-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
العلاقة بين الملك نجم الدين أيوب والمماليك وكيفية تربيتهم (76)
العلاقة بين الملك نجم الدين أيوب والمماليك وكيفية تربيتهم
الذي استحدثه الملك الصالح أيوب وتبعه عليه سلاطين دولة المماليك، زيادة على أنه كان يأتي بالمماليك بصورة كبيرة، أنه كان يأتي بالمماليك في مرحلة الطفولة المبكرة جداً، وكان غالب هؤلاء من بلاد غير مسلمة، وفي الغالب يكون هذا المملوك غير مسلم وغير ناطق بالعربية أساساً، فكان يحضرهم ويبتدئ تربيتهم في مصر.
وهنا نقطة مهمة جداً فالملك الصالح أيوب ومن تبعه بعد ذلك من الأمراء ما كانوا يتعاملون أبداً مع المماليك كرقيق، بل كانوا يقربونهم جداً منهم، إلى درجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم، ولم تكن الرابطة بينهم رابطة المالك والمملوك، ولا رابطة السيد والعبد، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأتباعه، وهذه الرابطة تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة،
حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب الأستاذ، وليس لقب السيد.
وقد شرح المقريزي كيفية تربية المملوك الصغير، الذي يشترى وهو ما زال في مرحلة الطفولة المبكرة، ونريد أن نركز على هذا جداً؛ لأنه صار مفتاح التغيير في مصر، وبواسطته تكوّن الجيش الذي استطاع أن يقف أمام التتار بعد ذلك.
أول المراحل التربوية في حياة المملوك: هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة؛ لأنهم جاءوا من بلاد غير ناطقة باللغة العربية، ثم بعد ذلك يدفع إلى من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ بعد ذلك في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي وآداب الشريعة الإسلامية، وهذا كان عاماً على كل المماليك، ولهذه التربية المتميزة الأثر على أطفال المماليك، فقد نشئوا وهم يعظمون جداً أمر الدين الإسلامي، وأصبحت لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، فظلت مكانة العلم والعلماء عالية جداً عند المماليك في كل مراحل حياتهم،
وهذه المعلومة من أهم المعلومات عن دولة المماليك، وهو يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في عهد المماليك، فقد ظهر في عهد دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ، مثل: العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله، وأسماء لا حصر لها.
وكان إذا وصل المماليك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال، فيعلمونهم فنون الحرب والقتال، وركوب الخيل، والرمي بالسهام، والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً من المهارة القتالية والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب.
ثم بعد ذلك يتدربون على أمور القيادة والإدارة، ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك متفوقاً تماماً في المجال العسكري والإداري، بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة، وهذا كله ولا شك كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال، وهذا كله يؤكد أهمية التربية.
وكان السيد الذي اشتراهم يتابع هذه الخطوات والمراحل من التربية بدقة شديدة، بل وأحياناً كان السلطان الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، وينبسط إليهم، وهو سلطان مصر كلها.
وكان المماليك يحبون أساتذتهم حباً حقيقاً فعلاً، ويدينون لهم بالولاء التام، وهكذا إذا كان القائد يخالط شعبه ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم ولا شك يحبونه ويعظمونه ويثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا طلب منهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه، وأما إذا كان القائد في حالة انفصام مع شعبه، ويعيش حياته المترفة بعيداً عنهم، ويتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون أبداً بأي انتماء ناحيته، بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم التي يعيشون فيها، ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
الحملة الصليبية السابعة على مصر (77)
في سنة (647) من الهجرة مرض الملك الصالح أيوب رحمه الله مرضاً شديداً بمرض السل، وكان قد كبر سنه جداً، مما جعله طريح الفراش في القاهرة، وفي هذه الأثناء وقبلها أراد ملك فرنسا لويس التاسع أن يستغل فرصة الاجتياح التتري لشرق العالم الإسلامي، فيقوم هو باجتياح العالم الإسلامي من ناحية مصر والشام.
وذكرنا من قبل أنه حاول الاستعانة بخاقان التتار آنذاك كيوك بن أوكيتاي، ولكن فشلت هذه المحاولة، ومع ذلك أصر لويس التاسع على المضي في حملته.
ووقع اختياره على مدينة دمياط المصرية، من أجل أن يبدأ منها الحملة التي يغزو منها مصر والشام، وكانت في ذلك الوقت أهم ميناء في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وهذه الحملة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا تعرف في التاريخ باسم الحملة الصليبية السابعة.
وهناك تفصيلات كثيرة جداً مهمة في هذه الحملة، وسنعرض لها إن شاء الله بالتفصيل عند الحديث عن الحروب الصليبية في سلسلة أخرى.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
معركة فار سكور وأسر لويس التاسع وسقوط جيشه وهزيمتهم (78)
وصل توران شاه بن الصالح أيوب إلى المنصورة بعد هذا الهجوم الأخير بعشرة أيام في يوم (17) ذي القعدة سنة (647) من الهجرة، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأعلن رسمياً وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاية توران شاه لحكم مصر والشام، ثم بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين، وكانت حالة الجيش الصليبي قد ساءت جداً بعد انتصار المنصورة الرهيب، وتراجع ناحية دمياط، فتبعه الجيش المسلم بسرعة، وبدأ يخطط لحرب جديدة،
وبالفعل التقى الجيش المصري مرة أخرى مع الجيش الصليبي عند مدينة فارسكور بالقرب من دمياط، وكان هذا اللقاء في أوائل محرم سنة (648) من الهجرة بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورة الكبيرة، وقاد هذه الموقعة توران شاه الملك الجديد، وكان الذي يتحكم في كل مجريات الأمور في الحرب هم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس قادة الجيش المصري في ذلك الوقت.
وفي موقعة فارسكور أُسر الملك لويس التاسع ملك فرنسا، ووقع جيشه بالكامل ما بين قتيل وأسير، وموقعة فارسكور من أعظم مواقع الإسلام، وحمل الملك لويس التاسع مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، وحبس في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان المشهور، ووضعت عليه شروط قاسية جداً ليفتدي نفسه من الأسر،
وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمان مائة ألف دينار من الذهب، يدفع نصفها حالاً والباقي مستقبلاً، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات.
فقد كانت هذه الموقعة انتصاراً باهراً بكل المقاييس، وجمع النصارى في فرنسا وفي غيرها نصف الفدية بصعوبة، وأطلقوا سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت، نسأل الله عز وجل أن يحررها من دنس اليهود الآن.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
موقعة المنصورة (79)
لما علم الملك الصالح رحمه الله بسقوط دمياط، اشتد الحزن والمرض عليه، وبدأ يفكر بطريقة عملية، وتوقع أن النصارى الصليبيين سيتجهون إلى القاهرة عبر النيل لغزو العاصمة المصرية نفسها، وبذلك يسقطون الدولة بكاملها، لذلك قرر بحكمة أن يرتب اللقاء في الطريق بين القاهرة ودمياط، فبدأ ينظر إلى خط النيل الذي يمر من دمياط إلى القاهرة، فوجد أن مدينة المنصورة تقع على النيل، وحتماً سيصل إليها الصليبيون، فلذلك قرر أن يتجمع بجيشه في المنصورة، وحمل الملك الصالح بنفسه مع مرضه الشديد إلى المنصورة، وبدأ الجيش المصري ومعظمه من المماليك يستعد هناك لحرب الصليبيين، وعلى رأس الجيش المصري كما ذكرنا قبل ذلك فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس.
خرج النصارى من دمياط في (12) شعبان سنة (647) هجرية، متجهين جنوباً إلى القاهرة عبر النيل، كما توقع الملك الصالح أيوب، وقبل أن يصلوا إلى مدينة المنصورة وفي ليلة النصف من شعبان سنة (647) من الهجرة توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله في المنصورة، وهو يعد الخطة مع جيوشه لتحصين المنصورة، نسأل الله عز وجل له المغفرة والرحمة وأجر الشهداء.
يقول ابن تغري بردي رحمه الله صاحب كتاب (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) عن نجم الدين أيوب رحمه الله:
ولو لم يكن من محاسن السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلا تجلده عند مقابلة العدو بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة، وموته على الجهاد والذب عن المسلمين لكفاه ذلك، ثم يقول: ما أصبره وأغزر مروءته! وكانت هذه المصيبة خطيرة على المسلمين، لا لفقد الزعيم الصالح فقط، ولكن لفقدان البديل، فلم يكن يوجد خليفة للملك الصالح في ذلك الوقت، والبلاد في أزمة شديدة، فميناء دمياط محتل، وجنود الصليبيين في الطريق، وهنا تصرفت زوجة السلطان نجم الدين أيوب شجرة الدر بحكمة بالغة، -وهي جارية من أصل أرميني أو تركي، اشتراها الصالح أيوب ثم أعتقها وتزوجها، فهي في الأصل أقرب إلى المماليك، -فكتمت خبر وفاة الملك الصالح، وقالت: إن الأطباء منعوا الزيارة له، وأرسلت رسالة سريعة جداً إلى ابن الملك الصالح أيوب توران شاه وكان يحكم مدينة تعرف بحصن كيفا، وهي الآن في تركيا، وأبلغته بخبر وفاة أبيه وأن عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام، ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح فخر الدين يوسف على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه ويتولى أمور البلاد، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وإعداد الخطة المناسبة لحرب الصليبيين، فمشت الأمور بصورة طيبة ومرضية،
ولم يحصل اضطراب بعد وفاة الملك الصالح، فوضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة في منتهى البراعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضوا الخطة على شجرة الدر، ووافقت شجرة الدر على الخطة وبدأ التنفيذ بالفعل.
وكانت شجرة الدر في ذلك الوقت تمثل الحاكم الفعلي للبلاد حتى يأتي توران شاه بن الصالح أيوب، وفي يوم (4) ذي القعدة في سنة (647) هجرية -وهذا التاريخ من أعظم تواريخ الإسلام- دارت موقعة المنصورة العظيمة، وانتصر المسلمون فيها انتصاراً باهراً، وفيها تفصيلات في منتهى الروعة، وليس هناك مجال لذكرها الآن.
ثم حدث هجوم آخر على جيش الملك لويس التاسع خارج المنصورة في يوم (7) ذي القعدة سنة (647)، وتمكن الملك لويس التاسع من صد ذلك الهجوم بعد كفاح مرير.
ثم بعد ذلك
نزل لويس التاسع بجيشه إلى دمياط في يوم (20) صفر سنة (647) من الهجرة، وظنت الحامية التي تدافع عن مدينة دمياط أن السلطان المريض الملك الصالح أيوب قد مات، فانسحبوا انسحاباً غير مبرر، ووقعت دمياط بسهولة شديدة جداً في أيدي الصليبيين، وهي المدينة التي دوخت قبل ذلك الحملة الصليبية الخامسة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
صفات توران شاه في الحكم وقصة مقتل (80)
مع هذا الانتصار المبهر للمسلمين على الصليبيين إلا أن توران شاه لم يكن يناسب تلك الأحداث الساخنة التي تمر بالأمة الإسلامية، فـ توران شاه كان شخصية عابسة متصفاً بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وقد ركبه الغرور بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فبدأ يتنكر لزوجة أبيه شجرة الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، وطالبها بهذا المال، بل وهددها بشدة،
حتى دخلها خوف كبير منه، ولم يحفظ لها جميل حفظ الملك له بعد موت أبيه، فقد بعثت له من أجل أن يأتي ويستلم مقاليد الحكم في مصر، مع أن الوضع كان في اضطراب شديد جداً، فجاء إلى مصر ووجد الجيش منتصراً بالفعل، ومع ذلك بدأ يتنكر لها، ولكبار أمراء المماليك أمراء الجيش، وعلى رأسهم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، فلم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه بالمنصورة، ثم في فارسكور، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم، وبدأ على الجانب الآخر يعظم من شأن الرجال الذين جاءوا معه من حصن كيفا التركي، وبدأ واضحاً للجميع أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق في السلطة في مصر، وبالذات في الجيش المصري، وكان كل هذا في غضون الثلاثة الأشهر الأولى له في مصر، وبعد موقعة فارسكور مباشرة، فخافت شجرة الدر على نفسها، وأسرت بذلك إلى المماليك البحرية، وبالذات فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس،
وقد كان المماليك البحرية يكنون لـ شجرة الدر كل الاحترام والولاء؛ لأنها زوجة الأستاذ الملك الصالح رحمه الله، وعلاقة الأستاذية هذه كانت أقوى من علاقة الأب بابنه أحياناً، وكانت تبقى آثار هذه العلاقة حتى بعد موت السيد الذي اشتراهم أو الملك الذي رباهم، ولما ذكرت شجرة الدر هذه الوساوس إلى المماليك البحرية، وجدت عندهم نفس الوساوس، فقد خافوا من توران شاه، وتوقعوا أن يقصيهم توران شاه عن الحكم والسلطة، بل وقد يتعرض لهم بالقتل، فأجمعوا على سرعة التخلص من توران شاه وقتله.
والمماليك بصفة عامة، كان عندهم تساهل كبير جداً في الدماء، كانوا يقتلون بالشك، فإذا شكوا في أحد أنه ينوي أن يغدر، فإن ذلك يعتبر عندهم مبرراً كافياً للقتل، وكان هذا التساهل في الدماء عاماً في حياة المماليك، وفي كل فترات دولتهم تقريباً، وكم من أمرائهم وخصومهم بل ومن عظمائهم من قُتل بسبب الشك في نواياه، وقد يكون هذا راجعاً إلى التربية العسكرية الجافة التي نشأ عليها المماليك، فقد كانت فيهم قسوة نفسية وشدة وعدم تمييز للأمور، وكانوا يحبون حسم كل الأمور بالسيف الذي يحملونه منذ نعومة أظفارهم، والشيء الذي لا يفهم هو أن هؤلاء المماليك كانوا ينشئون على التربية الدينية والفقهية، ولا أدري أي سند فقهي يعضد قتل رجل ما، حتى ولو غلب على الظن أنه سيقوم بعزل أو احتمال قتل.
المهم أنهم في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والتدبيرات الخفية، لم يكن يستهجن عندهم مطلقاً أمر ذلك القتل، بل إن القاتل أحياناً يفخر أمام الناس بقتله للمقتول، بل وقد يصعد إلى كرسي الحكم وهو مرفوع الرأس لا يشعر بأي تأنيب ضمير، وكأن الدماء التي تسيل هذه ليس لها وزن عند الله سبحانه وتعالى ولا عند الناس.
وهذا ليس دفاعاً عن توران شاه أو غيره، فقد يكون القتيل شخصية عابسة وسيئة وكريهة، ولكن العقوبات في الإسلام لها مقاييس معينة ومقادير خاصة جداً، وهذه المقاييس لم نحددها نحن، بل حددها رب السماوات والأرض، فالسارق وإن كان مجرماً سيئاً كريهاً، إلا أنه لا يقتل لمجرد السرقة، بل تقطع يده، والزاني غير المحصن وإن كان قد قام بعمل شنيع مشين، إلا أنه يجلد ولا يرجم وهكذا، وليست وساوس المماليك أو غيرهم مبرراً شرعياً كافياً للقتل، بل قد تكون مبرراً شرعياً للعزل أو الاعتراض أو الحبس أو ما إلى ذلك، لكن الوصول إلى حد القتل أمر كبير جداً.
إذاً: اتفقت شجرة الدر مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على قتل توران شاه، وتمت الجريمة في (27) محرم سنة (648) هجرية بعد سبعين يوماً فقط من قدومه من حصن كيفا في تركيا واعتلائه عرش مصر، وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي يحكم، بل لكي يدفن.
وبمقتل توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين الأيوبي رحمه الله انتهى حكم الأيوبيين تماماً من مصر، وبذلك أغلقت صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
المماليك وحكم مصر (81)
لقد حدث فراغ سياسي كبير جداً بقتل توران شاه، فليس هناك أيوبي في مصر مؤهل لقيادة الدولة، ومن ناحية أخرى فإن الأيوبيين في الشام مازالوا يطمعون في مصر، والشام ومصر كانتا دولة واحدة في زمن الملك الصالح أيوب رحمه الله،
فقد وحد الدولتين بعد حربه مع الأيوبيين والصليبيين في الشام، والآن سيحاول الأيوبيون في الشام ضم مصر إلى الشام لصالحهم، ولا شك أنه قد داخل الأيوبيين في الشام حنق كبير على المماليك؛ لأنهم تجرءوا وقتلوا أيوبياً، وكان المماليك يعلمون أن الأيوبيين سيحرصون على أخذ الثأر منهم، لكنهم كانوا يدركون أن قيمتهم في الجيش المصري كبيرة جداً، وهم يعرفون أن المماليك هم القوة الفعلية في مصر، وأنهم قد ظُلموا بعد موقعة المنصورة وفارسكور؛
فقد كانوا السبب الرئيسي في الانتصار، ومع ذلك همش دورهم، كل هذه الخلفيات جعلت المماليك ولأول مرة في تاريخ مصر يفكرون في أن يمسكوا هم بمقاليد الأمور مباشرة، فهم القادرون على أن يغلبوا، فلماذا لا يكون الحكم لهم؟
ولأول مرة طرح هذا السؤال على أذهان المماليك، وقد استخدموا في مصر من أيام الطولونيين، يعني: من سنة (254) من الهجرة، ثم بعدها استخدموا أيضاً في أيام الدولة الإخشيدية، ثم في أيام الدولة الفاطمية، ثم في أيام الدولة الأيوبية، وفي كل هذه الفترات كان الجيش يعتمد تقريباً اعتماداً كاملاً على المماليك،
ومع ذلك لم يفكروا مطلقاً في حكم ولا سياسة، فقد كانوا دائماً أعوان الملوك، وما كانت تخطر على أذهانهم فكرة الملك أبداً؛ لكونهم من المماليك الذين يباعون ويشترون، فلم تكن لهم عائلات معروفة أصلاً ينتمون إليها، وهذا يشعرهم بالغربة في البلاد الجديدة التي يعيشون فيها، والخطر لم يكن يمسهم ألبتة، وإنما كان دائماً يمس السلطة، وهم تبع للسلطة الجديدة، وينتقلون من سيد إلى آخر وهكذا.
وأما الآن فالمؤامرات ستدبر لهم مباشرة، والدائرة ستدور عليهم هم، والملوك ضعفاء، والقوة كلها بيدهم، فلماذا لا يجربون حظهم في الحكم، ولكن صعودهم مباشرة إلى الحكم سيكون مستهجناً جداً في مصر، فالناس لا تنسى أن المماليك في الأساس عبيد يباعون ويشترون، وحتى لو أعتقوا، فتقبل الناس لحكمهم سيكون أمراً صعباً، وحتى لو كثرت الأموال في أيدي المماليك، وتعددت الكفاءات، وحكموا الأقاليم والإقطاعات فهم في النهاية مماليك، وصعودهم إلى الحكم يحتاج إلى حجة مقنعة للشعب الذي لم يألفهم أبداً إلا في كنف السلاطين.
كل هذا دفع المماليك البحرية الصالحية إلى أن يرغبوا بعد مقتل توران شاه في فترة انتقالية تمهد الطريق لحكم المماليك، وفي ذات الوقت لا تقلب عليهم الأمور في مصر أو في العالم الإسلامي، فهم يريدون الحكم بعد توران شاه، ولكنهم يريدون فترة انتقالية، بحيث يستوعب الناس جلوسهم على الكرسي بعد ذلك.
إذاً: كانت هذه هي حسابات المماليك الصالحية البحرية، فهم يريدون أن يحكموا؛ لأنهم هم أصحاب القوة الحقيقية، ويخافون على أنفسهم من أن يقصوا من الحكم بسبب أنهم من المماليك، وهذه مشكلة لا يستطيعون حلها.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
شجرة الدر وحكم مصر (82)
كانت شجرة الدر امرأة ذات طابع خاص جداً، لا تتكرر كثيراً في التاريخ، فهي امرأة قوية جداً، وشجاعة وجريئة ولها عقل مدبر، وتتمتع بحكمة شديدة، ولها القدرة على القيادة والإدارة، وكانت شجرة الدر تعرف كل هذه الأشياء عن نفسها،
فقد كانت شديدة الإعجاب بإمكانياتها وبنفسها، وهذا كله دفعها إلى تفكير جديد تماماً على الفكر الإسلامي وبالذات في هذه الفترة من تاريخ الأمة، ففكرت في الصعود إلى كرسي الحكم في مصر، وهذا أمر هائل فعلاً، وسباحة عنيفة جداً ضد التيار، ولكن شجرة الدر وجدت في نفسها الملكة التي تسمح لها بتطبيق هذه الفكرة الجريئة،
وقالت لنفسها: إنني حكمت البلاد سراً أيام المنصورة، فلماذا لا أحكمها الآن جهراً؟ ولما تباحثت شجرة الدر مع المماليك البحرية في أمر البلاد بعد مقتل توران شاه وجد المماليك فيها الفترة الانتقالية التي يريدون، فهي زوجة الأستاذ الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله،
والجميع يكن له كامل الحب والاحترام والوفاء، سواء من المماليك أو من الشعب المصري نفسه، فالشعب المصري كان يحب الملك الصالح جداً، وهي في نفس الوقت تعتبر من المماليك، وإن كانت أعتقت إلا أنها كانت مملوكة قبل ذلك، كما أنها في النهاية امرأة ويستطيع المماليك من خلالها أن يحكموا مصر، ويوفروا الأمان لأرواحهم،
يعني: أنهم سيضعون شجرة الدر في الصورة بأنها حاكمة مصر، والشعب في اعتقاد المماليك سيسكت؛ لأنها زوجة الملك الحبيب لهم الملك الصالح رحمه الله الذي مات منذ أشهر قليلة، وفي نفس الوقت يستطيعون أن يسيطروا على الحكم من خلال هذه المرأة التي مهما كانت قدرتها فستظل امرأة ضعيفة، وبالتالي يستطيعون الصعود بعد ذلك إلى الحكم صراحة، فما دام أنه قد صعد إلى الحكم امرأة مملوكية، فسيستطيع أن يصعد بعد ذلك رجل مملوك.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تولي شجرة الدر لحكم مصر (83)
توافقت رغبة المماليك مع رغبة شجرة الدر، وقرروا جميعاً إعلان شجرة الدر حاكمة لمصر بعد مقتل توران شاه بأيام في أوائل صفر سنة (648) هجرية، فقامت الدنيا ولم تقعد، وتفجرت ثورات الغضب في كل مكان في مصر، وعم الرفض لهذه الفكرة في أطراف العالم الإسلامي،
وخرجت المظاهرات بكثرة في شوارع مصر، في وقت كانت المظاهرات مسموحة، وحاولت شجرة الدر أن تتدارك الموقف قدر المستطاع، فنسبت نفسها إلى زوجها المحبوب عند الشعب الملك الصالح نجم الدين أيوب،
فقالت عن نفسها: إنها ملكة المسلمين الصالحية؛ لتذكر الناس أنها تبع الملك الصالح، ولكن هذا الكلام لم يكف ولم يوقف الشعب عن المظاهرات، فنسبت نفسها إلى ابنها الصغير ابن الصالح أيوب، فقد كان عندها طفل صغير اسمه الخليل، فلقبت نفسها ملكة المسلمين الصالحية، والدة السلطان خليل أمير المؤمنين،
وكأنها تقول: إنها فترة انتقالية حتى يأتي أمير المؤمنين خليل بن الملك الصالح الذي تحبونه، ومع ذلك فإن هذا أيضاً لم يوقف المظاهرات، فأضافت نفسها إضافة ثلاثة إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله الذي كان يحكم في ذلك الوقت، والذي سقطت بغداد في عهده، فسمت نفسها ملكة المسلمين المستعصمية -نسبة إلى المستعصم -الصالحية- نسبة إلى الصالح أيوب -والدة السلطان خليل أمير المؤمنين، ومع كل هذه المحاولات للتزلف إلى العامة والعلماء ليقبلوا الفكرة، إلا أن الغضب لم يتوقف، وظهر على كافة المستويات، وبدأ واضحاً للجميع أن البلاد ستدخل في أزمة خطيرة، وأن الوضع في منتهى الحرج، والحملات الصليبية الشرسة لا تتوقف، والإمارات الصليبية منتشرة في فلسطين، وأمراء الشام الأيوبيون يطمعون في مصر، والصراع كان محتدماً جداً بين هؤلاء الأمراء الأيوبيين وبين الملك الصالح نفسه، فما بالكم بالوضع الآن؟
ثم إن هناك الهم الكبير الذي يطرق أبواب المسلمين بعنف وهو التتار، والتتار في ذلك الوقت في سنة (648) من الهجرة كانوا على أبواب بغداد في أذربيجان وفارس، ويخططون من أجل إسقاط بغداد، وكان إعداد هولاكو لغزو العراق في بداياته في هذه المرحلة.
استمرت المظاهرات العارمة على المستوى الشعبي في مصر في كل أنحائها، وشرع المتظاهرون في الخروج بمظاهراتهم إلى خارج حدود المدينة، وبدأ الموقف يتأزم بشدة، وقام العلماء والخطباء ينددون بذلك الأمر على منابرهم وفي دروسهم، وكانت الدروس مسموحاً بها في ذلك الوقت، وكان أشد العلماء غضباً في ذلك الوقت الإمام الجليل العز بن عبد السلام رحمه الله، أبرز العلماء في ذلك الوقت،
وأظهر الأمراء الأيوبيون في الشام حنقهم الشديد واعتراضهم المغلظ على صعود النساء إلى كرسي الحكم في مصر، وجاء رد الخليفة العباسي المستعصم بالله قاسياً وشديداً جداً، بل وساخراً جداً من الشعب المصري كله، فقد قال لهم في رسالته إليهم: إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسير إليكم رجلاً.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
زواج شجرة الدر من عز الدين أيبك الصالحي وتوليه لحكم مصر (84)
لم تتوقف الاعتراضات على الملكة الجديدة، ولم تنعم بيوم واحد فيه راحة، وخافت الملكة الطموحة على نفسها، وبالذات في هذه الأيام، وكان التغيير في هذه الأيام بالسيف بالذبح لا بالخلع أبداً، ومن هنا قررت الملكة شجرة الدر بسرعة أن تتنازل عن الحكم لرجل تحكم البلاد من خلاله،
فحب السلطان يجري في دمها ولا تستطيع أن تتركه، فهي تشعر بإمكانياتها العقلية والإدارية والقيادية، وهي إمكانيات هائلة فعلاً، ففكرت بأن تمسك بالعصا من نصفها كما يقولون، فتحكم باطناً وتتنحى ظاهراً، ففكرت في لعبة سياسية خطيرة، وهي أن تتزوج أحد الرجال، ثم تتنازل له عن الحكم؛ ليكون هو في الصورة، ثم تحكم هي البلاد بعد ذلك من خلاله أو من خلف الستار، كما يحدث كثيراً في أوساط السياسة، فكم من الحكام يحكمون وليس لهم من الحكم إلا الاسم، وكم من السلاطين ليس لهم من السلطة نصيب، وما أكثر الرجال الذين سيقبلون بهذا الوضع نظير أن يبقى أطول فترة ممكنة في كرسي الحكم الوثير، وكرسي الحكم مريح جداً، والذي يجلس فيه لا يحب أن يقوم منه.
وشجرة الدر لا تريد أن تتزوج رجلاً حقيقة، وإنما تريد فقط صورة رجل؛ لأنه لو كان قوياً لحكم هو ولتمسك بمقاليد الأمور في البلاد، فهي تريد رجلاً ضعيفاً، وليس من عائلة قوية أصيلة، حتى لا تؤثر عليه عائلته، فيخرج الحكم من يد الملكة الطموحة، ويا حبذا لو كان هذا الرجل السعيد الحظ من المماليك! حتى تضمن بذلك ولاءهم، وهذا أمر في غاية الأهمية، ولو كان هذا الرجل هو السند الشرعي للحكم، فالمماليك هم السند الفعلي والعسكري والواقعي للحكم.
فوضعت شجرة الدر كل هذه الحسابات في ذهنها، ثم اختارت رجلاً من المماليك اشتهر بينهم بالعزوف عن الصراع، والبعد عن الخلافات والهدوء النسبي، وكانت هذه الصفات حميدة في نظر شجرة الدر، فوجدت في هذا الرجل ضالتها، وهذا الرجل هو عز الدين أيبك التركماني الصالحي، يعني: من المماليك الصالحية البحرية، من مماليك زوجها الراحل الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولم تختر رجلاً من المماليك الأقوياء أمثال فارس الدين أقطاي أو ركن الدين بيبرس أو غيرهما؛
وذلك لتتمكن من الحكم بلا منازع، وبالفعل تزوجت شجرة الدر من عز الدين أيبك، ثم تنازلت له عن الحكم رسمياً، وذلك بعد أن حكمت البلاد (80) يوماً فقط، وتم هذا التنازل في أواخر جمادى الآخرة من سنة (648) من الهجرة.
وفي غضون سنة واحدة جلس على كرسي الحكم في مصر أربعة ملوك، الملك الصالح أيوب رحمه الله، ثم مات، فتولى توران شاه ابنه، ثم قتل، فتولت شجرة الدر، ثم تنازلت، فتولى عز الدين أيبك التركماني الصالحي , فقد كانت سنة فتن وانقلابات ومؤامرات ومكائد، وتلقب عز الدين أيبك بـ الملك المعز، وأخذت له البيعة في مصر.
