \ 75 ] .
ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة ، أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم ، أنه ضال مخالف لله جل وعلا ; حيث أبغض من رضي الله عنه ، ولا شك أن بغض من رضي الله عنه مضادة له جل وعلا ، وتمرد وطغيان .
قوله تعالى : ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم الآية .
صرح في هذه الآية الكريمة أن من الأعراب ، ومن أهل المدينة منافقين لا يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر تعالى نظير ذلك عن نوح في قوله عنه : قال وما علمي بما كانوا يعملون الآية [ 26 \ 112 ] .
[ ص: 149 ] وذكر نظيره عن شعيب عليهم كلهم صلوات الله وسلامه في قوله : بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ اهـ .
وقد أطلع الله نبيه على بعض المنافقين كما تقدم في الآيات الماضية ، وقد أخبر صاحبه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ، بشيء من ذلك ، كما هو معلوم .
قوله تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه .
لم يبين هنا هذه الموعدة التي وعدها إياه ، ولكنه بينها في سورة " مريم " بقوله : قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا .
قوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .
هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال ، وغاية شفقته علينا - هو أعظم منن الله تعالى ، وأجزل نعمه علينا ، وقد بين ذلك في مواضع أخر ، كقوله تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] ، وقوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] وقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوكل عليه جل وعلا .
ولا شك أنه ممتثل ذلك ، فهو سيد المتوكلين عليه صلوات الله وسلامه ، والتوكل على الله تعالى ، هو شأن إخوانه من المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه .
كما بين تعالى ذلك في آيات أخر ، كقوله عن هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم الآية [ 11 \ 54 - 56 ] وقوله تعالى عن نوح : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون وقوله تعالى عن جملة الرسل : وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا [ ص: 150 ] سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا :
ومن أوضح الأدلة على عظم توكل نبينا صلى الله عليه وسلم على الله قوله يوم حنين ، وهو على بغلة في ذلك الموقف العظيم :
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (120)
سُورَةُ يُونُسَ (1)
صـ 151 إلى صـ 155
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ يُونُسَ
قوله تعالى : والذين كفروا لهم شراب من حميم الآية .
ذكر في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يعذبون يوم القيامة بشرب الحميم ، وبالعذاب الأليم ، والحميم : الماء الحار ، وذكر أوصاف هذا الحميم في آيات أخر ، كقوله : يطوفون بينها وبين حميم آن [ 55 \ 44 ] ، وقوله : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] ، وقوله : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود [ 22 \ 19 ، 20 ] ، وقوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] ، وقوله : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 ، 55 ] .
وذكر في موضع آخر أن الماء الذي يسقون صديد ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك بفضله ورحمته ، وذلك في قوله تعالى : من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه الآية [ 14 \ 16 ] :
وذكر في موضع آخر أنهم يسقون مع الحميم الغساق ، كقوله : هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 57 ، 58 ] ، وقوله : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا [ 78 \ 24 ، 25 ] ، والغساق : صديد أهل النار - أعاذنا الله والمسلمين منها - وأصله من غسقت العين : سال دمعها ، وقيل : هو لغة : البارد المنتن ، والحميم الآني : الماء البالغ غاية الحرارة ، والمهل : دردي الزيت ، أو المذاب من النحاس ، والرصاص ونحو ذلك ، والآيات المبينة لأنواع عذاب أهل النار كثيرة جدا .
قوله تعالى : وتحيتهم فيها سلام .
ذكر تعالى في هذه الآية : أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام ، أي يسلم بعضهم على بعض بذلك ، ويسلمون على الملائكة ، وتسلم عليهم الملائكة بذلك ، وقد بين تعالى هذا في مواضع أخر ، كقوله : تحيتهم يوم يلقونه سلام الآية [ 33 \ 44 ] ، وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم الآية [ 13 \ 23 ، 24 ] ، وقوله : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما الآية [ ص: 152 ] [ 19 \ 6 ] ، وقوله : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما الآية [ 65 \ 25 ، 26 ] وقوله : سلام قولا من رب رحيم [ 36 \ 58 ] إلى غير ذلك من الآيات .
ومعنى السلام : الدعاء بالسلامة من الآفات .
والتحية : مصدر حياك الله ، بمعنى أطال حياتك .
قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الإنسان في وقت الكرب يبتهل إلى ربه بالدعاء في جميع أحواله ، فإذا فرج الله كربه أعرض عن ذكر ربه ، ونسي ما كان فيه كأنه لم يكن فيه قط .
وبين هذا في مواضع أخر كقوله : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل الآية [ 39 \ 8 ] ، وقوله : فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم الآية [ 39 \ 49 ] ، وقوله : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض [ 41 \ 51 ] والآيات في مثل ذلك كثيرة .
إلا أن الله استثنى من هذه الصفات الذميمة عباده المؤمنين بقوله في سورة هود : ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير [ 10 ، 11 ] ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .
قوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي .
أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : إنه ما يكون له أن يبدل شيئا من القرآن من تلقاء نفسه ، ويفهم من قوله : من تلقاء نفسي أن الله تعالى يبدل منه ما شاء بما شاء .
وصرح بهذا المفهوم في مواضع أخر كقوله : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] ، وقوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها الآية [ 2 \ 106 ] ، وقوله : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 6 ، 7 ] .
[ ص: 153 ] قوله تعالى : فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون .
في هذه الآية الكريمة حجة واضحة على كفار مكة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إليهم رسولا حتى لبث فيهم عمرا من الزمن ، وقدر ذلك أربعون سنة ، فعرفوا صدقه ، وأمانته ، وعدله ، وأنه بعيد كل البعد من أن يكون كاذبا على الله تعالى ، وكانوا في الجاهلية يسمونه الأمين ، وقد ألقمهم الله حجرا بهذه الحجة في موضع آخر ، وهو قوله : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون [ 23 \ 69 ] ولذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ، ومن معه عن صفاته صلى الله عليه وسلم ، قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا ، وكان أبو سفيان في ذلك الوقت زعيم الكفار ، ورأس المشركين ومع ذلك اعترف بالحق ، والحق ما شهدت به الأعداء .
فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يذهب فيكذب على الله . اهـ .
ولذلك وبخهم الله تعالى بقوله هنا : أفلا تعقلون [ 10 \ 16 ] .
قوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله : لقوم يتفكرون .
ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للدنيا بالنبات الناعم المختلط بعضه ببعض ، وعما قليل ييبس ، ويكون حصيدا يابسا كأنه لم يكن قط ، وضرب لها أيضا المثل المذكور في " الكهف " في قوله : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء [ 18 \ 45 ] إلى قوله : وكان الله على كل شيء مقتدرا ، وأشار لهذا المثل بقوله في " الزمر " : ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب [ 21 ] ، وقوله في " الحديد " : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما الآية [ 20 ] .
تنبيه
التشبيه في الآيات المذكورة عند البلاغيين من التشبيه المركب ; لأن وجه الشبه صورة منتزعة من أشياء ، وهو كون كل من المشبه والمشبه به يمكث ما شاء الله ، وهو في إقبال وكمال ، ثم عما قليل يضمحل ويزول ، والعلم عند الله تعالى :
قوله تعالى : ويوم نحشرهم جميعا الآية .
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يجمع الناس جميعا ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
[ ص: 154 ] وصرح في " الكهف " بأنه لا يترك منهم أحدا ، بقوله : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 47 ] .
قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت الآية .
صرح في هذه الآية الكريمة ، بأن كل نفس يوم القيامة تبلو ، أي : تخبر وتعلم ما أسلفت ، أي قدمت من خير وشر ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقوله : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] ، وقوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 ، 14 ] ، وقوله : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا الآية [ 18 \ 49 ] .
وأما على قراءة " تتلو " بتاءين ففي معنى الآية وجهان :
أحدهما : أنها تتلو بمعنى تقرأ في كتاب أعمالها جميع ما قدمت ، فيرجع إلى الأولى .
والثاني : أن كل أمة تتبع عملها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لتتبع كل أمة ما كانت تعبده فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس " الحديث .
قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت إلى قوله : فقل أفلا تتقون .
صرح الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، بأن الكفار يقرون بأنه جل وعلا ، هو ربهم الرزاق المدبر للأمور المتصرف في ملكه بما يشاء ، وهو صريح في اعترافهم بربوبيته ، ومع هذا أشركوا به جل وعلا .
والآيات الدالة على أن المشركين مقرون بربوبيته جل وعلا ولم ينفعهم ذلك لإشراكهم معه غيره في حقوقه جل وعلا - كثيرة ، كقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ 43 \ 9 ] ، وقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 84 ، 85 ] إلى قوله : فأنى تسحرون إلى غير ذلك من الآيات ، ولذا قال تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] .
والآيات المذكورة صريحة في أن الاعتراف بربوبيته جل وعلا لا يكفي في الدخول في دين الإسلام إلا بتحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا ، وقد أوضحناه في سورة [ ص: 155 ] " الفاتحة " في الكلام على قوله تعالى : إياك نعبد [ 1 \ 5 ] .
أما تجاهل فرعون - لعنه الله - لربوبيته جل وعلا ، في قوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] فإنه تجاهل عارف ; لأنه عبد مربوب ، كما دل عليه قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 \ 102 ] ، وقوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 \ 14 ] .
قوله تعالى : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق إلى قوله : فأنى تؤفكون .
ألقم الله تعالى المشركين في هذه الآيات حجرا ، بأن الشركاء التي يعبدونها من دونه لا قدرة لها على فعل شيء ، وأنه هو وحده جل وعلا الذي يبدأ الخلق ثم يعيده بالإحياء مرة أخرى ، وأنه يهدي من يشاء .
وصرح بمثل هذا في آيات كثيرة ، كقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] ، وقوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [ 25 \ 3 ] ، وقوله : ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 35 \ 3 ] ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية [ 16 \ 17 ] .
وقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه [ 13 \ 16 ] وقوله : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره الآية [ 39 \ 38 ] ، وقوله : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه الآية [ 67 \ 21 ] ، وقوله : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق الآية [ 29 \ 17 ] .
والآيات في مثل ذلك كثيرة ، ومعلوم أن تسوية ما لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يقدر على شيء مع من بيده الخير كله المتصرف بكل ما شاء - لا تصدر إلا ممن لا عقل له ، كما قال تعالى عن أصحاب ذلك : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [ 67 \ 10 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (121)
سُورَةُ يُونُسَ (2)
صـ 156 إلى صـ 160
قوله تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن لا يكون مفترى من دون الله مكذوبا به عليه ، وأنه لا شك في أنه من رب العالمين جل وعلا ، [ ص: 156 ] وأشار إلى أن تصديقه للكتب السماوية المنزلة قبله ، وتفصيله للعقائد ، والحلال ، والحرام ، ونحو ذلك مما لا شك أنه من الله جل وعلا دليل على أنه غير مفترى ، وأنه لا ريب في كونه من رب العالمين ، وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 12 \ 111 ] ، وقوله : وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون [ 26 \ 210 ، 211 ] ، وقوله : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] ، والآيات في مثل ذلك كثيرة .
ثم إنه تعالى لما صرح هنا بأن هذا القرآن ما كان أن يفترى على الله ، أقام البرهان القاطع على أنه من الله ، فتحدى جميع الخلق بسورة واحدة مثله ، ولا شك أنه لو كان من جنس كلام الخلق لقدر الخلق على الإتيان بمثله ، فلما عجزوا عن ذلك كلهم حصل اليقين والعلم الضروري أنه من الله جل وعلا ، قال جل وعلا في هذه السورة : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 10 \ 38 ] ، وتحداهم أيضا في سورة " البقرة " بسورة واحدة من مثله ، بقوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية [ 2 \ 23 ] ، وتحداهم في " هود " بعشر سور مثله ، بقوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات الآية [ 13 ] ، وتحداهم في " الطور " به كله بقوله : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين [ 34 ] ، وصرح في سورة " بني إسرائيل " بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله بقوله : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 \ 88 ] ، كما قدمنا ، وبين أنهم لا يأتون بمثله أيضا بقوله : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا الآية [ 2 \ 24 ] .
قوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله .
التحقيق أن تأويله هنا ، هو حقيقة ما يئول إليه الأمر يوم القيامة ، كما قدمنا في أول " آل عمران " ، ويدل لصحة هذا قوله في " الأعراف " : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء [ 53 ] .
ونظير الآية قوله تعالى : بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب [ 38 \ 8 ] .
[ ص: 157 ] قوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، أن يظهر البراءة من أعمال الكفار القبيحة إنكارا لها ، وإظهارا لوجوب التباعد عنها ، وبين هذا المعنى في قوله : قل ياأيها الكافرون [ 109 \ 1 ] ، إلى قوله : ولي دين [ 109 \ 6 ] ، ونظير ذلك قول إبراهيم الخليل وأتباعه لقومه : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله \ الآية [ 60 \ 4 ] 30 .
وبين تعالى في موضع آخر أن اعتزال الكفار ، والأوثان ، والبراءة منهم من فوائده تفضل الله تعالى بالذرية الطيبة الصالحة ، وهو قوله في " مريم " : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب [ 49 ] ، إلى قوله : عليا [ 19 \ 50 ] .
وقال ابن زيد ، وغيره : إن آية : وإن كذبوك فقل لي عملي الآية [ 10 \ 41 ] ، منسوخة بآيات السيف .
والظاهر أن معناها محكم ; لأن البراءة إلى الله من عمل السوء لا شك في بقاء مشروعيتها .
قوله تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار إذا حشروا استقلوا مدة مكثهم في دار الدنيا ، حتى كأنها قدر ساعة عندهم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله في آخر " الأحقاف " : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار [ 35 ] ، وقوله في آخر " النازعات " : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها الآية [ 46 ] ، وقوله في آخر " الروم " : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة الآية [ 55 ] .
وقد بينا بإيضاح في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين هذه الآيات المقتضية أن الدنيا عندهم كساعة وبين الآيات المقتضية أنها عندهم كأكثر من ذلك ، كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 \ 103 ] ، وقوله : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين [ 23 \ 113 ] ، فانظره في سورة قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 1 ] في الكلام على قوله : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين .
قوله تعالى : يتعارفون بينهم .
صرح في هذه الآية الكريمة : أن أهل المحشر [ ص: 158 ] يعرف بعضهم بعضا ، فيعرف الآباء الأبناء ، كالعكس ، ولكنه بين في مواضع أخر أن هذه المعارفة لا أثر لها ، فلا يسأل بعضهم بعضا شيئا ، كقوله : ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم [ 70 \ 10 ، 11 ] وقوله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .
وقد بينا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أيضا وجه الجمع بين قوله : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، وبين قوله : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] ، في سورة قد أفلح المؤمنون أيضا .
قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بخسران المكذبين بلقائه ، وأنهم لم يكونوا مهتدين ، ولم يبين هنا المفعول به لقوله : " خسر " وذكر في مواضع كثيرة أسبابا من أسباب الخسران ، وبين في مواضع أخر المفعول المحذوف هنا ، فمن الآيات المماثلة لهذه الآية قوله تعالى في " الأنعام " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 31 ] ، وقوله تعالى في " البقرة " : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون [ 27 ] وقوله في " البقرة " أيضا : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون [ 27 ] ، وقوله في " الأعراف " : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 121 ] ، وقوله في " الأعراف " أيضا : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 178 ] ، وقوله في " الزمر " : له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون [ 63 ] .
والآيات في مثل هذا كثيرة ، وقد أقسم تعالى على أن هذا الخسران لا ينجو منه إنسان إلا بأربعة أمور :
الأول : الإيمان .
الثاني : العمل الصالح .
الثالث : التواصي بالحق .
الرابع : التواصي بالصبر .
وذلك في قوله : والعصر إن الإنسان [ 103 \ 1 ، 2 ] وبين في مواضع أخر [ ص: 159 ] أن المفعول المحذوف الواقع عليه الخسران هو أنفسهم ، كقوله في " الأعراف " : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ 9 ] ، وقوله في " المؤمنون " : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ 103 ] ، وقوله في " هود " : أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 45 ] .
وزاد في مواضع أخر خسران الأهل مع النفس ، كقوله في " الزمر " : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين [ 15 ] ، وقوله في " الشورى " : وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم [ 45 ] .
وبين في موضع آخر أن خسران الخاسرين قد يشمل الدنيا والآخرة ، وهو قوله : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .
قوله تعالى : وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم الآية .
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه إما أن يريه في حياته بعض ما يعد الكفار من النكال والانتقام ، أو يتوفاه قبل ذلك ، فمرجعهم إليه جل وعلا لا يفوته شيء مما يريد أن يفعله بهم لكمال قدرته عليهم ، ونفوذ مشيئته جل وعلا فيهم ، وبين هذا المعنى أيضا في مواضع أخر ، كقوله في سورة " المؤمن " : فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون [ 77 ] ، وقوله في " الزخرف " : فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون [ 41 ، 42 ] إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
لم يأت في القرآن العظيم فعل المضارع بعد " إن " الشرطية المدغمة في " ما " المزيدة لتوكيد الشرط ، إلا مقترنا بنون التوكيد الثقيلة ، كقوله هنا : وإما نرينك الآية [ 10 \ 46 ] ، فإما نذهبن الآية [ 43 \ 41 ] ، فإما تثقفنهم الآية [ 8 \ 57 ] ، وإما تخافن من قوم الآية [ 8 \ 58 ] .
ولذلك زعم بعض علماء العربية وجوب اقتران المضارع بالنون المذكورة في الحال [ ص: 160 ] المذكورة ، والحق أن عدم اقترانه بها جائز ، كقول الشاعر : [ المتقارب ]
فإما تريني ولي لمة فإن الحوادث أودى بها
وقول الآخر : [ الكامل ]
زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
قوله تعالى : ولكل أمة رسول .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن لكل أمة رسولا ، وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولكل قوم هاد [ 13 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن عدد الأمم سبعون أمة في حديث معاوية بن حيدة القشيري ، رضي الله عنه " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله " ، وقد بينا هذه الآيات في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ووجه الجمع بينها وبين قوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الآية [ 6 ] ، في سورة " الرعد " في الكلام على قوله تعالى : ولكل قوم هاد .
قوله تعالى : فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون .
أوضح الله تعالى معنى هذه الآية الكريمة في سورة " الزمر " بقوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون .
قوله تعالى :
لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن لكل أمة أجلا ، وأنه لا يسبق أحد أجله المحدد له ، ولا يتأخر عنه .
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون [ 15 \ 5 - 23 \ 43 ] ، وقوله : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون [ 71 \ 4 ] ، وقوله : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (122)
سُورَةُ يُونُسَ (3)
صـ 161 إلى صـ 164
قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون في الدنيا تعجيل العذاب كفرا وعنادا ، فإذا عاينوا العذاب آمنوا ، وذلك الإيمان عند معاينة العذاب وحضوره لا يقبل منهم ، وقد أنكر ذلك [ ص: 161 ] تعالى عليهم هنا بقوله : أثم إذا ما وقع آمنتم به [ 10 \ 51 ] ، ونفى أيضا قبول إيمانهم في ذلك الحين بقوله : آلآن وقد كنتم به تستعجلون .
وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 84 ، 85 ] ، وقوله : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 ، 91 ] ، وقوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآية [ 4 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
واستثنى الله تعالى قوم يونس دون غيرهم بقوله : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .
قوله تعالى : إن الله سيبطله الآية .
ذكر تعالى عن موسى في هذه الآية ، أنه قال : إن الله سيبطل سحر سحرة فرعون .
وصرح في مواضع أخر بأن ذلك الذي قال موسى إنه سيقع من إبطال الله لسحرهم ، أنه وقع بالفعل ، كقوله : فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين [ 7 \ 118 ، 119 ] ونحوها من الآيات :
قوله تعالى : ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق الآية .
ذكر تعالى في هذه الآية أنه بوأ بني إسرائيل مبوأ صدق .
وبين ذلك في آيات أخر كقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] ، وقوله : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم [ 62 \ 57 ، 58 ] إلى قوله : كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ 26 \ 59 ] وقوله : كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم [ 44 \ 25 ، 26 ] إلى قوله : كذلك وأورثناها قوما آخرين [ 44 \ 28 ] ، ومعنى بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق : أنزلناهم منزلا مرضيا حسنا .
قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة ، أن من حقت عليه كلمة [ ص: 162 ] العذاب ، وسبقت له في علم الله الشقاوة لا ينفعه وضوح أدلة الحق ، وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقوله : وإن يروا آية يعرضوا [ 54 \ 2 ] ، وقوله : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 6 \ 4 ] ، وقوله : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، وقوله : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 2 \ 6 ] .
والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين .
ظاهر هذه الآية الكريمة أن إيمان قوم يونس ما نفعهم إلا في الدنيا دون الآخرة ، لقوله : كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .
ويفهم من مفهوم المخالفة في قوله : في الحياة الدنيا أن الآخرة ليست كذلك ، ولكنه تعالى أطلق عليهم اسم الإيمان من غير قيد في سورة " الصافات " ، والإيمان منقذ من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، كما أنه بين في " الصافات " أيضا كثرة عددهم ، وكل ذلك في قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 147 ، 148 ] .
قوله تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا الآية .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء إيمان جميع أهل الأرض لآمنوا كلهم جميعا ، وهو دليل واضح على أن كفرهم واقع بمشيئته الكونية القدرية ، وبين ذلك أيضا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : ولو شاء الله ما أشركوا الآية [ 6 \ 107 ] ، وقوله : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، وقوله : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 107 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن من لم يهده الله فلا هادي له ، ولا يمكن أحدا أن يقهر قلبه على الانشراح إلى الإيمان إلا إذا أراد الله به ذلك .
وأوضح ذلك المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] ، وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ ص: 163 ] [ 16 \ 37 ] ، وقوله : إنك لا تهدي من أحببت الآية [ 28 \ 56 ] ، وقوله : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا كما تقدم في " النساء " .
والظاهر أنها غير منسوخة ، وأن معناها أنه لا يهدي القلوب ويوجهها إلى الخير إلا الله تعالى ، وأظهر دليل على ذلك أن الله أتبعه بقوله : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله الآية [ 10 \ 100 ] .
قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية .
أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها ، وكماله ، وجلاله ، واستحقاقه لأن يعبد وحده جل وعلا .
وأشار لمثل ذلك بقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق الآية [ 41 \ 53 ] ، ووبخ في سورة " الأعراف " من لم يمتثل هذا الأمر ، وهدده بأنه قد يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر فيما أمره الله جل وعلا أن ينظر فيه ; لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله جل وعلا ، وذلك في قوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم الآية [ 185 ] .
تنبيه
آية " الأعراف " هذه التي ذكرنا تدل دلالة واضحة على أن الأمر يقتضي الفور ، وهو الذي عليه جمهور الأصوليين ، خلافا لجماعة من الشافعية وغيرهم .
قوله تعالى : وأن أقم وجهك للدين .
أوضح هذا المعنى في قوله : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها .
قوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك .
أوضح معناه أيضا بقوله : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون .
قوله تعالى : واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
لم يبين هنا ما حكم الله به بين نبيه وبين أعدائه ، وقد بين في آيات كثيرة أنه حكم بنصره عليهم ، وإظهار دينه على كل [ ص: 164 ] دين ، كقوله : إذا جاء نصر الله والفتح [ 110 \ 1 ] إلى آخر السورة ، وقوله : إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ 48 \ 1 ] إلى آخرها ، وقوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه الآية [ 13 \ 41 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (123)
سُورَةُ هُودٍ (1)
صـ 165 إلى صـ 170
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ هُودٍ
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ .
اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافا كثيرا ، واستقراء القرآن العظيم يرجح واحدا من تلك الأقوال ، وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول ، وبالله جل وعلا نستعين :
قال بعض العلماء : هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ، كما بينا في " آل عمران " وممن روي عنه هذا القول : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود - رضي الله عنهم - وعامر الشعبي ، وسفيان الثوري ، والربيع بن خثيم ، واختاره أبو حاتم بن حبان .
وقيل : هي أسماء للسور التي افتتحت بها ، وممن قال بهذا القول : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، قال الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر . ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ، ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم [ 32 \ 1 ] السجدة ، و هل أتى على الإنسان [ 76 \ 1 ] .
ويدل له أيضا قول قاتل محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل ، وهو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلا : إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور ، وذكر أبو مخنف أنه لمدلج بن كعب السعدي ، ويقال كعب بن مدلج ، وذكر الزبير بن بكار أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر ، قال المرزباني : وهو الثبت ، وأنشد له البيت المذكور ، وقبله :
وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
[ ص: 166 ] هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا عليا ومن لا يتبع الحق يندم
يذكرني حاميم . . . البيت . اهـ من " فتح الباري " .
فقوله : " يذكرني حاميم " ، بإعراب " حاميم " إعراب ما لا ينصرف فيه الدلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة .
وقيل : هي من أسماء الله تعالى ، وممن قال بهذا : سالم بن عبد الله ، والشعبي ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضا : أنها أقسام أقسم الله بها ، وهي من أسمائه ، وروي نحوه عن عكرمة .
وقيل : هي حروف ، كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا . فالألف من " الم " مثلا : مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والميم : مفتاح اسمه مجيد ، وهكذا . ويروى هذا عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي العالية ، واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة ، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز :
قلت لها قفي فقالت لي قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
فقوله : " قاف " أي وقفت ، وقول الآخر :
بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني : وإن شرا فشر ، ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين .
قال القرطبي : وفي الحديث " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " الحديث ، قال سفيان : هو أن يقول في اقتل : اق ، إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور ، وهي نحو ثلاثين قولا .
أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو : أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد ، وجمع من المحققين ، وحكاه القرطبي عن الفراء ، وقطرب ، ونصره الزمخشري في الكشاف .
[ ص: 167 ] قال ابن كثير : وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية ، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي ، وحكاه لي عن ابن تيمية .
ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول : أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه ، وأنه الحق الذي لا شك فيه .
وذكر ذلك بعدها دائما دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن ، وأنه حق .
قال تعالى في " البقرة " : الم [ 2 \ 1 ] ، وأتبع ذلك بقوله : ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وقال في " آل عمران " : الم [ 3 \ 1 ] ، وأتبع ذلك بقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق الآية [ 3 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الأعراف " : المص [ 7 \ 1 ] ، ثم قال : كتاب أنزل إليك الآية [ 7 \ 2 ] ، وقال في سورة " يونس " : الر [ 10 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب الحكيم [ 10 \ 1 ] ، وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها ، أعني سورة " هود " الر \ [ 11 \ 1 ] 30 ، ثم قال : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وقال في " يوسف " : الر [ 12 \ 1 ] ثم قال : تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ 12 \ 1 ، 2 ] ، وقال في " الرعد " : المر [ 13 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق [ 13 \ 1 ] ، وقال في سورة " إبراهيم " : الر [ 14 \ 1 ] ، ثم قال : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور الآية [ 14 \ 1 ] ، وقال في " الحجر " : الر [ 15 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ، وقال في سورة " طه " طه [ 20 \ 1 ] ، ثم قال : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ 20 \ 2 ] ، وقال في " الشعراء " : طسم [ 26 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك الآية [ 26 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " النمل " : طس [ 27 \ 2 ] ، ثم قال : تلك آيات القرآن وكتاب مبين [ 27 \ 1 ] ، وقال في " القصص " : طسم [ 28 \ 1 ] ، ثم قال تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون الآية [ 28 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " لقمان " الم [ 31 \ 3 ] ، ثم قال تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين [ 31 \ 2 ، 3 ] ، وقال في [ ص: 168 ] " السجدة " : الم [ 32 \ 1 ] ، ثم قال تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 32 \ 2 ] ، وقال في " يس " : يس [ 36 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن الحكيم الآية [ 36 \ 2 ] ، وقال في " ص " : ص [ 38 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن ذي الذكر الآية [ 38 \ 1 ] وقال في " سورة المؤمن " : حم [ 40 \ 1 ] ، ثم قال تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم الآية [ 40 \ 2 ] .
وقال في " فصلت " : حم [ 41 \ 2 ] ، ثم قال تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون الآية [ 42 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الشورى : " حم عسق [ 42 \ 1 ، 2 ] ، ثم قال : كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الآية [ 42 \ 3 ] ، وقال في " الزخرف " : حم [ 43 \ 3 ] ، ثم قال : والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا الآية [ 43 \ 2 ، 3 ] وقال في " الدخان " : حم [ 44 \ 1 ] ، ثم قال : والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة الآية [ 44 \ 2 ، 3 ] وقال في " الجاثية " : حم [ 45 \ 1 ] ، ثم قال : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين [ 45 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الأحقاف " حم [ 46 \ 1 ] ، ثم قال : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الآية [ 46 \ 2 ، 3 ] ، وقال في سورة " ق " : ق [ 50 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن المجيد الآية [ 50 \ 1 ] .
وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا .
وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ; لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالبا ، والبقرة وآل عمران مدنيتان ، والغالب له الحكم ، واخترنا لبيان ذلك سورة هود ; لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح ; لأن قوله تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، بعد قوله : الر [ 11 \ 1 ] واضح جدا فيما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ مِنْ أَجْلِهَا : هِيَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا : كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ الْآيَةَ [ 11 \ 1 ، 2 ] صَرِيحٌ فِي أَنَّ [ ص: 169 ] آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ فُصِّلَتْ مِنْ عِنْدِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ " أَنْ " هِيَ الْمُفَسِّرَةُ ، أَوْ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْهَا وَمِنْ صِلَتِهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ ; لِأَنَّ ضَابِطَ " أَنْ " الْمُفَسِّرَةَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ حُرُوفُ الْقَوْلِ .
وَوَجْهُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ : أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ 11 \ 1 ] ، فِيهِ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ دُونَ حُرُوفِ الْقَوْلِ ، فَيَكُونُ تَفْسِيرُ ذَلِكَ هُوَ : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ " أَنْ " وَصِلَتِهَا مَفْعُولٌ لَهُ ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، فَمَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ حَاصِل تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ : قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ 21 \ 108 ] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ " إِنَّمَا " مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مُنْحَصِرٌ فِي مَعْنَى " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " أَنَّ حَصْرَ الْوَحْيِ فِي آيَةِ الْأَنْبِيَاءِ هَذِهِ فِي تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ حَصْرٌ لَهُ فِي أَصْلِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْفُرُوعِ ; لِأَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ دَاخِلَةٌ فِي ضِمْنِ مَعْنَى " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " لِأَنَّ مَعْنَاهَا خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ، وَإِفْرَادِهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْقَوْلِيَّةِ ، وَالْفِعْلِيَّة ِ ، وَالِاعْتِقَادِ يَّةِ .
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ ، وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ 16 \ 36 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ 21 \ 25 ] ، وَقَوْلِهِ : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ 43 \ 45 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي " سُورَةِ الْفَاتِحَةِ " وَسَنَسْتَقْصِي الْكَلَامَ عَلَيْهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي " سُورَةِ النَّاسِ " لِتَكُونَ خَاتِمَةَ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ حُسْنَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الذُّنُوبِ سَبَبٌ لِأَنْ يُمَتِّعَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ; لِأَنَّهُ رَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ [ ص: 170 ] عَلَى شَرْطِهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَتَاعِ الْحَسَنِ : سَعَةُ الرِّزْقِ ، وَرَغَدُ الْعَيْشِ ، وَالْعَافِيَةُ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى : الْمَوْتُ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [ 11 \ 52 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ " نُوحٍ " : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 96 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [ 5 \ 66 ] ، وَقَوْلُهُ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [ 65 \ 2 ، 3 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (124)
سُورَةُ هُودٍ (2)
صـ 171 إلى صـ 175
قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور .
يبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شيء ، وأن السر كالعلانية عنده ، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر ، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدا ، كقوله : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] ، وقوله جل وعلا : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] ، وقوله : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء الآية [ 10 \ 61 ] ، ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى .
تنبيه مهم
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظا أكبر ، ولا زاجرا أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن ، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه ، رقيب عليهم ، ليس بغائب عما يفعلون ، وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر ، والزاجر الأعظم مثلا ليصير به كالمحسوس ، فقالوا : لو فرضنا أن ملكا قتالا للرجال ، [ ص: 171 ] سفاكا للدماء ، شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلما ، وسيافه قائم على رأسه ، والنطع مبسوط للقتل ، والسيف يقطر دما ، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته ، فهل ترى أن أحدا من الحاضرين يهم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه ، وهو ينظر إليه عالم بأنه مطلع عليه ؟ ! لا ، وكلا ! بل جميع الحاضرين يكونون خائفين ، وجلة قلوبهم ، خاشعة عيونهم ، ساكنة جوارحهم خوفا من بطش ذلك الملك .
ولا شك " ولله المثل الأعلى " أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علما ، وأعظم مراقبة ، وأشد بطشا ، وأعظم نكالا وعقوبة من ذلك الملك ، وحماه في أرضه محارمه ، فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه ، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه ، وخشي الله تعالى ، وأحسن عمله لله جل وعلا .
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملا ، ولم يقل : أيهم أكثر عملا ، فالابتلاء في إحسان العمل ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا الآية [ 11 \ 7 ] .
وقال في الملك : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [ 67 \ 2 ] .
ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلى - أي يختبر بإحسان العمل - فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار ، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أخبرني عن الإحسان " أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى ، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه ، فقال له : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
واختلف العلماء في المراد بقوله في هذه الآية الكريمة ألا إنهم يثنون صدورهم [ 11 \ 5 ] ، وقوله : يستغشون ثيابهم [ 11 \ 5 ] ، وفي مرجع الضمير في قوله : منه [ 11 \ 5 ] .
[ ص: 172 ] فقال بعض العلماء : معنى يثنون صدورهم [ 11 \ 5 ] يزورون عن الحق ، وينحرفون عنه ; لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره ، وطوى عنه كشحه . بهذا فسره الزمخشري في الكشاف .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، فهم يعبرون باعوجاج الصدر عن العدول عن الشيء والميل عنه ، ويعبرون بإقامة الصدر عن القصد إلى الشيء وعدم الميل عنه .
فمن الأول قول ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب :
خليلي عوجا بارك الله فيكما على دار مي من صدور الركائب تكن عوجة يجزيكما الله عنده
بها الأجر أو تقضى ذمامة صاحب
يعني : اثنيا صدور الركائب إلى دار مي .
ومن الثاني قول الشنفرى :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل
وقول الآخر :
أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيش شطر بني تميم
وقيل : نزلت هذه الآية الكريمة في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة .
كان حلو المنطق ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء .
وقيل : نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره ، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان ، حكي معناه عن عبد الله بن شداد .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم كانوا يكرهون أن يجامعوا أو يتغوطوا وليس بينهم وبين السماء حجاب ، يستحيون من الله .
وقال بعض العلماء : معنى يستغشون ثيابهم [ 11 \ 5 ] ، يغطون رءوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله ، كقوله تعالى عن نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم الآية [ 71 \ 7 ] .
وقيل : كانوا إذا عملوا سوءا ثنوا صدورهم وغطوا رءوسهم ، يظنون أنهم إن فعلوا [ ص: 173 ] ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] .
وقرأ ابن عباس هذه الآية الكريمة : ألا إنهم تثنوني صدورهم [ 11 \ 5 ] ، وتثنوني مضارع اثنونى ، ووزنه افعوعل من الثني كما تقول احلولى من الحلاوة و صدورهم في قراءة ابن عباس بالرفع فاعل : تثنوني ، والضمير في قوله منه عائد إلى الله تعالى في أظهر القولين ، وقيل : راجع إليه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأقوال في الآية .
قوله تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، صرح في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق ، ولم يخلقهما عبثا ولا باطلا ، ونزه نفسه تعالى عن ذلك ، وصرح بأن من ظن ذلك فهو من الذين كفروا وهددهم بالنار ، قال تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 ، 116 ] ، وقال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] ، وقال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة الآية ، المراد بالأمة هنا : المدة من الزمن ، ونظيره قوله تعالى : وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ، أي : تذكر بعد مدة .
تنبيه
استعمل لفظ " الأمة " في القرآن أربعة استعمالات :
الأول : هو ما ذكرنا هنا من استعمال الأمة في البرهة من الزمن .
الثاني : استعمالها في الجماعة من الناس ، وهو الاستعمال الغالب ، كقوله وجد عليه أمة من الناس يسقون الآية [ 28 \ 23 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول الآية [ 10 \ 47 ] ، وقوله كان الناس أمة الآية [ 2 \ 213 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثالث : استعمال " الأمة " في الرجل المقتدى به ، كقوله : إن إبراهيم كان أمة [ ص: 174 ] الآية [ 16 \ 120 ] .
الرابع : استعمال " الأمة " في الشريعة والطريقة ، كقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية [ 43 \ 22 ] ، وقوله : إن هذه أمتكم أمة واحدة الآية [ 23 \ 52 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من عمل عملا يريد به الحياة الدنيا أعطاه جزاء عمله في الدنيا ، وليس له في الآخرة إلا النار .
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الشورى : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] ، ولكنه تعالى يبين في " سورة بني إسرائيل " تعليق ذلك على مشيئته جل وعلا بقوله : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية [ 17 \ 18 ] ، وقد أوضحنا هذه المسألة غاية الإيضاح في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية الكريمة ، ولذلك اختصرناها هنا .
قوله تعالى : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائنا من كان إلا دخل النار . وهو صريح في عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة ، كقوله تعالىوأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] وقوله : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الآية [ 7 \ 158
قوله تعالى : فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك الآية ، نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك في هذا القرآن العظيم ، وصرح أنه الحق من الله ، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا ، كقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه الآية [ 2 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ، ونحو ذلك من الآيات ، والمرية : الشك .
قوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ، صرح تعالى [ ص: 175 ] في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنون ، وبين ذلك أيضا في مواضع كثيرة ، كقوله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 6 \ 116 ] ، وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ، 67 ، 103 ، 121 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يضاعف لهم العذاب الآية ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا يضاعف لهم العذاب يوم القيامة ; لأنهم يعذبون على ضلالهم ، ويعذبون أيضا على إضلالهم غيرهم ، كما أوضحه تعالى بقوله : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] .
وبين في موضع آخر أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين ، وهو قوله في الأعراف حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف الآية [ 7 \ 38 ] ، قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه ، بعضها يشهد له القرآن :
الأول وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره ، ونقله عن ابن عباس وقتادة : أن معنى ما كانوا يستطيعون السمع الآية [ 11 \ 20 ] : أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع ، ولا أن يبصروه إبصار مهتد ; لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى ، وقد كانت لهم أسماع وأبصار .
ويدل لهذا قوله تعالى : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله الآية [ 46 \ 26 ] .
الثاني وهو أظهرها عندي : أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم ، والغشاوة التي جعل على أبصارهم .
ويشهد لهذا القول قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، ونحو ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (125)
سُورَةُ هُودٍ (3)
صـ 176 إلى صـ 180
وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر [ ص: 176 ] وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، وقوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقوله : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 125 ] ، وقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثالث : أن المعنى : ما كانوا يستطيعون السمع ، أي : لشدة كراهيتهم لكلام الرسل ، على عادة العرب في قولهم : لا أستطيع أن أسمع كذا : إذا كان شديد الكراهية والبغض له ، ويشهد لهذا القول قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] ، وقوله تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن الآية [ 41 \ 26 ] ، وقوله وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم .
الرابع : أن " ما " مصدرية ظرفية ، أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا ، أي يضاعف لهم العذاب دائما .
الخامس : أن " ما " مصدرية في محل نصب بنزع الخافض ، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا ، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم ، وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقا عند أمن اللبس .
السادس : أن قوله : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله ، فيكون متصلا بقوله وما كان لهم من دون الله من أولياء [ 11 \ 20 ] وتكون جملة يضاعف لهم العذاب [ 11 \ 20 ] اعتراضية ، وتقرير المعنى على هذا القول : وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله ، وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون وليا لأحد .
ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في " الأعراف " : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها الآية [ 7 \ 195 ] ، ونحوها من الآيات .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال ، [ ص: 177 ] وكلها يشهد له قرآن فنذكر الجميع ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية .
ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم ، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير ، وبين أنهما لا يستويان ، ولا يستوي الأعمى والبصير ، ولا يستوي الأصم والسميع ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة :
قوله : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير [ 35 \ 19 - 23 ] .
وقوله : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى الآية [ 13 \ 19 ] .
وقوله : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 27 \ 80 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الملأ من قوم نوح قالوا له : ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل ، وذكر في سورة الشعراء أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون [ 26 \ 111 ] .
وبين في هذه السورة الكريمة أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله : وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية [ 11 \ 29 ، 30 ] ، وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضا بقوله : إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين .
قوله تعالى : قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح : أنه قال لقومه : أرأيتم [ 11 \ 28 ] ، أي : أخبروني إن كنت على بينة من ربي [ 11 \ 28 ] ، أي : على يقين ونبوة صادقة لا شك فيها ، وأعطاني رحمة منه مما أوحى إلي من التوحيد والهدى ، فخفي ذلك كله عليكم ، ولم تعتقدوا أنه حق ، أيمكنني أن ألزمكم به ، وأجبر قلوبكم على الانقياد والإذعان لتلك البينة التي تفضل الله علي بها ، ورحمني بإيتائها ، والحال أنكم كارهون لذلك ؟ يعني ليس بيدي توفيقكم إلى الهدى وإن كان واضحا جليا لا [ ص: 178 ] لبس فيه ، إن لم يهدكم الله جل وعلا إليه .
وهذا المعنى صرح به جل وعلا عن نوح أيضا في هذه السورة الكريمة بقوله : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم الآية [ 11 \ 34 ] .
قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالا في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى ، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجانا من غير أخذ أجرة في مقابله .
وبين في آيات كثيرة أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، كقوله في " سبإ " عن نبينا صلى الله عليه وسلم : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله الآية [ 34 \ 47 ] .
وقوله فيه أيضا في آخر " سورة ص " : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] .
وقوله في " الطور " ، و " القلم " : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ 52 \ 40 ] [ 68 \ 46 ] .
وقوله في " الفرقان " : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] .
وقوله في " الأنعام " : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 \ 90 ] .
وقوله عن هود في " سورة هود " : ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني الآية [ 11 \ 51 ] .
وقوله في " الشعراء " عن نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 ] .
وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في " يس " : اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا الآية [ 36 \ 20 ، 21 ] .
وقد بينا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى : [ ص: 179 ] قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في " سورة سبإ " في الكلام على قوله تعالى قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] .
ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة : أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجانا من غير أخذ عوض على ذلك ، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى ، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام .
ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه ، فمن ذلك ما رواه ابن ماجه ، والبيهقي ، والروياني في مسنده ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : علمت رجلا القرآن ، فأهدى لي قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن أخذتها أخذت قوسا من نار " ، فرددتها .
قال البيهقي ، وابن عبد البر في هذا الحديث : هو منقطع ، أي بين عطية الكلاعي ، وأبي بن كعب ، وكذلك قال المزي .
وتعقبه ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأعله ابن القطان بأن راويه عن عطية المذكور هو عبد الرحمن بن سلم وهو مجهول .
وقال فيه ابن حجر في التقريب : شامي مجهول .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وله طرق عن أبي . قال ابن القطان : لا يثبت منها شيء . قال الحافظ : وفيما قاله نظر .
وذكر المزي في الأطراف له طرقا ، منها : أن الذي أقرأه أبي هو الطفيل بن عمرو ، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال : أقرأني أبي بن كعب القرآن ، فأهديت له قوسا ، فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تقلدها من جهنم " الحديث ، وقال الشوكاني أيضا : وفي الباب عن معاذ عند الحاكم ، والبزار بنحو حديث أبي ، وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضا .
ومن ذلك ما رواه أبو داود ، وابن ماجه ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال : علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن ، فأهدى إلي رجل منهم قوسا ، فقلت ليست بمال ، وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل ، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه ، فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، أهدى إلي رجل قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب ، والقرآن ، وليست بمال ، وأرمي عليها في سبيل الله ؟ فقال : " إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها " ، وفي إسناده المغيرة بن زياد الموصلي ، قال الشوكاني : وثقه وكيع ، ويحيى بن معين ، وتكلم فيه جماعة .
[ ص: 180 ] وقال الإمام أحمد : ضعيف الحديث ، حدث بأحاديث مناكير ، وكل حديث رفعه فهو منكر ، وقال أبو زرعة الرازي : لا يحتج بحديثه . اهـ . وقال فيه ابن حجر في التقريب : المغيرة بن زياد البجلي أبو هشام - أو هاشم - الموصلي صدوق له أوهام ، وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق أخرى ليس فيها المغيرة المذكور ، حدثنا عمرو بن عثمان ، وكثير بن عبيد ، قالا : ثنا بقية ، حدثني بشر بن عبد الله بن بشار ، قال عمرو : وحدثني عبادة بن نسي ، عن جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر ، والأول أتم ، فقلت : ما ترى فيها يا رسول الله ؟ فقال : " جمرة بين كتفيك تقلدتها " ، أو " تعلقتها " اهـ منه بلفظه ، وفي سند هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة ، ووثقه آخرون إذا روى عن الثقات ، وهو من رجال مسلم ، وأخرج له البخاري تعليقا .
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق ، كثير التدليس عن الضعفاء ، والظاهر أن أعدل الأقوال فيه أنه إن صرح بالسماع عن الثقات فلا بأس به ، مع أن حديثه هذا معتضد بما تقدم وبما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقرءوا القرآن واسألوا الله به ، فإن من بعدكم قوما يقرءون القرآن يسألون به الناس " ، قال الترمذي في هذا الحديث : ليس إسناده بذلك .
ومنها ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا وهب بن بقية ، أخبرنا خالد ، عن حميد الأعرج ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن ، وفينا الأعرابي ، والأعجمي : فقال : " اقرءوا فكل حسن ، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه " حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمر ، وابن لهيعة ، عن بكر بن سوادة ، عن وفاء بن شريح الصدفي ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقتري فقال : " الحمد لله ، كتاب الله واحد ، وفيكم الأحمر ، وفيكم الأبيض ، وفيكم الأسود ، اقرءوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله " اهـ .
ومنها ما رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن شبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به " ، قال الشوكاني رحمه الله في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : قال في مجمع الزوائد : رجال أحمد ثقات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (126)
سُورَةُ هُودٍ (4)
صـ 181 إلى صـ 185
ومنها ما أخرجه الأثرم في سننه عن أبي رضي الله عنه قال : كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة ، قد احتبس في بيته أقرئه القرآن ، فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة ، [ ص: 181 ] فحاك في نفسي شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه ، وإن كان يتحفك به فلا تأكله " ا هـ بواسطة نقل ابن قدامة في " المغني " والشوكاني في " نيل الأوطار " .
فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليه .
وممن قال بهذا : الإمام أحمد في إحدى الروايتين ، وأبو حنيفة ، والضحاك بن قيس ، وعطاء .
وكره الزهري ، وإسحاق تعليم القرآن بأجر .
وقال عبد الله بن شقيق : هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت .
وممن كره أجرة التعليم مع الشرط : الحسن ، وابن سيرين ، وطاوس ، والشعبي ، والنخعي ، قاله في " المغني " ، وقال : إن ظاهر كلام الإمام أحمد جواز أخذ المعلم ما أعطيه من غير شرط .
وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وهو مذهب مالك ، والشافعي .
وممن رخص في أجور المعلمين : أبو قلابة ، وأبو ثور ، وابن المنذر .
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس ، التعليم أحب إلي .
وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
واحتج أهل هذا القول بأدلة ، منها ما رواه الشيخان ، وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله ، إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ " ، فقال : ما عندي إلا إزاري ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك " ، فالتمس شيئا . فقال : ما أجد شيئا ، فقال : " التمس ولو خاتما من حديد " ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هل معك من القرآن شيء ؟ " قال نعم ، سورة كذا وكذا يسميها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد [ ص: 182 ] زوجتكها بما معك من القرآن " ، وفي رواية " قد ملكتكها بما معك من القرآن " فقالوا : هذا الرجل أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضا عن صداقها ، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز ، وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكراما له لحفظه ذلك المقدار من القرآن ، ولم يجعل التعليم صداقا لها - مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن " وفي رواية لأبي داود " علمها عشرين آية وهي امرأتك " .
واحتجوا أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس : " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " ، قالوا : الحديث وإن كان واردا في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضا على تعليم القرآن ، والعقائد ، والحلال ، والحرام ، للأدلة الماضية ، وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين ; لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة .
والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن ، والعقائد ، والحلال والحرام ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين الآية ، ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أمر نبيه نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين ، وبين في سورة قد أفلح المؤمنون أنه أمره أن يسلكهم - أي يدخلهم - فيها .
فدل ذلك على أن فيها بيوتا يدخل فيها الراكبون ، وذلك في قوله فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين [ 23 \ 27 ] ، ومعنى اسلك أدخل فيها من كل زوجين اثنين ، تقول العرب : سلكت الشيء في الشيء : أدخلته فيه ، وفيه لغة أخرى وهي : أسلكته فيه ، رباعيا بوزن : أفعل ، والثلاثية لغة القرآن ، كقوله : فاسلك فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 23 \ 27 ] ، وقوله اسلك يدك في جيبك الآية [ 28 \ 32 ] ، وقوله : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين الآية [ 26 \ 200 ] ، وقوله : [ ص: 183 ] كذلك نسلكه في قلوب المجرمين الآية [ 15 \ 12 ] ، وقوله : ما سلككم في سقر الآية [ 74 \ 42 ] ، ومنه قول الشاعر :
وكنت لزاز خصمك لم أعدد وقد سلكوك في يوم عصيب
ومن الرباعية قول عبد مناف بن ربع الهذلي :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي أن أصل السلك الذي هو الخيط فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح ، وقتل بمعنى مقتول ; لأن الخيط يسلك أي يدخل في الخرز لينظمه ، كما قال العباس بن مرداس السلمي :
عين تأوبها من شجوها أرق فالماء يغمرها طورا وينحدر
كأنه نظم در عند ناظمة تقطع السلك منه فهو منتثر
والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وأهلك إلا من سبق عليه القول الآية ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أمر نوحا أن يحمل في السفينة أهله إلا من سبق عليه القول ، أي سبق عليه من الله القول بأنه شقى ، وأنه هالك مع الكافرين .
ولم يبين هنا من سبق عليه القول منهم ، ولكنه بين بعد هذا أن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه وامرأته .
قال في ابنه الذي سبق عليه القول : ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين [ 11 \ 42 ] إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ 11 \ 43 ] ، وقال فيه أيضا : قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح الآية [ 11 \ 46 ] ، وقال في امرأته : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح إلى قوله مع الداخلين [ 66 \ 01 ] .
قوله تعالى : وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم .
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أمر أصحابه الذين قيل له احملهم فيها أن يركبوا فيها قائلا : بسم الله مجراها ومرساها [ 11 \ 41 ] ، أي : بسم الله يكون جريها على وجه الماء ، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها .
وبين في " سورة الفلاح " : أنه أمره إذا استوى على السفينة هو ومن معه أن يحمدوا [ ص: 184 ] الله الذي نجاهم من الكفرة الظالمين ، ويسألوه أن ينزلهم منزلا مباركا ، وذلك في قوله : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين [ 23 \ 28 ، 29 ] .
وبين في " سورة الزخرف " ما ينبغي أن يقال عند ركوب السفن وغيرها بقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] ، ومعنى قوله مقرنين ، أي : مطيقين ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقول الآخر :
ركبتم صعبتي أشر وجبن ولستم للصعاب بمقرنينا
وقول ابن هرمة :
وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
قوله تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال الآية .
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم ، أمواجه كالجبال .
وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخر ، كقوله : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية [ 69 \ 11 ، 12 ] ، وقوله : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر [ 54 \ 11 - 15 ] .
وبين في موضع آخر : أن أمواج البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه كالجبال أيضا بقوله : فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 \ 36 ] ، والطود : الجبل العظيم .
قوله تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية .
لم يبين هنا أمره الذي نجى منه هودا والذين آمنوا معه عند مجيئه ، ولكنه بين في مواضع أخر : أنه الإهلاك المستأصل بالريح العقيم التي أهلكهم الله بها فقطع دابرهم ، كقوله : [ ص: 185 ] وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 51 \ 41 ، 42 ] .
وقوله : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما الآية [ 69 \ 6 ، 7 ] .
وقوله : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 19 ، 20 ] .
وقوله : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي الآية [ 41 \ 16 ] .
قوله تعالى : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا الآية .
وبين هذا الأمر الذي جاء بقوله : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ 11 \ 67 ، 68 ] ، ونحوها من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (127)
سُورَةُ هُودٍ (5)
صـ 186 إلى صـ 190
قوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما الآية .
لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها رسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب في قوله : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] ; لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب ، كما يدل لذلك قوله : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] .
وقوله : قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم [ 51 \ 28 ] ، وقوله : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ، وقيل : البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط ، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة : قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط الآية [ 11 \ 70 ] .
وقوله : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط الآية [ 15 \ 58 ، 59 ] .
وقوله : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 32 ، 33 ] ، وقوله : ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين [ 29 \ 31 ] .
والظاهر : القول الأول ، وهذه الآية الأخيرة تدل عليه ; لأن فيها التصريح بأن إخبارهم بإهلاك قوم لوط بعد مجيئهم بالبشرى ; لأنه مرتب عليه بأداة الشرط التي هي " لما " كما [ ص: 186 ] ترى .
قوله تعالى : فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفا من الآدميين أسرع إليهم بالإتيان بالقرى وهو لحم عجل حنيذ أي منضج بالنار ، وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم .
وبين في " الذاريات " : أنه راغ إلى أهله ، أي مال إليهم فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين ، وأنه قربه إليهم ، وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم : ألا تأكلون [ 51 \ 27 ] ، وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة الآية [ 51 \ 24 - 28 ] .
تنبيه
يؤخذ من قصة إبراهيم مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة : منها تعجيل القرى ; لقوله : فما لبث أن جاء بعجل حنيذ [ 11 \ 69 ] .
ومنها كون القرى من أحسن ما عنده ; لأنهم ذكروا أن الذي عنده البقر وأطيبه لحما الفتي السمين المنصح .
ومنها تقريب الطعام إلى الضيف .
ومنها ملاطفته بالكلام بغاية الرفق ، كقوله ألا تأكلون [ 51 \ 27 ] .
ومعنى قوله نكرهم [ 11 \ 70 ] ، أي : أنكرهم لعدم أكلهم ، والعرب تطلق نكر ، وأنكر بمعنى واحد ، وقد جمعهما قول الأعشى :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وروي عن يونس : أن أبا عمرو بن العلاء حدثه : أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : قالت ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب .
بين الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة ما قالته امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد وهي [ ص: 187 ] عجوز ، ولم يبين هنا ما فعلت عند ذلك ، ولكنه بين ما فعلت في " الذاريات " بقوله : فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم [ 51 \ 29 ] ، وقوله : في صرة ، أي : ضجة وصيحة ، وقوله : فصكت وجهها ، أي : لطمته .
قوله تعالى : وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ، لم يبين هنا ما جادل به إبراهيم الملائكة في قوم لوط ، ولكنه أشار إليه في " العنكبوت " بقوله : قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته الآية [ 29 \ 31 ، 32 ] .
فحاصل جداله لهم أنه يقول : إن أهلكتم القرية وفيها أحد من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب ، فأجابوه عن هذا بقولهم نحن أعلم بمن فيها الآية [ 29 \ 32 ] .
ونظير ذلك قوله : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 ، 36 ] .
قوله تعالى : يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود .
هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة ، كقوله في هذه السورة الكريمة : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 82 ، 83 ] .
وقوله في " الحجر " : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ 15 \ 74 ، 75 ] .
وقوله : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء الآية [ 25 \ 40 ] .
وقوله : ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين [ 26 \ 172 ، 173 ] .
وقوله : لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 33 ، 34 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب .
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها ، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعا ، وقال هذا يوم عصيب : أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم ، كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط ; لأنهم إن علموا بقدوم [ ص: 188 ] ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة ، فمن ذلك قوله هنا : وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد [ 11 \ 78 ، 79 ] .
وقوله في " الحجر " : وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ 15 \ 67 - 72 ] .
وقوله : يهرعون [ 11 \ 78 ] ، أي : يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك ، ومنه قول مهلهل :
فجاءوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف
وقوله : ولا تخزون ، أي : لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي ، والاسم منه : الخزي بكسر الخاء وإسكان الزاي . ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص :
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
وقال بعض العلماء : قوله : ولا تخزون [ 15 \ 69 ] من الخزاية ، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة ، أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سببا في خجلي واستحيائي ، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا وحشيا تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل :
حتى إذا دومت في الأرض راجعه كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب ، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعا إليها ، ومنه قوله الآخر :
أجاعلة أم الثوير خزاية على فراري أن لقيت بني عبس
والفعل منه : خزي يخزى ، كرضي يرضى ، ومنه قول الشاعر :
من البيض لا تخزى إذا الريح ألقعت بها مرطها أو زايل الحلى جيدها
وقول الآخر :
وإني لا أخزى إذا قيل مملق سخي وأخزى أن يقال بخيل
[ ص: 189 ] وقوله : لعمرك معناه : أقسم بحياتك ، والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه ، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى .
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " .
وقوله : لعمرك ، مبتدأ خبره محذوف ، أي لعمرك قسمي ، وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك ، فتقول فيها : رعملك ، ومنه قول الشاعر :
رعملك إن الطائر الواقع الذي تعرض لي من طائر لصدوق
وقوله : لفي سكرتهم [ 15 \ 72 ] ، أي : عماهم وجهلهم وضلالهم ، والعمه : عمى القلب ، فمعنى يعمهون [ 15 \ 72 ] : يترددون متحيرين لا يعرفون حقا من باطل ، ولا نافعا من ضار ، ولا حسنا من قبيح .
واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : هؤلاء بناتي [ 11 \ 78 ] في الموضعين على أقوال :
أحدها : أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط ، ولم يرد إمضاء ما قال ، وبهذا قال عكرمة ، وأبو عبيدة .
الثاني : أن المراد بناته لصلبه ، وأن المعنى : دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي ، وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزا في شرعه ، كما كانت بنات نبينا صلى الله عليه وسلم تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف ، وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع ، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافرا يوم بدر ، والقصة مشهورة ، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر :
وابن الربيع صهر هادي الملة إذ في فداه زينب أرسلت بعقدها الذي به أهدتها له خديجة وزففتها سرحه بعقدها وعهدا إليه أن يردها له غدا إلخ . . . القول الثالث : أن المراد بالبنات : جميع نساء قومه ; لأن نبي القوم أب ديني لهم ، [ ص: 190 ] كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم [ 33 \ 6 ] وفي قراءة أبي بن كعب : " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " وروي نحوها عن ابن عباس ، وبهذا القول قال كثير من العلماء .
وهذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى ، أما القرينة التي تقربه فهي : أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر ، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهن بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم ، فيتعين أن المراد عموم نساء قومه ، ويدل للعموم قوله : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم [ 26 \ 165 ، 166 ] ، وقوله : أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء [ 27 \ 55 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وأما القرينة التي تبعده : فهي أن النبي ليس أبا للكافرات ، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين ، كما يدل عليه قوله : النبي أولى بالمؤمنين الآية [ 33 \ 6 ] .
وقد صرح تعالى في " الذاريات " : بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط ، وذلك في قوله : فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 36 ] .
قوله تعالى : قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه لوطا وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه ، وعرض عليهم النساء وترك الرجال ، فلم يلتفتوا إلى قوله ، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة ، فقال لوط : لو أن لي بكم قوة الآية [ 11 \ 80 ] ، فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه ، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء .
وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم ، وذلك في قوله : ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر [ 54 \ 37 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (128)
سُورَةُ هُودٍ (6)
صـ 191 إلى صـ 195
قوله تعالى : فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه أمر نبيه لوطا أن يسري بأهله بقطع من الليل ، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل ، أو وسطه أو أوله ، ولكنه بين في " القمر " أن ذلك من آخر الليل وقت السحر ، وذلك في قوله : إلا آل لوط نجيناهم بسحر [ 54 \ 34 ] ، ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه ، ولكنه بين ذلك في [ ص: 191 ] " الحجر " بقوله : فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون [ 15 \ 65 ] ، وقوله تعالى : ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم [ 11 \ 81 ] ، قرأه جمهور القراء إلا امرأتك ، بالنصب ، وعليه فالأمر واضح ; لأنه استثناء من الأهل ، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها ، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم .
ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع : كانت من الغابرين [ 29 \ 32 ، 33 ] ، والغابر : الباقي ، أي من الباقين في الهلاك .
وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إلا امرأتك بالرفع على أنه بدل من أحد ، وعليه فالمعنى : أنه أمر لوطا أن ينهى جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحي إليه أنها هالكة لا محالة ، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين .
وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها ، وظاهر قراءة أبي عمرو ، وابن كثير : أنه أسرى بها والتفتت فهلكت .
قال بعض العلماء : لما سمعت هدة العذاب التفتت ، وقالت : واقوماه ، فأدركها حجر فقتلها .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحا بقوم لوط ، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة ، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين ، وما لا فائدة فيه كالعدم ، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلا ، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين .
فمعنى القولين راجع إلى أنها هالكة ، وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله ، فلا فرق بين كونها بقيت معهم ، أو خرجت وأصابها ما أصابهم .
فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب ، فهي ومن لم يسر معه سواء ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله : فأسر بأهلك [ 11 \ 81 ] ، قرأه نافع وابن كثير : " فاسر " بهمزة وصل ، من سرى يسري ، وقرأه جمهور القراء : فأسر بأهلك بقطع الهمزة ، من أسرى الرباعي على وزن أفعل ، وسرى وأسرى : لغتان وقراءتان صحيحتان سبعيتان ، ومن سرى الثلاثية ، قوله تعالى : والليل إذا يسري [ 89 \ 4 ] ، فإن فتح ياء يسر يدل على أنه مضارع سرى [ ص: 192 ] الثلاثية .
وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان :
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليها جامد البرد
فإنه قال : أسرت ، رباعية في أشهر روايتي البيت ، وقوله : سارية ، اسم فاعل " سرى " الثلاثية ، وجمعهما أيضا قول الآخر :
حتى النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
بفتح تاء " تسري " واللغتان كثيرتان جدا في كلام العرب ، ومصدر الرباعية الإسراء على القياس ، ومصدر الثلاثية السرى بالضم على وزن فعل بضم ففتح على غير قياس ، ومنه قول عبد الله بن رواحة :
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
قوله تعالى : إن موعدهم الصبح .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة ، وكذلك قال في " الحجر " في قوله : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين [ 15 \ 66 ] ، وزاد في " الحجر " أن صبيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق ، وهو وقت طلوع الشمس بقوله : فأخذتهم الصيحة مشرقين .
قوله تعالى : وأمطرنا عليها حجارة من سجيل الآية .
اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافا كثيرا ، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة ، والدليل على أن المراد بالسجيل : الطين ، قوله تعالى في " الذاريات " في القصة بعينها : لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 33 ، 34 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن . والدليل على قوتها وشدتها : أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد ، وأيضا فإن بعض العلماء قالوا : السجيل والسجين : أختان ، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب . ومنه قول ابن مقبل :
ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصى به الأبطال سجينا
وعلى هذا ، فمعنى من سجيل ، : أي من طين شديد القوة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد .
في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من التفسير للعلماء : اثنان منها كلاهما يشهد له القرآن ، وواحد يظهر أنه ضعيف .
أما الذي [ ص: 193 ] يظهر أنه ضعيف فهو أن المعنى : أن تلك الحجارة ليست بعيدة من قوم لوط ، أي لم تكن تخطئهم .
قاله القرطبي ، وغيره ; لأن هذا يكفي عنه قوله تعالى : وأمطرنا عليها حجارة [ 11 \ 82 ] ونحوها من الآيات . أما الوجهان اللذان يشهد لكل واحد منهما قرآن :
فالأول منهما : أن ديار قوم لوط ليست ببعيدة من الكفار المكذبين لنبينا ، فكان عليهم أن يعتبروا بما وقع لأهلها إذا مروا عليها في أسفارهم إلى الشام ، ويخافوا أن يوقع الله بهم بسبب تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع من العذاب بأولئك ، بسبب تكذيبهم لوطا عليه الصلاة والسلام ، والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا . كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 ، 138 ] ، وقوله : وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين [ 15 \ 76 ، 77 ] ، وقوله : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم [ 51 \ 37 ] ، وقوله : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] إلى غير ذلك من الآيات . وعلى هذا القول فالضمير في قوله : وما هي راجع إلى ديار قوم لوط المفهومة من المقام .
الوجه الثاني أن المعنى : وما تلك الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد من الظالمين للفاعلين مثل فعلهم ، فهو تهديد لمشركي العرب كالذي قبله .
ومن الآيات الدالة على هذا الوجه قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] ، فإن قوله : وللكافرين أمثالها ظاهر جدا في ذلك ، والآيات بنحو ذلك كثيرة .
تنبيه
اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط ، وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يظهر رجحانه بالدليل من ذلك فنقول وبالله جل وعلا نستعين :
قال بعض العلماء : الحكم في ذلك : أن يقتل الفاعل والمفعول به مطلقا سواء كانا محصنين أو بكرين ، أو أحدهما محصنا والآخر بكرا .
وممن قال بهذا القول : مالك بن أنس ، وأصحابه ، وهو أحد قولي الشافعي ، وإحدى الروايتين عن أحمد . وحكى غير واحد إجماع الصحابة على هذا القول ، إلا أن القائلين به اختلفوا في كيفية قتل من فعل تلك الفاحشة .
[ ص: 194 ] قال بعضهم : يقتل بالسيف .
وقال بعضهم : يرجم بالحجارة .
وقال بعضهم : يحرق بالنار .
وقال بعضهم : يرفع على أعلى بناء في البلد فيرمى منه منكسا ويتبع بالحجارة .
وحجة من قال بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط مطلقا ما أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم ، والبيهقي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " .
قال ابن حجر : ورجاله موثقون ، إلا أن فيه اختلافا اهـ .
وما ذكره يحيى بن معين من أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ينكر عليه حديث عكرمة هذا عن ابن عباس ، فيه أن عمرا المذكور ثقة ، أخرج له الشيخان ومالك كما قدمناه مستوفى .
ويعتضد هذا الحديث بما رواه سعيد بن جبير ، ومجاهد ، عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية : أنه يرجم . أخرجه أبو داود ، والنسائي ، والبيهقي .
وبما أخرجه الحاكم ، وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا " قال الشوكاني : وإسناده ضعيف .
قال ابن الطلاع في أحكامه : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ، ولا أنه حكم فيه ، وثبت عنه أنه قال : " اقتلوا الفاعل والمفعول به " رواه عنه ابن عباس ، وأبو هريرة . اهـ .
قال الحافظ : وحديث أبي هريرة لا يصح ، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري ، عن سهيل ، عن أبيه ، عنه ، وعاصم متروك . وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ : " فارجموا الأعلى والأسفل " اهـ .
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه : أنه رجم لوطيا ، ثم قال : قال الشافعي : وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن .
وقال : هذا قول ابن عباس ، قال : وسعيد بن المسيب يقول : السنة أن يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن .
وقال البيهقي أيضا : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة ، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي ، [ ص: 195 ] قالا : ثنا أبو عمرو بن مطر ، ثنا إبراهيم بن علي ، ثنا يحيى بن يحيى ، أنبأ عبد العزيز بن أبي حازم ، أنبأ داود بن بكر ، عن محمد بن المنكدر ، عن صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له : أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة ، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك ، فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، قال : إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم ، نرى أن تحرقه بالنار ، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار ، فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه يأمره أن يحرقه بالنار . هذا مرسل .
وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال : يرجم ويحرق بالنار .
ويذكر عن ابن أبي ليلى ، عن رجل من همدان : أن عليا رضي الله عنه رجم رجلا محصنا في عمل قوم لوط ، هكذا ذكره الثوري عنه مقيدا بالإحصان . وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقا . اهـ منه بلفظه .
فهذه حجج القائلين بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط .
وحجة من قال : إن ذلك القتل بالنار هو ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا .
وحجة من قال : إن قتله بالسيف قوله صلى الله عليه وسلم : " فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ، والقتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف .
وحجة من قال : إن قتله بالرجم هو ما قدمنا من رواية سعيد بن جبير ، ومجاهد ، عن ابن عباس : أنه يرجم ، وما ذكره البيهقي ، وغيره عن علي أنه رجم لوطيا ، ويستأنس لذلك بأن الله رمى أهل تلك الفاحشة بحجارة السجيل .
