رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (75)
- عَـشِّ ولا تغتر
يبتلي الله تعالى عباده بالخير والشر، فتارة يبتليهم بالفقر والمرض والحروب ونحوها من المصائب، وتارة يبتليهم بالأموال وكثرة الأولاد والتمكين في الأرض وتسخير الخيرات لهم كما قال عز وجل:{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: « أي نبتليكم بالشر والخير فتنة: بالشدة، والرخاء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، والحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، والهدى، والضلال»، وقال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} ونحو ذلك من الآيات.
والابتلاء بالخير أشد من الابتلاء بالشر؛ لأن الشر أمره ظاهر ويتفطن له غالب الناس، أما الابتلاء بالخير فقد يغرق الإنسان في النعم ولا يتنبه إلى أن هذا اختبار من الله تعالى له ليبلوه أيشكر أم يكفر، وتجري عليه النعم سابغة وهو غافل عن المقصود منها، وقد يغتر بها ويسوقه البطر إلى نسيان شكر المنعم، والغفلة عن القيام بحقه، والمسلم الواعي لا ينشغل بالنعم عن المنعم، ولا يغتر بالدنيا، ولا يثق بزينتها وزخرفها، ويأخذ بأوثق الأمور، ويستعد لأسوأ الاحتمالات، ويعمل بأسباب النجاة؛ فالسفر طويل، والعقبة كؤود، والناقد بصير.
وهذا المثل العربي يصور هذه الحقيقة، ويقرب ذلك المعنى بأوجز عبارة وأقصر لفظ، قال الميداني في مجمع الأمثال: «أصل المثل -فيما يُقَال- أن رجلا أراد أن يُفَوِّزَ -أي يسير في المفازة-بإبله ليلا، واتّكَل على عشب يجده هناك، فقيل له: عّشِّ ولا تَغْتَر، إي لا تغتر بما لست منه على يقين.
ويروى أن رجلاً أتى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم فقال: كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع الإيمان ذنب، فكلهم قَال: «عشِّ ولا تّغْتَر»، يقولون: لا تُفَرِّطْ في أعمال الخير وخُذْ في ذلك بأوثقَ الأمور، فإن كان الشأن على ما ترجو من الرُّخصَة والسَّعة هناك، كان ما كسبت زيادةً في الخير، وإن كان على ما تخاف كنت قد احْتَطْتَ لنفسك.
ويوضح الغزالي أهمية اليقظة وخطورة الغرور فيقول: «إن مفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة، والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا، وبقي في العمى، فاتخذ الهوى قائدا والشيطان دليلا».
ويعرف الغرور بأنه: «هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم».
وزيادة في الإيضاح يبين ابن القيم الفرق بين الثقة والغرور فيقول: «الفرق بينهما: أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض، والمغتر العاجز قد فرط فيما أُمر به، وزعم أنه واثق بالله، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود».
وقال رحمه الله: «إن الثقة سكون يستند إلى أدلة وأمارات يسكن القلب إليها، فكلما قويت تلك الأمارات قويت الثقة واستحكمت ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة.
وأما الغرة فهي حال المغتر الذي غرته نفسه وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه حتى أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والغرور ثقتك بمن لا يوثق به، وسكونك إلى من لا يُسكن إليه، ورجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخير، كحال المغتر بالسراب».
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في ذم الغرور بأنواعه، والتحذير من آثاره الوخيمة، فمن ذلك قوله تعالى:{يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}، قال سعيد بن جبير: «غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي».
وقال عز وجل: {يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}، قال ابن سعدي: «يقول تعالى معاتبا الإنسان المقصر في حقه، المجترئ على معاصيه:{يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟»، قال قتادة: «ما غر ابن آدم غير هذا العدو والشيطان».
وقال تعالى: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون}، قال ابن كثير: «أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاء لِأَنَّكُمْ اِتَّخَذْتُمْ حُجَج اللَّه عَلَيْكُمْ سِخْرِيًّا تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُو نَ بِهَا، وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاة الدُّنْيَا، أَيْ خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُ مْ إِلَيْهَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ».
وقال عز وجل:{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، قال ابن سعدي: «هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها، وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار من خير وشر».
وقال تعالى: {ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني}، قال الطبري: «وقوله: {وغرتكم الأماني} يقول: وخدعتكم أماني نفوسكم، فصدتكم عن سبيل الله، وأضلتكم {حتى جاء أمر الله} يقول: حتى جاء قضاء الله بمناياكم فاجتاحتكم، وعن قتادة في قوله تعالى:{ وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} كانوا على خدعة من الشيطان - والله ما زالوا عليها - حتى قذفهم الله في النار.
وقوله: {وغركم بالله الغرور} يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه».
وقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم، فلينظر بما يرجع» أخرجه مسلم.
قال النووي: «ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها، ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر».
والخلاصة أن المطلوب من المسلم أن يكون متنبها إلى ما يطرأ له من ابتلاءات وفتن بالخير قبل الشر، وعليه أن يقوم بواجبه من الشكر والصبر، عدم الاغترار بالدنيا والانغماس فيها إلى درجة الاستغراق والغفلة عن الحقائق الكبرى وهي الموت والبعث والجزاء، قال الزهري: «من استطاع ألا يغتر فلا يغتر»، فليحرص كل مسلم على ما ينفعه، ويستعين بالله على طاعته وحسن عبادته، فذلك أفضل مطلوب وأعظم موهوب، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (76)
- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
التغيير سنة ماضية، فطبيعة الزمان والمكان وأحوال الناس تتغير بشكل دائم ومستمر، فالمتأمل لأحوال الناس، والدارس لتاريخ البشرية يجد هذا الأمر واقعا ملموسا، وحقيقة محسوسة.
والتغيير قد يكون بالأفراد، كما قد يحدث بالمجتمعات، وقد يكون تغييرا نحو الأفضل، وأحيانا قد يصير التغيير للأسوأ.
فهناك تغيير مذموم، وهو اتباع سبيل الشيطان في تغيير فطرة الإنسان، والانحراف به عن شريعة الرحمن كما قال تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا}.
ويبين الشيخ ابن سعدي أن من إضلال الشيطان (تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله)، ويلتحق بذلك الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة، وأوضح أن تغيير خلق الله يتناول الخلقة الظاهرة؛ بالوشم، والوشر، والنمص، والتفليج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن، ويتناول تغيير الخلقة الباطنة، وهي الفطرة السليمة التي تقبل الحق وتنقاد له، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل ، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.
وقال جماعة من أهل التفسير منهم مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات، ليعتبر بها وينتفع بها، فغيـّرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله.
وروي عن ابن عباس في معنى فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ} أي: دين الله، واختاره الطبري فقال: «وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي، أي فليغيرن ما خلق الله في دينه».
وقال مجاهد أيضا: فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ}: فطرة الله التي فطر الناس عليها، يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الايمان به في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}.
ومن التغيير المذموم ما ورد النهي عنه في السنة المطهرة، فعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» أخرجه أحمد، وهو صحيح.
فما يفعله بعض النساء من هذه الأفعال المنكرة بحجة التزين والتجمل داخل تحت هذا الوعيد، ومشمول بهذا الذم.
وقد يكون التغيير محمودا، وذلك بأن يتبع المكلف سبيل الرحمن في تزكية نفسه بالعقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة، والعبادات المستقيمة، ويترك ما كان عليه من عقائد منحرفة وعبادات مبتدعة وأخلاق رذيلة، وإنما يتحقق ذلك باتباع شرع الله تعالى، والاهتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما أولياؤهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك».
والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن سنته الماضية، وقاعدته المطردة وهي أنه تبارك وتعالى يعين من تغير إلى الخير ويوفقه، ويخذل من تغير إلى الشر ويعاقبه، فقال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}.
قال الشيخ ابن سعدي: «{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والإحسان ورغد العيش {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها؛ فيسلبهم الله عند ذلك إياها.
وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أي: عذابا وشدة وأمرا يكرهونه، فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم».
وقال تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيـروا ما بأنفسهم}، قال الشيخ ابن سعدي: «{ذَلِكَ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين، وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم؛ بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم، {بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم} من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها إن ازدادوا له شكرا، {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الطاعة إلى المعصية، فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم، وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره».
قال الشيخ ابن عاشور : «فقوله: {لم يك مغيرا} مؤذن بأنه سنة الله ومقتضى حكمته; لأن نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيه .
والمراد بهذا التغيير (تغيير سببه) وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران؛ ذلك أن الأمم تكون صالحة ثم تتغير أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها، فذلك تغيير ما كانوا عليه; فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم، فإذا أصلحوا استمرت عليهم النعم، مثل قوم يونس وهم أهل نينوى، وإذا كذبوا وبطروا النعمة، غيـّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة».
والخلاصة أن التغيير سنة ماضية، وهو وسيلة شرعية لتحصيل النعم الدينية والدنيوية والأخروية واستدامتها، إذا أخلص المسلم النية، وأحسن العمل، واستعان بربه في القيام بعبادته، وشكر نعمته، فأفضل مطلوب، وأحسن موهوب هو (الإعانة على العبادة).
والتغيير يبدأ بنية صادقة، وعزم أكيد، يحدوه علم صحيح، وعمل مستقيم كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}وقال تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وقال عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (77)
- نعــم المــال الصــالح للرجــل الصـــالح
قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم»
شاع لدى بعض الناس مقولة غريبة هي: «إن الفلوس وسخ دنيا»، وظنوا أن المال أمر مذموم، وأن جامعه ملوم، وكأن المسلم الصالح لا بد أن يكون فقيرا معدما، ولا يليق به أن يكون غنيا محترما، ولعل ذلك تأثرا بقدامى الصوفية كما قال ابن الجوزي: «كان إبليس يلبس على أوائل الصوفية - لصدقهم في الزهد - فيريهم عيب المال، ويخوفهم من شره، فيتجردون من الأموال، ويجلسون على بساط الفقر، وكانت مقاصدهم صالحة، وأفعالهم في ذلك خطأ لقلة العلم».
والمتأمل في أدلة الشريعة الإسلامية وأحكامها ومقاصدها يجد أنها قد أولت الأموال اهتماما كبيرا، يقوم على الاعتدال ومراعاة الفطرة وتحقيق مصالح الفرد والمجتمع، مع القيام بحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
فالشريعة الإسلامية تقرر أن المال - وإن كان في يد مالكه - إلا أنه في الحقيقة مال الله تعالى كما قال عز وجل: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، والإنسان مستخلف في هذا المال كما قال تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، ومالك المال الحقيقي سيسأل الإنسان عن تصرفه في هذه الأموال كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيم أنفقَهُ» أخرجه الترمذي.
والشريعة الإسلامية جعلت المال من مقاصدها الكلية، وعدته من الضروريات الخمس التي جاءت لتحصيلها وحفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذا أمر مقرر وثابت باستقراء الشريعة في أدلتها وقواعدها كما هو معلوم من أصول الفقه وقواعده.
كما أن الشريعة الإسلامية تراعي الفطرة وتهذبها، ولا تصادمها أو تعارضها، فالقرآن يقرر أن حب المال والرغبة في تملكه أمر فطري كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}، وقال تعالى عن الإنسان: {وإنه لحب الخير لشديد} أي: المال، فحب المال غريزة، والدين جاء ليهذبها.
والشريعة الإسلامية تعد المال عونا على طاعة الله تعالى، فالله تعالى أمر بأداء الزكاة وجعلها من أركان الإسلام، وهل يمكن أداؤها إلا بتحصيل الأموال أولا؟ وشرع الله تعالى الصدقات وعدها من أبواب القربات، وأوجب الكفارات لبعض المخالفات وفيها الإطعام والكسوة وتحرير الرقاب، وألزم الله تعالى المكلف بنفقات واجبة تجاه نفسه ومن يعول كزوجته وأبنائه وأقربائه بشروط وضوابط، حيث مدح المنفقين فقال عن المتقين: {ومما رزقناهم ينفقون}، ويلزم من ذلك تحصيل الأموال ليقدر المكلف على القيام بهذه الطاعات، ولا يفرط في تلك الواجبات.
وندب الله تعالى إلى نصرة الدين بالنفس والمال فقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}، وقد ضرب الصحابة الكرام في ذلك أروع الأمثلة، فتبرع أبو بكر بماله كله، ودفع عمر نصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة كاملا، رضي الله عنهم أجمعين، وما ذلك إلا لأنهم كانوا أغنياء سخروا أموالهم في خدمة الدين.
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى - وهو أن المال عون المسلم - فعن عَمْرَو بْن الْعَاصِ قال: «بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَيَّ ثِيَابِي وَسِلاحِي ثُمَّ آتِيَهُ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمْرُو إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ وَيُسْلِمكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً صَالِحَةً مِنَ الْمَالِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ». رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.