وكأن هذه الأحداث قد تمت بكاملها كنوع من التمهيد؛ لقبول فكرة صعود المماليك إلى كرسي الحكم في مصر، فقد قبل الشعب المصري بالوضع الجديد، فهو وإن لم يكن مثالياً في رأيهم، إلا أنه أفضل حالاً من تولي امرأة، وعز الدين أيبك كان مملوكاً، ولكنه أعتق، ومع ذلك فقد كان يعتبر مملوكاً، لكن أفضل من المرأة، كما أن البديل من الأيوبيين في مصر غير موجود، وكذلك غير موجود في الشام، ونحن رأينا أمراء الأيوبيين في الشام في منتهى الضعف، فقد كانوا على شاكلة الناصر يوسف الأيوبي والأشرف الأيوبي والملك السعيد حسن بن عبد العزيز وغيرهم، ولم يكن فيهم ضعف فقط، بل ضعف وسوء خلق وعمالة وخيانة وما إلى ذلك، فالشعب المصري في ذلك الوقت قبل بالملك المعز عز الدين أيبك التركماني , وبدأت الأمور تهدأ في مصر.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
قتل الملك المعز لفارس الدين أقطاي (85)
في سنة (652) من الهجرة بعد أربع سنوات من تولي الملك المعز عز الدين أيبك للحكم في مصر فكر أقطاي الذي كان كبير قواد الجيش المصري بالتزوج من إحدى الأميرات الأيوبيات،
وكان الملك المعز عز الدين أيبك يراقب الموقف، وأدرك فوراً أن أقطاي يحاول أن يضفي على نفسه صورة جميلة أمام الشعب، وأن يجعل له انتماء واضحاً للأسرة الأيوبية التي حكمت مصر قرابة الثمانين سنة، وإذا كانت شجرة الدر حكمت مصر لكونها زوجة الصالح أيوب، فلماذا لا يحكم أقطاي مصر؛ لكونه زوجاً لأميرة أيوبية، فضلاً عن قوته وبأسه وتاريخه،
وهو الذي قاد الجيش المصري في موقعة المنصورة، وله ذكريات وأمجاد كبيرة في مصر، فشعر الملك المعز عز الدين أيبك بالخطر الشديد، وأن هذه بوادر للانقلاب عليه، والانقلاب عادة ما يكون بالسيف، فاعتبر أن ما فعله أقطاي سابقاً من إهانة واحتقار، وما يفعله الآن من زواج بالأميرة الأيوبية ما هو إلا مؤامرة لتنحية أيبك عن الحكم، ومن ثم أصدر أيبك أوامره بقتل زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي؛ لأنه ينوي الانقلاب،
فتم قتل فارس الدين أقطاي بأوامر الملك المعز وذلك في (3) شعبان سنة (652) من الهجرة، وبقتل فارس الدين أقطاي خلت الساحة لـ عز الدين أيبك , وبدأ يظهر قوته بوضوح ويبرز كلمته، وبدأ دور الزوجة شجرة الدر يقل ويضمحل.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
نشأة المماليك المعزية وتعكر العلاقة بين الملك المعز والمماليك الصالحية (86)
بدأت شجرة الدر تحكم من وراء الستار، وهي مؤيدة بالمماليك الأقوياء، وبالذات فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، ولكن يبدو أن ذكاء شجرة الدر قد خانها عند اختيار ذلك الرجل الملك عز الدين أيبك،
فهذا الرجل لم يكن بالضعف الذي تخيلته شجرة الدر، بل بالعكس، فقد كان في منتهى الذكاء، وقد عرف خطورة إخوانه من المماليك البحرية، وخطورة شجرة الدر، فبدأ يرتب أوراقه في حذر شديد، فلم يصطدم بـ شجرة الدر أو زعماء المماليك البحرية في أول أمره،
بل بدأ يعد العدة في تدرج، وبدأ يشتري مماليك خاصة به، ويعدهم كقوة مملوكية عسكرية تدين له شخصياً بالولاء، وانتقى من مماليك مصر من يصلح لهذه المهمة، وكون ما يعرف في التاريخ بالمماليك المعزية نسبة إليه، ووضع على رأس هذه المجموعة أبرز رجاله وأقوى فرسانه وأعظم أمرائه مطلقاً، وهو سيف الدين قطز رحمه الله، وهذا أول ظهور تاريخي للبطل الإسلامي الشهير سيف الدين قطز، فقد كان يشغل مركز قائد مجموعة المماليك الخاصة بالملك المعز عز الدين أيبك.
وإن شاء الله في الدرس الآتي سوف نتعرف على أصل سيف الدين قطز وكيف وصل إلى هذه المكانة.
ومع أن الملك المعز عز الدين أيبك نفسه من المماليك البحرية، إلا أن المماليك البحرية بدءوا يغارون منه بشدة، وبدأت تظهر عوامل كبيرة جداً من الحسد بين الطائفتين، فـ الملك المعز لم يكن له أي قيمة في المماليك البحرية، ومع ذلك وصل إلى كرسي الحكم في مصر، وهناك من المماليك من كانت له القوة والباع والتاريخ، ولم يصل إلى ما وصل إليه،
فهذا يلقب بـ الملك المعز عز الدين أيبك، وهؤلاء يلقبون بالمماليك، وشتان! فظهرت عوامل الغيرة والحسد من المماليك، وبالذات من فارس الدين أقطاي، وكما يقول المقريزي في كتابه (السلوك لمعرفة دول الملوك): لقد بالغ فارس الدين أقطاي في احتقار أيبك والاستهانة به، فكان يناديه باسمه مجرداً من أي ألقاب، ويقول له: يا أيبك! فهذه المعاملة من أقطاي جعلت عز الدين أيبك يحس من داخله أن المماليك البحرية، وقد يكون الشعب من ورائهم ينظرون إليه على أنه مجرد زوج للملكة المتحكمة في الدولة، مما جعله جدياً يفكر في التخلص من زعماء المماليك البحرية، ومع ذلك لم يتسرع.
مرت بعض الشهور والسنوات وحدث لقاءان كبيران بين الجيش المصري والجيش الشامي، فقد حاول الجيش الشامي أن يغزو مصر أكثر من مرة، وقد انتصر الملك المعز مرتين انتصاراً باهراً على الشاميين، بل وضم فلسطين مرة أخرى إلى مصر، وكانت الشام قد انفصلت عن مصر بعد وفاة الملك الصالح رحمه الله.
ثم بدأ يعيد من جديد تكوين الدولة التي تركها الملك الصالح أيوب رحمه الله، وهذا العمل رفع من قيمته جداً عند الشعب المصري.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
مقتل الملك المعز وشجرة الدر(87)
في سنة (655هـ) وبعد مرور سبع سنوات كاملة على حكم الملك المعز عز الدين أيبك أراد هذا الملك أن يثبت أقدامه بصورة أكبر في المنطقة، فأراد أن يعمل حلفاً، ولكنه خشي عليه المؤامرات والمكائد والخيانة التي كثرت في هذا الزمن، فأراد أن يوثقه برباط غليظ لا يفصم بسهولة، وهو الزواج،
فأحب أن يتزوج من بنت أو أخت ملك من ملوك المنطقة، ويوحد جيشه مع جيش هذا الملك حتى تصبح لهما السيطرة على المنقطة بأكملها، فاختار بنت حاكم الموصل الأمير الخائن الذي تكلمنا عليه كثيراً قبل ذلك بدر الدين لؤلؤ، فعرفت شجرة الدر بهذا الأمر فاشتعلت الغيرة في قلبها، فركبها الهم والغم، وعلمت أنه لو تم هذا الزواج الجديد فستطوى شجرة الدر تماماً من التاريخ، وأعمتها الكراهية عن حسن تقدير الأمور، ونسيت الحكمة التي تميزت بها، ولم تقدر أن زعماء المماليك البحرية قد هربوا إلى الشام، وأن القوة الحقيقية الآن في أيدي المماليك المعزية، الذين يدينون بالولاء والطاعة للملك المعز عز الدين أيبك، فلم تقدر كل ذلك، وقررت بعاطفة المرأة أن تقدم على خطوة غير مدروسة، وهي قتل الزوج الملك المعز عز الدين أيبك، وليكن ما يكون، وبالفعل دبرت مؤامرة لئيمة لقتل زوجها الملك،
وتم تنفيذ المؤامرة فعلاً في شهر ربيع الأول سنة (655) من الهجرة، وانتهى بذلك حكم الملك المعز عز الدين أيبك بعد سبع سنوات من جلوسه على عرش مصر، وبهذا تكون شجرة الدر قتلت اثنين من سلاطين مصر: توران شاه من قبل، وعز الدين أيبك، وعلم الجميع بجريمة القتل، فأسرع سيف الدين قطز قائد الجيش والذارع اليمنى للملك المعز عز الدين أيبك ومعه ابن عز الدين أيبك من زوجته الأولى نور الدين علي وكان عمره (15) سنة،
أسرعا ومعهما فرقة من المماليك المعزية وألقيا القبض على شجرة الدر، وطلبت أم نور الدين علي وزوجة الملك المعز عز الدين أيبك الأولى أن يترك لها الأمر في التصرف مع ضرتها شجرة الدر، وكانت النهاية المأساوية المشهورة أن أمرت أم نور الدين جواريها أن يقتلن الملكة السابقة ضرباً بالقباقيب، ولعل هذا هو حادث القتل الوحيد في القصة الذي له خلفية شرعية مقبولة، فـ شجرة الدر قتلت عز الدين أيبك دون مبرر معقول، فليس الزواج من امرأة أخرى جريمة، وليس الانفراد بالحكم دون الانصياع لحكم الزوجة جريمة، ولذلك لم يكن لديها مسوغ شرعي للقتل، فكان لابد أن تقتل، ولكن من المؤكد أن الطريقة التي قتلت بها لم تكن طريقة شرعية أبداً، بل كانت طريقة نسائية بحتة، لم يقصد منها القصاص فقط، بل قصد منها الإهانة والتحقير والذل، مثل ما فعل بـ المستعصم بعد ذلك عند سقوط بغداد، عندما قتل رفساً بالأقدام، وهذه نهايات خاصة جداً يكتبها الله عز وجل لبعض الملوك، ممن لم يرع لله عز وجل حقاً، ولم يرع للشعب حقاً.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
ولاية نور الدين علي بن الملك المعز (88)
بعد مقتل الملك المعز عز الدين أيبك، ومقتل شجرة الدر بويع لـ نور الدين علي بن عز الدين أيبك، وكان عمره (15) سنة، وهذه تعتبر مخالفة كبيرة ولا شك، ولكن لعله قد وضع في هذا التوقيت لكي يوقف النزاع المتوقع بين زعماء المماليك على الحكم، وتلقب السلطان الجديد بلقب المنصور.
وتولى الوصاية عليه أقوى الرجال في مصر في ذلك الوقت، وهو سيف الدين قطز رحمه الله قائد الجيش وزعيم المماليك المعزية، وأكثر الناس ولاء للملك السابق المعز عز الدين أيبك.
وكانت هذه البيعة لهذا السلطان الطفل في سنة (655) من الهجرة، وأصبح الحاكم الفعلي لمصر من وراء الستار هو سيف الدين قطز رحمه الله.
فمن هو سيف الدين قطز؟ وكيف سيكون الوضع في مصر في سنة (655) وما بعدها؟ وتذكروا أن بغداد قد سقطت في سنة (656) من الهجرة، واجتيحت الشام بعد ذلك كما ذكرنا في الدرس السابق.
فكيف سيكون رد فعل سيف الدين قطز؟ وكيف سيعد الجيش المصري والشعب المصري لملاقاة التتار؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
{فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
قطز وبناء الأمة (89)
في المقال السابق تحدثنا عن المماليك ونشأتهم وتربيتهم، وعن عدم استقرار الحكم في مصر في أوائل الفترة التي تسلم فيها المماليك حكم البلاد، وتحدثنا أيضاً عن موت الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، ثم ولاية ابنه توران شاه، ثم قتله، ثم ولاية شجرة الدر، ثم تنازلها، ثم ولاية الملك المعز عز الدين أيبك لمدة سبع سنوات كاملة، انتهت بقتله على يد شجرة الدر، ثم ولاية ابن الملك المعز عز الدين أيبك وهو لم يتجاوز بعد الخامسة عشرة من عمره.
وذكرنا أن الذي تولى الوصاية عليه هو أقوى الرجال في مصر في ذلك الوقت، وهو قائد الجيش المصري سيف الدين قطز رحمه الله.
سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين، واسمه الأصلي محمود بن ممدود، وهو من بيت مسلم ملكي أصلي، وسبحان الله! كم هي صغيرة هذه الدنيا! فـ قطز رحمه الله هو ابن أخت جلال الدين بن محمد بن خوارزم وجلال الدين الذي هزم التتار مرتين، ثم هزم وفر إلى الهند، ثم عاد إلى أرض فارس وقتل الكثير من المسلمين إلى أن قتل على يد فلاح كردي.
فالتتار لما أمسكوا بعضاً من أهل جلال الدين بن خوارزم بعد فراره إلى الهند، كان قطز أحد هؤلاء الذين أمسكهم التتار، فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم؛ ليباعوا في سوق الرقيق، وكان ممن بقي محمود بن ممدود أو قطز.
والتتار هم الذين أطلقوا على قطز اسم قطز، وهذه الكلمة بالتترية تعني: الكلب الشرس، فقد كان واضحاً على قطز علامات القوة والبأس من صغره، فلذلك أطلق عليه التتار هذه الكلمة، ثم باعوه بعد ذلك في أسواق الرقيق في دمشق، واشتراه أحد الأيوبيين وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عز الدين أيبك؛ ليصبح أكبر قواده كما رأينا.
ولعلنا نلحظ بوضوح في قصة قطز التدبير العجيب لرب العالمين سبحانه وتعالى! فالتتار مكروا بالمسلمين، واسترقوا أحد أطفالهم، وباعوه بأنفسهم في دمشق، ثم بيع بعد ذلك من واحد إلى آخر، ووصل إلى بلد لم يرها قبل ذلك، ولعله لم يكن يسمع بها أصلاً في هذه السن الصغيرة، ليصبح في النهاية ملكاً على هذا البلد، وتكون نهاية التتار -الذين قاموا بنقله من أقاصي بلاد المسلمين إلى مصر- على يد هذا المملوك الذي كان يباع ويشترى، وسبحان الذي يدبر بلطف، ويمكر بحكمة، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} } [النمل:50].
وقطز رحمه الله كبقية المماليك نشأ على التربية الدينية القوية، وتشبع بالحمية الإسلامية القوية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية وأساليب القتال، وعلى أنواع الإدارة وطرق القيادة، فنشأ رحمه الله شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له، وكان رحمه الله قوياً صبوراً جلداً،
بالإضافة إلى أنه ولد في بيت ملكي، فكانت طفولته طفولة الأمراء، وهذا أعطاه ثقة كبيرة في نفسه، فهو لم يكن غريباً على أمور القيادة والإدارة والحكم، وفوق كل هذا فإن أسرته قد هلكت تحت أقدام التتار، وقد رأى بعينه أفعال التتار في بلاده يوم أن كان صغيراً، وهذا ولا شك جعله يفقه جيداً مأساة التتار، وليس من رأى كمن سمع.
كل هذه العوامل مجتمعة صنعت من قطز رحمه الله رجلاً ذا طراز خاص جداً، يستهين بالشدائد تماماً، ولا يرهب أعداءه، مهما كثرت أعدادهم، أو تفوقت قواتهم.
ولقد كان للتربية الإسلامية العسكرية، والتربية أولاً على الثقة بالله أثر كبير جداً في حياة قطز رحمه الله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
ظهور الاضطرابات في مصر وغزو أمير الكرك لمصر(90)
ظهور الاضطرابات في مصر أثناء حكم نور الدين علي
تحدثنا في الدرس السابق عن قتل الملك المعز عز الدين أيبك وقتل زوجته شجرة الدر بعده ضرباً بالقباقيب، ثم تولى الحكم السلطان الطفل المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك الملك المعز، وتولى سيف الدين قطز رحمه الله الوصاية على السلطان الصغير؛ لأن سيف الدين قطز كان قائد الجيش، وأكبر رءوس الجيش في زمن الملك المعز.
وكما أحدث صعود شجرة الدر إلى كرسي الحكم قبل ذلك اضطرابات كثيرة جداً في مصر وفي العالم الإسلامي، كذلك أحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم نفس الاضطرابات، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قبل بعض المماليك البحرية الذين مكثوا في مصر ولم يهربوا إلى الشام مع من هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وتزعم الثورة في مصر سنجر الحلبي أحد هؤلاء المماليك البحرية، وقاد حملة لتغيير نظام الحكم وإعادة المماليك البحرية في الصورة، وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك، فاضطر قطز رحمه الله إلى القبض عليه وإلى حبسه، وكذلك قبض على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام؛ ليلحقوا بزعمائهم الذين فروا قبل ذلك أيام المعز، ولما وصل المماليك البحرية إلى الشام، شجعوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، فاستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء، ومنهم مغيث الدين عمر أمير الكرك، والكرك الآن في الأردن.
كان مغيث الدين عمر رجلاً ضعيفاً جداً، ومع ذلك كان صاحب أطماع أكبر من حجمه، فتقدم بجيشه ناحية مصر، ووصل إليها في ذي القعدة سنة (655) من الهجرة، وحاول غزوها، فخرج له قطز رحمه الله وهزمه هزيمة منكرة، فرجع مغيث الدين والأحلام تراوده بغزو مصر من جديد، فعاد مرة أخرى في ربيع الآخر سنة (656) من الهجرة، يعني: بعد عدة أشهر من الهزيمة الأولى فهزم مرة ثانية.
وهنا أمر خطير جداً، فالغزوة الثانية التي حاول فيها المغيث عمر الأيوبي أن يغزو مصر كانت في ربيع الآخر سنة (656) من الهجرة، بعد سقوط بغداد بشهرين فقط، فبدلاً من توجيه كل الطاقة إلى قضية التتار، إذا به يتوجه لحرب المسلمين! وهذا هو مرض الحول السياسي الذي أشرنا إليه من قبل، فـ مغيث الدين هذا كان مسكيناً مصاباً بهذا المرض الخطير.
سقطت بغداد في صفر سنة (656) من الهجرة، وبدأ هولاكو في الإعداد لغزو الشام، وحاصر ابنه أشموط ميافارقين بداية رجب سنة (656) من الهجرة، وبدأ هولاكو في التحرك من فارس إلى الشام مروراً بشمال العراق في سنة (657) هجرية، واحتل نصيبين والرها والبيرة، وكل هذه المدن في جنوب تركيا كما ذكرنا قبل ذلك، واقترب من حلب، وأصبح واضحاً أن هولاكو لن يهدأ حتى يسقط الشام بكامله، وبعد الشام لابد أن تكون الخطوة التالية هي مصر.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
عزل السلطان عز الدين علي وتولي قطز الحكم (91)
قطز رحمه الله وإن كان يدير الأمور فعلياً في مصر، إلا أن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا كان يضعف من هيبة الحكم في مصر، ويزعزع من ثقة الناس بملكهم، ويقوي كذلك من عزيمة الأعداء عندما يرون الحاكم طفلاً.
في ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، والاضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين لم يجد قطز رحمه الله أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل نور الدين علي على كرسي أهم دولة في المنطقة وهي مصر،
والتي لم يعد هناك أي أمل في صد التتار إلا فيها، وهنا أخذ قطز رحمه الله القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، وصعود قطز بنفسه على عرش مصر، ولم يكن هذا القرار غريباً، فـ قطز كان هو الحاكم الفعلي للبلاد، والجميع بما فيهم السلطان الطفل نفسه نور الدين علي يدركون ذلك تمام الإدراك، ولكن قطز لم يكن يتحرك إلا من خلف هذه الصورة الهزلية المضحكة، وهي صورة السلطان الطفل، فما كان من قطز إلا أن أخذ هذا القرار الجاد في (24) ذي القعدة سنة (657) من الهجرة؛ ليظهر من ورائها الأسد الهصور قطز رحمه الله الذي على يديه ستتغير معالم الأرض وجغرافية العالم، وتتغير كثير من صفحات التاريخ.
وقبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام، ومنذ أن صعد قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم، بدأ يعد العدة للقاء التتار، وحدثت أحداث جسام على أرض مصر، فقد انتهج نهجاً جديداً على ذلك الزمن، ورفع رايات جديدة ما رفعت منذ أمد، وجهز جيوشاً ما جهزت منذ أزمان بعيدة، وفي عهده كان اليوم الذي لا يشبهه من أيام الزمان إلا قليل، وأما كيف حدث كل ذلك، فتعالوا نرى وننظر إلى قطز رحمه الله كيف عمل؟
وكيف استلم البلاد؟ وكيف وصل بها إلى ما وصل إليه رحمه الله؟!
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
وضع مصر الداخلي والخارجي عند تولي قطز (92)
إذا كان الوضع السياسي والعسكري داخل البلاد على هذه الصورة الخطيرة فالمسرح السياسي الخارجي كذلك، كان يحمل مشكلات في غاية الأهمية.
فالعلاقات بين مصر وبين الدول التي حولها كانت ممزقة تماماً، والعلاقات الدبلوماسية مع كل إمارات الشام كانت مقطوعة تماماً، ولم تكن مقطوعة فقط، بل كانت روح العداء الشديد هي السائدة بين الفريقين، وكذلك لم يكن لمصر أي سند من الشمال الإفريقي أو ليبيا أو السودان، فقد كانت مصر تعيش في عزلة مقيتة ستسهل جداً على الوحش التتري مهمة ابتلاع مصر، كما فعل بأشياعها من قبل.
لم يكن الوضع الاقتصادي في مصر أحسن حالاً من الوضع السياسي أو الاجتماعي، فلقد كانت البلاد تمر بأزمة اقتصادية طاحنة؛ بسبب الحروب الصليبية المتكررة، والحروب التي دارت بينها وبين جيرانها من أهل الشام، والفتن والصراعات على المستوى الداخلي، وكل هذه الأمور أدت إلى أزمة اقتصادية طاحنة، كما أن الناس انشغلوا بأنفسهم وبالفتن الداخلية والخارجية، فتردى الاقتصاد إلى أبعد درجات التردي، وباتت البلاد فعلاً على حافة هاوية سحيقة شبه مؤكدة.
كل هذا وأعداء الأمة قد اجتمعوا عليها وبضراوة شديدة، فهناك الغرب الصليبي الحاقد جداً، وكان قد مني بهزائم ساحقة في مصر منذ عشر سنوات في المنصورة وفارسكور، ولا شك أن الصليبيين يريدون الثأر والانتقام، فالاضطرابات الأخيرة في مصر والانقلابات، وحوادث القتل المتكررة، فرصة لرد الاعتبار وللثأر وللانتقام، وهناك الإمارات الصليبية المزروعة في فلسطين منذ عشرات السنين، وهذه قريبة جداً من مصر، وممكن أن تفكر هذه الإمارات في غزو مصر في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، وفوق كل ذلك هناك الهم الكبير القادم من الشرق وهو التتار.
كان المسرح السياسي الداخلي في مصر يموج بالاضطرابات العاصفة والأزمات الشديدة، وكانت الفتن الناتجة عن التصارع على الحكم، وبالذات في العشر السنوات الأخيرة عنيفة جداً ومتكررة، وكانت هذه الأوضاع قد استقرت نسيباً عندما تولى الملك المعز عز الدين أيبك الحكم سبع سنوات متصلة، ولكنها عادت من جديد للاشتعال بمقتله ثم مقتل شجرة الدر، ثم ولاية الطفل نور الدين علي، ثم خلعه بواسطة قطز رحمه الله وتوليه بدله، فالأمور كانت مضطربة جداً.
وقطز وإن كان الآن قد استقر على كرسي الحكم، إلا أن هناك الكثير من الطامعين في الكرسي، ولا شك أيضاً أن هناك الكثير من الحاقدين على قطز شخصياً، ومن المؤكد أن هؤلاء الطامعين والحاقدين سوف يتحركون، أو على الأقل سيحاولون التحرك لإقصاء قطز عن العرش، أو حتى قتله كما اعتاد الكثير من المماليك أن يفعلوا.
وكانت الفتنة مازالت دائرة بين المماليك البحرية الصالحية، الذين كانوا يؤيدون شجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يؤيدون الآن سيف الدين قطز رحمه الله، وكذلك لا ننسى أن كثيراً جداً من المماليك البحرية فروا إلى مختلف الإمارات الإسلامية في الشام، ومن بقي منهم في مصر بقي على وجل وترقب، وهذا الانقسام ولا شك أضعف القوة العسكرية المصرية؛ لأن المماليك البحرية كانوا هم أساس الجيش المصري تقريباً.
استلم قطز رحمه الله تركة مثقلة بالهموم الكبيرة، والمشاكل الضخمة، وتعالوا بنا لنرى كيف تصرف قطز رحمه الله مع هذا الوضع شديد التأزم؟ وما هي خطواته التي خطاها من أجل التغيير؟ وما هو الإعداد الذي قام به لمواجهة الهجمة التترية الشرسة؟ وهذا الدرس من أهم الدروس في هذه المجموعة، فهو يتحدث عن خطوات بناء الأمة، فـ قطز يعلمنا كيف نبتدئ، عندما يكون الوضع متأزماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، بل وأخلاقياً، حتى يصلح من شأن البلاد، لتصبح أقوى دولة في الأرض كما أصبحت في زمانه.
وكل هذا حدث في زمن قصير جداً، وستستغربون جداً عندما تعرفون كيف عمل قطز هذه الأشياء؟ وفي كم من المدة؟
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
حالة الشعب المصري عند تولي قطز للحكم (93)
أما حالة الشعب ومعنوياته فقد كان في تلك الآونة يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثر كثيراً على حياة الشعوب، وتجعلهم يفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش،
إلا إذا جاء القائد الذي يعظم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، ويهون قيمة الدنيا، ويهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية، فكل ذلك يضمحل إلى جانب الهدف الأعلى: الجهاد في سبيل الله، وعندها يصبح الموت أمنية، وقد كان الوضع الذي استلم فيه قطز الحكم وضعاً صعباً للغاية، فالفتن الدائرة على كرسي الحكم منذ عشر سنوات جعلت الحكام لا يلتفتون كثيراً ولا قليلاً إلى شعوبهم، وكان همهم فقط تثبيت دعائم الملك، وأما أحلام الشعوب فقد كانت تأتي في مراتب متأخرة جداً في أولوياتهم، ولذلك فإن الشعب في ذلك الوقت لم يكن بالشعب الأمثل الذي يشتاق إلى مثل ذلك اليوم الذي يقابل فيه التتار،
لا يحلم بذلك اليوم الذي ينتصر فيه على هذه القوة العاتية، بل على العكس كان كغيره من شعوب المسلمين، يخاف من التتار، ويصيبه الذعر الشديد والهلع الكبير عند سماع أخبار جيوشهم، وكلما اقترب التتار بصورة أكبر من مصر اضطربت الأفئدة وتتابعت الأنفاس، ولذلك كانت مهمة رفع الهمة والروح المعنوية وتحميس الشعب على المقاومة من أصعب المهام التي واجهت قطز رحمه الله.
وهنا نقطة مهمة، وهي أن الجيش غير المؤيد بشعبه لا يقوى أبداً على الصمود، فلابد من السند الشعبي للقائد والجيش، وإلا فالنصر مستحيل، فليست العملية عملية حرب وقتال في موقعة عابرة، بل إنها عملية يعيشها الشعب بكامله، بكل طوائفه رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخاً، فلا بد أن يكون الشعب بأكمله على استعداد.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
المراحل التي وصل إليها قطز في بناء الأمة حتى أوائل عام 658هـ (94)
تعالوا بنا نرتب الأوراق مرة أخرى مع قطز رحمه الله لنرى إلى أين وصل الآن.
أولاً: الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة في مصر تدين بالولاء التام له رحمه الله.
ثانياً: المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة، وهذا هو الذي نسميه: وضوح الهدف، وهو معرفة البلد لما تريده.
ثالثاً: العفو عن المماليك البحرية الذي أشاع جواً من الهدوء النفسي والراحة القلبية، ليس فقط عند المماليك، ولكن عند عموم شعب مصر، ومن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاراً سلبية ليس على القادة والجيش فقط، وإنما على الشعب كله، ولا شك أيضاً أن الجيش المصري قد ازداد قوة باتحاد طرفيه الكبار: المماليك البحرية الصالحية، والمماليك المعزية.
أما الخطوة التالية فقد كانت أيضاً خطوة رائعة، بل في غاية الروعة، فبعد الاستقرار الداخلي في مصر حرص قطز رحمه الله على الاستقرار الخارجي مع جيران مصر من المسلمين، فالعلاقات كما ذكرنا قبل ذلك كانت متوترة جداً بين مصر وبين الإمارات الشامية الأيوبية، وقد فكرت هذه الإمارات أكثر من مرة في غزو مصر، ونقضت الحلف الذي كان بينها وبين مصر أيام الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، واستقطبت المماليك البحرية عندها عندما فروا من مصر، وكانت تتربص بمصر الدوائر في كل يوم، بل إن الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق وحلب كان قد طلب من التتار بعد سقوط بغداد أن يعاونوه في غزو مصر، ومع كل هذه الخلفيات المعقدة للعلاقة بين مصر والإمارات الأيوبية في الشام إلا أن قطز رحمه الله سعى لإذابة الخلافات التي بينه وبين أمراء الشام، وكان يسعى بصدق إلى الوحدة بين مصر والشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، وعدم إقامة الحرب بينه وبين أمراء الشام، حتى يحارب التتار.
رابعاً: انضم إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين، فقد انضم إليه معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وكذلك جيش حماه وعلى رأسه المنصور أمير حماه.
إذاً: هذا هو الوضع السياسي والعسكري في مصر في أوائل سنة (658) من الهجرة، وفي ذلك الوقت سقطت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة في أيدي التتار، وأصبح التتار قريبين جداً من مصر (35) كيلو متر فقط من سيناء.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
إعداد العدة لمواجهة التتار والعفو عن المماليك البحرية (95)
لما استقر الوضع نسبياً في مصر انتقل قطز رحمه الله إلى الخطوة الثانية: وهي إعداد العدة لمواجهة التتار، وكانت خطوة في منتهى الروعة والحكمة، وأبرزت الأخلاق الرفيعة جداً لـ قطز رحمه الله، فقد أصدر قراراً بالعفو العام الحقيقي عن كل المماليك البحرية، ولم يكن هذا العفو خدعة سياسية لأجل معين، كما يفعل بعض الزعماء والقواد، ولم يكن شهر عسل مؤقت إلى أن تهدأ الأمور، وإنما كان أمراً يهدف فعلاً إلى المصالحة الحقيقية، ويرمي بصدق إلى إصلاح الأوضاع ولم الشمل ودرء المفاسد.
على عكس ما يفعله بعض الزعماء السياسيين الذين لم يتفقهوا بعد في السياسة، ولا يدركون موازين القوى في بلادهم، فهؤلاء يتعاملون تعاملاً غبياً مع الأحداث، فهم إما أن يقصوا هذه القوى تماماً عن كل شيء، بل وأحياناً يقيدون حرياتها، وأحياناً يخرجونها من البلد تماماً، وإما أن يتجاهلوها تماماً وكأنها لا وجود لها، فيضعون رءوسها في الرمال، ولا يعترفون بوجودها، وينكرون طاقتها، ويهملون كيانها وهكذا، وكل هذا لا شك أنه لا يصب أبداً في مصلحة البلد أو الشعب.
أما قطز رحمه الله فكان رجلاً مخلصاً متجرداً لله وواقعياً جداً، فلم ينكر قوة المماليك البحرية، فمن الغباء أن ينكر وجود قوة كقوتهم، بل إنه من حبه لوطنه ولأمته وإخلاصه لله عز وجل حاول أن يستميل هذه القوة لصالح البلاد والشعب، ولذلك اتخذ هذا القرار على رغم خطورته على كرسيه رحمه الله، وكان قراراً في منتهى الروعة.