وحجة من قال : يرفع على أعلى بناء ، أو جبل ويلقى منكسا ، ويتبع بالحجارة : أن ذلك هو الذي فعله الحكيم الخبير بقوم لوط ، كما قال : جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (129)
سُورَةُ هُودٍ (7)
صـ 196 إلى صـ 201
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الأخير غير ظاهر ; لأن قوم لوط لم يكن عقابهم على اللواط وحده ، بل عليه وعلى الكفر ، وتكذيب نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فهم قد جمعوا إلى اللواط [ ص: 196 ] ما هو أعظم من اللواط ، وهو الكفر بالله ، وإيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم .
القول الثاني : هو أن اللواط زنى فيجلد مرتكبه مائة إن كان بكرا ويغرب سنة ، ويرجم إن كان محصنا . وهذا القول هو أحد قولي الشافعي .
وذكر البيهقي عن الربيع بن سليمان : أن الشافعي رجع إلى أن اللواط زنى ، فيجري عليه حكم الزنى ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمهم الله تعالى .
ورواه البيهقي ، عن عطاء ، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي ، والثوري ، والأوزاعي ، وغيرهم .
واحتج أهل هذا القول بما رواه البيهقي ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن خالد الحذاء ، عن ابن سيرين ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو العباس بن يعقوب ، ثنا يحيى بن أبي طالب ، ثنا أبو بدر ، ثنا محمد بن عبد الرحمن فذكره . قال الشيخ : ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه ، وهو منكر بهذا الإسناد . انتهى منه بلفظه .
وقال الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن ، كذبه أبو حاتم .
وقال البيهقي : لا أعرفه ، والحديث منكر بهذا الإسناد ، ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء ، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى ، وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول .
وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه . اهـ منه .
واستدل القائلون بهذا القول أيضا بقياس اللواط على الزنى بجامع أن الكل إيلاج فرج في فرج محرم شرعا ، مشتهى طبعا .
ورد بأن القياس لا يكون في الحدود ; لأنها تدرأ بالشبهات . والأكثرون على جواز القياس في الحدود ، وعليه درج في " مراقي السعود " بقوله :
والحد والكفارة التقدير جوازه فيها هو المشهور
إلا أن قياس اللائط على الزاني يقدح فيه بالقادح المسمى : " فساد الاعتبار " ; لمخالفته لحديث ابن عباس المتقدم : أن الفاعل والمفعول به يقتلان مطلقا ، أحصنا أو لم يحصنا ، ولا شك أن صاحب الفطرة السليمة لا يشتهي اللواط ، بل ينفر منه غاية النفور [ ص: 197 ] بطبعه كما لا يخفى .
القول الثالث : أن اللائط لا يقتل ولا يحد حد الزنى ، وإنما يعزر بالضرب والسجن ونحو ذلك . وهذا قولأبي حنيفة .
واحتج أهل هذا القول بأن الصحابة اختلفوا فيه ، واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نص صحيح ، وأنه من مسائل الاجتهاد ، والحدود تدرأ بالشبهات ، قالوا : ولا يتناوله اسم الزنى ; لأن لكل منهما اسما خاصا به ، كما قال الشاعر :
من كف ذات حر في زي ذي ذكر لها محبان لوطي وزناء
قالوا : ولا يصح إلحاقه بالزنى لوجود الفارق بينهما ; لأن الداعي في الزنى من الجانبين بخلاف اللواط ، ولأن الزنى يفضي إلى الاشتباه في النسب وإفساد الفراش بخلاف اللواط ، قال في " مراقي السعود " : والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح أو مانع في الفرع . . . إلخ . . . . . . واستدل أهل هذا القول أيضا بقوله تعالى : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الآية [ 4 \ 16 ] .
قالوا : المراد بذلك : اللواط . والمراد بالإيذاء : السب أو الضرب بالنعال .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : واللذان يأتيانها منكم ، قال : الرجلان الفاعلان .
وأخرج آدم ، والبيهقي في سننه ، عن مجاهد في قوله : فآذوهما ، يعني سبا ، قاله صاحب " الدر المنثور " .
قوله تعالى : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه الآية .
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، أنه أخبر قومه : أنه إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله .
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهيا عما ينهى عنه غيره ، مؤتمرا بما يأمر به غيره .
وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر ، كقوله : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ 2 \ 44 ] ، وقوله : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] .
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : [ ص: 198 ] " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار ، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون : أي فلان ، ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ ! فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : " فتندلق أقتابه " ، أي : تتدلى أمعاؤه .
وأخرج وكيع ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبو نعيم في " الحلية " ، وابن مردويه ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ، وغيرهم ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، كلما قرضت رجعت ، فقلت لجبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون " ، قاله صاحب " الدر المنثور " . اهـ . وقد قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد أجاد من قال :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض
ومعلوم أن عمل الإنسان بما ينصح به غيره أدعى لقبول غيره منه ، كما قال الشاعر :
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتيا
قوله تعالى : قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار ، وأعز جانبه بسبب العواطف العصبية ، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كفار .
وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ، ويعزه بنصرة قريبه الكافر ، كما بينه تعالى في مواضع أخر ، كقوله في صالح وقومه : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله . الآية [ 27 \ 49 ]
ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء ، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءا ، ولا شهدوا ذلك ولا حضروه خوفا من عصبته . فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكفار ، وقد قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم : [ ص: 199 ] ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي : آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب .
وذلك بسبب العواطف العصبية ، والأواصر النسبية ، ولا صلة له بالدين البتة ، فكونه جل وعلا يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي طالب له دليل على أن الله قد ينعم على المتمسك بدينه بنصرة قريبه الكافر .
ومن ثمرات تلك العصبية النسبية قول أبي طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
أبشر بذاك وقر منه عيونا
وقوله أيضا :
ونمنعه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس له عصبة في قومه الذين أرسل إليهم ظهر فيه أثر عدم العصبة ، بدليل قوله تعالى عنه : قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ 11 \ 80 ] .
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين .
ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بني هاشم ، ولم يناصرهم بنو عبد شمس بن عبد مناف ، وبنو نوفل بن عبد مناف - عرف النبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب تلك المناصرة التي هي عصبية نسبية لا صلة لها بالدين ، فأعطاهم من خمس الغنيمة مع بني هاشم ، وقال : " إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام " ومنع بني عبد شمس ، وبني نوفل من خمس الغنيمة ، مع أن الجميع أولاد عبد مناف بن قصي .
وقال أبو طالب في بني عبد شمس وبني نوفل :
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجل غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا والغياطل
والغياطل " بالغين المعجمة " ، ومراد أبي طالب بهم : بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي " القبيلة المشهورة من قبائل قريش " ، وإنما سموا الغياطل ; لأن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الذي هو من سادات قريش العظام ، وهو الذي يعنيه عبد المطلب بقوله يرقص ابنه عبد الله وهو صغير :
كأنه في العز قيس بن عدي في دار سعد ينتدي أهل الندى
[ ص: 200 ] تزوج امرأة من كنانة تسمى " الغيطلة " وهي أم بعض أولاده . فسمي بنو سهم الغياطل ; لأن قيس بن عدي المذكور سيدهم .
فهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله قد يعين المؤمن بالكافر لتعصبه له ، وربما كان لذلك أثر حسن على الإسلام والمسلمين ، وقد يكون من منن الله على بعض أنبيائه المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " ، وفي المثل : " اجتن الثمار وألق الخشبة في النار " .
فإذا عرفت دلالة القرآن على أن المسلم قد ينتفع برابطة نسب وعصبية من كافر ، فاعلم أن النداء بالروابط العصبية لا يجوز . لإجماع المسلمين على أن المسلم لا يجوز له الدعاء بـ " يا لبني فلان " ونحوها .
وقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تلك الدعوة : " دعوها فإنها منتنة " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " دعوها " يدل على وجوب تركها ; لأن صيغة " افعل " للوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وليس هنا دليل صارف عنه ، ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة ، وما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه ، وإنما الواجب على المسلمين النداء برابطة الإسلام التي هي من شدة قوتها تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد إنسان واحد ، فهي تربطك بأخيك المسلم كربط أعضائك بعضها ببعض ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " .
وإذا تأملت قوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [ 58 \ 22 ] ، تحققت أن الروابط النسبية تتلاشى مع الروابط الإسلامية ، وقد قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة [ 49 \ 10 ] ، وقال : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] .
ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية ، لا بروابط عصبية ، ولا بأواصر نسبية .
قوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك الآية .
قيد تعالى خلود أهل الجنة وأهل النار بالمشيئة ، فقال في كل منهما : إلا ما شاء ربك [ 11 \ 107 ] ، ثم بين عدم الانقطاع في كل منهما ، فقال في خلود أهل الجنة : عطاء غير مجذوذ [ ص: 201 ] [ 11 \ 108 ] .
وقال في خلود أهل النار : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] .
ومعلوم أن كلما تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها .
وقد أوضحنا هذه المسألة إيضاحا تاما في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله [ 6 \ 128 ] وفي سورة النبإ في الكلام على قوله تعالى : لابثين فيها أحقابا [ 78 \ 23 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (130)
سُورَةُ يُوسُفَ (1)
صـ 202 إلى صـ 205
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ يُوسُفَ
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ .
لم يبين هنا تأويل هذه الرؤيا ، ولكنه بينه في هذه السورة الكريمة في قوله : فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا الآية [ 12 \ 99 ، 100 ] .
ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي .
قوله تعالى : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث .
بين الله جل وعلا أنه علم نبيه يوسف من تأويل الأحاديث ، وصرح بذلك أيضا في قوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث [ 12 \ 21 ] .
وقوله : رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث [ 12 \ 101 ] .
واختلف العلماء في المراد بتأويل الأحاديث .
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك : تعبير الرؤيا ، فالأحاديث على هذا القول هي الرؤيا ، قالوا : لأنها إما حديث نفس ، أو ملك ، أو شيطان .
وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا ، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على خبرته بتأويل الرؤيا ، كقوله : ياصاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان [ 12 \ 41 ] ، وقوله :
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله [ 12 \ 47 ] إلى قوله : يعصرون [ 12 \ 49 ] .
وقال بعض العلماء : المراد بتأويل الأحاديث معرفة معاني كتب الله وسنن الأنبياء ، وما غمض وما اشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ، ويدلهم على مودعات حكمها .
وسميت أحاديث ; لأنها يحدث بها عن الله ورسله ، فيقال : قال الله كذا ، وقال رسوله كذا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : فبأي حديث بعده يؤمنون [ 7 \ 185 ] .
وقوله : [ ص: 203 ] الله نزل أحسن الحديث الآية [ 39 \ 23 ] ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما [ 28 \ 14 ] ، وقوله : قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي الآية [ 12 \ 37 ] .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن الآيات المذكورة تشمل ذلك كله من تأويل الرؤيا ، وعلوم كتب الله وسنن الأنبياء ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين .
الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفوا به أباهم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - في هذه الآية الكريمة إنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي .
ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب . فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] ، وقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] ، أي لست عالما بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي ، فهداك إليها وعلمكها بما أوحى إليك من هذا القرآن العظيم ، ومنه بهذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
يعني أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلا وهو لا يبغي بها بدلا .
وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين ; إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا ، وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدراك الحقيقة ، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به ، حيث آثر اثنين على عشرة ، مع أن العشرة أكثر نفعا له ، وأقدر على القيام بشئونه وتدبير أموره .
واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين :
أحدهما الضلال في الدين ، أي الذهاب عن طريق الحق التي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، وهذا أشهر معانيه في القرآن ، ومنه بهذا المعنى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، وقوله : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 62 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثاني إطلاق الضلال بمعنى الهلاك ، والغيبة ، من قول العرب : ضل السمن في [ ص: 204 ] الطعام ، إذا غاب فيه وهلك فيه ، ولذلك تسمي العرب الدفن إضلالا ; لأنه تغييب في الأرض يئول إلى استهلاك عظام الميت فيها ; لأنها تصير رميما وتمتزج بالأرض ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : وقالوا أئذا ضللنا في الأرض الآية [ 32 \ 10 ] .
ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى : وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 7 \ 53 ] ، أي : غاب واضمحل .
ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان :
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
فقوله : مضلوه ، يعني دافنيه ، وقوله : بعين جلية ، أي : بخبر يقين ، والجولان : جبل دفن عنده المذكور .
ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل :
كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا
وقول الآخر :
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
قوله تعالى : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون .
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه سينبئ إخوته بهذا الأمر الذي فعلوا به في حال كونهم لا يشعرون .
ثم صرح في هذه السورة الكريمة بأنه جل وعلا أنجز ذلك الوعد في قوله : قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون [ 12 \ 89 ] .
وصرح بعدم شعورهم بأنه يوسف في قوله : وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون [ 12 \ 58 ] .
وهذا الذي ذكرنا أن العامل في الجملة الحالية هو قوله : لتنبئنهم [ 12 \ 15 ] ، أى : لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال كونهم لا يشعرون بأنك يوسف ، هو الظاهر .
وقيل : إن عامل الحال هو قوله : وأوحينا إليه [ 12 \ 15 ] ، وعليه فالمعنى : أن ذلك الإيحاء وقع في حال كونهم لا يشعرون بأنه أوحي إليه ذلك .
وقرأ هذه الآية جمهور القراء : غيابة الجب [ 12 \ 15 ] بالإفراد ، وقرأ نافع " غيابات الجب " بصيغة الجمع ، وكل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة ، ومنه قيل للقبر [ ص: 205 ] غيابة ، ومنه قول الشاعر :
وإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
والجمع في قراءة نافع نظرا إلى تعدد أجزاء قعر الجب التي تغيب الداخل فيها عن العيان .
واختلف العلماء في جواب " لما " من قوله فلما ذهبوا به أمثبت هو أم محذوف ؟
فقيل : هو مثبت ، وهو قوله : قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق الآية [ 12 \ 17 ] ، أي : لما كان كذا وكذا قالوا ياأبانا واستحسن هذا الوجه أبو حيان .
وقيل : جواب " لما " هو قوله : أوحينا [ 12 \ 15 ] والواو صلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، تزاد عندهم الواو في جواب " لما ، وحتى ، وإذا " ، وعلى ذلك خرجوا قوله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه الآية [ 37 \ 103 ، 104 ] ، وقوله : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها الآية [ 39 \ 73 ] ، وقول امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
أي : لما أجزنا ساحة الحي انتحى .
وقيل : جواب " لما " محذوف ، وهو قول البصريين ، واختلف في تقديره ، فقيل : إن تقديره فعلوا به ما فعلوا من الأذى .
وقدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم .
وقدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها .
واستظهر هذا الأخير أبو حيان ; لأن قوله : وأجمعوا أن يجعلوه [ 12 \ 15 ] يدل على هذا المقدر . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (131)
سُورَةُ يُوسُفَ (2)
صـ 206 إلى صـ 210
قوله تعالى : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه .
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هم بأن يفعل مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه ، ولكن القرآن العظيم بين براءته عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيما لا ينبغي حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته ، وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به .
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم : يوسف ، والمرأة ، وزوجها ، والنسوة ، [ ص: 206 ] والشهود .
أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله : هي راودتني عن نفسي [ 12 \ 26 ] ، وقوله : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه .
وأما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة : ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [ 12 \ 32 ] ، وقولها : الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ 12 \ 51 ] .
وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله : قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [ 12 \ 28 ، 29 ] .
وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين الآية [ 12 \ 26 ] .
وأما شهادة الله جل وعلا ببراءته ففي قوله : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ 12 \ 24 ] .
قال الفخر الرازي في " تفسيره " : قد شهد الله تعالى في هذه الآية الكريمة على طهارته أربع مرات :
أولها : لنصرف عنه السوء ، واللام للتأكيد والمبالغة .
والثاني قوله : والفحشاء ، أي : وكذلك لنصرف عنه الفحشاء .
والثالث قوله : إنه من عبادنا ، مع أنه تعالى قال : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] .
والرابع قوله : المخلصين ، وفيه قراءتان : قراءة باسم الفاعل ، وأخرى باسم المفعول .
فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص .
ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه ، واصطفاه لحضرته .
وعلى كلا الوجهين : فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه . اهـ من تفسير الرازي .
ويؤيد ذلك قوله تعالى : معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون [ 12 \ 23 ] .
[ ص: 207 ] وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله تعالى : قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 ، 83 ] ، فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ، ولا شك أن يوسف من المخلصين ، كما صرح تعالى به في قوله : إنه من عبادنا المخلصين ، فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي .
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ما نصه : وعند هذا نقول : هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة ، إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته ، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ، ولعلهم يقولون : كنا في أول الأمر تلامذة إبليس ، إلى أن تخرجنا عليه فزدنا في السفاهة عليه ، كما قال الخوارزمي :
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بي الدهر حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل : أن يوسف عليه السلام بريء مما يقول هؤلاء الجهال . ا هـ كلام الرازي .
ولا يخفى ما فيه من قلة الأدب مع من قال تلك المقالة من الصحابة وعلماء السلف الصالح ، وعذر الرازي في ذلك هو اعتقاده أن ذلك لم يثبت عن أحد من السلف الصالح .
وسترى في آخر هذا المبحث أقوال العلماء في هذه المسألة إن شاء الله تعالى .
فإن قيل : قد بينتم دلالة القرآن على براءته عليه السلام مما لا ينبغي في الآيات المتقدمة ، ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى : وهم بها ؟ [ 12 \ 24 ]
فالجواب من وجهين :
الأول : إن المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى ، وقال بعضهم : هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى ، وهذا لا معصية فيه ; لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف ، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " ، يعني ميل القلب الطبيعي .
ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد ، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة " ; لأنه ترك ما تميل [ ص: 208 ] إليه نفسه بالطبع خوفا من الله ، وامتثالا لأمره ، كما قال تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 ، 41 ] .
وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد ، كهم يوسف هذا ، بدليل قوله : إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما [ 3 \ 122 ] ; لأن قوله : والله وليهما يدل على أن ذلك الهم ليس معصية ; لأن إتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية .
والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة ، فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه : هذا ما يهمني ، ويقول فيما يحبه ويشتهيه : هذا أهم الأشياء إلي . بخلاف هم امرأة العزيز ، فإنه هم عزم وتصميم ، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها ، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه .
ومثل هذا التصميم على المعصية معصية يؤاخذ بها صاحبها ، بدليل الحديث الثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " ، فصرح صلى الله عليه وسلم بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار .
وأما تأويلهم هم يوسف بأنه قارب الهم ولم يهم بالفعل ، كقول العرب : قتلته لو لم أخف الله ، أي قاربت أن أقتله ، كما قاله الزمخشري .
وتأويل الهم بأنه هم بضربها ، أو هم بدفعها عن نفسه ، فكل ذلك غير ظاهر ، بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه .
والجواب الثاني وهو اختيار أبي حيان : أن يوسف لم يقع منه هم أصلا ، بل هو منفي عنه لوجود البرهان .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية ; لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب : أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه ، كقوله : فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [ 10 \ 84 ] ، أي : إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه ، فالأول : دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب ; لأن جواب الشروط وجواب لولا لا يتقدم ، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه كالآية [ ص: 209 ] المذكورة ، وكقوله : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] ، أي : إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم .
وعلى هذا القول : فمعنى الآية ، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ، أي لولا أن رآه هم بها ، فما قبل لولا هو دليل الجواب المحذوف ، كما هو الغالب في القرآن واللغة .
ونظير ذلك قوله تعالى : إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها [ 28 \ 10 ] ، فما قبل لولا دليل الجواب ، أي : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به .
واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب لولا [ 12 \ 24 ] ، وتقديم الجواب في سائر الشروط ، وعلى هذا القول يكون جواب لولا في قوله : لولا أن رأى برهان ربه [ 12 \ 24 ] ، هو ما قبله من قوله : وهم بها [ 12 \ 24 ] .
وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون ، ومن أعلام البصريين : أبو العباس المبرد ، وأبو زيد الأنصاري .
وقال الشيخ أبو حيان في " البحر المحيط " ما نصه : والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان ، كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك الله ، ولا نقول : إن جواب لولا متقدم عليها ، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك ، بل صريح أدوات الشروط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها ، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون ، ومن أعلام البصريين : أبو زيد الأنصاري ، وأبو العباس المبرد .
بل نقول : إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، كما يقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت . فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ، ولا يدل قوله أنت ظالم على ثبوت الظلم ، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل ، وكذلك هنا التقدير : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فكان وجود الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان ، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم ، ولا التفات إلى قول الزجاج . ولو كان الكلام : ولهم بها ، كان بعيدا ، فكيف مع سقوط اللام ؟ لأنه يوهم أن قوله : وهم بها هو جواب لولا ونحن لم نقل بذلك ، وإنما هو دليل الجواب ، وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة ، لجواز أن يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي [ ص: 210 ] باللام ، وبغير لام ، تقول : لولا زيد لأكرمتك ، ولولا زيد أكرمتك ، فمن ذهب إلى أن قوله : هم بها نفس الجواب لم يبعد ، ولا التفات لقول ابن عطية : إن قول من قال : إن الكلام قد تم في قوله : ولقد همت به وإن جواب لولا في قوله : وهم بها وإن المعنى : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فلم يهم يوسف عليه السلام .
قال : وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف اهـ .
أما قوله : يرده لسان العرب فليس كما ذكر ، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب ، قال الله تعالى : إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين \ [ 28 \ 10 ] 30 فقوله : إن كادت لتبدي به إما أن يتخرج على أن الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل ، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب ، والتقدير : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به .
وأما أقوال السلف : فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ; لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا ، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة .
والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ; لأنهم قدروا جواب لولا محذوفا ولا يدل عليه دليل ; لأنهم لم يقدروا الهم بها ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ; لأن ما قبل الشرط دليل عليه اهـ . محل الغرض من كلام أبي حيان بلفظه .
وقد قدمنا أن هذا القول هو أجرى الأقوال على لغة العرب ، وإن زعم بعض العلماء خلاف ذلك .
فبهذين الجوابين تعلم أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بريء من الوقوع فيما لا ينبغي ، وأنه إما أن يكون لم يقع منه أصلا بناء على أن الهم معلق بأداة الامتناع التي هي لولا على انتفاء رؤية البرهان ، وقد رأى البرهان فانتفى المعلق عليه ، وبانتفائه ينتفي المعلق الذي هو همه بها كما تقدم إيضاحه في كلام أبي حيان .
وإما أن يكون همه خاطرا قلبيا صرف عنه وازع التقوى ، أو هو الشهوة والميل الغريزي المزموم بالتقوى كما أوضحناه ، فبهذا يتضح لك أن قوله : وهم بها لا يعارض ما قدمنا من الآيات على براءة يوسف من الوقوع فيما لا ينبغي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (132)
سُورَةُ يُوسُفَ (3)
صـ 211 إلى صـ 215
فإذا علمت مما بينا دلالة القرآن العظيم على براءته مما لا ينبغي ، فسنذكر لك أقوال العلماء الذين قالوا : إنه وقع منه بعض ما لا ينبغي ، وأقوالهم في المراد بالبرهان فنقول :
قال صاحب " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " : أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لما همت به تزينت ، ثم استلقت على فراشها ، وهم بها جلس بين رجليها يحل تبانه نودي من السماء " يا ابن يعقوب ، لا تكن كطائر ينتف ريشه فيبقى لا ريش له " فلم يتعظ على النداء شيئا ، حتى رأى برهان ربه : جبريل عليه السلام في صورة يعقوب عاضا على أصبعيه ، ففزع فخرجت شهوته من أنامله ، فوثب إلى الباب فوجده مغلقا ، فرفع يوسف رجله فضرب بها الباب الأدنى فانفرج له ، واتبعته فأدركته ، فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه ، فألفيا سيدها لدى الباب .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وأبو نعيم في " الحلية " عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سئل عن هم يوسف عليه السلام ما بلغ ؟ قال : حل الهميان - يعني السراويل - وجلس منها مجلس الخاتن ، فصيح به ، يا يوسف لا تكن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش !
وأخرج أبو نعيم في " الحلية " عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في قوله : ولقد همت به وهم بها [ 12 \ 24 ] ، قال : طمعت فيه وطمع فيها ، وكان من الطمع أن هم بحل التكة ، فقامت إلى صنم مكلل بالدر واليواقيت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه ، فقال : أي شيء تصنعين ؟ فقالت : استحي من إلهي أن يراني على هذه الصورة ، فقال يوسف عليه السلام : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ، ثم قال : لا تنالينها مني أبدا . وهو البرهان الذي رأى .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : وهم بها [ 12 \ 24 ] ، قال : حل سراويله حتى بلغ ثنته ، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته ، فمثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس [ ص: 212 ] رضي الله عنهما في قوله : لولا أن رأى برهان ربه قال : رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضا على إبهامه ، فأدبر هاربا وقال : " وحقك يا أبت لا أعود أبدا " .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة ، وسعيد بن جبير في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قالا : حل السراويل ، وجلس منها مجلس الخاتن ، فرأى صورة فيها وجه يعقوب عاضا على أصابعه ، فدفع صدره فخرجت الشهوة من أنامله ، فكل ولد يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا إلا يوسف عليه السلام ، فإنه نقص بتلك الشهوة ولدا فلم يولد له غير أحد عشر ولدا .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : تمثل له يعقوب عليه السلام فضرب في صدر يوسف فطارت شهوته من أطراف أنامله ، فولد لكل ولد يعقوب اثنا عشر ذكرا غير يوسف لم يولد له إلا غلامان .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه ، في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : رأى يعقوب عاضا على أصابعه يقول : " يوسف ! يوسف ! " .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية ، قال : رأى آية من آيات ربه حجزه الله بها عن معصيته ، ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضا على أصبعيه ، وهو يقول له : يا يوسف ! أتهم بعمل السفهاء ، وأنت مكتوب في الأنبياء ؟ ! فذلك البرهان . فانتزع الله كل شهوة كانت في مفاصله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن سيرين رضي الله عنه ، في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : مثل له يعقوب عليه السلام عاضا على إصبعيه يقول : " يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، اسمك مكتوب في الأنبياء ، وتعمل عمل السفهاء ! " .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد رضي الله عنه ، قال : رأى صورة يعقوب عليه السلام في الجدار .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن الحسن رضي الله عنه ، قال : زعموا أن سقف البيت انفرج ، فرأى يعقوب عاضا على إصبعيه .
[ ص: 213 ] وأخرج عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد " ، عن الحسن رضي الله عنه ، في قوله : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه . قال : إنه لما هم قيل له ارفع رأسك يا يوسف ، فرفع رأسه فإذا هو بصورة في سقف البيت تقول : يا يوسف ! يا يوسف ! أنت مكتوب في الأنبياء ، فعصمه الله عز وجل .
وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي صالح رضي الله عنه ، قال : رأى صورة يعقوب في سقف البيت تقول : " يوسف ! يوسف ! " .
وأخرج ابن جرير من طريق الزهري ، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن البرهان الذي رأى يوسف عليه السلام هو يعقوب .
وأخرج ابن جرير ، عن القاسم بن أبي بزة ، نودي : " يا ابن يعقوب ، لا تكونن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش " ، فلم يعرض للنداء وقعد ، فرفع رأسه ، فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه ، فقام مرعوبا استحياء من أبيه .
وأخرج ابن جرير ، عن علي بن بذيمة ، قال : كان يولد لكل رجل منهم اثنا عشر إلا يوسف عليه السلام ولد له أحد عشر من أجل ما خرج من شهوته .
وأخرج ابن جرير ، عن شمر بن عطية ، قال : نظر يوسف إلى صورة يعقوب عاضا على إصبعه يقول : يا يوسف ، فذاك حين كف وقام .
وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك رضي الله عنه ، قال : يزعمون أنه مثل له يعقوب عليه السلام فاستحيا منه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الأوزاعي ، قال : كان ابن عباس رضي الله عنهما ، يقول في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : رأى آية من كتاب الله فنهته ، مثلت له في جدار الحائط .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه ، قال : البرهان الذي رأى يوسف عليه السلام ثلاث آيات من كتاب الله : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 ، 11 ] ، وقول الله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [ 10 \ 61 ] ، وقول الله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] .
[ ص: 214 ] وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن كعب قال : رأى في البيت في ناحية الحائط مكتوبا : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن وهب بن منبه رضي الله عنه ، قال : لما خلا يوسف وامرأة العزيز خرجت كف بلا جسد بينهما ، مكتوب عليها بالعبرانية : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] ، ثم انصرفت الكف ، وقاما مقامهما ، ثم رجعت الكف مكتوبا عليها بالعبرانية : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 ، 12 ] ، ثم انصرفت الكف ، وقاما مقامهما ، فعادت الكف الثالثة مكتوبا عليها : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وانصرفت الكف ، وقاما مقامهما ، فعادت الكف الرابعة مكتوبا عليها بالعبرانية : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ 2 \ 281 ] ، فولى يوسف عليه السلام هاربا .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : آيات ربه ، أري تمثال الملك .
وأخرج أبو الشيخ ، وأبو نعيم في " الحلية " ، عن جعفر بن محمد رضي الله عنه ، قال : لما دخل يوسف معها البيت وفي البيت صنم من ذهب قالت : كما أنت ، حتى أغطي الصنم ، فإني أستحي منه ، فقال يوسف : هذه تستحيي من الصنم ، أنا أحق أن أستحيي من الله ؟ فكف عنها وتركها . اهـ من " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " .
قال مقيده عفا الله عنه : هذه الأقوال التي رأيت نسبتها إلى هؤلاء العلماء منقسمة إلى قسمين :
قسم لم يثبت نقله عمن نقله عنه بسند صحيح ، وهذا لا إشكال في سقوطه .
وقسم ثبت عن بعض من ذكر ، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك ، فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين : أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات ; لأنه لا مجال للرأي فيه ، ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه صلى الله عليه وسلم .
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية ، يريد أن يزني بها ، اعتمادا على مثل هذه الروايات ، مع أن في الروايات [ ص: 215 ] المذكورة ما تلوح عليه لوائح الكذب ، كقصة الكف التي خرجت له أربع مرات ، وفي ثلاث منهن لا يبالي بها ; لأن ذلك على فرض صحته فيه أكبر زاجر لعوام الفساق ، فما ظنك بخيار الأنبياء ؟ مع أنا قدمنا دلالة القرآن على براءته من جهات متعددة ، وأوضحنا أن الحقيقة لا تتعدى أحد أمرين :
إما أن يكون لم يقع منه هم بها أصلا ، بناء على تعليق همه على عدم رؤية البرهان ، وقد رأى البرهان ، وإما أن يكون همه الميل الطبيعي المزموم بالتقوى ، والعلم عند الله تعالى .
واختلف العلماء في المراد بالسوء والفحشاء ، اللذين ذكر الله في هذه الآية أنه صرفهما عن نبيه يوسف .
فروى ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر رضي الله عنه ، في قوله : لنصرف عنه السوء والفحشاء [ 12 \ 24 ] ، قال : الزنى ، والثناء القبيح اهـ .
وقال بعض العلماء : السوء : مقدمات الفاحشة ، كالقبلة ، والفاحشة : الزنى .
وقيل : السوء : جناية اليد ، والفاحشة : الزنى . وأظهر الأقوال في تقدير متعلق الكاف في قوله : كذلك لنصرف ، أي : فعلنا له ذلك من إراءة البرهان ، كذلك الفعل لنصرف واللام لام كي .
وقوله : المخلصين [ 12 \ 24 ] قرأه نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، بفتح اللام بصيغة اسم المفعول ، وقرأه ابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل ، والعلم عند الله تعالى اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (133)
سُورَةُ يُوسُفَ (4)
صـ 216 إلى صـ 220
قوله تعالى : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم .
يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر ; لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب ; لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها ، وهي تنوشه من خلفه ، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها [ ص: 216 ] قرينة أقوى منها ، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها ، وذلك في قوله تعالى : وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل [ 12 \ 18 ] ; لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب ، جعلوا على قميصه دم سخلة ; ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب . ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له ، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها ، وهي عدم شق القميص ، فقال : سبحان الله ! متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه ; ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله : بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [ 12 \ 18 ] .
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن .
ومن أمثلة الحكم بالقرينة : الرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها سابقا ، فتزفها إليه ولائد لا يثبت بشهادتهن أن هذه هي فلانة التي وقع عليها العقد ، فيجوز له جماعها من غير احتياج إلى بينة تشهد على عينها أنها هي التي وقع العقد عليها ، اعتمادا على قرينة النكاح .
وكالرجل ينزل ضيفا عند قوم ، فتأتيه الوليدة أو الغلام بالطعام ، فيجوز له الأكل من غير احتياج إلى ما يثبت إذن مالك الطعام له في الأكل ، اعتمادا على القرينة .
وكقول مالك ومن وافقه : إن من شم في فيه ريح الخمر يحد حد الشارب ، اعتمادا على القرينة ; لأن وجود ريحها في فيه قرينة على أنه شربها ، وكمسائل اللوث وغير ذلك .
وقد قدمنا في سورة المائدة صحة الاحتجاج بمثل هذه القرائن ، وأوضحنا بالأدلة القرآنية ، أن التحقيق أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرع لنا ، إلا بدليل على النسخ غاية الإيضاح ، والعلم عند الله تعالى .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : وجاءوا على قميصه بدم كذب . [ 12 \ 18 ]
استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه ، كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص .
وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت ، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح ، وهي قوة التهمة ، ولا خلاف في الحكم بها ، قاله ابن العربي . اهـ كلام القرطبي .
[ ص: 217 ] واختلف العلماء في الشاهد في قوله : وشهد شاهد من أهلها [ 12 \ 26 ] .
فقال بعض العلماء : هو صبي في المهد ، وممن قال ذلك ابن عباس ، والضحاك ، وسعيد بن جبير .
وعن ابن عباس أيضا أنه رجل ذو لحية ، ونحوه عن الحسن .
وعن زيد بن أسلم أنه ابن عم لها كان حكيما ، ونحوه عن قتادة ، وعكرمة .
وعن مجاهد أنه ليس بإنسي ، ولا جان ، هو خلق من خلق الله .
قال مقيده عفا الله عنه : قول مجاهد هذا يرده قوله تعالى : من أهلها [ 12 \ 26 ] ; لأنه صريح في أنه إنسي من أهل المرأة . وأظهر الأقوال : أنه صبي ، لما رواه أحمد ، وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم " اهـ .
قوله تعالى : إن كيدكن عظيم .
هذه الآية الكريمة إذا ضمت لها آية أخرى حصل بذلك بيان أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان ، والآية المذكورة هي قوله : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] ; لأن قوله في النساء : إن كيدكن عظيم [ 12 \ 28 ] ، وقوله في الشيطان : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] ، يدل على أن كيدهن أعظم من كيده .