قال أبو حاتم البستي: «هذا الخبر يصرح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة جمع المال من حيث يجب، ويحل للقائم فيه بحقوقه؛ لأن في تقرينه الصلاح بالمال والرجل جميعا بيانا واضحا؛ لأنه إنما أباح في جمع المال الذي لا يكون بمحرم على جامعه، ثم يكون الجامع له قائما بحقوق الله فيه».
والقرآن الكريم يصف المال بأنه خير في مواضع مختلفة كما قال عز وجل: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}. وجعل وفرة الأموال من البركة والثواب المعجل فقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
وروى البيهقي أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الفقر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم»، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر».
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم الغني الصالح فقال: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي».
وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين أراد أن يوصي بشطر ماله: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». متفق عليه.
وقال لكعب بن مالك حين أراد أن يتصدق بكل ماله في حديث توبته: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» أخرجه البخاري.
ولما طلبت أم سليم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لابنها أنس بن مالك قال: «اللهُمّ أكثِرْ مالَهُ ووَلدَهُ وأطِلْ حَياتَهُ» رواه البخاري في الأدب المفرد. قال الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه فيه بحيث صار أكثر أصحابه مالاً، فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدًا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسًا من نسله».
وفي عهد عثمان رضي الله عنه ذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى أن ما زاد عن حاجة الإنسان فهو كنز يعرض مالكه للوعيد، ذكر البخاري ذلك في كتاب الزكاة باب ما أديّ زكاته فليس بكنز، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «أجمع الصحابة في عهد عثمان على مخالفة أبي ذر في دعوته الناس إلى الانكفاف عن المال، وإنبائه إياهم بأن ما جمعوه يكون وبالا عليهم في الآخرة».
وفي المقابل فإن الشريعة الإسلامية تحذر من الافتتان بالمال؛ لأنه محبب للنفس وقد يعيق الإنسان عن طاعة الله تعالى كما قال عز وجل: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن التنافس في الأموال على غير الوجه المشروع سبب للهلاك، فعن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين» فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» متفق عليه.
وحذرت الشريعة من تقديم المال وكسبه على المقصد الأصلي وهو عبادة الله تعالى وحده، فعند التزاحم تقدم العبادة وحقوقها على الدنيا وزينتها كما قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «قوله: (عبد الدينار) أي: طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده، قال الطيبي: «قيل: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا يجد خلاصا».
ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى فقال: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» قال ابن حجر: «وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات».
والشريعة الإسلامية تحث المكلفين على اكتساب الأموال دون استشراف ولا إلحاح ولا تعلق القلوب بها، فعن حكيم بن حِزامٍ رضيَ اللّهُ عنه قال: سألتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثمّ سألتهُ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثمّ قال: «يا حكيمُ ! إنّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوة، فمن أخذَهُ بَسخاوةِ نفسٍ بوركَ له فيه، ومن أخذَهُ بإشْرافِ نفسٍ لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكلُ ولا يشبَعُ، اليدُ العُليا خيرٌ منَ اليدِ السّفلى». قال حكيمٌ: فقلتُ: يا رسولَ اللّهِ، والذي بَعثكَ بالحقّ لا أرزأُ أحداً بعدَكَ شيئاً حتى أُفارِقَ الدنيا. متفق عليه.
قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم».
فالمال رزق من الله تعالى، وكثرته وقلته ليست معيار الكرامة عند الله تعالى كما قال عز وجل: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، فالكرامة عند الله تعالى بالتقوى، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ومن التقوى بذل الأموال في طاعة الله ما كان منها واجبا أو مستحبا.
فبذل الأموال في الطاعات والقربات من سمات المؤمنين، قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}، ووعدهم على ذلك بالثواب الجزيل فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وحذر من الشح والبخل، فقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
وخلاصة القول بعد هذا العرض الموجز أن الشريعة أولت الأموال عناية كبيرة، وحثت على اكتسابها بالوجوه المشروعة، وإنفاقها في مصارفها المقبولة، دون إفراط ولا تفريط كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملموما محسورا}، فحيازة الأموال على هذا الوجه من الأمور المحمودة، وهي خير للفرد والمجتمع والدولة، حيث تعود على الجميع بالمصالح العديدة وتدرأ عنهم الفقر والمرض والجهل والذل والحاجة للآخرين.
وأختم بوصية قيس بن عاصم لبنيه عند موته حيث قال: «عليكم بالمال واصطناعه؛ فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس؛ فإنها آخر كسب الرجل».
ومثله قول أبي قيس بن معديكرب لبنيه: «يا بنيّ اطلبوا هذا المال أجمل طلب، واصرفوه في أحسن مذهب، صلوا به الأرحام، واصطنعوا به الأقوام، واجعلوه جنّـة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم؛ فإنه جمعه كمال الأدب، وبذله كمال المروءة».
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (78)
-الرفيق الجيد يقصر الطريق
المسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس
يحتاج الإنسان عادة في أسفاره وتنقلاته إلى من يعينه في سفره، فيحمل عنه أثقاله، ويذهب ضجره، ويؤنس وحدته، ويسانده في محنته؛ لذا كان الرفيق في السفر مطلبا ملحا، وحاجة ضرورية نفسية وشرعية، فعنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بلَيْلٍ وَحْدَهُ» رواه البخاري، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا يسافرن رجل وحده، ولا ينامن في بيت وحده».
ونقل ابن حجر عن الطبري قوله: «هذا الزجر زجر أدب وإرشاد؛ لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة، وليس بحرام، فالسائر وحده في فلاة، وكذا البائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش، ولا سيما إذا كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف».
والمسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس، وأمامه مراحل عديدة في الدنيا والبرزخ وأهوال الآخرة، إلى أن يضع عصاه في الجنة بإذن الله ورحمته، وما أحكم الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: متى يجد المؤمن طعم الراحة؟ فأجاب: «عند أول قدم يضعها في الجنة»، وقال ابن القيم: «الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار».
ومما يعين المسلم على الصبر في هذه الرحلة، وتحمل مشاق الطريق: حسن اختيار الرفيق، الذي يعينه ولا يعطله، ويرفع همته ولا يخذله، وتأمل قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}، كيف أن ذكر الرفيق في الجنة يسهل على السالك السبيل، ويهون عليه الصعاب؛ شوقا إلى رفقتهم، وخوفا من الحرمان من صحبتهم، قال القرطبي: «والرفق لين الجانب، وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض».
ولأن الصحبة الصالحة والأخوة الصادقة مفيدة في الدنيا والأخرة أمرنا الله تعالى بملازمتهم وعدم الإعراض عنهم فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، قال الشيخ ابن سعدي: «فيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على محبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى».
فمن الفوائد الدنيوية دعاء بعضهم لبعض ولو طال الزمان وتباعد المكان، قال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}، قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين من السابقين، من الصحابة ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا».
وأما في الآخرة، فإن الأخوة الإيمانية تستمر وشائجها، وتدوم فوائدها كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير: «أَيْ كُلّ صَدَاقَة وَصحَابَة لِغَيْرِ اللَّه فَإِنَّهَا تَنْقَلِب يَوْم الْقِيَامَة عَدَاوَة إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ دَائِم بِدَوَامِهِ».
ولأهمية الأخوة في الله والصحبة الصالحة حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على صحبة الأخيار وملازمة الأبرار فقال: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، ذكر الشيخ ابن باز كلاما نفيسا في شرح هذا الحديث فقال رحمه الله: «الذي نفهمــه من هـــذا الحديث، والله أعلـــم، أن النبــي صلــى الله عليه وسلم يضــع للمسلــم منهـــجاً ينطلـــق عليه في حيـــاته، ألا يصـــاحب إلا مؤمنــــاً ولا يــأكل طعــامه إلا تقــــي، ولا يعنــــي الحديـــث أنه لا يجـــوز للمسلــم أن يُطعــم غــير المــؤمن الصالـــح، وإنـــما يقصــد الحديــث أنه ينبغــي له ألا يخــالط إلا مؤمـــناً، وألا يــأكل طعـــامه إلا تقـــي، فالمخالطـــة والمصـــاحبة والمصـــادقة شـــيء، وأن يُطعــم بمنـــاسبة ما كافراً أو فــاسقاً شـــيء آخر فهـــذا يجـــوز، ولكـــن ينبغـــي ألا يكــون ذلك منهـــج حيـــاته؛ ذلك لأن المصــاحب الصالح كمثــل بائع المســـك، إما أن يحذيـك، أي: يعطيك مجـــاناً، وإما أن تشتري منه، وإما أن تشــم منه رائحــة طيبـــة، ومثل جليـــس الســوء كمثل الحداد، إما أن يحرق ثيــابك، وإما أن تشــم منه رائــحة كريهــة؛ لذلك لا يجـــوز للمسلـــم أن يخــــالط إلا الصــــالحين، هذا هـــو المقصــــود من قولـــه عليـــه الســـلام في الحديـــث الســـابق المسؤول عنه: «لا تصاحب إلا مؤمـناً، ولا يـأكل طعـــامك إلا تقي».
والنبي صلى الله عليه وسلم يصور اللحمة الإيمانية بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. متفق عليه، قال النووي في فوائد الحديث: «تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد في غير إثم ولا مكروه».
وقد تكاثرت أقوال السلف في الحث على صحبة الإخوة العقلاء الناصحين، فقال عمر: «عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم؛ فإنهم زين في الرخاء، وعدة في البلاء»، وقال بلال بن سعد بن تميم: «أخ لك كلما لقيك ذكـّرك بحظك من الله، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا».
قال الراغب الأصفهاني: «الصديق محتاج إليه في كل حال: أما عند سوء الحال فيعينونه، وأما عند حسن الحال فليؤانسوه وليضع معروفه عندهم، ومن ظن أنه يمكن الاستغناء عن صديق فمغرور، ومن ظن أن وجوده سهل فمعتوه».
وقال أبو حاتم البستي: «العاقل لا يواخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة، ذا عقل نشأ مع الصالحين؛ لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال».
ويبين ابن القيم أنواع اللقاء بالإخوة وآثار كل منها فيقول: «الاجتماع بالإخوان قسمان:
- أحدهما: اجتماع على مؤانسة طبع وشغل وقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
- الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة، والتواصي بالحق والصبر، فهذا أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
- إحداها: تزّين بعضهم لبعض، الثانية: الكلام والمخالطة أكثر من الحاجة، الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
وبالجملة، فالاجتماع والخلطة لقاح: إما للنفس الإمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة المستفادة من اللقاح أن من طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك، والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات، وعكس ذلك».
فكما يحرص الإنسان على رفقة العقلاء الناصحين في سفر الدنيا، فليحرص على صحبة الإخوة الصالحين الصادقين لسفر الآخرة، وحسن أولئك رفيقا، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (79)
-المجـالــس بالأمـانـة
حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
الإنسان مدني بطبعه، يحب مخالطة الآخرين والتواصل معهم ، ويحرص على مشاركتهم في أفكارهم ومشاعرهم، ويتبادل معهم الآراء والمفاهيم؛ مما يقتضي الحديث معهم في المجالس العامة والجلسات الخاصة، وقد أرشدنا الإسلام إلى احترام تلك المجالس، والقيام بحقوقها من حفظ الأسرار، ورعاية خصوصية المتحدثين، وعدم إيذائهم بإفشاء أسرارهم ونشر أخبارهم دون إذن منهم.
ويوضح الراغب معنى السر بأنه: «ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إما لفظا كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك، وإما حالا: وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسه، ولهذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فالتفت فهو أمانة».
ويبين أيضاً أن كتمان الأسرار من الوفاء، وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر.
ومن النصوص الشرعية التي أكدت حرمة المجالس ولزوم القيام بحقوقها قوله صلى الله عليه وسلم : «المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.
ويبين العلماء أن معنى الحديث : تحسن المجالس أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال ، فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه.
وقوله: «إلا ثلاثة مجالس»، هو استثناء، والمعنى ينبغي للمؤمن إذا رأى أهل مجلس على منكر ألا يشيع ما رأى منهم إلا ثلاثة مجالس وهي المذكورة فلا يجوز للمستمع كتمه بل عليه إفشاؤه دفعا للمفسدة.
وقال صلى الله عليه وسلم : «إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهو أمانة» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
قال شراح الحديث: «والمعنى: إذا حدث الرجل شخصا بالحديث الذي يريد إخفاءه ثم التفت يمينا وشمالا احتياطا، فذلك الحديث أمانة عند من حدثه، أي: حكمه حكم الأمانة، فلا يجوز إضاعتها بإشاعتها؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصه بسره، فكان الالتفات قائما مقام: اكتم هذا عني،أي: خذه عني واكتمه، وهو عندك أمانة».
وقال صلى الله عليه وسلم : «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، والمقصود بالمستشار: أي الذي طلب منه المشورة والرأي، وقوله: «مؤتمن» اسم مفعول من الأمن أو الأمانة، أي: أمين؛ فلا ينبغي له أن يخون المستشير بكتمان المصلحة والدلالة على المفسدة .
قال الطيبي: «معناه أنه أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته».
قال أبو حاتم البستي: «والواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشير المستشير قضاء حق النعمة في الرأي، والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته».