وقد مر بنا كيف حدثت الفتنة بين المماليك البحرية وبين المماليك المعزية، ووصلت هذه الفتنة إلى الذروة بعد مقتل الملك المعز عز الدين أيبك ثم شجرة الدر، ووصل الأمر إلى أن معظم قادة المماليك البحرية وعلى رأسهم القائد الكبير ركن الدين بيبرس فروا من مصر إلى مختلف إمارات الشام، ومنهم من شجع أمراء الشام على غزو مصر، ووصل الأمر إلى حد خطير، فلما اعتلى قطز رحمه الله عرش مصر أصدر القرار الحكيم جداً بالعفو عن المماليك البحرية، وبدعوتهم إلى العودة إلى مصر، وهذا القرار أبرز أخلاق قطز الرفيعة رحمه الله، ونسيانه لكل الضغائن السابقة، مع كون القوة في يديه، وهذه من أرفع الأخلاق، العفو عند المقدرة،
كما أبرز كذلك النظرة السياسية العميقة لـ قطز رحمه الله، فقواد المصريين في ذلك الوقت من المماليك المعزية وغيرهم قد لا تكفي لحرب التتار، ولا شك أن المماليك البحرية قوة عظيمة وقوية جداً، ولها خبرات واسعة في الحروب، فقد اشترك الكثير منهم في حروب الصليبيين السابقة، ومن أشهرها موقعة المنصورة العظيمة، وموقعة فارسكور، اللتان كانتا قبل عشر سنوات، وركن الدين بيبرس ممن اشترك في هاتين الموقعتين، فضم قوة المماليك البحرية إلى قوة المماليك المعزية سينشئ جيشاً قوياً أقدر على مهاجمة التتار، وهذا مما لا يشك فيه أحد، ومن المعلوم أن الوحدة طريق من أهم الطرق إلى النصر، كما أن التنازع والتصارع والفرقة طريق الفشل والهزيمة.
كان قطز رحمه الله يعلم أن أوضاع المماليك البحرية في بلاد الشام غير مستقرة، وما هربوا إلى هناك إلا مضطرين، وأملاكهم وحياتهم وقوتهم في مصر، وهو بهذا الإعلان النبيل الذي قام به سيستقدم عدداً لا بأس به منهم، وبمجرد أن أعلن هذا القرار جاءت المماليك البحرية من كل مكان تتوافد على مصر، فجاءوا من بلاد سلاجقة الروم، التي هي تركيا الآن، ومن الكرك بالأردن، ودمشق، وحلب وغيرها، وهكذا عاد المماليك من جديد قوة واحدة، واستقبلهم قطز رحمه الله استقبالاً لائقاً،
ولم يتكبر عليهم تكبر المتمكن، بل عاملهم كواحد منهم؛ لأن أصله من المماليك، واستقدم قائد المماليك البحرية ركن الدين بيبرس وزعيمهم، وهو أخطر رجل في المماليك البحرية مطلقاً، ولو كان قطز في داخله غدر أو خيانة أو مصالح سياسية متجردة من الأخلاق ما استقدم بيبرس إلى مصر أبداً وعندما فر بيبرس من مصر ذهب إلى الناصر يوسف الأيوبي في دمشق، وقد كان الناصر خائناً موالياً للتتار في فترات كثيرة،
ثم ادعى الجهاد ضدهم في فترات أخرى، فعندما ذهب إليه بيبرس أنكر عليه خضوعه أمام التتار وعزمه على عدم القتال، ولكن الناصر يوسف لم يسمع كلامه، وعندما قدم التتار في اتجاه دمشق فر الناصر يوسف ومن معه إلى الجنوب، واضطر بيبرس وقد وجد نفسه منفرداً -وكان يود أن يجاهد في سبيل الله- أن يهرب كذلك إلى الجنوب باتجاه فلسطين، ثم لما وصل جيش التتار إلى فلسطين ترك الناصر يوسف جيشه وهرب إلى الكرك، ثم إلى الصحراء، فوجد بيبرس نفسه وحيداً في غزة، فلم يستطع أن يعمل شيئاً، وقد كان يود أن يجاهد في سبيل الله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تجميع قطز الناس تحت راية الجهاد (96)
حرص قطز رحمه الله على إبراز خطورة العدو القادم التتار، وعلى إظهار الغاية النبيلة التي من أجلها صعد إلى كرسي الحكم، ومن المعروف أن الأزمات الشديدة التي تمر بالأمة، يمكن أن تكون أزمات مجمِّعة إذا أحسن القائد استغلالها، ومع أن المشكلة تكون كبيرة جداً أمام الناس، والقضية خطيرة، والناس يخافون ذلك، إلا أنهم يتجمعون بسبب هذا الخوف.
فـ قطز رحمه الله استغل خوف الناس من قضية التتار ليجمعهم سوياً تحت راية واحدة، ومن أفضل الأمور لتجميع الناس ولتوحيد الصف: الجهاد، والقائد الذي لا يجمع شعبه على قضية جهادية يفقد حب شعبه وولاءهم له، بل وقد تكثر الفتن والقلاقل في زمانه؛ لأن الناس سيركنون إلى حياة الدعة والسكون، وسينشغلون بسفاسف الأمور، وعندما نراجع التاريخ الإسلامي نجد أنه ما رفع قائد مسلم في كل تاريخ المسلمين راية الجهاد بصدق إلا واستقرت بلاده، ومع أنه داخل في حروب ضارية إلا أن بلاده سوف تستقر، ويسير شعبه خلفه بكل حب وصدق ووفاء.
والذي لا يرفع هذه الراية يذل نفسه وشعبه، وهذه سنة مستمرة في التاريخ، وستكون إلى يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل كتب الذل على من تخلى عن الجهاد.
وذكرنا قبل ذلك الكثير والكثير من المواقف التي تؤيد هذا المعنى.
ثم إن قطز رحمه الله أعلن بوضوح من أول يوم استلم فيه الحكم: أنه سيجعل الأمر في الناس يختارون من يشاءون دون التقيد بعائلة معينة أو مماليك بذاتهم، وأنه لن يأخذ بالتوريث الذي كان الناس يخافون منه.
وهنا كلام في غاية الأهمية، وهو أنه لا يستقيم لنا أن نقول ما قاله المحللون الغربيون المستشرقون، أو بعض المحللين المسلمين الذين يعتمدون في تحليلاتهم على المدارس الغربية في التحليل والنقد: من أن قطز إنما قال ذلك ليقمع المناوئين له، وليثبت نفسه في كرسيه، مستغلاً حب المسلمين للجهاد.
يعني: أنه يمثل على الناس، فلا يستقيم لنا أبداً أن نطعن في نية قطز رحمه الله من وراء الكلمات التي قالها، ولا أن نفترض أن وراء هذه الكلمات مرامي أخرى، وإحسان الظن بالمؤمنين أمر مطلوب شرعاً، فإن الكلمات والأفعال دائماً تقيم وتحسب في ضوء سيرة الشخص وحياته، وهذه الجملة في منتهى الأهمية، فاحفظوها: الكلمات والأفعال تقيم وتحسب دائماً في ضوء سيرة الشخص وحياته، فقد يقول شخص كلاماً يفهم منه معنى، ويقوله شخص آخر فيفهم منه فهماً مختلفاً تماماً.
وكلمة الجهاد هذه إذا قالها قطز رحمه الله، فسأفهم منها معاني معينة، وإذا قالها قبل ذلك الناصر يوسف الأيوبي فسأفهم منها معاني أخرى تماماً، وقد تكلمنا من قبل على موقف الناصر يوسف، والآن نتكلم على موقف قطز رحمه الله، وشتان بين الموقفين، فكلاهما قال: إنه سيجاهد في سبيل الله، ونحن نريد الآن تقييم هذه الكلمة في ضوء سيرة قطز رحمه الله، ومن خلال تتبع سيرته بعد أن تولى الملك، وفي أثناء تحركاته إلى عين جالوت، وفي موقعة عين جالوت وما بعدها، سنرى في كل ذلك ما يثبت أن كلامه جميعاً كان كلاماً صادقاً، وأن رغبته في قتال التتار، والانتصار لهذا الدين، كانت أعلى بكثير من رغبته في الملك، وقد جعل الله عز وجل نصر الأمة على يديه كما سنرى، وليس من سنة الله عز وجل أن يكتب نصر الأمة على يد المنافقين والفاسدين،{إِنّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].
ولم يخلد تاريخ المسلمين رجل اختلطت في قلبه النوايا ولعبت به الأهواء، لذلك قطز رحمه الله نحسبه على خير، ولا نزكي على الله أحداً، وقد أجمع علماء أمة الإسلام على عدالته وفضله وتقواه، وقالوا فيه كلاماً كثيراً، وسنذكر بعضه بإذن الله في الدروس القادمة.
وإذا كان من الممكن قبول عذر المستشرقين والمحللين الغربيين في أن قطز كان يقصد الملك وليس الجهاد؛ لأنهم في سياستهم وحياتهم لا يرون إلا هذه الأمثلة التي تريد الدنيا، فما هو عذر المحللين المسلمين الذين قالوا مثل ذلك الكلام؟ فليس لهم عذر في الحقيقة؛ لأن هذا المثال المخلص الراقي الذي لا يريد شيئاً لنفسه ولا لذاته، ويهب حياته بكاملها لربه ولدينه ولشعبه، ولقضايا أمته، كثير ومتكرر جداً في أمتنا، وفي تاريخنا.
وقد سبق قطز رحمه الله على هذا الطريق الكثير والكثير من أبطالنا، ولحق به كذلك آخرون، وسيظل الخير بإذن الله في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
حزم سيف الدين قطز في الإدارة (97)
مع أن قطز رحمه الله قد استخدم الأخلاق العالية والأهداف النبيلة في تجميع القواد والعلماء حوله، إلا أنه لم يتخل عن حزمه في الإدارة، فـ قطز رحمه الله لم يكن رجلاً طيبًا فقط، يقول هذه الكلمات وليس عنده فنون الإدارة والسياسة والقيادة، بل كان حازماً جداً رحمه الله،
فقد عزل الوزير ابن بنت الأعز المعروف بولائه الشديد لـ شجرة الدر، وولى بدلاً منه وزيراً آخر كان يدين له بالولاء، وكان يثق في قدراته وإمكانياته، وهذا الوزير الجديد كان اسمه زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع، وفي ذات الوقت أقر قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي في مكانه، وهو ليس فارس الدين أقطاي الذي تكلمنا عليه من قبل، فـ فارس الدين أقطاي الأول كان قد قتل قبل ست سنوات سنة (652) من الهجرة.
فـ قطز ولى قائداً من قواد المماليك البحرية، مع شدة الخلاف بين الطائفتين، لكن عندما وجد فيه الكفاءة العسكرية والقدرة على القيادة والأمانة والصدق -وهي مؤهلات ضرورية لأي إمارة- ولاه، وبذلك نجد أن قطز رحمه الله قد حفظ الأمانة، ووسّد الأمر لأهله، بغض النظر عن كونهم من المماليك البحرية أو المعزية، وهذا تجرد واضح من قطز رحمه الله،
كما أنه أيضاً يعتبر ذكاء سياسياً من قطز رحمه الله؛ لأنه بتولية هذا الرجل من المماليك الصالحية قيادة الجيش، استمال قلوب المماليك البحرية الذين فروا إلى أنحاء الشام وتركيا، وبث الاطمئنان في نفوسهم، وهذا ولا شك سيؤدي إلى استقرار الأوضاع في مصر، كما أنه سيستفيد من الخبرات العسكرية الفذة للمماليك البحرية، وأوجد بذلك فرصة للتعاون مع المماليك البحرية.
وعلم قطز رحمه الله أن الناس إن لم يشغلوا بالجهاد شغلوا بأنفسهم، ولذلك فبمجرد أن اعتلى عرش مصر أمر وزيره زين الدين وكذلك قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي أن يجهزا الجيش ويعدا العدة وينظما الصفوف، وانشغل الناس كلهم بهذه الغاية النبيلة والمهمة الخطيرة: الجهاد في سبيل الله.
إذاً: الخطوة الأولى في سياسة قطز رحمه الله كانت السيطرة على الوضع الداخلي للبلاد، وشغل الناس بالقضايا المجمعة للأمة، وإبراز الهدف الحقيقي من السلطان، وهو إقامة الشرع، والدفاع عن البلاد، والقيام بشئون الرعية، وحماية مصالح العباد، وأنه ليس من مطالب الحكم أبداً، ولا من أغراضه، جمع المال أو ضمان توريث الكرسي للأبناء أو أبناء الأبناء، ولذلك استقرت الأحوال الداخلية في مصر، وتوحد الصف الداخلي، وهذه خطوة عظيمة جداً وأساسية ومحورية في بناء الأمة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
استقرار الوضع الداخلي (98)
الخطوة الأولى التي حرص عليها قطز رحمه الله:
هي استقرار الوضع الداخلي في مصر، واستقرار الوضع لن يأتي إلا بقطع أطماع الآخرين في كرسي الحكم الذي يجلس عليه، فالطامع في الكرسي لن تهدأ له نفس، ولن تستقر له حال، حتى يجلس على الكرسي الذي يريد، وهو رحمه الله لم يقطع أطماعهم عن طريق التهديد والوعيد، فالتهديد والوعيد قد يزيد الفتن اشتعالاً، ويؤجج نيران الحقد والحسد والغل في المجتمع، ولم يقطعها كذلك بتزوير إرادة الشعب، وإيهام الجميع أن الشعب يريده هو بذاته، ولم يقطعها بالخداع والغش والمؤامرات والتحايل أبداً،
ولكنه عمل شيئاً غريباً جداً، فقد ارتفع رحمه الله بأخلاق المنافسين، إلى درجة لم يتعودوا عليها في الفترة الأخيرة في مصر، فقد جمع رحمه الله الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء، وأصحاب الرأي في مصر، وهؤلاء هم المحركين الفعليين لطوائف الشعب المختلفة، والقدرة على التأثير على الناس،
وقال لهم: إني ما قصدت من اعتلاء العرش في مصر، وإقصاء السلطان الطفل نور الدين علي وجلوسي مكانه، إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك، فلا يعقل أن نقاتل التتر أكبر دولة في الأرض في ذلك الزمن وعلى الكرسي طفل سنه (15) سنة، فحتى لا تسقط هيبتنا من أعين التتار إذا رأوا هذا الأمر.
إذاً: فالقضية الأولى من استلامه الحكم واضحة جداً في ذهنه رحمه الله، وهو حرب التتار والجهاد في سبيل الله، ولا يتأتى ذلك بغير ملك.
ثم يقول: فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم، أقيموا في السلطة من شئتم.
فهو لن يتدخل رحمه الله في ذلك الأمر، وإنما المهم عنده هو إنهاء القضية الكبيرة التي تواجهها الأمة الإسلامية بأكملها، وليس مصر فقط، وهي قضية العدو الخارجي التتار، الذين احتلوا نصف البلاد ويقتربون الآن من النصف الآخر.
وعندما سمع الرجال الذين جمعهم قطز رحمه الله هذا الكلام هدءوا جميعاً، ورضوا بذلك.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
رسالة هولاكو إلى الملك المظفر قطز ورد قطز ومن معه (99)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
في المحاضرة السابقة تحدثنا عن صعود قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم في مصر، وعن خطواته في إعادة بناء الأمة وتأهيلها ليوم اللقاء مع التتار، وكيف أنه اهتم رحمه الله بالاستقرار الداخلي، ووحد هدف الأمة، وعفا عن المماليك البحرية، ووحد بينهم وبين المماليك المعزية، وراسل أمراء الشام، وحاول قدر الاستطاعة ضمهم إلى قواته، وانظم إليه بالفعل جيش الناصر الأيوبي وأمير حماة، وزادت بذلك قوة جيشه بشكل كبير.
وتحدثنا أيضاً عن شعب مصر في ذلك الوقت، وكيف أنه كان يعاني من أزمة اقتصادية ومشاكل اجتماعية، ومع ذلك كان الشعب يعظم العلماء ويجلهم، ويحب الدين ويحترمه، ويعرف قيمة الجهاد في سبيل الله ولا يستغربه أبداً، بل يعتقد أنه حل أساسي، وأحياناً يعتبره حلاً وحيداً في كثير من الأزمات التي تمر بالأمة.
وبينما قطز رحمه الله في إعداده وتجهيزه جاءته أربعة من رسل التتار برسالة عجيبة من هولاكو يعلن فيها الحرب عليه إن فكر في أي مقاومة، وكانت الرسالة تحمل تهديداً ووعيداً وإرهاباً،
يقول فيها هولاكو: (باسم إله السماء الذي ملكنا أرضه وسلطنا على خلقه)، وهو في بداية الرسالة كأنه يعترف بأن الله عز وجل هو الذي ملكه على الخلق، وأنه يطيع الله عز وجل.
ثم يقول: (الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك)، فهو يريد أن يحقر من شأن قطز رحمه الله، فهو يقول له: إنه من جنس المماليك، (الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك، صاحب مصر وأعمالها وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها وباديها وحاضرها وأكابرها وأصاغرها)، يعني: قطز الذي يملك كل شيء في مصر يجب أن يعلم ذلك.
ثم يقول: (أنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع).
ولا ندري من أين أتى بهذه الكلمة: ودعاؤكم علينا لا يسمع.
ثم يقول: (لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رب السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]، { {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
فهو يستشهد بآيات من كتاب الله عز وجل، وكأنه يؤمن به.
وكان الذي يكتب له هذه الرسائل الأدباء المسلمون الذين اشتراهم هولاكو عليه لعنة الله بالمال، وباعوا دينهم وأوطانهم بهذا المال، وكتبوا مثل هذه الرسائل المرعبة.
ثم يقول هولاكو: (فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرم الحرب نارها، وتوري شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كتاباً ولا حرزاً، إذ أزتكم رماحنا أزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية، فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم، ومننا برسلنا عليكم).
وانتهت الرسالة العجيبة، ولم تحمل أي نوع من أنواع الدبلوماسية، فقد كانت إعلاناً صريحاً بالحرب أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولا بد أن يكون التسليم مذلاً، بمعنى: أن يكون دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
نعقاد المجلس الاستشاري المصري والحلول المطروحة على تهديد هولاكو (100)
عقد قطز رحمه الله مجلساً استشارياً أعلى، جمع فيه كبار القادة والأمراء والوزراء والعلماء، وبدءوا في مناقشة القضية الخطيرة التي طرحت أمامهم، وكانت الخيارات محدودة جداً، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط،
وقطز رحمه الله كانت القضية واضحة في ذهنه تمام الوضوح، فهو لم يطرح الخيارين على نفسه للتفكير، خيار السلام أو الاستسلام، فهذا الموقف غير وارد أبداً عنده، فهو يعلم تمام العلم أن الحقوق لا توهب بل تؤخذ، وأن الجيوش المعتدية لا تقنع بالعودة إلى بلادها أبداً، بل ترغم على ذلك.
لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جداً من الفقه والفهم، صحيح أنهم كانت لديهم حمية دينية عالية جداً، وأنهم يحبون الإسلام حباً جماً، وعلى درجة راقية من الفروسية والمهارة القتالية، ولكن الاختبار صعب جداً.
وقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين إمكانيات التتار كدولة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وبين إمكانيات مصر التي مهما زادت فهي محدودة، وبين أعداد التتار وأسلحتهم، وأعداد المصريين وأسلحتهم، هذا فوق السمعة الرهيبة لجيوش التتار، وفوق الملايين المسلمة التي ذبحت على أيدي التتار،
بالإضافة إلى الجيوش الخوارزمية والأرمينية والكرجية والعباسية والأوروبية والشامية التي هزمت هزيمة ساحقة من جيوش التتار قبل ذلك.
وكان قد شاع في هذا الزمن مقولة ذكرناها قبل ذلك قالها العوام وقالها الخواص كذلك، فقد كانوا يقولون: إذا أخبرك أحد أن التتار يهزمون فلا تصدق.
كل هذه التراكمات جعلت الأمراء يترددون في قبول ما رآه قطز رحمه الله أمراً واضحاً جداً لا تردد فيه، وظهر على معظم الأمراء الهلع والضعف والتثاقل إلى الأرض.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
قتل قطز لرسل التتار (101)
كان قطز رحمه الله يعلم أن قلوب الأمراء وافقت تحت تأثير القدوة والتذكير بالله وبالواجب نحو الإسلام، ومن الممكن لهذه القلوب أن تتردد أو تخاف، فأراد رحمه الله أن يفعل أمراً يقطع به خط الرجعة تماماً على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام،
ولا يبقي أمامهم غير الخيار العسكري فقط، فقرر بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقتل رسل هولاكو الأربعة الذين جاءوا بالرسالة التهديدية،
وأن يعلق رءوسهم على باب زويلة في القاهرة؛ حتى يراها أكبر عدد من المسلمين في مصر، وكان يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار،
ويرفع من معنويات الشعب بذلك، والإعلان للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيراً عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، ولا شك أن هذا سيؤثر سلباً على التتار، ويلقي في قلوبهم ولو شيئاً من الرعب أو التردد، وكان الهدف الأكبر من قتل هؤلاء الرسل الأربعة هو قطع التفكير في أي حل سلمي للقضية،
والاستعداد الكامل والجاد للجهاد بعد قتل الرسل الأربعة، فلن يقبل التتار استسلام مصر حتى لو قبل بذلك المسلمون، فقد انتهت القضية، وأصبحت الحرب معلنة تماماً، كان هذا هو اجتهاد قطز رحمه الله والأمراء.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تجهيز الجيش لقتال التتار (102)
بعد هذا الاجتماع الخطير والقرار الصعب وقتل الرسل بدأ قطز رحمه الله في التجهيز السريع للجيش، فقد اقتربت جداً لحظة المواجهة، ووصلت الرسالة إلى التتار بأن المسلمين في مصر سيقاتلونهم حتماً، ولا مهرب من القتال.
إن قطز تولى الحكم في (24) من ذي القعدة سنة (657) من الهجرة، ورسالة هولاكو جاءته قبل أن يغادر هولاكو أرض الشام عائداً إلى منغوليا، بعد وفاة زعيم التتار منكو خان وبعد سقوط حلب بقليل وقبل سقوط دمشق، ثم فتح دمشق كتبغانوين، وحلب سقطت في صفر سنة (658 هـ)، ودمشق سقطت في ربيع أول (658 هـ)،
يعني: أن الرسالة وصلت لـ قطز رحمه الله إما في آخر صفر أو في أول ربيع الأول، يعني: بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه الحكم رحمه الله.
فكل هذه الترتيبات والخطوات التي عملها قطز رحمه الله لم تستغرق إلا ثلاثة أشهر فقط، فكل المشاكل التي قابلها وحلها أخذت منه ثلاثة أشهر فقط، وهذه المشاكل تحتاج إلى سنوات، بل إلى عقود كاملة حتى يتم حلها على الوجه الأمثل، ولكنه استعان بالله عز وجل، وبدأ يتعامل بحمية ونشاط مع المشكلة تلو الأخرى، وكان الهدف في ذهنه واضحاًَ جداً، فلا بد من القضاء على هذه القوة الهمجية -قوة التتار-، وتحرير كل بلاد المسلمين.
إذاً: فكل ما قلناه في الدرس الماضي:
من استقرار الوضع الداخلي، وتوحيد الصف، وعفوه عن المماليك البحرية، واستقدامه لهم من بلاد الشام وتركيا وغيرها، ومراسلة أمراء الأيوبيين، وتجميع الجيش، وتجهيز الشعب لقضية الجهاد في سبيل الله، وتحميس الأمراء كل هذا المجهود كان في ثلاثة أشهر فقط.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
المشكلة المالية في تجهيز الجيش وحلها (103)
ظهرت لـ قطز مشكلة جديدة ضخمة فوق كل المشاكل التي فاتت، وهي المشكلة الاقتصادية، فلا بد من تجهيز الجيش المسلم وإعداد التموين، وإصلاح الجسور والقلاع والحصون، وإعداد العدة اللازمة للحرب، وتخزين ما يكفي للشعب في حال الحصار، وهذه أمور ضخمة جداً، وكانت تمر بالبلاد أزمة اقتصادية طاحنة، وليس هناك وقت لخطة خمسية أو عشرية، فالتتار على الأبواب في غزة، على بعد (35) كيلو متر فقط من سيناء.
وأما كيف عالج قطز المشكلة الاقتصادية الكبيرة، ووفر المال لتجهيز الجيش الكبير وبناء الحصون والقلاع والسلاح، وتوفير المؤن والذخيرة للشعب الذي قد يحاصر من التتار حصاراً طويلاً، فقد عقد رحمه الله مجلساً استشارياً، وكان كل شيء بشورى في حياته رحمه الله،
ودعا إلى هذا المجلس كبار القادة والأمراء والعلماء والفقهاء، وكان على رأس العلماء الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وبدءوا جميعاً يفكرون في حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بالبلاد، وكيفية توفير الدعم لهذا الجيش الكبير الخارج لملاقاة التتار،
ففتح قطز رحمه الله الكلام، واقترح فرض ضرائب على الشعب للإنفاق على الجيش الذي سيخرج للجهاد في سبيل الله، ولكن هذا القرار كان يحتاج إلى فتوى شرعية؛ لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون إلا الزكاة، ولا تدفع إلا بشروط خاصة معروفة، وأما فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلا في ظروف خاصة ومؤقتة جداً، ولا بد من وجود سند شرعي يبيح ذلك، وإلا صارت هذه الضرائب مكوساً، وفارضها بغير حق عقابه عند الله عز وجل أليم جداً، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود رحمهما الله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة صاحب مكس»، أي: فارض الضرائب.
ولما زنت المرأة الغامدية ورجمت بالحجارة بعد أن اعترفت بالزنا لتطهر نفسها من الذنب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم معظماً من شأن توبتها: «فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له».
وهذا الحديث في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا فيه تقبيح شديد جداً لعملية فرض الضرائب، إن فرضت بغير حق وصرفت في غير حق.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: إن المكس -الضرائب- من أقبح المعاصي، ومن الذنوب الموبقات؛ وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها.
فـ قطز رحمه الله اقترح فرض الضرائب للقضية الكبيرة جداً، قضية الجهاد في سبيل الله، ومع أن الغاية نبيلة والمال مطلوب لتجهيز الجيش للقتال في سبيل الله، ومقاتلة التتار أعتى قوة في الأرض في ذلك الزمن، إلا أنه ينتظر رأي العلماء في هذه القضية.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
فتوى الشيخ العز بن عبد السلام حول اقتراح قطز بفرض الضرائب على الشعب (104)
كان للشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله تحفظ خطير على قرار فرض ضرائب على الشعب لتجهيز الجيش، ولم يوافق عليه إلا بشرطين عسيرين جداً، فقال رحمه الله:
إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم يعني: كل العالم الإسلامي وجب عليه أن يقاتل العدو؛ لأنه احتل بلداً من بلاد المسلمين، فتعين الجهاد عند ذلك، ولم يصبح فرض كفاية، ولكن أصبح فرض عين.
ثم يقول: وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم -يعني: فوق الزكاة- بشرطين: الشرط الأول: ألا يبقى في بيت المال شيء، فإذا استنفذت أموال الدولة وفنيت في تجهيز الجيش جاز فرض الضرائب بالقدر الذي يسمح فقط بتجهيز الجيش لا أكثر من ذلك.
الشرط الثاني: أن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.
وهذه فتوى في منتهى الجرأة، يقولها أمام سلطان مصر وأمرائها ووزرائها.
وهذه الفتوى وإن كانت عجيبة في جرأتها فاستجابة قطز رحمه الله كانت أعجب من الفتوى، فقد قبل رحمه الله كلام الشيخ العز بن عبد السلام ببساطة، فبدأ بنفسه فباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك فانصاع الجميع، وتم تجهيز الجيش المسلم بالطريقة الشرعية من أموال الوزراء والأمراء، وما احتاجوا أن يفرضوا ضرائب على الشعب.
واكتشف المسلمون في مصر اكتشافاً عجيباً، اكتشفوا أن مصر غنية جداً، وأن البلد ليس فقيراً، بل فيه أموال هائلة برغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فقد امتلأت جيوب كثير من الوزراء والأمراء بأموال البلد الهائلة، وأصبحت ثروات بعضهم تساوي ميزانيات بعض الدول، وتكفي لسداد الديون المتراكمة على البلد، وسد حاجة الفقراء والمساكين، وإصلاح الوضع الاقتصادي، ومع ذلك كانوا يحتفظون بهذه الأموال، فأصبحت البلاد ضعيفة وفقيرة مع غناها وعظم مصادرها.
وللأسف الشديد فإن كثيراً من هذه الأموال الطائلة دخلت جيوب الأمراء والوزراء بطرق غير مشروعة، وبغير وجه حق، فهذا يختلس، وهذا يرتشي، وهذا يظلم، وهذا يأخذ نسبة، وهذا ينفق في سفه، وهذا يعطي من لا يستحق، وهكذا بُددت أموال الدولة العظيمة مصر وأصبحت دولة فقيرة نامية، بينما إمكانياتها تسمح لها بأن تكون من دول الصدارة.
فجاء قطز رحمه الله فغير كل هذه الأوضاع، وبدأ رحمه الله في عملية تنظيف منظمة للبلد، تنظيف الأيدي والقلوب.
فاصطلح القائد مع شعبه أخيراً بعد سنوات من القطيعة بين الحكام والشعوب، فكانت النتيجة تجهيز جيش عظيم مهيب، غايته نبيلة، وأمواله حلال، ودعاء الناس له مستفيض، وإعداده جيد، وكيف لا يُنصر جيش مثل هذا؟! فمعادلة النصر في الإسلام ليست صعبة، بل تقول: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
ونصر الله عز وجل لا يكون إلا بتطبيق شرعه.
فالجيش المسلم الذي يخالف قاعدة شرعية لا يمكن أن ينصره الله عز وجل، فالأمر واضح جداً، والبداية بيد المسلمين، انصروا الله عز وجل ينصركم الله عز وجل، وهكذا جُهّز الجيش المصري المسلم، وأعد إعداداً عظيماً وبأموال حلال.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تجمع الجيش المصري واستعداده للخروج لجهاد التتار (105)
وجهات نظر قطز والأمراء حول الخروج لحرب التتار في فلسطين
جاء وقت إعداد الخطة، ووضع تحركات الجيش المسلم، فاجتمع قطز كالمعتاد مع مجلسه العسكري لبحث أفضل طريقة لحرب التتار، وأفضل الظروف التي تحقق الانتصار عليهم، وقام قطز رحمه الله بإلقاء البيان الذي يوضح فيه الخطة العسكرية التي يراها،
وبمجرد أن ألقى برأيه قام المجلس ولم يقعد، وأحدث رأيه دوياً هائلاً في المجلس العسكري، فقد أراد قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه لمقابلة جيش التتار في فلسطين، وألا ينتظر في مصر حتى يأتي التتار، واعترض أغلب الأمراء على ذلك، وأرادوا بقاء قطز في مصر ليدافع عنها، فمصر في رأي الأمراء هي مملكته، أما فلسطين فهي مملكة أخرى.
فنظر الأمراء إلى القضية نظرة قومية بحتة، بمعنى أنه لو لم يدخل التتار مصر فإننا نكون قد تجنبنا لقاءً دموياً هائلاً، أما إذا ذهبنا نحن إليهم فلا خيار حينئذ في المعركة، بل لا بد أن نقاتل، فقد ذهبنا إليهم بأرجلنا.،
بدأ تجمع الجيش المسلم في معسكر الانطلاق في منطقة الصالحية في المحافظة الشرقية الآن، وهي منطقة صحراوية واسعة، تستوعب الفرق العسكرية الضخمة التي تأتي من كل مكان، وكانت نقطة انطلاق للجيوش المصرية المتجهة إلى الشرق.