قال القرطبي : قال مقاتل ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان " ; لأن الله تعالى يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا ، وقال : إن كيدكن عظيم ا هـ .
وقال الأديب الحسن بن آية الحسني الشنقيطي :
ما استعظم الإله كيدهنه إلا لأنهن هن هنه
قوله تعالى : وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم .
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة ثناء هؤلاء النسوة على يوسف بهذه الصفات الحميدة فيما بينهن ، ثم بين اعترافهن بذلك عند سؤال الملك لهن أمام الناس في قوله : قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه الآية [ 12 \ 51 ] .
[ ص: 218 ] قوله تعالى : وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون .
لم يبين هنا هذا الذي أجمعوا أمرهم عليه ، ولم يبين هنا أيضا المراد بمكرهم ، ولكنه بين في أول هذه السورة الكريمة أن الذي أجمعوا أمرهم عليه هو جعله في غيابة الجب ، وأن مكرهم هو ما فعلوه بأبيهم يعقوب وأخيهم يوسف ، وذلك في قوله : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب إلى قوله : والله المستعان على ما تصفون [ 12 \ 18 ] .
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ; لأنه أنزل عليه هذا القرآن ، وفصل له هذه القصة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضرا لدى أولاد يعقوب حين أجمعوا أمرهم على المكر به ، وجعله في غيابة الجب ، فلولا أن الله أوحى إليه ذلك ما عرفه من تلقاء نفسه .
والآيات المشيرة لإثبات رسالته ، بدليل إخباره بالقصص الماضية التي لا يمكنه علم حقائقها إلا عن طريق الوحي كثيرة ، كقوله : وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية [ 3 \ 44 ] .
وقوله : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر الآية [ 28 \ 44 ] .
وقوله : وما كنت ثاويا في أهل مدين [ 28 \ 45 ] .
وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك الآية [ 28 \ 46 ] .
وقوله : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين [ 38 \ 69 ، 70 ] .
وقوله : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا الآية [ 11 \ 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فهذه الآيات من أوضح الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم رسول كريم ، وإن كانت المعجزات الباهرة الدالة على ذلك أكثر من الحصر .
قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .
قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعامر الشعبي ، وأكثر المفسرين : إن معنى هذه الآية أن أكثر الناس ، وهم الكفار ما كانوا يؤمنون بالله بتوحيدهم له في ربوبيته إلا وهم مشركون به غيره في عبادته .
فالمراد بإيمانهم اعترافهم بأنه ربهم الذي هو خالقهم ، ومدبر شئونهم ، والمراد بشركهم عبادتهم غيره معه ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا ، كقوله : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ ص: 219 ] [ 10 \ 31 ] ، وكقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون [ 43 \ 87 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ 43 \ 9 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون [ 29 \ 61 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون [ 29 \ 63 ] ، وقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون [ 23 \ 84 - 88 ] إلى غير ذلك من الآيات .
ومع هذا فإنهم قالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] .
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن توحيد الربوبية لا ينقذ من الكفر إلا إذا كان معه توحيد العبادة ، أي عبادة الله وحده لا شريك له ، ويدل لذلك قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] .
وفي هذه الآية الكريمة إشكال : وهو أن المقرر في علم البلاغة أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها ، وعليه فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو " يؤمن " مقيد بها ، فيصير المعنى تقييد إيمانهم بكونهم مشركين ، وهو مشكل لما بين الإيمان والشرك من المنافاة .
قال مقيده عفا الله عنه : لم أر من شفى الغليل في هذا الإشكال ، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك إنما هو إيمان لغوي لا شرعي ; لأن من يعبد مع الله غيره لا يصدق عليه اسم الإيمان البتة شرعا .
أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق ، فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله ، ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعا .
وإذا حققت ذلك علمت أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به ، وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى : قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ 49 \ 14 ] ، فهو الإسلام اللغوي ; لأن الإسلام الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 220 ] وقال بعض العلماء : " نزلت آية وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، في قول الكفار في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، وهو راجع إلى ما ذكرنا .
قوله تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب .
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية أن في أخبار المرسلين مع أممهم ، وكيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين - عبرة لأولي الألباب ، أي عظة لأهل العقول .
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 ] ، كما تقدمت الإشارة إليه مرارا ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (134)
سُورَةُ الرَّعْدِ(1)
صـ 221 إلى صـ 225
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الرَّعْدِ
قوله تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش .
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن السماء مرفوعة على عمد ، ولكننا لا نراها ، ونظير هذه الآية قوله أيضا في أول سورة " لقمان " : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 31 \ 10 ] .
واختلف العلماء في قوله : ترونها على قولين :
أحدهما أن لها عمدا ولكننا لا نراها ، كما يشير إليه ظاهر الآية ، وممن روي عنه هذا القول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد ، كما قاله ابن كثير .
وروي عن قتادة أيضا أن المعنى أنها مرفوعة بلا عمد أصلا ، وهو قول إياس بن معاوية ، وهذا القول يدل عليه تصريحه تعالى في سورة " الحج " أنه هو الذي يمسكها أن تقع على الأرض في قوله : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] .
قال ابن كثير : فعلى هذا يكون قوله : ترونها تأكيدا لنفي ذلك ، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها كذلك ، وهذا هو الأكمل في القدرة اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن هذا القول من قبيل السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ، والمراد أن المقصود نفي اتصاف المحكوم عليه بالمحكوم به ، وذلك صادق بصورتين :
الأولى : أن يكون المحكوم عليه موجودا ، ولكن المحكوم به منتف عنه ، كقولك ليس الإنسان بحجر ، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه .
الثانية : أن يكون المحكوم عليه غير موجود فيعلم منه انتفاء الحكم عليه بذلك الأمر الموجودي ، وهذا النوع من أساليب اللغة العربية ، كما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، ومثاله في اللغة قول امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
[ ص: 222 ] أي لا منار له أصلا حتى يهتدي به ، وقوله :
لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
يعني : لا أرانب فيها ولا ضباب .
وعلى هذا فقوله : بغير عمد ترونها ، أي : لا عمد لها حتى تروها ، والعمد : جمع عمود على غير قياس ، ومنه قول نابغة ذبيان :
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
والصفاح بالضم والتشديد : الحجر العريض .
قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات الآية .
المراد بالسيئة هنا : العقوبة وإنزال العذاب قبل الحسنة أي : قبل العافية ، وقبل الإيمان ، وقد بين تعالى في هذه الآية أن الكفار يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يعجل لهم العذاب الذي يخوفهم به إن تمادوا على الكفر ، وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده [ 22 \ 47 ] ، وكقوله : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون [ 29 \ 53 ] ، وكقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] ، وقوله : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين [ 70 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية [ 8 \ 32 ] .
وقوله : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق [ 42 \ 18 ] ، وقوله : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وسبب طلبهم لتعجيل العذاب هو العناد ، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كاذب فيما يخوفهم به من بأس الله وعقابه ، كما قال تعالى : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه [ 11 \ 8 ] ، وكقوله : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وقوله : قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 11 \ 32 ] ، كما تقدمت الإشارة إلى هذا .
والمثلاث : العقوبات ، واحدتها مثلة .
[ ص: 223 ] والمعنى : أنهم يطلبون تعجيل العذاب تمردا وطغيانا ، ولم يتعظوا بما أوقع الله بالأمم السالفة من المثلاث - أي العقوبات - كما فعل بقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وفرعون وقومه وغيرهم .
قوله تعالى : وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وأنه شديد العقاب ، فجمع بين الوعد والوعيد ليعظم رجاء الناس في فضله ، ويشتد خوفهم من عقابه وعذابه الشديد ; لأن مطامع العقلاء محصورة في جلب النفع ودفع الضر ، فاجتماع الخوف والطمع أدعى للطاعة وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين [ 6 \ 147 ] ، وقوله : إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم [ 6 \ 156 و 7 \ 167 ] ، وقوله جل وعلا : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ 15 \ 49 ، 50 ] ، وقوله : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إنما أنت منذر ، أي : إنما عليك البلاغ والإنذار ، أما هداهم وتوفيقهم فهو بيد الله تعالى ، كما أن حسابهم عليه جل وعلا .
وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء [ 2 \ 272 ] ، وقوله : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولكل قوم هاد .
أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة أن المراد بالقوم الأمة ، والمراد بالهادي الرسول ، كما يدل له قوله تعالى : ولكل أمة رسول الآية [ 10 \ 47 ] ، وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، وقد أوضحنا أقوال العلماء وأدلتها في هذه الآية الكريمة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى .
لفظة " ما " في هذه الآية يحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف ، أي يعلم الذي تحمله كل أنثى . وعلى هذا فالمعنى : يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة ، وأنوثة ، وخداج ، وحسن ، وقبح ، [ ص: 224 ] وطول ، وقصر ، وسعادة ، وشقاوة إلى غير ذلك من الأحوال .
وقد دلت على هذا المعنى آيات من كتاب الله ، كقوله : ويعلم ما في الأرحام [ 31 \ 34 ] ; لأن " ما " فيه موصولة بلا نزاع ، وكقوله : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم [ 53 \ 32 ] ، وقوله : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء الآية [ 3 \ 6 ] .
ويحتمل أيضا : أن تكون لفظة " ما " في الآية الكريمة مصدرية ، أي يعلم حمل كل أنثى بالمعنى المصدري ، وقد جاءت آيات تدل أيضا على هذا المعنى ، كقوله : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ، وقوله : إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه الآية [ 41 \ 47 ] .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون لها وجهان كلاهما حق ، وكلاهما يشهد له قرآن ، فنذكر الجميع .
وأما احتمال كون لفظة " ما " في هذه الآية استفهامية ، فهو بعيد فيما يظهر لي ، وإن قال به بعض أهل العلم ، وقد دلت السنة الصحيحة على أن علم ما في الأرحام المنصوص عليه في الآيات المذكورة ، مما استأثر الله به دون خلقه ، وذلك هو ما ثبت في صحيح البخاري من أن المراد بمفاتح الغيب في قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] الخمس المذكورة في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت [ 31 \ 34 ] ، والاحتمالان المذكوران في لفظة " ما " من قوله : يعلم ما تحمل الآية [ 13 \ 8 ] جاريان أيضا في قوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد [ 13 \ 8 ] فعلى كونها موصولة فيهما ، فالمعنى يعلم الذي تنقصه وتزيده ، وعلى كونها مصدرية ، فالمعنى يعلم نقصها وزيادتها .
واختلف العلماء في المراد بقوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد [ 13 \ 8 ] ، وهذه أقوالهم في الآية بواسطة نقل " صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور " : أخرج ابن جرير ، عن الضحاك في قوله وما تغيض الأرحام وما تزداد ، قال : " هي المرأة ترى الدم في حملها " .
[ ص: 225 ] وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وما تغيض الأرحام ، قال : " خروج الدم " وما تزداد ، قال : " استمساكه " .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : وما تغيض الأرحام ، قال : " أن ترى الدم في حملها " وما تزداد ، قال : " في التسعة الأشهر " .
وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق الضحاك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد ، قال : " ما تزداد على التسعة وما تنقص من التسعة " .
وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : وما تغيض الأرحام ، قال : " ما دون تسعة أشهر وما تزداد فوق التسعة " .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : وما تغيض الأرحام ، يعني : " السقط " ، وما تزداد ، يقول : " ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما ، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهن من تزيد في الحمل ، ومنهن من تنقص ، فذلك الغيض ، والزيادة التي ذكر الله تعالى ، وكل ذلك بعلمه تعالى " .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك رضي الله عنه ، قال : " ما دون التسعة أشهر فهو غيض وما فوقها فهو زيادة " .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة - رضي الله عنه - قال : " ما غاض الرحم بالدم يوما إلا زاد في الحمل يوما حتى تكمل تسعة أشهر طاهرا " .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن - رضي الله عنه - في قوله : وما تغيض الأرحام ، قال : " السقط " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد - رضي الله عنه - في الآية ، قال : " إذا رأت الدم هش الولد وإذا لم تر الدم عظم الولد " اهـ . من " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (135)
سُورَةُ الرَّعْدِ(2)
صـ 226 إلى صـ 230
وقيل : الغيض والزيادة يرجعان إلى الولد ، كنقصان إصبع وغيرها ، وزيادة إصبع وغيرها .
وقيل : الغيض : انقطاع دم الحيض ، وما تزداد : بدم النفاس بعد الوضع .
ذكر هذين القولين القرطبي .
وقيل : تغيض : تشتمل على واحد ، وتزداد : تشتمل على توأمين فأكثر .
قال مقيده عفا الله عنه : مرجع هذه الأقوال كلها إلى شيء واحد ، وهو أنه تعالى عالم بما تنقصه الأرحام وما تزيده ; لأن معنى تغيض : تنقص ، وتزداد ، أي : تأخذه زائدا ، فيشمل النقص المذكور : نقص العدد ، ونقص العضو من الجنين ، ونقص جسمه إذا حاضت عليه فتقلص ، ونقص مدة الحمل بأن تسقطه قبل أمد حمله المعتاد ، كما أن الازدياد يشمل : زيادة العضو ، وزيادة العدد ، وزيادة جسم الجنين إن لم تحض وهي حامل ، وزيادة أمد الحمل عن القدر المعتاد ، والله جل وعلا يعلم ذلك كله والآية تشمله كله .
تنبيه
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن أقل أمد الحمل وأكثره ، وأقل أمد الحيض وأكثره ، مأخوذ من طريق الاجتهاد ; لأن الله استأثر بعلم ذلك لقوله : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام الآية .
ولا يجوز أن يحكم في شيء من ذلك إلا بقدر ما أظهره الله لنا ووجد ظاهرا في النساء نادرا ، أو معتادا ، وسنذكر - إن شاء الله - أقوال العلماء في أقل الحمل وأكثره ، وأقل الحيض وأكثره ، ونرجح ما يظهر رجحانه بالدليل .
فنقول وبالله تعالى نستعين :
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، وسيأتي بيان أن القرآن دل على ذلك ; لأن قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ، إن ضممت إليه قوله تعالى : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] ، بقي عن مدة الفصال من الثلاثين شهرا لمدة الحمل ستة أشهر ، فدل ذلك على أنها أمد للحمل يولد فيه الجنين كاملا كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .
وقد ولد عبد الملك بن مروان لستة أشهر ، وهذه الأشهر الستة بالأهلة ، كسائر أشهر الشريعة ; لقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس الآية [ 2 \ 189 ] .
قال القرطبي : " ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك وأظنه في كتاب [ ص: 227 ] ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها . حكاه ابن عطية . اهـ " .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى اعلم أن الشهر المعدود من أوله يعتبر على حاله من كمال أو نقصان ، وأن المنكسر يتمم ثلاثين ، أما أكثر أمد الحمل فلم يرد في تحديده شيء من كتاب ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه ، وكلهم يقول بحسب ما ظهر له من أحوال النساء .
فذهب الإمام أحمد ، والشافعي إلى أن أقصى أمد الحمل : أربع سنين ، وهو إحدى الروايتين المشهورتين عن مالك ، والرواية المشهورة الأخرى عن مالك : خمس سنين ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن أقصاه : سنتان ، وهو رواية عن أحمد ، وهو مذهب الثوري ، وبه قالت عائشة رضي الله عنها ، وعن الليث : ثلاث سنين ، وعن الزهري : ست ، وسبع ، وعن محمد بن الحكم : سنة لا أكثر ، وعن داود : تسعة أشهر .
وقال ابن عبد البر : هذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أمر النساء ، وقال القرطبي : " روى الدارقطني ، عن الوليد بن مسلم ، قال : قلت لمالك بن أنس : إني حدثت عن عائشة أنها قالت : لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل ، فقال : سبحان الله من يقول هذا ؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين ، وكانت تسمى حاملة الفيل " .
وروي أيضا : بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل ، فقال : " يا أبا يحيى ، ادع لامرأتي حبلى منذ أربع سنين ! قد أصبحت في كرب شديد " ، فغضب مالك وأطبق المصحف ، ثم قال :
" ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء " ، ثم قرأ ، ثم دعا ، ثم قال : " اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها ، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما ، فإنك تمحو وتثبت وعندك أم الكتاب " ، ورفع مالك يده ، ورفع الناس أيديهم ، وجاء الرسول إلى الرجل ، فقال : أدرك امرأتك ، فذهب الرجل ، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت سراره .
وروي أيضا : أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : " يا أمير المؤمنين ، إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى " ، فشاور عمر الناس في رجمها ، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : " يا أمير المؤمنين ، إن كان لك عليها سبيل فليس لك [ ص: 228 ] على ما في بطنها سبيل فاتركها حتى تضع " ، فتركها فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه فعرف الرجل الشبه ، فقال : " ابني ورب الكعبة " ، فقال عمر : " عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ ، لولا معاذ لهلك عمر " .
وقال الضحاك : " وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين ، فولدتني وقد خرجت سني " .
ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين وقيل : ثلاث سنين ، ويقال : إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين ، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا ، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه ، وقال حماد بن سلمة : إنما سمي هرم بن حيان هرما ; لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين .
وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين وقد طلعت سنه ; فسمي ضحاكا .
وعن عباد بن العوام ، قال : " ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه ، فمر به طير فقال له : كش " . اهـ كلام القرطبي .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلا أنه لا حد لأكثر أمد الحمل ، وهو الرواية الثالثة عن مالك ، كما نقله عنه القرطبي ; لأن كل تحديد بزمن معين لا أصل له ولا دليل عليه ، وتحديد زمن بلا مستند صحيح لا يخفى سقوطه ، والعلم عند الله تعالى .
وأما أقل الحيض وأكثره فقد اختلف فيه العلماء أيضا ، فذهب مالك إلى أن أقل الحيض بالنسبة إلى العبادة كالصوم ووجوب الغسل لا حد له ، بل لو نزلت من المرأة قطرة دم واحدة لكانت حيضة بالنسبة إلى العبادة ، أما بالنسبة إلى الاستبراء والعدة ، فقيل كذلك أيضا ، والمشهور أنه يرجع في قدر ذلك للنساء العارفات بالقدر الذي يدل على براءة الرحم من الحيض ، قال خليل بن إسحاق في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى : ورجع في قدر الحيض هنا ، هل هو يوم أو بعضه إلى قوله للنساء ، أي : رجع في ذلك كله للنساء . اهـ .
والظاهر أنه عند مالك من قبيل تحقيق المناط ، والنساء أدرى بالمناط في ذلك .
أما أكثر الحيض عند مالك فهو بالنسبة إلى الحيضة الأولى التي لم تحض قبلها : نصف شهر ، ثم إن تمادى عليها الدم بعد نصف الشهر فهي مستحاضة ، وأما المرأة التي اعتادت الحيض فأكثر مدة حيضها عنده هو زيادة ثلاثة أيام استظهارا على أكثر أزمنة عادتها إن تفاوت زمن حيضها ، فإن حاضت مرة ستا ومرة خمسا ومرة سبعا استظهرت بالثلاثة على [ ص: 229 ] السبعة ; لأنها أكثر عادتها ، ومحل هذا إذا لم يزد ذلك على نصف الشهر ، فإن زاد على نصف الشهر فهي طاهر عند مضي نصف الشهر ، وكل هذا في غير الحامل ، وسيأتي الكلام في هذا المبحث - إن شاء الله - على الدم الذي تراه الحامل .
هذا حاصل مذهب مالك في أقل الحيض وأكثره ، وأما أكثر الطهر فلا حد له ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، وأقل الطهر في مذهب مالك لم يصرح به مالك ، بل قال : يسأل النساء عن عدد أيام الطهر .
وقال الشيخ أبو محمد في رسالته : إنه نحو ثمانية أيام ، أو عشرة أيام . وقال ابن سراج : " ينبغي أن تكون الفتوى بذلك " ; لأن الشيخ أبا محمد استقرأ ذلك من " المدونة " ، وهو قول سحنون ، وقال ابن مسلمة : " أقل الطهر في مذهب مالك خمسة عشر يوما " ، واعتمده صاحب " التلقين " ، وجعله ابن شاس المشهور ، وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره ; حيث قال : وأكثره لمبتدئه نصف شهر كأقل الطهر .
وذهب الإمام الشافعي ، والإمام أحمد - رحمهما الله - في المشهور الصحيح عنهما : أن أقل الحيض يوم وليلة ، وأكثره خمسة عشر يوما ، وهو قول عطاء ، وأبي ثور ، وأقل الطهر عند الشافعي باتفاق أصحابه خمسة عشر يوما ، ونقل الماوردي عن أكثر أهل العلم أن أقل الطهر خمسة عشر يوما ، وقال الثوري أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما .
قال أبو ثور : وذلك مما لا يختلفون فيه فيما نعلم .
وذهب الإمام أحمد إلى أن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما ، وروى عنه ذلك الأثرم ، وأبو طالب ، وقد قدمنا مرارا أن أكثر الطهر لا حد له إجماعا ، قال النووي في " شرح المهذب " : ودليل الإجماع الاستقراء ; لأن ذلك موجود مشاهد ، ومن أظرفه ما نقله القاضي أبو الطيب في تعليقه ، قال : " أخبرتني امرأة عن أختها أنها تحيض في كل سنة يوما وليلة وهي صحيحة تحبل وتلد ونفاسها أربعون يوما " .
وذهب الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة . وعن أبي يوسف : أقله يومان وأكثر الثالث . وأقل الطهر عند أبي حنيفة وأصحابه : خمسة عشر يوما ولا حد لأكثره عنده ، كما قدمنا حكاية الإجماع عليه مرارا ، ويستثنى من ذلك مراعاة المعتادة المستحاضة لزمن طهرها وحيضها .
وعن يحيى بن أكثم : أقل الطهر تسعة عشر يوما ، وحكى الماوردي عن مالك ثلاث [ ص: 230 ] روايات في أكثر الحيض ، إحداها : خمسة عشر ، والثانية : سبعة عشر ، والثالثة : غير محدودة .
وعن مكحول : أكثر الحيض سبعة أيام ، وعن عبد الملك بن الماجشون : أقل الطهر خمسة أيام ، ويحكى عن نساء الماجشون أنهن كن يحضن سبع عشرة ، قال أحمد : " وأكثر ما سمعنا سبع عشرة " .
هذا حاصل أقوال العلماء في أقل الحيض وأكثره ، وهذه أدلتهم . أما أبو حنيفة ومن وافقه ، فاحتجوا لمذهبهم أن أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة بحديث واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام " .
وبما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يكون الحيض أكثر من عشرة أيام ولا أقل من ثلاثة أيام " وبما روي عن أنس - رضي الله عنه - قال : " الحيض ثلاث ، أربع ، خمس ، ست ، سبع ، ثمان ، تسع ، عشر " ، قالوا : وأنس لا يقول هذا إلا توقيفا ، قالوا : ولأن هذا تقدير ، والتقدير لا يصح إلا بتوقيف ، أو اتفاق ، وإنما حصل الاتفاق على ثلاثة ، ورد الجمهور الاستدلال بالأحاديث المذكورة بأنها ضعيفة لا تثبت بمثلها حجة .
قال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : " وأما حديث واثلة ، وأبي أمامة ، وأنس ، فكلها ضعيفة متفق على ضعفها عند المحدثين ، وقد أوضح ضعفها الدارقطني ، ثم البيهقي في كتاب " الخلافيات " ثم " السنن الكبير " اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (136)
سُورَةُ الرَّعْدِ(3)
صـ 231 إلى صـ 235
وقال ابن قدامة في " المغني " : حديث واثلة يرويه محمد بن أحمد الشامي وهو ضعيف ، عن حماد بن المنهال ، وهو مجهول ، وحديث أنس يرويه الجلد بن أيوب ، وهو ضعيف ، قال ابن عيينة : هو حديث لا أصل له ، وقال أحمد في حديث أنس : ليس هو شيئا هذا من قبل الجلد بن أيوب ، قيل : إن محمد بن إسحاق رواه ، قال ما أراه سمعه إلا من الحسن بن دينار ، وضعفه جدا ، وقال يزيد بن زريع ذاك : أبو حنيفة لم يحتج إلا بالجلد بن أيوب ، وحديث الجلد قد روي عن علي رضي الله عنه ما يعارضه ، فإنه قال : ما زاد على خمسة عشر استحاضة ، وأقل الحيض يوم وليلة ، وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : فهذا حديث يعرف بالجلد بن أيوب ، وقد أنكر عليه ذلك ، وقال البيهقي أيضا : قال ابن علية : الجلد أعرابي لا يعرف الحديث ، وقال أيضا : قال الشافعي : نحن وأنت لا نثبت مثل حديث [ ص: 231 ] الجلد ، ونستدل على غلط من هو أحفظ منه بأقل من هذا .
وقال أيضا : قال سليمان بن حرب : كان حماد - يعني ابن زيد - يضعف الجلد ، ويقول لم يكن يعقل الحديث .
وروى البيهقي أيضا بإسناده عن حماد بن زيد ، قال : ذهبت أنا وجرير بن حازم إلى الجلد بن أيوب ، فحدثنا بحديث معاوية بن قرة ، عن أنس في الحائض ، فذهبنا نوقفه ، فإذا هو لا يفصل بين الحائض ، والمستحاضة . وروى أيضا بإسناده عن أحمد بن سعيد الدارمي ، قال : سألت أبا عاصم ، عن الجلد بن أيوب فضعفه جدا ، وقال : كان شيخا من مشايخ العرب تساهل أصحابنا في الرواية عنه .
وروى البيهقي أيضا عن عبد الله بن المبارك أن أهل البصرة كانوا ينكرون حديث الجلد بن أيوب ، ويقولون : شيخ من شيوخ العرب ليس بصاحب حديث ، قال ابن المبارك : وأهل مصره أعلم به من غيرهم . قال يعقوب : وسمعت سليمان بن حرب ، وصدقة بن الفضل ، وإسحاق بن إبراهيم ، وبلغني عن أحمد بن حنبل أنهم كانوا يضعفون الجلد بن أيوب ، ولا يرونه في موضع الحجة ، وروى بإسناده أيضا عن ابن عيينة أنه كان يقول : ما جلد ؟ ومن جلد ؟ ومن كان جلد ؟ وروى بإسناده أيضا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : سمعت أبي ذكر الجلد بن أيوب ، فقال : ليس يسوى حديثه شيئا ، ضعيف الحديث . اهـ . وإنما أطلنا الكلام في تضعيف هذا الأثر ; لأنه أقوى ما جاء في الباب على ضعفه كما ترى . وقد قال البيهقي في " السنن الكبرى " : روي في أقل الحيض وأكثره أحاديث ضعاف قد بينت ضعفها في " الخلافيات " .
وأما حجة من قال : إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر ، كالشافعي ، وأحمد ، ومن وافقهما ، فهي أنه لم يثبت في ذلك تحديد من الشرع فوجب الرجوع إلى المشاهد في الوجود ، والمشاهد أن الحيض لا يقل عن يوم وليلة ولا يزيد على نصف شهر ، قالوا : وثبت مستفيضا عن السلف من التابعين فمن بعدهم وجود ذلك عيانا ، ورواه البيهقي ، وغيره ، عن عطاء ، والحسن ، وعبيد الله بن عمر ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وشريك ، والحسن بن صالح ، وعبد الرحمن بن مهدي رحمهم الله تعالى .
قال النووي : " فإن قيل : روى إسحاق بن راهويه ، عن بعضهم أن امرأة من نساء الماجشون حاضت عشرين يوما ، وعن ميمون بن مهران أن بنت سعيد بن جبير كانت تحته وكانت تحيض من السنة شهرين ، فجوابه بما أجاب به المصنف في كتابه النكت أن هذين النقلين ضعيفان .
[ ص: 232 ] فالأول : عن بعضهم وهو مجهول ، وقد أنكره بعضهم ، وقد أنكره الإمام مالك بن أنس ، وغيره من علماء المدينة .
والثاني : رواه الوليد بن مسلم ، عن رجل ، عن ميمون ، والرجل مجهول . والله أعلم " اهـ .
وأما حجة مالك في أكثر الحيض للمبتدئة ، فكحجة الشافعي ، وأحمد ، وحجته في أكثره للمعتادة ما رواه الإمام مالك ، وأحمد ، والشافعي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة تهراق الدم فقال : " لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ، ثم لتغتسل ، ولتستثفر ، ثم تصلي " اهـ .
وهذا الحديث نص في الرجوع إلى عادة الحائض .
قال ابن حجر في " التلخيص " في هذا الحديث : قال النووي إسناده على شرطهما ، وقال البيهقي : هو حديث مشهور ، إلا أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة ، وفي رواية لأبي داود ، عن سليمان أن رجلا أخبره عن أم سلمة ، وقال المنذري : لم يسمعه سليمان منها ، وقد رواه موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن سليمان ، عن مرجانة ، عنها ، وساقه الدارقطني من طريق صخر بن جويرة ، عن نافع ، عن سليمان أنه حدثه رجل عنها . اهـ .
وللحديث شواهد متعددة تقوي رجوع النساء إلى عادتهن في الحيض ، كحديث حمنة بنت جحش ، وحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش ، وأما زيادة ثلاثة أيام ، فهي لأجل الاستظهار والتحري في انقضاء الحيضة ، ولا أعلم لها مستندا من نصوص الوحي الثابتة ، وأما حجة مالك في أقل الحيض بالنسبة إلى العبادات فهي التمسك بظاهر إطلاق النصوص ، ولم يرد نص صحيح في التحديد .
وأما أقله بالنسبة إلى العدة والاستبراء فحجته فيه أنه من قبيل تحقيق المناط ; لأن الحيض دليل عادي على براءة الرحم فلا بد فيما طلبت فيه بالحيض الدلالة على براءة الرحم من حيض يدل على ذلك بحسب العادة المطردة ، ولذا جعل الرجوع في ذلك إلى النساء العارفات بذلك ; لأن تحقيق المناط يرجع فيه لمن هو أعرف به وإن كان لا حظ له من علوم الوحي ، وحجة يحيى بن أكثم في قوله : " إن أقل الطهر تسعة عشر " ، هي أنه يرى أن أكثر الحيض عشرة أيام ، وأن الشهر يشتمل على طهر وحيض ، فعشرة منه للحيض والباقي [ ص: 233 ] طهر ، وقد يكون الشهر تسعا وعشرين فالباقي بعد عشرة الحيض تسعة عشر . وهذا هو حاصل أدلتهم وليس على شيء منها دليل من كتاب ولا سنة يجب الرجوع إليه . وأقرب المذاهب في ذلك هو أكثرها موافقة للمشاهد ككون الحيض لا يقل عن يوم وليلة ولا يكثر عن نصف شهر ، وكون أقل الطهر نصف شهر ، والله تعالى أعلم .
مسألة
اختلف العلماء في الدم الذي تراه الحامل هل هو حيض ، أو دم فساد ؟ فذهب مالك ، والشافعي في أصح قوليه إلى أنه حيض ، وبه قال قتادة والليث ، وروي عن الزهري ، وإسحاق وهو الصحيح عن عائشة . وذهب الإمام أبو حنيفة ، والإمام أحمد إلى أنه دم فساد ، وعلة ، وأن الحامل لا تحيض ، وبه قال جمهور التابعين منهم سعيد بن المسيب ، وعطاء ، والحسن ، وجابر بن زيد ، وعكرمة ، ومحمد بن المنكدر ، والشعبي ، ومكحول ، وحماد ، والثوري ، والأوزاعي ، وابن المنذر ، وأبو عبيد ، وأبو ثور .
واحتج من قال : إن الدم الذي تراه الحامل حيض بأنه دم بصفات الحيض في زمن إمكانه ، وبأنه متردد بين كونه فسادا لعلة أو حيضا ، والأصل السلامة من العلة ، فيجب استصحاب الأصل .
واحتج من قال بأنه دم فساد بأدلة ، منها : ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر في طلاقه امرأته في الحيض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا ، أو حاملا " ، وهذه الرواية أخرجها أحمد ، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة ، قالوا : قد جعل صلى الله عليه وسلم الحمل علامة على عدم الحيض ، كما جعل الطهر علامة لذلك .
ومنها : حديث : " لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والحاكم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، وصححه الحاكم وله شواهد ، قالوا : فجعل صلى الله عليه وسلم الحيض علامة على براءة الرحم فدل ذلك على أنه لا يجتمع مع الحمل .
ومنها : أنه دم في زمن لا يعتاد فيه الحيض غالبا فكان غير حيض قياسا على ما تراه اليائسة بجامع غلبة عدم الحيض في كل منهما .
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله : " إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم " .
ومنها : أنه لو كان دم حيض ما انتفت عنه لوازم الحيض ، فلما انتفت عنه دل ذلك على أنه غير حيض ; لأن انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم ، فمن لازم الحيض حرمة [ ص: 234 ] الطلاق ، ودم الحامل لا يمنع طلاقها ، للحديث المذكور آنفا الدال على إباحة طلاق الحامل والطاهر ، ومن لازم الحيض أيضا انقضاء العدة به ، ودم الحامل لا أثر له في انقضاء عدتها لأنها تعتد بوضع حملها لقوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] وفي هذه الأدلة مناقشات ذكر بعضها النووي في شرح المهذب .
واعلم أن مذهب مالك التفصيل في أكثر حيض الحامل ، فإن رأته في شهرها الثالث إلى انتهاء الخامس تركت الصلاة نصف شهر ونحوه - وفسروا نحوه بزيادة خمسة أيام - فتجلس عشرين يوما ، فإن حاضت في شهرها السادس فما بعده تركت الصلاة عشرين يوما ونحوها - وفسروا نحوها بزيادة خمسة أيام - فتجلس خمسا وعشرين ، وفسره بعضهم بزيادة عشرة ، فتجلس شهرا ، فإن حاضت الحامل قبل الدخول في الشهر الثالث ، فقيل : حكمه حكم الحيض في الثالث وقد تقدم .
وقيل : حكمه حكم حيض غير الحامل ، فتجلس قدر عادتها وثلاثة أيام استظهارا .
وإلى هذه المسألة أشار خليل بن إسحاق المالكي في مختصره بقوله : ولحامل بعد ثلاثة أشهر النصف ، ونحوه ، وفي ستة فأكثر عشرون يوما ونحوها ، وهل ما قبل الثلاثة كما بعدها أو كالمعتاد ؟ قولان .
هذا هو حاصل كلام العلماء في أقل الحيض وأكثره ، وأقل الطهر وأكثره ، وأدلتهم في ذلك ، ومسائل الحيض كثيرة ، وقد بسط العلماء الكلام عليها في كتب الفروع .