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي بنفسه كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم: «هل لك خادم؟»، قال: لا، قال: «فإذا أتانا سبي فَأْتِنا»، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اختر منهما»، قال: يا رسول الله، اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به خيرا»، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق.
وتأمل تطبيق الصحابة الكرام لهذا الهدي النبوي الكريم، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ، إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذهُ فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، وَلاَ سَبَّنِي سَبَّةً، وَلاَ انْتَهَرَنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَنْ قَالَ: «يَا بُنَيَّ، اكْتُمْ سِرِّي تَكُ مُؤْمِنًا».قال أنس: فَكَانَتْ أُمِّي وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلْنَنِي عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلاَ أُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَمَا أَنَا بِمُخْبِرٍ سِرَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحَدًا أَبَدًا. أخرجه التِّرْمِذِي.
وعن أنس قال: أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وَنَحْنُ صِبْيَانٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا ، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ ، قَالَتْ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ : فَاحْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . أخرجه البُخَارِي في «الأدب المفرد».
ومن سوء العشرة وخيانة الأمانة إفشاء الأسرار الزوجية، فعن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنْشُر سرها» أخرجه مسلم.
قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
فخلاصة القول: أن كتم الأسرار من الأمانة، والأمانة من الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، كما أن كتم السر من الوفاء بالعهد وقد قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}، ونشر الأسرار خيانة للعهد كما قال الحسن: «إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك»، وخيانة العهد من صفات المنافقين كما قال صلى الله عليه وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا» وذكر منهن: «إذا اؤتمن خان»، كما أن كتم السر فضيلة تدل على كمال عقل الإنسان ووقاره، وحفظه لحقوق الأخوة، وإفشاء الأسرار قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية، دنيوية ودينية.وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (80)
- يمحــق الـلـه الـــربا
عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» أخرجه الحاكم
شرع الله عز وجل لعباده أبواب الكسب المشروعة كالبيع والإجارة والشركة والمضاربة وإحياء الموات ونحوها من معاملات الكسب الطيب والرزق الحلال مما يرجع بالنفع العظيم والخير الوفير على المسلمين أفرادا ومجتمعات. وفي المقابل نهى الله تعالى عن الكسب الخبيث المحرم بأنواعه كالسرقة والغصب والغش وأكل أموال الناس بالباطل والبيوع الفاسدة ونحوها، فالشرع والعقل والواقع يشهد بأنها لا تعود على مرتكبها إلا بالحسرة والخسارة في الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما نهى الله تعالى عنه وحذر منه أشد التحذير وأنذر من تعامل به أبلغ إنذار (الربا)؛ فقد جاء في شأن الربا من النصوص الشرعية الكثيرة ما فيه عظة وواعظ لكل من تسول له نفسه الوقوع في هذه المخالفة الجسيمة والمعصية العظيمة.
قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} قال ابن كثير: «يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة ومنها أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل، فحرم عليهم طيبات كان أحلها لهم وذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم لرسولهم واختلافهم عليه».
وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين}، قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا؛ فأنزل الله عز وجل:{يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} قال القرطبي: (مضاعفة) إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت العبارة المؤكدة على شناعة فعلهم وقبحه ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا وهو أخذ زيادة على أصل الدين ورأس المال في مقابل الأجل، فإذا حل الأجل يقول صاحب الحق للمدين: أتقضي أم تربي؟ يعني يزيده في الأجل ويزيده في الحق، وهكذا يتضاعف الدين ويتراكم على المدين وهو ما يعرف بربا الجاهلية.
ونقل عن أبي حنيفة عن هذه الآية أنها أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه.
وقال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} قال ابن كثير: «أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له»، وقال ابن عباس: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق»، وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه، وقيل: يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم.
وقال عز وجل: {وأحل الله البيع وحرم الربا} قال بعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.
وقال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}، والمحق هو النقص والذهاب، قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه يمحق الربا، أي يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة».
وقال سبحانه وتعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}، وهذا تهديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن عباس: «يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب».
قال القرطبي: «دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك، ونقل أنه جاء رجل إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله إني رأيت رجلا سكران يتعاقر يريد أن يأخذ القمر فقلت: امرأتي طالق إن كان دخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، ثم قال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا لأن الله آذن فيه بالحرب».
وأما السنة المطهرة فهي مليئة بالأحاديث الدالة على حرمة الربا والتحذير من مغبته، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه، والموبقات هي المهلكات، قال ابن حجر الهيتمي: عدّ الربا كبيرة هو ما أطبقوا عليه؛ اتباعا لما جاء في الأحاديث الصحيحة من تسميته كبيرة بل من أكبر الكبائر وأعظمها.
وعن عبد الله بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «درهم ربا يأكله الرجل -وهو يعلم- أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية» أخرجه أحمد والمنذري، قال المناوي: هذا خرج مخرج الزجر والتهويل لاعتياد الجاهلية أكل الربا وعمومه فيهم.
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» أخرجه الحاكم،
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الربا سبعون حوبا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه» أخرجه ابن ماجه، قال المناوي: هذا زجر وتخويف لأن العرب قد تظاهروا عليه وشق عليهم تحريمه.
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلٍّ» أخرجه الحاكم، قال المناوي: أي وإن كان زيادة في المال عاجلا يؤول إلى نقص ومحق آجلا.
وعن جابر قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء» أخرجه مسلم، قال النووي: «هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل».
وقال أيضا: «فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره؛ ولهذا كان من أكبر الكبائر ».
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظهر الزنى والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» أخرجه الحاكم، قال المناوي: أي تسببوا في وقوعه بهم، ولم يقل العذاب، بل زاد الاسم زيادة في التهويل والزجر، وذلك لمخالفتهم ما اقتضته الحكمة الإلهية من حفظ الأنساب الأموال، وقال ابن القيم: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن بهلاكها.
ومن صور الربا المعاصرة ما تقدمه البنوك التجارية من فوائد نظير الإيداع، وما تأخذه من فوائد لقاء القروض التي تقدمها لعملائها، وقد توالت فتاوى العلماء بتحريم هذا النوع من المعاملات، ففي سنة 1907 أفتى الشيخ بكري الصدفي مفتي مصر بالحرمة، وتلاه الشيخ عبد المجيد سليم مفتي مصر أيضا عام 1930 بالقول بالحرمة، وبعدهما نص على الحرمة قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1965، وقرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة سنة 1985، وقرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة سنة 1406هجرية.
فواجب المسلمين أفرادا ومجتمعات التخلص من الربا وآثاره المدمرة استجابة لله ورسوله وابتعادا عن أسباب الهلاك التي توعد بها الله تعالى المرابين في الدنيا والآخرة، والله الموفق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (81)
- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
اشتلمت النصوص الشرعية على مدح أسماء جميلة، والثناء على ألقاب جليلة؛ مما يدل على أن الله تعالى يحبها ويحب من اتصف بها، ويأمر بالتحلي بها والتخلي عن ضدها، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وزاد الترمذي: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»، وزاد البيهقي: «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله».
قال الشيخ ابن سعدي: «ذكر في هذا الحديث كمال هذه الأسماء الجليلة التي رتب الله ورسوله عليها سعادة الدنيا والآخرة؛ وهي الإسلام والإيمان والهجرة والجهاد، وذكر حدودها بكلام جامع شامل».
ومن المقرر أن الإنسان لا بد أن يعرف حقيقة الأشياء قبل طلبها والعمل بها، فالعلم قبل القول والعمل، فمن الأهمية أن يعرف المسلم حدود الأسماء الدينية والألقاب الشرعية كما قال ابن القيم: «ومعلوم أن الله سبحانه حدّ لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه، وذمّ من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، والذي أنزله هو كلامه، فحدود ما أنزل الله هي الوقوف عند حدّ الاسم الذي علق عليه الحلّ والحرمة»، وقال أيضا: «ولهذا كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وآخيته التي يرجع إليها، فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يعطيها حقها ويفهم المراد منها»، ولهذا العلم فضيلة ومزية كما قال ابن القيم: «فإن أعلم الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي علق بها الحلّ والحرمة».
فمن الأسماء الشرعية المذكورة في الحديث (الإسلام)، والإسلام في اللغة: هو الانقياد والخضوع والإذعان والاستسلام، وفي الاصطلاح: له معنيان:
الإسلام بالمعنى العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، فالإسلام هو التعبد لله بما شرع على ألسنة رسله، وهو بهذا المعنى دين جميع الرسل كما قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وأمرت أن أكون من المسلمين}، وقال عن إبراهيم عليه السلام: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}، وقال عن موسى عليه السلام: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}، وقال عن عيسى عليه السلام: {قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون}.
وأما الإسلام بالمعنى الخاص: فهو الدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله، قال الله تعالى: {ِإنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام}، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}، وهذا الإسلام هو الإسلام الذي امتن به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}.
وفي الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة المسلم فقال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، قال النووي: «معناه: من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل، وخص اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها لما ذكرناه»، وقال ابن حجر: «قوله (المسلم) قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين»، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده كما ذكر مثله في علامة المنافق.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
تنبيه: ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه، والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك، وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك، وفي التعبير باللسان دون القول نكتة فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة فيدخل فيه اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق.
قال ابن سعدي: «وذلك أن الإسلام الحقيقي هو الاستسلام لله، وتكميل عبوديته والقيام بحقوقه وحقوق المسلمين، ولا يتم الإسلام حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ولا يتحقق ذلك إلا بسلامتهم من شر لسانه وشر يده، فإن هذا أصل هذا الفرض الذي عليه للمسلمين، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده كيف يكون قائما بالفرض الذي عليه لإخوانه المسلمين؟! فسلامتهم من شره القولي والفعلي عنوان على كمال إسلامه».
وأما (الإيمان) فهو في اللغة التصديق، كما جاء في قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} أي: لست بمصدق لنا، وفي الشرع: يختلف معناه بحسب إطلاقه، وله حالتان أيضا:
- الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله عز وجل: {الله ولي الذين آمنوا} وقوله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق؛ ولهذا أجمع السلف على أنه: «تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية».
- والحالة الثانية: أن يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام؛ وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».
وقوله في الحديث: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» يبين حقيقة المؤمن وهو الأمين العفيف، قال في شرح الترمذي: «والمؤمن: أي الكامل، من أمنه الناس: أي جعلوه أمينا وصاروا منه على أمن على دمائهم وأموالهم لكمال أمانته وديانته وعدم خيانته».
قال ابن سعدي: «وفسر المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم؛ فإن الإيمان إذا دار في القلب وامتلأ به أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان التي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات، والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم، ومن كان كذلك عرف الناس هذا منه، وأمنوه على دمائهم وأموالهم، ووثقوا به؛ لما يعلمون منه من مراعاة الأمانة، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له».
وأما (الهجرة) فمَعْنَاهَا في اللغة الِانْتِقَال مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع , وفي الاصطلاح: هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.
وذكر ابن القيم أن الهجرة هجرتان: الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، والثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره إلى خوفه.
وحكم الهجرة باق إلى يوم القيامة، وهو قول عامة أهل العلم، ولهم في ذلك أدلة منها قوله عليه السلام: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» فقد قال ابن حجر: «والمهاجر هو بمعنى هجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع الفعل من اثنين، ولكنه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل ان يكون على بابه؛ لأن من لازم كونه هاجرا وطنه مثلا أنه مهجور من وطنه.
وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن، وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه. ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع معاني الحكم والأحكام».
قال ابن سعدي: «وفسر الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي، وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله، فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات والإقدام على المعاصي، والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام والسنة جزء من هذه الهجرة وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة».
وأما (المجاهد)؛ فالجهاد في اللغة: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء. وفي الاصطلاح للجهاد إطلاقان:
- الأول: بالمعنى الأعم: هو اسم جامع لكل سبب يحقق ما يحبه الله ودفع ما يبغضه سبحانه، كما قال شيخ الإسلام: «الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان»، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، قال ابن سعدي: «بذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته» وقوله صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله».
الإطلاق الثاني للجهاد بالمعنى الأخص: وهو قتال مسلم كافرا غير ذي عهد بعد دعوته للإسلام وإبائه إعلاء لكلمة الله.
ويبين ابن القيم حقيقة الجهاد الشرعي ومراتبه المتعددة فيقول: «فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافق.
فجهاد النفس أربع مراتب أيضا:
- إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عمله شقيت في الدارين.
- الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
- الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
- الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين؛ فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السموات.
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان: إحداهما: جهاد على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، والثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني يكون بعده الصبر، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه، فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، ومن مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق.
قال ابن سعدي: «وفسر المجاهد بأنه الذي جاهد نفسه على طاعة الله؛ فإن النفس ميالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء، سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب، وهذه هي الطاعات: امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور.ومن أشرف هذا النوع وأجله مجاهدتها على قتال الأعداء ومجاهدتهم بالقول والفعل، فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين».