وتجمعت الفرق العسكرية من معسكرات التدريب المنتشرة في القاهرة والمدن الكبرى، ثم أعطى قطز رحمه الله إشارة البدء والتحرك في اتجاه فلسطين.
ترى كيف عبر الجيش المسلم سيناء؟ وماذا فعل في أرض فلسطين؟ وما موقف الصليبيين في عكا؟ ثم ماذا حدث مع التتار في الموقعة الهائلة عين جالوت؟ وما هي تفصيلات المعركة؟ وما هي خطة قطز رحمه الله؟ وما هو رد فعل التتار؟ وما هي نتيجة هذه الموقعة الخالدة؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة.
وأسأل الله عز وجل أن يجعل لنا في التاريخ عبرة، {فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
هروب المتخاذلين من الجيش المصري (106)
برغم كل هذا الإعداد المادي والدبلوماسي والمعنوي والاقتصادي لهذا الجيش، وبرغم التحفيز العظيم الذي قام به العلماء لحث الناس على الجهاد، إلا أنه كان هناك بعض المسلمين الضعفاء، لم يصدقوا أن القتال أصبح أمراً واقعاً، وهؤلاء هم ضعفاء القلب لا ضعفاء البدن،
فطوال هذه الفترة السابقة كان هؤلاء الضعفاء يعتقدون أن هذه مجرد نفرة حماسية، وسوف تهدأ الأمور بعدها، ولم يصدقوا أنه سيكون هناك قتال مع التتار، وكانوا يعتقدون أن هذه مجرد كلمات تقال من قطز كعادة الزعماء في الضحك على شعوبهم؛ لمجرد التنفيس عن الضغوط؛ لكي لا يحدث انفجار، ولم يعتقدوا أبداً أن قطز رحمه الله يعد العدة الحقيقية للقتال، فلما اقتربت ساعة الصفر وعلموا أن القتال حقيقياً وقريباً تزعزعت قلوبهم، وبدءا يفكرون في الهرب من الجيش، وهرب بعضهم فعلاً، واختبأ عن أعين المراقبين, بل إن منهم من خرج بالكلية من مصر ليهرب إلى قطر آخر، فمنهم من هرب إلى الحجاز، ومنهم من هرب إلى اليمن, بل إن منهم من وصل في هروبه إلى بلاد المغرب.
وبعض المحللين يعتقد أن ذلك خسارة، وأن الجيش فقد بعضاً من عناصره الهامة، أو أنه على الأقل سيصبح قليلاً في أعين الأعداء، لكن كان الخير كل الخير في هروب هؤلاء في هذه اللحظات الحقيقية في القتال، والله عز وجل يصعب أحياناً جداً من أمر اللقاء قبل أن يحدث؛ حتى ينقي الصف المسلم، فلا يخرج إلى القتال إلا من ينوي أن يثبت في أرض القتال.
وأما ماذا كان سيحدث لو خرج هؤلاء المتذبذبون في جيش المسلمين؟
فقد وضح الله عز وجل ذلك في سورة التوبة، فقال تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} [التوبة:47]، أي: هؤلاء المتذبذبون المنافقون، {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [التوبة:47].
فهؤلاء المذبذبون لو خرجوا في الجيش المسلم لأضعفوا قوته، ولبثوا فيه الاضطراب والقلق، وتارة يفعلون ذلك عن غير عمد بخوفهم وجبنهم، وتارة عن عمد بغية إثارة الفتنة، والمشكلة الكبرى كما قال ربنا في كتابه:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}[التوبة:47].
أي: أن بعض المسلمين الصادقين سيستمعون لهم، وسيتشككون، وسيقتنعون بكلامهم، وهذه مصيبة كبيرة جداً.
ولذلك كان خروج هؤلاء من الصف في هذا الوقت المبكر مصلحة عظيمة جداً للجيش المسلم، وبذلك طهر الجيش المسلم وأصبح نقياً خالصاً، فكل من خرج إلى عين جالوت كان يعلم أنه سيلقى التتار، ويتمنى أن يموت شهيداً في سبيل الله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
مشكلة وجود الإمارات الصليبية في طريق الحرب مع التتار وحلها (107)
في أثناء إعداد هذا الجيش وفي هذه الشهور الخمسة ظهرت أيضاً مشكلة جديدة أمام قطز رحمه الله، فقد كانت المشاكل كثيرة جداً، فالجهاد صعب.
وهذه المشكلة لم تكن جديدة، وإنما هي قديمة جداً، ولكن لا بد أن تحل في هذا الوقت، وهذه المشكلة هي أن هناك أجزاء ليست بالقليلة من فلسطين ولبنان وسوريا، وبالذات على ساحل البحر الأبيض المتوسط محتلة من قبل الصليبيين،
فقد كان هناك إمارات صليبية في عكا وحيفا وصيدا وصور وبيروت واللاذقية وأنطاكية وغيرها وغيرها، وكانت أقوى هذه الإمارات مطلقاً هي إمارة عكا في فلسطين، وهي تقع في طريق قطز رحمه الله إذا أراد أن يحارب التتار في فلسطين، ففكر قطز رحمه الله بالآتي:
أولا: الصليبيون أعداء الأمة كما أن التتار أعداؤها، بل إن الصليبيين أشد خطراً على الإسلام من التتار، لأن حروب التتار حروباً همجية، ليست لها جذور ولا أهداف ولا قواعد، بل لمجرد التدمير، لا لشيء غيره، وأما المشروع الصليبي في أرض الإسلام فهو مشروع مختلف، فالصليبيون يحاربون المسلمين حرباً عقائدية، والكراهية شديدة في قلوبهم للمسلمين، وتخطيطهم هو لحرب الإسلام نفسه، فهم يحاربون الإسلام لذات الإسلام، وأما التتار فهم يحاربون أي بشر وأي حضارة.
والمشروع الصليبي مع أنه يحارب الإسلام لذاته، فهو يهدف إلى الاستيطان في بلاد المسلمين، وإحلال النصارى مكان سكان البلد المسلمين الأصليين، سواء في فلسطين أو في سوريا أو في لبنان أو في غيرها، وشتان بين احتلال الشعوب واحتلال الجيوش، فالجيوش التترية ستغادر البلاد في المستقبل لا محالة.
وأما الشعوب الصليبية المستوطنة فقد جاءت لتعيش في هذا المكان، فكون الصليبيين يحاربون من منطلق عقائدي، ويحاربون ليستوطنوا البلاد ويعيشون فيها يجعل خطورتهم أكبر من خطورة التتار، مع أن الحروب التترية في ظاهر الأمر أشد فتكاً وأكثر تدميراً من حروب الصليبيين، فكلاهما مر، فـ قطز رحمه الله يعلم أن الصليبيين أعداؤه كما أن التتار أعداؤه، ولا بد أن يوضع هذا في الحسبان.
ثانياً: تاريخ التعاون الصليبي مع التتري قديم، فالتتار رغبوا في بلاد المسلمين عن طريق الصليبيين من أيام جنكيزخان، والنصارى الصليبيون هم الذين ساعدوا هولاكو في إسقاط بغداد ومدن الشام، وما تحالف التتار مع الأرمن والكرج وأنطاكية ببعيد، وقد رأينا كل ذلك، ومن المحتمل جداً أن يصل التتار إلى تحالف إستراتيجي خطير مع الصليبيين في الإمارات الصليبية في فلسطين والشام، وهذه نقطة ثانية مهمة جداً.
ثالثاً: مع كون هذا التحالف الصليبي التتري أمر وارد، إلا أن قطز رحمه الله كان يعلم أن الصليبيين في عكا يكرهون التتار أيضا كما يكرهون المسلمين، وهم لا يكرهونهم فقط، بل يخافون منهم كذلك؛ لأنهم لا عهد لهم، وممكن أن يتفقوا اليوم على شيء وغداً يخالفونه، ومذابح التتار الجماعية مشهورة، وفظائعهم في شرق أوروبا وفي روسيا النصرانية كثيرة جداً ولا تنسى، وأعداد النصارى الذين قتلوا على أيدي التتار لا تحصى.
هذا كله بالإضافة إلى الحقد الصليبي الرهيب على هولاكو؛ لأنه فرض بطريركاً أرثوذكسياً يونانياً على كنائس أنطاكية الكاثوليكية الإيطالية في سابقة لم تحدث قبل ذلك أبداً، وكل الناس يعرفون العداء المستحكم بين الأرثوذوكس والكاثوليك، ونصارى عكا كانوا من الكاثوليك المتعصبين جداً، ولا يتصورون أن يحدث ذلك في أنطاكية فضلاً عن أن يحدث في عكا نفسها.
كل هذه الخلفيات كانت تجعل الصليبيين في عكا يتوجسون خيفة من التتار، ويعاملونهم في حذر شديد، ففكر قطز بأن التتار قد يتحالفون مع الصليبيين، ولكن الصليبيون في عكا لن يرغبوا في التحالف مع التتار إلا إذا أرغموا على ذلك، فلو أراد أن يعاهدهم فمن الممكن أن يسبق التتار.
رابعاً: أن الصليبيين في ذلك الوقت في سنة (658) هجرية يعانون من ضعف شديد.
فعكا وإن كانت هي أقوى الإمارات الصليبية في ذلك الوقت، إلا أنها كانت تعاني من ضعف شديد منذ هزيمة المنصورة سنة (648) هجرية، ومنذ رحيل لويس التاسع ملك فرنسا إلى بلده، وقتل عدد كبير جداً من الجنود الصليبيين في هذه المعركة، وأسر كل الجيش الباقي، فمنذ كل هذه الأحداث والصليبيون في تدهور مستمر، وهناك هبوط كبير جداً في إمكانيات وقدرات ومعنويات الجيش الصليبي في عكا، وكان قطز يعلم أنه وإن كان يتعامل مع عدو شديد الكراهية، لكنه عدو ليس شديد القوة بل ضعيف.
خامساً: إن إمارة عكا إمارة حصينة جداً، وهي أحصن مدينة على الإطلاق في الشام وفلسطين، وقد استولى عليها النصارى سنة (492) هجرية، يعني: قبل (166) سنة، ومنذ ذلك التاريخ والقواد المسلمون بما فيهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يفشلون دائماً في فتحها، فكان قطز يعلم أن فتح المدينة صعب جداً، حتى وإن كانت الإمارة في أشد حالات ضعفها.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
توعية الشعب المصري بالجهاد في سبيل الله (108)
بدأت حملة إعلامية تربوية في غاية الأهمية، حملة ليست للقادة والجيش فقط بل للشعب بكامله، فلا بد أن يجهز الشعب لهذا اللقاء الهام، ولا بد أن يعيش الشعب حياة الجد والكفاح ويترك حياة اللهو واللعب، ولا بد أن يحب الشعب الجهاد وتتضح في عينه الأهداف، ولا بد أن يقوم بالحملة الإعلامية رجال مخلصون، وليس بعض المنافقين الذين يتحدثون عن الجهاد،
ويشرحون مآسي المسلمين في قطر ما لمصلحة سياسية مؤقتة، فإذا انقضت هذه المصلحة انقطع الوازع وانقطع معه الكلام عن الجهاد والحرب، فهؤلاء الخطباء المنافقون وهذه الأقلام المأجورة لا تصلح لهذه المهمات النبيلة، لذلك كان لا بد أن يحمل مسئولية الدعاية الإعلامية لحرب التتار علماء الأمة وفقهاؤها.
فانطلق الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله ومن معه من علماء الأمة يصعدون منابر المساجد، ويلهبون مشاعر الناس بحديث الجهاد -وما أجمل حديث الجهاد! -، ورغّبوا الناس في الجنة، وزهّدوهم في الدنيا، وعظّموا لهم أجر الشهداء، وحدثوهم عن عظماء المسلمين المجاهدين كـ خالد والقعقاع والزبير والنعمان وطارق بن زياد وموسى بن نصير ويوسف بن تاشفين وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وذكّروهم بأيام الله، كيوم بدر والأحزاب وفتح مكة، واليرموك والقادسية ونهاوند، وذكّروهم بموقعة حطين الخالدة التي لم يمضِ عليها إلا (75) عاماً، وبموقعتي المنصورة وفارسكور اللتين لم يمض عليهما سوى عشر سنين.
فاشتعل الحماس في قلوب الشعب، فلا بد من تأهيل الشعب لهذا اليوم، وأن يُربى الأطفال والشباب على حب الموت في سبيل الله، وعلى تعظيم أمر الجهاد، وعلى حب الجنة، ولا بد أن يُربى الآباء والأمهات على أن يشجعوا أبناءهم على الجهاد، لا على أن يبعدوا أبناءهم عن كل ما يسبب المشاكل كما يقول الناس، ولا على أن يبعدوهم عما يهدد الروح ولو كان الدين.
ولابد أن تُربى الزوجات على حياة الجهاد، فتحفز الزوجة زوجها على الخروج للجهاد في سبيل الله، وترعى أولادها حق الرعاية في غياب زوجها، وتُربى على استقبال خبر الشهادة بصبر واحتساب، بل وبفرح، فلقد صعد الشهيد من أرض الموقعة إلى الجنة مباشرة، وهذا يدعو للفرح.
وإعداد الشعب ليوم الجهاد مهمة عظيمة، وليست سهلة أو بسيطة أبداً، بل هي صعبة جداً، وتحتاج إلى مجهود كبير وإلى مناهج مكثفة وإخلاص عميق ووقت طويل، وبدون هذا التأهيل لن يصبر الشعب على حياة الجهاد، والحروب والحصار.
والأمر في غاية الجدّية، فليس هناك وقت للترفيه ولا للّعب ولا للمزاح، وليس معنى هذا أن الترفيه واللعب والمزاح بالضوابط الشرعية حرام، لا، ولكن حياة الأمة المجاهدة تختلف عن حياة غيرها من الأمم، فهي أمة جادة فيها شيء من الترفيه، ولسنا أمة لاهية فيها شيء من الجد.
وهذه التربية المركزة جداً تحتاج إلى تغيير جذري في كيان الشعب وفي طريقة تفكيره، وهذا يحتاج إلى مربين من نوع خاص، ولابد من تفعيل دور العلماء للقيام بهذا الواجب العظيم.
وانطلق علماء الأزهر ليقوموا بمهمتهم النبيلة جداً، فقد فقه علماء الأزهر أن عملهم بالأزهر ليس مجرد وظيفة تدر دخلاً لمجابهة متطلبات الحياة، ولا لمجرد الظهور في المحافل المختلفة، ولا لإرضاء حاكم أو أمير، وإنما هي لتعبيد الناس لرب العالمين، وبالطريقة التي أرادها رب العالمين.
فانطلقوا يقومون بالدور الذي طالما قاموا به منذ أن أقر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر، وهو الدور الذي قاموا به أيام الحملات الصليبية والتتار، والذي قاموا به بعد ذلك في معارك المسلمين اللاحقة مع الصليبيين، ومع الحملة الفرنسية على مصر، ومع الاحتلال الإنجليزي لمصر، ومع الاحتلال اليهودي لها.
ونسأل الله عز وجل أن يضع أقدام علماء الأزهر على الطريق الصحيح لقيادة الأمة في قضاياها الحرجة، وفي مواقفها الخطيرة.
وأصبح شعب مصر مؤهلاً تماماً ليوم اللقاء، واستمر إعداد الجيش وتجهيزه وجمع المتطوعين وتدريب المجاهدين مدة خمسة أشهر، من شهر ربيع الأول سنة (658) هجرية عندما جاءت الرسالة من هولاكو إلى نهاية شهر رجب من نفس السنة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
نظرة قطز رحمه الله في مواجهة التتار خارج مصر(109)
كانت نظرة قطز رحمه الله أوسع من نظرة الأمراء، وبدأ رحمه الله يناقش الأمراء، ويشرح لهم مزايا خطته، وأبعاد نظرته، وأهداف الحرب في رأيه، ومهمة الجيش في اعتقاده، وأفهمهم رحمه الله حقائق غابت ولمدة سنوات طويلة جداً عن أذهان الكثيرين منهم، ومن هذه الحقائق مثلاً:
أولاً: أمن مصر القومي يبدأ من حدودها الشرقية وليس من داخل البلد نفسه، وإلا فكيف يأمن المصريون على أنفسهم وإلى جوارهم في فلسطين دولة قوية معادية: التتار أو غيرهم؟! فالعقل يؤكد أنه من المتوقع جداً أن تنتهز هذه الدولة المعادية أي فرصة ضعف، وتجتاح مصر من شرقها، وستأخذ سيناء في أيام معدودات، ثم تهدد مصر في عمقها، فلا بد إذن من إضعاف الجيش المعادي الرابض في فلسطين، إما بقتاله هناك، أو على الأقل بمساعدة من يقاتلونه هناك.
هذا هو التفكير العقلي والمنطقي حتى دون الدخول في حديث الشرع والدين الآن.
ثانياً: من الأفضل عسكرياً أن ينقل قطز المعركة إلى ميدان خصمه؛ لأن ذلك سوف يؤثر سلباً على نفوس أعدائه، كما أنه سيجعل له خط رجعة إذا حدثت هزيمة للجيش المسلم، فلو غلب في فلسطين فعنده فرصة للرجوع إلى مصر، ولو غلب في مصر فسيفتح الطريق إلى القاهرة لا محالة، وستسقط البلاد بكاملها.
ثالثاً: من الأفضل عسكرياً كذلك أن يمتلك المسلمون عنصر المفاجأة، ويختارون هم ميعاد ومكان المعركة بدلاً من أن يختار العدو ذلك، وعنصر المفاجأة هذا ليس للقيمة العسكرية فقط، بل له قيمة معنوية عالية جداً، فالهزيمة النفسية ستكون كبيرة جداً في صف الفريق الذي يفاجأ بالقتال، ولم يعد له العدة الكافية.
رابعاً: أن على المسلمين في مصر دوراً هاماً جداً ناحية إخوانهم المسلمين في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وأفغانستان وأذربيجان والشيشان، وفي كل المناطق التي ابتليت بالتتار، فلا يستقيم أبداً أن تُقام المذابح للمسلمين في هذه البلاد وتُنتهك الحرمات وتُهدم الديار ولا يتحرك المسلمون في مصر، فحركة المسلمين في مصر لنجدة إخوانهم في فلسطين وغيرها ليست فضلاً أو نافلة أبداً، وإنما هي فرض عليهم، وليست فرض كفاية إنما فرض عين؛ لأن العدو قد دهم فعلاً أرض فلسطين فتعيّن القتال على أهلها لدفعه، فإن لم يكفِ أهلها للقتال تعيّن القتال على من جاورهم من الأقطار الإسلامية، يعني: مصر والأقطار الأخرى لها، سوريا والأردن ولبنان وغيره، فإن لم يكفِ أهل مصر والأقطار الأخرى تعيّن على الأقطار الأبعد، وهكذا وهكذا حتى لو احتاج القتال لكل مسلم على وجه الأرض.
فالقضية في منتهى الخطورة، فانتهاك حرمات المسلمين في بلد ما، وسكوت المسلمين في البلاد الأخرى عن هذا الانتهاك جريمة كبرى، ومخالفة شرعية هائلة، ولذلك قرر قطز رحمه الله الخروج لنجدة أهل فلسطين وسوريا وغيرها حتى لو لم يفكر التتار أصلاً في غزو مصر، وهذا هو التفكير الشرعي السليم الذي كان عند قطز رحمه الله، والذي أيده بعد ذلك علماء مصر عندما قال هذا الرأي.
خامساً: أن على المسلمين دوراً ناحية التتار أنفسهم، فهم إن رفضوا الإسلام أو الجزية وجب على المسلمين قتالهم، ثم إن التتار ليسوا في بلادهم، وإنما هم الآن في بلاد المسلمين، فوجود التتار بهذه المعتقدات الفاسدة والحروب الهمجية يمثل فتنة كبيرة جداً في الأرض، ولا بد للمسلمين أن يقمعوا هذه الفتنة، ودور المسلمين في الأرض أكبر بكثير جداً من مجرد تأمين حدود القطر الذي يعيشون فيه، فإن عليهم نشر هذا الدين في ربوع الدنيا كلها، وعليهم أن يعلموا الناس الإسلام، ويأخذوا بأيديهم في كل بقعة من بقاع الأرض إلى الله عز وجل.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه} [آل عمران:110].
فواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتم على قطز رحمه الله وعلى جيش مصر وشعبها أن يقاتلوا التتار وغيرهم ممن أفسد في الأرض.
وهكذا اقتنع الحضور في هذا المجلس العسكري الكبير بحجة قطز رحمه الله، وبأهمية القتال في أرض فلسطين وليس في أرض مصر، وبدءوا بالفعل في تجهيز الجيش وإعداده لعبور سيناء ولقاء التتار في فلسطين.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
نظرة قطز رحمه الله في مواجهة التتار خارج مصر (110)
كانت نظرة قطز رحمه الله أوسع من نظرة الأمراء، وبدأ رحمه الله يناقش الأمراء، ويشرح لهم مزايا خطته، وأبعاد نظرته، وأهداف الحرب في رأيه، ومهمة الجيش في اعتقاده، وأفهمهم رحمه الله حقائق غابت ولمدة سنوات طويلة جداً عن أذهان الكثيرين منهم، ومن هذه الحقائق مثلاً:
أولاً: أمن مصر القومي يبدأ من حدودها الشرقية وليس من داخل البلد نفسه، وإلا فكيف يأمن المصريون على أنفسهم وإلى جوارهم في فلسطين دولة قوية معادية: التتار أو غيرهم؟! فالعقل يؤكد أنه من المتوقع جداً أن تنتهز هذه الدولة المعادية أي فرصة ضعف، وتجتاح مصر من شرقها، وستأخذ سيناء في أيام معدودات، ثم تهدد مصر في عمقها، فلا بد إذن من إضعاف الجيش المعادي الرابض في فلسطين، إما بقتاله هناك، أو على الأقل بمساعدة من يقاتلونه هناك.
هذا هو التفكير العقلي والمنطقي حتى دون الدخول في حديث الشرع والدين الآن.
ثانياً: من الأفضل عسكرياً أن ينقل قطز المعركة إلى ميدان خصمه؛ لأن ذلك سوف يؤثر سلباً على نفوس أعدائه، كما أنه سيجعل له خط رجعة إذا حدثت هزيمة للجيش المسلم، فلو غلب في فلسطين فعنده فرصة للرجوع إلى مصر، ولو غلب في مصر فسيفتح الطريق إلى القاهرة لا محالة، وستسقط البلاد بكاملها.
ثالثاً: من الأفضل عسكرياً كذلك أن يمتلك المسلمون عنصر المفاجأة، ويختارون هم ميعاد ومكان المعركة بدلاً من أن يختار العدو ذلك، وعنصر المفاجأة هذا ليس للقيمة العسكرية فقط، بل له قيمة معنوية عالية جداً، فالهزيمة النفسية ستكون كبيرة جداً في صف الفريق الذي يفاجأ بالقتال، ولم يعد له العدة الكافية.
رابعاً: أن على المسلمين في مصر دوراً هاماً جداً ناحية إخوانهم المسلمين في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وأفغانستان وأذربيجان والشيشان، وفي كل المناطق التي ابتليت بالتتار، فلا يستقيم أبداً أن تُقام المذابح للمسلمين في هذه البلاد وتُنتهك الحرمات وتُهدم الديار ولا يتحرك المسلمون في مصر، فحركة المسلمين في مصر لنجدة إخوانهم في فلسطين وغيرها ليست فضلاً أو نافلة أبداً، وإنما هي فرض عليهم، وليست فرض كفاية إنما فرض عين؛ لأن العدو قد دهم فعلاً أرض فلسطين فتعيّن القتال على أهلها لدفعه، فإن لم يكفِ أهلها للقتال تعيّن القتال على من جاورهم من الأقطار الإسلامية، يعني: مصر والأقطار الأخرى لها، سوريا والأردن ولبنان وغيره، فإن لم يكفِ أهل مصر والأقطار الأخرى تعيّن على الأقطار الأبعد، وهكذا وهكذا حتى لو احتاج القتال لكل مسلم على وجه الأرض.
فالقضية في منتهى الخطورة، فانتهاك حرمات المسلمين في بلد ما، وسكوت المسلمين في البلاد الأخرى عن هذا الانتهاك جريمة كبرى، ومخالفة شرعية هائلة، ولذلك قرر قطز رحمه الله الخروج لنجدة أهل فلسطين وسوريا وغيرها حتى لو لم يفكر التتار أصلاً في غزو مصر، وهذا هو التفكير الشرعي السليم الذي كان عند قطز رحمه الله، والذي أيده بعد ذلك علماء مصر عندما قال هذا الرأي.
خامساً: أن على المسلمين دوراً ناحية التتار أنفسهم، فهم إن رفضوا الإسلام أو الجزية وجب على المسلمين قتالهم، ثم إن التتار ليسوا في بلادهم، وإنما هم الآن في بلاد المسلمين، فوجود التتار بهذه المعتقدات الفاسدة والحروب الهمجية يمثل فتنة كبيرة جداً في الأرض، ولا بد للمسلمين أن يقمعوا هذه الفتنة، ودور المسلمين في الأرض أكبر بكثير جداً من مجرد تأمين حدود القطر الذي يعيشون فيه، فإن عليهم نشر هذا الدين في ربوع الدنيا كلها، وعليهم أن يعلموا الناس الإسلام، ويأخذوا بأيديهم في كل بقعة من بقاع الأرض إلى الله عز وجل.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه} [آل عمران:110].
فواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتم على قطز رحمه الله وعلى جيش مصر وشعبها أن يقاتلوا التتار وغيرهم ممن أفسد في الأرض.
وهكذا اقتنع الحضور في هذا المجلس العسكري الكبير بحجة قطز رحمه الله، وبأهمية القتال في أرض فلسطين وليس في أرض مصر، وبدءوا بالفعل في تجهيز الجيش وإعداده لعبور سيناء ولقاء التتار في فلسطين.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
خروج الجيش المصري إلى غزة (111)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
في المقال السابقة تحدثنا على القرار الجريء الذي أخذه قطز رحمه الله بالجهاد والقتال ضد التتار، وتحدثنا عن قراره الأصعب والأروع وهو الجهاد في فلسطين، وكيف بدأ بالفعل في تجميع الجيوش في منطقة الصالحية بمحافظة الشرقية، وأخذ فعلاً قرار التحرك إلى فلسطين.
وهذا التحرك كان في أوائل شهر شعبان سنة (658هـ) الموافق شهر يوليو سنة (1260م).
أي: أن هذا التحرك كان في أشد شهور السنة حراً، فكان السفر من الصالحية باتجاه الشمال الشرقي إلى سيناء، ثم سلوك طريق الساحل الشمالي لسيناء بحذاء البحر الأبيض المتوسط حتى غزة شديد المشقة، لأن الجيش سيخترق الصحراء الشرقية في مصر، ثم يخترق صحراء سيناء بكاملها حتى يصل إلى غزة، ومع ذلك صبر الجيش المجاهد، وتذكر الجميع غزوة تبوك وما صاحبها من صعوبات شديدة الشبه بما يصاحب هذه الموقعة.
فالمسلمون في تبوك كونهم في الحر، والأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بالمدينة، وقطع المسافة الصحراوية الطويلة كانوا ذاهبين لقتال قوة هائلة من قوى الأرض في ذلك الزمن، وهي قوة الرومان، وفي هذه المرة كذلك قطع المسلمون المسافة الطويلة في هذا الحر، وفي هذه الأزمة الاقتصادية؛ ليقابلوا جيشاً هائلاً كذلك هو جيش التتار، والتاريخ يكرر نفسه، غير أن المسلمين في تبوك لم يجدوا الرومان في انتظارهم، فلم تتم المعركة، وأما في موقفنا هذا فالتتار كانوا في الانتظار، وستتم الموقعة كما تعلمون.
تحرك قطز رحمه الله وقد رتب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجأه أحد جيوش التتار كان مستعداً للقتال، فوضع رحمه الله على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس رحمه الله القائد العسكري الفذ؛ ليكون أول من يصطدم بالتتار، وقطز رحمه الله كان يهدف من ذلك أن يجعل الفرقة الأولى التي تصطدم بالتتار على رأسها قائد عسكري فذ،
حتى تُحدث هذه الفرقة نصراً ولو جزئياً، وهذا النصر وإن كان صغيراً إلا أنه سوف يرفع من معنويات الجيش المسلم لا شك، ولذلك جعل أقوى فرق الجيش هي الفرقة الأمامية الأولى التي تتقدم الجيش، وليس هذا فقط، بل وأيضاً فصل المقدمة تماماً عن بقية الجيش، وجعل المقدمة على مسافة طويلة من الجيش بحيث إذا كانت هناك عيون للجيش التتري تراقب خط سير الجيش المسلم، فستكتشف المقدمة فقط وتظن أنها هي كل الجيش المسلم، وبذلك يستطيع قطز رحمه الله أن يخفي بقية الجيش ويناور به ويحاور ويختبئ، ويفعل خططاً قد لا تخطر على بال التتار.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
موقعة غزة (112)
اجتاز ركن الدين بيبرس رحمه الله الحدود المصرية في (26) يوليو سنة (1260م) ودخل فلسطين، وكان بقية الجيش المسلم لا يزال في الطريق، وبمجرد دخول المقدمة الإسلامية أرض فلسطين، اجتازت بسرعة رفح وخان يونس ودير البلح واقتربوا جداً من غزة،
ورآهم التتار هناك بعد أن اكتشفت عيونهم هذه المقدمة، وحدث ما توقعه قطز رحمه الله، ظنوا أن المقدمة هي كل الجيش، والتقت الحامية التترية التي كانت في غزة مع مقدمة الجيش المسلم في موقعة غزة، وكما ذكرنا قبل ذلك كانت مقدمة الجيش المسلم مقدمة قوية قائدها ركن الدين بيبرس القائد البارع، والحامية التترية في غزة صغيرة نسبياً، والجيش التتري الرئيسي معسكر على مسافة بعيدة جداً، على مسافة حوالي (300) كيلو متر من غزة في سهل البقاع في لبنان، وكانت كل الحسابات تعطي فرصة كبيرة للجيش المسلم أن يحقق انتصاراً ولو بسيطاً، وبالفعل انتصر ركن الدين بيبرس رحمه الله بمن معه من الجنود على الحامية التترية الصغيرة وقتلوا منها بعضها، وفر الباقون إلى الشمال؛ ليخبروا كتبغا الذي يعسكر في سهل البقاع بالهزيمة النسبية التي وقعت للحامية التترية في غزة، ويخبرونه كذلك أن الجيوش الإسلامية تتقدم في اتجاه الشمال.