مسألة
اختلف العلماء في أقل النفاس وأكثره أيضا ، فذهب مالك ، والشافعي إلى أن أكثره ستون يوما ، وبه قال عطاء ، والأوزاعي ، والشعبي ، وعبيد الله بن الحسن العنبري ، والحجاج بن أرطاة ، وأبو ثور ، وداود ، وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال : أدركت الناس يقولون : أكثر النفاس ستون يوما ، وذهب الإمام أبو حنيفة وأحمد إلى أن أكثره أربعون يوما وعليه أكثر العلماء ، قال أبو عيسى الترمذي : أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ، فتغتسل وتصلي اهـ .
قال الخطابي ، وقال أبو عبيد : وعلى هذا جماعة الناس ، وحكاه ابن المنذر ، عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وأنس ، وعثمان بن أبي العاص ، وعائذ بن عمرو ، وأم سلمة ، وابن [ ص: 235 ] المبارك ، وإسحاق ، وأبي عبيد . اهـ .
وحكى الترمذي ، وابن المنذر ، وابن جرير ، وغيرهم ، عن الحسن البصري أنه خمسون ، وروي عن الليث أنه قال : قال بعض الناس : إنه سبعون يوما ، وذكر ابن المنذر ، عن الأوزاعي ، عن أهل دمشق : أن أكثر النفاس من الغلام ثلاثون يوما ، ومن الجارية أربعون ، وعن الضحاك : أكثره أربعة عشر يوما ، قاله النووي .
وأما أقل النفاس فهو عند مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة في أصح الروايات عنه لا حد له ، وهو قول جمهور العلماء ، وعن أبي حنيفة : أقله أحد عشر يوما ، وعنه أيضا : خمسة وعشرون ، وحكى الماوردي ، عن الثوري : أقله ثلاثة أيام ، وقال المزني : أقله أربعة أيام ، وأما أدلة العلماء في أكثر النفاس وأقله ، فإن حجة كل من حدد أكثره بغير الأربعين هي الاعتماد على المشاهد في الخارج ، وأكثر ما شاهدوه في الخارج ستون يوما ، وكذلك حججهم في أقله فهي أيضا الاعتماد على المشاهد في الخارج ، وقد يشاهد الولد يخرج ولا دم معه ، ولذا كان جمهور العلماء على أن أقله لا حد له ، وأما حجة من حدده بأربعين ، فهي ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : " كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجلس أربعين يوما " الحديث ، روي هذا الحديث من طريق علي بن عبد الأعلى ، عن أبي سهل ، واسمه كثير بن زياد ، عن مسة الأزدية ، عن أم سلمة ، وعلي بن عبد الأعلى ثقة ، وأبو سهل وثقه البخاري وضعفه ابن حبان ، وقال ابن حجر : لم يصب في تضعيفه ، وقال في التقريب في أبي سهل المذكور : ثقة ، وقال في " التقريب " في مسة المذكورة : مقبولة ، وقال النووي في " شرح المهذب " في حديث أم سلمة هذا : حديث حسن رواه أبو داود ، والترمذي ، وغيرهما .
قال الخطابي : أثنى البخاري على هذا الحديث ، ويعتضد هذا الحديث بأحاديث بمعناه من رواية أبي الدرداء ، وأنس ، ومعاذ ، وعثمان بن أبي العاص ، وأبي هريرة رضي الله عنهم ، وقال النووي أيضا بعد هذا الكلام : " واعتمد أكثر أصحابنا جوابا آخر وهو تضعيف الحديث ، وهذا الجواب مردود ، بل الحديث جيد كما سبق " .
وأجاب القائلون بأن أكثر النفاس ستون عن هذا الحديث الدال على أنه أربعون بأجوبة ، أوجهها عندي أن الحديث إنما يدل على أنها تجلس أربعين ، ولا دلالة فيه على أن الدم إن تمادى بها لم تجلس أكثر من الأربعين ، فمن الممكن أن تكون النساء المذكورة في الحديث لم يتماد الحيض بها إلا أربعين فنص الحديث على أنها تجلس الأربعين ، ولا [ ص: 236 ] ينافي أن الدم لو تمادى عليها أكثر من الأربعين لجلست أكثر من الأربعين ، ويؤيده أن الأوزاعي رحمه الله قال : " عندنا امرأة ترى النفاس شهرين " ، وذلك مشاهد كثيرا في النساء . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (137)
سُورَةُ الرَّعْدِ(4)
صـ 236 إلى صـ 240
قوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن السر والجهر عنده سواء ، وأن الاختفاء والظهور عنده أيضا سواء ; لأنه يسمع السر كما يسمع الجهر ، ويعلم الخفي كما يعلم الظاهر ، وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وقوله : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ، وقوله : ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ، وقوله : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأظهر القولين في المستخفي بالليل والسارب بالنهار : أن المستخفي هو المختفي المستتر عن الأعين ، والسارب هو الظاهر البارز الذاهب حيث يشاء ، ومنه قول الأخنس بن شهاب التغلبي :
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي : ذاهب حيث يشاء ظاهر غير خاف .
وقول قيس بن الخطيم :
أني سربت وكنت غير سروب وتقرب الأحلام غير قريب
وقيل : السارب : الداخل في السرب ليتوارى فيه ، والمستخفي : الظاهر ، من : خفاه يخفيه : إذا أظهره ، ومنه قول امرئ القيس :
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
قوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا .
والمعنى : أنه لا يسلب قوما نعمة أنعمها عليهم حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : ذلك بأن الله لم يك [ ص: 237 ] مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم الآية [ 8 \ 53 ] ، وقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 \ 30 ] .
وقد بين في هذه الآية أيضا : أنه إذا أراد قوما بسوء فلا مرد له ، وبين ذلك أيضا في مواضع أخر ، كقوله : ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين [ 6 \ 147 ] ، ونحوها من الآيات ، وقوله في هذه الآية الكريمة : حتى يغيروا ما بأنفسهم ، يصدق بأن يكون التغيير من بعضهم كما وقع يوم أحد بتغيير الرماة ما بأنفسهم فعمت البلية الجميع ، وقد سئل صلى الله عليه وسلم : " أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث " . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا الآية .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يري خلقه البرق خوفا وطمعا ، قال قتادة : خوفا للمسافر يخاف أذاه ومشقته ، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله ، وعن الحسن : الخوف لأهل البحر ، والطمع لأهل البر ، وعن الضحاك : الخوف من الصواعق ، والطمع في الغيث .
وبين في موضع آخر : أن إراءته خلقه البرق خوفا وطمعا من آياته جل وعلا الدالة على أنه المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له . وذلك في قوله : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء الآية [ 30 \ 24 ] .
قوله تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يسجد له أهل السماوات والأرض طوعا وكرها وتسجد له ظلالهم بالغدو والآصال ، وذكر أيضا سجود الظلال وسجود أهل السماوات والأرض في قوله أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون [ 16 \ 48 ، 49 ] إلى قوله يؤمرون [ 16 \ 50 ] ، واختلف العلماء في المراد بسجود الظل وسجود غير المؤمنين ، فقال بعض العلماء : سجود من في السماوات والأرض من العام المخصوص ، فالمؤمنون والملائكة يسجدون لله سجودا حقيقيا ، وهو وضع الجبهة على الأرض ، يفعلون ذلك طوعا ، والكفار يسجدون كرها ، أعني المنافقين لأنهم كفار في الباطن ولا يسجدون لله إلا كرها ، كما قال تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس الآية [ 4 \ 142 ] ، وقال تعالى : وما [ ص: 238 ] منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ 9 \ 54 ] ، والدليل على أن سجود أهل السماوات والأرض من العام المخصوص ، قوله تعالى في " سورة الحج " : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب [ 22 \ 18 ] ، فقوله : وكثير من الناس [ 22 \ 18 ] دليل على أن بعض الناس غير داخل في السجود المذكور ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وغيرهما ، وذكره الفراء ، وقيل الآية عامة . والمراد بسجود المسلمين طوعا انقيادهم لما يريد الله منهم طوعا ، والمراد بسجود الكافرين كرها انقيادهم لما يريد الله منهم كرها ; لأن إرادته نافذة فيهم وهم منقادون خاضعون لصنعه فيهم ونفوذ مشيئته فيهم ، وأصل السجود في لغة العرب : الذل والخضوع ، ومنه قول زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
ومنه قول العرب : أسجد : إذا طأطأ رأسه وانحنى ، قال حميد بن ثور :
فلما لوين على معصم وكف خضيب وأسوارها
فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها
وعلى هذا القول فالسجود لغوي لا شرعي ، وهذا الخلاف المذكور جار أيضا في سجود الظلال ، فقيل : سجودها حقيقي ، والله تعالى قادر على أن يخلق لها إدراكا تدرك به وتسجد لله سجودا حقيقيا ، وقيل : سجودها ميلها بقدرة الله أول النهار إلى جهة المغرب ، وآخره إلى جهة المشرق ، وادعى من قال هذا أن الظل لا حقيقة له ; لأنه خيال فلا يمكن منه الإدراك .
ونحن نقول : إن الله جل وعلا قادر على كل شيء ، فهو قادر على أن يخلق للظل إدراكا يسجد به لله تعالى سجودا حقيقيا ، والقاعدة المقررة عند علماء الأصول هي : حمل نصوص الوحي على ظواهرها إلا بدليل من كتاب أو سنة ، ولا يخفى أن حاصل القولين :
أن أحدهما : أن السجود شرعي وعليه فهو في أهل السماوات والأرض من العام المخصوص .
والثاني : أن السجود لغوي بمعنى الانقياد والذل والخضوع ، وعليه فهو باق على عمومه ، والمقرر في الأصول عند المالكية والحنابلة وجماعة من الشافعية أن النص إن دار [ ص: 239 ] بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية حمل على الشرعية ، وهو التحقيق ، خلافا لأبي حنيفة في تقديم اللغوية ، ولمن قال يصير اللفظ مجملا لاحتمال هذا وذاك ، وعقد هذه المسألة صاحب " مراقي السعود " بقوله :
واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب وقيل : المراد بسجود الكفار كرها سجود ظلالهم كرها ، وقيل : الآية في المؤمنين فبعضهم يسجد طوعا ; لخفة امتثال أوامر الشرع عليه ، وبعضهم يسجد كرها ; لثقل مشقة التكليف عليه مع أن إيمانه يحمله على تكلف ذلك . والعلم عند الله تعالى :
وقوله تعالى : بالغدو [ 13 \ 15 ] يحتمل أن يكون مصدرا أو يحتمل أن يكون جمع غداة ، والآصال جمع أصل بضمتين وهو جمع أصيل ، وهو ما بين العصر والغروب ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار .
أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ; لأنه هو الخالق ولا يستحق من الخلق أن يعبدوه إلا من خلقهم وأبرزهم من العدم إلى الوجود ; لأن المقصود من قوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم [ 13 \ 16 ] إنكار ذلك وأنه هو الخالق وحده بدليل قوله بعده : قل الله خالق كل شيء [ 13 \ 16 ] أي : وخالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده ، ويبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] ، وقوله : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 25 \ 3 ] ، وقوله : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] ، وقوله : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ 31 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات ; لأن المخلوق محتاج إلى خالقه فهو عبد مربوب مثلك يجب عليه أن يعبد من خلقه وحده ، كما يجب عليك ذلك ، فأنتما سواء بالنسبة إلى وجوب عبادة الخالق وحده لا شريك له .
قوله تعالى : ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا عليه صلى الله عليه وسلم الإتيان بآية ينزلها عليه ربه ، وبين هذا المعنى في [ ص: 240 ] مواضع متعددة كقوله فليأتنا بآية كما أرسل الأولون [ 21 \ 5 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وبين تعالى في موضع آخر أن في القرآن العظيم كفاية عن جميع الآيات ، في قوله : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ 29 \ 51 ] ، وبين في موضع آخر حكمة عدم إنزال آية كناقة صالح ونحوها ، بقوله وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة الآية [ 17 \ 59 ] ، كما تقدمت الإشارة إليه .
قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى الآية .
جواب " لو " في هذه الآية محذوف . قال بعض العلماء تقديره : لكان هذا القرآن ، وقال بعضهم تقديره : لكفرتم بالرحمن ، ويدل لهذا الأخير قوله قبله : وهم يكفرون بالرحمن [ 13 \ 30 ] ، وقد قدمنا شواهد حذف جواب " لو " في سورة البقرة . وقد قدمنا في سورة " يوسف " أن الغالب في اللغة العربية أن يكون الجواب المحذوف من جنس المذكور قبل الشرط ليكون ما قبل الشرط دليلا على الجواب المحذوف .
قوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية الآية .
بين في هذه الآية الكريمة أن الرسل قبله صلى الله عليه وسلم من جنس البشر ، يتزوجون ، ويلدون ، وليسوا ملائكة ، وذلك أن الكفار استغربوا بعث آدمي من البشر ، كما قال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، فأخبر أنه يرسل البشر الذين يتزوجون ويأكلون ، كقوله وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] ، وقوله وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام الآية [ 21 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدمت الإشارة إليه .
قوله تعالى : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب .
الظاهر أن قوله ومن عنده علم الكتاب عطف على لفظ الجلالة وأن المراد به أهل العلم بالتوراة والإنجيل ، ويدل له قوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ، وقوله : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك الآية [ 16 \ 43 ] ، وقوله : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون الآية [ 16 \ 43 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (138)
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ (1)
صـ 241 إلى صـ 245
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
قوله تعالى : الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم ليخرج به الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والهدى ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور الآية [ 57 \ 9 ] ، وقوله : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور الآية [ 2 \ 275 ] إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدمت الإشارة إليه ، وقد بين تعالى هنا أنه لا يخرج أحدا من الظلمات إلى النور إلا بإذنه جل وعلا في قوله : بإذن ربهم الآية [ 14 \ 1 ] ، وأوضح ذلك في آيات أخر ، كقوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله الآية [ 4 \ 64 ] ، وقوله : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله الآية [ 10 \ 100 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء .
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لم يرسل رسولا إلا بلغة قومه ; لأنه لم يرسل رسولا إلا إلى قومه دون غيرهم ، ولكنه بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الخلائق دون اختصاص بقومه ولا بغيرهم ، كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم رسالته لأهل كل لسان ، فهو صلى الله عليه وسلم يجب عليه إبلاغ أهل كل لسان ، وقد قدمنا في سورة البقرة قول ابن عباس رضي الله عنهما : " إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء ، فقالوا : بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال : إن الله تعالى قال : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [ 21 \ 29 ] ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ ص: 242 ] [ 48 \ 1 ، 2 ] قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : قال الله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [ 4 \ 14 ] ، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ 34 \ 28 ] ، فأرسله إلى الجن والإنس " ، ذكره أبو محمد الدارمي في " مسنده " كما تقدم وهو تفسير من ابن عباس للآية بما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم الآية .
اختلف العلماء في معنى هذه الآية الكريمة ، فقال بعض العلماء معناها أن أولئك الكفار جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ; ليعضوا عليها غيظا وحنقا لما جاءت به الرسل ; إذ كان فيه تسفيه أحلامهم ، وشتم أصنامهم ، وممن قال بهذا القول عبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير ، واستدل له بقوله تعالى : وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ الآية [ 3 \ 119 ] ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب ومنه قول الشاعر :
تردون في فيه غش الحسود حتى يعض على الأكف
يعني : أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه ، قال القرطبي : ومنه قول الآخر أيضا :
قد أفنى أنامله أزمه فأضحى يعض علي الوظيفا
أي أفنى أنامله عضا ، وقال الراجز :
لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة بعظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي عضت من الوجد بأطراف اليد
وفي الآية الكريمة أقوال غير هذا ، منها : أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم من العجب . ويروى عن ابن عباس . ومنها : أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم : أنا رسول الله إليكم ، أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له وردا لقوله . ويروى هذا عن أبي صالح ، ومنها : أن معنى الآية أنهم ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم ، فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار ، وعلى هذا القول فـ " في " بمعنى الباء . ويروى هذا القول عن مجاهد ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، قال ابن جرير : وتوجيهه أن " في " هنا بمعنى الباء ، قال : وقد سمع من العرب : أدخلك الله بالجنة ، يعنون : في الجنة ، وقال الشاعر :
[ ص: 243 ]
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب
يريد وأرغب بها : قال ابن كثير : ويؤيد هذا القول تفسير ذلك بتمام الكلام ، وهو قوله تعالى : وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر عندي خلاف ما استظهره ابن كثير رحمه الله تعالى ; لأن العطف بالواو يقتضي مغايرة ما بعده لما قبله ، فيدل على أن المراد بقوله : فردوا أيديهم الآية غير التصريح بالتكذيب بالأفواه ، والعلم عند الله تعالى . وقيل : المعنى أن الكفار جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم ، وعليه فالضمير الأول للكفار والثاني للرسل ، ويروى هذا عن الحسن ، وقيل : جعل الكفار أيدي الرسل على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ، ويروى هذا عن مقاتل ، وقيل : رد الرسل أيدي الكفار في أفواههم ، وقيل غير ذلك ، فقد رأيت الأقوال وما يشهد له القرآن منها ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
جمع الفم مكسرا على أفواه يدل على أن أصله فوه ، فحذفت الفاء والواو وعوضت عنهما الميم .
قوله تعالى : إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للرسل بأنهم كافرون بهم ، وأنهم شاكون فيما جاءوهم به من الوحي ، وقد نص تعالى على بعضهم بالتعيين أنهم صرحوا بالكفر به ، وأنهم شاكون فيما يدعونهم إليه ، كقول قوم صالح له : أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب [ 11 \ 62 ] ، وصرحوا بالكفر به في قوله : قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون [ 7 \ 75 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر عموما في آية ، ثم يصرح في آية أخرى بدخول بعض أفراد ذلك العموم فيه كما هنا ، وكما [ ص: 244 ] تقدم المثال له بقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] ، مع قوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 22 \ 36 ] .
قوله تعالى : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار توعدوا الرسل بالإخراج من أرضهم ، والنفي من بين أظهرهم إن لم يتركوا ما جاءوا به من الوحي ، وقد نص في آيات أخر أيضا على بعض ذلك مفصلا ، كقوله عن قوم شعيب : لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم الآية [ 7 \ 88 ، 89 ] ، وقوله عن قوم لوط : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ 27 \ 56 ] ، وقوله عن مشركي قريش : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا [ 17 \ 76 ] ، وقوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [ 8 \ 30 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى رسله أن العاقبة والنصر لهم على أعدائهم ، وأنه يسكنهم الأرض بعد إهلاك أعدائهم ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز [ 58 \ 21 ] ، وقوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] .
وقوله : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [ 7 \ 128 ] ، وقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وخاب كل جبار عنيد .
لم يبين هنا كيفية خيبة الجبار العنيد ، ولكنه أشار إلى معنى خيبته وبعض صفاته القبيحة في قوله في سورة " ق " : ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد [ ص: 245 ] [ 50 \ 24 - 25 ] ، والجبار : المتجبر في نفسه ، والعنيد : المعاند للحق ، قاله ابن كثير .
قوله تعالى : من ورائه جهنم الآية .
" وراء " هنا بمعنى " أمام " كما هو ظاهر ، ويدل له إطلاق " وراء " بمعنى " أمام " في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أي : أمامهم ملك ، وكان ابن عباس يقرؤها : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، ومن إطلاق " وراء " بمعنى " أمام " في كلام العرب قول لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع
وقول الآخر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقوله الآخر :
ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا باد
فـ " وراء " بمعنى " أمام " في الأبيات ، وقال بعض العلماء معنى من ورائه جهنم ، أي : من بعد هلاكه جهنم ، وعليه فـ " وراء " في الآية بمعنى بعد ، ومن إطلاق " وراء " بمعنى " بعد " قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أي : ليس بعد الله مذهب ، قاله القرطبي ، والأول هو الظاهر وهو الحق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (139)
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ (2)
صـ 246 إلى صـ 250
قوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف الآية .
ضرب الله تعالى لأعمال الكفار مثلا في هذه الآية الكريمة برماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف ، أي شديد الريح ، فإن تلك الريح الشديدة العاصفة تطير ذلك الرماد ولم تبق له أثرا ، فكذلك أعمال الكفار كصلات الأرحام ، وقرى الضيف ، والتنفيس عن المكروب ، وبر الوالدين ، ونحو ذلك يبطلها الكفر ويذهبها ، كما تطير تلك الريح ذلك الرماد . وضرب أمثالا أخر في آيات أخر لأعمال الكفار بهذا المعنى ، كقوله : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] ، وقوله : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا [ ص: 246 ] أنفسهم فأهلكته الآية [ 3 \ 117 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين [ 2 \ 264 ] ، وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبين في موضع آخر أن الحكمة في ضربه للأمثال أن يتفكر الناس فيها فيفهموا الشيء بنظرة ، وهو قوله : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] ، ونظيره قوله : ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون [ 14 \ 25 ] ، وبين في موضع آخر أن الأمثال لا يعقلها إلا أهل العلم ، وهو قوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] ، وبين في موضع آخر أن المثل المضروب يجعله الله سبب هداية لقوم فهموه ، وسبب ضلال لقوم لم يفهموا حكمته ، وهو قوله : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] ، وبين في موضع آخر أنه تعالى لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ولو كان المثل المضروب بعوضة فما فوقها ، قيل : فما هو أصغر منها ; لأنه يفوقها في الصغر ، وقيل : فما فوقها أي فما هو أكبر منها ، وهو قوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ 2 \ 26 ] ، ولذلك ضرب المثل بالعنكبوت في قوله : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون [ 29 \ 41 ] ، وضربه بالحمار في قوله : كمثل الحمار يحمل أسفارا الآية [ 62 \ 5 ] ، وضربه بالكلب في قوله : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث [ 7 \ 176 ] ، إلى غير ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء .
هذه المحاجة التي ذكرها الله هنا عن الكفار بينها في مواضع أخر ، كقوله : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد [ 40 \ 47 ، 48 ] ، كما تقدم إيضاحه .
[ ص: 247 ] قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم .
بين في هذه الآية أن الله وعدهم وعد الحق ، وأن الشيطان وعدهم فأخلفهم ما وعدهم ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله في وعد الله : وعد الله حقا [ 4 \ 122 ] ، وقوله : إن الله لا يخلف الميعاد [ 13 \ 31 ] ، وقوله في وعد الشيطان : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، ونحو ذلك من الآيات قوله تعالى : تحيتهم فيها سلام [ 14 \ 23 ] .
بين في هذه الآية الكريمة أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام ، وبين في مواضع أخر أن الملائكة تحييهم بذلك ، وأن بعضهم يحيي بعضا بذلك ، فقال في تحية الملائكة لهم : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم الآية [ 13 \ 23 ، 24 ] ، وقال : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم الآية [ 39 \ 73 ] ، وقال : ويلقون فيها تحية وسلاما [ 25 \ 75 ] ، وقال في تحية بعضهم بعضا : دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام الآية [ 10 \ 10 ] ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار .
هذا تهديد منه تعالى لهم بأن مصيرهم إلى النار ، وذلك المتاع القليل في الدنيا لا يجدي من مصيره إلى النار وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] ، وقوله : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] ، وقوله : متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 70 ] ، وقوله : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم الآية [ 3 \ 196 ، 197 ] ، إلى ذلك من الآيات .
قوله تعالى : قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال .
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالمبادرة إلى الطاعات ، كالصلوات والصدقات من قبل إتيان يوم القيامة الذي هو اليوم الذي لا بيع فيه ولا مخالة بين خليلين ، فينتفع أحدهما بخلة الآخر ، فلا يمكن أحدا أن تباع له نفسه فيفديها ، ولا خليل ينفع خليله يومئذ ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة الآية [ 2 \ 254 ] ، وقوله : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا [ 57 \ 15 ] وقوله : [ ص: 248 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا الآية [ 2 \ 48 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
والخلال في هذه الآية ، قيل : جمع خلة كقلة وقلال ، والخلة : المصادقة ، وقيل : هو مصدر خاله على وزن فاعل مخالة وخلالا ، ومعلوم أن فاعل ينقاس مصدرها على المفاعلة والفعال ، وهذا هو الظاهر ، ومنه قول امرئ القيس :
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ولست بمقلي الخلال ولا قال
أي : لست بمكروه المخالة .
قوله تعالى : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام الآية .
لم يبين هنا هل أجاب دعاء نبيه إبراهيم هذا ولكنه بين في مواضع أخر أنه أجابه في بعض ذريته دون بعض ، كقوله : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] ، وقوله : وجعلها كلمة باقية في عقبه الآية [ 43 \ 28 ] .
قوله تعالى : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال : إن من تبعه فإنه منه ، وأنه رد أمر من لم يتبعه إلى مشيئة الله تعالى ، إن شاء الله غفر له ; لأنه هو الغفور الرحيم ، وذكر نحو هذا عن عيسى ابن مريم في قوله : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ 5 \ 118 ] ، وذكر عن نوح وموسى التشديد في الدعاء على قومهما فقال عن نوح إنه قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إلى قوله : فاجرا كفارا [ 71 \ 26 ، 27 ] ، وقال عن موسى إنه قال : ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 88 ] والظاهر أن نوحا وموسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ما دعوا ذلك الدعاء على قومهما إلا بعد أن علما من الله أنهم أشقياء في علم الله لا يؤمنون أبدا ، أما نوح فقد صرح الله تعالى له بذلك في قوله :
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ 11 \ 36 ] ، وأما موسى فقد فهم ذلك من قول قومه له : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] ، فإنهم قالوا هذا القول بعد مشاهدة تلك الآيات العظيمة المذكورة في الأعراف وغيرها .
قوله تعالى : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لذريته الذين [ ص: 249 ] أسكنهم بمكة المكرمة أن يرزقهم الله من الثمرات ، وبين في " سورة البقرة " أن إبراهيم خص بهذا الدعاء المؤمنين منهم ، وأن الله أخبره أنه رازقهم جميعا مؤمنهم وكافرهم ، ثم يوم القيامة يعذب الكافر ، وذلك بقوله : وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا الآية [ 2 \ 126 ] قال بعض العلماء : سبب تخصيص إبراهيم المؤمنين في هذا الدعاء بالرزق ، أنه دعا لذريته أولا أن يجعلهم الله أئمة ، ولم يخصص بالمؤمنين فأخبره الله أن الظالمين من ذريته لا يستحقون ذلك ، قال تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] ، فلما أراد أن يدعو لهم بالرزق خص المؤمنين بسبب ذلك ، فقال : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، فأخبره الله أن الرزق ليس كالإمامة فالله يرزق الكافر من الدنيا ولا يجعله إماما ; ولذا قال له في طلب الإمامة : لا ينال عهدي الظالمين ، ولما خص المؤمنين بطلب الرزق قال له : ومن كفر فأمتعه قليلا الآية [ 2 \ 126 ] .
قوله تعالى : ربنا اغفر لي ولوالدي الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم طلب المغفرة لوالديه ، وبين في آيات أخر أن طلبه الغفران لأبيه إنما كان قبل أن يعلم أنه عدو لله فلما علم ذلك تبرأ منه ، كقوله : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه [ 9 \ 114 ] ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يؤخر عقاب الكفار إلى يوم تشخص فيه الأبصار من شدة الخوف ، وأوضح ذلك في قوله تعالى : واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا الآية [ 21 \ 97 ] ، ومعنى شخوص الأبصار أنها تبقى منفتحة لا تغمض من الهول وشدة الخوف .
قوله تعالى : مهطعين .
الإهطاع في اللغة : الإسراع ، وقد بين تعالى في مواضع أخر أنهم يوم القيامة يأتون مهطعين ، أي : مسرعين إذا دعوا للحساب ، كقوله تعالى : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي الآية [ 54 \ 7 ] ، وقوله : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 \ 43 ] ، وقوله : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير [ 50 \ 44 ] إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 250 ] ومن إطلاق الإهطاع في اللغة بمعنى الإسراع قول الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
أي مسرعين إليه .
قوله تعالى : وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن المجرمين وهم الكفار يوم القيامة يقرنون في الأصفاد ، وبين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا [ 25 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
والأصفاد : هي الأغلال والقيود ، واحدها : صفد بالسكون ، وصفد بالتحريك ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله تعالى : والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد [ 38 \ 37 ، 38 ] .
قوله تعالى : وتغشى وجوههم النار .
بين في هذه الآية الكريمة أن النار يوم القيامة تغشى وجوه الكفار فتحرقها ، وأوضح ذلك في مواضع أخر ، كقوله : تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 23 \ 104 ] ، وقوله : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم الآية [ 21 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : هذا بلاغ للناس .
بين في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن بلاغ لجميع الناس ، وأوضح هذا المعنى في قوله : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] وبين أن من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار كائنا من كان ، في قوله : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه الآية [ 11 \ 17 ] .
قوله تعالى : وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب .
بين في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم العلم بأنه تعالى إله واحد ، وأن من حكمه أن يتعظ أصحاب العقول ، وبين هذا في مواضع أخر فذكر الحكمة الأولى في أول سورة هود في قوله : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله [ 11 \ 1 ، 2 ] كما تقدم إيضاحه ، وذكر الحكمة الثانية في قوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] [ ص: 251 ] وهم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، واحد الألباب لب بالضم ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (140)
سُورَةُ الْحِجْرِ(1)
صـ 251 إلى صـ 255
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْحِجْرِ
قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين .
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عرفوا حقيقة الأمر تمنوا أنهم كانوا في دار الدنيا مسلمين ، وندموا على كفرهم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [ 6 \ 27 ] وقوله : حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها [ 6 \ 31 ] ، وقوله : ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [ 25 \ 27 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد ; لأن من يقول : إن الكافر إذا احتضر وعاين الحقيقة تمنى أنه كان مسلما ، ومن يقول : إنه إذا عاين النار ووقف عليها تمنى أنه كان مسلما ، ومن يقول : إنهم إذا عاينوا إخراج الموحدين من النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين ، كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة ندموا على الكفر وتمنوا أنهم كانوا مسلمين .
وقرأ نافع وعاصم ربما بتخفيف الباء ، وقرأ الباقون بتشديدها ، والتخفيف لغة أهل الحجاز ، والتثقيل لغة تميم وقيس وربيعة ، ومن الأول قول عدي بن الرعلاء الغساني :
ربما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء
والثاني : كثير جدا ، ومنه قول الآخر :
ألا ربما أهدت لك العين نظرة قصاراك منها أنها عنك لا تجدي
ورب في هذا الموضع قال بعض العلماء للتكثير ، أي : يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين . ونقل القرطبي هذا القول عن الكوفيين قال ومنه قول الشاعر :
ألا ربما أهدت لك العين . . . . . . . . .
البيت [ ص: 253 ] وقال بعض العلماء : هي هنا للتقليل ; لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب . فإن قيل : ربما لا تدخل إلا على الماضي ، فما وجه دخولها على المضارع في هذا الموضع ؟ فالجواب : أن الله تعالى لما وعد بوقوع ذلك صار ذلك الوعد للجزم بتحقيق وقوعه ، كالواقع بالفعل ، ونظيره قوله تعالى أتى أمر الله الآية [ 16 \ 1 ] ونحوها من الآيات ، فعبر بالماضي تنزيلا لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل .
قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون .
هدد الله تعالى الكفار في هذه الآية الكريمة بأمره نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتركهم يأكلون ويتمتعون ، فسوف يعلمون حقيقة ما يئول إليه الأمر من شدة تعذيبهم وإهانتهم . وهددهم هذا النوع من التهديد في مواضع أخر كقوله : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار [ 14 ] وقوله كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون [ 77 \ 46 ] وقوله : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] وقوله : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [ 43 \ 83 ] ، [ 70 \ 42 ] وقوله فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون [ 52 \ 45 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد تقرر في فن المعاني وفي مبحث الأمر عند الأصوليين أن من المعاني التي تأتي لها صيغة افعل التهديد ، كما في الآية المذكورة ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ذرهم يعني اتركهم ، وهذا الفعل لم يستعمل منه إلا الأمر والمضارع ، فماضيه ترك ، ومصدره الترك ، واسم الفاعل منه تارك ، واسم المفعول منه متروك . وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بآيات السيف ، والعلم عند الله تعالى . قال القرطبي : " والأمل الحرص على الدنيا والانكباب عليها ، والحب لها والإعراض عن الآخرة " وعن الحسن - رحمه الله - أنه قال : " ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل " وقد قدمنا علاج طول الأمل في سورة البقرة .
قوله تعالى وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون قد يقال في هذه الآية الكريمة : كيف يقرون بأنه أنزل إليه الذكر وينسبونه للجنون مع ذلك ؟ والجواب أن قولهم : ( ياأيها الذي نزل عليه الذكر ) يعنون في زعمه تهكما منهم به ، ويوضح هذا المعنى ورود مثله من الكفار متهكمين بالرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - في مواضع أخر ، كقوله تعالى عن فرعون مع موسى قال : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 26 \ 27 ] [ ص: 254 ] وقوله عن قوم شعيب إنك لأنت الحليم الرشيد . [ 11 \ 87
قوله تعالى لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين . لو ما في هذه الآية الكريمة للتحضيض ، وهو طلب الفعل طلبا حثيثا . ومعنى الآية : أن الكفار طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب تخصيص أن يأتيهم بالملائكة ليكون إتيان الملائكة معه دليلا على صدقه أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين طلب الكفار هذا في آيات أخر كقوله عن فرعون مع موسى : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 \ 53 ] وقوله : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا [ 25 \ 21 ] ، وقوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر الآية [ 6 \ 8 ] وقوله : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [ 25 \ 7 ] وقوله : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 17 \ 92 ] إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم أن لو تركب مع لا وما لمعنيين : الأول منهما التحضيض ، ومثاله في لو ما في هذه الآية الكريمة ، ومثاله في لولا قول جرير :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
يعني : فهلا تعدون الكمي المقنع ، المعنى الثاني هو امتناع شيء لوجود غيره ، وهو في لولا كثير جدا كقول عامر بن الأكوع - رضي الله عنه - :
تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
ومثاله في ( لو ما ) قول ابن مقبل :
لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض .
تنبيه
قد ترد أدوات التحضيض للتوبيخ والتنديم ، فتختص بالماضي أو ما في تأويله نحو فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس الآية [ 10 \ 98 ] وقوله : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء الآية [ 24 \ 13 ] وقوله : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة الآية [ 46 \ 28 ] ، وجعل بعضهم منه قول جرير : [ ص: 255 ] تعدون عقر النيب البيت المتقدم آنفا
قائلا : إن مراده توبيخهم على ترك عد الكمي المقنع في الماضي .