فهذا الحديث قد اشتمل على ذكر أوصاف حميدة، وألقاب كريمة، على المسلم أن يفحص نفسه بحثا عنها، فإن وجد خيرا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليجتهد في التحلي بها والتخلق بحقائقها؛ ليفوز بآثارها وثمراتها العاجلة والآجلة، والله الموفق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (82)
- للباطل جولة ثم يزول
للباطل صورعديدة، ومظاهر كثيرة، إلا أن حقيقته واحدة، ومآله إلى زوال، فالباطل زيف وسراب وإن انتفش وانتفخ وعلا في السماء، فمصيره إلى سقوط واضمحلال مهما طال الزمان.
فالباطل: نقيض الحق، وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال بطل الشيء: فسد وسقط حكمه، وأبطل الشئ: جعله باطلا كما قال تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل}.
قال ابن الجوزي: «الباطل ما لا صحة له، وضده الحق، ويقال: بطل الشيء: إذا تلف، وبطل البناء: انتقض، وقد فرق بعض العلماء بين الباطل والفاسد فقال: الباطل هو الذي لا وجود له، والفاسد: موجود إلا أنه قد اختل بعض شروطه، وذكر أهل التفسير أن الباطل في القرآن على أربعة أوجه:
- أحدها: الكذب، ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت: {إذا لارتاب المبطلون}، وفي حم السجدة: {لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه}.
- والثاني: الإحباط، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}، وفي سورة محمد: {لا تبطلوا أعمالكم}.
- والثالث: الظلم، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام}، وفي سورة النساء: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
- والرابع: الشرك، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تلبسوا الحق بالباطل}، وفي سورة النحل: {أفبالباطل يؤمنون}، وفي سورة العنكبوت: {والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون}، وقال بعض المفسرين: إن الباطل في هذه الآية الشيطان، فيكون ذلك وجها خامسا».
وللباطل على مر التاريخ صولات وجولات، وأيام ظهر فيها وارتفع، إلا أن سنة الله تعالى ثابتة في نصرة الحق دائما، وإبطال الباطل وإزالته وفضحه، فقد بشرنا الله تعالى بأنه ينصر الحق وأهله فقال سبحانه: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}، وقال تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون}.
فالباطل لا بقاء وإن جال جولة ردهة من الزمن، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْربُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ}، قال ابن كثير: «اِشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة عَلَى مَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاته وَبَقَائِهِ، وَالْبَاطِل فِي اِضْمِحْلَاله وَفَنَائِهِ».
وقال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}، قال ابن سعدي: «هذا وصف للباطل، ولكنه قد يكون له صولة ورواج إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك، ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته».
قال ابن كثير عن الآية الكريمة أن فيها تَهْدِيدا وَوَعِيدا لِكُفَّارِ قُرَيْش، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْ اللَّه الْحَقّ الَّذِي لَا مِرْيَة فِيهِ، وَلَا قِبَل لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّه بِهِ مِنْ الْقُرْآن وَالْإِيمَان وَالْعِلْم النَّافِع، وَزَهَقَ بَاطِلهمْ أَيْ اِضْمَحَلَّ وَهَلَكَ، فَإِنَّ الْبَاطِل لَا ثَبَات لَهُ مَعَ الْحَقّ، وَلَا بَقَاء، ونقل عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ: دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة وَحَوْل الْبَيْت سِتُّونَ وَثَلَثمِائَةِ صَنَمًا فَجَعَلَ يَطْعَنهَا بِعُودٍ فِي يَده وَيَقُول {جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل إِنَّ الْبَاطِل كَانَ زَهُوقًا}. أخرجه البخاري.
ومن الآيات الدالة على زوال الباطل قوله تعالى: {جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد}، قال ابن سعدي: «أي: ظهر وبان، وصار بمنزلة الشمس، وظهر سلطانه، {وما يبدئ الباطل وما يعيد}أي: اضمحل وبطل أمره، وذهب سلطانه، فلا يبدئ ولا يعيد».
وَقَال تعالى مبينا ظهور الحق على الباطل بقوة ووضوح: {بَلْ نَقْذِف بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِل}، قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإن كان باطل قيل وجودل به، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان ما يدمغه فيضمحل، ويتبين لكل أحد بطلانه، وهذا عام في جميع المسائل الدينية، لا يورد مبطل شبهة عقلية ولا نقلية في إحقاق باطل أو رد حق إلا وفي أدلة الله من القواطع العقلية والنقلية ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد».
فواجب المسلم إخلاص الدين لله تعالى، وحسن الإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يستنير بالعلم الشرعي، ويسترشد بتوجيهات العلماء المعتبرين حتى يسلم من اتباع الباطل والركون إليه، لأن الجهل وإتباع الهوى والتقليد الأعمى من مزالق الباطل ومدارج الشيطان لإغواء بني آدم للوقوع في حضيض الضلال والانغماس في الباطل، والله سبحانه يتولى المخلصين الصالحين، ويوفق الساعين للخير والمجتهدين، ولا يحب الفساد ولا المفسدين، وقد توعد الضالين المضلين، فليختر المسلم ما يحب أن يعرف به وينسب إليه، وما يريد أن يختم له به، فقد أخرج مسلم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُبعث كل عبد على ما مات عليه»، قال المُناوي: «أي يموت على ما عاش عليه ويبعث على ذلك»، وقد أشار القرآن الكريم لهذه القاعدة الكريمة بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }، فشتان بين أصحاب الحق علما وعملا، وأهل الباطل دعوة وانحرافا وإفسادا، نسأل الله تعالى السلامة والاستقامة، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن(83)
- قل كل يعمل على شاكلته
النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار
جبل الإنسان على السعي في جلب مصالحه، والبعد عما يضره ويؤذيه، وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء، إلا أن الاختلاف وقع في تحديد المصلحة التي يسعى الإنسان لتحصيلها، والمضرة التي يحرص على البعد عنها.
وللناس معايير مختلفة في تحديد المصالح والمفاسد، بحسب عقولهم المتفاوتة، وثقافاتهم المتنوعة، وأهوائهم المتضاربة، وبيئاتهم المتعددة.
والقرآن الكريم قرر هذا التعدد في السعي مشيرا إلى أسبابه وبواعثه؛ فقال تعالى: {قُلْ كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} قال الإمام الطبري: «يَقُول عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّد لِلنَّاسِ: كُلّكُمْ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته: عَلَى نَاحِيَته وَطَرِيقَته {فَرَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ} هُوَ مِنْكُمْ {أَهْدَى سَبِيلًا} يَقُول: رَبّكُمْ أَعْلَم بِمَنْ هُوَ مِنْكُمْ أَهْدَى طَرِيقًا إِلَى الْحَقّ مِنْ غَيْره.
ثم ذكر بإسناده عَنْ السلف تفسيرهم لقوله تعالى{كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته} فعن ابن عباس قال: عَلَى نَاحِيَته. وعَنْ مُجَاهِد قَالَ: عَلَى طَبِيعَته عَلَى حِدَته. وعَنْ قَتَادَة قال: عَلَى نَاحِيَته وَعَلَى مَا يَنْوِي. وقَالَ اِبْن زَيْد: عَلَى دِينه، الشَّاكِلَة: الدِّين».
وذكر القرطبي هذه الأقوال ثم قال: «وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن».
ويبين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن الشاكلة في اللغة هي: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها، ونشأ عليها، وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه، وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا، وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل.
ثم بين مناسبة ختام الآية لأولها في قوله {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}، فقال: «وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون، كقوله {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}».
ويوضح الشيخ السعدي؛ أن السعيد من عمل بالتوحيد، والمخذول من عمل للعبيد، فقال: «كل من الناس يعمل على شاكلته أي: ما يليق به من الأحوال؛ إن كانوا من الصفوة الأبرار لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين، أو من كانوا من غيرهم من المخذولين لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين، ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم».
ويؤكد ابن القيم هذا المعنى ويزيد عليه فيقول: «معنى الآية: كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، فالفاجر يعمل على ما يليق به، وكذلك الكافر والمنافق ومريد الدنيا وجيفتها: عامل على ما يناسبه ولا يليق به سواه، ومحب الصور: عامل على ما يناسبه ويليق به. فكل امريء يهفو إلى ما يحبه، وكل امريء يصبو إلى ما يناسبه، فالمريد الصادق المحب لله: يعمل ما هو اللائق به والمناسب له، فهو يعمل على شاكلة إرادته وما هو الأليق به، والمناسب لها.
والنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها.
وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه}، أي على ما يشاكله ويناسبه، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعاداته التي ألفها وجبل عليها. فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن المنعم، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكرالمنعم ومحبته والثناء عليه، والتودد إليه والحياء منه، والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله».
وقد جاء في السنة المطهرة إشارة إلى تنوع أعمال الناس وتفاوت سعيهم، وما ينتج عن ذلك من آثار في الدنيا والآخرة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» أخرجه مسلم.
قال النووي: «معناه كل إنسان يسعى بنفسه؛ فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أي يهلكها».
قال الشيخ ابن عثيمين: «قوله: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو» أي كل الناس يخرج مبكراً في الغدوة في الصباح وهذا من باب ضرب المثل. «فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» أي الغادي يبيع نفسه، ومعنى يبيع نفسه أنه يكلفها بالعمل، لأنه إذا كلفها بالعمل أتعب النفس فباعها.
ينقسم هؤلاء الباعة إلى قسمين: معتق و موبق، ولهذا قال: «فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا» فيكون بيعه لنفسه إعتاقاً إذا قام بطاعة الله كما قال الله عزّ وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} يشتري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عزّ وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.
والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة لله عزّ وجل حيث أمضى عمره خُسراناً، فهذا موبق لها أي مهلك لها.
لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة للقرآن إلى من يكون القرآن حجة له، ومن يكون حجة عليه، ذكر أن العمل أيضاً قد يكون على الإنسان وقد يكون للإنسان، فيكون للإنسان إذا كان عملاً صالحاً، ويكون عليه إذا كان عملاً سيئاً.
وانظر إلى هذا الحديث: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ» يتبين لك أن الإنسان لابد أن يعمل إما خيراً وإما شراً».
والذي يتأمل الشريعة الإسلامية يجد أن الله تعالى قد أكرم المسلمين بالهداية للدين، ففي الوقت الذي يحار الناس في معرفة سبيلهم وغايتهم، فيهلكون أنفسهم في أودية الدنيا المتشعبة، وتختلف أعمالهم ومقاصدهم، نجد النصوص الشرعية قد بينت أعلى المقاصد، وأسمى الغايات، وأوضحت السبل الموصلة إليها، والأمور المعينة عليها، كما حذرت من آفات الطريق وعقبات السبيل التي تصد الإنسان عن غايته، أو تحرفه عنها وتؤخره عن بلوغها، كما أن المآل والمصير بالنسبة للمسلم معلوم وواضح؛ إما جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وإما جهنم وبئس المصير، فالحمد لله على إحسانه وإنعامه إذ اختار لنا الإسلام دينا، ووفقنا إليه، وهو المسؤول أن يثبتنا عليه، وأن يرزقنا حسن القصد وحسن العمل، مع حسن الخاتمة وحسن العاقبة، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (85)
-الإسلام يهدم ما قبله
من رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة والإنابة، ودعاهم إليه، وحثهم عليه بأنواع المرغبات من تكفير السيئات، وتبديلها حسنات، ودخول الجنات، وبيان أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده إليه.
ومن أنواع الترغيب في الإنابة والإقلاع عن المخالفات بيان أن الإسلام والحج والهجرة والتوبة تهدم ما قبلها كما قال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحًا ثم اهتدى}(طه- 82)، وقال صلى الله عليه وسلم :« ويــتــوب الله على من تاب» متفق عليه.
فدخول الإسلام يهدم ما فعله الإنسان من ذنوب ومعاصي قبل ذلك، كما قال تعالى:{40 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ﯔ }، (الأنفال- 38) يبين الطبري المراد بالانتهاء:«إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كُفْرهمْ بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَقِتَالك وَقِتَال الْمُؤْمِنِينَ فَيُنِيبُوا إِلَى الْإِيمَان, يَغْفِر اللَّه لَهُمْ مَا قَدْ خَلَا وَمَضَى مِنْ ذُنُوبهمْ قَبْل إِيمَانهمْ وَإِنَابَتهمْ إِلَى طَاعَة اللَّه وَطَاعَة رَسُوله بِإِيمَانِهِمْ وَتَوْبَتهمْ».
ويبين اِبْن الْعَرَبِيّ الحكمة الربانية من ذلك فيقول:«َهَذِهِ لَطِيفَة مِنْ اللَّه سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلْق; وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِم, وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَآثِمَ; فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِب مُؤَاخَذَةً لَهُمْ لَمَا اِسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَة وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَة، فَيَسَّرَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَة عِنْد الْإِنَابَة, وَبَذْل الْمَغْفِرَة بِالْإِسْلَامِ, وَهَدْم جَمِيع مَا تَقَدَّمَ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَب لِدُخُولِهِمْ فِي الدِّين, وَأَدْعَى إِلَى قَبُولهمْ لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ, وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا تَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا».