الحامية التترية في غزة فوجئت بالجيش المسلم، وكانت مفاجئة كبيرة جداً لهذه الحامية، ولم تكن المفاجأة مفاجأة المباغتة أو الخطة العسكرية أو الإستراتيجية، أو اتخاذ مواقع معينة، أو فنون الحرب بصفة عامة، وإنما كانت المفاجأة الحقيقية أن التتار اكتشفوا أن هناك طائفة من المسلمين ما زالت تقاتل وتحمل السيوف، وتدافع عن دينها وعن أرضها وعن شرفها وعن عرضها وعن كرامتها، وكان قد ألِف التتار في كل السنوات السابقة أن يروا المسلمين يفرون ويهربون، وألِف زعماء التتار أن يروا زعماء المسلمين يطلبون دائماً التحالف المخزي والركوع المذل، وما توقعوا أبداً أن تظل هناك طائفة مسلمة تدافع عن دينها وحقها،
ولكن هذه الأمة مهما ضعفت فإنها لن تموت، ومهما ركع منها رجال فسيظل منها آخرون يدافعون عنها ما بقيت الحياة.
واسمعوا هذا الحديث الجميل الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله».
وستظل هذه الطائفة موجودة إلى يوم القيامة.
وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه زاد زيادة هامة جداً، فقد سأل بعض الصحابة عن هذه الطائفة فقالوا: (أين هم يا رسول الله؟! قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس».
وببيت المقدس في فلسطين، وأكناف بيت المقدس حول فلسطين والشام.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أهمية الانتصار في موقعة غزة وتأكيد الهدنة بين المسلمين والصليبين (113)
انتصر المسلمون على التتار في غزة، وهذا الانتصار كان انتصاراً جزئياً أو مرحلياً أو بسيطاً، وبعض المؤرخين يقللون جداً من شأن معركة غزة، حتى يتغافلها تماماً بعضهم، وأنا في الحقيقة أرى أنها من أهم المواقع الحربية في تاريخ المسلمين، ليس لكثرة قتلى التتار، فقد كان القتلى قليلين جداً، ولا لأهمية غزة الإستراتيجية في ذلك الوقت، ولا لغير ذلك من أمور الحرب، ولكن لأنها أساساً عالجت الهزيمة النفسية عند المسلمين، فالمسلمون رأوا بأعينهم أن التتار يفرون، وسقطت المقولة التي انتشرت في تلك الآونة: من قال لك: إن التتار يهزمون فلا تصدقه.
فالآن من الممكن أن تصدقه، وهذه أول مرة يهزم فيها التتار منذ سنين طويلة، فموقعة غزة كان لها أثر إيجابي هائل على الجيش المسلم، وكذلك كان لها أثر سلبي هائل على جيش التتار، فعلى المسلمين ألا يستصغروا أبداً أي عمل من الأعمال، فلا يستصغر مسلم أن تلقى حجارة على يهودي فيجري اليهودي ويهرب، فهذه كبيرة جداً، ولا يستقلنّ مسلم أن يُقتل جندي يهودي أو أمريكي في فلسطين أو في العراق أو في غيرها، فالهزيمة الحقيقية هي هزيمة الروح والنفس، والانتصارات المرحلية البسيطة -وإن كانت عسكرياً لا تمثل الكثير- تفيد كثيراً جداً في رفع الروح المعنوية للأمة، والجيش المحبط من المستحيل أن ينتصر.
اتجه الجيش المسلم بعد انتصار غزة إلى ناحية الشمال، ومشوا بحذاء البحر الأبيض المتوسط، يعني: في غرب فلسطين، ومروا على المدن الإسلامية العظيمة الواحدة تلو الأخرى، فمروا على عسقلان ثم على يافا ثم مروا غرباً بطولكرم، ثم وصلوا إلى مدينة حيفا،
ثم اتجهوا شمالاً بعدها إلى عكا المدينة المسلمة المحتلة من قبل الصليبيين، وعسكر قطز رحمه الله خارج عكا في الحدائق المحيطة بحصن عكا، وبدأت المراسلات بين قطز رحمه الله وبين أمراء عكا الصليبيين، يريد أن يؤكد على الاتفاقيات السابقة، ويرى هل ما يزال الصليبيون عند عهودهم أو خالفوا؟
فأرسل وفداً من الأمراء المسلمين فدخلوا حصن عكا، وأحسن الأمراء الصليبيون استقبال المسلمين، وأكد الطرفان على ما سبق الاتفاق عليه، وتكررت الزيارات أكثر من مرة، واطمأن الطرفان إلى استقرار الوضع، ومن ثم عزم قطز رحمه الله على الرحيل واختيار مكان مناسب للقاء الهام الذي سيجري بعد أيام مع التتار.
وعندما بدأ قطز رحمه الله يغادر منطقة عكا، أشار عليه أحد الأمراء المسلمين الذين قاموا بالسفارة بينه وبين الأمراء الصليبيين أن عكا الآن في أشد حالات الضعف، وأنهم مطمئنون إلى المعاهدة الإسلامية، وغير جاهزين للقتال، فإذا انقلب عليهم قطز فجأة فقد يتمكن من إسقاط حصن عكا وتحرير المدينة الإسلامية، وهذه المدينة الإسلامية محتلة منذ (166) سنة،
فقال الأمير لـ قطز: هذه فرصة أن نحرر هذه المدينة المحتلة، فرد عليه قطز رحمه الله رداً واضحاً قاطعاً صارماً بقوله: نحن لا نخون العهود، فالرؤية واضحة جداً في عين قطز رحمه الله، فقد كان يأخذ بأسباب النصر الحقيقي، التي منها: اتباع شرع الله عز وجل، وحفظ العقود، وعدم نقض المواثيق من صميم شرع الله عز وجل، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].
فهذا هو الدين والشرع الإسلامي، وهذه هي قوانين الإسلام، وهؤلاء هم قادة الإسلام.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
رعب كتبغا من المسلمين (114)
ترك قطز رحمه الله عكا واتجه إلى الجنوب الشرقي؛ ليبحث عن مكان يصلح للمعركة القادمة، وفي هذه الأثناء وصلت الأخبار إلى كتبغا بعد أن وصل إليه فلول جيش التتار الذي هُزم في غزة، فغضب غضباً شديداً، فهذه أول مرة تُهزم الجيوش التترية في هذه المنطقة بكاملها،
ومن قبل هذا لم نسمع هزيمة للتتار، فجهّز جيشه وبدأ يأتي من اتجاه الشمال إلى الجنوب ليقابل الجيش المسلم في فلسطين، والمسافة بين سهل البقاع وبين الحدود الفلسطينية اللبنانية شمال فلسطين حوالي (100) كيلو متر، وبين أول سهل البقاع إلى غزة (600) كيلو متر، (100) كيلو متر من أرض لبنان والباقي في فلسطين، والجيوش تقطع هذه المسافة عادة في يومين أو ثلاثة، ولكن كتبغا قطعها في أكثر من شهر، فقد علم أن هناك رجالاً يقاتلون من المسلمين فتثاقلت خطاه،
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف: «نصرت بالرعب مسيرة شهر».
وهذا الرعب كثيراً ما يكون غير مبرر بالأسباب المادية، وليس له تفسير إلا أن الله عز وجل ألقاه في قلوب أعدائه، كما قال ربنا في كتابه الكريم في سورة الأنفال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12].
وقال سبحانه وتعالى في آل عمران: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران:151].
فالله عز وجل يلقي الرعب في قلوب الجيوش الضخمة الهائلة إذا رأت أمامها جيشاً مؤمناً يقاتل في سبيل الله عز وجل، وهذه حقيقة كونية متكررة في كل مواقع المسلمين، فالجيش التتري جاء إلى هذه المنطقة بعد مرور شهر من علم كتبغا بتجمع المسلمين لقتاله في فلسطين.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
التحاق المتطوعين بالجيش وتعاون صارم الدين مع المسلمين (115)
بينما قطز رحمه الله في سهل عين جالوت إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين المسلمين من أهل فلسطين يخرجون من القرى والمدن ليلتحقوا بالجيش المسلم، وقد تيقنوا أن حرباً حقيقية ستحدث قريباً.
ولا بد أن نقف هنا وقفة ونحلل الموقف الغريب هذا؛ وهو أين كان هؤلاء المتطوعون يوم أن جاءت فرقة تترية بسيطة فاخترقت فلسطين بكاملها من شمالها إلى جنوبها، حتى احتلت آخر المدن في فلسطين وهي مدينة غزة؟ وكيف قعد هؤلاء قبل ذلك؟ وكيف قاموا الآن؟ ولماذا تحركوا الآن إلى سهل عين جالوت؟
والإجابة في منتهى البساطة، فهذا أمر رأيناه كثيراً جداً في التاريخ الإسلامي، فهؤلاء القاعدون كانوا يفتقدون إلى القدوة، والتربية بالقدوة كلمة نكررها كثيراً جداً في هذه المجموعة منذ أن ذكرنا قطز رحمه الله.
فالكثير من المؤمنين الصادقين الذين يريدون خدمة الدين ورفعة الإسلام لا يجدون قدوة صالحة يقلدونها، ولا يجدون قائداً مخلصاً يتّبعونه فيقعدون، فقد ألف هؤلاء البسطاء في فلسطين أن يروا قوّادهم في الشام يعقدون الأحلاف المهينة مع التتار، ويفتحون لهم الحصون والديار، ويمهدون لهم الجسور والطرق، فافتقد هؤلاء المسلمون البسطاء القدوة الصالحة، فلم يظهر الخير الكثير الذي بداخلهم، فلما جاء قطز رحمه الله ومن معه من المؤمنين الصادقين، وقطعوا الطريق كله إلى أرض الموقعة، وهم يتقدمون في ثبات، ولم يفعلوا مثل ما فعل الناصر يوسف الأيوبي عندما فر بمجرد سماعه أن جيش التتار قد اقترب، لما رأوا كل ذلك تحمست قلوبهم، وخرجت العواطف الكامنة في صدورهم، وتحركت فيهم الحمية لهذا الدين، وهانت عليهم التضحية، وهان عليهم الجهاد.
وهؤلاء لم يكونوا كالجيش النظامي في قدراته ومهاراته، ولكنهم متحمسون متشوقون إلى العمل في سبيل الله، وهذه الحماسة في ميدان القتال تنفع كثيراً، فـ قطز رحمه الله استخدمهم في سلاح الخدمات، ووفر الجنود الذين كانوا في سلاح الخدمات في أعمال أخرى قتالية، وبالإضافة إلى ذلك كان لهم أهمية أخرى كبيرة جداً في تكثير سواد المسلمين، ولا شك أن هذا يبث الرعب في قلوب الكافرين.
ثم اجتمع الكثير من الفلاحين من القرى المختلفة ممن لا يستطيع قتالاً ولا خدمة إما لكبر سن أو لعجز أو لمرض، واجتمع كذلك النساء والصبيان، واصطفوا بأعداد كبيرة على طرفي سهل عين جالوت وقد علت أصواتهم بالتكبير والدعاء للمسلمين، وارتفعت صيحاتهم التأييدية للقوات الإسلامية، وتحركت ألسنتهم وأيديهم وقلوبهم بالدعاء لرب العالمين أن ينصر الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله، كل هذه الأحداث كانت في يوم (24) رمضان من سنة (658هـ) وهو اليوم السابق مباشرة للموقعة الرهيبة عين جالوت.
وكل هذا كان تأييداً للجيش المسلم، ورفعاً لمعنوياته إلى أقصى درجة.
وأيضاً قبل الموقعة بيوم حدث شيء غريب جداً أن يحدث في هذا التوقيت، وهذا فعل رب العالمين سبحانه وتعالى، فبينما هم في سهل عين جالوت جاء رجل من أهل الشام وهو يُسرع المسير يطلب أن يقابل أمير القوات الإسلامية قطز ومن معه من بقية الأمراء،
وقال: إنه رسول من قبل صارم الدين أيبك، وهو أحد المسلمين الذين أسرهم هولاكو قبل ذلك عند غزوه بلاد الشام، ثم قبِل أن يعمل في الخدمة في صفوف جيش التتار، واشترك معهم في مواقعهم المختلفة، وجاء معهم إلى موقعة عين جالوت، ولا ندري إن كان قد قبِل التعاون مع التتار لرغبة في نفسه، أم قبل ذلك مضطراً وهو يعد العدة لينفع المسلمين؟ لا ندري هذا، فهذا بينه وبين رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن ما نعلمه أنه قبيل موقعة عين جالوت، وفي هذا اليوم الذي سبق الموقعة مباشرة قرر أن يخدم جيش المسلمين بقدر ما يستطيع، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
فهذا الرجل صارم الدين أيبك لا يعرفه قطز ولا يعرفه أمراء الجيش الإسلامي، ولكن الله عز وجل وضعه في هذا المكان؛ ليقدم للمسلمين خدمات جليلة، وليأتي النصر من حيث لا يحتسب المسلمون، وسبحان الذي ساقه في ذلك التوقيت الفريد كما ساق نعيم بن مسعود قبل ذلك في غزوة الأحزاب؛ ليكون سبباً رئيسياً في انتصار المسلمين يوم الأحزاب! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
فقد أتى رسول صارم الدين أيبك بثلاث معلومات:
أولاً: جيش التتار ليس بقوته المعهودة؛ فـ هولاكو قد أخذ معه عدداً كبيراً من الجيش وهو راجع إلى تبريز بعد أن وصله نبأ موت منكو خان خاقان التتار، فالجيش الذي سيقابل المسلمين الآن ليس على نفس الهيئة التي دخل بها الشام، فلا تخافوهم.
وهذه معلومة في غاية الأهمية؛ فقد طمأنت الجيش المسلم على أنه سيقابل جيشاً أصبح إلى حد ما أضعف من السابق، فيستطيع الجيش المسلم تحقيق الانتصار.
ثانياً: ميمنة التتار أقوى من الميسرة، فعلى جيش المسلمين أن يقوي من الميسرة؛ لأن الميسرة الإسلامية ستقابل الميمنة التترية.
وهذه أيضاً معلومة عسكرية في غاية الأهمية.
ثالثاً: أن الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو من الأمراء الموالين للتتار سيكون في جيش التتار، ولكنه راجع نفسه وسيُظهر التعاون مع التتار، بينما في الواقع سينهزم بين يدي المسلمين.
فاجتمع الخبراء العسكريون الإسلاميون في موقعة عين جالوت، وخافوا أن تكون كل هذه الأمور مجرد حيل من التتار، وقالوا: قد يكون هذا شيئاً عمله التتار؛ ليخدعوا به المسلمين ويضلوهم به عن اختيار القرار الصواب، فيجب أن نأخذ الحذر، وبدءوا بالفعل يرتبون صفوفهم مع اعتبار أن هذه الأمور قد تكون من الأمور الحقيقية، ثم اتضح أن هذا الكلام صحيح كما قال صارم الدين أيبك تماماً.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
اختفاء جيش المماليك بكامله خلف الأشجار والأحراش وفوق التلال (116)
بعد أن نزلت مقدمة المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس واكتملت، بدأت فرقة الطبول العسكرية الإسلامية المملوكية تظهر على الساحة، وانطلقت في قوة تدق طبولها وتنفخ في أبواقها، وتضرب صنوجها النحاسية، وتعمل دوراً في غاية الأهمية في موقعة عين جالوت،
فقد كانت هذه الضربات بمعان معينة، وكانت الجيوش المملوكية تتلقى الأوامر عن طريق هذه الدقات التي لا يعرفها الأعداء، فقد كان هناك ضربات معينة للميمنة، وضربات معينة للميسرة، وضربات معينة للقلب، وهناك ضربات للتقدم وضربات للانسحاب، وهناك ضربات خاصة لكل خطة عسكرية، وبذلك يستطيع القائد قطز رحمه الله أن يقود المعركة من مكان بعيد، وأيضاً يشعر الجنود بمعية القائد معهم، وأنه يرى كل خطوة من خطوات الجنود، ويستطيع أن يسد الثغرات من على بعد وهو يراقب الموقف، كما أن هذه الضربات القوية كانت تزلزل قلوب الأعداء، وتثبت قلوب المسلمين.
ووقف الأمير ركن الدين بيبرس بقواته على المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، بينما ترك السهل بكامله خالياً من خلفه، واقتربت جداً ساعة الصفر.
وكان جيش المماليك بكامله مختفياً خلف الأشجار والأحراش وفوق التلال، والذي يظهر منه هو جيش ركن الدين بيبرس فقط، وكانت المعلومات التي جاءت إلى كتبغا قبل ذلك من غزة قد وصفت له الجيش بهذا العدد، فكان كتبغا معتقداً أن جيش المسلمين كله هو فرقة المقدمة الإسلامية التي تقف أمامه، في حين أنها كانت جزءاً قليلاً من الجيش المسلم الكامل.
وللأسف الشديد لم نجد إحصاءً دقيقاً في أي كتاب من الكتب التي روت قصة التتار عن أعداد جيش التتار أو أعداد جيش المسلمين، لكننا نعلم أن الأعداد كانت هائلة في هذه الموقعة الضخمة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أحداث ليلة ويوم 25 رمضان سنة 658هـ (117)
انتهى اليوم الرابع والعشرين من رمضان، وقضى المسلمون هذه الليلة في القيام والابتهال والدعاء والرجاء، وكانت هذه من أعظم ليالي السنة،
أولاً: لأنها ليلة وترية، وثانياً وهذا هام جداً جداً: لأنها ليلة تسبق يوم الجهاد في سبيل الله، وفي صباحها سيكون اللقاء العظيم الذي يثأر فيه المسلمون لدماء الملايين من المسلمين التي سفكت على أيدي هؤلاء التتار الهمج، فكانت ليلة خالدة حقاً، ومتعة حقيقية لا يشعر بها إلا المجاهدون في سبيل الله، نسأل الله عز وجل أن يكتب لنا جهاداً في سبيله، وأن يرزقنا ثباتاً في أرض الجهاد.
كان قطز رحمه الله قد اجتهد كثيراً في تربية الزرع وغداً هو يوم الحصاد، وستكون نتائج جميع الأعمال الضخمة التي قام بها قطز رحمه الله قبل ذلك.
جاء وقت الفجر، وصلى المسلمون الفجر في خشوع، ورتبوا صفوفهم بعد الصلاة واستعدوا، وما هي إلا لحظات وأشرقت الشمس، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة، فهو عيد في السماء وعيد في الأرض، وسيكون عيداً للنصر من أعظم أعياد المسلمين إن شاء الله.
فيوم الجمعة (25) من رمضان سنة (658هـ) تاريخ من الواجب على جميع المسلمين ألا ينسوه، فهو من أعظم تواريخ المسلمين مطلقاً، وبشروق الشمس أضاءت الدنيا ورأى المسلمون من بعيد جيش التتار من اتجاه الشمال،
جاء الجيش التتري المهول الذي دوّخ العالم، وأسقط نصف العالم الإسلامي ونصف أوروبا، واقترب من سهل عين جالوت، وعلى أبواب السهل في الناحية الشمالية وقف الجيش التتري في عدده الرهيب وعدته القوية، ولم يكن بالسهل أحد من رجال المسلمين، فقد كان السهل خالياً تماماً، فكل المسلمين كانوا مختبئين خلف التلال، حتى المقدمة التي كان على رأسها ركن الدين بيبرس رحمه الله كانت مختبئة في ذلك الصباح.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
بداية معركة عين جالوت (118)
وفي ليلة (24) رمضان لم تبق إلا ساعات قليلة جداً ويحدث الصدام المروع بين قوة أمة الإسلام وقوة التتار، فقد جاء جيش كتبغا وقد امتلأ بالصلف والغرور، تسبقه سمعته العالية جداً في سفك الدماء وتخريب الديار وإفناء البشرية، {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21].
فقد مر جيش التتار غرب بيسان وانحدر جنوباً في اتجاه عين جالوت حيث كانت القوات الإسلامية قد أخذت مواقعها ورتبت صفوفها ووقفت في ثبات تنتظر الجيش التتري.
نظر كتبغانوين إلى القوات الإسلامية فوجدها قليلة، فأراد أن يحسم الموقعة من بدايتها، صحيح أنهم كانوا في هيئة حسنة، ومنظرهم مهيب عند كتبغا وعند جيش التتار، ولكن أعدادهم قليلة، فأراد أن يحسم الموقعة بكاملها، فدخل بجل جيشه أو كله إلى سهل عين جالوت.
وهذا تماماً ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله.
وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته، وانهمرت جموع التتار الرهيبة، وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين، وكانت أعداداً هائلة من الفرسان ينهبون الأرض نهباً في اتجاه القوات الإسلامية.
أما القائد المحنك ركن الدين بيبرس رحمه الله فكان يقف في رباطة جأش عجيبة، ووقف معه الأبطال المسلمون في ثبات ولم يتحركوا، وقد ألقى الله عز وجل عليهم سكينة وأمناً واطمئناناً، فكانوا يرون جحافل التتار الضخمة لا تعدو أن تكون حفنة قليلة من الرجال، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:44].
حتى إذا اقتربت جموع التتار من مقدمة الجيش الإسلامي أعطى القائد المحنك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله إشارة البدء لرجاله، فانطلقوا في شجاعة نادرة باتجاه جيش التتار، ولا ننسى أن هذه المقدمة الإسلامية قليلة جداً بالنسبة لجيش التتار.
وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً بمعنى الكلمة، وارتفعت سحب الغبار الكثيف في ساحة المعركة، وتعالت أصوات دقات الطبول وأصوات الآلات المملوكية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الفلسطينيين الواقفين على جنبات السهل، وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، وارتفع صليل السيوف وغطى على كل شيء.
احتدمت المعركة في لحظات، ورأى الجميع من الهول ما لم يرونه أبداً في حياتهم قبل ذلك.
وكانت هذه من أكبر المواقع في تاريخ الأرض، وكانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز رحمه الله اختيار أفرادها واحداً واحداً، حتى تستطيع أن تقف هذه الوقفة الجسورة أمام هذه الجحافل من التتار، وثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، فلما رأى كتبغانوين القوات ثابتة ضغط بصورة أكبر وبدأ يستخدم كل الطاقة، وأدخل كل الجنود إلى داخل السهل ولم يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري.
كل هذا وقطز رحمه الله يرقب الموقف عن بعد، ويصبّر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة.
ومرت الدقائق والساعات كأنها الأيام والشهور.
ومع أن الفجوة كانت هائلة في العدد والعدة بين الفريقين، إلا أن اللقاء كان سجالاً حتى هذه اللحظات.
وكان هم المسلمين إلى هذه اللحظة هو استنزاف القوات التترية في حرب مرهقة، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم.
هذا كان الجزء الأول من الخطة الإسلامية، الصبر قدر المستطاع من الجيش حتى تستنزف الطاقات التترية عن آخرها.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
نزول مقدمة الجيش الإسلامي إلى عين جالوت ورعب التتار منهم (119)
بدأت القوات الإسلامية بعد أن أشار لهم قطز رحمه الله تنزل إلى سهل عين جالوت بالتدريج أمام الجيش التتري.
لم تنزل مقدمة الجيش دفعة واحدة، وإنما نزلت على مراحل وفي صورة عجيبة، واسمعوا وصف صارم الدين أيبك الرجل المسلم الذي في جيش التتار، والذي انضم بعد ذلك إلى جيش المسلمين بعد انتهاء الموقعة، وكان يقف إلى جوار كتبغانوين القائد النصراني للجيوش التترية، فوقف يصف هذا النزول لمقدمة الجيش المسلم، ويقول:
فلما طلعت الشمس ظهرت عساكر الإسلام -يقصد المقدمة لجيش المسلمين- وكان أول سنجق أحمر وأبيض -وسنجق يعني: كتيبة، فأول كتيبة نزلت كانت لابسة أحمر وأبيض- وكانوا لابسين العدد المليحة، فكان موقفاً في غاية الروعة، نزلت الكتيبة الإسلامية الأولى وهي تلبس ملابس أنيقة جداً حمراء وبيضاء، وكان كل الفرقة لها زي خاص بها، وكانوا يلبسون العدد المليحة.
يعني: أن الدروع والسيوف والرماح والخيول كانت في هيئة جميلة، فنزلوا بخطوات ثابتة وبنظام بديع إلى ساحة المعركة في غاية الأناقة والبهاء، وكأنهم في عرض عسكري، لهم هيبة وعليهم جلال، يوقعون في قلوب من يراهم الرهبة.
هذه هي الكتيبة الأولى.
يقول صارم الدين أيبك وهو يتكلم عن كتبغا السفاح التتري الجبار: فبُهت كتبغا وبُهت من معه من التتار، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
وهذه أول مرة يرى فيها كتبغا جيش المسلمين على هذه الصورة، وقد كان معتاداً أن يراهم وراء الحصون والقلاع يرتجفون ويرتعبون، أو يراهم وهم يتسارعون إلى الهروب فزعاً من جيش التتار، أو يراهم وهم يسلمون رقابهم للذبح الذليل بسيوف التتار.
كان كتبغا معتاداً على رؤية المسلمين في أحد هذه الصور المهينة، أما أن يراهم في هذه الهيئة المهيبة العزيزة فهذا ما لم يحسب له حساباً أبداً.
قال كتبغا في فزع وهو يسأل صارم الدين أيبك: يا صارم! رُنك من هذا؟ ورُنك: كلمة فارسية تعني: لون، أي: كتيبة من هذه؟ إنها كتيبة مرعبة.
فقال صارم الدين أيبك: رُنك سنقر الرومي، أحد أمراء المماليك.
وكانت فرق المماليك تتميز عن بعضها البعض بلون خاص، فكل فرقة كانت لها لون، فأحدها أبيض وأبيض والأخرى أزرق وأخضر، فكل فرقة لها لون تتميز به، وكل شيء خاص بهذه الفرقة كان عليه إشارات من نفس اللون، فمخازنها في مصر عليها نفس اللون، وبيوتها كذلك عليها نفس اللون، وكل شيء عليه نفس اللون؛ حتى يتميز بعضهم عن بعض.
ومهما صورنا من عظمة هذه الفرقة وحلاوة تنظيمها وإبداع نزولها، فلا يمكن أبداً أن نفهم أن القائد التتري السفاح الجبار صاحب الجيش المهول يُرعب من رؤية كتيبة هي إحدى فرق المقدمة، فهي ليست كل المقدمة، وإنما هي فرقة من فرق المقدمة، ولا يمكن أبداً أن نفسر هذا الرعب إلا في ضوء ما ذكرناه قبل ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم «نُصِرت بالرعب مسيرة شهر».
فالله عز وجل هو الذي ألقى الرُعب بنفسه سبحانه وتعالى في قلب كتبغا وقلب الجيش التتري الرهيب.
ثم بعد قليل نزلت كتيبة ثانية تلبس الملابس الصفراء، وعليها من البهاء والجمال ما لا يوصف، فتزلزل كتبغا وقال لـ صارم: هذا رُنك من؟ فقال صارم: هذا رُنك بلبان الرشيد أحد أمراء المماليك الآخرين.
ثم تتابعت الكتائب الإسلامية، وكل هذا كان مقدمة ركن الدين بيبرس رحمه الله تنزل على دفعات، وكل كتيبة تنزل بلون آخر، وكلما نزلت كتيبة يسأل كتبغا: رُنك من هذا؟ يقول صارم الدين أيبك: فصار أي شيء يجري على لساني قلته.
أي: أنه بدأ يقول أسماء مخترعة، ويقول: هذه فرقة الأمير الفلاني وهذه فرقة الأمير العلاني، ويذكر أسماء لا أصل لها، يريد أن يكثّر من أسماء المماليك؛ لكي يوهم كتبغانوين أن هذا اتحاد المماليك المصرية والشامية وغيرها، فيوقع الرهبة في قلبه.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
سحب قوات التتار إلى داخل سهل عين جالوت ومحا رة التتار (120)
جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة، ودقت الطبول دقات معينة؛ لتصل بالأخبار من قطز إلى بيبرس ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني الخطير من الخطة.
وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، ويا حبذا لو سُحب الجيش بكامله! بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيداً لحصارها والقضاء عليها.
وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ مهمة صعبة جداً، فكان عليه أن يُظهر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعاً جداً حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئاً جداً فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع تحت الضغط التتري الرهيب، وهذا الميزان في الانسحاب يحتاج إلى قدرة قيادية فائقة، كما يحتاج إلى رجال أشداء مهرة في القتال، ويحتاج فوق كل ذلك وقبل كل ذلك إلى توفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه العوامل بفضل الله كانت متوافرة في هذا الجيش، والمحلل لهذه الخطة يجد أنها نفس الخطة الإسلامية في موقعة نهاوند الشهيرة، التي كانت ضد القوات الفارسية وذلك في سنة (19هـ)، وكان يقوم فيها بدور ركن الدين بيبرس من عملية سحب الجيش التتري إلى داخل السهل الصحابي القائد الإسلامي الفذ القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وكان يقوم بدور قطز رحمه الله الصحابي الجليل والفارس العظيم النعمان بن مقرن رضي الله عنه.
وقام في وقتها القعقاع بن عمرو التميمي بسحب قوات الفرس الرهيبة في الكمين الإسلامي الخطير، الذي قضى على قوات الفرس تماماً، وهنا في عين جالوت استفاد قطز رحمه الله من التاريخ، ومن تجارب المسلمين السابقة، وطبق خطة موقعة نهاوند بحذافيرها.
وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة في السهل تقدم جيش التتار مكانها، وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام، وتحمس كتبغا ومن معه للضغط على المسلمين، وبدءوا يدخلون السهل وبأعداد كبيرة، ومر الوقت ببطء على الطرفين، ولكن في النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت, وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت، وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك كتبغا كما أشرنا قبل ذلك أياً من قواته الاحتياطية خارج السهل لحماية مؤخرة الجيش، بل أخذ معه كل الجنود إلى داخل السهل.
كيف فعل كتبغا ذلك وهو بكل وضوح خطأ عسكري شنيع لا ريب ولا شك في ذلك، وهو قائد عسكري بارع، وذو خبرة طويلة جداً في مجال الحروب، فهو على الأقل في هذه الموقعة قد جاوز الستين أو السبعين من عمره؛ فـ كتبغانوين من القواد الذين عاصروا جنكيز خان مؤسس دولة التتار، أي: أنه قديم جداً في المعارك، وكان قائداً أيام جنكيز خان، وجنكيز خان قد مات قبل هذه الموقعة بأربع وثلاثين سنة، وهذه السنوات الطويلة كلها قضاها كتبغا في حروب وقيادة؟ لقد كان من المفروض عليه كقائد محنك أن يترك قواتاً احتياطية خارج السهل؛ لتؤمّن طريق العودة في حال الخسارة، ولتمنع التفاف الجيش الإسلامي حول التتار، ولتراقب أي تحركات مريبة لجيوش أخرى قد تأتي لمساعدة الجيش الإسلامي.
لكن كل هذا لم يحدث.
توقفت العقلية التترية عن التفكير السليم في هذا الوقت الحساس من أوقات المعركة، وقد يفسر بعض المحللين ذلك برغبة كتبغا في القضاء الكامل على قوات المسلمين وبحسم.