قوله تعالى : ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ما ينزل الملائكة إلا بالحق ، أي بالوحي ، وقيل بالعذاب ، وقال الزمخشري : " إلا تنزيلا متلبسا بالحكمة والمصلحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم الملائكة عيانا ، تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار " ، قال : " ومثل هذا قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ 15 \ 85 ] وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لو نزلت عليهم الملائكة ، ما كانوا منظرين وذلك في قوله : وما كانوا إذا منظرين [ 15 \ 8 ] لأن التنوين في قوله ( إذا ) عوض عن جملة ، ففيه شرط وجزاء ، وتقرير المعنى : ولو نزلت عليهم الملائكة ما كانوا منظرين ، أي ممهلين بتأخير العذاب عنهم ، وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين [ 25 \ 22 ] وقوله : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون [ 6 \ 8 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : ما ننزل الملائكة [ 15 \ 8 ] قرأه حفص وحمزة والكسائي : ( ننزل ) بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة مع كسر الزاي المشددة ، و ( الملائكة ) بالنصب مفعول به لننزل . وقرأ شعبة : ( تنزل ) بتاء مضمومة ونون مفتوحة مع تشديد الزاي مفتوحة بالبناء للمفعول ، و ( الملائكة ) بالرفع نائب فاعل تنزل . وقرأ الباقون ( تنزل ) بفتح التاء والنون والزاي المشددة ، أصله تتنزل فحذفت إحدى التاءين ، و ( الملائكة ) بالرفع فاعل تنزل كقوله : تنزل الملائكة والروح الآية [ 97 \ 4 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (141)
سُورَةُ الْحِجْرِ(2)
صـ 256 إلى صـ 260
قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم ، وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 41 - 42 ] وقوله : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 ] إلى قوله : ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 19 ] وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله : وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] [ ص: 256 ] راجع إلى الذكر الذي هو القرآن . وقيل الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله : والله يعصمك من الناس [ 5 \ 67 ] والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق .
قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل في السماء بروجا ، وذكر هذا أيضا في مواضع أخر كقوله : تبارك الذي جعل في السماء بروجا [ 25 \ 61 ] وقوله تعالى : والسماء ذات البروج الآية [ 85 \ 1 ] ، والبروج : جمع برج .
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآيات المذكورة ، فقال بعضهم : البروج : الكواكب ، وممن روي عنه هذا القول مجاهد وقتادة . وعن أبي صالح : أنها الكواكب العظام ، وقيل : هي قصور في السماء عليها الحرس . وممن قال به عطية ، وقيل : هي منازل الشمس والقمر ، قاله ابن عباس . وأسماء هذه البروج : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أطلق تعالى في ( ( سورة النساء ) ) البروج على القصور الحصينة في قوله : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد . لأن أصل البروج في اللغة الظهور ، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها ، فالكواكب ظاهرة ، والقصور ظاهرة ، ومنازل القمر والشمس كالقصور ، بجامع أن الكل محل ينزل فيه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وزيناها للناظرين . صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه زين السماء للناظرين ، وبين في مواضع أخر أنه زينها بالنجوم ، وأنها السماء الدنيا كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح الآية [ 67 \ 5 ] ، وقوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] .
قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين . صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : وحفظا من كل شيطان مارد [ 37 \ 7 ] وقوله : وجعلناها رجوما للشياطين [ 67 \ 5 ] وقوله : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] وقوله : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] وقوله : [ ص: 257 ] أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين [ 52 \ 38 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله : إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [ 15 \ 18 ] . قال بعض العلماء : هو استثناء منقطع ، وجزم به الفخر الرازي ، أي لكن من استرق السمع أي الخطفة اليسيرة ، فإنه يتبعه شهاب فيحرقه كقوله تعالى : ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 8 - 10 ] وقيل : الاستثناء متصل ، أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره ، إلا من استرق السمع ، فإنا لم نحفظها من أن تسمع لخبر من أخبار السماء سوى الوحي ، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئا ; لقوله تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] قاله القرطبي ، ونظيره إلا من خطف الآية [ 37 \ 10 ] فإنه استثناء من الواو في قوله تعالى : لا يسمعون إلى الملإ الآية [ 37 \ 8 ] .
[ أصحاب الأقمار الصناعية
تنبيه
يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتشدق به أصحاب الأقمار الصناعية ، من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر ، كله كذب وشقشقة لا طائل تحتها ، ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ، ويرجعون خاسئين أذلاء عاجزين ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 4 ] ووجه دلالة الآيات المذكورة على ذلك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن ، يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب ، ومنه قوله تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم الآية [ 2 \ 14 ] ، وقوله : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [ 6 \ 112 ] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الكلب الأسود شيطان " وقول جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في اسم الشياطين دخولا أوليا ; لعتوهم وتمردهم . وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى صرح بحفظ السماء من كل شيطان ، كائنا من كان في عدة آيات من كتابه كقوله هنا : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] [ ص: 258 ] وقوله : وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم [ 41 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وصرح بأن من أراد استراق السمع أتبعه شهاب راصد له في مواضع أخر كقوله : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] وقوله : إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [ 15 \ 18 ] وقوله : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 9 ] وقال : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] وقال : أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين [ 52 \ 38 ] وهو تعجيز دال على عجز البشر عن ذلك عجزا مطلقا ، وقال : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ 38 \ 10 - 11 ] فقوله في هذه الآية الكريمة : فليرتقوا في الأسباب ، أي فليصعدوا في أسباب السماوات التي توصل إليها . وصيغة الأمر في قوله : فليرتقوا للتعجيز ، وإيرادها للتعجيز دليل على عجز البشر عن ذلك عجزا مطلقا . وقوله - جل وعلا - بعد ذلك التعجيز : جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ 38 \ 11 ] يفهم منه أنه لو تنطع جند من الأحزاب للارتقاء في أسباب السماء ، أنه يرجع مهزوما صاغرا داخرا ذليلا ، ومما يدل على أن الآية الكريمة يشار فيها إلى شيء ما كان يظنه الناس وقت نزولها إبهامه - جل وعلا - لذلك الجند بلفظة ( ما ) في قوله : جند ما [ 38 \ 11 ] وإشارته إلى مكان ذلك الجند أو مكان انهزامه إشارة البعيد في قوله : هنالك [ 38 \ 11 ] ولم يتقدم في الآية ما يظهر رجوع الإشارة إليه ، إلا الارتقاء في أسباب السماوات .
فالآية الكريمة يفهم منها ما ذكرنا ، ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء ، بل عبارات المفسرين تدور على أن الجند المذكور الكفار الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - سوف يهزمهم ، وأن ذلك تحقق يوم بدر أو يوم فتح مكة ، ولكن كتاب الله لا تزال تظهر غرائبه وعجائبه متجددة على مر الليالي والأيام ، ففي كل حين تفهم منه أشياء لم تكن مفهومة من قبل ، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح أنه لما سأل عليا - رضي الله عنه - هل خصهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء ؟ قال له علي - رضي الله عنه - : لا والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتاب الله ، وما في هذه الصحيفة . الحديث . فقوله - رضي الله عنه - : إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتاب الله ، يدل على أن فهم كتاب الله [ ص: 259 ] تتجدد به العلوم والمعارف التي لم تكن عند عامة الناس ، ولا مانع من حمل الآية على ما حملها عليه المفسرون .
وما ذكرنا أيضا أنه يفهم منها لما تقرر عند العلماء من أن الآية إن كانت تحتمل معاني كلها صحيحة ، تعين حملها على الجميع ، كما حققه بأدلته الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن .
وصرح تعالى بأن القمر في السبع الطباق في قوله : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 15 - 16 ] فعلم من الآيات أن القمر في السبع الطباق ، وأن الله حفظها من كل شيطان رجيم ، فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين أصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داخرين صاغرين ، عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء ، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يراد بها مطلق ما علاك ، وإن كان لفظ السماء قد يطلق لغة على كل ما علاك ، كسقف البيت ، ومنه قوله تعالى : فليمدد بسبب إلى السماء الآية [ 22 \ 15 ] . وقد قال الشاعر :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
لتصريحه تعالى بأن القمر في السبع الطباق . لأن الضمير في قوله : وجعل القمر فيهن [ 71 \ 16 ] راجع إلى السبع الطباق ، وإطلاق المجموع مرادا بعضه كثير في القرآن وفي كلام العرب .
ومن أصرح أدلته : قراءة حمزة والكسائي فإن قاتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] من القتل في الفعلين . لأن من قتل - بالبناء للمفعول - لا يمكن أن يؤمر بعد موته بأن يقتل قاتله ، ولكن المراد : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، كما هو ظاهر . وقال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] . وصح كون السماوات ظرفا للقمر . لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف . تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها .
واعلم أن لفظ الآية صريح في أن نفس القمر في السبع الطباق . لأن لفظة جعل [ 71 \ 15 ] في الآية هي التي بمعنى صير ، وهي تنصب المبتدأ والخبر ، والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيء آخر ، فقولك : جعلت الطين خزفا ، والحديد خاتما ، لا يخفى فيه أن الطين هو الخزف بعينه ، والحديد هو الخاتم ، وكذلك قوله : وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] .
[ ص: 260 ] فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه ، فلا يفهم من الآية بحسب الوضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق ، وكون المجعول فيها مطلق نوره . لأنه لو أريد ذلك لقيل : وجعل نور القمر فيهن أما قوله : وجعل القمر فيهن نورا فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر ، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه ، ويوضح ذلك أنه تعالى صرح في سورة الفرقان بأن القمر في خصوص السماء ذات البروج بقوله : تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] وصرح في سورة الحجر بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 16 ] وما يزعمه بعض الناس من أنه - جل وعلا - أشار إلى الاتصال بين أهل السماء والأرض في قوله : ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير [ 42 \ 29 ] يقال فيه : إن المراد جمعهم يوم القيامة في المحشر ، كما أطبق عليه المفسرون . ويدل له قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] .
ويوضح ذلك تسمية يوم القيامة يوم الجمع في قوله تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن الآية [ 64 \ 9 ] . وكثرة الآيات الدالة على أن جمع جميع الخلائق كائن يوم القيامة ، كقوله : ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] وقوله : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] وقوله : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 4 \ 87 ] وقوله : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا [ 25 \ 25 ] وقوله وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقوله وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] .
ومع أن بعض العلماء قال : المراد ما بث من الدواب في الأرض فقط ، فيكون من إطلاق المجموع مرادا بعضه ، وهو كثير في القرآن وفي لسان العرب ، وبعضهم قال : المراد بدواب السماء الملائكة ، زاعما أن الدبيب يطلق على كل حركة .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ظاهر الآية الكريمة أن الله بث في السماء دواب كما بث في [ ص: 261 ] الأرض دواب . ولا شك أن الله قادر على جمع أهل السماوات وأهل الأرض وعلى كل شيء ، ولكن الآيات القرآنية التي ذكرنا بينت أن المراد بجمعهم حشرهم جميعا يوم القيامة ، وقد أطبق على ذلك المفسرون ، ولو سلمنا تسليما جدليا أنها تدل على جمعهم في الدنيا ، فلا يلزم من ذلك بلوغ أهل الأرض إلى أهل السماء ، بل يجوز عقلا أن ينحدر من في السماء إلى من في الأرض ; لأن الهبوط أهون من الصعود وما يزعمه من لا علم عنده بكتاب الله تعالى من أن قوله - جل وعلا - : يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان [ 55 \ 33 ] يشير إلى الوصول إلى السماء بدعوى أن المراد بالسلطان في الآية هو هذا العلم الحادث الذي من نتائجه الصواريخ والأقمار الصناعية . وإذا فإن الآية قد تكون فيها الدلالة على أنهم ينفذون بذلك العلم من أقطار السماوات والأرض مردود من أوجه : الأول : أن معنى الآية الكريمة هو إعلام الله - جل وعلا - خلقه أنهم لا محيص لهم ولا مفر عن قضائه ونفوذ مشيئته فيهم ، وذلك عندما تحف بهم صفوف الملائكة يوم القيامة ، فكلما فروا إلى جهة وجدوا صفوف الملائكة أمامهم ، ويقال لهم في ذلك الوقت يامعشر الجن والإنس [ 55 \ 33 ] والسلطان : قيل الحجة والبينة ، وقيل الملك والسلطنة ، وكل ذلك معدوم عندهم يوم القيامة فلا نفوذ لهم كما قال تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقال : إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم [ 40 \ 32 - 33 ] .
الوجه الثاني : أن الجن أعطاهم الله القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السماوات والأرض ، وكانوا يسترقون السمع من السماء كما صرح به تعالى في قوله عنهم : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع . الآية [ 72 \ 9 ] وإنما منعوا من ذلك حين بعث - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] فالجن كانوا قادرين على بلوغ السماء من غير حاجة إلى صاروخ ولا قمر صناعي ، فلو كان معنى الآية هو ما يزعمه أولئك الذين لا علم لهم بكتاب الله لم يقل - جل وعلا - يا معشر الجن ; لأنهم كانوا ينفذون إلى السماء قبل حدوث السلطان المزعوم .
الوجه الثالث : أن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية أهون على الله - جل وعلا - من أن يطلق عليه اسم السلطان ; لأنه لا يجاوز أغراض هذه الحياة الدنيا ولا نظر فيه [ ص: 262 ] ألبتة لما بعد الموت . ولأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة .
وقد نص تعالى على كمال حقارتها عنده في قوله - جل وعلا - : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله للمتقين [ 43 \ 33 - 35 ] وعلم هؤلاء الكفار نفي الله عنه اسم العلم الحقيقي ، وأثبت له أنه علم ظاهر من الحياة الدنيا وذلك في قوله : وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 \ 6 - 7 ] فحذق الكفار في الصناعات اليدوية كحذق بعض الحيوانات في صناعتها ، بإلهام الله لها ذلك ، فالنحل تبني بيت عسلها على صورة شكل مسدس ، يحار فيه حذاق المهندسين . ولما أرادوا أن يتعلموا منها كيفية ذلك البناء ، وجعلوها في أجباح زجاج لينظروا إلى كيفية بنائها ، أبت أن تعلمهم ، فطلت الزجاج بالعسل قبل البناء ، كيلا يروا كيفية بنائها ، كما أخبرتنا الثقة بذلك .
الوجه الرابع : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن ذلك المعنى المزعوم كذبا هو معنى الآية ، فإن الله أتبع ذلك بقوله يرسل عليكما شواظ من نار الآية [ 55 \ 35 ] فهو يدل على ذلك التقدير على أنهم لو أرادوا النفوذ في أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس ، والشواظ اللهب الخالص ، والنحاس الدخان ومنه قول النابغة :
يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا
وكذلك ما يزعمه بعض من لا علم له بمعنى كتاب الله من أن الله أشار إلى اتصال أهل السماوات وأهل الأرض بقوله تعالى : قال ربي يعلم القول في السماء والأرض [ 21 \ 4 ] بصيغة الأمر في لفظة قل على قراءة الجمهور ، وبصيغة الماضي قال ربي يعلم الآية . في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، فإن الآية الكريمة لا تدل على ذلك لا بدلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ; لأن غاية ما تفيده الآية الكريمة أن الله - جل وعلا - أمر نبيه أن يقول إن ربه يعلم كل ما يقوله أهل السماء وأهل الأرض ، على قراءة الجمهور وعلى قراءة الأخوين وحفص ، فمعنى الآية أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر قائلا إن ربه - جل وعلا - يعلم كل ما يقال في السماء والأرض ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، ولا شك أنه - جل وعلا - عالم بكل أسرار أهل السماء والأرض وعلانياتهم ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .
وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله - جل وعلا - من أنه تعالى أشار [ ص: 263 ] إلى أن أهل الأرض سيصعدون إلى السماوات واحدة بعد أخرى بقوله : لتركبن طبقا عن طبق [ 84 \ 19 ] زاعما أن معنى الآية الكريمة لتركبن أيها الناس طبقا أي سماء عن طبق أي بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماوات ، فهو أيضا جهل بكتاب الله وحمل له على غير ما يراد به .
اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين مشهورتين ، إحداهما : لتركبن بفتح الباء وبها قرأ من السبعة ابن كثير وحمزة والكسائي ، وعلى هذه القراءة ففي فاعل لتركبن ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء الأول وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : لتركبن أنت يا نبي الله طبقا عن طبق أي بعد طبق أي حالا بعد حال أي فتترقى في الدرجات درجة بعد درجة ، والطبق في لغة العرب الحال ومنه قول الأقرع بن حابس التميمي :
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منها إلى طبق
وقول الآخر :
كذلك المرء إن ينسأ له أجل يركب على طبق من بعده طبق
أي : حال بعد حال في البيتين ، وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكلبي وغيرهم لتركبن طبقا عن طبق [ 84 \ 19 ] أي لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء ، وقد وقع ذلك ليلة الإسراء .
والثاني أن الفاعل ضمير السماء أي لتركبن هي أي السماء طبقا بعد طبق ، أي لتنتقلن السماء من حال إلى حال ، أي تصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتارة تتشقق بالغمام وتارة تطوى كطي السجل للكتب .
والثالث أن الفاعل ضمير يعود إلى الإنسان المذكور في قوله ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا [ 84 \ 6 ] أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من صغر إلى كبر ومن صحة إلى سقم كالعكس ، ومن غنى إلى فقر كالعكس ، ومن موت إلى حياة كالعكس ، ومن هول من أهوال القيامة إلى آخر وهكذا ، والقراءة الثانية وبها قرأ من السبعة نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ( لتركبن ) بضم الباء وهو خطاب عام للناس [ ص: 264 ] المذكورين في قوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله وأما من أوتي كتابه وراء ظهره [ 84 \ 7 - 10 ] ومعنى الآية لتركبن أيها الناس حالا بعد حال ، فتنتقلون في دار الدنيا من طور إلى طور ، وفي الآخرة من هول إلى هول ، فإن قيل يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن على قراءة ضم الباء أن يكون المعنى لتركبن أيها الناس طبقا بعد طبق أي سماء بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماء السابعة كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان هذا جائزا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق الحال المنتقل إليها من موت ونحوه وهول القيامة ، بدليل قوله بعده مرتبا له عليه بالفاء فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون [ 84 \ 20 - 21 ] فهو قرينة ظاهرة على أن المراد إذا كانوا ينتقلون من حال إلى حال ، ومن هول إلى هول ، فما المانع لهم من أن يؤمنوا ويستعدوا لتلك الشدائد ، ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي بنات طبق ، كما هو معروف في لغتهم .
الوجه الثاني : أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب ، وهم أولى الناس بالدخول فيه بحسب الوضع العربي ، ولم يركب أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين ، فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية ولو كان هو معناها لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك .
الوجه الثالث : هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنا من كان ، فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق . والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة ، وكذلك ما يزعمه بعض من ليس له علم بمعنى كتاب الله - جل وعلا - من أن الله تعالى أشار إلى بلوغ أهل الأرض إلى السماوات بقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية [ 45 \ 13 ] فقالوا : تسخيره - جل وعلا - ما في السماوات لأهل الأرض دليل على أنهم سيبلغون السماوات ، والآية الكريمة لا تدل على ذلك الذي زعموا أنها تدل عليه ; لأن القرآن بين في آيات كثيرة كيفية تسخير ما في السماء لأهل الأرض ، فبين أن تسخير الشمس والقمر لمنافعهم ، وانتشار الضوء عليهم ، ولكي يعلموا عدد السنين والحساب كما قال تعالى : وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار الآية [ 14 \ 33 ] [ ص: 265 ] ومنافع الشمس والقمر اللذين سخرهما الله لأهل الأرض لا يحصيها إلا الله كما هو معروف وقال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب [ 10 \ 5 ] ، وقال تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ 17 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لذلك التسخير لأهل الأرض . وكذلك سخر لأهل الأرض النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر كما قال تعالى : والنجوم مسخرات بأمره الآية [ 16 \ 12 ] وقال تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الآية [ 6 \ 97 ] وقال : وعلامات وبالنجم هم يهتدون الآية [ 16 \ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات . فهذا هو تسخير ما في السماء لأهل الأرض وخير ما يفسر به القرآن . ومما يوضح ما ذكرنا أن المخاطبين الأولين بقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض الآية [ 45 \ 13 ] وهم الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسخر لهم شيء مما في السماوات إلا هذا التسخير الذي ذكرنا ، الذي بينه القرآن العظيم في آيات كثيرة . فلو كان يراد به التسخير المزعوم عن طريق الصواريخ والأقمار الصناعية لدخل فيه المخاطبون الأولون كما هو ظاهر ، وكذلك قوله وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، فإن معنى مرورهم على ما في السماوات من الآيات نظرهم إليها كما بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض الآية [ 7 \ 185 ] وقوله : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية [ 10 \ 101 ] وقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم - وفقني الله وإياك - أن التلاعب بكتاب الله - جل وعلا - وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء كفرة الإفرنج ، ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة ، وإنما فيه فساد الدارين ، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه ، نحض جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم ، كما قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] كما سترى بسطه إن شاء الله في سورة بني إسرائيل .
فإن قيل . هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في [ ص: 266 ] حفظها من استراق السمع ، وذلك إنما يكون من شياطين الجن ، فدل ذلك على اختصاص الآيات المذكورة بشياطين الجن ؟ فالجواب : أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار . قال في لسان العرب : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان . وقال في القاموس : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة اه .
ولا شك أن من أشد الكفار تمردا وعتوا الذين يحاولون بلوغ السماء ، فدخولهم في اسم الشيطان لغة لا شك فيه ، وإذا كان لفظ الشيطان يعم كل متمرد عات فقوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] صريح في حفظ السماء من كل متمرد عات كائنا من كان ، وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب ، إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول . وحفظ السماء من الشياطين معناه حراستها منهم ، قال الجوهري في صحاحه : حفظت الشيء حفظا أي حرسته اه . وقال صاحب لسان العرب : وحفظت الشيء حفظا أي حرسته اه . وهذا معروف في كلام العرب ، فيكون مدلول هذه الآية بدلالة المطابقة وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] أي وحرسناها أي السماء من كل عات متمرد .
ولا مفهوم مخالفة لقوله رجيم [ 15 \ 17 ] وقوله مارد [ 37 \ 7 ] لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة فكل شيطان يوصف بأنه رجيم وبأنه مارد ، وإن كان بعضهم أقوى تمردا من بعض ، وما حرسه الله - جل وعلا - من كل عات متمرد ، لا شك أنه لا يصل إليه عات متمرد كائنا من كان ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 4 ] والعلم عند الله تعالى . اه
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (142)
سُورَةُ الْحِجْرِ(3)
صـ 261 إلى صـ 265
قال مقيده - عفا الله عنه - : ظاهر الآية الكريمة أن الله بث في السماء دواب كما بث في [ ص: 261 ] الأرض دواب . ولا شك أن الله قادر على جمع أهل السماوات وأهل الأرض وعلى كل شيء ، ولكن الآيات القرآنية التي ذكرنا بينت أن المراد بجمعهم حشرهم جميعا يوم القيامة ، وقد أطبق على ذلك المفسرون ، ولو سلمنا تسليما جدليا أنها تدل على جمعهم في الدنيا ، فلا يلزم من ذلك بلوغ أهل الأرض إلى أهل السماء ، بل يجوز عقلا أن ينحدر من في السماء إلى من في الأرض ; لأن الهبوط أهون من الصعود وما يزعمه من لا علم عنده بكتاب الله تعالى من أن قوله - جل وعلا - : يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان [ 55 \ 33 ] يشير إلى الوصول إلى السماء بدعوى أن المراد بالسلطان في الآية هو هذا العلم الحادث الذي من نتائجه الصواريخ والأقمار الصناعية . وإذا فإن الآية قد تكون فيها الدلالة على أنهم ينفذون بذلك العلم من أقطار السماوات والأرض مردود من أوجه : الأول : أن معنى الآية الكريمة هو إعلام الله - جل وعلا - خلقه أنهم لا محيص لهم ولا مفر عن قضائه ونفوذ مشيئته فيهم ، وذلك عندما تحف بهم صفوف الملائكة يوم القيامة ، فكلما فروا إلى جهة وجدوا صفوف الملائكة أمامهم ، ويقال لهم في ذلك الوقت يامعشر الجن والإنس [ 55 \ 33 ] والسلطان : قيل الحجة والبينة ، وقيل الملك والسلطنة ، وكل ذلك معدوم عندهم يوم القيامة فلا نفوذ لهم كما قال تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقال : إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم [ 40 \ 32 - 33 ] .
الوجه الثاني : أن الجن أعطاهم الله القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السماوات والأرض ، وكانوا يسترقون السمع من السماء كما صرح به تعالى في قوله عنهم : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع . الآية [ 72 \ 9 ] وإنما منعوا من ذلك حين بعث - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] فالجن كانوا قادرين على بلوغ السماء من غير حاجة إلى صاروخ ولا قمر صناعي ، فلو كان معنى الآية هو ما يزعمه أولئك الذين لا علم لهم بكتاب الله لم يقل - جل وعلا - يا معشر الجن ; لأنهم كانوا ينفذون إلى السماء قبل حدوث السلطان المزعوم .
الوجه الثالث : أن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية أهون على الله - جل وعلا - من أن يطلق عليه اسم السلطان ; لأنه لا يجاوز أغراض هذه الحياة الدنيا ولا نظر فيه [ ص: 262 ] ألبتة لما بعد الموت . ولأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة .
وقد نص تعالى على كمال حقارتها عنده في قوله - جل وعلا - : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله للمتقين [ 43 \ 33 - 35 ] وعلم هؤلاء الكفار نفي الله عنه اسم العلم الحقيقي ، وأثبت له أنه علم ظاهر من الحياة الدنيا وذلك في قوله : وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 \ 6 - 7 ] فحذق الكفار في الصناعات اليدوية كحذق بعض الحيوانات في صناعتها ، بإلهام الله لها ذلك ، فالنحل تبني بيت عسلها على صورة شكل مسدس ، يحار فيه حذاق المهندسين . ولما أرادوا أن يتعلموا منها كيفية ذلك البناء ، وجعلوها في أجباح زجاج لينظروا إلى كيفية بنائها ، أبت أن تعلمهم ، فطلت الزجاج بالعسل قبل البناء ، كيلا يروا كيفية بنائها ، كما أخبرتنا الثقة بذلك .
الوجه الرابع : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن ذلك المعنى المزعوم كذبا هو معنى الآية ، فإن الله أتبع ذلك بقوله يرسل عليكما شواظ من نار الآية [ 55 \ 35 ] فهو يدل على ذلك التقدير على أنهم لو أرادوا النفوذ في أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس ، والشواظ اللهب الخالص ، والنحاس الدخان ومنه قول النابغة :
يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا
وكذلك ما يزعمه بعض من لا علم له بمعنى كتاب الله من أن الله أشار إلى اتصال أهل السماوات وأهل الأرض بقوله تعالى : قال ربي يعلم القول في السماء والأرض [ 21 \ 4 ] بصيغة الأمر في لفظة قل على قراءة الجمهور ، وبصيغة الماضي قال ربي يعلم الآية . في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، فإن الآية الكريمة لا تدل على ذلك لا بدلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ; لأن غاية ما تفيده الآية الكريمة أن الله - جل وعلا - أمر نبيه أن يقول إن ربه يعلم كل ما يقوله أهل السماء وأهل الأرض ، على قراءة الجمهور وعلى قراءة الأخوين وحفص ، فمعنى الآية أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر قائلا إن ربه - جل وعلا - يعلم كل ما يقال في السماء والأرض ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، ولا شك أنه - جل وعلا - عالم بكل أسرار أهل السماء والأرض وعلانياتهم ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .
وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله - جل وعلا - من أنه تعالى أشار [ ص: 263 ] إلى أن أهل الأرض سيصعدون إلى السماوات واحدة بعد أخرى بقوله : لتركبن طبقا عن طبق [ 84 \ 19 ] زاعما أن معنى الآية الكريمة لتركبن أيها الناس طبقا أي سماء عن طبق أي بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماوات ، فهو أيضا جهل بكتاب الله وحمل له على غير ما يراد به .
اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين مشهورتين ، إحداهما : لتركبن بفتح الباء وبها قرأ من السبعة ابن كثير وحمزة والكسائي ، وعلى هذه القراءة ففي فاعل لتركبن ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء الأول وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : لتركبن أنت يا نبي الله طبقا عن طبق أي بعد طبق أي حالا بعد حال أي فتترقى في الدرجات درجة بعد درجة ، والطبق في لغة العرب الحال ومنه قول الأقرع بن حابس التميمي :
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منها إلى طبق
وقول الآخر :
كذلك المرء إن ينسأ له أجل يركب على طبق من بعده طبق
أي : حال بعد حال في البيتين ، وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكلبي وغيرهم لتركبن طبقا عن طبق [ 84 \ 19 ] أي لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء ، وقد وقع ذلك ليلة الإسراء .
والثاني أن الفاعل ضمير السماء أي لتركبن هي أي السماء طبقا بعد طبق ، أي لتنتقلن السماء من حال إلى حال ، أي تصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتارة تتشقق بالغمام وتارة تطوى كطي السجل للكتب .
والثالث أن الفاعل ضمير يعود إلى الإنسان المذكور في قوله ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا [ 84 \ 6 ] أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من صغر إلى كبر ومن صحة إلى سقم كالعكس ، ومن غنى إلى فقر كالعكس ، ومن موت إلى حياة كالعكس ، ومن هول من أهوال القيامة إلى آخر وهكذا ، والقراءة الثانية وبها قرأ من السبعة نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ( لتركبن ) بضم الباء وهو خطاب عام للناس [ ص: 264 ] المذكورين في قوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله وأما من أوتي كتابه وراء ظهره [ 84 \ 7 - 10 ] ومعنى الآية لتركبن أيها الناس حالا بعد حال ، فتنتقلون في دار الدنيا من طور إلى طور ، وفي الآخرة من هول إلى هول ، فإن قيل يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن على قراءة ضم الباء أن يكون المعنى لتركبن أيها الناس طبقا بعد طبق أي سماء بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماء السابعة كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان هذا جائزا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق الحال المنتقل إليها من موت ونحوه وهول القيامة ، بدليل قوله بعده مرتبا له عليه بالفاء فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون [ 84 \ 20 - 21 ] فهو قرينة ظاهرة على أن المراد إذا كانوا ينتقلون من حال إلى حال ، ومن هول إلى هول ، فما المانع لهم من أن يؤمنوا ويستعدوا لتلك الشدائد ، ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي بنات طبق ، كما هو معروف في لغتهم .
الوجه الثاني : أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب ، وهم أولى الناس بالدخول فيه بحسب الوضع العربي ، ولم يركب أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين ، فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية ولو كان هو معناها لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك .
الوجه الثالث : هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنا من كان ، فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق . والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة ، وكذلك ما يزعمه بعض من ليس له علم بمعنى كتاب الله - جل وعلا - من أن الله تعالى أشار إلى بلوغ أهل الأرض إلى السماوات بقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية [ 45 \ 13 ] فقالوا : تسخيره - جل وعلا - ما في السماوات لأهل الأرض دليل على أنهم سيبلغون السماوات ، والآية الكريمة لا تدل على ذلك الذي زعموا أنها تدل عليه ; لأن القرآن بين في آيات كثيرة كيفية تسخير ما في السماء لأهل الأرض ، فبين أن تسخير الشمس والقمر لمنافعهم ، وانتشار الضوء عليهم ، ولكي يعلموا عدد السنين والحساب كما قال تعالى : وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار الآية [ 14 \ 33 ] [ ص: 265 ] ومنافع الشمس والقمر اللذين سخرهما الله لأهل الأرض لا يحصيها إلا الله كما هو معروف وقال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب [ 10 \ 5 ] ، وقال تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ 17 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لذلك التسخير لأهل الأرض . وكذلك سخر لأهل الأرض النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر كما قال تعالى : والنجوم مسخرات بأمره الآية [ 16 \ 12 ] وقال تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الآية [ 6 \ 97 ] وقال : وعلامات وبالنجم هم يهتدون الآية [ 16 \ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات . فهذا هو تسخير ما في السماء لأهل الأرض وخير ما يفسر به القرآن . ومما يوضح ما ذكرنا أن المخاطبين الأولين بقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض الآية [ 45 \ 13 ] وهم الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسخر لهم شيء مما في السماوات إلا هذا التسخير الذي ذكرنا ، الذي بينه القرآن العظيم في آيات كثيرة . فلو كان يراد به التسخير المزعوم عن طريق الصواريخ والأقمار الصناعية لدخل فيه المخاطبون الأولون كما هو ظاهر ، وكذلك قوله وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، فإن معنى مرورهم على ما في السماوات من الآيات نظرهم إليها كما بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض الآية [ 7 \ 185 ] وقوله : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية [ 10 \ 101 ] وقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم - وفقني الله وإياك - أن التلاعب بكتاب الله - جل وعلا - وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء كفرة الإفرنج ، ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة ، وإنما فيه فساد الدارين ، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه ، نحض جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم ، كما قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] كما سترى بسطه إن شاء الله في سورة بني إسرائيل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (143)
سُورَةُ الْحِجْرِ(4)
صـ 266 إلى صـ 270
فإن قيل . هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في [ ص: 266 ] حفظها من استراق السمع ، وذلك إنما يكون من شياطين الجن ، فدل ذلك على اختصاص الآيات المذكورة بشياطين الجن ؟ فالجواب : أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار . قال في لسان العرب : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان . وقال في القاموس : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة اه .
ولا شك أن من أشد الكفار تمردا وعتوا الذين يحاولون بلوغ السماء ، فدخولهم في اسم الشيطان لغة لا شك فيه ، وإذا كان لفظ الشيطان يعم كل متمرد عات فقوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] صريح في حفظ السماء من كل متمرد عات كائنا من كان ، وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب ، إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول . وحفظ السماء من الشياطين معناه حراستها منهم ، قال الجوهري في صحاحه : حفظت الشيء حفظا أي حرسته اه . وقال صاحب لسان العرب : وحفظت الشيء حفظا أي حرسته اه . وهذا معروف في كلام العرب ، فيكون مدلول هذه الآية بدلالة المطابقة وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] أي وحرسناها أي السماء من كل عات متمرد .