وفي قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه دليل آخر على هذه الفضيلة، حيث قال:«لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: ابْسُطْ يمينك فلأبايعْك، فبسطَ يمينه، قال : فقبضتُ يدي، فقال:«مالك يا عمرو؟» قال: قلتُ: أردتُ أن أشْتَرِطَ، فقال: «تشترطُ بماذا»؟ قلتُ: أن يُغْفَر لي، قال:«أما علمتَ أن الإسلامَ يهدِم ما كان قبله؟ وأن الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» أخرجه مسلم، ومعنى (الإسلام يهدم ما كان قبله) قال النووي: «أي يسقطه ويمحو أثره». فلا يطالب به.
وعَنْ ابن مسعود قَالَ : قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» أخرجه البخاري وعند مسلم:«أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام».
ذهب ابن حجر إلى إن المراد بالإساءة في الحديث هي (الكفر)؛ لأنه غاية الإساءة وأشد المعاصي، فإذا ارتد ومات على كفره كان كمن لم يسلم فيعاقب على جميع ما قدمه، وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث «أكبر الكبائر الشرك»، وأورد كلا في أبواب المرتدين.
وأيد ذلك بقول ابن بطال:«عرضته على جماعة من العلماء فقالوا: لا معنى لهذا الحديث غير هذا، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية».
ويذهب النووي مذهبا قريبا من اختيار ابن حجر فيقول:«الصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين أن المراد (بالإحسان) هنا الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعا، وأن يكون مسلما حقيقيا، فهذا يغفر له ماسلف من الكفر بنص القرآن العزيز، والحديث الصحيح «الإسلام يهدم ما قبله» وبإجماع المسلمين، والمراد (بالإساءة) عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون منقادا في الظاهر مظهرا للشهادتين، غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باق على كفره بإجماع المسلمين، فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عمل بعد إظهارها؛ لأنه مستمر على كفره».
وقد أثار القرافي مسألة مهمة وهي ما الحقوق التي تسقط بالإسلام والحقوق التي لا تسقط بل يؤاخذ بها الإنسان؟
والجواب: هو التفريق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فيقول: «أما حقوق الله تعالى فلا تلزمه وإن كان ذميا مما تقدم في كفره لا ظهار ولا نذر ولا يمين من الأيمان ولا قضاء الصلوات ولا الزكوات ولا شيء فرط فيه من حقوق الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام « الإسلام يجب ما قبله».
أما حقوق العباد فيقول:«فيلزمه ثمن البياعات، وأجر الإجارات، ودفع الديون التي اقترضها ونحو ذلك، ولا يلزمه من حقوق الآدميين القصاص ولا الغصب والنهب». ثم ثم يبين الفرق أن حقوق العباد قسمان:
1- منها ما رضي به حالة كفره واطمأنت نفسه بدفعه لمستحقه فهذا لا يسقط بالإسلام؛ لأن إلزامه إياه ليس منفرا له عن الإسلام لرضاه .
2- وما لم يرض بدفعه لمستحقه كالقتل والغصب ونحوه فإن هذه الأمور إنما دخل عليها معتمدا على أنه لا يوفيها أهلها فهذا كله يسقط ؛ لأن في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيرا له عن الإسلام، فقدمت مصلحة الإسلام على مصلحة ذوي الحقوق .
وأما حقوق الله تعالى فتسقط مطلقا رضي بها أم لا ، والفرق بينها وبين حقوق الآدميين من وجهينhttps://majles.alukah.net/imgcache/2024/10/190.jpgأحدهما) أن الإسلام حق الله تعالى والعبادات ونحوها حق لله تعالى، فلما كان الحقان لجهة واحدة ناسب أن يقدم أحدهما على الآخر، ويسقط أحدهما الآخر لحصول الحق الثاني لجهة الحق الساقط.
وأما حق الآدميين فجهة الآدميين والإسلام ليس حقا لهم، بل لجهة الله تعالى فناسب أن لا يسقط حقهم بتحصيل حق غيرهم.
(وثانيهما) أن الله تعالى كريم جواد تناسب رحمته المسامحة، والعبد بخيل ضعيف فناسب ذلك التمسك بحقه، فسقطت حقوق الله تعالى مطلقا وإن رضي بها كالنذور والأيمان أو لم يرض بها كالصلوات والصيام، ولا يسقط من حقوق العباد إلا ما تقدم الرضى به فهذا هو الفرق بين القاعدتين .
وثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين» رواه مسلم، قال الإمام النووي:«وأما قوله صلى الله عليه وسلم https://majles.alukah.net/imgcache/2024/10/190.jpgإلا الدَّين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى».
وكذلك الحج فقد ورد في فضله ما يدل على أنه يمحو الذنوب، ويرجع منه الإنسان كيوم ولدته أمه، لكن هذا الفضل والثواب لا يعني سقوط الحقوق الواجبة ، سواء كانت حقوقا لله تعالى، كقضاء الصلاة والصيام، وما ثبت في ذمته من زكاة وكفارات ونذر، أو كانت حقوقا للعباد كالديون ونحوها.
قال ابن تيمية:«أجمعَ المسلمون أنه ـ أي: الحج ـ لا يَسقُط حقوقُ العباد كالدَّيْن ونحوِ ذلك، ولا يَسقُط ما وجب عليه من صلاةٍ، وزكاةٍ، وصيامٍ، وحق المقتول عليه وإن حجَّ ، والصلاة التي يَجبُ عليه قضاؤُها : يَجبُ قضاؤُها، وإن حَج ، وهذا كلُّه باتفاق العلماء».
وكذلك التوبة لا تسقط حقوق العباد، قال ابن كثير:«حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقدٌ على أنها لا تسقط بالتوبة، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة، وقد يكون للقاتل أعمالٌ صالحةٌ تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يَفضلُ له أجرٌ يدخل به الجنة، أو يعوض اللهُ المقتولَ من فضله بما يشاء، من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك».
وفي الختام يستفاد مما تقدم الأدلة والأقوال أن واجب العبد أن يتوب إلى الله تعالى من جميع الذنوب والخطايا، ومن شروط التوبة أداء حقوق العباد إذا أمكن ، وإلا عوضهم بما يقدر عليه من صدقة أو دعاء أو ثناء ونحو ذلك، كما يستفاد أن الأدلة لا تفهم بمجرد اللغة العربية، بل لابد من الرجوع إلى أقوال أهل العلم، واستعمال الضوابط الشرعية والقواعد الكلية لحسن الفهم وتجنب الزلل حتى لا يقع العبد في القول على الله بغير علم، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (85)
- تلك عاجل بشرى المؤمن
إذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظا بحفظ الله عن الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره
الإنسان يحب الأخبار السارة، وينشط للبشارات والأنباء الطيبة، ولهذا فإن الإسلام دين بشارة بالخير للمؤمنين، والتبشير من وظيفة المرسلين، كما قال تعالى:{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}(الأنعام48)، والبشارة صفة القرآن الكريم، كما وصفه الله تعالى بقوله:{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء:9).
والبشارة كما يعرفها الجرجاني بأنها:«كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه، ويستعمل في الخير والشر، وفي الخير أغلب».
وقد جاءت البشارة في القرآن على أوجه عديدة منها ؛ بشارة أرباب الإنابة بالهداية، كما قال تعالى:{وَالَّذِي نَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (الزمر:17-18).
ومنها بشارة المتقين بالفوز كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ { 63 } لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (يونس:63-64)، ومنها بشارة الخائفين بالمغفرة كما قال عزوجل: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ . فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)} (يس:11).
ومنها بشارة المطيعين بالجنة كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (البقرة:25)، ومنها بشارة المؤمنين بالعطاء الأخروي كما قال عز وجل:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (يونس:2)، وقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } (الأحزاب:47).
ويوضح الشيخ ابن سعدي معنى البشارة فيقول: «والبشارة هي الخبر أو الأمر السار الذي يعرف به العبد حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول».
ويبين -رحمه الله- مجالات البشارة ونطاقها، وأنها أخروية، ودنيوية فيقول: «أما في الآخرة فهي البشارة برضى الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث، يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على أيدي الملائكة، كما تواترت بذلك نصوص الكتاب والسنة.
وأما البشارة في الدنيا التي يعجلها الله للمؤمنين نموذجا وتعجيلا لفضله، وتعرفا لهم بذلك، وتنشيطا لهم على الأعمال فأهمها؛ توفيقه لهم للخير، وعصمته لهم من الشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة» متفق عليه.
فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظا بحفظ الله عن الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره؛ فإن الله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وإذا ابتدأ عبده بالإحسان أتمه، فأعظم منة وإحسان يمن به عليه إحسانه الديني، فيسر المؤمن بذلك أكمل السرور، سرور بمنة الله عليه بأعمال الخير وتيسيرها؛ لأن أعظم علامات الإيمان محبة الخير، والرغبة فيه، والسرور بفعلهن، وسرور ثان بطمعه الشديد، في إتمام الله نعمته عليه، ودوام فضله».
ومن البشارات الدنيوية ما أخرجه مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ».
قال النووي: «مَعْنَاهُ هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة لَهُ بِالْخَيْرِ, وَهِيَ دَلِيل عَلَى رِضَاء اللَّه تَعَالَى عَنْهُ, وَمَحَبَّته لَهُ, فَيُحَبِّبهُ إِلَى الْخَلْق, ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض. هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس مِنْ غَيْر تَعَرُّض مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ, وَإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم».
وقال ابن سعدي: «أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة أنها من البشرى، فإن الله وعد أولياءه وهم المؤمنون المتقون بالبشرى في هذه الحياة، وفي الآخرة، ومن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا عمل العبد عملا من أعمال الخير، ولا سيما الآثار الصالحة، والمشاريع الخيرية العامة النفع، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له، كان هذا من البشرى بأن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيرا وبركة.
ومن البشرى في الحياة الدنيا محبة المؤمنين للعبد لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} (مريم:96)، أي: محبة منه لهم، وتحبيبا لهم في قلوب العباد.
ومن ذلك الثناء الحسن؛ فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له، والمؤمنون شهداء الله في أرضه.
ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له؛ فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات.
فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ ». قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ ؟ قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ». أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «المبشرات: جمع مبشرة وهي البشرى، والمعنى: لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات، ثم فسرها بالرؤيا».
وسأل أبو الدَّرْدَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم عن قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (يونس:64) فَقَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» أخرجه الترمذي. وصححه الألباني.
والخلاصة أن البشارة للمؤمن مقدمة فضل الله تعالى عليه، وتمهيد لما هو مقدم عليه، فعليه أن يخلص العمل لله تعالى، ويحقق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك حقيقة الاستقامة التي هي من أسباب البشارة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)، وإذا حصل له شيء من البشارات فلا يعجب ولا يبطر، بل يتواضع ويشكر، ويزيد من العمل، ويكثر من الذكر، فهذا شأن العقلاء، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم حتى تتفطر قدماه عبودية وشكرا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه.. قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، فقال صلى الله عليه وسلم :« يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا» أخرجه مسلم.
نسأل الله تعالى أن يتولانا برحمته، وأن يزيدنا من فضله، وأن يكرمنا بطاعته، وأن يوفقنا لشكره وحسن عبادته، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمة ضالة المؤمن (86)
-الجواب الرقيق يسكت الغضب
الغضب غريزة إنسانية، فهو تغيّر يحصل عند فوران دم القلب؛ ليحصل عنه التشفي وطلب الانتقام، فالإنسان يغضب عندما يستثار، إلا أن الملاحظ في هذا الزمان انتشار سرعة الغضب بين الناس؛ ولأتفه الأسباب، فتقوم الخصومات، وتندلع المضاربات، بل قد يصل الأمر إلى ارتكاب أبشع الجرائم؛ بسبب سَوْرة الغضب وحدة الطبع.
وربما حمل صاحبه على إيذاء غيره، أو نفسه، كما بين ذلك العلماء بانطلاق لسانه بالشتم، والفحش الذي يستحي منه العاقل، ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه، رجع إلى نفسه، فيمزق ثوبه، ويلطم خده، وربما سقط صريعا، وربما أغمي عليه، وربما كسر الآنية، وضرب من ليس له في ذلك جريمة.
والشرع المطهر يحثنا على الحلم وضبط النفس، وعدم الاسترسال مع الغضب وآثاره الخطيرة، لئلا يقع الإنسان فيما لا تحمد عقباه، ويندم حيث لا ينفع الندم، كما قال عطاء بن أبي رباح: «ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم، فتهدِمُ عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله».
فمن النصوص الشرعية التي تحثنا على الصفح والعفو، قوله تعالى في ذكر صفات عباد الرحمن المحمودة: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } (الفرقان: 63)، قال الطبري: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ بِمَا يَكْرَهُونَهُ مِنَ الْقَوْل، أَجَابُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْقَوْل، وَالسَّدَاد مِنَ الْخِطَاب»، ونقل عن الحسن البصري أنه قَال: «حُلَمَاء لَا يَجْهَلُونَ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلَمُوا وَلَمْ يُسَفِّهُوا».
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الحلم والصفح، وعدم مقابلة الإساءة بمثلها، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلموعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال : يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- فضحك ثم أمر له بعطاء». متفق عليه.
قال ابن حجر: «وفي الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل، من الصفح، والإغضاء، والدفع بالتي هي أحسن».
وجاء زيد بن سعنة الحبر اليهودي قبل إسلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دَيْناً عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه، وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل، فانتهره عمر وشدد له في القول، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر: تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»، ثم قال: «لقد بقى من أجله ثلاث» أي: لم يحن وقت الدين، وأمر عمر يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعا؛ لما روعه، فكان سبب إسلامه، وذلك أن زيدا كان يقول: ما بقى من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد، إلا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما، فأخبرته بهذا فوجدته كما وصف» أخرجه الحاكم وابن حبان.
ويبين النبي الكريم أن الحلم، والصفح، والعفو، من الصفات المحمودة شرعا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.
قال النووي: «تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم، وليس هو كذلك شرعا، بل هو من يملك نفسه عند الغضب، فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه، ومشاركته في فضيلته بخلاف الأول، وفيه كظم الغيظ، وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة».
ولهذا تكررت الوصية منه صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: «لا تغضب». فردد مرارا، قال: «لا تغضب». أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «قال الخطابي معنى قوله: «لا تغضب» اجتنب أسباب الغضب، ولا تتعرض لما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه، لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة.
وقيل: معناه لا تغضب؛ لأن أعظم ما ينشأ عن الغضب (الكبر)؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب. وقيل : معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب.
وقال ابن التين : جمع صلى الله عليه وسلمفي قوله: «لا تغضب» خير الدنيا والآخرة لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدين.
ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن أعدى عدو للشخص شيطانه ونفسه، والغضب إنما ينشأ عنهما، فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى».
ولا شك أن عاقبة الحلم والعفو حميدة، ومآلها إلى خير، كما قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34)، قال الطبري: « يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد[: ادْفَعْ يَا مُحَمَّد بِحِلْمِك جَهْلَ مَنْ جَهِلَ عَلَيْك، وَبِعَفْوِك عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْك إِسَاءَة الْمُسِيء، وَبِصَبْرِك عَلَيْهِمْ مَكْرُوهَ مَا تَجِد مِنْهُمْ، وَيَلْقَاك مِنْ قِبَلهمْ. ونقل عَنِ ابْن عَبَّاس أنه قَالَ: «أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْد الْغَضَب، وَالْحِلْم وَالْعَفْو عِنْد الْإِسَاءَة، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمْ اللَّه مِنَ الشَّيْطَان، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوّهُمْ، كَأَنَّهُ وَلِيّ حَمِيم».
وقال عمر بن عبد العزيز: «قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغَضَب، والطمع».
وقال الحسن: «أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة، والرهبة، والشهوةِ، والغَضَب».
والصبر عند الغضب، والحلم على الجاهل يكسبان الإنسان أعوانا وأنصارا، كما قال علي بن أبي طالب: «إن أول ما عوّض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل».
بل إن الإحسان إليه يكسره ويخزيه، كما قال ابن عباس لرجل سبّه: «يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟»، فنكسّ الرجل رأسه واستحى مما رأى من حلمه عليه.
وما أحسن ما قاله الشافعي مبينا فضل الإعراض عن سفاهة الجاهلين:
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما
كعود زاده الإحراق طيبا
وقال أيضا :
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرّجـت عنـه
وإن خليته كمـدا يمـوت
فالله تعالى المسؤول أن يهدينا لأحسن الأخلاق، وأقوم الصفات، وأن يعصمنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه سميع قريب مجيب.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (87)
- اقرأ باسم ربك الذي خلق
تكرر لفظ العلم ومشتقاته في القرآن الكريم مئات المرات، مقترنا في مواضع كثيرة بالأمر بالتدبر في الآيات الكونية والشرعية؛ مما يؤكد بقوة أهمية العلم والتعليم في الإسلام، ولا أصرح دلالة على ذلك من قوله تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في أول وحي نزل عليه: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.} (العلق: 1- 5).
قال ابن كثير: «فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على - أن من كرمه تعالى - أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة. والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال: {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}، وفي الأثر:» قيدوا العلم بالكتابة».
وهذا الخطاب الرباني وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه تكليف للأمة عامة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوله: {اقْرَأْ} وإن كان خطابًا للنبى صلى الله عليه وسلم ولا، فهو خطاب لكل أحد، سواء كان قوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} هـو خطاب للإنسـان مطلقًـا، والنبى صلى الله عليه وسلم أول مـن سمع هـذا الخطاب، أو من النوع، أو هو خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم خصوصًا، كما قد قيــل في نظائــر ذلك مثل قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النساء: 79)، قيل: خطاب له، وقيل: خطاب للجنس، وأمثال ذلك. فإنه وإن قيل: إنه خطاب له، فقد تقرر أن ما خوطب به من أمر ونهي فالأمة مخاطبة به، ما لم يقـم دليل التخصيص. فقوله في هذه السورة: {اقْرَأْ}، كقوله في آخرها: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} هذا متناول لجميع الأمة.»
وللأسف فإن واقع بعض المسلمين اليوم يتنافى مع هذا الأمر الرباني، كما تؤكد ذلك الإحصائيات والتقارير، ففي صحيفة الشرق الأوسط نُشر تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 الذي أشرف عليه المئات من الخبراء والباحثين، ووصلوا إلى أن ثلث الرجال ونصف النساء لا يقرؤون.
وفي تقريرمنظمة اليونسكو عن القراءة في الوطن العربي يقول: إن المواطن العربي يقرأ ست دقائق في السنة، مع ملاحظة أن هذه الإحصائية محذوف فيها (قراءة الصحف والمجلات، والكتب الدراسية، وملفات العمل وقراءة التقارير، وقراءة الكتب للتسلية).
من الإحصائيات اللافتة أن كل 20 عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ كل ألماني 7 كتب في السنة، أي يقرأ 20 ألمانياً 140 كتاباً في السنة، في حين يقرأ 20 عربياً كتاباً فقط لا غير.
ولهذا يقرر العقاد هذه الحقيقة المرة بقوله: «إن القراءة لم تزل عندنا سخرة، يساق إليها الأكثرون طلبا لوظيفة أو منفعة، ولم تزل عند أمم الحضارة حركة نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجمود».
ويذهب د. عبد الكريم بكار إلى أن القراءة أصبحت عبئا على بعض الناس حتى تفنن في خلق الأعذار فيقول: «لأن القراءة لا تتمتع بأي أهمية لدى الكثيرين من أبناء الأمة، فإننا نجد لدى الكثير ممن نقابلهم براعة نادرة في اختلاق الأعذار التي تجعل جفاءهم للكتب أمرا طبيعيا».
فالآية الكريمة فيها تكليف الأمة بالقراءة بأسلوب بليغ، كما نبه إليه الشيخ ابن عاشور؛ حيث قال عن افتتاح السورة بكلمة (اقرأ): «وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال، فالمطلوب بقوله: (اقرأ) أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال».
ومن عناية الإسلام بالقراءة أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى بعض أسرى بدر بتعليم عدد من صبيان المدينة، فعن ابن عباس كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. قال: فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بِذِحْل بدر(يعني: بثأر) والله لا تأتيه أبداً. أخرجه الإمام أحمد وحسنه شعيب الأرناؤوط.
والقراءة كما يعرفها الفيروزآبادي هي(الدراسة والتفقه)، فالقراءة عنده تشتمل على أمرين: تتبع الكلمات بالنظر، مع الفهم والاستيعاب.
وقد اتسع مفهوم القراءة ليصبح أداة لتنمية خبرات القارئ العلمية والثقافية، ورافدا لربط الإنسان بعالمه، ووسيلة لحل مشكلاته، وسبيلا للترفيه والاستمتاع.
فقراءة الكتب النافعة، ومطالعة المؤلفات المفيدة سبيل لتحصيل العلم، والنأي بالنفس عن الجهل، وامتثال الأمر الشرعي في قوله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» أخرجه ابن ماجه، وابن عبدالبر، وصححه الألباني. وتحصيل العلم يكون بسؤال أهل العلم والتفقه عليهم، وكذلك يكون بمطالعة المصنفات المفيدة المعتبرة، قال الشيخ محمد الطاهر: «تحصيل العلوم يعتمد أمورا ثلاثة: أحدها: الأخذ عن الغير بالمراجعة والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب، فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر، ونقلها إلى الأقطار النائية، وفي الأجيال الآتية.والثاني: التلقي من الأفواه بالدرس والإملاء. والثالث: ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات، وهذان داخلان تحت قوله تعالى:{علم الإنسان ما لم يعلم}».
وحري بالمسلم أن يتوجه لتحصيل العلم، وينفق أوقاته في طلبه، ليعبد الله تعالى على بصيرة، ويصحح اعتقاده وعمله وخلقه، ويتجنب الزلل والمعاصي والضلال.
ولابد من الاستعانة بالله تعالى في كل الأمور، ومنها تحصيل العلم؛ ولهذا قال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : {اقرأ باسم ربك}. قال ابن عاشور: «أي: قل : باسم الله، فتكون الباء للاستعانة، ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة.
وذكر احتمالا ثانيا، وهو أن تكون الباء للمصاحبة أي: اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك اسم ربك، فالمصاحبة: مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله، ويكون هذا إثباتا لوحدانية الله بالإلهية، وإبطالا للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون، يقولون: باسم اللات، باسم العزى، فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوحي».
وإذا حصل للمسلم العلم النافع من القراءة والمدارسة، عليه أن يتواضع لربه الذي خلقه من علقة، وعلمه ما لم يعلم، ولهذا جاءت الإشارة إلى بدء خلق الإنسان في الآية وربط العلم بتعليم الله تعالى للإنسان، حتى لا يفخر بعلمه، ولا ينسى أصله وبدء خلقه، وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمـة ضالـة المؤمن (88)
- البركة مع أكابركم
أولى الإسلام كبار السن وذوي الحكمة وأصحاب الخبرة اهتماما كبيرا؛ وذلك لما لهم من التقدم في الإسلام، والحنكة في الأمور، ولما يتحلى به الكبير عادة من الرزانة والوقار، وعدم التعجل في الأمور والتهور في التصرفات كما هو الحال في الشباب إجمالا.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» رواه الترمذي وقال: «قال بعض أهل العلم: «معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس منا» يقول: ليس من سنتنا، ليس من أدبنا».
أولى الإسلام كبار السن وذوي الحكمة وأصحاب الخبرة اهتماما كبيرا؛ وذلك لما لهم من التقدم في الإسلام، والحنكة في الأمور، ولما يتحلى به الكبير عادة من الرزانة والوقار، وعدم التعجل في الأمور والتهور في التصرفات كما هو الحال في الشباب إجمالا.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» رواه الترمذي وقال: «قال بعض أهل العلم: «معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ليس منا» يقول: ليس من سنتنا، ليس من أدبنا».
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه». رواه أحمد والطبراني وإسناده حسن.
وعن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح أبي داود).
ومعنى قوله: «إِنَّ مِن إجلالِ الله» أي: تبجيله وتعظيمه. ومعنى قوله: «إكرام ذي الشيبة المسلم» أي: تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام، بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، ونحو ذلك، كل هذا مِن كمالِ تعظيم الله، لحرمته عند الله.
قال ابن زين الدين: «أي من أكرم ذا الشيبة وحامل القرآن فقد أجلّه لله تعالى، أو أجلّ هو الله تعالى، وإنما كان ذلك من إجلال الله لكون الأول عبدا قديم العهد في الطاعة، والثاني قد أدرج بين جنبيه الوحي الهادي إلى الحق».
وقال طاوس: «من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد»، قال البغوي معقبا: «قلت: إذا اجتمع قوم فالأمير أولاهم بالتقديم، ثم العالم، ثم أكبرهم سنا، ولا ينبغي للعالم أن يتقدم أباه وأخاه الأكبر لما عليه من حق الوالد والأخ الأكبر».
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في هذا الباب فعن أسماء قَالَتْ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ (عام الفتح)، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ، يَعُودُهُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ [، قَالَ: «هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ», فَأَسْلَمَ. أخرجه الإمام أحمد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان، فأُوحي إليه: أن أعط السواك أكبرهما». وعن عبد الله بن كعب: «كان صلى الله عليه وسلم إذا استن أعطى السواك الأكبر، وإذا شرب أعطى الذي عن يمينه».
قال ابن بطال: «فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام، ومن ثَم كل وجوه الإكرام».
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أراني في المنام أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لى: كبّـر، فدفعته إلى الأكبر منهما» متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أمرني جبريل أن أقدم الأكابر» صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فهذه بعض الأدلة الشرعية في تقديم الكبير والمسن في وجوه الإكرام عامة، قال ابن عبد البر: «من أدب المواكلة والمجالسة أن الرجل إذا أكل أو شرب، ناول فضله الذي على يمينه كائنا من كان، وإن كان مفضولا، وكان على يساره فاضلا، وتقديم الأكبر ينزل على تقديم الشراب والطعام ابتداءً، ثم يليه من كان على يمينه». ويتقوى هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ حيث قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال: ابدؤوا بالكبير» أخرجه أبو يعلى وقال الحافظ في الفتح: سنده قوي.
ويتجلى توقيرالكبير في الأحوال العملية، فهو أولى بالسلام عليه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» متفق عليه، قال ابن حجر مبينا الحكمة في هذا الترتيب: «تسليم الصغير لأجل حق الكبير؛ لأنه أمر بتوقيره والتواضع له».
كما أن الكبير أولى بالبدء بالكلام من غيره، فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْل،ِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِم،ْ فَبَدَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «كَبِّرْ الْكُبْرَ» الحديث متفق عليه.
قال النووي: «وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل ولهذا نظائر؛ فإنه يقدم بها في الإمامة، وفي ولاية النكاح ندبا وغير ذلك».
وقال ابن حجر: «المراد الأكبر في السن إذا وقع التساوي في الفضل وإلا يقدم الفاضل في الفقه والعلم إذا عارضه السن».
وانظر إلى أدب الصحابة الكرام مع الكبار واحترامهم، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني».
وقال ابن عمر قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً }(إبراهيم:24) فقال: «أتدرون ما هي؟» قال ابن عمر: لم يخف عليَّ أنها النخلة، فمنعني من الكلام مكان سني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هي النخلة» رواه البزار وأصله في البخاري، قال ابن حجر: «وفيه توقير الكبير، وتقديم الصغير أباه في القول وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب».
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: «البركة مع أكابركم» أخرجه الحاكم والبيهقي وصححه الشيخ الألباني.
قال المناوي في فيض القدير مبينا معنى قوله: «البركة مع أكابركم»، المجربين للأمور المحافظين على تكثيرالأجور، فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم، أوالمراد من له منصب العـلم وإن صـغر سنه فيجب إجلالهم حفظا لحرمة ما منحهم الحـق سبحانه وتعالى، وقـال شارح الشهاب: هـذا حث على طلـب البركة في الأمور والتبحبـح في الحاجات بمراجعة الأكابر لما خصوا به من سبق الوجـود وتجربة الأمور وسـالف عبادة المعبود، قـال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} (يوسف:80)، وكان في يد المصطفى صلى الله عليه وسلم سواك فأراد أن يعطيه بعض من حضر فقـال جبريل عليه السلام: كبر كبر فأعطـاه الأكبر، وقد يكون الكبير في العلم أو الدين فيقدم على من هو أسن منه. اهـ
يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر». أخرجه الطبراني وصححه الألباني.
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه : «لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، وعن أمنائهم وعلمائهم , فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا».
فالمطلوب من المسلم أن يلجم حماس الشباب بحكمة الشيوخ، وأن يقيد اندفاع الشباب بوقار الكبار، فالغيرة الدينية بلا حكمة تهور مذموم، والاستعجال في الأمور قبل استشارة ذوي العلم والحكمة يفتح باب المهالك، ويوقع الإنسان في الزلل والندامة، والواقع خير شاهد وبالله التوفيق.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (89)
-لا شرف مع سوء أدب
هذه الحكمة من روائع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الخليفة الراشد والصحابي الجليل، يصور من خلالها طبيعة إنسانية، وخلقا رفيعا.
فالطبيعة الإنسانية تتمثل في كون الإنسان يحب أن يكون حسن الصيت، جميل الذكر، فالشَّرَفُ في اللغة الموضع العالي الذي يُشرف على ما حوله، كما يطلق الشَّرَفُ على العُلُوُّ والمجد؛ فشرُف الشّخص علو منزلته، وسمو قدره.
والخلق الرفيع الذي اشترط هو الأدب، وهو كما عرفه المناوي بقوله: «الأدب رياضة النفوس، ومحاسن الأخلاق، ويقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل».
وقال ابن القيم: «الأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا»، فهو الأخذ بمكارم الأخلاق، وقال عبد الله بن المبارك: «قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعوناتها، وتجنب تلك الرعونات».
فالعاقل يحرص على أن يكون حميد السمعة، طيب الثناء، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى سبيل ذلك ألا وهو التزام الشرع المنزل، والاستقامة على الدين الحنيف، فقال تعالى:{وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (الخرف:44)، قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش {وسوف تسألون}، يقول: وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه؟».
ونقل عن ابن عباس وغيره في قوله: {وإنه لذكر لك ولقومك} يقول: إن القرآن شرف لك.
قال الطاهر مبينا البلاغة في كلمة (ذكر) وأن المراد: أن هذا الدين يكسبه ويكسب قومه حسن السمعة في الأمم، فمن اتبعه نال حظه من ذلك، ومن أعرض عنه عُـدّ عِداد الحمقى، مع الإشارة إلى انتفاع المتبعين له في الآخرة، واستضرار المعرضين عنه فيها، وتحقيق ذلك بحرف الاستقبال.
والذكر يحتمل أن يكون ذكر العقل؛ أي: اهتداؤه لما كان غير عالم به، فشبه بتذكر الشيء المنسي وهو ما فسر به كثير الذكر بالتذكير، أي الموعظة، ويحتمل ذكر اللسان؛ أي: أنه يكسبك وقومك ذكرا، والمعنى: أن القرآن سبب الذكر لأنه يكسب قومه شرفا يذكرون بسببه.
وقد سأل إبراهيم عليه السلام ربه الذكر الحسن فقال تعالى على لسان إبراهيم: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء:84)، قال الطبري: «واجعل لي في الناس ذكراً جميلاً، وثناءً حسناً باقياً فيمن يجيء من القرون بعدي، قال ابن زيد: اللسان الصدق: الذكر الصدق والثناء الصالح».
قال ابن كثير: «اجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير».
وقال الله تعالى عن ذرية إبراهيم عليه السلام: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ} (ص:45-48)، أي: شرف وثناءٌ جميل يُذكَرون به، كما قال الطاهر: «ويجوز أن يكون ذكرى مرادف الذكر بكسر الذال، أي : الذكر الحسن، كقوله تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} وتكون الدار هي الدار الدنيا».
وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (مريم:50) قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: ورزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل من الناس. ونقل عن ابن عباس في قوله: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا}، يقول: الثناء الحسن.
ويبين البغوي كيفية الثناء الحسن فيقول: «يعني ثناء حسنا رفيعا في كل أهل الأديان، فكلهم يتولونهم، ويثنون عليهم».
فتحري الإنسان حسن السمعة والذكر الطيب مشروع إذا كان خالصا لوجه الله تعالى لا رياء ولا سمعة، فقد نقل ابن العربي عن الإمام مالك أنه قال: «لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا، ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح، وقد قال الله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} (طه:39)، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه الله».
وقد قال صلى الله عليه وسلم : «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» رواه أحمد وهوصحيح.
وأما الحرص على الشرف والسمعة فذلك مفسد لدين الإنسان، وقد صور ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تصويرا بليغا في قوله: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الشراح: «ومعناه ليس ذئبان جائعان أرسلا في جماعة من جنس الغنم بأشد إفسادا لتلك الغنم من حرص المرء على المال والجاه، فإن إفساده لدين المرء أشد من إفساد الذئبين الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر».
وذكر الحديث ثم قال: «فذم النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على المال والشرف؛ وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم».
فكون الإنسان ممدوح الخلال، مأثور المحامد، إنما يكون بمدى استقامته على دين الله تعالى ظاهرا وباطنا، ووقيامه بالواجبات الدينية والدنيوية، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، قال ابن القيم: «فإن أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب».
وقال الراغب: «حق الإنسان في كل فضيلة أن يكتسبها خلقًا، ويجعل نفسه ذات هيئة مستعدة لذلك، سواء أمكنه أن يبرز ذلك فعلًا أم لم يمكنه، وذلك بأن يكون على هيئة الأسخياء والشجعان والحكماء والعدول، وإن لما يكن ذا مال يبذله، ولا عرض له مقام تظهر فيه نجدته، ولا معاملة بينه وبين غيره تبرز فيها عدالته».
وقد قيل لبعض الحكماء: هل من جود يعم به الورى، قال: نعم، أن تحسن خلقك وتنوي لكل أحد خيرًا.
وللأسف يريد بعض الناس أن يحوز شرفا وسؤددا، وليس له رصيد من الفضائل الذاتية؛ فلا علم نافع، ولا عمل صالح، ولا تخلى عن عيوبه وسوء خلقه، إنما يتكئ على فضائل آبائه وأجداده، ويعد ذلك من حسناته ومآثره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه: من كان عمله ناقصا، لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي ألا يتكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل».
فلا شرف بلا أدب، ولا وجاهة بغير طاعة، ولا رصيد حقيقيا للإنسان إلا ما قدم. قال تعالى مقررا العدل الإلهي :{ألا تزر وازرة وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 38-39)، وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (المؤمنون:101). قال ابن كثير: «لا تنفع الأنساب يومئذ، ولا يرثي والد لولده، ولا يلوي عليه».
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (90)
- الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله
كل مسلم يحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويرغب في دخول الجنة والنجاة من النار، فهي أمنية كل مسلم، ومقصد كل تقي، وقد يتصور بعض الناس أن طريق الجنة طويل وشاق، يحتاج إلى أعمال متعبة، وجهود مضنية، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يبشرنا بأن طريق الجنة سهل ميسر قريب لمن وفقه الله تعالى وأعانه.
فقد أخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي [: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك».
قال ابن حجر: «(شراك النعل) هو السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل، ويطلق أيضا على كل سير وقربه من القدم، ثم نقل عن ابن بطال في شرحه للحديث قال: «فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقربة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء».
قال ابن حجر: «فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها».
وقال ابن الجوزي مؤكدا هذه الحقيقة: «معنى الحديث: أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية».
ويعلل زين الدين المصري موضحا سبب قرب الجنة والنار من المكلف فيقول: «وإنما كانت الجنة والنار أقرب من شراك النعل؛ لأن سبب دخولهما مع الشخص هو العمل الصالح والسيء، وهو أقرب إليه من شراك نعله». وقال الزيداني في المفاتيح: «يعني من عمل عملا صالحا تكون الجنة قريبة منه، ومن عمل سوء تكون النار قريبة منه».
قال الشيخ ابن عثيمين: «هذا الحديث يتضمن ترغيبا وترهيبا:
يتضمن ترغيبا في الجملة الأولى وهي: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله»، وشراك النعل هو السير الذي على ظهر القدم، وهو قريب من الإنسان جدا، ويضرب به المثل في القرب، وذلك لأنه قد تكون الكلمة الواحدة سببا في دخول الجنة، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة الواحدة من رضوان الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت فإذا هي توصله إلى جنة النعيم.
ومع ذلك فإن الحديث أعم من هذا، فإن كثرة الطاعات واجتناب المحرمات من أسباب دخول الجنة، وهو يسير على من يسره الله عليه، فأنت تجد المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام يصلي براحة وطمأنينة وانشراح صدر ومحبة للصلاة، ويزكي كذلك، ويصوم كذلك، ويحج كذلك، ويفعل الخير كذلك فهو يسير عليه، سهل قريب منه، وتجده يتجنب ما حرمه الله من الأقوال والأفعال وهو يسير عليه.
وأما-والعياذ بالله-من قد ضاق بالإسلام ذرعا، وصار الإسلام ثقيلا عليه فإنه يستثقل الطاعات، ويستثقل اجتناب المحرمات، ولا تصير الجنة أقرب إليه من شراك نعله.
وكذلك النار-وهي الجملة الثانية في الحديث-وهي التي فيها التحذير، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «والنار مثل ذلك» أي: أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا وهي من سخط الله فيهوي بها في النار كذا وكذا من السنين وهو لا يدري، وما أكثر الكلمات التي يتكلم بها الإنسان غير مبال بها، وغير مهتم بمدلولها، فترديه في نار جهنم، نسأل الله العافية».
فالذي يتأمل الإسلام العظيم يجد السهولة واليسر في كل جوانبه وأحكامه، فعقائده ميسرة ليس فيها غموض ولا تعقيد، وعباداته سهلة ليس فيها مشقة ولا إرهاق، وأخلاقه رفيعة ليس فيها مخالفة الفطرة ولا الخروج عن مقتضيات العقل القويم والعرف السليم، فكل أحوال تدعو الإنسان للدخول فيه والتعبد لله تعالى من خلال هديه وأحكامه، كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:78)، وقال تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة:185).
فطرق الجنة كثيرة ومتنوعة، وكلها سهلة ميسرة على من يسرها الله تعالى عليه كما قال عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرا شرا يره}، قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا شامل عام للخير والشر كله، لأنه إذا رأى مثقال الذرة-التي هي أحقر الأشياء-وجوزي عليها فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى، وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلا، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرا».
وقال تعالى: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى}(الليل:5-7)، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: صدّق بـ«لا إله إلا الله» وما دلت عليه من جميع العقائد الدينية، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي» وأعطى ما أمر به من العبادات المالية كالزكاوات، والعبادات البدنية كالصلاة، والمركبة منهما كالحج والعمرة، واتقى ما نهي عنه من المحرمات والمعاصي {فسنيسره لليسرى} أي: نسهل عليه أمره، ونجعل كل خير ميسرا له وميسرا له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك.(بتصرف)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا كثرة أبواب الخير وتنوعها: «الإيمان بضع وسبعون شعبة-أو بضع وستون شعبة-فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم مبينا تفاوت الأعمال وعظم ما يترتب عليها من المصالح أو الأضرار: «عرضت عليّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن» أخرجه مسلم.
وفي الحديث: «لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» أخرجه مسلم، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة تدل على تنوع أعمال الخير وكثرتها لتناسب أحوال الناس واختلاف طبائعهم، فلو حمل الناس على نوع واحد من العمل لشق عليهم ولضاقت بهم السبل، لكن من سعة رحمة الله تعالى، وعظيم فضله، وكثرة إحسانه تعددت أبواب الخير، ومسالك الهدى لتشمل الناس كافة، وليدخل فيها حتى الهمّ بالخير ولو لم يفعله المكلف فيجزى على حسن قصده وصدق عزمه، فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّـن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»، زاد مسلم: «ومحاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك» قال ابن رجب: «بعد هذا الفضل العظيم من الله والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتجاوز عن السيئات لا يهلك على الله إلا من هلك وألقى بيده إلى التهلكة وتجرأ على السيئات، ورغب عن الحسنات وأعرض عنها».
نسأل الله العظيم أن يعيننا على أنفسنا، وأن يوفقنا للطاعة ويثبتنا عليها ويتقبلها منا.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (91)
- رضي الله عنهم ورضوا عنه
من أبرز معالم الشخصية الإسلامية السوية الرضا والطمأنينة والسكينة؛ وذلك لما قام بقلب المسلم من الإيمان واليقين، والقبول والانقياد، فلا يعرض له حيرة ولا شك، ولا يعارض أمر الله تعالى بعناد ولا اعتراض، وإذا وقعت منه زلة سارع إلى التوبة والإنابة.
ويعرف المناوي الرضى بأنه: «طيب النفس بما يصيبه ويفوته، مع عدم التغير». والرضوان: اسم مبالغة في معنى الرضى، وعرفه الجرجاني بأنه: «سرور القلب بمرّ القضاء».
ومن صفات الله تعالى الحسنى (صفة الرضا)، كما قال تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة: 3). قال ابن سعدي: «أي: اخترته واصطفيته لكم دينا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرا لربكم، واحمدوا الذي منّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها».
وقال تعالى:{لقد رضي الله عن المؤمنين} (الفتح: 18). قال ابن سعدي: «يخبر تعالى -بفضله ورحمته- برضاه عن المؤمنين؛ إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم واكتسبوا بها سعادة الدينا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة التي يقال لها بيعة الرضوان لرضا الله عن المؤمنين فيها».
والله تعالى أحق من يسعى العبد في طلب رضاه كما قال تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} قال الطبري: «أحق أن يرضوه بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا {إن كانوا مؤمنين} (التوبة: 62). يقول: إن كانوا مصدقين بتوحيد الله، مقرين بوعده ووعيده».
وقال ابن سعدي: «لأن المؤمن لا يقدم شيئا على رضا ربه، فدل هذا على انتفاء إيمانهم؛ حيث قدموا رضا غير الله ورسوله، وهذا محاداة لله ومشاقة له».
والإخلاص لله تعالى هو أساس الرضى وسببه، قال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما}(النساء: 114). قال ابن سعدي: «فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت، وفي كل جزء من أجزاء الخير؛ ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص، فيكون من المخلصين وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا؛ لأن النية حصلت، اقترن بها ما يمكن من العمل».
وقال تعالى:{أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}(آل عمران: 162). قال ابن سعدي: «يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان الله والعمل على ما يرضيه، كمن ليس كذلك ممن هو مكب على المعاصي، مسخط لربه، هذان لا يستويان في حكم الله وحكمة الله وفي فطر عباد الله».
ولهذا جاء ذلك صريحا في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا: فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» أخرجه مسلم. قال الشيخ ابن سعدي: «فيه إثبات الرضى لله، وذكر متعلقاته، وإثبات الكراهة منه، وذكر متعلقاتها، فإن الله جل جلاله من كرمه على عباده، يرضى لهم ما فيه مصلحتهم، وسعادتهم في العاجل والآجل؛ وذلك بالقيام بعبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له بأن يقوم الناس بعقائد الإيمان وأصوله، وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، وبالأعمال الصالحة والأخلاق الزاكية، كل ذلك خالصا لله موافقا لمرضاته على سنة نبيه، ويعتصموا بحبل الله وهو دينه الذي هو الوصلة بينه وبين عباده فيقومون به مجتمعين متعاونين على البر والتقوى».
وقد مدح الله المؤمنين لالتماسهم رضى الله تعالى في أعمالهم، بخلاف المنافقين الذين يراؤون ولا يخلصون؛ فقال تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}(البقرة: 52). قال ابن كثير: «لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة، فقال: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}».
قال الطبري: «يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}» (التوبة: 111).
وقال تعالى:{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله} (البقرة: 265). قال ابن عاشور: «عطف مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله على مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس لزيادة بيان ما بين المرتبتين من البون، وتأكيدا للثناء على المنفقين بإخلاص» (آل عمران: 15).
ورضوان الله تعالى من أعظم ما يجازى به المؤمنون يوم القيامة قال تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}.
قال ابن عاشور: «وعطف {رضوان من الله} على ما أعد للذين اتقوا عند الله؛ لأن رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي; لأن رضوان الله تقريب روحاني،قال تعالى:{ورضوان من الله أكبر} (التوبة: 72).
قال ابن حيان: «بدأ أولا بذكر المقر، وهو الجنات التي قال فيها: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} (الزخرف: 71).ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التام من الأزواج المطهرة، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني، حيث علم برضا الله عنه، كما في الحديث أنه تعالى يسأل أهل الجنة فيقول: «هل رضيم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا». ففي هذه الآية الانتقال من عال إلى أعلى منه».
وقال الله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} (البينة: 8). قال ابن سعدي: «فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، ورضوا عنه بما أعد لهم من أنواع الكرامات»، وقال القرطبي: «رضي الله عنهم أي رضي أعمالهم ; كذا قال ابن عباس، ورضوا عنه أي رضوا هم بثواب الله - عز وجل -. ذلك أي الجنة».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من لزم ما يرضي الله من امتثال أوامره واجتناب نواهيه لاسيما إذا قام بواجبها ومستحبها فإن الله يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الله، كما قال في الحديث الصحيح: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه..». الحديث. وذلك أن الرضا نوعان: أحدهما: بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعد محظور {وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إليه راغبون} (التوبة:59).
والنوع الثاني: الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل، فهذا رضى مستحب في أحد قولي العلماء، وليس بواجب، وقد قيل:إنه واجب، والصحيح أن الواجب هو الصبر، وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان، فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فان الله لا يرضاه كما قال:{ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر:7). وقال تعالى:{فإن ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} (التوبة:96).
وقال صلى الله عليه وسلم : «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَام ِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» أخرجه مسلم، وقال: «ما من مسلم أو إنسان أو عبد يقول حين يمسي، وحين يصبح:رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة» أخرجه ابن ماجه.
قال ابن القيم: «هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما تنتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته - سبحانه - وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له، والرضا بدينه والتسليم له، ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا، وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها».
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن القصد وحسن العمل، ونسأله تعالى رضاه والجنة، ونعوذ به من سخطه والنار، والله المستعان.
اعداد: د.وليد خالد الربيع
رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن (92)
- ساعة وساعة
يذهب بعض المسلمين - هداهم الله تعالى -ـ إلى تقسيم أوقاتهم، وتوزيع ساعاتهم إلى أوقات للطاعة وأخرى للمعصية، وساعة لله بزعمهم، وساعة لقلوبهم، مستدلين بحديث: «روحوا القلوب ساعة بساعة»، وهو حديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الضعيفة والموضوعة، وربما رفع بعضهم شعار: (ساعة لقلبك وساعة لربك)، ثم نسبوا ذلك الشعار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً، ولا يخفى على من تأمل هذه الكلمات ما فيها من الانحراف العقدي والجرأة على الله تعالى؛ حيث أوهم هذا اللفظ أن القلب ند لله تعالى، له حظ من وقت العبد ونصيب من حياته كما لله تعالى.
والقرآن الكريم يؤكد أن حياة المسلم كلها لله تعالى كما قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿162﴾لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام:162-163) قال الشيخ ابن سعدي: ومن أخلص في صلاته ونسكه استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله، وقوله: {ومحياي ومماتي} أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليّ في مماتي الجميع لله رب العالمين لا شريك له في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير، وليس هذا الإخلاص لله ابتداعا مني، وبدعا أتيته من تلقاء نفسي، بل بذلك أمرت أمرا حتما، لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله{وأنا أول المسلمين} من هذه الأمة.
وسبب انتشار هذا المفهوم الخطأ لدى بعض المسلمين هو فهمهم المغلوط لحديث حنظلة المشهور بحديث (ساعة وساعة)، وحملهم الحديث على غير المقصود الشرعي، وتأولهم له على غير الهدي النبوي.
فقد روى مسلم عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده؛ أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة». ثلاث مرات».
فسبب ورود الحديث هو خوف حنظلة وأبي بكر رضي الله عنهما من النفاق لما يجدونه من اختلاف أحوالهم الإيمانية بين أن يكونوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندما يكونون مع أهليهم وما يتبع ذلك من المخالطة المباحة، وليس في الحديث ما يدل على تهاونهم في الطاعات، أو جرأتهم على المعاصي تحت ذريعة (ساعة وساعة).
قال النووي رحمه الله :قوله: «نافق حنظلة» معناه: أنه خاف أنه منافق؛ حيث كان يحصل له الخوف في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك».
وقال القاضي عياض: فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن الحال منهم لا يقتضي بقاءهم على وتيرة واحدة، وأن مثل هذا ليس بنفاق.
فالحديث من أدلة التوازن الشرعي المطلوب من المسلم؛ حيث لا يقدم مستحب على واجب، ولا يؤدي واجب إلى ضياع ما هو أوجب منه، ويدل على لزوم مراعاة الفطرة الإنسانية، وتلبية الحاجات البشرية وفق الأحكام الشرعية دون إفراط أو تفريط، ولا غلو أو تقصير.
فقوله صلى الله عليه وسلم : «ساعة وساعة»، يوضحه الشيخ ابن عثيمين بقوله: يعني ساعة للرب -عز وجل-، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ، ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم .
وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجل له حق فيعطي لله حقه -عز وجل-، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عزوجل براحة؛ لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها تعب، وأضاع حقوقاً كثيرة .
وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف، يكون كذلك أيضاً في العلوم، فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللاً في مراجعة كتاب ما، فلينتقل إلى كتاب آخر، وإذا رأى من نفسه مللاً من دراسة فن معين، فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريح نفسه، ويحصل علماً كثيراً، أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف، إلا ما شاء الله؛ فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب، ثم يأخذ عليه ويكون هذا دأبا له، ويكون ديدناً له، حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
والأدلة الشرعية على هذا الأصل كثيرة منها قوله تعالى في صفة عباد الرحمن:{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء:29).
وقال سبحانه مبينا المنهج المعتدل:{وَابْتَ غِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}( القصص:77).
قال ابن كثير: أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا ولِزَوْرك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه.
قال الشيخ ابن سعدي: واستمتع بدنياك، استمتاعا لا يثلم دينك، ولا يضر بآخرتك.
وذكر البخاري عن أبي حجيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء وهي زوجة متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له: كل فإني صائم فقال :ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم .فنام ،ثم ذهب ليقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «صدق سلمان».
قال الحافظ ابن حجر: «وإن لنفسك عليك حقا» أي: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله للإنسان من الأكل والشرب والراحة التي يقوم بها بدنه ليكون أعون على عبادة ربه.
وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم التوازن والتكامل بين الواجبات والحاجات، فعن أنس قال: جاء ثلاثة نفر إلى أبيات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا اصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه.
قال القرطبي في المفهم: في حديث أبي ذر: «وعلى العاقل أن يكون له ساعات؛ ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب»، وهكذا الكمال، وما عداه ترهات وخيال.
اعداد: د.وليد خالد الربيع