ويفسره بعضهم بأنه ضعف من المخابرات التترية التي لم تدرك حجم الجيش الإسلامي الحقيقي.
ويفسره آخرون بأنه الغرور والصلف الذي كان يملأ كتبغا من أم رأسه إلى أخمص قدميه.
ويفترض بعض المحللين أن هناك أهدافاً تكتيكية معينة في ذهن القائد العجوز الخبير كتبغا لا نعرفها.
وقد يُفسر الموقف بأي شيء من هذا أو بغيره.
ولكن كل هذه التفاسير لا تعطي مبرراً مقبولاً لهذا الخطأ العسكري الفادح الذي لا يقع فيه مقاتل مغمور في مطلع حياته العسكرية.
ولكن يبقى التفسير الوحيد المقبول عندي في مثل هذا الموقف هو أن الله عز وجل دفعه إلى هذا دفعاً؛ ليخرج عن قياسات البشر، فهو سبحانه وتعالى الذي يدفع أشخاصاً بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة، ولو تكرر نفس الظرف ألف مرة فلعل الرجل لا يأخذ نفس هذا القرار أبداً، ولكن الله عز وجل أراد لهذا الجيش التتري الهلكة، فدفعه إلى أخذ قرار لا يتناسب مطلقاً مع قدرات وخبرات القائد الفذ كتبغا الذي يقود جيوش التتار أبداً، وهذا من مكر رب العالمين سبحانه وتعالى، يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{وَيَمْكُ رُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}.
بدأ تنفيذ الجزء الثالث بالغ الأهمية في الخطة.
وجاءت إشارة البدء من قطز رحمه الله عن طريق الطبول والأبواق، ونزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة من كل جوانب الميدان، من الشرق والغرب والجنوب، بل وأسرعت فرقة عسكرية قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك في دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار إحاطة السوار بالمعصم.
واكتشف كتبغا الخطة الإسلامية، ولكن بعد فوات الأوان، فقد حصر هو والتتار في داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ بصفة عامة.
فلا مجال للهرب أو المناورات، فالسهل منبسط والمساحات مكشوفة، وليس هناك من حماية إلا خلف السيوف والدروع، ولم يكن هناك بديل عن القتال، فلا بد من القتال حتى الموت.
وكانت حرباً ضارية بشعة، أخرج التتار فيها كل إمكانياتهم، وبدءوا يقاتلون بحمية بالغة، والمسلمون بفضل الله صابرون ثابتون.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تراجع الجناح الأيسر للجيش الإسلامي ونزول قطز إلى ميدان المعركة (121)
ظهر تفوق الميمنة التترية كما أخبر بذلك من قبل رسول صارم الدين أيبك، وبدأت هذه الميمنة تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وظهر تأثر القوات الإسلامية بذلك، وأخذت ميسرة المسلمين تتراجع تدريجياً تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وازداد تساقط الشهداء، وظهرت الأزمة الكبرى، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفون بذلك حول الجيش الإسلامي، وسوف تتعادل بذلك الكفتان، بل وقد ترجح كفة التتار، وهنا يصبح إغلاق السهل خطراً على المسلمين، كما كان خطراً على التتار.
فما الذي سيعمله قطز رحمه الله؟ كان قطز رحمه الله يقف في مكان عال خلف الصفوف يراقب الموقف بكامله، ويوجه الفرق إلى سد الثغرات، ويخطط لكل صغيرة وكبيرة.
حين شاهد قطز رحمه الله المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بقوات احتياطية الواحدة تلو الأخرى، ولكن الضغط التتري استمر، وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، وبدأت معنويات البعض تنهار وشكوا في النصر، ولا ننسى السمعة المرعبة لجيش التتار الذي قيل عنه: إنه لا يُهزم.
كان قطز رحمه الله يشاهد كل ذلك، ويدفع بقوات إضافية إلى الميسرة، ولكن الموقف تأزم جداً، وهنا لم يجد قطز رحمه الله إلا حلاً واحداً لا بديل له، فقرر أن ينزل بنفسه رحمه الله إلى ساحة القتال، ويُثبت لجنوده بالطريقة التي اعتادها معهم أن الجهاد في سبيل الله عز وجل أُمنية، وأن الموت في سبيل الله مطلب لكل مسلم صادق، ويعلمهم بالطريقة التي اعتاد أن يعلمهم بها، وهي طريقة التربية بالقدوة، فنزل رحمه الله إلى أرض الموقعة، ولم ينزل بهيئته العسكرية الكاملة، وإنما خلع خوذته وألقاها على الأرض؛ تعبيراً عن اشتياقه للشهادة وعدم خوفه من الموت، وأطلق الصيحة الشهيرة التي قلبت الموازين تماماً في أرض المعركة، فصرخ قطز رحمه الله بأعلى صوته والجميع يسمع: وا إسلاماه! وا إسلاماه!
وألقى السلطان المظفر القائد العظيم رحمه الله بنفسه وسط الأمواج المتلاطمة من البشر، وفوجئ الجنود الإسلاميون بوجود القائد الملك المظفر قطز رحمه الله في وسطهم، يعاني مما يعانون ويشعر بما يشعرون ويقاتل كما يقاتلون.
فأي تأييد نزل عليهم، وأي تثبيت، وأي سكينة، وأي اطمئنان.
وأصبحت القضية واضحة جداً أمام الجميع، القضية قضية الإسلام، القضية قضية وا إسلاماه، القضية ليست أبداً حفاظاً على ملك أو حماية لكرسي أو حرصاً على توريث لابن أو عائلة، فالقتال لله عز وجل، ويمكن أن تكون نهاية قطز رحمه الله، ويمكن أن يموت وهو في زهرة شبابه، فهو يقاتل في سبيل الله حقيقة، هكذا شعر الجنود، وشتان بين القائد الصادق الذي يعيش لدينه ولشعبه، والقائد الكاذب الذي يتكلم كثيراً عن فضائل الأعمال، وهو لا يعيش إلا لنفسه، فالتهب حماس الجنود، وهانت عليهم تماماً جيوش التتار، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة، فهي ليست هجمة على ذواتهم، بل هي هجمة على الإسلام،
واشتعل القتال في سهل عين جالوت، واستحر القتل، وعلت أصوات تكبير الفلاحين على كل شيء، ولجأ المسلمون بصدق إلى ربهم في هذا اليوم المجيد من أيام شهر رمضان.
وقاتل قطز رحمه الله قتالاً عجيباً.
ثم صوب أحد التتر سهمه نحو قطز رحمه الله، فأخطأه السهم، وأصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرس من ساعته، فترجل قطز رحمه الله على الأرض، وقاتل ماشياً لا خيل له وما تردد، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته رحمه الله، ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشياً، فجاء إليه مسرعاً، وتنازل له عن فرسه، إلا أن قطز رحمه الله امتنع،
وقال: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، وظل يقاتل ماشياً إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية.
وبعد هذه الموقعة لامه أحد الأمراء على هذا الموقف، وقال له: لم لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك.
فانتفض قطز رحمه الله وقال في يقين رائع: أما أنا لو قتلت فكنت أذهب إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قُتل فلان وفلان وفلان، حتى عد خلقاً من الملوك، مثل: عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام، فرحمه الله فقد كان وما زال قدوة للمسلمين، وعلى أكتاف أمثاله تنهض الأمم.
نتيجة مثل هذا الموقف أدت القوات الإسلامية أداءً راقياً جداً في القتال، وأخرجت كل إمكانيتها، ولم تكن قضيتها قضية موت أو حياة كالتتار، بل كانت إما نصر أو شهادة.
وبدأت الكفة بفضل الله تميل من جديد لصالح المسلمين، وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار، {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} .
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
هزيمة التتار وهروبهم ومقتل كتبغانوين قائد التتار (122)
تقدم أمير من أمراء المماليك المهرة من أمراء الشام الذين انضموا إلى جيش قطز رحمه الله قبل موقعة عين جالوت، من أمراء جيش الناصر الأيوبي الذي فر قبل ذلك، وهو الأمير جمال الدين آقوش الشمسي رحمه الله، فتقدم وأبلى بلاء حسناً في القتال، واخترق صفوف التتار حتى وصل إلى كتبغا القائد النصراني العجوز الخبير وقاتله، ورفع المسلم سيفه، ورفع الكافر سيفه، وأهوى المسلم بكل طاقته على الكافر، فأراد الله عز وجل أن يُقتل الكافر {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
فقُطعت رقبة الطاغية المتغطرس كتبغا على أرض القتال وسقط زعيم التتار، وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
كان مقتل كتبغا نقطة محورية في القتال، وتغير السيناريو تماماً عند التتار، فما أصبح لهم من هَمّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب، وانطلق المسلمون الصادقون خلف التتار يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً.
وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فضاعت السمعة، وضاعت الهيبة، ومُزّق الجيش الرهيب تمزيقاً، وركز جهده على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي، واستطاعوا بعد جهد شديد أن يفتحوا ثغرة، ووصلوا بالفعل إلى الخروج من سهل عين جالوت، وبدءوا في الفرار في اتجاه الشمال، ولكن جيوش المسلمين كانت تجري خلفهم،
فلم يكن الغرض أبداً في هذه الموقعة هو الانتصار في موقعة عابرة، أو تحقيق كسب سياسي مؤقت يتفاوضون بعده أبداً، وإنما كان الغرض الواضح هو تحرير البلاد بكاملها عن طريق الجهاد في سبيل الله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
معركة بيسان وإبادة جيش التتار (123)
كان التتار يقطعون الأرض شمالاً، والمسلمون لا يتركونهم، ووصل التتار الفارون إلى بيسان، وهي على بعد حوالي (20) كيلو متر شمال شرق عين جالوت، فوجدوا أن المسلمين جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد للقتال، ولتدور موقعة أخرى عند بيسان،
أجمع المؤرخون على أنها أصعب من عين جالوت وقاتل التتار قتالاً رهيباً، ودافعوا عن حياتهم بكل قوة، وبدءوا يضغطون على المسلمين, وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية مطلقاً،
ورأى قطز رحمه الله كل ذلك، فهو لم يكن أبداً قريباً من الأحداث، وإنما كان في وسطها رحمه الله، فانطلق رحمه الله يحفز الناس، ويدعوهم للثبات، ثم أطلق صيحته الخالدة مرة أخرى وقال: وا إسلاماه، وا إسلاماه، وا إسلاماه، قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار.
الله أكبر، ما أحسن اعترافك يا قطز بعبوديتك في هذا المقام! فلستُ أنا الملكَ المظفر، ولستُ أنا أميرَ المسلمين، ولستُ أنا سلطانَ مصر، وإنما أنا عبدك.
ويا أيها المؤمنون الصادقون! كيف يلجأ العبد بصدق إلى الله عز وجل ويتركه الله عز وجل؟ هذا أبداً لا يكون.
دق قطز رحمه الله على الباب الذي ما طرقه صادق إلا وفُتح له، وتقرب رحمه الله إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وعندما يخشع ملوك الأرض فلابد أن يرحم جبار السماوات والأرض، وكان خشوع قطز الصادق هو الجبل الذي وقع على جيش التتار، فأهلكهم بكاملهم، فما إن انتهى من دعائه وطلبه رحمه الله إلا وخارت قوى التتار تماماً، وبدأ الجنود الذين روعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان، وقضى المسلمون تماماً على أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار.
وجاءت اللحظة التي انتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو يزيد،{وَيَوْمَئ ذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4 - 5].
وتخيلوا أنه في موقعة عين جالوت أُبيد جيش التتار بكامله، هل سمعتم عن هذا؟! أو هل سمعتم عن مثل ذلك؟! لقد أبيد جيش التتار بكامله! ولم يبق على قيد الحياة من هذا الجيش أحد أبداً، وفني الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية، وسفك دماء الملايين وخرّب مئات المدن، وعاث في الأرض فساداً، وانتصر الجيش الإسلامي العظيم.
فهنيئاً لكم أيها المسلمون! بالنصر العظيم، وهنيئاً لك يا قطز! فقد حان وقت قطف الثمار.
ولما رأى قطز رحمه الله جموع التتار صرعى على أرض بيسان المباركة، لم يفق ليتلقى التهنئة في ذلك الوقت ويرفع رأسه ويفتخر، بل إن أول شيء فعله رحمه الله أن نزل من على فرسه، ومرّغ وجهه على الأرض يسجد لله شكراً، ولم يدخله غرور المنتصرين، أو يرفع رأسه بزهو المتكبرين، ولم يشعر أنه قد فعل شيئاً، بل إن الفضل والمنة لله عز وجل، فهو الذي أنعم عليه واختاره ليكون مجاهداً، وهو الذي منّ عليه بالثبات، وهو الذي ألهمه الحكمة في القتال، والصواب في الرأي، وهو الذي هداه السبيل.
وهنا أيها المؤمنون! بيت القصيد، أن تعرف أنك عبد لله عز وجل، لا تُنصر إلا بنصره، ولا تنجو إلا برحمته، ولا تتحرك إلا بإرادته {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4].
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
قطز رحمه الله في ميزان الإسلام (124)
إذا أردتم أن تعرفوا قيمة قطز رحمه الله في ميزان الإسلام، فانظروا إلى كثير من الزعماء الذين ينتفخون كِبراً وزهواً وفخراً، ويتطاولون على خلق الله، ويُصَعِّرون خدودهم للناس، ويمشون في الأرض مرحاً، وكأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون الجبال طولاً! وما فعلوا لأمتهم معشار ما فعله قطز رحمه الله، بل على العكس كانوا وبالاً على شعوبهم، وكانوا مصيبة على أممهم.
وهنا تبرز قيمة قطز الحقيقية، وبضدها تتميز الأشياء.
ومن هنا فلا عجب أبداً أن يُنصر قطز رحمه الله، ولا عجب أيضاً أن يُخذل غيره، والله عز وجل لا يظلم أحداً أبداً.
يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].
فالإنسان هو الذي يختار، فلم يأت قطز رحمه الله في زمان تمكين ولا سيادة، ولا في ظروف طيبة ومريحة، ولم يحكم البلاد وهي قوية قاهرة، لم يجلس على الكرسي وأموال دولته لا تحصى، بل كانت كل الظروف تقريباً ضده، لكنه استعان بالله، وعمل بصدق وإخلاص، وحفّز الآخرين على العمل معه، فكان لابد من الوصول.
ويوم يعمل المسلمون كما عمل قطز رحمه الله سيصلون حتماً إلى ما وصل إليه، وليس بالضرورة -كما تبين لنا في هذه القصة- أن يحتاج التغيير إلى سنوات أو قرون أو عقود، فقد كانت عين جالوت بعد عشرة أشهر فقط من تولي قطز مقاليد الأمور،
ولكن من الضروري فعلاً أن يوجد المخلصون الصادقون العالمون العاملون، ووعد الله عز وجل لا يُخلف أبداً، وقد قال ربنا في كتابه الكريم: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
إن معركة عين جالوت من أعظم المعارك في تاريخ الأرض، ولا شك أن آثارها لا تحصى ونتائجها لا تُعد، لا شك أن وراء هذا النصر أسباباً معروفة ووسائل معلومة، ولكن هذا الحديث يطول شرحه، وسنتحدث عنه بإذن الله في المحاضرة القادمة.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أسباب تسلط التتار على المسلمين قبل موقعة عين جالوت (125)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
في المقالات السابقة تحدثنا عن موقعة عين جالوت، تلك الموقعة التي غيرت فعلاً من خريطة العالم، ومن جغرافية الأرض.
والتعليقات على هذه الموقعة لا تنتهي، والدروس والعبر والفوائد والعظات لا تحصى،
فكل خطوة من خطوات الجيش المسلم، وكل خطوة من خطوات الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله تحتاج إلى وقفات طويلة؛ لأن موقعة عين جالوت سقط فيها الجيش التتري، الذي أفسد في الأرض إفساداً عظيماً، والله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين، مع كون هذا الجيش جيشاً مفسداً إلا أنه سلط على المسلمين فترة طويلة من الزمان، مدة أربعين سنة متصلة، عاشها المسلمون في قهر وتعذيب وبطش وإجرام من التتار، وهزم فيها المسلمون في عشرات بل مئات المواقع الحربية، ثم دارت الأيام وتمت المعركة الهائلة عين جالوت، وانتصر المسلمون انتصاراً مبهراً حقاً، يقول ربنا في كتابه الكريم: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
وهنا يبرز سؤالان: ولابد لمن يتوسع في هذه الأحداث أن يخطر على ذهنه هذان السؤالان، وهذان السؤالان لهما إجابة واحدة:
السؤال الأول: كيف سلط جيش التتار الفاسد المفسد على أمة الإسلام وهي خير منه، فمهما خالفت أمة الإسلام منهجها، ومهما بعدت وقصرت في واجباتها فهي ما زالت أمة الإسلام، فلماذا يسلط الله عز وجل أمة التتار المفسدة على أمة الإسلام؟
السؤال الثاني: لماذا انتصر جيش التتار على المسلمين في كل المواقع السابقة، ثم هزم في موقعة عين جالوت وهو نفس الجيش؟ فلماذا انتصر سابقاً ثم هلك بكامله بهذه الصورة العجيبة في موقعة عين جالوت؟
إن الإجابة على السؤالين نجدها في خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الصحابي العظيم الملهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يقود الجيوش الإسلامية المتجهة لحرب فارس في موقعة القادسية الكبرى، فقد قال له: (فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكون أشد احترازاً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لن نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله عز وجل يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا).
أي: كما نقول: إن التتار شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن اليهود شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن الأمريكان شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نصف أي عدو من أعداء الله عز وجل بأنه شر، ولن يسلط على المسلمين.
ثم قال: فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً.
فاليهود لما أفسدوا في الأرض وعملوا ما يسخط الله من المعاصي، وابتعدوا عن شرعه عز وجل، سلط الله عليهم المجوس عباد النار، واليهود أهل كتاب، ومهما عصوا فهم أفضل من المجوس، ومع ذلك سلط الله عز وجل المجوس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ورسالة الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه هذه من أنفس ما قال رضي الله عنه، ومن أعظم الرسائل مطلقاً، والرسالة طويلة، وقد درسناها بالتفصيل في فتوح فارس، ودراستها في منتهى الأهمية في بناء الأمة الإسلامية.
ومن هذا الجزء الذي ذكرناه من الرسالة يتضح أنه إذا عمل المسلمون بمعاصي الله، فإنهم يهزمون ويسلط عليهم الكفار من أهل الأرض.
وإذا التزم المسلمون بتقوى الله عز وجل، وساروا على منهج ربهم، ومنهج رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، انتصروا على الجيوش التي طالما انتصرت عليهم؛ فهم لا ينتصرون على هذه الجيوش بقوة الجسد، أو بكثرة العدد، أو بكفاءة العدد، وإنما ينتصرون عليهم بارتباطهم بربهم، وبعد أعدائهم عن رب العالمين سبحانه وتعالى.
ومن هنا نفهم سبب تسلط جيش التتار أربعين سنة على المسلمين في الأرض، ثم سبب انتصار المسلمين في عين جالوت على هذا الجيش الذي دوخ بلاد المسلمين، وبلاد الأرض جميعاً عشرات الأعوام، وأيضاً نفهم أحداثاً كثيرة جداً تتكرر في التاريخ
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تحرير دمشق من التتار (126)
نرجع لـ قطز رحمه الله، وللجيش الإسلامي العظيم بعد الانتصار الرائع في عين جالوت، فإن مهمة قطز رحمه الله وجيشه لم تنته، فما زال هناك تتار في بلاد الشام في دمشق وفي حمص وفي حلب وفي غيرها من المدن الشامية، وكذلك ما زال هناك تتار في العراق وتركيا وفارس وغيرها من بلاد المسلمين، وليست لحياة قطز رحمه الله راحة أبداً مع كثرة الشهداء والجراح والآلام.
ومع الإرهاق الشديد والمعاناة القاسية التي كان يعاني منها الجيش المناضل البطل، الذي عبر صحارى سيناء بكاملها في شهر يوليو، وحارب في غزة، ثم اجتاز فلسطين بكاملها من جنوبها إلى شمالها حتى وصل إلى عكا، ثم عاد بعد ذلك إلى عين جالوت، والذي خاض المعركة الهائلة مع أقوى جيوش الأرض في زمانه في عين جالوت، ثم في بيسان، إلا أن الخطوة التالية المباشرة لـ قطز رحمه الله بعد انتصار عين جالوت هي الاتجاه مباشرة ودون أدنى راحة إلى دمشق في الشمال، فدمشق هي أول المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، بينها وبين عين جالوت (150) كيلو متر تقريباً،
ولابد من تطهير هذه المدينة العظيمة من دنس التتار، واستغلال فرصة الانكسار الرهيب لجيش التتار لتحرير دمشق وغيرها، قبل أن تأتي أمداد التتار من فارس أو من أوروبا أو من الصين أو من غيرها، فأراد قطز رحمه الله القائد المحنك أن يهيئ الفرصة العظمى لجيشه؛ لينتصر على قواد التتار في دمشق، وقد كان يعلم أن جيش التتار بكامله قد فني في عين جالوت، ولا يوجد أحد ينقل الأخبار إلى دمشق بأن جيش التتار قد فني، فقام هو رحمه الله بهذا الدور، فأرسل رسالة إلى دمشق يخبر فيها أهلها بأن المسلمين قد انتصروا انتصاراً هائلاً في عين جالوت، وأن الجيش التتاري قد دمر بكامله في هذه الموقعة، فوصلت الرسالة لتخلق جواً جديداً تماماً على دمشق، فارتفعت معنويات المسلمين إلى أقصى درجة، وهبطت معنويات التتار إلى أدنى درجة، وقام المسلمون في دمشق -الذين كانوا تحت سيطرة التتار لا يتحركون ولا يقاومون- يدافعون عن أنفسهم بعد أن وصل إليهم الكتاب،
وكان الكتاب قد وصل في (27) أو (28) من رمضان في سنة (658هـ)، فقاموا بثورة كبيرة جداً في دمشق، وانقلبوا على الحامية التتارية وقتلوا منها ما قتلوا، وأسروا منها ما أسروا، وفر الباقون إلى الشمال.
وسبحان الله! فالشعب هو الشعب، والتتار هم التتار! ولكن الوضع تغير بسماع الأخبار المفرحة التي جاءت من عين جالوت، فقد اكتشف الشعب أنه قادر على المقاومة والدفاع والحرب في سبيل الله، لما رأى القدوة التي كانت في عين جالوت، وأما التتار الذين كانوا يسيطرون على الموقف فقد سقطت هيبتهم تماماً، وما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين.
وانتهى الاحتلال في دمشق في لحظات، لدرجة أن قطز رحمه الله لما وصل إلى المدينة في يوم (30) رمضان، يعني: بعد يومين أو ثلاثة من وصول الرسالة، لم يبق في دمشق تتري واحد، فقد انتهت الحامية التترية التي كانت تسيطر تماماً على الوضع قبل انتصار عين جالوت، وكان انتصاراً مهيباً.
دخل قطز رحمه الله دمشق في يوم (30) رمضان كما ذكرنا، وعلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والأطفال يستقبلون البطل المظفر، وكانت بالفعل أشد لحظات الفرح للمسلمين منذ أربعين سنة، وهذه هي الفرحة الحقيقية، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فهي فرحة النصر بدين الله عز وجل، وفرحة الرفعة للإسلام والعزة للمسلمين، وهذه الفرحة لا تقارن أبداً بفرحة الطعام والشراب والمال والجاه والسلطان، وكل أنواع الفرحة في الدنيا، فهي فرحة عزة للإسلام، لا تقارن بغيرها من الأفراح.
دخل الجيش المملوكي دمشق، واستتب الأمن الحقيقي بسرعة عجيبة، ولم يكن الوضع مثل ما يحدث عند دخول المستعمرين البلاد من عموم الفوضى، وترك الحبل على الغارب، وانتهاك الحرمات أمام الأعين، وانتهاب المحلات والديار، فلم يحدث شيء من هذا، وإنما استقر الوضع حقيقة وبسرعة، بل أمن النصارى واليهود على أرواحهم وأموالهم.
قام قطز رحمه الله بعزل ابن الزكي قاضي دمشق الذي عينه التتار، وكان موالياً لهم، وعين مكانه نجم الدين أبو بكر بن السني، وبدأ القاضي الجديد يفصل في القضايا ويحكم في المخالفات التي تمت بين المسلمين والنصارى، وذلك حتى لا يظلم نصراني في بلاد المسلمين، هذا مع كل ما فعله النصارى بالمسلمين وقت احتلال التتار للمدينة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تحرير بلاد الشام من التتار وتوحيدها مع مصر (127)
في اليوم التالي مباشرة لدخول قطز رحمه الله إلى دمشق كان عيد الفطر، وكان أعظم عيد مر على المسلمين منذ أربعين سنة، فلم يكن عيداً للفطر فقط، بل كان أيضاً عيداً للنصر والتمكين، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
ولم يضيع قطز رحمه الله وقتاً، بل أرسل مقدمة الجيش بقيادة الظاهر بيبرس رحمه الله لتتبع الفارين من التتار، وتطهير المدن الشامية الأخرى من الحاميات التتارية، حتى وصلت القوات الإسلامية إلى حمص، واقتحمت على التتار معسكراتهم ففروا مذعورين، وانقلبت الصورة تماماً، وأطلق المسلمون آلاف الأسرى المسلمين، وانطلقوا خلف التتار، فقتلوا أكثرهم وأسروا الباقين، ولم يفلت من التتار إلا الشريد، وهكذا حررت حمص بسرعة، واتجهت القوات الإسلامية إلى حلب، ففر منها التتار كالفئران المذعورة، وانطلق المسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون، وسبحان مغير الأحوال! ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال!
طهر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون أسابيع قليلة جداً، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، ونسأل الله عز وجل لها ولسائر بلاد المسلمين دوام التحرر والعزة.
ثم جاءت بعد ذلك خطوة هامة من أعظم خطوات قطز رحمه الله، فقد أعلن قطز رحمه الله بعد هذا الانتصار المهيب توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، وذلك بعد عشر سنوات كاملة من الفرقة والشتات، منذ وفاة نجم الدين الصالح أيوب رحمه الله في سنة (648هـ)، حيث انفصل في ذلك الوقت الشام عن مصر، حتى عاد الآن قطز رحمه الله ليوحدهما.
والشام يضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، فضم الشام إلى مصر، وأصبحا دولة واحدة، وخطب لـ قطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والشامية، حتى خطب له في أعالي بلاد الشام، وفي المدن التي حول نهر الفرات، وعاش المسلمون أياماً من أسعد أيامهم.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تعيين قطز للأمراء على بلاد الشام (128)
بدأ قطز رحمه الله يوزع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين.
ومن حكمته رحمه الله أنه أرجع بعضاً من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث فتنة في بلاد الشام، ولاشك أن هؤلاء لهم أتباع من المسلمين، وقطز لا يخشى الآن من خيانتهم؛ لأنه تبين لهم جداً أنهم لا طاقة لهم بـ قطز رحمه الله وبجنوده الأبرار،
فأعطى رحمه الله إمارة حمص للأشرف الأيوبي الذي كان موالياً للتتار، ولكنه أظهر الندم والانكسار والتوبة وعاد إلى صف المسلمين، بل وانكسر بين أيديهم في موقعة عين جالوت كما أشار بذلك صارم الدين أيبك في الرسالة التي تحدثنا عنها في الدرس السابق، وأعطى قطز رحمه الله إمارة حلب لـ علا الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الذي كان والده بدر الدين لؤلؤ من أشد الموالين للتتار، ومات منذ شهور قليلة ولكن ابنه علاء الدين أظهر الولاء والانقياد لـ قطز رحمه الله،
وأظهر الحمية للإسلام، فلم يجعل قطز رحمه الله التاريخ الأسود لأبيه حائلاً عن تقليده علاء الدين إمارة حلب، فقد كان يقدر كل رجل بقدره، وأعطى إمارة حماة إلى صاحبها الأسبق الأمير المنصور، الذي قاتل مع القوات الإسلامية المشتركة في عين جالوت، واشترك منذ بداية الإعداد مع قطز رحمه الله، وعين الأمير جمال الدين آقوش الذي قتل كتبغاً كما فصلنا في الدرس السابق على فلسطين وغزة.
وأما دمشق فقد عين عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي، وهكذا استقرت الأوضاع تماماً في بلاد الشام وفلسطين وقويت شوكة الإسلام، واختفى كل تهديد يمس المسلمين من النصارى أو اليهود.
واستمر هذا الإعداد والترتيب قدر حوالي (25) يوماً، وفي يوم (26) من شهر شوال سنة (658هـ) يعني: بعد حوالي شهر كامل من يوم عين جالوت، بدأ السلطان قطز رحمه الله رحلة عودته إلى عاصمته القاهرة في مصر، فكثير من الأوضاع السياسية هناك تحتاج إلى استقرار وإدارة، وأصبحت دولة قطز رحمه الله تمتد من الفرات إلى حدود ليبيا، ولابد من إعادة تنسيق كثير من الأوراق.
ولا ننسى أن قطز رحمه الله لم يمض عليه في الحكم حتى ذلك اليوم إلا أحد عشر شهراً فقط، فقد تولى الحكم في (24) من ذي القعدة سنة (657) من الهجرة، وها هو يعود في أواخر شهر شوال سنة (658) من الهجرة، فما زالت تنتظره آلاف الأعمال في مصر.
وهكذا تم النصر المبين على التتار، واستيقظ المسلمون من الكابوس المزعج الذي آلمهم في كل السنوات الماضية.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
النصر قرين الإيمان (129)
مع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد، إلا أن آثارها كانت من القوة بحيث لا يتخيل أصلاً، فقد كانت من الكثرة بحيث لا تحصى، وكانت آثارها في غاية الأهمية، ولا نستطيع في هذه العجالة أن نمر عليها كلها، ولكن سنمر على طرف بسيط منها.
وعلى الدارسين والمحللين أن يبحثوا في هذه الآثار بمزيد من التفصيل والدراسة، فالموضوع فعلاً في غاية الأهمية، وسنقص هنا بعض هذه الآثار لموقعة عين جالوت الخالدة:
الأثر الأول والأهم: عودة المسلمين إلى الله عز وجل أثناء التحضير والإعداد لهذا اللقاء، وأثناء المعركة وبعدها ولمدة طويلة من الزمان؛ فقد وضحت المعادلة جداً في أذهان الناس، فالمسلمون عندما ابتعدوا عن الله عز وجل تمكن التتار من رقابهم، ولما عادوا إلى الله تحقق النصر الذي اعتبره كثير من المحللين معجزة حقيقية، وفي الحقيقة أن هذا النصر ليس بمستغرب، فإن النتيجة الطبيعية لعودة المسلمين إلى الله عز وجل أن يتم نصرهم على أعدائهم.
وتبين المسلمون أيضاً بعد موقعة عين جالوت أن الحرب دينية في المقام الأول، فقد تحالف كثير من النصارى كما رأينا مع التتار أكثر من مرة، مع أن مصالحهم على المستوى البعيد كان مع المسلمين وليس مع التتار، فالتتار لا عهد لهم، بينما يحترم المسلمون عهودهم جداً؛ لأن هذا الاحترام للعهود أصل من الأصول في دين الإسلام، وواقع المسلمين يشهد بذلك في معظم فترات التاريخ، والمخالفات الإسلامية للعهود قليلة جداً في التاريخ، ومع ذلك آثر النصارى أن يتحالفوا مع التتار ضد المسلمين،
ولذلك استقر في نفوس المسلمين تماماً بعد انتصار عين جالوت، أن الحروب التي دارت بينهم وبين التتار والنصارى لم تكن حروب مصالح فقط، كما يصورها كثير من الغربيين والعلمانيين على أن المحرك الرئيسي للحروب أبداً هو الاقتصاد،
أو يجعلون الأغراض العسكرية أو الإستراتيجية هي الهدف الأساسي، فنحن لم نر هذا في قصتنا هذه، بل رأينا في هذه القصة الواقعية أن الدين هو المحرك الأساسي للنصارى في حرب المسلمين، وكان له كذلك أكبر أثر في تحريك المسلمين أنفسهم لحرب التتار والنصارى في هذه الموقعة الخالدة، والله عز وجل نبهنا إلى ذلك في كتابه مراراً أكثر من مرة، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
فجعل الرضا عندهم مقروناً باتباع الملة، وليس مقروناً ببقاء المصالح.
وكذلك قال ربنا في كتابه الكريم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
فوضح أن القتال سيستمر حتماً إلى أن يترك المسلمون دينهم، وأما قبل ذلك فالحرب لن تتوقف، ولن يكتفي اليهود والنصارى والتتار والمشركون والهندوس في أي وقت من أوقات الدنيا بالسيطرة على الديار والأموال والبترول والناس وغير ذلك أبداً، فسيظل الهدف الأسمى لهؤلاء هو السيطرة على الدين الإسلامي، أو إن شئت فقل: محو الدين الإسلامي.
وما نراه الآن من متابعة لكل الحركات الإسلامية والتوجهات الدينية، ومحاولات تغيير مناهج المسلمين الدراسية، وحرب في وسائل الإعلام المختلفة، كل هذا ما هو إلا صور للتعبير عن شدة الكراهية لبقاء الدين، وليس لبقاء القوة أو الحدود، فالمعركة في أصلها هي معركة وجود أساساً، فهم لا يقبلون بوجود الدين الإسلامي على وجه الأرض، ولذلك فالحرب لن تنتهي أبداً؛ لأن دين الإسلام لن ينتهي أبداً بإذن الله.
وهكذا لا يصلح كما ذكرنا قبل ذلك مراراً أن يكون السلام خياراً إستراتيجياً أبدياً مهما تغيرت الظروف، وأنت إن تنازلت عن كل شيء في مقابل السلام، فهم لن يقبلوا إلا أن تتنازل عن الدين بوضوح.
إذاً: فقه المسلمون بعد موقعة عين جالوت أن الصراع ديني في المقام الأول، ومن ثم إذا أردت أن تنتصر في هذا الصراع الديني فلابد أن تكون مستمسكاً تماماً بهذا الدين.
كان هذا هو الأثر الأول الخالد والهام جداً من موقعة عين جالوت الخالدة، وهو عودة المسلمين إلى الله عز وجل عودة كاملة، ليس في مصر والشام فقط، بل وفي كثير من بقاع العالم الإسلامي آنذاك، ولمدة عشرات السنين بعد ذلك، فالحقيقة وضحت تماماً أمام أعين الناس، فما لم تكن مستمسكاً بالدين فلا تبحث عن النصر.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
القضاء على التتار في بلاد الشام وعودة الهيبة (130)
الأثر الثالث: عودة الهيبة للأمة الإسلامية بعد غياب دام أكثر من ستين سنة، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية في أواخر القرن السادس الهجري في درجة عظيمة جداً من درجات النصر والفخر والسيادة، وذلك بعد انتصاري حطين في المشرق في فلسطين، والأرك في المغرب في الأندلس، حدث بعد ذلك انكسار شديد في حالة الأمة الإسلامية، وضاعت هيبتها،
حتى بدأت الكلاب تنهش في جسدها، والأفاعي تجول بأرضها، ولكن بعد عين جالوت ألقي الجلال والمهابة على الأمة الإسلامية، حتى إن هولاكو الذي كان يستقر في تبريز في فارس، ومعه عدد ضخم جدًا من القوات التترية لم يفكر في إعادة احتلال بلاد الشام مرة أخرى، بل أقصى ما فعله هو إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب، وسفكت دماء بعض أهلها كنوع من إثبات الوجود، والانتقام لقائده الشهير كتبغانوين، لكن هيبة الأمة الإسلامية وقرت في صدره، فلم يشأ أن يلقي بجيشه في مهلكة جديدة، وما فكر مرة ثانية في احتلال الشام، وهيبة الأمة لا تعود إلا بعين جالوت أو أشباهها، وصدق الخليفة الراشد العظيم عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
الأثر الرابع من آثار عين جالوت: فناء قوة التتار العسكرية في منطقة الشام وتركيا وفلسطين كما فصلنا، ولم يسمع عن التتار في هذه المنطقة لمدة عشرات السنين بعد ذلك، فقد اختفى القهر والظلم والبطش والتشريد، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأرضهم وأعراضهم،
ولم يروع الناس أحد في هذه المناطق إلا بعد عين جالوت بأكثر من مائة وأربعين عاماً، حين دخل السفاح التتري الجديد تيمورلنك بلاد الشام، فاجتاح حلب ودمشق سنة (804) هجرية، وهذا الكلام إن شاء الله سنتكلم عليه بالتفصيل عند الحديث عن دولة المماليك في مجموعة خاصة بها من المحاضرات، وعند الحديث أيضاً عن الخلافة العثمانية العظيمة، ولكن ما يهمنا في هذا المجال هو أن موقعة عين جالوت الخالدة أمنت المسلمين (146) سنة كاملة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
إعطاء الشرعية لدولة المماليك (131)
الأثر الخامس لموقعة عين جالوت: إعطاء شهادة الميلاد الحقيقية لدولة المماليك العظيمة، فقد حملت هذه الدولة العظيمة راية الإسلام لمدة (270) سنة، وقد كانت بداية حكم المماليك منذ سنة (648) هجرية عند ولاية شجرة الدر، أي: قبل موقعة عين جالوت بعشر سنوات، ثم زوجها الملك المعز عز الدين أيبك المملوكي،
ولكن عين جالوت هي التي أعطت الشرعية أمام جميع المسلمين لدولة المماليك، فقد حقق المماليك في غضون عشر سنوات انتصارين هائلين على أعداء الإسلام: الانتصار الأول: انتصار المنصورة وفارسكور على جيوش الصليبيين بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا.
الانتصار الثاني: انتصار عين جالوت، ولئن كانت القيادة العامة لجيش المسلمين في موقعة المنصورة ثم في موقعة فارسكور قيادة أيوبية، فإن الجيش كان معتمداً في الأساس على المماليك، أما في عين جالوت فالانتصار كان مملوكياً خالصاً، فكانت القيادة مملوكية والجيش مملوكي، ولذلك شعر الجميع أن هؤلاء المماليك هم أقدر الناس على قيادة الأمة، فسلموا لهم.
وهكذا نشأت الدولة المملوكية، وحملت على عاتقها صد هجمات أعداء الله عز وجل من تتار أو صليبيين، وكانت دولة جهادية في معظم فتراتها.
ومع أن دولة المماليك حاولت أن تضفي شرعية على وجودها بصورة أكبر بعد ذلك حين استضافت أبناء بني العباس في القاهرة ابتداءً من سنة (659) هجرية بعد سنة من عين جالوت مباشرة، وفي عهد الظاهر بيبرس رحمه الله، إلا أن دولة المماليك لم تكن تمثل الخلافة الحقيقية للمسلمين؛ لأنها لم تكن في أقصى اتساعها تسيطر إلا على أجزاء محدودة من العالم الإسلامي، فكانت تسيطر على مصر والشام والحجاز واليمن وأجزاء من العراق وأجزاء من ليبيا، وأما بقية العالم الإسلامي فكان موزعاً بين طوائف شتى، ولم يجد المسلمون معنى الخلافة الحقيقية الجامعة لكل المسلمين، إلا بعد قيام الخلافة العثمانية العظيمة التي أعادت جمع المسلمين بعد سنوات من التفرق.
وعلى العموم فدولة المماليك كانت أقوى دول المسلمين في فترة وجودها، وكانت أكثرها جدية، وأعظمها هيبة، ولذلك كثيراً ما يطلق المؤرخون على العهد الذي عاش فيه المماليك العهد المملوكي، متجاهلين بذلك كثيراً من الممالك والدول الصغيرة التي عاشت إلى جوار دولة المماليك.
إذاً: فدولة المماليك ولدت ميلاداً حقيقياً بعد عين جالوت، وحملت راية الإسلام حوالي (270) سنة، إلى أن جاءت الخلافة العثمانية الكبرى، لتحمل راية المسلمين بقوة بعد دولة المماليك.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
توحد مصر والشام و انتهاء حكم الأيوبيين (132)
الأثر السادس وهو أثر في منتهى الأهمية: عودة الوحدة العظيمة بين مصر والشام، حيث كونت تحالفاً إستراتيجياً صلباً مثّل حاجزَ صدٍ رائع ضد الهجمات الأجنبية، فمصر والشام بما فيها فلسطين يمثلان قلب العالم الإسلامي إستراتيجياً وسياسياً وجغرافياً وثقافياً وتاريخياً،
واتحادهما يمثل عامل أمان كبير جداً لكل المنطقة، كما أنه يقلل كثيراً من أطماع الطامعين في العالم الإسلامي، ومعظم أعداء الإسلام يركزون تفكيرهم على منطقة مصر والشام، وذلك لأسباب دينية واقتصادية وعسكرية وغيرها، ومن هذا يتضح لنا أنه لا نجاة لهذه المنطقة إلا بوحدة شاملة بين كل الشام، بما فيه سوريا وفلسطين والأردن ولبنان وبين مصر؛ ليكوّنا كياناً واحداً،
وهذا هو ما فعلته دولة المماليك الناشئة، وفعله من قبل نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهما الله، وفعلته بعد ذلك الخلافة العثمانية القوية، وصدق الله عز وجل إذ يقول في كتابه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
وقد شاهدنا في كل لحظات التقدم والتفوق في تاريخ المسلمين الوحدة بين المسلمين، وبالذات بين منطقة مصر والشام.الأثر السابع وهو أثر ملحوظ جداً: اختفى معظم الأمراء الأيوبيين، الذين كانوا أقزاماً في ذلك الزمن الذي لا يعيش فيه إلا العمالقة، والذين فرطوا تماماً في حمل الأمانة الثقيلة التي خلفها لهم جدهم العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولم يكن لهم من هم إلا الصراع على السلطة وجمع المال وتوريث الأبناء،
وعاشوا حياتهم في مؤامرات ومكائد، وداسوا على كل الفضائل والمكارم في صراعاتهم، حتى اشتهر بينهم موالاة النصارى تارة، والتتار تارة أخرى، بل واستعانوا بهم في حرب إخوانهم من المسلمين، وأحياناً في حرب إخوانهم الأشقاء، وظلّ هؤلاء الأقزام يُذيقون شعوبهم الألم والظلم والقهر والخيانة، ويقاومون أي مشروع للوحدة تحت راية واحدة؛ لأن كل واحد منهم يريد الحكم لنفسه، وظلوا يقاومون الحكم المملوكي في مصر سنوات طويلة، ويتعاونون مع الصليبيين لإسقاطه، إلى أن حدثت موقعة عين جالوت الخالدة، فكشفت هذه الزعامات الوهمية الفارغة أمام شعوبها وسقطت، وعرف كل زعيم منهم قدره الحقيقي، ورضي بما يناسب حجمه، فإما أن يرضى بإمارة بسيطة تحت حكم قطز العظيم رحمه الله كما رضي بذلك الأشرف الأيوبي كما فصلنا منذ قليل، وإما أن ينخلع من مكانه ويترك المكان للأقوياء العظماء، فقد حفظت عين جالوت الأمة وحمتها من أعدائها التتار، وحمتها كذلك من شر أبنائها، من أمثال هذه الزعامات الفارغة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تحرير بلاد الشام من الإمارات الصليبية (133)
الأثر الثامن: وهو في منتهى الأهمية، ويحتاج إلى تفصيل طويل، وسنتكلم عليه إن شاء الله عند الحديث عن الحروب الصليبية في مجموعة أخرى من المحاضرات، وهذا الأثر هو نتيجة الوحدة بين مصر والشام، واختفاء الأمراء الأيوبيين الأقزام من على الساحة، وظهور الدولة المملوكية القوية، والطبيعة الجهادية لدولة المماليك، والنشأة الإسلامية والحمية الدينية والفقه العالي الرفيع لهذه الدولة،
حدث أمر هائل عظيم، فقد أخذ المماليك على عاتقهم بعد عين جالوت: مهمة تحرير بلاد الشام وفلسطين من الإمارات الصليبية التي ظلت تحكم هذه المناطق منذ سنة (491) من الهجرة، أي: مدة (166) سنة، وهذه الإمارات الصليبية كانت قد عاشت وتمركزت في هذه المناطق في الشام وفلسطين ولبنان وسوريا وتركيا، ولكن بعد عين جالوت بدأ المسلمون يتفرغون لهذه الإمارات الصليبية، ومع أن عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله قد بذلوا جميعاً جهوداً مضنية لتحرير هذه المناطق إلا أنه بقي كثير منها لم يحرر، كما فرط أبناؤهم في بعض الولايات المحررة، فتنازلوا عنها من جديد للصليبيين.
ولذلك فبعد عين جالوت وبعد استقرار المماليك في الحكم بدءوا يوجهون جيوشهم الواحد تلو الآخر لتحرير هذه البلاد الإسلامية العظيمة في كل هذه المناطق.
فبدأ الظاهر بيبرس رحمه الله الذي تولى الإمارة بعد قطز رحمه الله منذ سنة (659) من الهجرة يعني: بعد عين جالوت بشهور قليلة في إرسال الحملات الواحدة تلو الأخرى لتحرير هذه الإمارات الصليبية، وبعد جهاد مضن بدأت الإمارات الصليبية في التساقط في أيدي المسلمين في سنة (664) هـ، -يعني: بعد عين جالوت بخمس سنوات، وحرر المسلمون عدة مدن فلسطينية، فقد حرروا قيسارية وحيفا وحصن أرسوف، وفي سنة سنة (665) حررت صفد في الشمال الشرقي لفلسطين، وبينما كان الظاهر بيبرس رحمه الله يحرر هذه البلاد في فلسطين كان سيف الدين قلاوون رحمه الله أحد أعظم قواده يحرر قليقية في تركيا، وهي مدينة من أعظم المدن في تركيا، وهي إمارة صليبية قديمة، وانتصر هناك على قوات الأرمن النصرانية بقيادة الملك هيثوم، الذي تحالف مع هولاكو في إسقاط بغداد ثم إسقاط الشام، وجمع سيف الدين قلاوون غنائم لا تحصى، وأسر من الصليبيين ونصارى الأرمن أربعين ألفاً.
وفي سنة (665) هجرية، وسنة (666) هجرية حرر الظاهر بيبرس يافا، وفي سنة (667هـ) حررت أنطاكيا وهزم الأمير بوهمند الذي أيضاً كان متحالفاً مع التتار في إسقاط الشام وفي حرب المسلمين هناك، وكانت أنطاكيا أول مملكة صليبية في بلاد المسلمين، فقد احتلت سنة (491) هجرية، وكانت أغنى الإمارات، حتى إن غنائمها من الذهب والفضة كانت توزع على الفاتحين بالمكيال وليس بالعدد من كثرتها، ولم يبق عند وفاة الظاهر بيبرس رحمه الله من المدن الإسلامية المحتلة إلا القليل، مثل عكا، وكانت أقوى المدن المحتلة، وبعض المدن في سوريا ولبنان مثل: صور وصيدا وبيروت وطرطوس واللاذقية في سوريا.
وفي سنة (684) من الهجرة حررت طرابلس، يعني: بعد عين جالوت بست وعشرين سنة على يد السلطان المملوكي المنصور قلاوون.
ثم خلفه بعد ذلك ابنه السلطان العظيم جداً الأشرف خليل بن قلاوون رحمه الله، وهو من أعظم سلاطين المسلمين، وقد أخذ على عاتقه تحرير كل الممالك الصليبية المتبقية، فحررت عكا الحصينة سنة (690) هجرية، يعني: بعد حوالي قرنين كاملين من الاحتلال الصليبي، وبعد فشل كل أمراء المسلمين السابقين على مدى هذين القرنين بتحريرها، وبفتح عكا سقطت أعظم معاقل الصليبيين في الشام، وبعدها بقليل حررت صيدا وصور وبيروت وجبيل وطرطوس واللاذقية، وبذلك انتهى الوجود الصليبي تماماً من الشام بعد اثنين وثلاثين سنة من موقعة عين جالوت، مما يجعل كل هذا التحرير أثراً مباشراً من آثار عين جالوت، فما أعظم تلك الموقعة التي أعزت الإسلام بهذه الصورة العجيبة، وفي غضون سنوات قليلة! وهناك تفاصيل في غاية الأهمية والروعة في تحرير كل هذه المدن والإمارات، وسنأتي لها إن شاء الله عند الحديث عن الحروب الصليبية في مجموعة خاصة بها بإذن الله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
إسلام الكثير من التتار (134)
الأثر التاسع: ارتفاع قيمة مدينة القاهرة العاصمة المصرية بعد انتصار عين جالوت وبعد قيام دولة المماليك، فقد كانت دولة المماليك أعظم دولة في المنطقة في ذلك الزمن، وقد رفع هذا جداً من قيمة مدينة القاهرة، وبالذات بعد التدمير الذي لحق ببغداد سنة (656) من الهجرة، وبعد سقوط قرطبة سنة (636) من الهجرة، فلم يبق من عواصم العلم والقوة والبأس في بلاد المسلمين إلا مدينة القاهرة، إنها أصبحت أعظم هذه المدن، فقد أصبحت قبلة العلماء والأدباء، ونشطت الحركة العلمية جداً فيها، وعظم جداً دور الأزهر، وأصبح ولا يزال بفضل الله من أعظم جامعات العالم الإسلامي، وحمل لواء الدفاع عن الدين، ونشر الدعوة، وحمل لواء الجهر بالحق عند السلاطين والمطالبة بالحقوق، وتزعم الحركات الجهادية القوية ليس في زمان دولة المماليك فقط، بل حتى في الأزمان التي تلتهم كذلك وإلى زماننا، وبذلك توارثت الأجيال في هذه المدينة العريقة القاهرة الدعوة إلى الله عز وجل، وتوارثت الصحوة الإسلامية، وحمل هم المسلمين ليس في مصر وحدها، بل في العالم أجمع.
الأثر العاشر والأخير: وهو من أعجب الآثار وأعظمها: عندما رأى كثير من التتار دين الإسلام عن قرب، وقرءوا عن أصوله وقواعده وتشريعاته، وعلموا آدابه وفضائله، ورأوا أخلاقه ومبادئه، أعجبوا به إعجاباً شديداً، فقد كانوا كعامة البشر يعانون من فراغ ديني هائل، ولم يكن عندهم الياسق، وكان مؤلفاً من مختلف الأديان مع بعض الاختراعات التي عملها جنكيز خان، فكانوا يعانون من فراغ ديني هائل، وليس هناك تشريع يقترب أو يحاول الاقتراب من دين الإسلام، ومن اهتم به وبحث فيه فلابد أن يرتبط به إن كان صادقاً في بحثه، وباحثاً عن الحقيقة فعلاً.
فبدأ بعض التتار يؤمنون بدين الإسلام، ثم شاء الله عز وجل أن يدخل الإيمان في قلب أحد زعماء القبيلة الذهبية التي هي أحد الفروع الكبيرة جداً في قبائل التتار، وهذا الزعيم هو ابن عم هولاكو مباشرة وأخو باتو قائد التتار المشهور الذي تكلمنا عليه أيام فتح أوروبا، وتلقب هذا الزعيم بعد إسلامه باسم بركة، وتولى زعامة القبيلة الذهبية سنة (652) من الهجرة،
يعني: قبل عين جالوت بست سنوات، وكانت المنطقة التي يحكمها تعتبر شبه مستقلة عن دولة التتار، وهي المنطقة الواقعة شمال بحر قزوين، في جنوب الاتحاد السوفييتي، وبدخول هذا الرجل في الإسلام دخلت أعداد كبيرة من قبيلته في الإسلام، وهذا أمر في منتهى الغرابة؛ لأن هذا كان قبل عين جالوت بست سنوات، فمن الغريب جداً أن التتار الأقوياء يدخلون في دين الضعفاء، فالتتار في ذلك الوقت كانوا يتحكمون في رقاب المسلمين، والمسلمون يهزمون في كل مواقعهم، وهي من المرات القليلة جداً في التاريخ أن يدخل الغازي في دين من يغزوه، والقوي في دين الضعيف، ولكن هذا دين الإسلام، الذي يخاطب الفطرة البشرية، وهذا يعزز المسئولية على أكتاف الدعاة أن يصلوا بهذا الدين إلى غيرهم من أهل الأرض جميعاً، فإن من وصل إليه الدين صحيحاً نقياً فإنه يرجى إسلامه بإذن الله مهما كان معادياً للإسلام في بدء حياته.
ثم بعد موقعة عين جالوت تزايد جداً عدد المسلمين في القبيلة الذهبية، حتى أصبح كل أهلها من المسلمين، فقد أثرت فيهم القوة والانتصار، وتحالفوا مع الظاهر بيبرس ضد هولاكو، ولهم مع هولاكو حروب متكررة طويلة جداً.
والجدير بالذكر في هذا المقام أن نذكر أن هناك بقايا من هذه القبيلة الذهبية ما زالت موجودة إلى الآن، وهي: عبارة عن بعض الإمارات الإسلامية مثل: إمارة قازان، وإمارة القرم، وإمارة استراخان، وإمارة النوغاي، وإمارة خوارزم، وكل هذه الإمارات ما زالت إلى الآن محتلة من روسيا، ولم تحرر حتى بعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي وسقط، ولا يعلم بها أحد.
ونسأل الله عز وجل لها ولسائر بلاد المسلمين التحرر الكامل والسيادة المطلقة على أراضيها.
ولاشك أن هناك آثاراً أخرى كثيرة لهذه الموقعة الخالدة، والأمر بين يدي الباحثين والدارسين لدراستها، فموقعة عين جالوت من أعظم المواقع في تاريخ الأرض.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أسباب النصر في عين جالوت (135)
لا يفوتنا في هذا المقام أن نقف ونتدبر في أسباب هذا النصر العظيم في عين جالوت، وهي وقفة في غاية الأهمية.
تكلمنا بالتفصيل في محاضرة سابقة على خطوات قطز رحمه الله في إعداد الأمة، وفي إعداد الجيش المنتصر، ونعيد في إيجاز شديد بعض الأسباب التي أخذ بها قطز ونجملها في هذا الحديث الآتي:
السبب الأول وهو أعظم الأسباب: الإيمان بالله عز وجل، والاعتقاد الجازم بأن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل؛ ولذلك اهتم قطز رحمه الله بالناحية الإيمانية عند الجيش والأمة، وعظم جداً دور العلماء، وحفز على حرب التتار من منطلق إسلامي، وليس من منطلق قومي أو عنصري، ولخص ذلك في عين جالوت بكلمته الموفقة: واإسلاماه! ولم يقل: وامصراه! أو واملكاه! أو واعروبتاه! فقد كانت الغاية واضحة جداً عند قطز رحمه الله، وكانت هويته إسلامية تماماً، فوضوح الرؤية ونقاء الهوية كان سبباً مباشراً من أسباب النصر، بل هو أعظمها على الإطلاق.
وقد ظهر لنا بوضوح رسوخ هذا الأمر في نفس قطز رحمه الله عندما لجأ إلى الله عز وجل عند الأزمة الخطيرة في عين جالوت، حيث وقف متضرعاً يناجي ربه ويقول: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار.
فالدعاء هو العبادة، وهو اعتراف من العبد بعبوديته لله عز وجل، وإعلان صريح من العبد أنه محتاج لرب العالمين.
وكان قطز رحمه الله يدرك في كل خطوة من خطوات إعداده أنه لن يفلح إلا إذا أراد الله عز وجل ذلك، ولابد أن يطلب من الله عز وجل باستمرار وبإلحاح وبخشوع وبتضرع أن ينصر الإسلام والمسلمين، فلم ينسب قطز رحمه الله النصر لنفسه ولو مرة واحدة، بل كان دائماً ينسبه إلى الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه قد طلب النصر من الله عز وجل كثيراً، وأن الله عز وجل قد تفضل وتكرم عليه وعلى المؤمنين بالنصر والتوفيق، فلله تعالى المنة والفضل.
السبب الثاني وهو أيضاً هام جداً: الوحدة بين المسلمين، فالأمة المتفرقة لا تنصر، وقد حرص قطز رحمه الله منذ اليوم الأول لارتقائه عرش مصر أن يوحد المسلمين قدر ما يستطيع، فقد عفا عن المماليك البحرية وجمعهم مع المماليك المعزية، وراسل ملوك الشام الأيوبيين، وتقرب منهم، وضمهم إلى قواته، مع كونهم قد حاربوه قبل ذلك سنين طويلة، وضم الجنود الشامية والخوارزمية والمتطوعين إلى جيشه بغض النظر عن أصولهم وأعراقهم، ونجح في تحقيق ما كان يعتقد الكثيرون أنه من المستحيل، وهو الوحدة بين المسلمين.
السبب الثالث: إذكاء روح الجهاد في الأمة، فقد تيقن قطز رحمه الله أن أهم السبل لاستعادة حقوق المسلمين هو الجهاد، وأنه وإن كان الإسلام دين السلام إلا أنه دين الجهاد والقوة والكرامة والعزة كذلك، وأدرك رحمه الله أن اختيار الحرب أحياناً يكون هو الاختيار الشريف الوحيد.
السبب الرابع: الإعداد الجيد للمعركة، فقد أخذ قطز رحمه الله بكل الأسباب المادية لتقوية جيشه، من إعداد للسلاح، وتدريب للجنود، وترتيب للصفوف، ووضع الخطة المناسبة، واختيار المكان المناسب، وعقد الأحلاف الدبلوماسية المناسبة، وتهيئة الجو على أفضل ما يكون، ويكفي أن نذكر هنا بالصورة الجميلة البهية الرائعة التي كانت عليها جيوش المماليك في عين جالوت، وكأنها تتجه إلى عرض عسكري، وليس إلى معركة ضارية، ومن لم يعد العدة فلا شك أنه واهم، وليس هذا مخالفاً لشرع الله عز وجل، ولا مضاداً بأي صورة من الصور للتوكل على الله عز وجل؛ فالتوكل: هو الأخذ بالأسباب كاملة، واللجوء إلى الله عز وجل لجوءاً كاملاً كذلك.
السبب الخامس: القدوة التي ضربها قطز رحمه الله لجنوده ولأمته في كل الأعمال، وتربية القدوة أفضل بآلاف المرات من تربية الخطب والمقالات. وقد كان قطز رحمه الله قدوة في كل شيء، فقد كان قدوة في أخلاقه وفي نظافة يده وفي جهاده وفي إيمانه وفي عفوه، وفي كل شيء.
فلم يشعر الجنود أبداً بأنهم غرباء عن قطز، فقد نزل رحمه الله بنفسه إلى خندق الجنود وقاتل معهم، فكان حتماً أن يقاتلوا معه.
السبب السادس: عدم موالاة أعداء الأمة، فلم يوال قطز رحمه الله التتار أبداً مع فارق القوة والإعداد بينهما، كما لم يوال أمراء النصارى في الشام أبداً مع احتياجه لذلك، وقد سقط الكثير من الزعماء قبله في مستنقع الموالاة للكفار، وكان منطلقهم في ذلك أن يجنبوا أنفسهم أساساً ثم شعوبهم كما يدَّعون ويلات الحروب، فارتكبوا خطأً شرعياً شنيعاً، بل أخطاءً مركبة، فتجنب الجهاد مع الحاجة إليه خطأ، وتربية الشعب على الخنوع لأعدائه هذا خطأ آخر، وموالاة العدو واعتباره صديقاً خطأ ثالث.
وأما قطز رحمه الله فقد كان واضح الرؤية، وقد تحقق له هذا الوضوح في الرؤية بفضل تمسكه بشرع الله عز وجل، فلم يوال كافراً أبداً على حساب المسلمين.
السبب السابع: بث روح الأمل في الجيش والأمة.
فالأمة المحبطة من المستحيل أن تنتصر، فالإحباط والقنوط واليأس ليست أبداً من صفات المؤمنين، {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فعمل قطز رحمه الله على رفع الروح المعنوية للجيش وللأمة، ووضح لهم أن نصر الله عز وجل للأمة التي سارت في طريقه عز وجل ليس أمراً محتملاً، بل هو أمر مؤكد يقيني، وهو أمر عقائدي كتبه الله، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
السبب الثامن من أسباب النصر في عين جالوت: الشورى الحقيقية التي سار على هداها قطز رحمه الله في كل خطواته تقريباً، وأقصد بالشورى الحقيقية الشورى التي تسعى حقيقة للوصول إلى أفضل الآراء، لا التي تسعى إلى تثبيت وتدعيم وتأكيد رأي الزعيم، والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، وليست أمراً تجميلياً أو تكميلياً، ولا يصلح لأمة تريد النهوض أن تهمل هذا الأمر الأصولي في الإسلام.
السبب التاسع: توسيد الأمر إلى أهله، فقد ولى قطز رحمه الله أولئك الذين يتصفون بصفتين رئيسيتين وهما: الكفاءة، والأمانة، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، أي: القوي في مجال عمله، المتفوق على أقرانه، السابق لهم المتقن لعمله المبدع فيه، والأمين الذي لا يضيع حق الله ولا حق العباد، ولا حق الأمة، ولا حق نفسه، فقد ولى قطز رحمه الله فارس الدين أقطاي الصغير رئاسة الجيش مع كونه من المماليك البحرية، وولى ركن الدين بيبرس على مقدمة جيش المسلمين في عين جالوت، مع كونه منافساً له، وصاحب تاريخ وقوة، وزعيماً للمماليك البحرية، وكذلك ولى رحمه الله أمراء الشام على بلادهم، ولم يول أصحابه وأقاربه، ومن كان على هذه الصورة فلابد أن ينصر، فمن حفظ الأمانة فلابد أن يحفظه رب العالمين سبحانه وتعالى.
السبب العاشر وهو من أهم أسباب النصر: الزهد في الدنيا، وما فشل الزعماء الوهميون سواءً في زمان قطز، أو في زماننا، أو إلى يوم القيامة إلا بغرقهم في الدنيا وانغماسهم فيها، وما ظلموا شعوبهم، ووالوا أعداءهم إلا جرياً وراء المادة وسعياً وراء الدنيا.
وقد رأينا في هذه السلسلة الذين تعلقوا بالدنيا كيف كانت حياتهم وطموحاتهم وأحلامهم، ثم كيف باعوا أنفسهم وشعوبهم وأخلاقهم، بل وعقيدتهم من أجل أغراض رخيصة جداً من أغراض الدنيا، ورأينا كيف عاشوا في ذلة ثم ماتوا في ذلة كذلك، فقد رأينا محمد بن خوارزم، وجلال الدين بن خوارزم، والمستعصم بالله، وبدر الدين لؤلؤ، والناصر يوسف الأيوبي وغيرهم وغيرهم، كل هؤلاء عاشوا في ذلة وماتوا في ذلة.
وأما قطز رحمه الله فقد فطن إلى هذا المرض الذي ابتلي به هؤلاء الضعفاء فزهد فيه وتجنبه، وعلم أن متاع الدنيا مهما زاد فهو قليل، وأن نعيمها مهما كان له بريق فهو زائل ومنقطع، فلذلك لم يفتن بالدنيا لحظة، ولم يطمع فيها قيد أنملة، بل حرص على أن يبيع دنياه كلها، ويشتري الجنة، فترك المال الغزير الذي كان تحت يده، ولم يطمع فيه، وباع ما يملك ليجهز جيوش المسلمين المتجهة لحرب التتار، ولم يطمع في كرسي الحكم, فعرض القيادة على الناصر يوسف الأيوبي على ضحالة قدره إذا قبل بالوحدة بين مصر والشام، ولم يطمع رحمه الله في استقرار عائلي أو اجتماعي أو أمن وأمان، بل كرس حياته للجهاد والقتال على صعوبته وخطورته، بل لم يطمع في طول حياة، فقد خرج بنفسه وهو الشاب الصغير على رأس الجيوش ليحارب التتار في حرب مهلكة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون أول المطلوبين للقتل، لكنه كان مشتاقاً بصدق إلى الجهاد، ومتمنياً للموت في سبيل الله، فقد كان زاهداً حقاً في الدنيا، ولم يتردد لحظة، وكانت حياته تطبيقاً عملياً جداً لكل كلماته؛ لذلك أعطاه الله عز وجل الدنيا التي فر منها، وأعطاه الكرسي الذي زهد فيه، وأعطاه الغنائم الهائلة والمال الوفير الذي لم يحرص عليه أبداً، فعاش رحمه الله عزيزاً شريفاً، رافعاً رأسه، معزاً لدينه، محبوباً من شعبه، مرهوباً من أعدائه.
فرحم الله هذا العلم الجليل والقائد الفذ قطز الذي تعلمنا منه وما زلنا نتعلم كيف يعيش المسلم بالقرآن، وكيف تخالط كلمات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كل ذرة في كيانه.
ونسأل الله عز وجل أن يصلح آخرته كما أصلح دنياه، وأن يعزه أمام الخلائق يوم العرض الأكبر، كما أعزه في عين جالوت، وأن يكتب اسمه في سجل الصادقين المخلصين المجاهدين، كما كتب اسمه قبل ذلك في سجل الخالدين.
هذه هي أسباب النصر في هذه الموقعة الجليلة.
نسأل الله عز وجل أن ييسر لنا تحقيقها حتى نرى رجلاً أو رجالاً كـ قطز، وحتى ننعم بنصر أو انتصارات كعين جالوت، وما ذلك على الله بعزيز.
كما نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
التشابه بين التتار والأمريكان في غزو بغداد (136)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع المقالات الأخيرة من مقالات قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.
في المقال السابقة تحدثنا عن قصة التتار من بدايتها إلى عين جالوت، وذكرنا فيها تفصيلات وأغفلنا أخرى، وما أغفلناه من هذه التفصيلات لم يكن إلا لضيق الوقت فقط مخافة التطويل، وإلا فالقصة تحتاج أضعاف ذلك الوقت كي تحلل بعناية وتدرس بدقة، ولكن بعد هذه القصة لا بد لنا من وقفة.
نحن لم نقص هذه القصة لمجرد ذكر ما سبق من تاريخ وأحداث على الأرض، أو لمجرد التنظير والتحليل دون عمل أو وقفة، بل للعبرة والتفكر والاستفادة، ولقراءة المستقبل، وما أشبه اليوم بالبارحة! ما أشبه سقوط بغداد تحت أقدام الأمريكان بسقوطها تحت أقدام التتار! وما أشبه المسلمين أيام التتار بمسلمي اليوم! وما أشبه حكام المسلمين أيام التتار بحكام المسلمين اليوم! وما أشبه التتار بالأمريكان! وما أشبه حلفاء التتار بحلفاء الأمريكان! فهي صورة متكررة في التاريخ بشكل عجيب، والأمثلة على هذه الصورة كثيرة جداً في التاريخ، ونحن سنحاول ربط هذه القصة بواقعنا، وإذا أردنا أن نتحدث عن صور أخرى من جوانب التاريخ الإسلامي بصفة خاصة، أو جوانب التاريخ الإنساني بصفة عامة فسنجد كثيراً من الصور تتشابه مع واقعنا الآن، وانظروا إلى هذه المقارنة بين سقوط بغداد الأول وسقوطها الثاني.
ظهر التتار فجأة على مسرح الأحداث تماماً كما ظهر الأمريكان، فأمة التتار أمة بلا تاريخ، قامت على السلب والنهب، وقتلوا الملايين من الأبرياء؛ ليقيموا دولتهم على جماجم البشر، ولتسقى حضارتهم إن كانت هذه حضارة بدماء الملايين المظلومين، وكذلك فعل الأمريكان، فقد قتلوا مئات الألوف بل الملايين من الهنود الحمر؛ لكي يقيموا لهم دولة، ونهبوا ثروات غيرهم، وأقاموا ما يسمونه أيضاً بحضارتهم على أشلاء وجماجم سكان البلاد الأصليين، ومرت الأيام وصار الأمريكان قطباً أوحداً في الأرض تماماً كما صار التتار، ولم يقبلوا بالآخر أبداً، ورسخوا الظلم والبطش والقهر في الأرض مع ادعائهم المستمر أنهم ما جاءوا إلا لنشر العدل والحرية والأمان للشعوب، وهكذا فعل التتار.
وما أشبه طاولة مفاوضات التتار بطاولة مفاوضات الأمريكان، فهم يعطون عهوداً ولا ضمير، ومواثيق ولا أمان، وكلمات جوفاء تطلق في الهواء لتسكين الشعوب وخداعهم إلى حين، وعزمهم مبيت قبل التعهد على نقض العهود، والنية معقودة قبل اللقاء على الطعن في الظهر، وقد دخل الأمريكان بلاد المسلمين بحجج واهية كما دخلها التتار بحجج واهية، ولم يحتاجوا أبداً إلى دليل دامغ أو إلى حجة ساطعة، بل كلها أوهام في أوهام، وادعاءات في ادعاءات، فهم تارة يدعون محاربة الإرهاب، وتارة ترسيخ الديمقراطية، وتارة تحرير الشعوب، وتارة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، وتارة البحث عن زعيم هنا أو هناك، وهكذا، فهم يريدون أي سبب ليدخلوا من ورائه؛ لأنهم حتماً سيدخلون.
وحارب الأمريكان في بلاد المسلمين حروباً كحروب التتار، وكانت حروبهم بلا قلب، لا تفرق بين مدني ومحارب أبداً، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين طفل أو شاب أو شيخ كبير، واستولى الأمريكان على ثروات المسلمين تماماً كما فعل التتار، وإلا فما الفارق بين البترول، وبين الذهب والفضة، وما الفارق بين تغيير المناهج وتبديلها وتزييفها، وبين إغراق مكتبة بغداد وطمس كل ما هو إسلامي، فكلاهما يتميزان بروح همجية لا تقبل الحضارة، وكأن الله عز وجل أراد أن يطابق بين أفعال الأمريكان وأفعال التتار، فجعل خطوات الأمريكان في إسقاط بغداد شديدة الشبه بخطوات التتار، فكما تمركز التتار أولاً في أفغانستان كذلك تمركز الأمريكان في أفغانستان، وكما تحالف بدر الدين لؤلؤ زعيم الأكراد في شمال العراق مع التتار، كذلك تحالف أكراد الشمال العراقي مع الأمريكان.
وكما فتح كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع المجال الأرضي التركي لقوات التتار، فتح الأتراك الآن المجال الجوي التركي، وليس هناك فرق بين المجال الأرضي والمجال الجوي.
وكما اخترقت الجيوش التترية أراضي المسلمين دون مقاومة لتصل إلى العراق، كذلك اخترقت جيوش الأمريكان أراضي المسلمين الآن، وليس فقط بدون مقاومة، ولكن بترحيب عال وباستقبال حار، فما أشبه اليوم بالبارحة.
وكما فكر التتار في التعاون مع الشيعة في العراق فكر الأمريكان في ذلك، وكما استغل التتار بعض المنافقين من المسلمين لبث الحرب الإعلامية التي تحط من نفسيات المسلمين وتلقي الرعب في قلوبهم، قام الأمريكان بنفس الشيء، حتى رأينا الصحف القومية في البلاد الإسلامية تتحدث عن تدريبات وتسليحات وإمكانيات الأمريكان، وتوسع الفجوة، يتشابه أعداء الأمة في خططهم وبرامجهم وأساليبهم في غزوهم للأمة الإسلامية، ويساعدهم على ذلك ضعف الأمة، بالإضافة إلى الأمراض التي تنتشر فيها، فلا بد من معالجة أمراضها معالجة جادة، والتمسك بأسباب النصر وتحقيقها، ليتحقق النصر الموعود.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
الأسباب والأمراض التي تؤدي إلى هزيمة المسلمين (137)
كل هذا الشبه بين التتار والأمريكان لا يخيفني ولا يرهبني، فملة الكفر واحدة، وحال الكفار يتشابه في كل الأزمان، وإنما ما يخيفني حقاً ويرهبني هو تشابه واقع المسلمين اليوم مع واقعهم أيام التتار، ونحن كما ذكرنا في درس سابق لا نهزم أبداً لقوة الكفار، سواء كانوا من التتار أو من الفرس أو من الروم أو الروس أو الأمريكان أو غيرهم، وإنما نهزم لضعفنا في المقام الأول.
افتقر المسلمون أيام التتار لكل مقومات النصر قبل عين جالوت وقبل أيام قطز رحمه الله، فكان لا بد من الهزيمة والذل والهوان، وكذلك افتقر المسلمون في زماننا إلى نفس مقومات النصر، فكانت النتيجة هي العربدة الأمريكية والروسية والهندوسية واليهودية والصربية في أراضي المسلمين.
إن الأمراض الأخلاقية تفشت في الأمة الإسلامية أيام التتار، فكانت سبباً في انهيارهم الرهيب أمام التتار، وهي نفس الأمراض الأخلاقية التي تفشت في أمتنا اليوم.
لذلك لا بد أن يقف المسلمون وقفة صادقة مع أنفسهم، يفتشون فيها عن أدوائهم الخطيرة، ويسألون أنفسهم: لماذا يفعل بهم أهل الأرض ما يشاءون مع أن المسلمين يزيدون على المليار؟ فهذا سؤال لا بد من الإجابة عليه بصدق، ولماذا لا يأبه بنا أهل الشرق والغرب؟ ولماذا نزع الله عز وجل المهابة منا من قلوب أعدائنا، وألقى في قلوبنا الوهن والضعف والخور؟ وهذا يحتاج منا أن نراجع التاريخ والواقع.
تكلمنا في المحاضرات السابقة بصفة عامة عن أسباب النصر أيام قطز رحمه الله، وهي نفس أسباب النصر في كل معارك المسلمين، بدءاً من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ومروراً بكل الانتصارات الإسلامية وإلى زماننا الآن، بل وإلى يوم القيامة؛ لأن أسباب النصر من السنن الإلهية التي لا تتغير ولا تتبدل، يقول تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
والذي يطلع على أسباب النصر سيدرك بوضوح أن الأمة الإسلامية في زمان انكسارها وضعفها قد تخلت كثيراً عن هذه الأسباب، وابتليت بالعديد من الأمراض الخطيرة، والتي هي ببساطة شديدة عكس أسباب النصر التي ذكرناها في الدرس الثامن من هذه الدروس.
وسنحاول هنا استعراض الأمراض والأسباب التي تعاني منها أمتنا الآن، ثم كيف نتخلص من هذه الأمراض.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت (138)
الأمراض التي تعاني منها أمتنا الآن (1)
عدم وضوح الهوية الإسلامية
المرض الأول: عدم وضوح الهوية الإسلامية، والقاعدة الإسلامية الأصيلة التي وضحت لنا بعد عين جالوت هي: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، ونصر الله عز وجل يكون بتطبيق شرعه والالتفاف حول راية إسلامية واحدة، ولا بد أن تكون الراية إسلامية بوضوح، فلا عنصرية ولا قبلية ولا قومية.
وأما البعد عن منهج الله عز وجل، وقبول الحلول الشرقية والغربية، والإعراض عن كتاب الله عز وجل وعن سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فهذا أصل البلاء وموطن الداء، ولم يتغير المسلمون إلا عندما ظهر من ينادي بالنداء الجميل العميق: وإسلاماه، كما وضحنا قبل ذلك في أسباب النصر في عين جالوت، ومهما حاول أي قائد أن يحفز شعبه بغير الإسلام فلن يفلح هو أو أمته أبداً، فقد أبى الله عز وجل أن ينصرنا إلا إذا ارتبطنا به في الظاهر والباطن، إذا كان ظاهرنا وباطننا إسلامياً، وسياستنا مسلمة، واقتصادنا وإعلامنا وقضاؤنا وجيشنا إسلامياً، بوضوح دون تستر ولا معارضة ولا خوف ولا وجل، فليس هناك ما نستحي منه، بل الذي يتبرأ من الدين هو الذي يجب أن يستحي.
الفرقة بين المسلمين
المرض الثاني: الفرقة بين المسلمين، وهي عكس الوحدة بين المسلمين، وكما كانت تتصارع الأقليات الإسلامية أيام التتار وجلال الدين يعيش فساداً في بلاد المسلمين، بينما جيوش التتار تقبع على بعد خطوات قليلة جداً منه، كذلك نرى الآن الخلاف والشقاق يدب بين كل بلاد المسلمين تقريباً، وقلما تجد قطرين إسلاميين متجاورين إلا ووجدت بينهما صراعاً على حدود، أو اختلافاً على قضية، فقد انشغل المسلمون تماماً بأنفسهم، وتركوا الجيوش المحتلة تعربد في ربوع العالم الإسلامي، وجعلوا همهم التراشق بالألفاظ والخطب، وأحياناً بالحجارة والسلاح مع إخوانهم المسلمين، ولا شك أن التنازع بين المسلمين قرين الفشل، كما ذكر ربنا ذلك في كتابه بوضوح فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، فهذا مرض من الأمراض الخطيرة التي نراها بأعيننا، وهي تفسر لنا تمكن الأمريكان وغيرهم من بلاد المسلمين.
الترف والركون إلى الدنيا
المرض الثالث: الترف والركون إلى الدنيا، فقد كبرت الدنيا جداً في عيون المسلمين أيام التتار، وكذلك في أيامنا، فهناك أجيال كاملة من المسلمين اليوم لا تعيش إلا لدنياها، وإن كانت حقيرة وذليلة، فاليوم كل فرد يعيش لنفسه، ويجمع المال ويتجمل ويحسن معيشته، ويتنعم بأنواع الطعام والشراب والمراكب والمساكن، ويستمتع بأنواع الغناء المختلفة وأساليب الموسيقى المتجددة، وهكذا غرق المسلمون في دنياهم، وتجد الكثير من الشباب يحفظ من الأغاني الماجنة أكثر مما يحفظ من القرآن، وكثير منهم يعرف بالتفصيل تاريخ حياة الفنانين والفنانات الأحياء منهم والأموات، ويعرف سيرة كل لاعب في بلادنا أو في غيرها، ولا يعلم شيئاً عن تاريخ وسيرة أبطال وعلماء وقواد المسلمين، بل لا يعلم شيئاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد لا يعلم شيئاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهذا مرض يحتاج إلى علاج.
فالترف من أسباب الهلكة الواضحة، يقول الله عز وجل في كتابه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، وقد وصل الترف اليوم في بلاد المسلمين إلى عموم المسلمين، حتى وصل إلى فقرائهم، فتجد الرجل قد لا يجد قوت يومه وهو لا يستغني عن السيجارة، ويكاد لا يجد ما يستر به نفسه وأولاده، ثم يجلس الساعات على المقاهي وما إلى ذلك، وقد لا يستطيع أن يعلم أولاده، ولكنه يحرص كل الحرص على اقتناء فيديو أو طبق فضاء، وأما الترف الفكري فهو كثير جداً، فتجد أذهان الكثير ممن يعتبرون أنفسهم من المثقفين مملوءة بأشياء لا تسمن ولا تغني من جوع أبداً، إما أفكار فلسفية، أو مدارس علمانية، أو نظريات مادية، أو أقوال وحكم لأناس لا يزنون شيئاً أبداً في ميزان الحق، وهذا لا يصح لأمة تعاني الأزمات، وأكثر من بقعة من بقاعها محتلة، وهي متأخرة في معظم مجالات الحياة، في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية، بل والأخلاقية، فهذا لا يستقيم أبداً، ولكنه واقع نراه بأعيننا، وهو واقع أليم، ونحن لا نريد أن نكون كالنعام نضع رءوسنا في الرمال، ونخفي هذه الحقائق عن أعيننا لنعيش في سعادة، فهذا من الغباء والحماقة.
فعلينا أن نواجه أمراضنا، ونقف وقفة جادة لنعالجها، ولن يصلح حال المسلمين وتحرر بلادهم أبداً إلا بتطبيق شرع ربنا، وموافقتنا لسننه سبحانه وتعالى في النصر، وهذا مشاهد في التاريخ وفي الواقع.
ترك الجهاد
المرض الرابع من أمراض الأمة الإسلامية الخطيرة: ترك الجهاد، وهذا نتيجة طبيعية للانغماس في الدنيا والترف الزائد عن الحد، فقد ترك المسلمون الجهاد، ورضوا بالسير في ذيل الأمم، وقبلوا ما سماه عدوهم: السلام، وهو في الواقع استسلام، ولم يفقه المسلمون الآن كما لم يفقهوا أيام التتار أن السبيل الأساسي لاستعادة حقوق المسلمين المنهوبة هو الجهاد، وأن السلام لا يمكن أن يكون خياراً إلا في بعض الظروف، وأما إذا انتهبت حقوق المسلمين، وسفكت دماؤهم وشردوا عن أرضهم، واستهزئ بدينهم وبرأيهم وبمكانتهم فلا يمكن أن يكون السلام هو الخيار المطروح، فالسلام لا يكون إلا باستعادة كامل الحقوق، ولا يكون إلا ونحن أعزاء، نمتلك قوة الردع الكافية للرد على العدو إذا خالف معاهدة السلام، أما بدون ذلك فالسلام لا يكون سلاماً، بل يكون استسلاماً، وهو ما لا يقبل في الشرع.
ويجب أن يفقه المسلمون جيداً أن كلمة الجهاد ليست عيباً يجب أن نستحي منها أو نداريها، ولا كلمة قبيحة يجب أن تنزع من مناهج التعليم ومن وسائل الإعلام ومن صفحات الجرائد والكتب، ومن خطب الجمعة ومن الدروس ومن غير ذلك، بل هي كلمة عظيمة جداً، فالجهاد ذروة سنام الإسلام وأعلى ما فيه، شاء ذلك أعداء الأمة أم أبوا، سواء من خارجها أو من أبنائها، فكلمة الجهاد بمشتقاتها وردت في كتاب الله عز وجل أكثر من (30) مرة، وكلمة القتال بمعنى قتال الأمة لأعدائها وردت أكثر من (90) مرة في كتاب الله عز وجل، وكلمة النصر وردت أكثر من (140) مرة، فأين نذهب بهذه الكلمات والآيات؟ وأين نذهب بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال:65]؟ وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]؟ ومتى تظهر الغلظة إذا كانت كل بلاد المسلمين محتلة، ونحن لا زلنا نبحث على السلام؟ وأين نذهب بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً} [التوبة:36]؟ وأنى لأمة تريد أن تحمي نفسها، وتدافع عن عرضها وشرفها أن تترك الجهاد والقتال؟ وفي أي عرف أو قانون أو ملة تصر الأمة التي احتل شرقها وغربها على عدم الحديث عن الجهاد والقتال والحرب والإعداد؟ ومرض ترك الجهاد وترك الحديث عنه وترك الإعداد له من أعظم أمراض الأمة، ولم يوجد في تاريخنا أبداً قيام إلا به، ولنا في التاريخ عبرة.
إهمال الإعداد وترك الأخذ بالأسباب
المرض الخامس وهو مرض خطير كذلك: إهمال الإعداد المادي للحروب، وقد رأينا كيف اجتهد التتار في إعداد كل ما يمكنهم من النصر، سواء من الجنود أو السلاح، أو تجهيز الطرق أو وضع الخطط، أو الاهتمام بالأحلاف والحرب النفسية، أو إعداد الخطط البديلة، وكان إعدادهم متميزاً حقاً، وعلى الجانب الآخر كان المسلمون يعيشون في واد آخر، فقد أهملت الجيوش الإسلامية وانحدر مستواها، ولم يعد يهتم حاكم بتحديث سلاحه أو تدريب جنده، ولم توضع الخطة المناسبة، ولم توجد المخابرات الدقيقة، وتهاون المسلمون جداً في إعدادهم، ورتبوا أولوياتهم بصورة مخزية، فأنفقوا الملايين على القصور والرخام والحدائق والحفلات، لم ينفقوا شيئاً على الإعداد العسكري والعلمي والاقتصادي للبلاد، فقلّ ظهور النماذج المتفوقة في المجالات العلمية والقيادية والإدارية، وكثر ظهور المطربين والمطربات والراقصين والراقصات واللاعبين واللاعبات واللاهين واللاهيات، وأمة بهذا الإعداد لن تحرر بلادها من عدو محتل، ولا بد أن تهزم، وأمة الإسلام بغير إعداد لا بد أن تهزم، وليس معنى التوكل على الله عز وجل أن نهمل الأسباب، ولا معنى الإعداد أن نهمل الاعتماد على ربنا سبحانه وتعالى، بل لا بد من الأمرين معاً، أن نبذل قصارى جهدنا في إعداد الأسباب المادية، وأن نلجأ إلى الله عز وجل بصدق لينصرنا على أعدائنا، وأن ييسر لهذه الأسباب أن تؤتي نتائجها.
إذاً: إهمال الإعداد مرض خطير جداً وما زال مستمراً، وراجعوا الإحصائيات لحال الأمة الإسلامية في المجالات العلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية؛ من أجل أن تعرفوا مدى المأساة التي تعيشها الأمة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت (139)
الأمراض التي تعاني منها أمتنا الآن (2)
افتقاد القدوة
المرض السادس: افتقار المسلمين إلى القدوة، فتربية القدوة أفضل آلاف المرات من تربية الخطب والمقالات، فالجنود يشعرون بالغربة الشديدة ويفقدون الحماس تماماً إذا افتقدوا القدوة، وإذا ألقي ألف خطاب للتحميس على الجهاد، فلن يفعل شيئاً إذا وجد الجنود قائدهم أول المختبئين عند الكوارث.
كذلك إذا ألقي ألف خطاب عن تحمل الظروف الصعبة والرضا بالقليل والزهد في الدنيا وتحمل المصائب الاقتصاية، لا يغني شيئاً إن وجد الشعب زعيمه يتنعم في القصور، وينفق الملايين على راحته وسعادته ورفاهيته وحفلاته الصاخبة.
وكذلك ألف خطاب عن الأخلاق الحميدة، لا يقدم شيئاً في الأمة إن كان الذي يقتدى به ما يصلي أصلاً ولا يصوم، ولا يتسم بنظافة اليد واللسان والضمير والوجدان، إذ كيف يلتزم شعب بدينه وبشرع ربه وهو قلّما استمع إلى لفظ الجلالة من زعيمه أو أستاذه أو مربيه؟
موالاة الأعداء
المرض السابع وهو خطير جداً: موالاة أعداء الأمة، وليس في ديننا لبس ولا غموض، وقد تركنا صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فموالاة أعداء الأمة مرض خطير، وقد كانت هذه المصيبة دوماً سبباً مباشراً من أسباب سقوط الأمة الإسلامية، وما جرَّت موالاة أعداء الأمة على الأمة إلا الويلات والكوارث، وإنها والله لخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
يقول تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]، وهذا تحذير مباشر وخطير.
الإحباط
المرض الثامن: الإحباط، فالأمة المحبطة من المستحيل أن تنتصر، والقنوط ليس أبداً من صفات المؤمنين، قال الله عز وجل: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، فقد عمل التتار كما عمل الأمريكان وأتباعهم على خفض الروح المعنوية للشعوب المسلمة إلى أدنى درجة ممكنة، وعظموا كل ما هو تتاري أو أمريكي، وخفضوا كل ما هو مسلم، ووسعوا الفجوة جداً بين إمكانيات العدو وإمكانيات الأمة، وصوروا لهم أنه لا سبيل لهم للنجاة إلا بالخنوع والخضوع والتسليم.
والعودة إلى الله عز وجل ليس من الضروري أن تأخذ وقتاً طويلاً، بل يعود المسلم إذا أراد العودة إلى ربه في لحظة، ويجد أن الله عز وجل في خير استقبال له، وأنه يفرح بتوبته وبعودته، فيمكِّنه ويعطيه السيادة في الأرض، ويحوطه برعايته، فهو يتودد إلى ربه وربه يتودد إليه.
ونحن الذين نحتاج إلى ربنا سبحانه وتعالى سواء في الدنيا أو في الآخرة، وقد رأينا أن مصيبة التتار على عظمها وعلى كونها أعظم آلاف المرات من المصائب التي نمر بها الآن، قد أتبعت بنصر مجيد على يد قطز رحمه الله، وكان من أهم الأسباب للنصر أنه رحمه الله رفع الروح المعنوية لجيشه ولشعبه، وعلمهم أن التتار خلق من خلق الله لا يعجزونه أبداً، وأن المسلمين إذا ارتبطوا بالله عز وجل فلا سبيل لأحد عليهم مهما كان، لا تتار ولا يهود ولا أمريكان، وعلمهم رحمه الله أن الدولة الأخيرة لا بد أن تكون للمسلمين، وليعلم المسلمون في كل زمان أن النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة، وأنه إذا أوصدت كل الأبواب وأظلمت الدنيا، وشعر المسلمون أن الأزمة قد بلغت الذروة التي لا ذروة بعدها، فكل هذه علامات واضحة وبينة على أن النصر قد أصبح قريباً جداً، واستمعوا إلى قول الله عز وجل في سورة البقرة حيث يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، أي: إذا وصل الأمر إلى الذروة وقالوا: متى نصر الله؟ ثم عقب بقوله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، أي: عند وصول المأساة إلى الذروة يأتي نصر الله عز وجل، فهذه من سنن رب العالمين سبحانه وتعالى في كونه وفي خلقه.
توسيد الأمر لغير أهله
المرض التاسع: توسيد الأمر لغير أهله، فقد رأينا في قصة سقوط بغداد الأولى، كيف أن الأمر كان قد وسد لغير أهله كثيراً، وضيعت الأمانة، وتولى المناصب العليا في البلد أناس افتقروا إلى الكفاءة، كما افتقروا إلى التقوى، فلم يكن فيهم قوة ولا أمانة، وهذه طامة كبرى، فإذا لم يصل إلى مراكز القيادة إلا أصحاب الوساطة أو القرابة أو الرشوة فهذا أمر خطير، بل شديد الخطورة، وإذا رأيتم أن القريب لا يوظف إلا قريبه، وأن المراكز تباع وتشترى وتهدى، وأن أصحاب الكفاءات لا تقدر كفاءتهم ولا يرفع من قدرهم، فاعلموا أن النصر في هذه الظروف مستحيلة.
غياب الشورى
المرض العاشر والأخير: غياب الشورى، والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، والذي لا يأخذ بها فإنه يضحي بملايين الطاقات في شعبه، ويفترض في نفسه الكمال، ويخالف طريق الأنبياء، ويزرع الضغينة في قلوب أتباعه، ويقع في الخطأ تلو الخطأ، وفوق ذلك كله فإنه يخالف أمر الله عز وجل، الذي جاء بلفظ صريح في كتابه العزيز حيث قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، ونقصد بالشورى هنا الشورى الحقيقية لا الشورى الوهمية، التي ليس لها هم إلا جمع الآراء المؤيدة لرأي الزعيم الأوحد، ثم تغلب آراء الدكتاتور وترمي بقيمه الآراء في سلة المهملات.
عوامل النصر
أما كيف يكون النصر فهو أمر في منتهى البساطة والسهولة واليسر، ولا يوجد فيه لا لبس ولا غموض، وهو أن تعالج هذه الأمراض العشرة التي ذكرناها علاجاً حقيقياً صادقاً، ولا بد أن نعترف بوجود هذه الأمراض أولاً، ثم نسعى جاهدين صادقين لعلاجها؛ حتى نرقى بهذه الأمة، ونوظف كل الطاقات لتمكينها في الأرض.
والنصر بإيجاز شديد جداً يكمن في الأمور العشرة التالية: الأول: العودة الكاملة غير المشروطة إلى الله عز وجل وإلى شرعه الحكيم.
الثاني: الوحدة بين المسلمين جميعاً على أساس الدين.
الثالث: الإيمان بالجنة والزهد في الدنيا والبعد عن الترف.
الرابع: تعظيم الجهاد والحث عليه، وتربية النشء والشباب على حب الموت في سبيل الله.
الخامس: الاهتمام بالإعداد المادي من سلاح وعلم وخطط واقتصاد وتقنيات وسياسات وغير ذلك.
السادس: إظهار القدوات الجليلة الإسلامية الأصلية وإبرازها وتعظيمها عند المسلمين.
السابع: عدم موالاة أعداء الأمة، والفقه الحقيقي للفرق بين العدو والصديق.
الثامن: بث روح الأمل في الأمة الإسلامية، ورفع الهمة والروح المعنوية للشعب.
التاسع: توسيد الأمر إلى أهله، وأهله هم أصحاب الكفاءة والأمانة.
العاشر: تفعيل دور الشورى الحقيقية التي تهدف فعلاً إلى الخروج بأفضل الآراء.
هذه هي عوامل عشرة للنصر، وكل واحد منها يحتاج إلى محاضرات كثيرة ودروس منفصلة، وكل واحد منها يحتاج لجهد متواصل من كل مخلص في هذه الأمة، يريد لها القيام والسيادة والتمكين في الأرض.