ولا مفهوم مخالفة لقوله رجيم [ 15 \ 17 ] وقوله مارد [ 37 \ 7 ] لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة فكل شيطان يوصف بأنه رجيم وبأنه مارد ، وإن كان بعضهم أقوى تمردا من بعض ، وما حرسه الله - جل وعلا - من كل عات متمرد ، لا شك أنه لا يصل إليه عات متمرد كائنا من كان ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 4 ] والعلم عند الله تعالى . اه
قوله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح . اللواقح جمع لاقح ، وأصل اللاقح التي قبلت اللقاح فحملت الجنين ، ومنه قول ذي الرمة :
إذا قلت عاج أو تفتيت أبرقت بمثل الخوافي لاقحا أو تلقح
وأصل تلقح : تتلقح ، حذفت إحدى التاءين ، أي توهم أنها لاقح وليس كذلك ، ووصف الرياح بكونها لواقح ; لأنها حوامل تحمل المطر كما قال تعالى حتى إذا أقلت سحابا ثقالا [ 7 \ 57 ] [ ص: 267 ] أي حملت سحابا ثقالا ، فاللواقح من الإبل حوامل الأجنة ، واللواقح من الريح حوامل المطر ، فالجميع يأتي بخير ، ولذا كانت الناقة التي لا تلد يقال لها عقيم ، كما أن الريح التي لا خير فيها يقال لها عقيم كما قال تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم الآية [ 51 \ 41 ] وقال بعض العلماء : اللواقح بمعنى الملاقح ، أي التي تلقح غيرها من السحاب والشجر ، وعلى هذا ففيه وجهان : أحدهما : أن المراد النسبة ، فقوله : لواقح ، أي ذوات لقاح كما يقال : سائف ورامح ، أي ذو سيف ورمح ومن هذا قول الشاعر : وغررتني وزعمت أنك لابن في الحي تامر أي ذو لبن وتمر ، وعلى هذا فمعنى لواقح أي ذوات لقاح ، لأنها تلقح السحاب والشجر .
الوجه الثاني : أن لواقح بمعنى ملاقح جمع ملقحة ، وملقح اسم فاعل ألقحت السحاب والشجر كما يلقح الفحل الأنثى ، وغاية ما في هذا القول إطلاق لواقح وإرادة ملاقح ، ونظيره قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره :
ليبك يزيد ضارع لخصومة
ومختبط مما تطيح الطوائح
فإن الرواية تطيح بضم التاء من أطاح الرباعي ، والمناسب لذلك المطيحات لا الطوائح ، ولكن الشاعر أطلق الطوائح وأراد المطيحات ، كما قيل هنا بإطلاق اللواقح وإرادة الملاقح أي الملقحات باسم الفاعل ، ومعنى إلقاح الرياح السحاب والشجر ، أن الله يجعلها لهما كما يجعل الذكر للأنثى ، فكما أن الأنثى تحمل بسبب ضراب الفحل ، فكذلك السحاب يمتلئ ماء بسبب مري الرياح له ، والشجر ينفتق عن أكمامه وأوراقه بسبب إلقاح الريح له . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة وأرسلنا الرياح لواقح [ 15 \ 22 ] أي تلقح السحاب فتدر ماء ، وتلقح الشجر فتنفتح عن أوراقها وأكمامها ، وقال السيوطي في الدر المنثور : " وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله وأرسلنا الرياح لواقح قال : يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فيدر كما تدر اللقحة ثم يمطر " . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يرسل الله الريح ، فتحمل الماء من السحاب ، فتمري به السحاب ، فيدر كما تدر [ ص: 268 ] اللقحة . وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح ، قال : تلقح الشجرة وتمري السحاب : وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رجاء - رضي الله عنه - قال قلت للحسن - رضي الله عنه - : وأرسلنا الرياح لواقح قال : لواقح للشجر ، قلت : أو السحاب ، قال : وللسحاب تمر به حتى يمطر . وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح قال : تلقح الماء في السحاب . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح قال : الريح يبعثها الله على السحاب ، فتلقحه فيمتلئ ماء . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب ، وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " ريح الجنوب من الجنة " وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس ، والشمال من النار تخرج فتمر بالجنة ، فيصيبها نفخة منها فبردها هذا من ذلك . وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ، والجنوب من الجنة ، وهي الريح اللواقح " .
هذا حاصل معنى كلام العلماء في الرياح اللواقح ، وقد قدمنا قول من قال : إن اللواقح هي حوامل المطر ، وأن ذلك القول يدل له قوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا [ 7 \ 57 ] أي حملتها ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ، أن يكون للشيء أوصاف ، فيذكر بعضها في موضع ، فإنا نبين بقية تلك الأوصاف المذكورة في مواضع أخر ، ومثلنا لذلك بظل أهل الجنة فإنه تعالى وصفه في سورة النساء بأنه ظليل في قوله : وندخلهم ظلا ظليلا [ 4 \ 57 ] وقد وصفه بأوصاف أخر في مواضع أخر ، وقد بينا صفات ظل أهل الجنة المذكورة في غير ذلك الموضع كقوله : أكلها دائم وظلها [ 13 \ 35 ] وقوله : وظل ممدود [ 56 ] إلى غير ذلك من أوصافه ، وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى وصف الرياح في هذه الآية بكونها لواقح ، وقد بينا معنى ذلك آنفا ، ووصفها في مواضع أخر بأوصاف أخر ، من ذلك وصفه لها بأنها تبشر بالسحاب في قوله :ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات [ 30 \ 46 ] وقوله : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته على قراءة من قرأها بالباء ، ومن ذلك وصفه لها بإثارة السحاب كقوله : الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا الآية [ 25 \ 48 ] [ ص: 269 ] وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبيد بن عمير قال " يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما ، ثم يبعث المبشرة فتثير السحاب ، فيجعله كسفا ، ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه ، فيجعله ركاما ، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر "
وأخرج ابن المنذر بن عمير قال : " الأرواح أربعة : ريح تقم ، وريح تثير تجعله كسفا ، وريح تجعله ركاما ، وريح تمطر " اه .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى : أخذ مالك - رحمه الله - من هذه الآية الكريمة أن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك واللفظ لأشهب .
قال مالك : قال الله تعالى وأرسلنا الرياح لواقح [ 15 \ 22 ] فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ، ولا أدري ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس لم يكن فسادا لا خير فيه ، ولقاح الشجر كلها أن تثمر ، ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت منها ما يثبت ، وليس ذلك بأن تورد . قال ابن العربي : إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل ، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله ; لأنه سمي باسم تشترك فيه كل حاملة ، وعليه جاء الحديث : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحب حتى يشتد " اه من القرطبي .
قال مقيده - عفا الله عنه - : استنباط الإمام مالك المذكور من هذه الآية ، لأن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل ، واستدلال ابن العربي له بالحديث المذكور ليس بظاهر عندي كل الظهور .
المسألة الثانية : اعلم أن تلقيح الثمار هو إبارها ، وهو أن يؤخذ شيء من طلع ذكور النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث ، ومعنى ذلك في سائر الثمار طلوع الثمار من التين وغيره ، حتى تكون الثمرة مرئية منظورا إليها . والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير ، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط ، وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض ، قاله مالك . وقد روي عنه أن إباره أن يحبب اه ، قاله القرطبي . وقال أيضا : لم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه ، فأخر إباره ، وقد أبر غيره مما حاله مثل حاله ، أن حكمه حكم ما أبر ، فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعا له ، كما أن [ ص: 270 ] الحائط إذا بدا صلاح بعضه كان سائر الحائط تبعا لذلك الصلاح في جواز بيعه اه . وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح .
المسألة الثالثة : إذا بيع حائط نخل بعد أن أبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ، فإن اشترطها المبتاع فهي له ، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع الذي باعها إلا أن يشترطها المبتاع " متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - . فإن بيعت النخل قبل التأبير فالثمرة للمشتري ، واختلف في استثناء البائع لها ، فمشهور مذهب مالك أنها كالجنين لا يجوز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها بناء على أن المستثنى مشترى ، خلافا لتصحيح اللخمي جواز استثناء البائع لها بناء على أن المستثنى مبقى ، وجواز استثنائها هو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وهو أظهر عندي ; لأن كون المستثنى مبقى أظهر من كونه مشترى لأنه كان مملوكا للبائع ، ولم يزل على ملكه ; لأن البيع لم يتناوله لاستثنائه من جملة المبيع كما ترى . وهذا الذي ذكرنا في هذه المسألة هو الحق إن شاء الله تعالى ، فما أبر فهو للبائع إلا بشرط ، وما لم يؤبر فهو للمشتري إلا بشرط ، خلافا لابن أبي ليلى القائل : هي للمشتري في الحالين ; لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة له كالأغصان . وهذا الاستدلال فاسد الاعتبار ; لمخالفته لحديث ابن عمر المتفق عليه المذكور آنفا ، فقد صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن البيع إن كان وقع بعد التأبير فالثمرة للبائع ، وخلافا للإمام أبي حنيفة والأوزاعي - رحمهما الله تعالى - في قولهما : إنها للبائع في الحالين . والحديث المذكور يرد عليهما ، بدليل خطابه أعني مفهوم مخالفته ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - " من ابتاع نخلا قد أبرت " الحديث . يفهم منه أنها إن كانت غير مؤبرة فليس الحكم كذلك ، وإلا كان قوله " قد أبرت " وقوله " بعد أن تؤبر " في بعض الروايات لغوا لا فائدة فيه ، فيتعين أن ذكر وصف التأبير ليحترز به عن غيره ، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - لا يقول بحجته مفهوم المخالفة ، فالجاري على أصوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور نص على حكم الثمرة المؤبرة ، وسكت عن غير المؤبرة ، فلم يتعرض لها أصلا . وإن أبر بعض الثمرة التي بيعت أصولها ، وبعضها الآخر لم يؤبر ، فمذهب مالك أنه إن كان أحدهما أكثر فالأقل تابع له ، وإن استويا فلكل حكمه ، فالمؤبر للبائع وغيره للمشتري . ومذهب الإمام أحمد أن لكل واحد من المؤبر وغيره حكمه ، وأبو حنيفة لا فرق عنده بين المؤبر وغيره ، فالجميع عنده للبائع إلا إذا اشترطه المبتاع ، ومذهب الشافعي - رحمه الله - الصحيح من الخلاف ، أن ما لم يؤبر تبع للمؤبر [ ص: 271 ] فيبقى الجميع للبائع دفعا لضرر اختلاف الأيدي . واعلم أن استثناء بعض الثمرة دون بعض يجوز في قول جمهور العلماء ، وفاقا لأشهب من أصحاب مالك وخالف ابن القاسم فقال : لا يجوز استثناء بعض المؤبرة . وحجة الجمهور أن ما جاز استثناء جميعه جاز استثناء بعضه ، وحجة ابن القاسم أن النص إنما ورد في اشتراط الجميع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (144)
سُورَةُ الْحِجْرِ(5)
صـ 271 إلى صـ 275
واعلم أن أكثر العلماء على أن الثمرة المؤبرة التي هي للبائع إن لم يستثنها المشتري ، فإنها تبقى إلى وقت الانتفاع المعتاد بها ، ولا يكلفه المشتري بقطعها في الحال ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد . وخالف في ذلك أبو حنيفة قائلا : يلزم قطعها في الحال وتفريغ النخل منها ; لأنه مبيع مشغول بملك البائع ، فلزم نقله وتفريغه منه ، كما لو باع دارا فيها طعام أو قماش له . واحتج الجمهور بأن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة ، كما لو باع دارا فيها طعام لم يجب نقله على حسب العادة في ذلك ، وهو أن ينقله نهارا شيئا بعد شيء ، ولا يلزمه النقل ليلا ، ولا جمع دواب البلد لنقله ، كذلك هاهنا يفرغ النخل من الثمرة في أوان وهو وقت الجذاذ ، قاله ابن قدامة في المغني .
المسألة الرابعة : لو اشتريت النخل وبقيت الثمرة للبائع ، فهل لمشتري الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها ؟ أولا : اختلف العلماء في ذلك ، فمشهور مذهب مالك جواز ذلك ; لأن لها عنده حكم التبعية وإن أفردت بالعقد ، وعنه في رواية أخرى : لا يجوز ذلك . وللشافعية والحنابلة وجهان بالمنع والجواز . قال ابن قدامة في المغني : ونسب القرطبي للشافعي وأبي حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث القول بمنع ذلك ثم قال : وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها .
المسألة الخامسة : إذا اشتريت الثمرة وحدها دون الأصل قبل بدو صلاحها فلها ثلاث حالات : الأولى : أن يبيعها بشرط التبقية إلى وقت الجذاذ ، وفي هذه الحالة لا يصح البيع إجماعا . الثانية : أن يبيعها بشرط قطعها في الحال ، وفي هذه الحالة يصح البيع إجماعا . الثالثة : أن يبيعها من غير شرط تبقية ولا قطع ، بل سكتا عن ذلك ، وعقدا البيع مطلقا دون شرط ، وفي هذه الحالة لا يصح البيع عند جمهور العلماء ، منهم : مالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله تعالى - وأجاز أبو حنيفة - رحمه الله - البيع في هذه الحالة ، وأوجب قطع الثمرة حالا ، قال : لأن إطلاق العقد يقتضي القطع ، فهو كما لو اشترطه ، وحجة الجمهور إطلاق النصوص الواردة بذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما أخرجه الشيخان [ ص: 272 ] والإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمبتاع ، وفي لفظ : نهى عن بيع النخل حتى تزهو ، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة . رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه . ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تزهي ، قيل وما زهوتها ؟ قال تحمار وتصفار " . ومن ذلك أيضا ما رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها " . ومن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب حتى يسود ، وعن بيع الحب حتى يشتد " .
فإطلاقات هذه النصوص ونحوها تدل على منع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها في حالة الإطلاق وعدم الاشتراط كما تقدم .
وقرأ هذه الآية الكريمة جماهير القراء وأرسلنا الرياح بصيغة الجمع وقرأها حمزة وأرسلنا الريح بالإفراد ، والألف على قراءة حمزة للجنس ، ولذلك صح الجمع في قوله لواقح قال أبو حيان في البحر المحيط : ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس ، كما قالوا أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض اه والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه . بين تعالى في هذه الآية الكريمة عظيم منته بإنزال الماء من السماء ، وجعله إياه عذبا صالحا للسقيا ، وبين ذلك أيضا في مواضع أخر كقوله أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون [ 56 \ 68 - 70 ] وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات [ 16 \ 10 - 11 ] وقوله وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا [ 25 \ 48 - 49 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والتحقيق أن أسقى وسقى لغتان معناهما واحد كأسرى وسرى ، والدليل على ذلك [ ص: 273 ] القراءتان السبعيتان في قوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه [ 16 \ 66 ] فإنه قرأه بعض السبعة بضم النون من أسقى الرباعي ، وقرأه بعضهم بفتحها من سقى الثلاثي ، ويدل على ذلك أيضا قول لبيد :
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
قوله تعالى : وما أنتم له بخازنين .
فيه للعلماء وجهان من التفسير كلاهما يشهد له قرآن الأول : أن معنى وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] أي ليست خزائنه عندكم بل نحن الخازنون له ، ننزله متى شئنا ، وهذا الوجه تدل عليه آيات كقوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] وقوله : ولله خزائن السماوات والأرض الآية [ 63 \ 7 ] ونحو ذلك من الآيات ، الوجه الثاني : أن معنى وما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم ، أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والعيون والغدران ، بل نحن الحافظون له فيها ، ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] وقوله : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 ] وقوله : أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا [ 18 \ 41 ] وقوله : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض الآية [ 39 \ 21 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإنا لنحن نحي ونميت .
بين في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يحيي ويميت ، وأوضح ذلك من آيات كثيرة كقوله : إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير [ 50 \ 43 ] وقوله تعالى : ربي الذي يحيي ويميت [ 2 \ 258 ] وقوله لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين [ 44 \ 8 ] وبين في مواضع أخر أنه أحياهم مرتين وأماتهم مرتين كقوله : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين [ 40 \ 11 ] وقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم الآية [ 2 \ 28 ] والإماتة الأولى هي كونهم نطفا وعلقا ومضغا ، والإماتة الثانية هي موتهم عند انقضاء آجالهم في الدنيا ، والإحياءة الأولى نفخ الروح فيهم وإخراجهم أحياء من بطون أمهاتهم ، والإحياءة الثانية بعثهم من قبورهم أحياء يوم القيامة ، وسيأتي له إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح .
[ ص: 274 ] قوله تعالى : ونحن الوارثون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه الوارث ، ولم يبين الشيء الذي يرثه ، وبين في مواضع أخر أنه يرث الأرض ومن عليها كقوله : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون [ 19 \ 40 ] وقوله : ونرثه ما يقول ويأتينا فردا [ 19 \ 80 ] ومعنى ما يقول : أي نرثه الذي يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من المال والولد ، كما ذكره الله عنه في قوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ومعنى كونه يرث الأرض ومن عليها أنه يبقى بعد فناء خلقه متصفا بصفات الكمال والجلال يفعل ما يشاء كيف يشاء .
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه خلق أبانا آدم من صلصال من حمأ مسنون ، والصلصال الطين اليابس الذي يصل أي يصوت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسه النار ، فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار ، وأصل الصليل والصلصلة واحد ، والفرق بينهما أنك إذا توهمت في الصوت مدا فهو صليل ، وإذا توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة ، والحمأ : الطين الأسود المتغير ، والمسنون قيل : المصور من سنة الوجه وهي صورته ، ومنه قول ذي الرمة :
تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن معنى المسنون وأجابه بأن معناه المصور قال له : وهل تعرف العرب ذلك ؟ فقال له ابن عباس : نعم ، أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - وهو يمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
أغر كأن البدر سنة وجهه جلا الغيم عنه ضوءه فتبددا
وقيل المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها ، وقيل : المسنون المنتن ، وقال بعض العلماء : المسنون الأملس ، قال : ومنه قول عبد الرحمن بن حسان : ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشي في مرمر مسنون أي أملس صقيل ، قاله ابن كثير ، وقال مجاهد : الصلصال هو المنتن ، وما قدمنا هو الحق بدليل قوله تعالى : خلق الإنسان من صلصال كالفخار [ 55 \ 14 ] إذا عرفت هذا فاعلم أن الله - جل وعلا - أوضح في كتابه أطوار هذا الطين الذي خلق منه آدم ، فبين أنه [ ص: 275 ] أولا تراب بقوله : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] وقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] وقوله : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 40 \ 67 ] إلى غير ذلك من الآيات ، ثم أشار إلى أن ذلك التراب بل فصار طينا يعلق بالأيدي في مواضع أخر كقوله : إنا خلقناهم من طين لازب [ 37 \ 11 ] وقوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ 23 \ 12 ] وقوله : وبدأ خلق الإنسان من طين [ 32 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وبين أن ذلك الطين أسود ، وأنه متغير بقوله هنا من حمإ مسنون وبين أيضا أنه يبس حتى صار صلصالا ، أي تسمع له صلصلة من يبسه بقوله : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال الآية [ 15 \ 26 ] وقوله : خلق الإنسان من صلصال كالفخار الآية [ 55 \ 14 ] والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين . بين في هذه الآية الكريمة أن إبليس أبى أن يسجد لآدم ، وبين في مواضع أخر أنه تكبر عن امتثال أمر ربه ، كقوله في البقرة : إلا إبليس أبى واستكبر الآية [ 2 \ 34 ] وقوله في ص إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين [ 38 \ 74 ] وأشار إلى ذلك هنا بقوله : قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون [ 15 \ 33 ] . كما تقدمت الإشارة إليه .
قوله تعالى قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين . بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه سأل إبليس سؤال توبيخ وتقريع عن الموجب لامتناعه من السجود لآدم الذي أمره به ربه - جل وعلا - وبين أيضا في الأعراف وص أنه وبخه أيضا بهذا السؤال قال في الأعراف قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] وقال في ص : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية [ 38 \ 75 ] وناداه باسمه إبليس في الحجر وص ، ولم يناده به في الأعراف .
قوله تعالى : قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون .
هذا القول الذي ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عن إبليس - لعنه الله - أنه لم يكن ليسجد لبشر مخلوق من الطين ، مقصوده به أنه خير من آدم ; لأن آدم خلق من الطين وهو خلق من النار ، كما يوضحه قوله تعالى : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 38 \ 76 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (145)
سُورَةُ الْحِجْرِ(6)
صـ 276 إلى صـ 280
قوله تعالى : قال فاخرج منها فإنك رجيم .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أمر إبليس بالخروج من الجنة ، مؤكدا أنه رجيم ، وبين في الأعراف أنه خروج هبوط ، وأنه يخرج متصفا بالصغار والذل والهوان بقوله : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] .
قوله تعالى : وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين بين في هذه الآية الكريمة أن اللعنة على إبليس إلى يوم الدين ، وصرح في ص بأن لعنته - جل وعلا - على إبليس إلى يوم الدين بقوله : وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ 38 \ 78 ] وقد قدمنا في الفاتحة بيان يوم الدين .
قوله تعالى قال رب بما أغويتني الآية . قال بعض العلماء هذا قسم من إبليس بإغواء الله له على أنه يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلصين ، ويدل له أنه أقسم بعزته تعالى على ذلك في قوله قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين الآية [ 38 \ 82 ] وقيل : الباء في قوله بما أغويتني [ 15 \ 39 ] سببية .
قوله تعالى : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبليس أخبر أنه سيبذل جهده في إضلال بني آدم حتى يضل أكثرهم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 16 - 17 ] وقوله : وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا الآية [ 4 \ 118 ] وقوله : قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا [ 17 \ 62 ] وهذا قاله إبليس قبل أن يقع ظنا منه أنه يتمكن من إضلال أكثر بني آدم ، وقد بين تعالى أنه صدق ظنه هذا بقوله ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [ 34 \ 20 ] وكل آية فيها ذكر إضلال إبليس لبني آدم بين فيها أن إبليس وجميع من تبعه كلهم في النار ، كما قال هنا وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب الآية [ 15 \ 43 - 44 ] ، وقال في الأعراف : قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين [ 7 \ 18 ] وقال في سورة بني إسرائيل : قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا [ 17 \ 63 ] وقال في ص : قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] .
[ ص: 277 ] قوله تعالى : إلا عبادك منهم المخلصين .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان لما أوعد بأنه سيضل أكثر بني آدم ، استثنى من ذلك عباد الله المخلصين ، معترفا بأنه لا قدرة له على إضلالهم ، ونظيره قوله في ص أيضا قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 - 83 ] وعباد الله المخلصون هم المرادون بالاستثناء في قوله في بني إسرائيل لأحتنكن ذريته إلا قليلا [ 17 \ 62 ] وقوله في سبأ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [ 34 \ 20 ] وهم الذين احترز منهم بقوله ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 17 ] وبين تعالى في مواضع أخر أن الشيطان لا سلطان له على أولئك المخلصين كقوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الآية [ 15 \ 42 ] وقوله : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك الآية [ 34 \ 21 ] . وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] وقوله : المخلصين [ 15 \ 40 ] قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام اسم فاعل ، وقرأه نافع والكوفيون بفتح اللام بصيغة اسم المفعول .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين .
بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين يوم القيامة في جنات وعيون ، ويقال لهم يوم القيامة : ادخلوها بسلام آمنين وذكر في مواضع أخر صفات ثوابهم ، وربما بين بعض تقواهم التي نالوا بها هذا الثواب الجزيل كقوله في الذاريات : إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [ 51 \ 15 - 19 ] وقوله في الدخان : إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم [ 44 \ 51 - 57 ] وقوله في الطور : إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين [ 52 \ 17 - 20 ] .
[ ص: 278 ] وقوله في القمر : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [ 54 \ 54 - 55 ] وقوله في المرسلات : إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون [ 77 \ 41 - 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن الشيء الذي له أوصاف متعددة في القرآن نبين أوصافه عند ذكر بعضها ، كما تقدم مثاله مرارا وكما هنا .
والمتقي اسم فاعل الاتقاء ، وأصل مادة الاتقاء ( و ق ي ) لفيف مفروق فاؤه واو وعينه قاف ولامه ياء ، فدخله تاء الافتعال فصارت وقي أو تقي ، فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء للقاعدة المقررة في التصريف : أن كل واو هي فاء الكلمة إذا دخلت عليها تاء الافتعال يجب إبدالها - أعني الواو - تاء وإدغامها في تاء الافتعال نحو اتصل من الوصل واتزن من الوزن واتحد من الوحدة واتقى من الوقاية وعقد هذه القاعدة ابن مالك في الخلاصة بقوله :
ذو اللين فاتا في افتعال أبدلا وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا
والاتقاء في اللغة : اتخاذ الوقاية دون المكروه ، ومنه قول نابغة ذبيان :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
يعني استقبلتنا بيدها جاعلة إياها وقاية تقيها من أن ننظر إلى وجهها لأنها تستره بها ، وقول الآخر : فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم والتقوى في اصطلاح الشرع : هي اتخاذ الوقاية دون عذاب الله وسخطه ، وهي مركبة من أمرين هما : امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه .
قوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من الغل ، في حال كونهم إخوانا ، وبين هذا المعنى في الأعراف ، وزاد أنهم تجري من تحتهم الأنهار في نعيم الجنة وذلك في قوله : ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا [ 7 \ 43 ] .
[ ص: 279 ] قوله تعالى : على سرر متقابلين .
بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين الذين هم أهل الجنة يوم القيامة يكونون على سرر ، وأنهم متقابلون ينظر بعضهم إلى وجه بعض ، ووصف سررهم بصفات جميلة في غير هذا الموضع ، منها أنها منسوجة بقضبان الذهب وهي الموضوعة قال في الواقعة : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين [ 56 \ 13 - 16 ] وقيل : الموضونة المصفوفة كقوله : متكئين على سرر مصفوفة الآية [ 52 \ 20 ] ومنها أنها مرفوعة كقوله في الغاشية : فيها سرر مرفوعة الآية [ 88 \ 13 ] وقوله في الواقعة : وفرش مرفوعة [ 56 \ 34 ] ، وقوله : متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان [ 55 \ 76 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : لا يمسهم فيها نصب .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب وهو التعب والإعياء ، وقوله ( نصب ) نكرة في سياق النفي فتعم كل نصب ، فتدل الآية على سلامة أهل الجنة من جميع أنواع التعب والمشقة ، وأكد هذا المعنى في قوله تعالى : الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 35 ] لأن اللغوب هو التعب والإعياء أيضا ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب " .
قوله تعالى : وما هم منها بمخرجين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يخرجون منها ، وأكد نفي إخراجهم منها بالباء في قوله بمخرجين فهم دائمون في نعيمها أبدا بلا انقطاع . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا [ 18 \ 107 - 108 ] وقوله : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] وقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] وقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ونبئهم عن ضيف إبراهيم .
بين في مواضع أخر أن ضيف إبراهيم المذكورين في هذه الآية أنهم ملائكة ، كقوله في هود : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ [ 11 \ 69 ] كما تقدم وقوله : قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين [ 51 \ 31 - 32 ] [ ص: 280 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون .
لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة هل رد إبراهيم السلام على الملائكة أو لا ; لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم ، وإنما قال عنه إنه قال لهم إنا منكم وجلون ، وبين في هود والذاريات أنه رد عليهم السلام بقوله في هود قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ [ الآية 69 ] وقوله في الذاريات : قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين [ 51 \ 25 - 26 ] وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف ; لقوله في القصة بعينها في هود : وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف [ 51 \ 70 ] وقوله في الذاريات : فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف [ 11 \ 28 ] . وقد قدمنا أن من أنواع البيان في هذا الكتاب بيان اللفظ بمرادف له أشهر منه كما هنا ، لأن الخوف يرادف الوجل وهو أشهر منه ، وبين أن سبب خوفه هو عدم أكلهم بقوله : فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة [ 11 \ 70 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (146)
سُورَةُ الْحِجْرِ(7)
صـ 281 إلى صـ 285
قوله تعالى : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الكرام الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلام موصوف بالعلم ، ونظير ذلك قوله تعالى أيضا في الذاريات : قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم [ 51 \ 28 ] وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم [ 51 28 - 30 ] لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة ، وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم ، يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ، ويزيده إيضاحا تصريحه تعالى ببشارتها هي بأنها تلده مصرحا باسمه واسم ولده يعقوب ، وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب [ 11 \ 71 - 72 ] وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك الآية [ 37 \ 99 - 102 ] فهو إسماعيل وسترى إن شاء [ ص: 281 ] الله تعالى في سورة الصافات دلالة الآيات القرآنية على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع ، والغلام يطلق في لغة العرب على العبد وعلى الصغير الذي لم يبلغ وعلى الرجل البالغ ، ومن إطلاقه على البالغ قول علي - رضي الله عنه - يوم النهروان
: أنا الغلام القرشي المؤتمن أبو حسين فاعلمن والحسن
وقول صفوان بن المعطل السلمي لحسان - رضي الله عنهما - :
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف :
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها
وربما قالوا للأنثى غلامة ، ومنه قول أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسا :
ومركضة صريحي أبوها يهان لها الغلامة والغلام
قوله تعالى : قال أبشرتموني على أن مسني الكبر .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال : إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر . وصرح في هود بأن امرأته أيضا قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها : وهذا بعلي شيخا [ 11 \ 72 ] كما صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود : ياويلتى أألد وأنا عجوز الآية [ 11 \ 72 ] ، وقوله في الذاريات : فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم [ 51 \ 29 ] . وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضا ، وذلك قوله تعالى : الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء [ 14 \ 39 ] .
قوله تعالى : فبم تبشرون .
الظاهر أن استفهام نبي الله إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - للملائكة بقوله فبم تبشرون [ 15 \ 54 ] استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى ، ويدل لذلك أنه تعالى ذكر أن ما وقع له وقع نظيره لامرأته حيث قالت أألد وأنا عجوز وقد بين تعالى أن ذلك الاستفهام لعجبها من ذلك الأمر الخارق للعادة في قوله : قالوا أتعجبين من أمر الله الآية [ 11 \ 73 ] ويدل له أيضا وقوع مثله من نبي الله زكريا - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لأنه لما قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة [ 3 \ 38 ] .
[ ص: 282 ] وقوله فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى [ 3 \ 39 ] عجب من كمال قدرة الله تعالى فقال : رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر الآية [ 3 \ 40 ] وقوله فبم تبشرون قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بفتح النون مخففة وهي نون الرفع ، وقرأه نافع بكسر النون مخففة وهي نون الوقاية مع حذف ياء المتكلم لدلالة الكسرة عليها ، وقرأه ابن كثير بالنون المكسورة المشددة مع المد ، فعلى قراءة ابن كثير لم يحذف نون الرفع ولا المفعول به ، بل نون الرفع مدغمة في نون الوقاية وياء المتكلم هي المفعول به ، وعلى قراءة الجمهور فنون الرفع ثابتة والمفعول به محذوف على حد قول ابن مالك .
وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر
وعلى قراءة نافع فنون الرفع محذوفة لاستثقال اجتماعها مع نون الوقاية .
تنبيه
حذف نون الرفع له خمس حالات ثلاث منها يجب فيها حذفها ، وواحدة يجوز فيها حذفها وإثباتها ، وواحدة يقصر فيها حذفها على السماع ، أما الثلاث التي يجب فيها الحذف : فالأولى منها إذا دخل على الفعل عامل جزم ، والثانية إذا دخل عليه عامل نصب ، والثالثة إذا أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة نحو لتبلون ، وأما الحالة التي يجوز فيها الإثبات والحذف فهي ما إذا اجتمعت مع نون الرفع نون الوقاية ، لكون المفعول ياء المتكلم فيجوز الحذف والإثبات ، ومن الحذف قراءة نافع في هذه الآية فبم تبشرون بالكسر وكذلك قوله تعالى : قال أتحاجوني في الله [ 6 \ 80 ] . وقوله تعالى : ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم [ 16 \ 27 ] بكسر النون مع التخفيف في الجمع أيضا وقوله قل أفغير الله تأمروني أعبد الآية [ 39 \ 64 ] بالكسر مع التخفيف أيضا ، وكلها قرأها بعض القراء بالتشديد لإثبات نون الرفع وإدغامها في نون الوقاية ، وأما الحالة الخامسة المقصورة على السماع فهو حذفها لغير واحد من الأسباب الأربعة المذكورة ، كقول الراجز :
أبيت أسري وتبيت تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
أما بقاء نون الرفع مع الجازم في قوله : [ ص: 283 ]
لولا فوارس من نعم وأسرتهم يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
فهو نادر حملا للم على أختها لا النافية أو ما النافية ، وقيل هو لغة قوم كما صرح به في التسهيل ، وكذلك بقاء النون مع حرف النصب في قوله :
أن تقرآن على أسماء ويحكما مني السلام وألا تشعرا
أحدا فهو لغة قوم حملوا أن المصدرية على أختها ما المصدرية في عدم النصب بها ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وبعضهم أهمل أن حملا على ما أختها حيث استحقت عملا
ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قدرة الله قول الملائكة له فيما ذكر الله عنهم : قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين بدليل قوله : قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون [ 15 \ 56 ] . لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ولا قانط ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال للملائكة إنه لا يقنط من رحمة الله - جل وعلا - إلا الضالون عن طريق الحق وبين أن هذا المعنى قاله أيضا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لبنيه في قوله : يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [ 12 \ 87 ] قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى : إنه لا ييئس من روح الله الآية . وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه .
قوله تعالى : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط .
أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن المراد بهؤلاء القوم المجرمين قوم لوط الذين أرسل إليهم فكذبوه ، ووجه إشارته تعالى لذلك استثناء لوط وأهله غير امرأته في قوله : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته الآية [ 15 \ 59 - 60 ] وصرح بأنهم قوم لوط بقوله في هود في القصة بعينها : قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط الآية [ 11 \ 70 ] وصرح في الذاريات بأنهم أرسلوا إلى هؤلاء القوم المجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين في قوله : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 32 - 33 ] وصرح في العنكبوت أنهم قالوا إنهم مهلكوهم بسبب ظلمهم ، ومنزلون عليهم [ ص: 284 ] رجزا من السماء بسبب فسقهم وذلك في قوله تعالى : ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها الآية [ 29 \ 31 - 32 ] ، وقوله : وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون [ 29 \ 33 - 34 ] وقوله : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين [ 15 \ 59 ] بين في هذه الآية الكريمة أنه استثنى آل لوط من ذلك العذاب النازل بقومه ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كما تقدم في هود في قوله : قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك الآية [ 11 \ 81 ] وقوله في العنكبوت : وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك الآية [ 29 \ 33 ] وقوله فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين [ 7 \ 83 ] وقوله : فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين الآية [ 26 \ 170 - 171 ] وقوله : فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين [ 27 \ 57 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكر في هذه الآية الكريمة من استثناء امرأته من أهله الناجين في قوله : إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين أوضحه في هذه الآيات التي ذكرنا آنفا ونحوها من الآيات ، وبين في الذاريات أنه أنجى من كان في قوم لوط من المؤمنين ، وأنهم لم يكن فيهم من المسلمين إلا بيت واحد وهم آل لوط وذلك في قوله فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 29 \ 35 - 36 ] .
تنبيه
في هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء ; لأنه تعالى استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين [ 15 \ 59 ] ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله : إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين [ 15 \ 60 ] وبهذا تعلم أن قول ابن مالك في الخلاصة :
وحكمها في القصد حكم الأول
ليس صحيحا على إطلاقه . وأوضح مسألة تعدد الاستثناء بأقسامها صاحب مراقي [ ص: 285 ] السعود في مبحث المخصص المتصل بقوله :
وذا تعدد بعطف حصل بالاتفاق مسجلا للأول
إلا فكل للذي به اتصل وكلها مع التساوي قد بطل
إن كان غير الأول المستغرقا فالكل للمخرج منه حققا
وحيثما استغرق الاول فقط فألغ واعتبر بخلف في النمط
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (147)
سُورَةُ الْحِجْرِ(8)
صـ 286 إلى صـ 290
قوله تعالى : فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطا - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم : إنكم قوم منكرون . وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم ، وأنه ضاق ذرعا بذلك ، كقوله في هود : ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب [ 11 \ 77 ] وقوله في العنكبوت : ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا [ 29 \ 33 ] ، وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضا : قوم منكرون ، كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله : قال سلام قوم منكرون [ 51 \ 25 ] وقوله قوم منكرون قيل : معناه أنهم غير معروفين ، والنكرة ضد المعرفة ، وقيل : إنه رآهم في صفة شباب حسان الوجوه ، فخاف أن يفعل بهم قومه فاحشة اللواط فقال : إنكم قوم منكرون [ 15 \ 62 ] وقال الزمخشري في الكشاف : منكرون أي تنكركم نفسي وتفر منكم ، فأخاف أن تطرقوني بشر بدليل قوله : بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق الآية [ 15 \ 63 - 64 ] ويدل لهذا الوجه أنه بين في هود أن سبب إنكار إبراهيم لهم عدم أكلهم من لحم العجل الذي قدمه إليهم ، وذلك في قوله : فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة [ 11 \ 70 ] لأن من استضاف وامتنع من الأكل خيف منه الشر . وقوله تعالى في هذه الآيات : إنا لمنجوهم [ 15 \ 59 ] قرأه حمزة والكسائي بإسكان النون بعد الميم المضمومة مخففا اسم فاعل أنجى على وزن أفعل ، وقرأه غيرهما من القراء بفتح النون وتشديد الجيم اسم فاعل نجي على وزن فعل بالتضعيف ، والإنجاء والتنجية معناهما واحد وقوله : قدرنا إنها لمن الغابرين [ 15 \ 60 ] قرأه أبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال ، وقرأه غيره بتشديدها وهما لغتان معناهما واحد ، وقوله : جاء آل لوط [ 15 \ 61 ] قرأه قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى وتحقيق الثانية مع [ ص: 286 ] القصر والمد ، وقرأه ورش بتحقيق الأولى وإبدال الثانية ألفا مع القصر والمد ، وعن ورش أيضا تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع القصر والتوسط والمد ، وقرأه قنبل مثل قراءة ورش إلا أنه ليس له مع التسهيل إلا القصر ، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين وكل على أصله من المد ، وما ذكر من قراءة ورش وقنبل هو التحقيق عنهما وإن قيل غيره ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وجاء أهل المدينة يستبشرون .
سبب استبشار قوم لوط أنهم ظنوا الملائكة شبابا من بني آدم ، فحدثتهم أنفسهم بأن يفعلوا بهم فاحشة اللواط ، كما يشير لذلك قوله تعالى : إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون [ 15 \ 68 ] وقوله تعالى : ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم الآية [ 54 \ 37 ] وقوله : وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات [ 11 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن فيما أوقع من النكال بقوم لوط آيات للمتأملين في ذلك ، تحصل لهم بها الموعظة والاعتبار والخوف من معصية الله أن ينزل بهم مثل ذلك العذاب الذي أنزل بقوم لوط لما عصوه وكذبوا رسوله . وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في العنكبوت : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] وقوله في الذاريات : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم [ 151 \ 37 ] وقوله هنا : إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ 15 \ 75 ] وقوله في الشعراء بعد ذكر قصة قوم لوط : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين الآية [ 26 \ 174 ] ، كما صرح بمثل ذلك في إهلاك قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب في الشعراء وقوله : للمتوسمين أصل التوسم تفعل من الوسم ، وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها . يقال : توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسمه فيه ، أي علامته التي تدل عليه ، ومنه قول عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - في النبي - صلى الله عليه وسلم - :
إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت النظر
وقال الآخر :
توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم
هذا أصل التوسم ، وللعلماء فيه أقوال متقاربة يرجع معناها كلها إلى شيء واحد . [ ص: 287 ] فعن قتادة : للمتوسمين أي المعتبرين ، وعن مجاهد للمتوسمين أي المتفرسين ، وعن ابن عباس والضحاك للمتوسمين أي للناظرين ، وعن مالك عن بعض أهل المدينة للمتوسمين أي للمتأملين .
ولا يخفى أن الاعتبار والنظر والتفرس والتأمل معناها واحد ، وكذلك قول ابن زيد ومقاتل : للمتوسمين أي للمتفكرين ، وقول أبي عبيدة للمتوسمين أي للمتبصرين ، فمآل جميع الأقوال راجع إلى شيء واحد وهو أن ما وقع لقوم لوط فيه موعظة وعبرة لمن نظر في ذلك وتأمل فيه حق التأمل ، وإطلاق التوسم على التأمل والنظر والاعتبار مشهور في كلام العرب ومنه قول زهير : :
وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم
أي المتأمل في ذلك الحسن ، وقول طريف بن تميم العنبري :
أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلي عريفهم يتوسم
أي ينظر ويتأمل . وقال صاحب الدر المنثور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : لآيات للمتوسمين [ 15 \ 75 ] قال : للناظرين .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة في قوله : لآيات للمتوسمين : قال للمعتبرين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : لآيات للمتوسمين قال : هم المتفرسون . وأخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله : إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال : هم المتفرسون . وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال : " للمتفرسين " . وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا فراسة المؤمن ، فإن المؤمن ينظر بنور الله " . وأخرج ابن جرير عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله " . وأخرج الحكيم الترمذي والبزار وابن السني وأبو نعيم عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم " . اهـ .
قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن ديار قوم [ ص: 288 ] لوط ، وآثار تدمير الله لها بسبيل مقيم أي بطريق ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد ، يمر بها أهل الحجاز في ذهابهم إلى الشام ، والمراد أن آثار تدمير الله لهم التي تشاهدون في أسفاركم فيها لكم عبرة ومزدجر يوجب عليكم الحذر من أن تفعلوا كفعلهم ، لئلا ينزل الله بكم مثل ما أنزل بهم ، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] وقوله : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] . وقوله فيها وفي ديار أصحاب الأيكة : وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين وأنه - جل وعلا - انتقم منهم بسبب ظلمهم ، وأوضح هذه القصة في مواضع أخر كقوله في الشعراء كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 176 - 190 ] فبين في هذه الآية أن ظلمهم هو تكذيب رسولهم وتطفيفهم في الكيل ، وبخسهم الناس أشياءهم ، وأن انتقامه منهم بعذاب يوم الظلة ، وبين أنه عذاب يوم عظيم ، والظلة سحابة أظلتهم فأضرمها الله عليهم نارا فأحرقتهم ، والعلم عند الله تعالى .
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير " ليكة " . في " الشعراء " و " ص " بلام مفتوحة أول الكلمة وتاء مفتوحة آخرها من غير همز ولا تعريف على أنه اسم للقرية غير منصرف . وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي " الأيكة " بالتعريف والهمز وكسر التاء ، وقرأ كذلك جميع القراء في " ق " و " الحجر " . قال أبو عبيدة : ليكة والأيكة اسم مدينتهم كمكة وبكة ، والأيكة في لغة العرب الغيضة وهي جماعة الشجر ، والجمع الأيك ، وإنما سموا أصحاب الأيكة لأنهم كانوا أصحاب غياض [ ص: 289 ] ورياض ، ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل ، ومن إطلاق الأيكة على الغيضة قول النابغة :
تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالإثمد
وقال الجوهري في صحاحه : ومن قرأ أصحاب الأيكة فهي الغيضة ، ومن قرأ ليكة فهي اسم القرية ، ويقال : هما مثل بكة ومكة . وقال بعض العلماء : الأيكة الشجرة ، والأيك هو الشجر الملتف .
قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين .
الحجر : منازل ثمود بين الحجاز والشام عند وادي القرى . فمعنى الآية الكريمة : كذبت ثمود المرسلين ، وقد بين تعالى تكذيب ثمود لنبيه صالح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - في مواضع أخر . كقوله : كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون الآيات [ 26 \ 141 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] وقوله : كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 23 - 24 ] وقوله : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وإنما قال إنهم كذبوا المرسلين مع أن الذي كذبوه هو صالح وحده ، لأن دعوة جميع الرسل واحدة ، وهي تحقيق معنى " لا إله إلا الله " كما بينه تعالى بأدلة عمومية وخصوصية . قال معمما لجميعهم : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا الآية [ 21 \ 25 ] . وقال : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] وقال : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقال في تخصيص الرسل بأسمائهم : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 23 \ 23 ] وقال : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 50 ] وقال : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 84 ] إلى غير ذلك من الآيات .
فإذا حققت أن دعوة الرسل واحدة عرفت أن من كذب واحدا منهم فقد كذب جميعهم . ولذا صرح تعالى بأن من كفر ببعضهم فهو كافر حقا . قال : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا [ 4 \ 150 - 151 ] ، [ ص: 390 ] وبين أنه لا تصح التفرقة بينهم بقوله : لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 و 3 \ 84 ] ، وقوله : لا نفرق بين أحد من رسله [ 2 \ 285 ] ، ووعد الأجر على عدم التفرقة بينهم في قوله : والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم . الآية [ 4 \ 152 ] ، وقد بينا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (148)
سُورَةُ الْحِجْرِ(9)
صـ 291 إلى صـ 295
تنبيه .
اعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بالحجر المذكور في هذه الآية في طريقه في غزوة تبوك ، فقد أخرج البخاري في صحيحه في غزوة تبوك ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : لما مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجر ، قال : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم ، إلا أن تكونوا باكين " ، ثم قنع رأسه ، وأسرع السير حتى أجاز الوادي " ، هذا لفظ البخاري . وأخرج البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء أيضا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل الحجر في غزوة تبوك ، أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها واستقينا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهرقوا ذلك الماء " . ثم قال البخاري : ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإلقاء الطعام ، ثم قال : وقال أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من اعتجن بمائه " .
ثم ساق بسنده ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه أخبره : أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهرقوا ما استقوا من بيارهم ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستسقوا من البئر التي تردها الناقة " .
ثم قال : تابعه أسامة ، عن نافع ، ثم ساق بسنده ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحجر قال : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم " ، ثم تقنع بردائه وهو على الرحل .
ثم ساق أيضا بسنده ، عن سالم : أن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم " ، هذا كله لفظ البخاري في صحيحه . وقال ابن حجر في الفتح : أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد [ ص: 291 ] والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد ، عن أبيه ، عن جده سبرة - وهو بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة - الجهني ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين راح من الحجر : " من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة أو حاس حيسا ; فليلقه " ، وليس لسبرة بن معبد في البخاري إلا هذا الموضع . وأما حديث أبي الشموس - وهو بمعجمة ثم مهملة - ، وهو بكري لا يعرف اسمه - فوصله البخاري في الأدب المفرد ، والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير ، عن أبيه ، عنه ، قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . . . . . فذكر الحديث وفيه : فألقى ذو العجين عجينه ، وذو الحيس حيسه " . ورواه ابن أبي عاصم من هذا الوجه ، وزاد : " فقلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قد حست حيسة فألقمها راحلتي ؟ قال : نعم " .
وقال ابن حجر أيضا : قوله : وقال أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " من اعتجن بمائه " وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه : " أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فآتوا على واد ، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنكم بواد ملعون فأسرعوا " وقال : " من اعتجن عجينة ، أو طبخ قدرا ; فليكبها " . الحديث . قال : لا أعلمه إلا بهذا الإسناد . وأخرج البخاري في تفسير قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين [ 15 \ 80 ] ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحاب الحجر : " لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ; أن يصيبكم مثل ما أصابهم " وأخرج البخاري أيضا ، عن ابن عمر في كتاب الصلاة ، في باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ; لا يصيبكم ما أصابهم " . وبعض هذه الروايات التي ذكرناها عن البخاري أخرجه مسلم أيضا في صحيحه ، فقد اتفقا على النهي عن دخول ديارهم إلا في حال البكاء ، وعلى إسراعه - صلى الله عليه وسلم - حتى جاوز ديارهم . وفي هذه الروايات الصحيحة النهي عن الدخول إلى مواضع الخسف والعذاب إلا في حالة البكاء ، وفيها الإسراع بمجاوزتها ، وعدم الاستسقاء من مياهها ، وعدم أكل الطعام الذي عجن بها ، ومن هنا قال بعض العلماء : لا يجوز التطهر بمائها ، ولا تصح الصلاة فيها ; لأن ماءها لما لم يصلح للأكل والشرب ، علم أنه غير صالح للطهارة التي هي تقرب إلى الله تعالى .
قال البخاري في صحيحه : باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب : " ويذكر أن عليا - رضي الله عنه - كره الصلاة بخسف بابل . وقال ابن حجر في الفتح : هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من [ ص: 292 ] طريق عبد الله بن أبي المحل - وهو بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام - ، قال " كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي ببابل ، فلم يصل حتى أجازه - أي : تعداه - " ومن طريق أخرى ، عن علي ، قال : " ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرار " . والظاهر أن قوله ثلاث مرار ليس متعلقا بالخسف ; لأنه ليس فيها إلا خسف واحد . وإنما أراد أن عليا قال ذلك ثلاثا . ورواه أبو داود مرفوعا من وجه آخر عن علي ولفظه : " نهاني حبيبي - صلى الله عليه وسلم - أن أصلي في أرض بابل ; فإنها ملعونة " في إسناده ضعف ، واللائق بتعليق المصنف ما تقدم ، والمراد بالخسف هنا ما ذكره الله تعالى في قوله : فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم الآية [ 16 \ 26 ] ، ذكر أهل التفسير والأخبار : أن المراد بذلك أن النمروذ بن كنعان بنى ببابل بنيانا عظيما ، يقال : إن ارتفاعه كان خمسة آلاف ذراع فخسف الله بهم . قال الخطابي : " لا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل " انتهى . محل الغرض من فتح الباري .
وقول الخطابي يعارضه ما رأيته عن علي - رضي الله عنه - ، ولكنه يشهد له عموم الحديث الصحيح : " وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا " ، وحديث أبي داود المرفوع ، عن علي الذي أشار له ابن حجر : أن فيه ضعفا هو قوله : " حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا ابن وهب ، قال حدثني ابن لهيعة ، ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري : أن عليا - رضي الله عنه - مر ببابل وهو يسير ، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر . فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ منها قال : " إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي في المقبرة ، ونهاني أن أصلي في أرض بابل ; فإنها ملعونة " .
حدثنا أحمد بن صالح ، ثنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أزهر ، وابن لهيعة ، عن الحجاج بن شداد ، عن أبي صالح الغفاري ، عن علي بمعنى سليمان بن داود ، قال : " فلما خرج - مكان فلما برز - اهـ .
وقد يظهر للناظر في إسنادي هذا الحديث أنه لا يقل عن درجة القبول ، ولكن فيه علة خفية نبه عليها ابن يونس ، أما كونه لا يقل عن درجة القبول ; فلأن طريقته الأولى أول طبقاتها : سليمان بن داود ولا خلاف في كونه ثقة ، وفي الثانية : أحمد بن صالح مكان سليمان المذكور ، وأحمد بن صالح ثقة حافظ . وكلام النسائي فيه غلط مردود عليه ، كما قال العراقي في ألفيته :
وربما رد كلام الجارح كالنسائي في أحمد بن صالح
وسبب غلطه في ذلك أن ابن معين كذب أحمد بن صالح الشموني . فظن النسائي أن [ ص: 293 ] مراد ابن معين أحمد بن صالح هذا الذي هو أبو جعفر بن الطبري المصري ، وليس كذلك كما جزم به ابن حبان .
والطبقة الثانية في كلا الإسنادين :
ابن وهب وهو : عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي ، مولاهم أبو محمد المصري ثقة حافظ عابد مشهور .
والطبقة الثالثة من الإسنادين : يحيى بن أزهر ، وعبد الله بن لهيعة ، ويحيى بن أزهر البصري مولى قريش صدوق ، وعبد الله بن لهيعة صدوق خلط بعد احتراق كتبه . والظاهر أن اعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن . ويؤيد ذلك أن راوي الحديث ابن وهب ومعلوم أن رواية ابن وهب ، وابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، أعدل من رواية غيرهما عنه .
والطبقة الرابعة في الإسناد الأول : عمار بن سعد المرادي . وفي الإسناد الثاني : الحجاج بن شداد ، وعمار بن سعد المرادي ، ثم السلهمي ، والحجاج بن شداد الصنعاني نزيل مصر ، كلاهما مقبول كما قاله ابن حجر في التقريب ، واعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن .
والطبقة الخامسة في كلا الإسنادين : أبو صالح الغفاري وهو سعيد بن عبد الرحمن ، وعداده في أهل مصر ، وهو ثقة .
والطبقة السادسة في كليهما : أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ، فالذي يظهر صلاحية الحديث للاحتجاج ، ولكنه فيه علة خفية ذكرها ابن يونس ، وهي : أن رواية أبي صالح الغفاري ، عن علي مرسلة ، كما ذكره ابن حجر في التقريب . وقال البيهقي في السنن الكبرى : " باب من كره الصلاة في موضع الخسف والعذاب ، " أنبأ أبو علي الروذباري ، أنبأ أبو بكر بن داسة ، ثنا أبو داود ، ثم ساق حديث أبي داود المذكور آنفا بلفظه في المتن والإسنادين . ثم قال : وروينا عن عبد الله بن أبي محل العمري ، قال : كنا مع علي بن أبي طالب ، فمر بنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى أجازه . وعن حجر الحضرمي ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : " ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرات " . ثم قال البيهقي : وهذا النهي عن الصلاة فيها إن ثبت مرفوعا ليس لمعنى يرجع إلى الصلاة ; فلو صلى فيها لم يعد ، ثم ساق البيهقي بعض روايات حديث ابن عمر الذي قدمنا عن البخاري ومسلم ، ثم قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب الخروج من تلك المساكن ، وكره المقام فيها إلا باكيا ، فدخل في ذلك المقام للصلاة وغيرها . اهـ .
[ ص: 294 ] وهذا الذي ذكرنا هو حاصل ما جاء في الصلاة في مواضع الخسف والتطهر بمياهها ، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة بها صحيحة والتطهر بمائها مجزئ ، واستدلوا بعموم النصوص كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وجعلت لي الأرض كلها مسجدا " الحديث . وكعموم الأدلة على رفع الحدث ، وحكم الخبث بالماء المطلق . وذهب بعض أهل العلم إلى أنها لا تجوز الصلاة فيها ، ولا تصح الطهارة بمائها ، واستدلوا بحديث علي المرفوع : أن حبيبه - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن الصلاة في خسف بابل ; لأنها أرض ملعونة . قالوا : والنهي يقتضي الفساد ; لأن ما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - ليس من أمرنا ، ومن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد كما ثبت في الحديث . واحتجوا لعدم الطهارة بمائها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من استعماله في الأكل والشرب وهما ليسا بقربة . فدل ذلك على منع الطهارة به من باب أولى .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لنا رجحانه ; أن من مر عليها ينبغي له أن يسرع في سيره حتى يخرج منه ، كفعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل صهره ، وابن عمه ، وأبي سبطيه - رضي الله عنهم - جميعا ، وأنه لا يدخل إلا باكيا للحديث الصحيح . فلو نزل فيها وصلى فالظاهر صحة صلاته إذ لم يقم دليل صحيح بدلالة واضحة على بطلانها ، والحكم ببطلان العبادة يحتاج إلى نص قوي المتن والدلالة . والعلم عند الله تعالى .
مسائل لها تعلق بهذه الآية الكريمة .
قد علمت أن الحجر المذكور في هذه الآية في قوله : ولقد كذب أصحاب الحجر الآية [ 15 \ 80 ] : هو ديار ثمود ، وأنه ورد النهي عن الصلاة في مواضع الخسف ; فبهذه المناسبة نذكر الأماكن التي نهي عن الصلاة فيها ونبين ما صح فيه النهي وما لم يصح .
والمواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها تسعة عشر موضعا ستأتي كلها .
عن زيد بن جبيرة ، عن داود بن حصين ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهى أن يصلى في سبعة مواطن : في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفي الحمام وفي أعطان الإبل ، وفوق ظهر بيت الله " . رواه عبد بن حميد في مسنده ، والترمذي ، وابن ماجه . وقال الترمذي في إسناده : ليس بذاك . وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث ، عن عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . والحديث ضعيف لا تقوم به حجة ; لأن الإسناد الأول فيه زيد بن جبيرة وهو متروك ، قال فيه ابن حجر في [ ص: 295 ] التقريب : متروك . وقال في تهذيب التهذيب : قال ابن معين : هو لا شيء . وقال البخاري : منكر الحديث . وقال في موضع آخر : متروك الحديث . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ، منكر الحديث جدا ، متروك الحديث لا يكتب حديثه . وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد . قلت : وقال الساجي : حدث عن داود بن الحصين بحديث منكر جدا ، يعني حديث النهي عن الصلاة في سبع مواطن . وقال الفسوي : ضعيف منكر الحديث . وقال الأزدي : متروك . وقال ابن حبان : يروي المناكير عن المشاهير ; فاستحق التنكب عن روايته . وقال الحاكم : روى عن أبيه وداود بن الحصين وغيرهما المناكير . وقال الدارقطني : ضعيف . قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه ضعيف اهـ كلام ابن حجر . وأحد إسنادي ابن ماجه فيه أبو صالح كاتب الليث ، وهو كثير الغلط ، وفيه ابن عمر العمري ضعفه بعض أهل العلم وأخرج له مسلم . وقال ابن أبي حاتم في العلل : هما جميعا - يعني الحديثين - واهيان . وصحح الحديث المذكور ابن السكن وإمام الحرمين .
اعلم أولا أن المواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها ، هي السبعة المذكورة ، والصلاة إلى المقبرة وإلى جدار مرحاض عليه نجاسة ، والكنيسة والبيعة ، وإلى التماثيل ، وفي دار العذاب ، وفي المكان المغصوب ، والصلاة إلى النائم ، والمتحدث ، وفي بطن الوادي ، وفي مسجد الضرار ، والصلاة إلى التنور ، فالمجموع تسعة عشر موضعا . وسنبين أدلة النهي عنها مفصلة - إن شاء الله تعالى - أما في مواضع الخسف والعذاب فقد تقدم حكم ذلك قريبا .
وأما الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبر : فكلاهما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عنه . أما الصلاة في المقابر : فقد وردت أحاديث صحيحة في النهي عنها ، منها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ، يحذر ما صنعوا ، ولولا ذلك أبرز قبره - صلى الله عليه وسلم - غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا . وفي الصحيحين أيضا نحوه عن أبي هريرة ، وقد ثبت في الصحيح أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وفي بعض الروايات المتفق عليها : " لعن الله اليهود والنصارى " ، وفي بعض الروايات الصحيحة الاقتصار على اليهود . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلعن إلا على فعل حرام شديد الحرمة . وعن جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي - رضي الله عنه - ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو [ ص: 296 ] يقول : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ; فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . إلا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك " . أخرجه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ ، رواه النسائي أيضا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (149)
سُورَةُ الْحِجْرِ(10)
صـ 296 إلى صـ 300
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ، ولا تتخذوها قبورا " أخرجه الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، إلا ابن ماجه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : " ولا تتخذوها قبورا " دليل على أن القبور ليست محل صلاة ، وقال بعض العلماء : يحتمل أن يكون معنى الحديث : صلوا ولا تكونوا كالأموات في قبورهم ; فإنهم لا يصلون . وأخرج الإمام أحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا : " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد " . ورواه ابن أبي حاتم أيضا .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة لا مطعن فيها ، وهي تدل دلالة واضحة على تحريم الصلاة في المقبرة ; لأن كل موضع صلي فيه يطلق عليه اسم المسجد ; لأن المسجد في اللغة مكان السجود ، ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " وجعلت لي الأرض مسجدا " . الحديث . أي : كل مكان منها تجوز الصلاة فيه . وظاهر النصوص المذكورة العموم ، سواء نبشت المقبرة واختلط ترابها بصديد الأموات أو لم تنبش ; لأن علة النهي ليست بنجاسة المقابر كما يقوله الشافعية ; بدليل اللعن الوارد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من اتخذ قبور الأنبياء مساجد . ومعلوم أن قبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليست نجسة ، فالعلة للنهي سد الذريعة ; لأنهم إذا عبدوا الله عند القبور آل بهم الأمر إلى عبادة القبور .
فالظاهر من النصوص المذكورة : منع الصلاة عند المقابر مطلقا ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وفي صحتها عنده روايتان وإن تحققت طهارتها . وذهب مالك : إلى أن الصلاة فيها مكروهة . وذهب الشافعية : إلى أنها إذا كانت نجسة لاختلاط أرضها بصديد الأموات لأجل النبش ; فالصلاة فيها باطلة ، وإن كانت لم تنبش ; فالصلاة فيها مكروهة عندهم . وذكر النووي عن ابن المنذر : أنه قال : روينا عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، والنخعي ، أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة . قال : ولم يكرهها أبو هريرة ، وواثلة بن الأسقع ، والحسن البصري ، ونقل صاحب الحاوي عن داود : أنه قال : تصح الصلاة وإن تحقق نبشها . وذكر ابن حزم النهي عن الصلاة في المقبرة عن خمسة من الصحابة وهم : عمر ، وعلي ، وأبو هريرة ، وأنس [ ص: 297 ] وابن عباس . وقال : ما نعلم لهم مخالفا ، وحكاه عن جماعة من التابعين : إبراهيم النخعي ، ونافع بن جبير بن مطعم ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، وخيثمة ، وغيرهم . وقد حكى الخطابي " في معالم السنن " عن عبد الله بن عمر : أنه رخص في الصلاة في المقبرة . وحكي أيضا عن الحسن : أنه صلى في المقبرة .
وعن ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أكان ابن عمر يكره أن يصلى وسط القبور ؟ قال : لقد صلينا على عائشة ، وأم سلمة - رضي الله عنهما - وسط البقيع والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة - رضي الله عنه - ، وحضر ذلك عبد الله بن عمر . رواه البيهقي وغيره . وممن كره الصلاة في المقبرة : أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . واحتج من قال بجواز الصلاة في المقبرة : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المسكينة السوداء بالمقبرة . وسيأتي قريبا - إن شاء الله - حكم الصلاة إلى جهة القبر .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي قول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ; لأن النصوص صريحة في النهي عن الصلاة في المقابر ، ولعن من اتخذ المساجد عليها ، وهي ظاهرة جدا في التحريم . أما البطلان فمحتمل ; لأن النهي يقتضي الفساد لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . والصلاة في المقابر منهي عنها ، فليست من أمرنا فهي رد . ويحتمل أن يقال : الصلاة من أمرنا فليست ردا ، وكونها في المكان المنهي عنه هو الذي ليس من أمرنا .
كما علم الخلاف بين العلماء في كل منهي عنه له جهتان : إحداهما مأمور به منها : ككونه صلاة ، والأخرى منهي عنه منها : ككونه في موضع نهي ، أو وقت نهي ، أو أرض مغصوبة ، أو بحرير ، أو ذهب ، ونحو ذلك ; فإنهم يقولون : إن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض النهي الفساد ، وإن لم تنفك عنها اقتضاه . ولكنهم عند التطبيق يختلفون ، فيقول أحدهم : الجهة هنا منفكة . ويقول الآخر : ليست منفكة كالعكس ، فيقول الحنبلي مثلا : الصلاة في الأرض المغصوبة لا يمكن أن تنفك فيها جهة الأمر عن جهة النهي ; لكون حركة أركان الصلاة كالركوع والسجود والقيام كلها يشغل المصلي به حيزا من الفراغ ليس مملوكا له ، فنفس شغله له ببدنه أثناء الصلاة حرام ، فلا يمكن أن يكون قربة بحال . فيقول المعترض كالمالكي والشافعي : الجهة منفكة هنا ; لأن هذا الفعل من حيث كونه صلاة قربة ، ومن حيث كونه غصبا حرام ، فله صلاته وعليه غصبه كالصلاة بالحرير . وإلى هذا المسألة وأقوال العلماء فيها أشار في مراقي السعود بقوله :
دخول ذي كراهة فيما أمر به بلا قيد وفصل قد حظر [ ص: 298 ] فنفي صحة ونفي الأجر
في وقت كره للصلاة يجري وإن يك النهي عن الأمر انفصل
فالفعل بالصحة لا الأجر اتصل وذا إلى الجمهور ذو انتساب
وقيل بالأجر مع العقاب وقد روي البطلان والقضاء
وقيل ذا فقط له انتفاء مثل الصلاة بالحرير والذهب
أو في مكان الغصب والوضو انقلب ومعطن ومنهج ومقبره
كنيسة وذي حميم مجزره
وأما الصلاة إلى القبور فإنها لا تجوز أيضا ، بدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، عن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " . هذا لفظ مسلم . وفي لفظ له أيضا : " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " . والقاعدة المقررة في الأصول : أن النهي يقتضي التحريم . فأظهر الأقوال دليلا منع الصلاة في المقبرة وإلى القبر ; لأن صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم . أما اقتضاء النهي الفساد إذا كان للفعل جهة أمر وجهة نهي ، ففيه الخلاف الذي قدمناه آنفا ، وإن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد . وقال صاحب المراقي في اقتضاء النهي الفساد :
وجاء في الصحيح للفساد إن لم يجي الدليل للسداد
وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح عن الصلاة إلى القبور ، وقد قال : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، وقال تعالى : وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقد قدمنا أن لعنه - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ القبور مساجد يدل دلالة واضحة على التحريم . واحتج من قال بصحة الصلاة في المقابر وإلى القبور بأدلة منها : عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح : " وجعلت لي الأرض مسجدا " الحديث . قالوا : عمومه يشمل المقابر ، ويجاب عن هذا الاستدلال من وجهين :
أحدهما : أن أحاديث النهي منه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقبرة وإلى القبر خاصة ، وحديث " جعلت لي الأرض مسجدا " عام ، والخاص يقضى به على العام كما تقرر في الأصول عند الجمهور .
والثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى من عموم كون الأرض مسجدا المقبرة والحمام ، فقد أخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والشافعي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححاه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الأرض كلها مسجد [ ص: 299 ] إلا المقبرة والحمام " ، قال ابن حجر في " فتح الباري " في الكلام على قول البخاري باب " كراهية الصلاة في المقابر " في حديث أبي سعيد هذا : رواه أبو داود والترمذي ، ورجاله ثقات ، لكن اختلف في وصله وإرساله ، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان . وقال الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " : صححه الحاكم في المستدرك ، وابن حزم الظاهري ، وأشار ابن دقيق العيد إلى صحته .
قال مقيده - عفا الله عنه - : التحقيق أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله ، وثبت موصولا من طريق صحيحة حكم بوصله ، ولا يكون الإرسال في الرواية الأخرى علة فيه ; لأن الوصل زيادة وزيادات العدل مقبولة . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :
والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ
من أدلة من قال : تصح الصلاة في القبور - ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة : أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا ، فقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها أو عنه ، فقالوا : مات قال : " أفلا آذنتموني " ، قال : فكأنهم صغروا أمرها أو أمره . فقال : " دلوني على قبره " فدلوه فصلى عليها . ثم قال : " هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم " . وليس للبخاري : " إن هذه القبور مملوءة ظلمة " إلى آخر الخبر ، قالوا : فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة إلى القبر .
ومن أدلتهم أيضا ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، قال : انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب ، فصلى عليه ، وصفوا خلفه ، وكبر أربعا .
ومن أدلتهم أيضا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر .
ومن أدلتهم ما قدمنا من الصلاة على عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما - وسط البقيع ، وهذه الأدلة يستدل بها على جواز الصلاة إلى القبور وصحتها ; لا مطلق صحتها دون الجواز .
ومن أدلتهم ما ذكره البخاري تعليقا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ : " ورأى عمر أنس بن مالك - رضي الله عنه - يصلي عند قبر . فقال : القبر ، القبر ، ولم يأمره بالإعادة " اهـ . وقال ابن حجر في الفتح : أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة . والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في كتاب الصلاة لأبي [ ص: 300 ] نعيم شيخ البخاري . ولفظه : " بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر : القبر ، القبر ; فظن أنه يعني القمر . فلما رأى أنه يعني القبر ، جاوز القبر وصلى " وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق . منها : من طريق حميد عن أنس نحوه ، زاد فيه : فقال بعض من يليني : إنما يعني القبر فتنحيت عنه . وقوله : القبر القبر ، بالنصب فيهما على التحذير . وقوله : ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادي أنس على الصلاة . ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف . اهـ منه بلفظه .
قال مقيده - عفا الله عنه - : هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة ، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن ، وإن لم يمكن وجب الترجيح ، وفي هذه المسألة يجب الجمع والترجيح معا . أما وجه الجمع : فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت ، وليس فيها ركوع ولا سجود ، وإنما هي دعاء للميت : فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور .
ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو النافلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود . ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر . نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم : " لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها " ; فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة ، فيشمل الصلاة على الميت ، فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده ، بل العكس . أما الصلاة على الميت : فهي التي تعارضت فيها الأدلة . والمقرر في الأصول : أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز ، وللمخالف أن يقول : لا يتعارض عام وخاص . فحديث : " لا تصلوا إلى القبور " عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت . والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة ، والخاص يقضى به على العام .
فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية : منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقا ; للعنه - صلى الله عليه وسلم - لمتخذي القبور مساجد ، وغير ذلك من الأدلة ، وأن الصلاة على قبر الميت - التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود - تصح ; لفعله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح ، من حديث أبي هريرة ، وابن عباس ، وأنس ، ويومئ لهذا الجمع حديث لعن متخذي القبور مساجد ; لأنها أماكن السجود . وصلاة الجنازة لا سجود فيها ; فموضعها ليس بمسجد لغة ; لأنه ليس موضع سجود .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg