-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
الحمد لله على عودتك ، متابع لهذه السلسلة القيمة .
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
حيّاك الله أخي أبا شهاب وإليك الحلقة 9
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة التاسعة
[justify]والآن مع السبب الرابع الذي وضعه الأخ محمد مبارك كاتب (فك الشيفرة) لتعليل التحول في شخصية الأمير ؛ قال الكاتب :"حب الأمير للسلطة وبالتالي احتياجه الشديد للمال".انتهى[/justify][justify]
ثمّ نقلَ قول عبد الجليل التميمي : ((إن المتتبع لحياة الأمير عبد القادر بدمشق، سوف يثير انتباهه تكالب الأمير على اقتناء الدور والأراضي الفلاحية ، والحصول على المال مهما كانت الوسائل المتبعة في ذلك. ففي البداية أقرت الحكومة الفرنسية منح الأمير راتباً سنوياً بما قدره 15.000 فرنك فرنسي(كذا)، وقد بلغ مع السنين ما قدره 300.000 فرنك فرنسي وهو في ذلك الوقت مبلغ خيالي للغاية، بل يفوق ميزانيات كثير من المصالح الحكومية العثمانية ، ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك الكرم الفرنسي إنما كان حُباًّ من الامبراطورية الفرنسية لشخص الأمير عبد القادر ، و تقديراً منها لجهاده ضد الفرنسييين ، دون أجندة عمل فرنسية كان الأمير ـ في المقابل ـ مطالبٌ (كذا) بتنفيذها بكلِّ دقَّة ، ولعلَّ تلك الأجندة قد أسفرت عنها المواقف الأميرية المتضامنة مع المصلحة الفرنسية "العليا" خلال ما سيمر بنا من الأحداث المتتالية!!!)).انتهى
(والأخ محمد المبارك ينقل كلام التميمي من كتاب الماسوني إسكندر شاهين ، فيما يبدو ، دون الإشارة إلى ذلك!! والله أعلم)
وأقول : مازال الأخ كاتب (فك الشفرة) يصر على وضع الأوهام التي في ذهنه بصورة عناوين ثم يحتار كيف يأتي بما يبرهن عليها!
فهاهو يعود لاتهام الأمير بأنه يحب السلطة ـ وهو اتهام لم يُسبق إليه ـ والعجيب أنه يستدل بكلام لآخرين ليس فيه أنّ الأمير يحب السلطة!!
وقد بيّنت سابقًا عدم حرص الأمير على تكبير وارده المالي ، وعدم سعيه للسلطة في الحلقات السابقة.
على كل حال ، إن عبد الجليل التميمي كاتب من هذا العصر فهو طبعًا لم يعاصر الأمير ولا أبناءه وهو في كثير مما كتب لم يكن متحريًا للحق ، وهو متحامل فيما يبدو على الأمير إلى درجة أنه يبالغ في تخيّلاته وتحليلاته المبنية على أسس باطلة وكتابات فرنسية زائفة ، بل إنّ الاتهامات التي وجهها للأمير لا وجود لها حتى في تلك الكتابات ، وأمَّا ألفاظه! فالقارئ يلمس تدنّيها!
وعلى كل حال إنّ وصف الأمير بأنه متكالب على شراء الأراضي والدور ، عجيب .
إن الأمير لم يكن مختلفًا عن غيره من أصحاب الأموال في عدد ما يملكه من عقارات ، بل إن بعض أثرياء الشام كانوا يملكون أكثر منه بكثير ، مع أنه يختلف عنهم في حجم مسؤولياته وأضيافه ومبرّاته!
وإنّ كثيرًا من الأراضي التي اشتراها إنما كان يهبها للذين رافقوه من الجزائر أو للمهاجرين الذين لحقوا به ، وبعضها كان لتأمين فرص العمل لهم ، وقد أوقف الكثير منها للجزائريين المهاجرين ، فمثلاً هناك قرية "الهوشة" في فلسطين اشتراها الأمير ووهبها للجزائريين هناك ، وكذلك الأمر في أطراف دمشق وغوطتها ، كما اشترى طاحونة (الإحدى عشريّة) وجعلها لتوفير حوائج الفقراء , وهكذا .
وإذا قارنا بين أملاك الأمير وأملاك كبار التجار والوجهاء في الشام لوجدناها قليلة ، فقد كان لبعضهم قرىً كاملةٌ وقصورٌ فارهة وأكياس مكدّسة من الذهب . فما بالك بالولاة العثمانيين والباشاوات؟
إنّ دار الأمير الكبيرة التي في زقاق النقيب بحي العمارة والمقرّ الرئيسي له يسميها البعض قصر الأمير! (ودور الأمير سمّيت قصورًا لأن ساكنها هو الأمير لا لأنها تشبه القصور) وبمقارنة بسيطة بينها وبين قصر أسعد باشا العظم الشهير بدمشق يتبيّن الفارق الكبير جدًا بينهما . فقصر الأمير لا يعدو أن يكون بيتًا كبيرًا واسعًا قياسًا إلى بيوت الطبقة المتوسطة في دمشق ، في حين أنّ قصر (العظم) هو قصر بكل معنى الكلمة ، فمساحته كبيرة جدًا وفيه حدائق كثيرة وساحات وباحات وبحيرات ماء متعددة وأجنحة وغرف وكله أقواس ومقرنصات مذهّبة وأسقف أخشبية موشّاة بالذهب والصدف ، واللوحات الفسيفسائية وغيرها .. يحتاج المرء ساعات طويلة حتى يتجول في أنحائه .وهو من المعالم المعمارية الأثرية في دمشق . وليس شيء من ذلك في دار الأمير.
وانظروا إلى طريقة التهويل التي اتبعها التميمي ، فهو يضاعف الأرقام من عند نفسه من (150.000) إلى (300.000) ثمّ يقول: ((وهو في ذلك الوقت مبلغ خيالي للغاية، بل يفوق ميزانيات كثير من المصالح الحكومية العثمانية)).انتهى
أرأيتم إلى التهويل! وحتى أبيّن لكم حجم تلك الأرقام ، أقول : لقد اشترى ميشال بوشناق ـالتاجر اليهودي الجزائري ـ حليةً من فرنسا بمبلغ (30.000) فرنك ، وباعها لباي قسنطينة بمبلغ (3.520.000) فرنك ، أي بربح يقرب من ثلاثة ملايين وربع المليون!!(وهذا في عصر الأمير عبد القادر) [المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر) لإسماعيل العربي ص8 ]
فإذا كان والي مدينة من مدن الجزائر يشتري حلية بملغ (3.520.000) دفعة واحدة ، فكيف ساغ للتميمي أن يزعم أن مبلغ (300.000) وهو أقل من عُشر ذلك المبلغ ، يفوق ميزانيات كثير من المصالح الحكوميّة العثمانيّة؟!
وفي الحقيقة إنّ ما ذكره التميمي غير صحيح أصلاً!
فقد فرضت فرنسا للأمير مبلغًا قدره (5.000) ليرة ذهبية فرنسية في السنة! وهي تساوي (100.000) فرنك ، ثمّ بعد سنوات ولمّا تبيّن للحكومة الفرنسية أن ذلك المبلغ لا يكفي لسدّ نفقات الأمير (الذي يُنفق على أسرته ومن لحق به من المهاجرين وبعض أهل الشام) ، زادوا المبلغ بالاتفاق مع السلطان العثماني ، فصار (7.500) ليرة ذهبية في السنة وهي تساوي (150.000) فرنك في السّنة ،وهذا آخر ما تلقّاه الأمير.
والتميمي قام بمضاعفة الرقم من (150.000) إلى (300.000) جهلاً منه أو لأغراض أخرى!
إذن الرقم الحقيقي والثابت في جميع المراجع المعتمدة هو (150.000) ؛ وكما بينتُ آنفاً فإنّ هذا الرقم ـ وإن كان كبيرًا ـ فهو ليس بالكبير جدًّا فضلاً عن أن يكون خياليًا كما يظن التميمي!
إنّ رجلاً واحدًا من رجال الكنيسة الفرنسية الذين أقاموا في الجزائر وهو (الأسقف ديبوش) كان يتقاضى راتبًا سنويًا قدره (25.000) فرنك! بصرف النظر عن واردات الكنيسة الخاصة . [الحركة الوطنية ص387]
ولكي تتضح الصورة أكثر أقول : لقد كان المرتّب الذي يتقاضاه خلفاء الأمير الثمانية في الجزائر أثناء حكم الأمير لها ، يبلغ (52.800) فرنك سنويًا ، هذا بصرف النظر عن التموين واللباس والنفقات المتفرقة .[انظر المقاومة الجزائرية ص220]
ثم يحاول التميمي أن يتحذلق فيقول :"ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك الكرم الفرنسي إنما كان حُباًّ من الامبراطورية الفرنسية لشخص الأمير عبدالقادر ، و تقديراً منها لجهاده ضد الفرنسييين ، دون أجندة عمل فرنسية كان الأمير ـ في المقابل ـ مطالبٌ بتنفيذها بكلِّ دقَّة ،و لعلَّ تلك الأجندة قد أسفرت عنها المواقف الأميرية المتضامنة مع المصلحة الفرنسية "العليا" خلال ما سيمر بنا من الأحداث المتتالية !!!"
وأقول : صدق أبو الطيب عندما قال :
إذا ساء فِعْلُ المرء ساءت ظُنُونُه *** وصدَّق مـا يعتادُهُ مـن تَوَهُّمِ
وعادى مُحبّيه بقول عُدَاتـه *** وأصبح في ليلٍ من الشك مظلمِ
أيها الإخوة سأعرض لكم بعض الوقائع حتى يتضح لكم حجم تلك الأرقام وسبب دفعها .
بعد دخول القيادة الفرنسية إلى مدينة الجزائر سنة 1830م قامت بنهب خزينة المدينة وكان فيها ما مقداره (400.000.000) أربعمئة مليون فرنك فرنسي كما ذكرت ذلك المصادر الفرنسية [مذكرات شانكا رنييه] انظر (الحركة الوطنية الجزائرية لسعد الله ص22) .
ولكي تتوضح الصورة أكثر ، فإن الداي علي باشا الذي كان قد نقل مقر الحكم من قصر الجنينة إلى أعالي القصبة ، استعمل لنقل محفوظات الخزينة خمسين بغلاً كل ليلة طَوال خمسة عشر يومًا!!! [المرجع السابق ص21] .
وفي سنة واحدة كانت واردات الأوقاف الإسلامية التي اغتصبتها فرنسا في مدينة الجزائر العاصمة وحدها قد بلغت حسب إحصاءاتهم (1.035.914.25) فرنك! .
هذه مدينة واحدة فما بالكم بمدن الجزائر جميعها؟ بل وقراها ومزارعها . طبعًا هذه كانت أموالاً جاهزة ، ولكن فيما بعد توالت الغلال وثروات الجزائر لتصب في الخزينة الفرنسية وهي بالمليارات ، ((وكما صرّح الفرنسيون أنفسهم أنهم لم يقوموا بحملة سابقة في أي مكان مثل حملة الجزائر إذ إن الحملات الأخرى كانت تكلّفهم ـ ولو نجحوا فيها ـ أموالاً طائلة وخسائر مالية معتبرة، بينما حملة الجزائر قد فاضت على تعويض التكاليف))[ المرجع السابق ص21]
وإنّ أملاك أُسْرة الأمير عبد القادر في الجزائر كبيرة ، أضف إليها أملاك المهاجرين مع الأمير ، وقد استولت عليها وعلى غلالها وعائداتها الحكومة الفرنسية ، ومن ثَمَّ أحبَّ نابليون الثالث أن يعوّض الأمير ومن معه عن تلك الأملاك المغتصبة ، بعد أن سرّحوهم إلى بلاد الشام ، وذلك حتى يضمنوا لهم سبل العيش ولا يرجعوا إلى الجزائر!! فليس هذا من الكرم الفرنسي ولا من حب فرنسا للأمير، وكذلك ليس مقابل أي وظيفة تطلبها فرنسا من الأمير.
وأنا أطالب التميمي والأخ محمد مبارك أن يذكرا لنا أجندة العمل التي طلبت فرنسا من الأمير أن ينفذها بدقة!!! .. بزعمهم.
يقول العلاّمة جمال الدين القاسمي ، رحمه الله :((ثُم إنّ إخوة الأمير لمّا أطلقت فرنسة سراحهم من سجونها ، عادوا إلى الجزائر واستقرّوا في مدينة (عنّابة) على الساحل الجزائري الشرقي ، ورتّبَت لهم الحكومة الفرنسيّة المرتّبات الكافية ، ثمّ بدا للسيد محمد السعيد الأخ الأكبر للأمير أن يسيرَ إلى تونس ويستوطنها مع إخوته وأبنائه لوَفْرَة علمائها وفُضَلائها ، فكاتَبَ أحدَ أمرائها يستشيره ؛ فرحّبَ به ووَعَدَه أن يقوم بجليل شأنه ؛ فَعَرَضَ أمرَ الرِّحلَة على وكيل الفرنسيين في عنّابة ؛ فأُجيب بأنّه لا يُسرَّح ما لم يُسلِّم راتبه ؛ فأَجابَ بالتّسليم عن نفسه وإخوته ، فهيّأت فرنسا باخرةً ، ونقلته مع إخوته من عنّابة إلى الشام ، وأَلْحَقَتهم بأخيهم الأمير عبد القادر ، ورَفَضَت لهم سُكنى تونس إبعادًا لهم عن قارة المغرب كليًا ، خوفًا من إقبال العموم عليهم ، لِمَا لهذا البيت في المغرب من عِظم الشهرة وكبر الاعتقاد في نفوس العامة والخاصة ، فقضت سياستهم إلحاقهم بأخيهم الأمير ، فقدموا دمشق سنة 1273 هـ أي بعد قدوم الأمير عبد القادر بسنة)).انتهى[(طبقات مشاهير الدمشقيين) للعلاّمة القاسمي ص83]
فهل هذه المرتبات كانت أيضًا في مقابل تنفيذ أجندة فرنسيّة بدقة؟! وانظر كيف أنهم أرادوا التحول إلى تونس لوفرة العلماء هناك ، ولأجل ذلك تخلّوا عن تلك المرتبات (والتي هي تعويض عن أملاكهم التي اغتصبتها فرنسة) ، ومع ذلك أبعدتهم فرنسة إلى الشام خوفًا منهم!
ثمّ إن هذه المخصصات المالية بقيت مستمرة حتى بعد وفاة الأمير ، وكان أولاده الستة عشر وبعض إخوته يقبضونها وينفقونها على الأسرة والأتباع ، فهل هم برأي التميمي ينفذون الأجندة الفرنسية بدقّة لقاء هذا المرتب؟! وكان بعض أولاد الأمير يشغلون مناصب عليا في الدولة العثمانية (في مجلس الأعيان) كالأمير محيي الدين والأمير علي ، وعندما دخلت تركيا الحرب العالمية على الحلفاء (وفيهم فرنسا) كان أبناء الأمير يساندون تركيا في مواجهة فرنسة ، وكان الأمير عليّ يقوم بمهمّات سياسية وعسكرية لمصلحة الدولة العثمانية ، فعن أي أجندة عمل يتحدث التميمي؟!
يقول الكولونيل تشرشل في معرض حديثه عن المخصصات المالية التي يقبضها الأمير من الحكومة الفرنسية: ((..وعند التأمل في عادات عبد القادر يصبح هذا الدخل أكثر مما يحتاجه ، بل يصبح بذخًا ، وكان يمكنه أن يعيش عيشة أمير بهذه الثروة وينغمس في التباهي ، ولكنه كان خاضعًا لمبادئ أخرى . فعبد القادر الذي كان دائمًا معارضًا لإرضاء النفس قد نظر إلى هذا المرتّب الكبير كأمانة، لذلك قرر أن يأخذ منه ما هو ضروري لمصاريفه الخاصة ، وأن يصرف الباقي على الآخرين. فقد كرّس دخْلَه على تلبية حاجات كثير من أولئك الذين رفضوا بنبلٍ أن ينفصلوا عن مصيره ، بل إنّه كان قادرًا على أن يغمر بكرمه جهات أخرى . ولم يكد يحتفظ لنفسه ولعائلته بسوى النصف من ذلك المبلغ أما الباقي فقد وزّعه في شكل رواتب على قوّاده وأتباعه الذين كانوا في حاجة ماسة ، وفي شكل صدقات على الفقراء ، وهبات إلى المساجد ، وغير ذلك من الأغراض الخيرية ، كما أنه كان يصرف من دخله على أخويه وعائلتيهما)).انت ى [حياة الأمير ص274]
أقول : وهذا الكلام فيه إنصاف بخلاف كلام التميمي ، إلاّ أنه غير دقيق . أولاً للأمير أربعة إخوة في دمشق وليس اثنان. ثانيًا ما كان ينفقه الأمير شهريًا كمرتبات ثابتة للعلماء والمشايخ وأعمال الخير أكبر بكثير من إنفاقه على أسرته وموظفيه. وعندي وثيقة نادرة ، وهي المخطوط الخاص بالنفقات الشهرية للأمير ، وهو بخط كاتبه الخاص وفيه بيانات تفصيلية وبأسماء الأشخاص أيضًا تُثْبت ما أقول.
ويتابع الأخ كاتب (فك الشفرة) مسلسل الاتهامات فيقول :"و عندما قرر الأمير أن يقوم ببعض الإصلاحات على الدارين اللتين سلمتهما له الإدارة العثمانية في الشام ـ بعد أن قامت بتأثيثهما ـ ألحَّ الأمير لدى وزير خارجية فرنسا والسفير الفرنسي باستانبول للقيام بتدخلات لدى الحكومة العثمانية في تمليكه للدارين ، لأنهما محتاجان إلى الإصلاح والزيادة ولايمكن اصلاحهما قبل استملاكهما، ـ كما ألح على السفير نفسه للتوسط لدى الدولة العثمانية للحصول على مبلغ مالي من الحكومة العثمانية لذلك ، وقد قدمت له الدولة العثمانية مبلغاً قدره ألف بورسه ، أي 100.000 فرنك . وكان ذلك المبلغ يساوي ثلاثة أضعاف المبلغ الذي قرر أن يشتري به مسكنا".انتهى
وأقول : كُل هذا الكلام غير صحيح ، والمراجع التاريخيّة التي تحدثت عن أملاك الأمير في دمشق تذكر خلاف هذا الكلام. والكاتب لم يُبيّن مصدر هذا الكلام المتناقض!
إنّ الدولة العثمانية استأجرت للأمير دار عزّت باشا الرئيس لينزل فيها وقتيًا ، وبعد ذلك أصدرت الدولة العليّة أمرها إلى والي الشام ليساعد الأمير في اختيار دارٍ لإقامته الدائمة تكون لائقة به، فوقع اختيار الوالي والأمير على دارٍ ، فاشتراها الأمير من ماله الخاص (وكان السلطان قد أنعم على الأمير عند رحيله إلى دمشق بألف كيس ذهبي بدلاً من الدار التي كان أهداها إليه في بروسة) وكان المكان الذي وقع عليه الاختيار مؤلفًا من دارين واسعتين بينهما دار صغيرة (في زقاق النقيب ـ نقيب الأشراف ـ بالعمارة وكان أصل تلك الدار لآل القباقيبي).
وبعد شراء المكان أُصلِحت الداران وجُهِّزَتا ، وانتقل إليها الأمير وترك الدار التي استأجرتها له الدولة العثمانية . وكانت ضيافة الأمير وعائلته في ولايتي بيروت ودمشق جارية من الولايتين بأمر الدولة العليّة!! وكان السلطان العثماني قد خصص لأفراد الأسرة مرتبات شهريّة .[انظر تحفة الزائر 2/66 ، وغيرها من المراجع]
وهذا يُظهر بكل جلاء بطلان الكلام الذي ساقه الكاتب .
وللعلم فإن أثمان البيوت في ذلك الوقت كانت أقل بكثير مما يظن الكاتب أو صاحب ذلك الكلام.
وأمّا التهمة الجديدة فهي ادّعاؤه أنّ الأمير كان يطلب وساطة وزير الخارجيّة الفرنسي والسفير الفرنسي في اسطنبول للحصول على المال من السلطان!!!!
وهذا قلبٌ للحقائق ، فالأمير كان محلّ عناية وتكريم واهتمام السلاطين العثمانيين الذين عاصرهم ، والرسائل المتبادلة بينهم لهي من الأدلّة على شدة صلته بهم وشدة حبّهم له.
وأعجب من ذلك إصرار الكاتب على إيهام القرّاء بأن صلة الأمير بفرنسا كانت أشد من صلته بالدولة العثمانية!!
يقول محمد باشا :((إنّ الأمير جاء إلى القسطنطينية منفيًا سنة 1269هـ/1853م ، وبعد وصوله إليها دُعيَ للاجتماع بحضرة السلطان الغازي عبد المجيد خان فتشرّف بلقائه ، ورحّب به السلطان وأحسن السؤال عن أحواله وشَكَرَه على ما كابده في الدفاع عن الدين والوطن ، وحَمِدَه على صبره على ما قاساه أيام احتجازه عند الفرنسيس ، ومدح الإمبراطور نابليون الثالث على وفائه بالعهد والقيام بشأنه ، وكان السلطان غاية في التلطف والتعطف ولين الجانب ، وكان بصحبة الأمير رفيقاه في الجهاد السيد قدور بن علال وخادمه قره محمد . وكان الإمبراطور نابليون الثالث طلبَ من السلطان عبد المجيد كفالة عن الأمير!! ( وذلك عندما قرر إطلاق سراح الأمير وإرساله إلى اسطنبول) ، فعقد السلطان جلسة خاصة للمذاكرة في شأن الكفالة فقال شيخ الإسلام عارف حكمت بك للسلطان : "إذا لم تكن لمولانا السلطان حسنة مع كثرة حسناته إلاّ هذه لكفى أن يكفل هذا الرجل المجاهد وينقذه من الأسر"، فحينئذ أجاب السلطان له بالكفالة)).انتهى[انظر تحفة الزائر 2/51ـ53]
فهل يُعقل أن يطلب الأمير من الفرنسيين التوسط له عند السلطان والسلطان هو الذي كفله وأراحه من أَسْر الفرنسيين وأنزله في جواره؟!
وهل يُعقل أن يطلب الأمير وساطة أحد عند السلطان ، والناس كانوا يتوسّطون الأمير لدى السلطان لما له عنده من منزلة وحظوة؟
سبحان الله!
ثم يذكر الكاتب أنّ الأمير كان يعيش في دمشق عيشة الملوك!!
أقول : إنَّ الأمير كان في وضع مالي جيد جدًّا ، ولكن لا يصل إلى حد عيشة الملوك!!
وأنى له عيشة الملوك وهو يتقاضى راتبًا شهريًا لينفقه على نفسه وأهله وأتباعه ، والأمير مات وعليه ديون!
ثم يفسّر لنا الكاتب عيشة الملوك فيقول : "إنّ الأمير كان محاطاً بـ 180 شخصاً من عائلته".انتهى
فلا أدري أهكذا تكون حياة الملوك؟ أن تكون مسؤولاً عن 180 فردًا من أسرتك يجعلك من الملوك؟
ثم من أين للكاتب هذا العدد؟ ليسمّهم لنا! إنّ أفراد أسرة الأمير في حياته لا يتجاوزون الأربعين.(وهذا الرقم يشمل أولاد الأمير وحريمه وإخوته وأبناءهم!)
ثم يقول : وكان يعمل عند الأمير (2000) حارس ومزارع وموظف ، وشيئًا فشيئًا التحق بهم (15.000) جزائري ومغربي وتونسي لخدمة الأمير!!!!
وكما يقولون في المثل الدارج (كيف عرفت أنها كذبة؟ قال : من كبرها!)
سبعة عشر ألف خادم للأمير!! سبحان الله .
أتدري أخي الكاتب كم كان عدد سكان مدينة دمشق في حينها؟
إن عددهم كان قرابة (250.000) أو أكثر بقليل ، وهذا العدد يشمل الرجال والنساء والأطفال ، فإذا صرفنا النظر عن عدد النساء والأطفال ، يكون عدد الرجال العاملين على أكبر تقدير (60.000) تقريبًا!! فهل يريد الكاتب أن يُقنعنا أنّ ثلث أو ربع السكان كانوا حرسًا وخدمًا للأمير؟؟!!
وهل يدري كم يحتاج هؤلاء لنفقات وتأمين سكن وغيرها ...؟
وكأنّ الأمير كان يعيش وحده في دمشق ، ونسي الكاتب أن دمشق كانت من أهم الولايات العثمانية وفيها عدد كبير من الباشاوات وأصحاب النفوذ والمال .
إنّ الأمير لمّا كان في الجزائر حالة حربه مع فرنسة والتي كانت تحاول شراء بعض الخونة ليغتاله لم يكن له حرّاس! فما حاجته للحرس في الشام؟
وقبل كل ذلك من أين للكاتب هذه المعلومات وهذه الأرقام الخيالية أصلاً؟؟؟
في الوثائق التي بين يديّ ـ ومنها دفتر بيان النفقات الشهرية والسنوية للأمير ـ لا يوجد فيها أيّ ذكر لحرّاس!! ومجموع الموظفين والخدم فيها هو (30) فقط! منهم عَشْرُ خادمات لحريم الأمير (الزوجات والبنات والأخوات) ولبعض أبنائه الصغار . وباقي العدد يشمل كاتب الأمير ، ووكيل الحسابات ، وعامل الحديقة والبواب و(العشّي) و(الصُفْرَجي) و(القَهْوجي) ، والجمَّالين وسُيّاس الخيل، و(الخولي)!
فانظروا كيف ارتفع العدد من (30) إلى (2000) إلى (17.000)!!! في سِباحة خيالية ، بل فوق الخيال!
ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
خلدون بن مكي الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله
[/justify]
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التاريخ لايبرر والرد لم يبتعد عن التقرير ولكنه أصل تأريخه
صدق من قال التاريخ لايرحم...ولكن لايتعظ الامراء
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
الأخ الكريم الأستاذ: "خلدون مكي حسني"- وفقني الله و إياك لمرضاته- قلت في مقالك: " وكلُّ كلامٍ صدر من ابن عربي أو غيره ، فيه مخالفة للشريعة أو استخفاف بأصول الدين وقطعيّاته فهو مردود ومرفوض ".اهـ
و لي أسئلة آمل الإجابة عليها بكل وضوح وهي:
1- ما موقفك من الكلام المنسوب للأمير عبد القادر الجزائري كما في كتاب: (المواقف..) و (ذكرى العاقل و تنبيه الغافل) و الديوان المنسوب إليه بغض النظر عن صحة نسبتها إليه؟!
2- فهل ترى من رد على الأقوال المنسوبة للأمير في الكتب السابقة محق أم مبطل لمجرد عدم نسبة الكتب إليه؟!
3- هل لك رد العقائد الشركية و المخالفات الشرعية في أصول الدين في تلك الكتب وبغض النظر عن صحة نسبتها إليه، لأنها منتشرة و باسمه؟!
4- رأيت العديد من الصور الفوتغرافية للأمير عبد القادر الجزائري وقد حوت نياشين للإستدمار الفرنسي الكافر وصلبان فما قولك؟!
5- وفي الختام رأيت بعض الصور لجزء من مخطوطات كتبه ومنها ديوانه فهل هي له أم مزورة و مكذوبة عنه؟! و لعلي في المستقبل أرفق لكم صورة منها إن شاء الله تعالى.
وأسأل الله تعالى الإخلاص في القول و العمل، و بالله التوفيق.
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
الأخ عبد الحق آل أحمد ؛ السلام عليكم ورحمة الله.
كنت سأترك الجواب على أسئلتك إلى وقت آخر حتى لا أخرج عن صلب موضوع الحلقات التي أنا بصددها ، ولكنني خشيت أن تظن أن ذلك لغرض آخر ، لذلك قررت أن أجيبك باختصار ، والموضوع ليس سجالاً بيننا الآن ، وإن شئت التوسع لاحقًا فلا مانع إن شاء الله.
1ـ جوابًا على سؤالك الأول أقول : لقد وضعتَ الإجابة بنفسك وهي قولي: ((وكلُّ كلامٍ صدر من ابن عربي أو غيره ، فيه مخالفة للشريعة أو استخفاف بأصول الدين وقطعيّاته فهو مردود ومرفوض)) ؛ وأزيدك توضيحًا: إن أي عبارة أو قصيدة فيها ما يدل على وحدة الوجود أو الحلول والاتحاد فهي مردودة على قائلها كائنًا من كان! فوحدة الوجود والاتحاد والحلول من عقائد الفلاسفة الزنادقة ، وحكمها الشرعي أنها كفر وخروج عن الدين.
لذلك أقول: إن العبارات المشكلة الواردة في كتاب "المواقف" يمكن الحكم عليها بالفساد أو الإلحاد ، ولكن دون الحكم على الأمير لأنّنا في شكٍ من ثبوت ذلك الكلام عليه ، ولأنه لم يسبقنا إلى ذلك أحدٌ من علماء المسلمين المعاصرين للأمير أو القريبين من عصره ، وسيأتي بيان ذلك في بحث مستقل أتناول بطلان نسبة هذا الكتاب إلى الأمير.
والأشعار التي نقَلْتَها أنت من كتاب المواقف وعلّقت عليها بقولك :"[تنقل الأمير من الإسلام إلى دين اليهود و النصارى وهذه ردة صريحة]" ليست له وموجودة في الكتب القديمة لأمثال ابن هود الأندلسي. لذلك كان إطلاقك لحكم الردة على الأمير فيه تسرع منك ، وأنت غير مسبوق بذلك ولا سلف لك بهذا ، وأنت لم تتثبت من ذلك وكان يكفيك استنكار تلك الأبيات الشنيعة!
وأما كتاب "ذكرى العاقل" فلم أجد فيه أي عبارة يمكن الحكم عليها بالكفر أو الشرك أو الزندقة . والعبارة التي نقلْتَها عنه في موضوعك (التنبيه على شركيات وطوام عقدية عند الأمير عبد القادر الجزائري) ، وعلّقتَ عليها بقولك : "[دعوته للأخوة مع النصارى الكفار]"
قد بيّنتُ في الحلقة الثانية المقصود منها ، وأوردتها ضمن السياق الواردة فيه ، وليس فيها المعنى الذي فهمتَه أنت وبعض الناس . وبيّنتُ أنك سلختها من سياقها وأبرزتها بقالب مشوه ، ولولا ذلك لما كان من الممكن أن يُفهم منها المعنى الفاسد الذي رميت به الأمير، فليتك ترجع إلى الحلقة الثانية.
وأما ديوان الأمير ، فالأبيات التي استنكرتَها على الأمير وعلقتَ عليها بقولك:"[الأمير يشرك بالله العظيم شركا واضحا جليا]" . لا يُسلّم لك أبدًا ، وستسأل عنه يوم الحساب . والياء في هذه الأبيات هي ياء الندبة! وليست ياء النداء!! وهذه الياء لا يندب بها إلاّ العلم المشهور . والندبة لها أساليبها الأدبيّة يعرفها أهل اللغة والأدب ، والقارئ لمثل هذا النوع من الشعر يجب عليه أن يستحضر هذا المعنى. ولا يُحكم على المتكلّم بأنه يستغيث بغير الله إلاّ إذا كان واضحًا في كلامه ، كأن يقول يا رسول الله أو يا وليّ الله أدركني أو ارزقني . وليس في تلك الأبيات شيء من ذلك ، ويمكنك أن تقول إنني لا أحب هذا النوع من الشعر أو الأولى عدم التلفظ بكلام يلتبس على البعض ، أما أن تقول هذا شرك واضح وجلي! فلا توافق عليه. وكلامي ليس خاص بشعر الأمير وحده ، وإنما هو عام لأي شعر أو كلام مشابه .
2ـ وبناءً على ما سبق فإن جوابي على سؤالك الثاني هو أنك لم تكن محقًا في ردّك لأنك لم تحكم على الكلام وإنما حكمت على الشخص دون أدنى تثبّت ووصفتَه بأنه ملحد ومشرك وخرافي مرتد!!!، وافتريت عليه قصة إحراق كتب ابن تيمية وزعمتَ أنها متواترة مع أنه لا أ صل لها (راجع الحلقة الأولى) ، ووصفته بالعميل للفرنسيين ،وطعنت في جهاده وجرّدته منه ، كل ذلك دون أي دليل يشفع لك!! وقلتَ في حقّه بالحرف الواحد: ((والوقت ثمين وأشرف من أن يبذل في تتبع زبالات أفكار المدسوسين من قبل أعداء الإسلام والمنحرفين فكريا عن عقيدة السلف الصالح)). فحكمت عليه بأنه مدسوس من قبل أعداء الإسلام ، وأن أفكاره زبالة!!
فهل تظن أنك بعد كل هذا الهجوم والطعن والتكفير والتشهير العاري عن الدليل والبيّنة متقربٌ إلى الله وعلى خير ومحقٌ أيضًا؟؟!! يغفر الله لي ولك.
3ـ وأما العقائد الشركية والمخالفات الشرعية الموجودة في "المواقف" أو غيره فلا مانع من الحديث عنها وبيان بطلانها وسقوطها ، ولعل ذلك يكون في موضوع مستقل وموقفي منها معروف وأنا بفضل الله كنتُ وما أزال أتصدى لمثل تلك العقائد وأرد عليها (وهل ما أعانيه اليوم إلا بسبب ذلك!!)، أما الحلقات التي أنا بصددها الآن فهي تعالج اتهامات وشبهات باطلة تثار حول شخص الأمير ، فإذا كان لديك أي إشكال فيما كتبته فيها فيمكنني بيانه الآن .
4ـ وأما سؤالك عن النياشين . فالجواب :أولاً إن هذه النياشين حصل عليها الأمير بعد فتنة دمشق سنة 1860 وقد روت الأميرة بديعة عن جدّتها السيدة زينب بنت الأمير عبد القادر أن هذه النياشين وضعها مرّة واحدة وأخذت له صورة واحدة ولم يكن سعيدًا بذلك ، والغرض أن ترسل إلى الصحف الأوربيّة فيرى الأوربيون بأعينهم تكريم ملوكهم وحكامهم للرجل الذي كانوا بالأمس يطعنون فيه ويظهرونه بصورة المتعصب الحاقد على المسيحية وأن حربه مع فرنسا كانت فقط لأنهم مسيحيون لا لأنهم غزاة معتدون!!واليوم هم يعترفون أنه لا يحقد على الديانة المسيحية وإنما يتعامل مع أصحابها المعاهدين (أهل الذمة) وفقًا لأحكام الإسلام ، فلا يسمح بتقتيلهم بخلاف المعتدين والغزاة منهم .تقول الأميرة بديعة : ((هذا ما كنت أسمعه من جدتي زينب عندما كانت تنظر إلى صورته هذه وتقول: كم كان أبي حزيناً عندما وضعنا له هذه الأوسمة لأخذ صورة فوتوغرافية له، وقد وُضعت مرة واحدة ولغاية واحدة كما أسلفت))[انظر أصحاب الميمنة] وهذه القصة لم تتفرد الأميرة بديعة بذكرها فهي معلومة للكثيرين.
وإذا تسابق الرسامون لرسمها بأشكال مختلفة كلٌ كما يشاء فهذا لا ذنب للأمير فيه . ثانيًا هذه النياشين ليست خاصة بالفرنسيين وحدهم وإنما فيها نياشين من الخليفة العثماني وهو أكبرها ، ثم نياشين أخرى لعدة من الملوك والقياصرة ، وسيأتي الحديث عنها بالتفصيل في حلقة مقبلة وستجد فيها براءة الأمير مما تظن. وأما جعلك لتلك النياشين دليلاً على عمالة الأمير للاستعمار فهذه كبيرة! وليتك تحريت قبل أن تقدم على هذا الطعن والتشهير .
5ـ وأما ما ذكرته من صور لمخطوطات ، فهناك بعض المخطوطات موجودة في بعض المكتبات فلا أدري عن أيها تتحدث ، ولكن أستطيع أن أقول لك جازمًا أنه لا وجود لمخطوط لكتاب المواقف بخط الأمير ، وكذلك لديوان الأمير . فالأمير لم يكتب المواقف ولم يضع ديوانًا . والديوان إنما جمعه ابنه الأمير محمد وكتَبه بخط يده والمخطوط عندي وليس له أي صورة! والمواقف كتبه الشيخ محمد الخاني بعد وفاة الأمير وسيأتيك بيان ذلك في محلّه إن شاء الله.
أخي عبد الحق أسأل الله تعالى أن يجعلني وإيّاك ممن يتّبعون الحق ، وكل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطائين التوابون ، أسأل الله تعالى أن نكون منهم ، فهذا مما يرفعنا عند الله وعند الناس . وأرجو أن تتابع الحلقات كلها إلى نهايتها .
والحمد لله رب العالمين.
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك شيخنا الكريم
-
الحلقة العاشرة من رد الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة العاشرة
قال الأخ محمد مبارك ، صاحب (فك الشفرة) :"و من ثمَّ تَمَّت سرقة المخطط برًمَّته ـ انجليزيا ـ من الحقيبة الفرنسية .ليتم بعد ذلك تطبيقه بحذافيره على يد الجنرال البريطاني الشهير "اللنبي" لتنصيب دمية أخرى هي "الشريف فيصل بن الحسين".انتهى
تحدّث الأخ محمد مبارك في (فك الشفرة) عن المخططات الفرنسية وإخفاقها والمخططات الإنكليزية التي حلّت محلّها ، وأتى بكلام غريب . وليس الآن مجال بيان تاريخ تلك الحقبة.
ووصَفَ الكاتب الملك فيصل بن الحسين بالدمية الأخرى موحيًا أن الأمير هو الدمية الأولى!!
ثم جعل سيرة الملك فيصل كأنها تتمة أو مشابهة لسيرة الأمير عبد القادر ، وشتان ما بين السيرتين، فالأمير عبد القادر لم يتحالف مع فرنسا في حياته ولم يأمنها قط! بل جاهدها وقاتلها ، ولم يستعن في حياته كلها بالأجنبي الصليبي!!
وهذا الكلام شَهِد به أعداء الأمير وخصومه ؛ فقد ذكر الأستاذ المهدي البوعبدلي : ((أنه في الملتقى الذي أقامه "الكوليج دو فرانس" بباريز سنة 1977م ، والذي كان موضوعه ((حياة الأمير عبد القادر في المشرق)) ، ألقى أحد الباحثين الفرنسيين وهو الأستاذ "شوفالي فاجرون" محاضرةً هامة ، وكانت لدراسته أهمية عظمى حيث أثبت الجانب السياسي من حياة الأمير في المشرق ، وهي أنّه لمّا وقف موقفه المشرّف إزاء مذابح المسيحيين الذين دافع عنهم دفاعَ من لا تأخذه في الله لومة لائم ، انقلب الرأي العام الفرنسي وتبيّن لهم قيمة الرجل ، فرأى نابليون أنّ الفرصة سانحة لعرض مملكة المشرق على الأمير ، إلاّ أن الأمير لم يسعه إلاّ الاعتذار عن قَبولها رغم المغريات ، وقال لرسول نابليون :"إنّ هدفي لم يكن في يوم من الأيّام تولية المملكة ، وإنما ظروف بلادي جعلتني أتولى الدفاع عنها ، فقُدْتُ جيوشَها ، وشاء الله أن تطوى صفحة الجهاد فانتقلت للجهاد الأكبر وهو خدمة العلم والدين" [طبعًا الكلام مترجم عن الفرنسية]، وهنا علّق المحاضر على هذه الصفحة والظروف التي اجتازتها بلاد المشرق ، فقال : ((لم تكن أمنية رجال الحكم الفرنسي العثور على رجل عربي قوي يتولى حكم بلاد المشرق بإعانتهم ؛ بل كان يشارك الفرنسيين في البلوغ إلى هذا الهدف الإنكليز أيضًا ، وقد بلَغَت إنكلترا هدفها إذا وجدت الملك فيصل ، إلاّ أنّ فرنسا من سوء حظّها وجدت في طريقها الأمير عبد القادر ، وشتّان ما بين الشخصيّتين)).انتهى[من مقال للأستاذ المهدي البوعبدلي بعنوان (وثائق أصيلة تلقي الضوء على حياة الأمير عبد القادر) منشور في مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة في الجزائر العدد 75 رجب 1403هـ ،أيار 1983م ؛ ص134]
ويتابع صاحب (فك الشفرة) فيقول :" لقد كان المخطط الفرنسي لوراثة التركة العثمانية يقضي بالسعي للقضاء على الخلافة العثمانية من خلال تأجيج ثورة عربية يترأسها بعض المنتسبين للبيت النبوي ،و يقوم بجر جميع تلك البلدان الى حظيرة الهيمنة الفرنسية".انتهى
ولا بأس هنا من كلمات لكشف بعض المغالطات التاريخية التي أوردها الكاتب.
أولاً ، إنّ الدولة العثمانية التي يتحدث عنها الكاتب ويسميها الخلافة العثمانية ، لم تعد في حقيقتها تمثّل الخلافة الإسلاميّة في ذلك الوقت ، فقد صعد رجال حزب الاتحاد والترقي إلى سدّة الحكم وكانوا هم المتصرفين في البلاد ، وليس للخليفة أي ثقل حقيقي ، ورجال الاتحاد والترقي كانوا يسيرون على النهج الأوربي ويرفضون الحكم الإسلامي (وسيأتي معنا قريبًا كيف يصفهم الكاتب بالماسونيين) وأنا وإن كنت لا أقبل وصفه ذلك لأنه بلا دليل ؛ فإنني أعلم أنهم ((كانوا أصحاب طموحات واسعة وخبرة قليلة وتعصب للقومية التركية وابتعاد عن الدين ، فاستطاعت المخابرات البريطانية واليهود أن يستغلوهم ويضعوا لهم الخطط سِرًّا وهم لا يدرون إلى أين يسيرون، منهم المخلص لبلده ونفسه ، ومنهم ما هو دون ذلك ، ولكن لا يدري ماذا يُفعل به!))[كما يقول الأستاذ محمود شاكر ،انظر التاريخ الإسلامي 8/208]
وكانت البلاد العربية تعيش في حالة من الضياع والبؤس ، والناس قد ضاقوا ذراعًا بسياسات رجال الاتحاد والترقي الذين ينقلون البلاد من حرب إلى حرب ، ومن بؤس إلى بؤس ، وفوق ذلك ضاعت عندهم الرابطة الإسلاميّة! (اقرؤوا عن وحشية جمال باشا السفاح في بلاد الشام)
فهل إذا أراد بعض المصلحين العرب المسلمين أن يفصلوا بلادهم عن هؤلاء صاروا خونة ومدمرين للخلافة الإسلامية المزعومة؟ وماذا سيقول الكاتب عن دولة آل سعود التي حاربت العثمانيين وانفصلت عنهم؟
ومع ذلك فإنّ المرحلة التي يتحدث عنها الكاتب هي مرحلة ما بعد وفاة الأمير عبد القادر، وكل تلك الأحداث التي ساقها إنما جرت بعد وفاة الأمير بعقود ،بـ (36سنة) تحديدًا ، فما شأن الأمير بها؟ ولماذا يحمّله تبعاتها؟ وأغرب من ذلك أنّ الكاتب صنَّف الأمير موظفًا لفرنسا ، ثم قال :"واستلم الدور بعده الملك فيصل الموظف لبريطانيا" ، ومعلوم أنّ فرنسا وبريطانيا كانتا متنافستين ومتخالفتين، وكل واحدة منهما تساند العرب والمسلمين لأجل الحد من توسّع الأخرى .وقد نبّهتُ آنفًا إلى فساد المقارنة بين الأمير والملك فيصل!
ويقول صاحب (فك الشفرة) :"و من الغرابة بمكان أن يقوم الطابور الخامس الماسوني السوري وقبل يومين من وصول الأمير فيصل بإعلان استقلال البلاد باسم الشريف حسين، ورفع العلم العربي على سارية دار الحكومة، و من ثمَّ تبدأ عملية تنظيم وإكمال تشكيلات الدولة العربية و الجيش العربي ، و إزالة كل ما يمت للعهد العثماني و اللغة التركية بِصلة ، كل ذلك بسرعة غريبة و سطوة عجيبة ، بينما لم يكن من أعلن استقلال البلاد ، و حَكَم البلاد خلال ذَين اليومين الطويلين في تاريخ الأمة الاسلامية إلا الأمير محمد سعيد الجزائري القطب لأعظم للمحفل الأكبر السوري العربي الماسوني ، وحفيد الأمير عبدالقادر الجزائري".انتهى
لقد تحدّث الكاتب في مقاله عن دخول جيش الملك فيصل إلى الشام ، ثمّ تعجّب من كون الأمير سعيد حفيد الأمير عبد القادر هو الذي أعلن استقلال سورية ورفع العلم العربي على السراي قبل وصول الملك فيصل بيومين ، وبدأ الكاتب كلامه فوصف الأمير سعيد ومن معه بالطابور الخامس الماسوني!!!
المطّلعون على تاريخ الأمير سعيد يعلمون أنه انتسب إلى الجمعية الماسونية ، وقد صرّح هو بذلك في مذكراته ولم يستره ، وذلك لأنّه ـ مثل كثيرٍ من وجهاء وعلماء الشام ومصر في ذلك الوقت ـ انخدع بما تروّجه تلك الجمعية عن نشاطاتها وأهدافها ، فقد كانت تزعم أنها جمعية عالمية تدعوا إلى التضامن ومساعدة المنكوبين في العالم أجمع ، وغير ذلك من الأعمال الخيرية ، فالمنتسب إليها كان يفتخر بذلك ، ولكنّ الأمير سعيد بعد مدّة ارتاب في أمرها وصار يتهرّب من أعضائها ثم تركها وانفصل عنها ، تمامًا مثلما فعل كثيرٌ من الذين انتسبوا إليها في تلك الحقبة!(وكتبَ مقالاً يهاجم فيه الماسونية سنأتي على بيانه في حلقة الماسونية)
ونحن اليوم بعد أن انكشفت حقيقة الماسونية عمومًا ، وإن كنّا لا نقرّ هؤلاء على انتسابهم إليها ، ونعدُّ ذلك من الغفلة الشديدة ، وضعف النظر ، فإننا لا نتّهمهم في نيّاتهم ، وخصوصًا بعد أن انفصلوا عن تلك الجمعيّة وتبرّؤا منها، وكذلك عندما نجد في سِيَرِهم ما يتعارض مع أغراض الماسونية وتوجهاتها.
وأنا لا أريد في هذا المقام أن أنتقل عن موضوعنا الأصلي إلى موضوع الأمير سعيد ، ولكن لضرورة المقام سأعرض موجزًا سريعًا يبيّن كيف أعلن الأمير سعيد استقلال سورية وحقيقة علاقته بشريف مكّة الحسين وابنه فيصل .
وسأعتمد على بعض المراجع المستقلة والمحايدة والمعتمدة ومنها كتاب (جهاد نصف قرن) للأستاذ الجامعي أنور الرفاعي ، ومزيّة هذا الكتاب أن كاتبه شخص أكاديمي محايد ، ومعاصر لتلك الحقبة وينقل الأحداث من وثائق مشهورة وثابتة مع ذكر المصدر وتاريخه ، وأحيانًا يرفق صورة الوثيقة التي ينقل عنها ،ولكن سأبدأ بذكر ترجمة الأمير سعيد في كتب التراجم الكبيرة والشهيرة :
أولاً ـ قال المؤرّخ الشهير محمد أديب آل تقي الدين الحصني ؛ وهو معاصر للأمير سعيد؛ في كتابه (منتخبات التواريخ لدمشق) في ترجمة الأمير محمد سعيد :
((منهم الأمير سعيد بن الأمير علي باشا ، وقد أحيا ذكر أبيه وجدّه الأمير عبد القادر بالكرم والأخلاق الحسنة وقد قلّدته الأتراك وكالة الحكم المباشر لهذه البلاد بعد تركهم لها بأن يدافع أهلها عنها وتكون مستقلة تحكم نفسها بنفسها ولها الحق بأن تختار أي دولة تسعفها على نهضتها وذلك قبل دخول الجيش الإنكليزي لها! ولما دخل الأمير فيصل على رأس ذلك الجيش كما أسلفنا لك ذلك مفصلاً ، أَخَذَ الحكم المؤقت من يد الأمير سعيد وبهذه البرهة اغتالت يدٌ أثيمة أخاه الأمير عبد القادر ، وأبعدته السلطة الإنكليزية إلى خارج سورية ، إلى أن دخلت الجيوش الإفرنسية عندئذ رجع إلى دمشق وهو خير خلَف لذلك السلف ولولا ضيق المقام لسردنا جميع الوقائع المبرورة التي جاهد بها)).انتهى [منتخبات التواريخ 2/742]
ثانياً ـ قال خير الدين الزركلي ؛ وهو مؤرخ وسياسي كبير معاصر للأمير سعيد ؛ في كتابه الشهير (الأعلام) :
((الجزائري (1300 -1390هـ = 1883 - 1970م) محمد سعيد بن علي بن عبد القادر بن محيي الدين الحسني الجزائري: حفيد الأمير عبد القادر صاحب الثورة الأولى على الفرنسيين في الجزائر. ولد وعاش في دمشق وتعلم بها، وبالأستانة. وقام برحلة إلى المدينة المنورة (سنة 1332هـ) صنف بها نور الدين بن عبد الكريم بن عزوز التونسي (الرحلة المدينية - ط) وأشرف صاحب الترجمة على تصنيف كتاب عن والده سمي (تاريخ الأمير علي الجزائري - ط) وكان له موقف كريم في دمشق ، يوم خرج الجيش العثماني منها وبقي فيها جمال باشا الصغير آخر قواد ذلك الجيش فقابله الأمير سعيد وأخذ منه (500) بندقية سلح بها بعض الدمشقيين والمغاربة لحفظ الأمن.وأعلن استقلال سورية قبل دخول الجيشين العربي والبريطاني.
وألَّف حكومة وطنية مؤقتة أقرَّها أول داخل من الجيشين (الشريف ناصر بن علي) فعاشت يومين. وأَبْعَدَه عن الحكم مندوبون آخرون عن فيصل بن الحسين قبل دخول فيصل ، منهم لورنس، ونوري السعيد!! ثم نفاه الإنكليز إلى مصر.
وعاد إلى دمشق بعد الاحتلال الفرنسي (1920م) فأقام إلى سنة 1966م ورافق جثمان جدّه (عبد القادر) يوم نقله من دمشق إلى الجزائر، واستقر إلى أن توفي بها)).انتهى
من هاتين الترجمتين يتضح أن ما تعجّب منه الكاتب من إعلان الأمير سعيد لاستقلال سورية ، ووصفه إيّاه بأنه من الطابور الخامس الماسوني ، غير صحيح ومخالف للحقيقة!!!
ثالثاً ـ يروي لنا الأستاذ أنور الرفاعي في كتابه (جهاد نصف قرن) الحادثة التالية :
((نادى جمال باشا السفاح الأميرَ سعيدًا وقال له :"سأسافر مع الحملة إلى (الترعة) ويجب أن تكون أنت معي عندما أدخل مصر"
الأمير :"ما نفعي مع الحملة وما فائدة دخولي مصر إلى جانبك؟"
جمال :"سأكلفك بقيادة فرقة خاصة"
الأمير :"ماذا تراني أُعِد؟"
جمال :"استصحب معك اثنين من رجالك ليكونوا خدامًا لك ، ونحن نكفيك مؤونة كل ما يلزمك"
وبعد أيّام ، بينما كان الأمير مضطرًا لإعداد وسائل السفر مع موكب جمال ، هبط دمشق الجنرال الألماني (فافيوس) الذي أعطاه العثمانيون اسم (عبد الكريم باشا)! وكان فيما سبق واليًا على بعض المستعمرات الألمانية في إفريقيا ، وأستاذًا لأولاد الإمبراطور غليوم الثاني ، وكان الناس في دمشق يتساءلون عن معنى وجود الجنرال الألماني في دمشق وبصحبته حاشية خاصة ، منها ثلاثة مترجمين أحدهم مستشرق ألماني يتقن العربية ، وثانيهم مسيحي لبناني ، وثالثهم شيخ مسلم بعمامة من بخارى، وفي تلك الأثناء قابل قنصل ألمانيا في حيفا (لوتفيت) الأميرَ سعيدًا في داره وقال له :"يا سمو الأمير! إني أعلم أنك تعمل من مدة في سبيل إثارة الجزائريين ضد فرنسا ؛ وأنت تتمنى أن تصل إلى الجزائر لتقودها إلى الاستقلال ، وها هي الفرصة سانحة ، فإن هناك بعثة ألمانية ستذهب إلى شمال إفريقيا فيمكنك مرافقتها وتحقيق برنامجك"
وفي اليوم التالي دُعي الأمير لمقابلة جمال باشا الذي ابتدره قائلاً:"تغيّرت خطتي ، فلن ترافقني إلى مصر، وإنما سترافق بعثة عبد الكريم باشا الألمانية ، وهي ذاهبة إلى شمال إفريقيا ، وستمر في طريقك على طرابلس الغرب ، وسترى السيد السنوسي فيها ، فاكتب له قبل أن تصل وأخبره بقدومك وبأنك تحمل رسالة شخصية مني إليه ، وأخبره شفهياً بأني سأهاجم ترعة السويس ، فيجب على السنوسي عندما يسمع بوصول حملتي إلى الترعة لمهاجمة مصر ، أن يهاجم من ناحيته مصر أيضاً فنضعها بين نارين ، وليضرب المصريين على رؤوسهم ويسوقهم إلى الحرب كالـ..." وسلّم جمال باشا في الحال الأمير سعيداً رسالة مختومة ؛ وأمره بالاستعداد للرحيل في الغد .
صدّق الأمير سعيد أقوال جمال ، وخفق قلبه فرحاً لسيره إلى بلاده الأولى ، وفي الغد كان في محطة الحجاز في عربة خاصة تُقلّ بعثة عبد الكريم باشا الألماني ..
وفي الطريق التفت الأمير إلى الجنرال الألماني وقال له :"أين نحن ذاهبون؟ وما هي خطتنا؟ وما هو طريقنا؟" فأجاب الجنرال :"نحن ذاهبون إلى إفريقيا الشمالية" فاطمأن قلب الأمير وأخذ يطلّ من نافذة القطار ، وينظر إلى الأفق البعيد ويتخيل الرحلة الجميلة ، ويتصور وصوله إلى طرابلس واتصاله بالسيد السنوسي و ...........
وصادف عندما أشرف القطار على محطّة (العُلا) أنّ الأمير التفت إلى أحد كبار مرافقي البعثة الأتراك وهو (سامي بك) متصرّف (نجد) وأراد أن يتحقق من سلامة الطريق و.... وقال له :"يا سامي بك هل طريقنا جميعه في أمان؟ أم هو محفوف بالأخطار؟ وما هي تفاصيل مخطط السير؟"
فأومأ سامي بك إلى الأمير أن يخرجا معاً إلى رواق القاطرة ، وظنّ الأمير أنّ مثل هذا الحديث عن مخطط الرحلة يجب أن يبقى سرًا لا يبلغ مسامع الجنود خشية الجاسوسية وافتضاح الأسرار ، فترك مقعده ، وانتحى بمتصرّف نجد ناحيةً ودار بينهما حديثٌ لم يسمعه غيرهما :
سامي بك :"يا سمو الأمير إني أقدّر فيك وطنيتك وأعترف بشجاعتك ، ولأنك أمير من سلالة الأمراء فمن واجبي أن أصدقك القول ولا أخدعك . ليس هدف هذه البعثة الألمانية الذهاب إلى إفريقيا الشمالية ، وإنما هدفها الوصول إلى مستعمرات ألمانيا في إفريقيا الوسطى ، ولها مهمة خاصة في البلاد العربية ، فقد زوّد جمال باشا الجنرال الألماني بصلاحيات واسعة في الجزيرة العربية! وسوف تصل هذه البعثة إلى المدينة المنوّرة ، مدينة الرسول عليه السلام ، وستدخل هذه البعثة الأماكن المقدسة!! وطريقها هذا سرٌّ لم يطلعوك عليه"
وكان الإيمان والحماس الديني باديًا على وجه والي نجد وهو يتحدَّث ، فأطرق الأمير سعيد هنيهة ، وعلِم أنّ حديث قنصل ألمانيا في حيفا له وحديث جمال باشا ، والرسالة التي يحملها ، وجواب عبد الكريم باشا في الطريق ، كان كله مؤامرة عليه ، وخشي أن تكون أوامر جمال أن يقتله في الطريق .
فالتفت إلى محدِّثه وقال له :"ولكن هل يجوز لك أن ترافق هذه البعثة وأنت تعلم هدفها ، وتسمح لها أن تكشف عورات المسلمين في أماكنهم المقدسة؟.."
سامي بك :"نحن مأمورون وليس باستطاعتي الرفض ، مع أن سير البعثة إلى الحجاز ليس من رأيي"
الأمير :" وكيف السبيل إذن لنمنعها من تحقيق برنامجها؟"
سامي بك :"اكتب برقية سريّة إلى محافظ المدينة المنورة وأخبره أن يحذّر الجنرال الألماني من القدوم إلى المدينة ، والمحافظ لا بد وأن يثق فيك لمكانتك الممتازة في قلوب الجميع"
الأمير :"حسنًا! عندما أنزل مدينة (العُلا) سأبرق إلى بصري باشا والي المدينة البرقية التالية : (أنا مع بعثة ألمانية مُرادها المرور من المدينة المنورة ، وذلك فيه ضرر على مصالح الدولة ، فأرجو أن تعارض قدومنا ببرقية جوابية بقولك إن مرورنا من الأراضي المقدسة فيه خطر على حياتنا وعلى هياج السكان)
ونجحت الخطة ، فإن جواب بصري باشا والي المدينة وصل كما نرجو؛ واطّلع الجنرال الألماني على فحواه ، وتمتم وكأنه أدرك أن في الأمر سرًّا ، وأخذ ينظر إلى الأمير سعيد شَزْرًا ، ورضي أن يغيّر خطة سفره ، وأن يتجه إلى ساحل البحر الأحمر ، فيكون طريقه إلى الجنوب بحريًا على حذاء الشواطئ العربية ثم تأخذه نقّالة بُخارية إلى الشواطئ الإفريقية حيث يصل إلى هدفه.
وفي (العُلا) كلّف رِفادة باشا شيخ عشيرة (البلي) أن يُهيّئ قافلة للبعثة ، وأن يؤمن بمفرده سلامة البعثة من (العلا) إلى (الوجه) على ساحل البحر الأحمر.
وبعد سبعة أيام من رحلة صحراوية بحماية ورفقة رفادة باشا أشرفت البعثة على (الوجه) ، وهنا بدأت الخلافات بين قائد البعثة الجنرال الألماني وبين الأمير سعيد فقد رفض الأمير الخضوع لأوامر الجنرال بتركه البعثة والسير مع القافلة التي تحمل العتاد والذخيرة ، ذلك لأن هذا ليس من خصائص الأمير ، فالأمير مرافق للجنرال وليس مرافقًا للمؤن والحاجيات ، وخاصة أن ذلك يسير بحماية رفادة باشا .
وفي (الوجه) وزّع الجنرال رجاله على ثلاثة مراكب شراعية ، وضَعَ الأمير في أحقرها ، ولم يكتف بذلك ، بل كان نصيب الزورق الذي يُقِلّ الأمير أن يحمل جميع ما تحمله البعثة من مواد متفجرة وبنزين ، فشعر الأمير أن الجنرال يضمر له الشر ، وأن أقل حادثة يمكن أن تفجر البارود أو تحرق البنزين وبذلك تنتهي حياة المركب ومَنْ عليه ... وبعد أربعة أيام من رحلة بحرية وصلت البعثة إلى (ينبُع) ، فنزل الجنرال وقام بمهمة خاصة لم يدر الأمير شيئًا عنها لأنه مُنِعَ من النزول إلى البر ، وكذلك مُنع من أن يطأ اليابسة عندما وصلت البعثة إلى (جُدّة) ، وحاول الجنرال أن يفعل مثل ذلك عندما وصلت إلى (القنفذة) ؛ أحد موانئ (عسير) ؛ بعد سير سبعة عشر يومًا ، ولكن الأمير ، مخالفًا لجميع الأوامر الصادرة إليه ، غادر المركب ومعه خادمه الخاص (مسعود الجزائري) وبقي في (القنفذة) رافضًا جميع المحاولات التي قام بها الجنرال ليحمله على تغيير عزمه ، وكاد الخلاف ينتهي بينهما إلى تحكيم النار والبارود ، واضطر عبد الكريم باشا الألماني إلى ترك الأمير في (القنفذة) ، وأن يتابع سيره دونه.
عرّف الأمير بنفسه لشيخ (القنفذة) ، فاحترمه أيما احترام ، وقدّم له المعونة الكافية ، وأرسل من يرافقه إلى مدينة (الليث) ، وهنا اتصل الأمير بالقائمقام فأكرم وفادته ، وقدّم له الرواحل وأدِلاَّء ليسير إلى مكة ومنها إلى المدينة ثم يعود أدراجه إلى دمشق.
وفي مكة كانت أولى مقابلات الأمير سعيد بالشريف حسين شريف مكة ، ولم يكن الأمير على علم بمساعي بريطانيا لتهيئة الثورة العربية ، ومفاوضاتها للشريف حسين . فظنّ الأمير أن واجبه المقدس أن يُقنع الشريف بضرورة تأييد الدولة العَليّة صاحبة الخلافة الإسلامية ، فبعد أن أكرمه الشريف وأنزله في جناح خاص من قصره بمكة المكرمة ، اجتمع به ، وكان مما قاله الأمير بعد التعارف وتبادل عبارات الترحيب والشكر:
الأمير :"أنت تعلم أن الصليب يحارب الهلال اليوم . وأنت ابن رسول الله . فيجب أن تكون على وفاق مع الخليفة العثماني"
الشريف :"ولكن الاتحاديين كَفَرَة لا يتبعون تعاليم الدين ، ولقد قاوموني . ولقد حاول الوالي وهيب باشا قتلي ، وهاجمني في قصري ، ووضع يده على أوراقي ورسائلي الخاصة"
الأمير :"ولكنك يا شريف! أنت ثاني رجل في الدولة العلية بعد الخليفة ، وإذا حدث للحكومة حادث فلا أحق منك أن يتقلدها ، لنسبك من رسول الله ، ولمقامك العظيم عند جميع المسلمين ، ومن لنا أمير غيرك إذا أصيب الخليفة؟"
الشريف :"أبداً! أبداً! لا أطمع بالملك ، ولا أطمع بمنصب يزيد عن حماية الكعبة الشريفة"
الأمير :"أنا على رأيك أيها الشريف ، لسوء إدارة الاتحاديين ، وإني أكره جمال باشا شخصيًا ، ولكن أرى أن واجبي في تأييد الخليفة الشرعي ..."
وأخذ الأمير يشرح للشريف حسين ما جرى له مع جمال باشا وتفصيلات الرحلة الشاقة ... وانتهى الأمر بالشريف حسين أن فوّض إلى الأمير سعيد أن يُحسِّن العلاقات بينه وبين جمال .
وقد حمل الأمير سعيد ذلك إلى جمال باشا في دمشق ومهّد السبيل للتفاهم بين الطرفين . والراجح أن اتفاق جمال باشا مع الشريف فيصل ابن الشريف حسين في دمشق ؛ يوم أقام فيصل في دمشق كان على أثر وساطة الأمير سعيد .
وقد جاء وصف هذه المقابلة ونتيجتها في جريدة الجامعة الإسلامية التي تصدر في (يافا) ، في عددها (562) وتاريخ الأربعاء في 23 صفر 1353هـ الموافق 6 حزيران 1934م بتوقيع الأمير نفسه)).انتهى [من كتاب (جهاد نصف قرن) لأنور الرفاعي ص54 إلى ص59]
ويتابع الأستاذ أنور الرفاعي فيقول :((وكان الأمير سعيد قد كتب رسالة شكر من المدينة المنورة إلى الشريف حسين بمكة ، وكتب من دمشق رسالة أخرى شرحَ فيها للشريف حسين مساعيه لدى جمال باشا . ووصلته رسالة جوابية بخط الشريف حسين وتوقيعه تُعدّ وثيقة من الوثائق التاريخية ، وفيها يُبيّن الشريف حسين أنه لابد وأن الشريف فيصلاً قد قابل الأمير .
ونصّها : (((عزيزنا الكامل السيد الشريف الأمير محمد سعيد بن الأمير علي ابن مولانا المرحوم السيد الأجلّ عبد القادر الحسني ؛ حفظه الله ورعاه . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد تناولنا بغاية السرور كتابيك الأول من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ والثاني من دمشق الفيحاء وفرحنا بهما لأنهما قد وافيا ببشائر عافيتك التي نتمنى من الله أن يديمها عليك وعلى والدك وأهلك وعشيرتك موفقين لكل ما فيه سعادة الأمة وخير الإسلام . ويكفيك يا بني من الفخار أن تمثل بمناهجك السامية جلال فضائل شرفكم الباذخ الذي تتوجت به مفارق آبائك وأجدادك من سلالة ذلك البيت الطاهر الكريم.
إنا لا نعد خدماتنا التي ذكرتها بالإطراء والثناء إلا جزءًا من بعض ما تفرضه الإسلامية علينا لخدمة الدين الحنيف والخلافة العظمى والبلاد العزيزة المحبوبة ، مؤملين من الله عزَّ وجلّ أن يوفقنا لإيفاء تلك الواجبات حقها وأن يمنحنا السداد في الأقوال والأعمال بما تقرّ به عين جدك الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه.
أدعو لوالدك بنجاح مساعيه وأن يرده إليك سالماً في دينه ودنياه وأن يسمعنا عن أخباره ما تسر به الأفئدة .
أنجالنا يهدوك سلامهم . ولابد أن فيصل قد حظي بمشاهدة طلعتك البهيّة بالفيحاء . إننا لا نزال نذكرك كما تذكرنا والله يتولى رعايتك أيها العزيز .
20/5/1333هـ أمير مكة
حسين ))).انتهى [جهاد نصف قرن ص63ـ65]
ويتابع الأستاذ أنور فيقول: ((قدم فيصل دمشق في 26 آذار عام 1915م ، فتلقاه جمال باشا بحرارة ....وبقي في دمشق هذه المرة ستة أسابيع .... وكانت أولى مقابلات الأمير سعيد مع الشريف فيصل خلال تلك الإقامة القصيرة ... وقد زاره في منزل آل البكري وذكر له ما سعاه لدى جمال باشا عن حسن التفاهم بين قادة الدولة العثمانية وشريف مكة ، مع العلم أنّ انضمام الحسين إلى جانب الحلفاء لم يكن قد تم بعد ..)) [المرجع السابق ص63]
((وعاد فيصل من الأستانة ، وتردد على دمشق مرات ، وتم الاتفاق بينه وبين قادة العرب فيها على الثورة ، وكان والده قد أتم اتفاقه مع البريطانيين ، وكان جمال باشا في دمشق يكرم فيصلاً من ناحية ويراقبه من ناحية أخرى ، وكان الأتراك يتوددون للشريف حسين وأولاده ويكرمونهم ، ولكنهم كانوا يخشونهم ويخافون أن يقوموا عليهم ؛ وكأن تلك المراسلات السرية بين حسين ـ مكماهون ، قد شمّ الأتراك رائحتها أو تنبّؤوا حدوثها دون أن يتمكنوا من كشف أسرارها والوقوف على حقيقتها، فكانت كل حركة وسكنة من الأشراف أولاد الحسين تؤوَّل لدى المقامات التركية . ويروي الأمير سعيد إحدى قصص جمال باشا والشريف بقوله :"بينما كنتُ في دارٍ لي "بالجسر الأبيض" ، قدم الشريف فيصل ، فاستقبلته استقبالاً يليق بمثله ،.. وبعد أن استوى بنا المكان أخذ يحدثني والدمع يترقرق في عينيه :
فيصل :"أحب أن أحدثك يا أمير بحديث جرى لي اليوم مع جمال باشا ، وآخذ به رأيك"
الأمير :"خيراً إن شاء الله"
فيصل:" طلبني جمال (باشا السفاح) وقال لي:"بلغني أنّ أخاك الشريف علي ، قد وصل المدينة المنوّرة وأخذ يتصرف بأمور ليست من اختصاصاته ، وأخشى أن يكون غير مخلص النية نحو الدولة العثمانية، وأنت تعلم أنني لا أسكت عن إنسان مهما علت منزلته ، ولن أسمح له أن يحيد عن طريق الإخلاص للدولة ، لذلك أرى أن تكتب لأخيك الشريف علي حالاً ، بأن يغادر المدينة ويعود من حيث أتى ، وإلاّ فسأضطر لشنقه .."
الأمير:"يا سمو الشريف! نحن أبناء عمومة ، ننتمي إلى الأسرة النبوية الشريفة ، ونحن على السرَّاء والضرَّاء ، ومن واجبي أن أحميك وأمنع عنك وعن أخيك أذى جمال السفاح ، وخاصة أنني أنا الذي كنت واسطة الصلح بين الشريف والدك وبين جمال ، فإن شئت سرتُ أنا إلى جمال ودافعت عنك وعن أخيك وأفهمته أن الحجاز تحت إمارتكم ، وأنتم تتنقلون أينما شئتم وحيثما أردتم ، وليس لأحد عليكم سلطان ، ولا لرجل مهما علت مرتبته في الدولة أن يمنعكم من دخول المدينة أو غيرها من مدن السلطان ، وإما أن تترك دمشق وتعود إلى والدك ، تخبره بسوء نيات جمال ، وأنا على استعداد لإيصالك إلى الحجاز سالماً آمنًا مع عدد من رجالي الذين أعتمد عليهم دون أن يتمكن جمال وعيونه من معرفة شيء من أمركم ، وإما أن تعود إلى دار آل البكري وتمتنع عن الحضور إلى مقر جمال باشا حتى ينجلي الموقف ، ويرجع عن ظلمه لكم أو ترى فيه رأيًا"
فيصل:"ولكنك تعلم أنني لا أستطيع أن أقوم بعمل إلا بما يأمرني به والدي وقد كتبت له بتفصيل ذلك اليوم . وأنا بانتظار جوابه"
الأمير:"إنني أخشى أن يكون جمال قد أضمر لكم الشر ، ولا بد أنكم ستنتقمون منه شر انتقام ، ولكن الزمن لم يحن لمثل هذا العمل ، وعلى كلٍ إذا امتنعتَ عن المجيء إلى مقرّه ، فإنه لابد سيسترضيك لأنه بحاجة إلى مساعدتك أنت وجميع عائلة والدك الكريم"
وقد اعتكف فيصل بالفعل في دار آل البكري لم يخرج منها يومه وليلته ، فأرسل إليه جمال يسأله عن سبب تغيبه واعتذرَ له عما بدر منه ، وقال له :"نحن في حالة حرب ، ولذلك كنت حريصًا على أن أراقب كل حركة وسكنة حتى لا يقع ما يضر بصالحنا ، وقد علمتُ بحسن نية أخيك ، وأرى أن نكون دائمًا على وفاق ، لذلك سأرسل برقية إلى بصري باشا بأن يلاطف أخاك ويحسن معاملته ؛ وأنت أبرق إلى أخيك أن يتفاهم مع الوالي حتى لا يحدث ما يشوش الحالة في المدينة ويقلق بال الباب العالي")). انتهى[المرجع السابق ص 65 إلى ص67]
((انتهت حملة الترعة التي أعدّها (جمال باشا السفاح) لغزو مصر إلى الفشل ، وظهرت نيات جمال باشا نحو العرب وزعمائهم ، فأخذ ينفي العائلات إلى الأناضول ويراقب حركات سادة العرب ، وألّف ديوانًا عرفيًّا في (عاليْه) وأمر بالقبض على عدد من كبار رجالات القوم من مسلمين ومسيحيين وأخذ يحاكمهم بتهمة التآمر على سلامة الدولة العثمانية والاتصال بالدول الأجنبية ... وفي 6 أيار 1916م أُعدم شنقًا واحد وعشرون شخصًا مِنْ عِلْيَةِ القوم..)) [المرجع السابق ص68ـ72]
((وكانت الأمور في الدولة العثمانية تسير من سيِّىء إلى أسوأ ؛ فإن إعدام الشهداء في 6 أيار لم يزد العرب إلاّ بغضاً بجمال والأتراك ، وإن الشريف فيصل الذي كان في مزرعة آل البكري يوم الحادثة المشؤومة ، صاح صيحته الشهيرة :"طاب الموت يا عرب" وكانت اتفاقات الشريف حسين مع البريطانيين قد انتهت ، والعرب استعدوا لإعلان الثورة )) [المرجع السابق ص76]
يقول الأستاذ محمود شاكر في (التاريخ الإسلامي) 8/227 : ((وقد أثارت هذه الإعدامات شيئًا من النقمة على جمال باشا خاصّةً ، وسُمّي الذين أُعدموا بالشهداء ، وكان حجةً لثورة الشريف حسين على الدولة إذ أرسل ابنه فيصلاً ليتوسط لدى هؤلاء فأراد جمال باشا أن يُلقي القبض عليه فاختبأ وأرسل لوالده فاندلعت الحركة من مكّة ، وكان قد تمّ التفاهم مع الإنكليز ، وهُزِم العثمانيون)).انتهى
قال الأستاذ أنور الرفاعي :((.. يمَّمَ الأمير عبد القادر الحفيد (شقيق الأمير سعيد) وجهه شطر الحجاز كعبة آمال المسلمين . وفي مكة تعرّف بالشريف حسين ..... وقبل أن يُغادر الأمير عبد القادر (المشهور بالأمير عبدو) مكة المكرمة ، حضر موسم الحج ، وكان موسمًا مزدحمًا كثير الحجاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وأخرج الحسين عَلَماً وصلى عليه أربعون ألف مسلم من الحجاج ، وطاف بالعلم سبع مرات حول الكعبة ، ثم سلّمه للأمير عبدو ليرفعه على سراي دمشق باسم الحسين ملك العرب.
وقد جاء في جريدة البيرق البيروتية في عددها (984) وتاريخ 19 تموز 1932م وصفٌ لرحلة الأمير عبدو (الشهيد) إلى الحجاز من مقال بتوقيع الأمير محمد سعيد ، نقتطف منه ما يلي :"وفي الحقيقة إن الخدمة الجليلة التي قام بها الشهيد عبد القادر نحو الوطن سوف تقدرها الأجيال المقبلة حق قدرها ويدونها التاريخ في أمجد صفحة من صفحاته بمداد الفخر والإعجاب ، وقد كان هذا الشهيد السبب في تأخير احتلال سورية مدة سنة ، وإذا علم الناس بأن الاحتلال كان مقررًا لسورية وليس هناك معاهدة يستند عليها ، كما صرّح لي الأمير فيصل بنفسه في وهيد ، لعرفوا عندئذ مقدار الخدمة التي أداها الشهيد لوطنه . ومما يدل على شدة تعلقه بالله وفرط إخلاصه لوطنه وأمته أنه حين فرّ من بروسة مقر منفى عائلته وقطع تلك المسافة الشاسعة إلى أن وصل إلى مكة بقي متنكرًا عن الناس لابسًا النعل الحجازي والثوب الأبيض البسيط حتى تمكن من القيام بشعائر الحج خير قيام لا يشغله من مشاغل الدنيا وسفاسفها شاغل . ولما علم ملك العرب الحسين بن علي بمقدمه نصب له مضربًا إلى جانب مضاربه وخطب في السوريين قائلاً :(هذا أميرٌ من أمرائكم ، وزعيمٌ من زعمائكم، تعرض لأشد الأخطار رغبة بأداء الفريضة وحبًّا بخدمة بلاده وأمته وهو يتوارى عن الناس لكي يكون عمله خالصًا لله وحده فعليكم أن تقتدوا به وتسيروا في أثره) ثم أمر بتسليمه عَلَمَ القيادة الذي جاء ذكره وطلب منه الذهاب للعقبة ليكون إلى جانب نجله الأمير فيصل".انتهى
((واجتمع الأمير عبدو في العقبة بالأمير فيصل قائد الجيش العربي ، فأكرمه فيصل كما أكرم جميع قادة العرب ومشايخها وزعمائها ، وكان (لورنس البريطاني) يرافق الأمير فيصل ، ويدبر الخطط الحربية ، ويقدّم الذهب الوهّاج إلى الأمير فيصل ليوزعه على القبائل العربية دون ما حساب ... وسار لورنس والأمير عبدو إلى (الأزرق) ، وطلب لورنس من الأمير عبد القادر أن يسير برجاله ـ وقد أصبحت تحفّ به ثلة من المتطوعين الذين أُعجبوا ببطولته وشهامته ـ وأن ينسف الجسر الحديدي في وادي خالد قرب تل شهاب ، فأبى الأمير عبدو وقال :"إن مهمتي أنا هي قتل جمال باشا الذي شنق أحرار العرب وأبرياءها ، وهزئ بعائلتنا وكرامتها وأهانها بشنق الأمير عمر ، أمّا نسفُ جسرٍ حديدي يسبب قطع خط الرجعة على آلاف من الجيوش المسلمة التابعة للدولة العثمانية فليس من الإيمان في شيء ، فهم مسلمون قبل أن يكونوا أتراكًا ، وهم عرب على الغالب ، وقد حاربوا إلى جانب تركيا لأنها كانت هي صاحبة البلاد ، واليوم عندما يطلب إليهم الانضمام إلى جيوش الثورة العربية فلا يرفضون ، ولا يجوز لي أن أعمل على إيقاعهم أسرى في أيديكم أو على قتلهم برصاصكم ..."
ومن هنا نقم لورنس على الأمير عبدو وأضمر له ولأسرته الشر ، وترك الأمير عبدو لورنس غاضبًا ، وسار برجاله نحو دمشق فلما وصل جبل الدروز اتصل بزعمائها ورفع علم الحسين الذي كان معه ، وكان ذلك إخلاصًا منه للحسين الملك الجديد على العرب ، وإن خالف أوامر حليفه لورنس الإنكليزي ..
ثمّ عفت الدولة العثمانية عن الأمير عبدو ، ونزل دمشق ، واحتفظ بعلم الحسين في دار أبيه)).انتهى[جهاد نصف قرن) لأنور الرفاعي ص79 إلى ص81]
وأما قصة رفض الأمير عبدو لطلب الضابط البريطاني لورنس بنسف الجسر الحديدي ، وتركه له فقد ذكرها أكثر من مرجع . وأهمها ما ذكره لورنس نفسه في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) ص390 ، وكتابه (ثورة الصحراء) ص103 ، حيث خصص صفحات تحدّث فيها عن الأمير عبدو وشقيقه الأمير سعيد ، ووصف الأول بالتعصّب الديني وأنّ إسلامه وقف ضد مسيحيّته ، وكان يصفه بعدوّه القديم . وفي تلك الصفحات برزت نفسيته العِدائية نحوهما بوضوح تام .
يتابع الأستاذ أنور الرفاعي فيقولك: (( ..وما كاد الأمير سعيد يستقر بدمشق ويتصل بأنصاره وأعوانه ـ وكانت الثورة العربية قد اندلعت وتراجع الترك عن الجزيرة العربية وأصبحت فلسطين وسورية مهددة ، وأُسندت قيادة الجيش في فلسطين إلى جمال باشا المرسيني المعروف بجمال باشا الصغير تمييزًا له عن جمال السفاح ـ حتى رأت الدولة العثمانية حاجتها إلى الأمير شديدة ، ليقوم بمهمة الوسيط بينها وبين الأمير فيصل قائد جيوش الثورة العربية ، فلقد حاولت تركيا أن تسترضي فيصلاً ، بعد أن سبق السيف العذل ، وبعد أن أطلق والده الملك حسين أول رصاصة إيذانًا بثورة العرب الكبرى وبعدما تقدمت جيوش الثورة العربية وضيّقت على الأتراك في الحجاز ، وضربت سكة حديد الحجاز وتقدمت شمالاً وأخذت تستعد لدخول سورية في الوقت الذي أصرّ فيه الملك حسين على الحلفاء تسيير حملة إلى فلسطين تساند الجيش العربي ، وكانت بريطانيا تهيئ حملة الجنرال (اللنبي) التي حررت فلسطين عن قريب من أيدي العثمانيين ولكنها مع الأسف حررتها من حكم ، لتكبلها بحكم أشد وأقسى ، نعم في هذه الوقت وصلت إلى الأمير سعيد رسالةٌ شخصية مع موفد خاص من قبل جمال باشا المرسيني يرجوه فيها التكرم بزيارته في مقر قيادته في (السّلط) في شرقي الأردن وكان ذلك في أواخر شهر تموز عام 1918م.
وقد أخذ جمال المرسيني يشرح للأمير موقف الجيوش العثمانية المتخاذل ، وقوة الأمير فيصل والجيوش العربية ، ويستفز حماسة الأمير الدينية ، ويقول له :"لقد هاجمت جيوش الأمير فيصل جيوشنا وأعملت فيها السيف ، ونحن مسلمون قبل كل شيء ، ويجب حقن دماء المسلمين ، والصلح خير الحلول بيننا ، ولقد جرت بين الأتراك والأمير فيصل مراسلات من عدة شهور لم تأت بطائل ، وإني لم أجد الآن خيرًا منك ليذهب إلى فيصل ويقوم بدور الوسيط في الصلح بيننا وبينه ، وذلك لشرف عائلتك ، ولانتسابك إلى الرسول العربي الكريم صلى الله عليه وسلم كانتساب الأمير فيصل ، فأنتم أبناء عم ، ولمقدرتك ومقامك عند الجميع ولإخلاصك إلى الخليفة العثماني وحبك لحقن دماء المسلمين ..."
((فرضي الأمير سعيد هذه المهمة الخطرة ولكن المشكلة كانت كيف يستطيع الأمير سعيد اجتياز الحدود بين الجيشين التركي والعربي ، وكيف يتوصل إلى الاجتماع بالأمير فيصل ... واقترح الأمير سعيد أن يتصل هو بالأمير فيصل ويستمزج رأيه بالاجتماع به وبعد الاتفاق معه سيذهب إليه ، وأعجبت الفكرة جمال باشا وترك أمر ذلك جميعه للأمير سعيد ... وأرسل الأمير سعيد أحد رجاله الذين يعرفون البلاد معرفة تامة برسالة خاصة منه إلى الأمير فيصل فجاءه الجواب :
((قيادة الجيوش العربية الشمالية
ديوان الأمير
تاريخ 3 ـ 2 القعدة 1336هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده .
حضرة الأخ الكريم ؛
تلقيت كتابك وسررت على صحتك ، عسى الباري يحفظك ، ولعلمي بصفاء نيّتك وخلوصك وما بيننا من الروابط الودية ، أُحرّرُ لك هذا ، أولاً لإعلامك عن صحتي ولله الحمد ، ثانيًا لئلا تتهمني بقلة الوفاء ، وإلا ما كنتُ أرى لزومًا للرد على كتابك لأنني قد جربت أصحابك ، وجرَت بيننا أحاديث تحريرية ولم أر لذلك أدنى ثمرة ، وتأكدت من ذلك بأنهم يريدون المماطلة لاكتساب الفرص ليس إلاّ.
إنْ كنتَ تريد المواجهة شخصيًا فأهلاً وسهلاً وإنني على العهد ، وإن جئت لإبداء بعض ما يُظهرونه لك ويُضمرون خِلافَه ، فلا أرى لزومًا لتعبك ، ولذلك فهنا أمرين : إن كانوا أعطوك ما تتوثق به عن صفاء نيتهم وبيدك ما يثبت ذلك ، فمرحبًا بك ، وتأتي الليلة القابلة الموافق 3-4 القعدة 1336هـ وهي ليلة الأحد الموافق مساء 10 أغسطس إفرنجي ، وفي الساعة الواحدة عربي في وادي (عقيقه) الواقع جنوب سمنة القبلية ، وسيكون في ذلك المحل "فانوس" أحمر مع من يلزم لخدمتكم ، فاعتمدوا عليهم وامشوا بمشورتهم. وإن كانوا قد أجبروك على المجيء ولا بيدك ما يطمئن به قلبك ، فأنت بمحلك والعرب وشأنهم .والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التوقيع: أخوك فيصل )).انتهى
[كتاب (جهاد نصف قرن) لأنور الرفاعي ص88]
ولي هنا تنبيه : كما ترون فالجميع يخاطب الأمير سعيد والأمير عبدو على أنّهما تابعان مخلصان للدولة العثمانية ، وكذلك تصرفاتهما تدل على ذلك ، والولاة العثمانيون أيضًا يتعاملون معهما بوصفهما مخلصان للخلافة العثمانية ، ولم يمر معنا أنهما فعلا شيئًا يخالف ذلك!!
((..وكان اجتماع الأمير فيصل بالأمير سعيد في (وهيد) بحضور نوري باشا السعيد وفائز بك الغصين أمين سر سمو الأمير فيصل الخاص في ذلك العهد ، واستمعوا جميعًا إلى أقوال الأمير سعيد الداعية إلى إحلال الوفاق بين الأتراك والعرب ، والضنّ بدماء المسلمين ، وكان الأمير فيصل يصر على انسحاب تركيا من البلاد العربية وإعلان استقلالها استقلالاً ناجزًا والاعتراف بتتويج الملك حسين ملكًا عليها ، وهي نفس الاتفاقات التي كانت بين والده الشريف حسين ومكماهون البريطاني والتي قامت الثورة العربية على أساسها ، ولما كان الأمير سعيد لا يملك مثل هذه الصلاحية وإعطاء مثل هذه الوعود ، هنّأ الأمير فيصل على إيمانه بمستقبل العرب وعلى تشبثه باستقلال العرب ، وتمنى له التوفيق واستأذنه عائدًا يحمل رسالة الأمير فيصل الجوابية إلى جمال المرسيني ، وقد أملاها الأمير فيصل باللغة التركية على أمين سره فائز بك الغصين وترجمتها :
""إلى حضرة جمال باشا قائد الجيش الرابع :
يا حضرة القائد العام
تسلمت كتابكم المؤرخ في 5/8/1336هـ والذي تفضلتم بإرساله مع الأمير سعيد وليس لي ما أقوله بالنسبة إلى شخصكم لما أعرفه فيكم قديمًا من الشعور الطيب والعواطف النبيلة التي خبرتها بالذات ولكن هذا لا يمنعني من القول بأن هذه الكتب والرسائل التي لا أزال أتلقاها من وقت إلى آخر وأجيب عليها منذ نحو تسعة أشهر سواء من حضرتكم وسواء من غيركم من كبار القوم ليست سوى إضاعة للوقت فيما لا يفيد إذ لم أر فيها ما يدل على روح إسلامية صحيحة وبذلك لم يبق لي أمل ما في الوفاق والاتفاق. ومع أن زيارة الأمير سعيد بعثت شيئًا من الأمل في نفسي إلا أن هذا لا يمنعني من تنبيهكم إلى حالتكم العامة ، ووضعكم العسكري صار في أقصى درجة من الخطر وستؤيد الأحداث قولي هذا الذي أقوله بلسان المسلم المخلص الصادق لا بطريق التهديد ، والله يعلم أن ما أكتبه إليكم بهذا الشأن مصدره الوجدان الذي يهيب بي إلى نصحكم وتحذيركم . إن العرب لا يطلبون شيئًا من الترك ، إن كل ما يطلبونه هو أن يعيشوا أحرارًا وعلى وفاق تام واتحاد معهم.
إن للعرب مطلبًا صريحًا وواضحًا يلحّون في تحقيقه وإجابته ولا يتنازلون عنه وإني أصارحكم به وهو : (إن العرب يريدون منكم أن يكون حالهم معكم كحال بافاريا مع ألمانيا) ، إن قبول هذا الاقتراح يربط بين قلبي الأمتين برباط متين لا تنفصم عراه كما إني أَعُدُّ القَبولَ بأقلَّ منه جناية تُجنى على هاتين الأمتين الإسلاميتين فلا يتجدد بعد ذلك الزمن الذين يعودون فيه إلى دواوين الحرب العرفية وإلى أحكام الإعدام والشنق وإلى الفتاوى المزيفة وإلى ترديد عبارات (الأصابع الأجنبية) أو الخروج على السلطان فتجدد القلاقل والمصائب .
والخلاصة إنني أختم كتابي قائلاً بأنني على أتم استعداد للدخول في المفاوضات متى قبلت الحكومة التركية اقتراحي هذا مقدمًا احترامي إليكم . في 5/11/1336هـ
فيصل "".انتهى
(نص الكتابين نشرته جريدة الكفاح عدد 1652 وتاريخ الخميس 26/ربيع الأول/1365هـ ،و28/شباط/ 1946 بتوقيع الأمير سعيد نفسه). [ وانظر كتاب (جهاد نصف قرن) ص89 إلى ص92]
((ويضيف الأمير سعيد زيادة عما ذكرناه في وصف مقابلته للأمير فيصل ما جاء في سلسلة مقالاته في جريدة الجامعة الإسلامية الذي نقتطف منه بعض فقرات وردت في عدد 9 تموز 1934م وهي :""..وبعد العناق والسلام بدأنا بالحديث وسلمته كتاب جمال باشا فقرأه وأكثر الإمعان فيه ، وما لبث أن استأذن بالذهاب ودخل إلى فرع متصل بالصيوان وهو عبارة عن خيمة صغيرة فيها منضدة للكتابة ، وجلس حوله فائز بك الغصين ونوري باشا السعيد . وبعد محادثة نصف ساعة على التقريب جاء الأمير (فيصل) وأرباب معيّته وبيده كتاب يحتوي على جوابه لجمال باشا فناولني إيّاه قائلاً :"هاك جواب جمال باشا اقرأه . وبعد قراءته عرضتُ رأيي على الأمير بوجوب كتابة (دردنجي أردو قومانداني جمال باشا حضرتلرينه) بدلاً من (جمال باشا به) تبعًا لحسن المجاملة التي ما أنقص جمال فيها شيء . فرأى الأمير رأيي وضرب على هذه العبارة وكتب حسبما اقترحت .
.. وبعد هذا تداولنا في الشؤون وما يجب اتخاذه من تدابير إذا امتنع الترك عن الموافقة على الاستقلال وسألت الأمير عن العهود والشروط التي تقررت بينهم وبين الإنكليز فيما يتعلق بسورية وما هي الخطة التي تقررت بين الجانبين ، فأجابني بما يأتي حرفيًا : "ليس هناك لا عهود ولا شروط يا أخي ، إنما الذي تم القرار عليه هو أننا سنهاجم سورية وفلسطين ، فكل قوة من القوى الثلاثة الإنكليز والإفرنسيين والعرب تسبق فتحتل بلدًا تسيطر عليها إلى أن تنظر الدول المتحالفة في أمرها ، من أجل ذلك إذا أردتم أن تضمنوا استقلال بلادكم فلا تنتظرونا ، بل عندما تسمعون بقرب الجيوش منكم أعلنوا الاستقلال ولو بتضحية إذ ربما تأخر الجيش العربي وتقدم غيره".انتهى [المرجع السابق ص93]
(ونشرت جريدة الأيام والمقطم عام 1923 تصريحات الأمير سعيد كاملة حول هذا الموضوع)
وحمل الأمير سعيد الرسالة الجوابية من الأمير فيصل واتجه إلى مقر جمال باشا المرسيني .
(( .. وكان الأمير سعيد قد أخذ يناقش جمال باشا في مستقبل البلاد العربية وموقف الأتراك من حركة العرب ؛ ويقنعه بضرورة الاتفاق مع العرب والقَبول بمطالب الملك حسين جميعها وكان مما قاله :"هل تعتقد أن باستطاعة الجيوش العثمانية الصمود أمام هجمات الجيش العربي والإنكليزي؟"
جمال:"لا أعتقد هذا أبدًا"
الأمير:"إذن أليس من الأنسب أن تعلنوا أنتم استقلال البلاد فتكون لكم يد بيضاء على الأهالي ، وسوف تنتهي الحرب بشكل ما ، وستبقى العلاقات بينكم وبين العرب حسنة ، ولا يشعر الأهالي بفرق بين حكومتكم والحكومة العربية المقبلة ، لأنهما حكومتان مسلمتان"
وقَبِلَ جمال المرسيني وجهة نظر الأمير سعيد وعقد هيئة أركان حربه وعرض عليهم الفكرة ووافق الجميع إلاّ واحدًا.
وكتبوا إلى العاصمة التركية لأخذ موافقة أولي الشأن ، ووافق السلطان محمد رشاد ، وكتب بذلك أمرًا ، ولكن (طلعت) و(أنور) و(جاويد) قادة الاتحاديين أهملوه ولم يرسلوه إلى سورية وكانت الحوادث تمر بسرعة ؛ ولم يجدوا الوقت الكافي لتحقيق اقتراح الأمير سعيد)).انتهى [المرجع السابق ص94] و[انظر مذكرات عن القضايا العربية والعالم الإسلامي ص126]
وكانت أخبار تقدم الجيش العربي والإنكليزي وانهزامات الجيش التركي تَرِدُ إلى مدينة دمشق ، والأهالي يشاهدون ارتباك الأتراك وحلفائهم الألمان فيها ، وكان الناس ينتظرون سقوط مدينتهم على أيدي الجيوش العربية أو الجيش البريطاني بين لحظة وأخرى . ((... وكان جمال باشا المرسيني ؛ بعد أن عاد الأمير سعيد من (وهيد) وأيقن أن الصلح مع الأمير فيصل ضربٌ من المحال ؛ كلّف الأمير سعيدا بأن يُؤلف من المغاربة الموجودين في سورية قوة محلية لحفظ الأمن ولمساعدة الجيوش التركية وأعطى قيادة هذه القوة إلى أخيه الأمير عبدو الذي سار بها إلى (إزرع) ليحول دون اتصال الجيش العربي بجبل الدروز ، وبقي أفراد من هذه القوة المغربية حول الأمير سعيد بدمشق ، ولكن الترك لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام زحف العرب والإنكليز فتراجعوا إلى الكسوة([1]) وأخلوا حوران وجبل الدروز وتراجع الأمير عبدو إلى دمشق ، وكانت المدينة في حالة فوضى مستحكمة ، فقناصل الدول تغادر المدينة، والناس في هرج ومرج ، والشائعات تبلبل الأفكار ، والوالي العثماني لم يُعرَف مقرُّه ، فقد فرَّ في الظلام من المدينة ؛ وخشيَ عقلاء القوم من حدوث فتنة في المدينة ، وانتشار الغوغاء واللصوص في أسواق المدينة للسلب والنهب ، وسارع الأمير سعيد إلى مقابلة جمال باشا المرسيني الذي كان قد نقل مركزه إليها وقال له :"إن المدينة أصبحت في حالة فوضى لا مثيل لها ، والناس لا يعرفون ما يعملون ، وأخشى وقوع حوادث تسيء إلى سمعة المدينة ؛ وإني كجدّي عبد القادر العظيم في عام 1860م أرغبُ في المحافظة على الأرواح ، ومنع الاعتداء على النساء والأطفال ، والوقوف دون النهب والسلب ، وما قد يحدث بين الطوائف من أناس لا خلاق لهم .."
جمال:"كيف العمل؟ والجيش مشغول بالانسحاب والأعداء يتقدمون نحو العاصمة والإشاعات أن طلائعهم أصبحت في الغوطة وسيدخلون المدينة بين لحظة وأخرى"
الأمير:"أرى أن نجمع زعماء الأحياء ليتفقوا على المحافظة على أحيائهم ويؤلفوا حرسًا وطنيًا كما كان الحال في فرانسا وقت الثورة الإفرنسية وبذلك نأمن وقوع حوادث محلية أهلية"
جمال:"حسناً ، افعل ما بدا لك"
ولكن اجتماع زعماء الأحياء لم يُثمر ثمرته المطلوبة ، فعاد الأمير سعيد إلى جمال باشا وقال له :"لم يعد وقت للتفكير والاستشارة ، فالبلد في غليان شديد ، ومُرَوّجو الإشاعات يقلقون الناس ويعملون على إشعال الفتنة . وأنا سأقوم بتوزيع رجالي المغاربة على مداخل الحارات لأمنع التعدي وأحفظ النظام"
جمال:"حسنًا! وأرجو أن يحافظ رجالك عليّ أنا أيضًا"
الأمير:"بما أني سآخذ على عاتقي حماية المدينة فإني أرى أن تأمر الفرق الباقية لديك بالانسحاب من دمشق هي والجنود الألمانية الموجودة فيها بمعدّاتهم وأسلحتهم حتى لا يقع أي اشتباك بين جيشكم المنسحب وجيوش الثورة العربية الظافرة وحتى تسْلم المدينة من الخراب والتدمير .."
جمال:"رأيك في مكانه ، وسأنفذ اقتراحك" . واعتبر الأمير سعيد نفسه مسؤولاً عن دمشق فأسرع إلى داره في حي العمارة وجمع أصحابه وأنصاره ، وأصدر لهم الأوامر المختلفة بالمحافظة على الأمن والنظام وتسهيل انسحاب الجيش التركي المنهزم . وكان ممن تطوع للمحافظة على الأمن والنظام في المدينة ومنع التعدي وحماية الأقليات الدينية العالم الجليل الشيخ رضا العطار ، وكان ضابطًا في الجيش التركي)).انتهى [جهاد نصف قرن ص96ـ 97]
(والشيخ محمد رضا العطار كان قاضيًا في دمشق ومن العلماء الكبار فيها وله عدة رسائل وكتب ودواوين شعر ، توفي في دمشق سنة 1372هـ وهو والد الداعية الكبير عصام العطار صهر الشيخ علي الطنطاوي. والجميع أصولهم من الجزائر!)
((.. ثم قصدَ (الأمير سعيد) إلى دار الحكومة أمام ضفة بردى يحفّ به ثلاثة من أسرته الأمراء وهم الأمير جعفر والأمير محمد الباقر والأمير حسن ، يحمل كلٌّ منهم بندقية ، ووجد على طول الطريق بين السراي وأوتيل فيكتوريا صفّين من الخيّالة (الدَّرك) المحلّي بقيادة أمين بك الطرابلسي ، فجاوزهم، وصعد درج السراي ولم يجد فيها أحدًا ودخل غرفة الوالي .. وجلس في كرسيّه ، يأمر وينهي.
وشَعَرَ الأمير سعيد أن واجبه الآن أن ينفِّذ ما وعد به الشريف حسين يوم اجتمع في مكّة أثناء رحلته الأولى في طليعة الحرب ، وأن يحقق وعد أخيه الأمير عبدو للشريف حسين عندما استلم منه العلم وحمله إلى دمشق واحتفظ به في الدار ؛ فنادى صديقه المرحوم معروف الأرناؤوط والمرحوم عثمان قاسم وقال لهما :"اذهبا إلى بيتنا في العمارة واتياني بعلم الحسين بن علي الذي أحضره أخي عبد القادر معه من مكة" ، وما هي إلا لحظات حتى شهدت دمشق موكبًا من المواكب الضخمة يذكرنا بمواكب الحج وسفر المحْمَل الشريف ، فقد حمل الأرناؤوط وعثمان العلم العربي ، وركبا في عربة الأمير سعيد الخاصة ، وسار أمامهما عدد من المتطوعين المغاربة يحمون العلم بسلاحهم ودمائهم ؛ وهرع السكان من كل حدب وصوب ينشدون ويهزجون أهازيج الفرح والسرور ، ويعلنون ولاءهم لهذا العلم العربي ، وانضمامهم إلى الثورة العربية ، وما كاد يصل إلى ساحة الشهداء (المرجة) حتى أصبح ألوفًا مؤلفة ، وخرج الأمير سعيد من السراي ، واستلم العلم بيده ورفعه على سراي الحكومة بين الهتافات والتحيات .....
تابع القسم الثاني
[1] ـ من مقال لجميل بيهم : المنار الجديد العدد (13) .
-
الحلقة العاشرة من رد الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري
ونترك وصف هذه الساعة التاريخية إلى جريدة المقتبس التي كان يصدرها العلاّمة الجليل الأستاذ محمد كرد علي ، التي صدرت ذلك اليوم ووصفت رفع علم الحسين على السرايا وبيان الأمير سعيد وصفَ شاهد عيان ، قالت المقتبس :""كان يوم أمس الاثنين سنة 1918 تشرين الأول من الأيام الكبرى في تاريخ الناطقين بالضاد عامة وقاطني حاضرة الشام خاصّة ؛ خَفَقَ فيه العلم العربي ذو الألوان الأربعة على الرؤوس بعد أن طال العهد ونَسيت الأمة العربية أنّ الدهر ربما أعادها سيرتها الأولى وبدلها من عسرها يسرًا ومن يأسها أملاً .
اخفُقْ علَمَ محمد بن عبد الله القرشي النبي الأمين ومَثِّلْ للبشر عظمة الأمويين ببياضك والعباسيين بسوادك واليمانيين باحمرارك وجيش النبوة باخضرارك ، واتلُ على الناس :
إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفًا *** أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
بيضٌ صنائعنا ، سودٌ وقائعنا *** خضرٌ مرابعنا ، حمرٌ مواضينا "" )).انتهى
ونقلتْ هذا المقال مع كلمة الأمير سعيد التي ألقاها في حينها جريدةُ النضال في عددها 1226 الصادر في يوم الجمعة 10/صفر/1363هـ الموافق 4/شباط/1944م .[كتاب (جهاد نصف قرن) ص98 ـ 101]
دمشق في آخر عام 1918م
بقي الأمير سعيد طوال الليل يتابع الأحداث مع رفاقه ((..وفي الصباح الباكر كلّف شاكر بك الحنبلي كتابة كتابين أحدهما للقائد الإنكليزي والآخر للقائد الإفرنسي لإبلاغهما تأسيس الحكومة الوطنية ولإنذارهما بعدم جواز دخول الجنود الأجنبية قبل إشعار هذه الحكومة ، عِلمًا منه بأن جيش الأمير فيصل لا يزال بعيدًا عن الشام وكان هو على علم واتفاق مع الأمير فيصل في (وَهيْد) غربي معان يوم اجتمع إليه فطلب منه فيصل أن يُعلن هذا الاستقلال وأن لا ينتظر قدومه خشية أن تسبقه جيوش الاحتلال .
وما طلع فجر 1/10/1918م حتى أحاطت بالمدينة جنود جيش يتجاوز العشرة آلاف جندي من جنود الإنكليز يتقدمه ماجور أوسترالي اسمه (الماجور آرتر أولدن) فأرسل الأمير رسولاً قابل القائد وسأله عن مطلبه فقال إنه يقصد احتلال فندق فكتوريا ورفع العلم الإنكليزي عليه بصفته أول جيش دخل ، كما كان مقررًا بين الجيش الإنكليزي والجيش الإفرنسي وقيادة الجيوش الشمالية التابعة للجنرال (اللنبي) .
وأمر الرسول بالرجوع ثانيًا وإبلاغ قائد الحملة ودعوته إلى الحضور إلى قيادته فأخَذَتِ القائد ريبةٌ لعلمه أن جمال الصغير كان بالأمس يسكن الفندق ولم يعلم ما حصل في الليل.
وما طال تردده بل ذهب إلى دار الحكومة ولما وصل إلى رتاج السراي خاطب السيد عبد الحليم اللاذقاني بالإنكليزية قائلاً :"إذا كان هناك حاكمٌ فليأت لعندي" وبقي حذرًا وسلاحه بيده مع زملائه الضباط . وخرج الأمير إلى الشرفة وخاطب القائد باللغة الإنكليزية قائلاً له :"اصعد إلى هنا ، هنا الأمير سعيد" فبغت القائد حينما سمع صوتًا جهوريًا بالإنكليزية يُملي عليه أمرًا عسكريًا فما وسعه إلا الامتثال.
ولما دخل الميجر الاسترالي (آرتر أولدن) قائد الطليعة الإنكليزية التي دخلت دمشق ، على الأمير في دار الحكومة بادره قائلاً بواسطة الترجمان :"ولماذا دخلت شاهرًا السلاح لمدينة مستقلة لها نظامها ولها تقاليدها؟"
فردّ الضابط قائلاً :"دخلت بأمر من الجنرال (اللنبي) لمدينة يحكمها الترك لاحتلالها احتلالاً عسكريًا"
وردَّ عليه الأمير :"إذن ينبغي أن تعلم أنك على خطأ بقولك أنك دخلت لاحتلال مدينة تركية وما كان ينبغي لك أن تدخل وجيشك شاهرين سلاحكم لمدينة تملك حريتها واستقلالها ، ولولا أنكم تنتسبون إلى حكومة حليفة لما اعتبرناكم ضيوفًا عندنا وطلبنا إليكم أن تنسحبوا"
وإزاء هذا الأمر الواقع لم يسع الماجور إلا أن يتراجع بنظام مجيبًا الأمير بقوله :"يا سمو الأمير! نحن لم ندخل إلى العاصمة بقصد الإساءة إلى حكومة حليفة لنا بل جئنا لنضع هذا الجيش تحت تصرفكم لتتمكنوا بواسطته من توطيد الأمن بعاصمةٍ خلت من رجال الأمن والشرطة"
فقال الأمير :"إن الأمن في البلاد كان بيد أهل البلاد زمن الترك وأنت حينما دخلت بجيشك هل وجدت غير الهدوء والسكينة والنظام؟ ولما كان عندنا من الجند المتطوع ورجال الدّرك والشرطة ما يخولنا إمدادكم بصفتكم حلفاء فنحن على استعداد لمعونتكم"
فانحنى الماجور وشكر الأمير ورجاه أن يمدّه بأدلاّء يذهبون معه لجهة باب شرقي حيث لايزال في تلك الجهة فلول من بقايا الجيش التركي والألماني.
ونادى الأمير الأميرالاي زكي بك العظمة وعزت بك الخوجة وأمرهما بالذهاب مع الجيش الإنكليزي شرطَ أن لا يتدخلا بأي أمر حين لقاء فلول الترك بل عليهما أن يأمراهم بالتسليم باسم الحكومة المؤقتة . وهكذا حصل ، وقد سلّم الترك لمجرد إخطارهم بالتسليم من قِبَل الضابطين العربيين.
وما كادت هذه الحادثة تنتهي حتى دخل الشريف ناصر ووراءه 30 فارسًا فدخل على سمو الأمير وسلم عليه ولمّا علم أنه رسول الأمير فيصل وأول طليعة له ؛ ولمّا كان الأمير ليس ممن يشتغلون في خدمة الوطن لطمعٍ وهو يعلم أخلاق الناس ما يعلم ، وخوفًا من أن يحدث تصدع في الصفوف من أجل هذا الكرسي المؤقت الذي شغَلَه بكل جرأة ودراية ، كلّف الشريف ناصر بإشغال كرسي الحكم ريثما يصل الأمير فيصل ، فاعتذر هذا بمرضه الشديد وقال له :"يا للعجب أما تلقيت كتابًا من الأمير يرجوك فيه إدارة الحكم حتى حضوره؟" فأجابه بالنفي.
وقد ظهر أن الأمير فيصل بعث بكتاب مع فائز بك الغصين سلّمه بالفعل لجماعة زعمت أنها من أنصاره ، وقد لعبت أيدي الطامعين بهذه الرسالة ؛ وبناءً على إصرار الشريف ناصر بعدم إمكانه إشغال هذا المنصب لمرضه كلّفه الأمير سعيد أن يكتب له تفويضًا بإدارة الحكومة حتى حضور الأمير فيصل ، فكتب ما يلي : (إن سمو الأمير محمد سعيد مكلّف بإدارة الحكومة لحين حضور مولانا سمو الأمير فيصل) الإمضاء ناصر بن راضي رسول الأمير))
((وأمر الأمير سعيد جماعته باستصحاب الشريف ناصر وجنوده إلى داره العامرة بالعمارة والقيام بضيافتهم . وما كاد يذهب الشريف إلى دار الإمارة حتى دخل (لورنس) ومِنْ ورائه جموع العرب وفي مقدمتهم سلطان باشا الأطرش والشيخ عودة أبو تايه وغيرهم .
فتقدم الأمير من لورنس وأبلغه بأن هنا حكومة مؤقتة أعلنها باسم جلالة الملك حسين وأراه العلم الذي أتى به الأمير عبدو أخوه من الحجاز ، فدخل لورنس البهو الكبير وهناك أخذ ذوو المطامع بدس الدسائس بحق الأمراء الذين كان لهم الفضل بتوطيد الأمن ولولا قيامهم بعملهم المفاجئ وإعلانهم الاستقلال لَنَسَفَ الألمان العاصمة بالمدافع التي وضعت بجبل قاسيون وأُعدت لنسفها في آخر لحظة ، ولكن إعلان الاستقلال بتلك الجرأة أوقعهم بتلاشٍ فلم يتمكنوا من غايتهم وإن تمكنوا من إحراق الذخائر ونسف باركات السيارات في أطراف المدينة ولا تزال آثارها باقية إلى الآن في باب شرقي والقدم)).
((ولما كانت هناك خطة مدبّرة ترمي إلى وضع الحكومة تحت نفوذ الإنكليز الذين لم يمكنهم الأمراء الجزائريون من بغيتهم فقد أصبح وجود الأمراء على رأس الحكم عقبة كأداء في سبيل المطامع الإنكليزية وتأمينًا لهذه الغاية فقد دسّ بعضهم على الأمراء بأنهم يتآمرون مع الشريف ناصر الذي أخذوه إلى دارهم مع أن دعوتهم للشريف ناصر صدرت بناءً على حقوق الضيافة ، ولصلة الأمير سعيد بالأمير فيصل صلةً سبقت كل هذه الحوادث يوم مقابلته له في 6 آب بمقر جيوشه بـ(وهيد) غربي معان وما قام الأمير سعيد بكل هذه الحركات إلا لإنقاذ البلاد من الفوضى وإبعاد مطامع الأجانب عنها وكان يصرف على الفرقة المتطوعة من ماله الخاص مما لم يُسبق له نظير بين الذين اشتغلوا بالسياسة ومع ذلك فقد تنحى عن الحكم بملء إرادته واختياره تاركًا الحكم لذوي المطامع وإن ما كتبه (لورنس) في كتابه (ثورة في الصحراء) لأعظم دليل على صدق ما نقول .
وبينما كان الشريف ناصر على وشك الجلوس على مائدة الأمير سعيد جاء رسول (لورنس) وهمس في أذن الأمير طاهر ، بوجوب ذهاب الشريف ناصر مع أحد الأمراء إلى مقرّ الحكومة حالاً ، فرفض الأمير عبدو أخو الأمير سعيد الطلب وأجاب الرسول بأن الشريف يحضر بعد تناول الطعام .
وما ذهب الرسول إلا ليعود بسرعة البرق لينذر الشريف ناصر بهذا القول :"إذا لم يحضر الشريف ناصر إلى دار الحكومة سريعًا ، فإني أحضره بالقوة وألقي القبض على الأمير سعيد"
وامتنع الشريف ناصر عن الطعام حينما سمع هذا الإنذار وطلب من الأمير سعيد أن يرافقه قائلاً :"ربما حدث حادث مهم أو جاء خبر من الجبهة يدعو إلى ذهابنا حالاً"
جرت هذه الحوادث بينما كان الأمير (سعيد) منهمكًا في الإشراف على الموائد لمئات الضيوف والحاضرين وقد تصرف الأمير عبدو دون علم أخيه وكان ..كثير الاعتداد بنفسه وله مواقف مع لورنس يوم كلّفه بنسف الجسور فوق نهر اليرموك للخط الحجازي (ورفض ذلك).
وما كادت السيارة تذهب ، حتى انتخب الأمير عبدو عشرة من فرسانه المغاربة يحملون البنادق الألمانية والسيوف فوصل إلى السراي حينما كان أخوه يهمّ بدخولها ، وكان في الصالون الكبير رضا باشا الركابي ، ونوري الشعلان ، وشكري الأيوبي ، ورضا العابد ، وأحمد قدري ، وشريف الكيلاني وغيرهم ، وكانت الجنود الإنكليزية التي لحقت بلورنس تحيط بالسراي مع فرسان من جماعة نوري الشعلان!.
ولما دخل (الأمير عبدو) كان الشرر يتطاير من بين عينيه لِما سمع من تهديد لورنس ـ وهو البطل الوحيد الذي لم يقهر لورنسَ في الصحراء سواه ـ وقد اعترف لورانس بشجاعته في كتابه (ثورة في الصحراء) وعدّ ذلك تعصّبًا دينيًا .
وقد ضحى الأميران بالمال والروح في هذا السبيل دون أن تبدو منهما بادرة طمعٍ بالمناصب والمقامات ومع ذلك كانا عرضة للدسائس التي كادت تودي بحياتهما معًا لولا مشيئة الله أن تنحصر الكارثة بواحد منهما)).
((واقترب الأمير عبدو من أخيه وهمس في أذنه مستأذنًا بالكلام فنصحه بالصبر ولكن هذا ، وكان الغضب آخذًا منه كل مأخذ ، قال بصوت جهوري مخاطبًا لورنس :"يالورنس! أنت تهدد أبناء عبد القادر بالسجن مساقًا بدسائس الدسّاسين وأنت تعلم أننا لا نخشى الحبس ولا الموت بل لا نخشى أحداً سوى الله ، نحن أتينا بهذا العَلَم الذي يخفق منذ الأمس وقد استلمته من الملك حسين بن علي بعد أن طيف به حول الكعبة وصلى عليه أربعون ألف مسلم ، وهو يخفق الآن فوق الرؤوس ولن يتزحزح من مكانه حتى تراق آخر نقطة من دمائنا حسبنا أننا أعلنا الاستقلال ووطدنا الأمن وإذا كان الخصام على هذا الكرسي فنحن نرفسه بأرجلنا"
وما كاد يصل إلى هنا ، وكان لورانس قابعًا لا يتكلم ، بل يحمرّ ويصفرّ ، حتى وقف الدكتور أحمد قدري ، فقال للأمير عبدو :"هناك سوء تفاهم يا أمير" . فغضب وقال :" لا يجوز لأحد أن يقاطعني" واستمرّ في كلامه وتقدم من شكري الأيوبي ووضع يده على رأسه وقال له :"ألم نتعاهد يا شكري على خدمة هذه البلاد بكل تضحية دون أن نطمع بالمناصب؟ فقال : نعم .
فقال :"إذن استلموا هذا الكرسي المؤقت ، المفروض علينا المحافظة على هذا العلم وعلى استقلال البلاد"
وما كاد يصل إلى هذا الحد حتى قام أخوه ؛ وقد عَرَفَ بالدسيسة ؛ فقبّله وقال له : حقًا يا أخي أنت جدير بأن تكون حفيدًا لعبد القادر . والتفت للحاضرين وقال لهم :"إني تنازلت مقدمًا عن هذا الكرسي للشريف ناصر ولم أشغله إلا للضرورة المحتمة وها أنا نزولاً على رأي أخي أتنازل عنه باختياري"
ثم انصرف الأميران ، وما كاد يصلان إلى دارهما حتى اضطرب حبلُ الأمن واضطرت السلطة لوضع المدافع الرشاشة على منافذ الطرق لأن العشائر من عربان ودروز كانت تملأ المدينة وما أوقفها عن الاصطدام ببعضها سوى الخضوع للأمراء الذين لهم محبتهم وشعبيتهم في نفوس أبناء الوطن ولأنهم كانوا يبذلون المال بكرم في سبيل إعلاء كلمة الوطن .
ومرّ بعض الفرسان الدروز متجهين نحو حي الأكراد لغزوه لثأر قديم عليه ، فما كان من وطنية الأمير عبدو إلا أن ركب فرسه بمفرده وأرجعهم من قرب جادة الشيخ محيي الدين ..وكان هذا خاتمة أعمالهم .
وامتلأت الساحات بالقتلى ويربو عددها على الثلاثين ملقاة جثثهم بالطرق ورُفِعت أعواد المشانق أمام دار الحكومة للإرهاب ولولا خوف هياج الشعب لرُفِعَ على أعواد المشانق كثيرٌ من الأبرياء .
وإنّا رعايةً لهذه الظروف نضرب صفحًا عن التفصيل وفيه ما تبيض له وجوه وتسودّ له وجوه)).انتهى [من كتاب (جهاد نصف قرن) لأنور الرفاعي ص103 إلى ص 109]
كان الضابط البريطاني لورنس شديد الكره للجزائريين وبخاصة للأمير عبدو لأنه لمس فيه قوة ، ووجده عقبة كبيرة في طريق مخططاته ، ووصفه فيما بعد في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) بعدوّه القديم ، ورفض باسم بريطانيا تأليف هذه الحكومة المؤقتة ، وعيّن شكري بك الأيوبي سرًا حاكمًا عسكريًا على جميع المناطق في حالة دخول القوات البريطانية التي أرسلها الجنرال (اللنبي) لاحتلال المدن ، ودخول مدينة دمشق ، ورفع العلم البريطاني على مقر الوالي التركي المنسحب ، قبل دخوله إلى جانب الأمير فيصل .
إنّ الكولونيل لورنس البريطاني والجهات الاستعمارية وعملاءهم أدركوا منذ أمدٍ أن الأمير سعيدًا وأخاه الأمير عبد القادر الحفيد (عبدو) لن يكونا متعاونين معهم وأنهما أصحاب مبادئ إسلامية يصعب تجاوزها ، ومِنْ ثَمَّ فإنهما سيكونان عقبةً في طريق الاستعمار ، فلا بد من إزاحتهما عن الطريق وبسرعة!!
وفي صباح اليوم التالي حصل حادث أليم ومفجع ؛ لقد اغتيل الأمير عبدو في شارع العفيف ، وهو على صهوة حصانه ، بطلقات نارية أُطلقت عليه من الخلف فأصابت ظهره وكان فيها حتفه، رحمه الله .
((وبينما كان الأمير سعيد ذاهبًا لملاقاة محمد علي التميمي الذي عينه مديرًا للشرطة يوم إعلانه الاستقلال ، لقيه هذا المدير ومعه قائد الدرك سعدي كحّالة فوق جسر المرجة فأشارا لسيارته بالوقوف ، فوقف الأمير وهو خالي الذهن من كل حادث فسألهم ماذا تريدون؟ فأجابوه : إن رضا باشا الركابي يطلبك . فقال ها أنا ذاهب إليه . وهكذا صعد الأمير إلى السراي ، وما كاد رضا باشا الركابي يشعر بمجيئه من ياوره حتى دخل غرفة معاونه وكان يومئذ عادل أرسلان فسأله الأمير :"ماذا تريدون مني؟" فأجابه : ليس الباشا هو الذي طلبك وإنما الماجور (ستيرلنك) . فترك الغرفة وأراد الذهاب لعند الماجور فاعترضه سعدي كحّالة ومحمد علي التميمي وسألاه فيما إذا كان يحمل سلاحًا فنهره الأمير وقال :"ألا تستحي من توجيه هذا السؤال إلى من ولاّك هذا المنصب وله الفضل فيما حصلت عليه البلاد؟" فوجم التميمي واحمرّ خجلاً ولم يزد كلمة واحدة ، ولمّا أراد الأمير أن يركب سيارته أُبلِغ أنها صودرت بأمر الحاكم العسكري وقدّم له رجال البوليس عربة حقيرة فامتنع عن ركوبها وفضّل المشي على الأقدام ، ولمّا مُنع عن ذلك قال للشرطة :"إما أن أسير على قدمي وإما أن تركبوني هذه العربة وأشار إلى عربة الحاكم الواقفة أمام دار الحكومة ، وهذه العربة أيضًا صودرت من جنرال تركي اسمه مصطفى رمزي باشا ، وهكذا ركب الأمير العربة وحولها عشرات من فرسان الدرك المدججين بالسلاح ووجهتُهم سراي المشيرية التي كانت مشغولة من الإنكليز فأدخلوه على الماجور (ستيرلنك) فرحّب به ، ولمّا سأله عن سبب طلبه بهذا الشكل الذي يتنافى مع العدل ولا يتناسب مثل هذا الإجراء مع أمير له عمله الإنساني وخدمة الوطنية ، فأجابه ستيرلنك بأنك موقوف لإرسالك (للرملة) أنت وأخوك لعند الجنرال (اللنبي) . وقد كتم عنه قتل أخيه خشية أن يثور. فأجابه الأمير :"إن مثلنا لا يحتاج أن يرسل موقوفًا فنحن على استعداد للذهاب حيث شئتم من تلقاء أنفسنا ونحن مستعدون أيضًا أن نأتيكم بكفلاء ، ونحن جبيننا ناصع ولا نخشى من أحد إلا الله الواحد الأحد ما دمنا لم نفعل شيئًا يخالف القانون"
فقال ستيرلنك : إن ما تقوله صحيح ولكني مأمور بإرسالكم مخفورين إلى الرملة . فأخذوا الأمير إلى غرفة خاصة بقي فيها إلى المساء .
وبعد هذا جاء ضابط إنكليزي واستصحب الأمير مع نفرين من البوليس الإنكليزي إلى معتقل (المزّة) فوضعوه بغرفة على التراب لا تحتوي على شيء من مقاعد ولا فرش ..)) [جهاد نصف قرن ص122]
وعند منتصف الليل سُمِح لابن عمّه الأمير كاظم أن يدخل عليه ليُخبره باستشهاد أخيه.
وعندما سأل الأمير سعيد الجنرال البريطاني عن سبب اعتقاله ((أجابه الجنرال بأن الحكومة تتهمه وأخاه بأنهما ادّخرا السلاح وساعدا الأتراك!!(انتبه أخي الكاتب والقارئ) وغير ذلك من التهم التي لا تنطبق إلا على الذين سوف يكشف الزمان عن ماضيهم الأسود)) [المرجع السابق ص125]
ثمّ سُمِحَ للأمير سعيد بالذهاب إلى بيته وقتيًّا . ((وما كاد الأمير سعيد يعود إلى بيته ويستقرّ به المقام حتى أخذت وفود المدينة تأتي للسلام والتعزية وكان في مقدمة من حضر العلماء وعلى رأسهم المحدّث الشيخ بدر الدين الحسني والعلاّمة السيد محمد بن جعفر الكتّاني )) [المرجع السابق ص125]
وبعد يومين من دفن الأمير عبدو ، أي في 5/10/1918 أذاع الأمير فيصل بلاغًا أعلن فيه تشكيل حكومة سورية دستورية عربية مستقلة [انظر (الوثائق التاريخية المتعلقة بالقضية السورية في العهدين الفيصلي والفرنسي) لـ حسن الحكيم ص37] .
وفي 10/12/1918 ، زار الأمير فيصل (لندن) العاصمة البريطانية ، وفوجئ بتأكيد البريطانيين له أن اتفاقية سايكس ـ بيكو بتقسيم البلاد العربية أمر واقع ، وأن ما حملهم على إخفائه عن والده الشريف حسين إنما هو رغبتهم في متابعة العرب الحرب إلى جانب الحلفاء على تركيا ، كما أكدوا له بما لا لبس فيه أن بريطانيا العظمى غير مستعدّة للتراجع عن وعد بلفور الذي أعطته لليهود، وأن في نيّة بريطانيا منح فرنسا المناطق الساحلية الواقعة غربي دمشق ومدن حمص وحماة وحلب ، وأما وعد بلفور فقد قضت به ظروف دولية .[انظر (السياسة الدولية في الشرق العربي) لـ عادل إسماعيل الجزء الرابع]
وعاد الملك فيصل خائبًا ، وكان يَعِدُ نفسه منذ سنين لتولي عرش سورية ولبنان وفلسطين ووالده خليفة للعرب والمسلمين ، عاد ليجد أن البلاد أصبحت كالطريدة تتقاسمها الذئاب الجائعة.
وأكتفي بهذا العرض وبتلك النقول التي تبيّن وبجلاء أن الاتهامات التي وجهها الأخ الكاتب للأمير عبد القادر وأحفاده ، لاسيما الأمير سعيد ، هي اتهامات باطلة.
وأظن أنه أصبح واضحًا للجميع أن الأمير عبد القادر وأبناءَهُ وأحفاده كانوا دائمًا موالين للخلافة العثمانية الإسلامية ، ومعادين للسياسات الأوربية الاستعمارية . ولا أظن عاقلاً يصف المواقف التي وقفها الأمير سعيد أو الأمير عبدو بالمواقف الماسونية أو العميلة!
وللفائدة فإنّ الأمير سعيد الذي يتّهمه الكاتب بالعمالة والماسونية ، كان يسعى وبكل جهد لأجل دعم الثورة الجزائرية لتحرير الجزائر من الفرنسيين ، وكان يجري الاتصالات مع كل الزعماء والملوك العرب للحصول على دعمهم ومساندتهم ، ومن هؤلاء الملك سعود بن عبد العزيز ، وعندي صورة عن الرسالة الجوابيّة التي أرسلها الملك سعود للأمير سعيد وسأرفق صورتها لكم، وإليكم نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
المملكة العربية السعودية
عدد
15/1/2/689 في 14من شهر ربيع الأول سنة 1376
((من سعود بن عبد العزيز إلى صاحب السعادة الأمير محمد سعيد الجزائري سلّمه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : وبعد فقد تسلمنا رسالة سموّكم المؤرخة 23 محرم 1376 وشكرنا لكم ما أعربتم عنه من عواطف طيبة كما شكرنا لكم هديتكم الثمينة التي هي كتاب الله عزوجل .
أما فيما يتعلق بقضية الجزائر فنحن والحمد لله ما توانينا منذ البداية عن بذل الجهود في مساعدتها كما أننا لن نتوانى بحول الله وقوته على ذلك فهي قضية العرب والمسلمين أجمعين .
نسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه خير الإسلام والعروبة والسلام)).انتهى
وبالمناسبة فإنّ الأمير سعيد كان يحترم دولة آل سعود ويرفض أي صدام معها ، وكان له دور بارز في منع الصدام وهذا يشهد له به المؤرّخون.
يقول الأستاذ المؤرخ أنور الرفاعي :((فأخذت الإشاعات تروج بأن الأمير فيصل يرغب بإرسال الجنود العرب السوريين إلى الحجاز لقتال عبد العزيز بن سعود الذي كان قد اختلف مع الملك حسين في الجزيرة العربية ، واتّجهت أنظار اللبنانيين إلى الأمير سعيد لترشيحه على عرش سورية ولبنان ، فلقد جاء في جريدتي النادي والروضة اللتين تصدران في بيروت بتاريخ 26 تموز 1919 مايلي :""في دار سمو الأمير سعيد عبد القادر
ما بلغ منشور التجنيد في الشام مسامع أهل حلب وحمص وحماه حتى توافدت الجماهير لبيت سمو الأمير سعيد من كل هذه الأقطار المذكورة يستغيثون به ويلتمسون ترشيحه للإمارة السورية حفظًا لحقوقهم وحقنًا لدماء أبنائهم الذين يتهددهم الموت في محاربة ابن سعود ، وكلّهم برأي واحد ، يؤيّدون هذا المبدأ بكل ما لديهم من القوة ويطلبون راية سورية مستقلة ، شعارها حكومة ديموقراطية لا صبغة فيها لملك الحجاز ؛ فوعدهم الأمير خيرًا ولو اقتضى الأمر بذل النفس والنفيس ، فخرجوا وكلّهم صوت واحد يصرخ : فليحيا الأمير محمد سعيد"")) [جهاد نصف قرن ص135]
فائدة:إنّ المغاربة الجزائريين كانوا ـ ومنذ بداية قيام الدولة السعودية الأولى بمشاركة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب ـ رافضين للانحياز إلى جانب دون آخر من المسلمين!
جاء في رسالة السيد محيي الدين بن مصطفى الحسني ؛ والد الأمير عبد القادر ؛ والتي أرسلها إلى أخيه السيد علي بو طالب ، في رحلة الحج: ((... فقد أنعم الله علينا بتمام الحج والعمرة، فلله الحمد والمنة؛ فقد يسّره الله علينا مع تضييق الزمان علينا لأنّ أهل مصر امتُحنوا بالفتنة وامتنعوا من الذهاب في البرّ وعطّلونا)) [وقصده بالفتنة ثورة المماليك على أمير مصر] إلى أن قال ((وعطلونا إلى الثاني عشر من ذي القعدة .. ثم قال: وعجّل اللهُ علينا بفضله فمكثنا في البحر ثمانية أيّام ، الحاصل بين مكّة ومصر أربعة عشر يومًا ، ووقفنا بالأربعاء ... إلى أن قال: ((إنّ السلطان [أي أمير مكّة فيما يظهر] حاصر خلقًا كثيرًا من الحجاج المغاربة وأجبرهم على الخروج ليجعلهم عسكرًا يتقوى بهم على الوهّابيين [والحرب التي تحدث عنها محيي الدين كانت بين أمير مكة وأمراء نجد الوهابيين] ثم قال: ((وكذلك كان مصير الركب الشامي ـ ثمّ ذكرَ أنّ المغاربة رفضوا كما رفضَ أهل الشام التجنيد الإجباري ، واستعمل المغاربة السلاح ومات من الجانبين أموات)).انتهى[بحروفه من مقال للأستاذ المهدي البوعبدلي بعنوان (وثائق أصيلة تلقي الضوء على حياة الأمير عبد القادر) منشور في مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة في الجزائر العدد 75 رجب 1403هـ ،أيار 1983م ص134، والتعليقات التي بين المعقوفتين للبوعبدلي].
وللفائدة: فإن الأمير سعيد ـ الذي يصرّ البعض في أيّامنا هذه على اتهامه بالماسونية مع أنّه تبرّأ منها وتركها!ـ كان مسلمًا محافظًا على صلاته إلى آخر لحظة من حياته ، ليس هذا فحسب بل إنه ما ترك صلاته ولا تكاسل عنها حتى وهو في المعتقلات وفي أصعب الظروف . يروي لنا الأستاذ أنور الرفاعي ما جرى مع الأمير سعيد وهو في المعتقل في مصر بأوامر الجنرال (اللنبي) : ((وفي (القنطرة) اقتيد الأمير إلى معسكرات الاعتقال الكبرى التي أقامها البريطانيون لأسرى الترك ، واستقبله ضابط إنكليزي قاده إلى خباء كبير وسط فسحة صغيرة تحيط بها الأسلاك الشائكة ، وفي وسطها سرير واحد أُعدَّ له ؛ أما رفيقاه فما كان عليهما إلا افتراش الثرى . وفي الصباح استيقظ الأمير على عادته ، وبعد الوضوء خرجَ فأذّنَ بصوت عالٍ وتقدّم لصلاة الصبح ، فإذا عشرات من العمال والأسرى المسلمين الذين استيقظوا على صوته وهو يُنادي : حيَّ على الصلاة ، حيَّ على الفلاح. وهي أوّل مرّة يسمعونها في تلك المعتقلات ، فسارعوا إلى مصدر الصوت واقتدوا به في الصلاة، وبعد أداء فريضة الصبح التفّوا حوله ، وعرفوه وحيّوه ، مما أزعج قادة المعسكرات وخشوا حدوث فتنة وتمنوا الخلاص منه)).انتهى [جهاد نصف قرن ص153]
وأختم الكلام عن الأمير سعيد بما قاله الأستاذ أنور الرفاعي في نهاية حديثه عن جهود الأمير سعيد إبّان الانتداب الفرنسي: ((ولم يقْصِر الأمير سعيد همّه ونشاطه على هذا الباب من العمل في الحقل الوطني بل كان في طليعة العاملين في شتى ميادين الجهاد الوطني ، فلقد ترأس 1ـ جمعية الخلافة الإسلامية عقب الحرب العالمية الأولى على أثر إخراج أتاتورك سلائل آل عثمان من بلاد الجمهورية التركية وإنهائه الخلافة العثمانية .
2ـ وترأس لجنة الدفاع عن الخط الحديدي الحجازي الذي اغتصبته شركة دمشق ـ حماة وتمديداته واستثمرته. ونجح في المساعي بإعادة الخط إلى الأوقاف الإسلامية.
3ـ وترأس جمعية مقاطعة شركة الكهرباء والترامواي في دمشق لغلوها في استثمار امتيازاتها.
وكان كل من يمر بالبلاد من شخصيات شرقية وغربية يتصل بالأمير ويعجب بنشاطه وثقافته ووطنيته وكرمه ، كـ (شوكت علي) زعيم المسلمين في الهند الإسلامية وغيرهم .
كما كان الأمير على اتصال بالسنوسيين زعماء طرابلس الغرب يؤيدهم في أعمالهم ضد الطليان ، وكان الأمير سعيد إلى جانب هذا وذاك دائم التفكير بوطنه الأول "الجزائر" الذي جاهد لأجله جدُّه الأكبر عبد القادر ودافع عنه دفاع الأبطال ، فكان لا ينقطع عن العمل في سبيل استقلاله في كل فرصة مواتية ...)) [(جهاد نصف قرن) ص183]
وأخيرًا وليس آخرًا فإن الأمير سعيد كان له موقف عظيم من المخطط اللعين الذي يقضي بسلخ فلسطين من الجسد العربي ، (( وعندما أوشكت الحرب العالمية الثانية على النهاية وانكسرت دول المحور واستسلمت ألمانيا ، شعر الجميع بنشاط الصهيونيين وميل الرأي العام الأوربي والأمريكي المنتصر على الألمان إلى مشاريع اليهود العامة ، فشعر الناس بكارثة عظيمة ستنزل بفلسطين وبالعرب فيها ، وشعر الأمير سعيد كما شعر كثير غيره من المخلصين أن الاستعداد لحمل السلاح أمرٌ يحتمه قانون تنازع البقاء في فلسطين ، فما كاد يُعلَن قرار التقسيم الجائر حتى نشر الأمير نداءً عامًا وزّعه على جميع أنحاء العالَمين العربي والإسلامي يدعوهم فيه إلى حمل السلاح ، ويدعو المغاربة أبناء شمال إفريقية الأشاوس بصورة خاصة إلى تلبية نداء الواجب المقدس في بطاح فلسطين ، نقلته أكثر الصحف العربية ، وقد نشرته مجلة "المصري أفندي" في عددها 16 تاريخ 25/12/1947م تحت عنوان : ((هبّوا إلى حمل السلاح معشر العرب)) ، ونشرته جريدة "الإصلاح" الجزائرية في عددها 71 من السنة الحادية والعشرين بتاريخ 25/ربيع الأول/1367هـ الموافق 5/2/1948م بعنوان : ((نداء من حفيد الأمير عبد القادر بمناسبة حادث تقسيم فلسطين..))
((.. ومن أشهر برقياته تلك التي بعثها إلى الجامعة العربية ونشرتها أكثر الصحف السورية والمصرية ، منها جريدة "العلم الدمشقية" في عددها 445 تاريخ 19/2/1948م وهي :
الأمير الجزائري وموقف الجامعة العربية
فيما يلي نص البرقية التي بعث بها سمو الأمير سعيد الجزائري إلى الجامعة العربية
مصر: أمين الجامعة العربية
باسم الإفريقيين المغاربة ورجال الثورة في سورية وفلسطين الذين درسوا معنى الموت حق الدراسة ، مستعدون وأنا على رأسهم لإنزال ضربة ساحقة على رأس الصهيونية المجرمة آخذين على أنفسنا خوض الحرب حتى النهاية دفاعًا عن أولى القبلتين ، معلنين للملأ ولجامعتكم الكريمة أن إفريقية الشمالية بما فيها طرابلس الغرب جزء لا يتجزأ من القارة العربية ، ولا يمكن نهوض الإسلام والعرب وتوطيد السلم العام إلا بتحريرٍ كامل. اللهم إنا قدمنا أرواحنا في سبيلك حاكمين على الأثَرَة والأنانية بالموت ، اللهم فاشهد . الأمير سعيد.انتهى
ولم يكتف بالبيانات والبرقيات بل تبرّع من ماله الخاص لتأليف فرقة مغربية تحمل السلاح وتحارب إلى جانب المجاهدين العرب والفلسطينيين ، وصار يخرج معهم إلى ميدان التدريب العسكري ...)).انتهى [(جهاد نصف قرن) ص227ـ228]
ملاحظة مهمة: كان الأمير سعيد يمتلك أراضي واسعة ومزارع في منطقة الجولان ، فعرض عليه بعض اليهود أن يبيعها لهم مقابل قرى كاملة في حوران (وذلك قبل 1948) ، فرابه الأمر وشعر أن هذا الإغراء يخفي وراءه أمرًا خطيرًا ، فرفض العرض ولم يلتفت للإغراءات المالية .
فبعد هذا العرض هل يُقال عن أمثال الأمير سعيد (الطابور الماسوني الخامس)؟؟!!
لقدكان الأولى بالأخ محمد مبارك صاحب (فك الشفرة) أن لا يتسرّع في إطلاق التهم والأوصاف الشنيعة.
وأظن أنه أصبح واضحًا الآن دور الأمير فيصل ووالده الشريف حسين ، ومن وافقهما .
وأسوق تعليق المؤرّخ الكبير الأستاذ محمود شاكر على الأحداث التي جرت مع الشريف حسين وابنه فيصل وحلفائهم من أهل الشام ولبنان ، حيث قال : (( ويمكن القول إن عددًا من الزعماء المسلمين العرب كانوا يريدون إصلاح الجهاز الإداري ، وتأدية الخدمة العسكرية محليًا ، والمحافظة على اللغة العربية ولا يريدون الانفصال عن الدولة العثمانية وتجزئتها أبدًا . غير أنهم وقعوا في شباك أصحاب الفكر القومي ، والآراء الغربية ، والافتتان بأوربا ، وبالتالي بالتأثير النصراني، والتوجيه الخارجي ، والاتصالات الأجنبية ، والجهل لا يُعفي من المسؤولية ، والسذاجة لا يرضى بها الإسلام . أمّا النصارى من رعايا الدولة العثمانية ودعاة القومية فقد كانوا على صلة بالأجنبي ، ويطالبون بالانفصال ويدعون إلى ذلك ، ويُعادون الإسلام بكل وقاحة)) .انتهى [التاريخ الإسلامي 8/227]
والحمد لله رب العالمين
خلدون بن مكي الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
الأخ عبد الحق آل أحمد ؛ السلام عليكم ورحمة الله.
كنت سأترك الجواب على أسئلتك إلى وقت آخر حتى لا أخرج عن صلب موضوع الحلقات التي أنا بصددها ، ولكنني خشيت أن تظن أن ذلك لغرض آخر ، لذلك قررت أن أجيبك باختصار ، والموضوع ليس سجالاً بيننا الآن ، وإن شئت التوسع لاحقًا فلا مانع إن شاء الله.
1ـ جوابًا على سؤالك الأول أقول : لقد وضعتَ الإجابة بنفسك وهي قولي: ((وكلُّ كلامٍ صدر من ابن عربي أو غيره ، فيه مخالفة للشريعة أو استخفاف بأصول الدين وقطعيّاته فهو مردود ومرفوض)) ؛ وأزيدك توضيحًا: إن أي عبارة أو قصيدة فيها ما يدل على وحدة الوجود أو الحلول والاتحاد فهي مردودة على قائلها كائنًا من كان! فوحدة الوجود والاتحاد والحلول من عقائد الفلاسفة الزنادقة ، وحكمها الشرعي أنها كفر وخروج عن الدين.
لذلك أقول: إن العبارات المشكلة الواردة في كتاب "المواقف" يمكن الحكم عليها بالفساد أو الإلحاد ، ولكن دون الحكم على الأمير لأنّنا في شكٍ من ثبوت ذلك الكلام عليه ، ولأنه لم يسبقنا إلى ذلك أحدٌ من علماء المسلمين المعاصرين للأمير أو القريبين من عصره ، وسيأتي بيان ذلك في بحث مستقل أتناول بطلان نسبة هذا الكتاب إلى الأمير.
والأشعار التي نقَلْتَها أنت من كتاب المواقف وعلّقت عليها بقولك :"[تنقل الأمير من الإسلام إلى دين اليهود و النصارى وهذه ردة صريحة]" ليست له وموجودة في الكتب القديمة لأمثال ابن هود الأندلسي. لذلك كان إطلاقك لحكم الردة على الأمير فيه تسرع منك ، وأنت غير مسبوق بذلك ولا سلف لك بهذا ، وأنت لم تتثبت من ذلك وكان يكفيك استنكار تلك الأبيات الشنيعة!
وأما كتاب "ذكرى العاقل" فلم أجد فيه أي عبارة يمكن الحكم عليها بالكفر أو الشرك أو الزندقة . والعبارة التي نقلْتَها عنه في موضوعك (التنبيه على شركيات وطوام عقدية عند الأمير عبد القادر الجزائري) ، وعلّقتَ عليها بقولك : "[دعوته للأخوة مع النصارى الكفار]"
قد بيّنتُ في الحلقة الثانية المقصود منها ، وأوردتها ضمن السياق الواردة فيه ، وليس فيها المعنى الذي فهمتَه أنت وبعض الناس . وبيّنتُ أنك سلختها من سياقها وأبرزتها بقالب مشوه ، ولولا ذلك لما كان من الممكن أن يُفهم منها المعنى الفاسد الذي رميت به الأمير، فليتك ترجع إلى الحلقة الثانية.
وأما ديوان الأمير ، فالأبيات التي استنكرتَها على الأمير وعلقتَ عليها بقولك:"[الأمير يشرك بالله العظيم شركا واضحا جليا]" . لا يُسلّم لك أبدًا ، وستسأل عنه يوم الحساب . والياء في هذه الأبيات هي ياء الندبة! وليست ياء النداء!! وهذه الياء لا يندب بها إلاّ العلم المشهور . والندبة لها أساليبها الأدبيّة يعرفها أهل اللغة والأدب ، والقارئ لمثل هذا النوع من الشعر يجب عليه أن يستحضر هذا المعنى. ولا يُحكم على المتكلّم بأنه يستغيث بغير الله إلاّ إذا كان واضحًا في كلامه ، كأن يقول يا رسول الله أو يا وليّ الله أدركني أو ارزقني . وليس في تلك الأبيات شيء من ذلك ، ويمكنك أن تقول إنني لا أحب هذا النوع من الشعر أو الأولى عدم التلفظ بكلام يلتبس على البعض ، أما أن تقول هذا شرك واضح وجلي! فلا توافق عليه. وكلامي ليس خاص بشعر الأمير وحده ، وإنما هو عام لأي شعر أو كلام مشابه .
2ـ وبناءً على ما سبق فإن جوابي على سؤالك الثاني هو أنك لم تكن محقًا في ردّك لأنك لم تحكم على الكلام وإنما حكمت على الشخص دون أدنى تثبّت ووصفتَه بأنه ملحد ومشرك وخرافي مرتد!!!، وافتريت عليه قصة إحراق كتب ابن تيمية وزعمتَ أنها متواترة مع أنه لا أ صل لها (راجع الحلقة الأولى) ، ووصفته بالعميل للفرنسيين ،وطعنت في جهاده وجرّدته منه ، كل ذلك دون أي دليل يشفع لك!! وقلتَ في حقّه بالحرف الواحد: ((والوقت ثمين وأشرف من أن يبذل في تتبع زبالات أفكار المدسوسين من قبل أعداء الإسلام والمنحرفين فكريا عن عقيدة السلف الصالح)). فحكمت عليه بأنه مدسوس من قبل أعداء الإسلام ، وأن أفكاره زبالة!!
فهل تظن أنك بعد كل هذا الهجوم والطعن والتكفير والتشهير العاري عن الدليل والبيّنة متقربٌ إلى الله وعلى خير ومحقٌ أيضًا؟؟!! يغفر الله لي ولك.
3ـ وأما العقائد الشركية والمخالفات الشرعية الموجودة في "المواقف" أو غيره فلا مانع من الحديث عنها وبيان بطلانها وسقوطها ، ولعل ذلك يكون في موضوع مستقل وموقفي منها معروف وأنا بفضل الله كنتُ وما أزال أتصدى لمثل تلك العقائد وأرد عليها (وهل ما أعانيه اليوم إلا بسبب ذلك!!)، أما الحلقات التي أنا بصددها الآن فهي تعالج اتهامات وشبهات باطلة تثار حول شخص الأمير ، فإذا كان لديك أي إشكال فيما كتبته فيها فيمكنني بيانه الآن .
4ـ وأما سؤالك عن النياشين . فالجواب :أولاً إن هذه النياشين حصل عليها الأمير بعد فتنة دمشق سنة 1860 وقد روت الأميرة بديعة عن جدّتها السيدة زينب بنت الأمير عبد القادر أن هذه النياشين وضعها مرّة واحدة وأخذت له صورة واحدة ولم يكن سعيدًا بذلك ، والغرض أن ترسل إلى الصحف الأوربيّة فيرى الأوربيون بأعينهم تكريم ملوكهم وحكامهم للرجل الذي كانوا بالأمس يطعنون فيه ويظهرونه بصورة المتعصب الحاقد على المسيحية وأن حربه مع فرنسا كانت فقط لأنهم مسيحيون لا لأنهم غزاة معتدون!!واليوم هم يعترفون أنه لا يحقد على الديانة المسيحية وإنما يتعامل مع أصحابها المعاهدين (أهل الذمة) وفقًا لأحكام الإسلام ، فلا يسمح بتقتيلهم بخلاف المعتدين والغزاة منهم .تقول الأميرة بديعة : ((هذا ما كنت أسمعه من جدتي زينب عندما كانت تنظر إلى صورته هذه وتقول: كم كان أبي حزيناً عندما وضعنا له هذه الأوسمة لأخذ صورة فوتوغرافية له، وقد وُضعت مرة واحدة ولغاية واحدة كما أسلفت))[انظر أصحاب الميمنة] وهذه القصة لم تتفرد الأميرة بديعة بذكرها فهي معلومة للكثيرين.
وإذا تسابق الرسامون لرسمها بأشكال مختلفة كلٌ كما يشاء فهذا لا ذنب للأمير فيه . ثانيًا هذه النياشين ليست خاصة بالفرنسيين وحدهم وإنما فيها نياشين من الخليفة العثماني وهو أكبرها ، ثم نياشين أخرى لعدة من الملوك والقياصرة ، وسيأتي الحديث عنها بالتفصيل في حلقة مقبلة وستجد فيها براءة الأمير مما تظن. وأما جعلك لتلك النياشين دليلاً على عمالة الأمير للاستعمار فهذه كبيرة! وليتك تحريت قبل أن تقدم على هذا الطعن والتشهير .
5ـ وأما ما ذكرته من صور لمخطوطات ، فهناك بعض المخطوطات موجودة في بعض المكتبات فلا أدري عن أيها تتحدث ، ولكن أستطيع أن أقول لك جازمًا أنه لا وجود لمخطوط لكتاب المواقف بخط الأمير ، وكذلك لديوان الأمير . فالأمير لم يكتب المواقف ولم يضع ديوانًا . والديوان إنما جمعه ابنه الأمير محمد وكتَبه بخط يده والمخطوط عندي وليس له أي صورة! والمواقف كتبه الشيخ محمد الخاني بعد وفاة الأمير وسيأتيك بيان ذلك في محلّه إن شاء الله.
أخي عبد الحق أسأل الله تعالى أن يجعلني وإيّاك ممن يتّبعون الحق ، وكل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطائين التوابون ، أسأل الله تعالى أن نكون منهم ، فهذا مما يرفعنا عند الله وعند الناس . وأرجو أن تتابع الحلقات كلها إلى نهايتها .
والحمد لله رب العالمين.
أحسنتم شيخنا
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
بارك الله فيك وجزاك الله خيراً
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
/// بارك الله فيكم وجزاكم خيرًا.
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
شيخنا الكريم أبا إدريس
كنت وما زلت معكم أتابع .... واصل وصلكم الله بطاعته
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
جـزاكم الله خيرااا شيخنا أبا ادريس
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام علي اشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وعلي آله وصحبه وسلم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اسجل هنا تقديرى واعتزازي بما تقوم به موقع اللألوكة بارك الله في القائمين عليها وسدد الله خطاكم
كما اسجل شكري لما تناوله استاذنا الفاضل / خلدون فهي بحق تفنيد رائع واستدلال جيد وهي ليست جديدة عليك. واسأل الله أن ويوفقك ويسدد خطاك ويغفر لي ولك وللمسلمين أجمين أنه جواد كريم ابو صالح النوبي
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
أخي أبا صالح النوبي السلام عليكم ورحمة الله
أشكرك على مشاركتك الطيّبة ، وأسعدني رأيك في هذه الحلقات ، أسأل الله أن ينفع بها.
وبارك الله فيك ، وأحسن إليك ، ووفقني وإيّاك إلى ما فيه رضاه.
وإنني أغتنم هذه المشاركة لأجدد شكري للإخوة المشرفين والقائمين على موقع الألوكة ؛ وأخصّ بالشكر الأخ الكريم الشيخ سليمان الخراشي، الذي كان له الفضل في تيسير نشر هذه الحلقات في هذا الموقع الطيّب.
فبارك الله في الجميع وجزاهم خير الجزاء .
-
الحلقة الحادية عشرة من رد الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الحادية عشرة
والآن مع شبهة جديدة عجيبة؛
قال الأخ محمد مبارك صاحب (فك الشفرة) :"فقد عرف عن الامير عبد القادر افتتانه بالحضارة الفرنسية ، و علاقته الوطيدة بالفرنسيين".انتهى
ولكي يُبرهن على هذا الادّعاء راح يستدل له بدليلٍ هو : أنّ الأمير كان يُعامل الأسرى الفرنسيين معاملة حسنة ؛ يداوي جرحاهم ويطعمهم ويسقيهم ولا يسمح بقتلهم ، وبعد ذلك يقوم بمبادلتهم مع الأسرى الجزائريين الذين بقبضة فرنسا!!!
أرأيتم إلى هذا الاستدلال العجيب!
يقول صاحب (فك الشفرة) :"و مما يحتفظ به التاريخ عن الأمير عبد القادر الجزائري أنه قد عمل أثناء معاركه ضد الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر، على سن وتطبيق مجموعة قوانين حول كيفية معاملة الأسرى الفرنسيين المعتقلين من جيش العدو، ومن ذلك: "اعتبار أن أي فرنسي يتم أسره في المعارك يجب ان يعتبر أسير حرب، وأن يعامل كذلك إلى أن تتاح فرصة تبادله مقابل أسير جزائري" ، مع أن الفرنسيين كانوا حينذاك يستخدمون سياستَي الأرض المحروقة والإبادة الجماعية ؟؟.
ـ كما حدد الأمير عبد القادر بأن "على أي عربي في حوزته أسير فرنسي، أن يعامل هذا الأخير معاملة حسنة. وفي حال شكوى الأسير من سوء المعاملة، فلن نكون العقوبة مجرد اسقاط المكافأة ، بل قد يرافق ذلك عقوبات أخرى".
ـ ولضمان عدم قتل الأسير الفرنسي فإن "أي عربي يقدم أسيرا فرنسيا يحصل على مكافأة قدرها 8 دورو (وهي العملة الجزائرية التي تساوي 5 سنتيم).!!!!!انتهى
ولم يكتف بذلك حتى قال :"إن أعدادا من الأسرى الفرنسيين القدامى الذين تلقوا علاجا من قبل الأمير، كانوا يأتون من مناطق نائية في اتجاه قصر "بو" وقصر "أمبواز" حيث كان الأمير معتقلا، لتحية من كان المنتصر بالأمس".انتهى
سبحان الله . لقد جعل الأخ محمد مبارك التزامَ الأمير عبد القادر بأوامر الشريعة الإسلامية في كيفيّة معاملة أسرى الحرب دليلاً على افتتانه بالحضارة الفرنسية!!! وكأنّ الفرنسيين هم الذين يحسنون معاملة الأسرى في حين أنّ الإسلام لا يحض على حُسْن معاملتهم وإنما يأمر بتعذيبهم وتقتيلهم!!
وهذا الادّعاء ليس فيه تشويه لصورة الأمير ، وإنما فيه انتقاص للشريعة الإسلامية ـ عن غير قصد ـ التي يُوحي الكلام أنها لا تأمر بالإحسان إلى الأسرى!
فهل نسيَ كيف أمرنا الله تعالى بمعاملة الأسرى؟ وهل نسيَ كيف كان رسول الله يُعامل أسراه؟
قال الله تعالى :{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8]
ولمّا أُتي الحجّاج بن يوسف بأسير ، قال لعبد الله بن عمر : قم فاقتله ، فقال ابن عمر : ما بهذا أُمرنا ، يقول الله : {حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًا بعد وإما فداءً} (محمد: 4)؛ [مصنف ابن أبي شيبة 6/498]
والبحث طويل وأساسيّاتُه يعرفها عامة المسلمين .
ثمّ جعل صاحب (فك الشفرة) شعور الأسرى الفرنسيين بفضل الأمير عليهم عندما أحسن معاملتهم وهم أسرى لديه ؛ وهم الذين تعوّدوا الإساءة للأسرى الذين في أيديهم ومعاملتهم بوحشية؛ دليلاً على علاقة الأمير الوطيدة بالفرنسيين!!
والله إن هذا لشيءٌ عُجاب!!!
عن أي علاقات يتكلّم الكاتب والأمير في حالة حرب شرسة مع فرنسا يُقتّل جنودها وضباطها ويشردهم ويردهم خزايا وخاسرين ويضطرهم لأكل لحم القطط والكلاب!! ، ويأسر منهم الكثير ليبادلهم بالأسرى الجزائريين؟!
عجيب والله! إذا كانت العلاقات وطيدة برأي الكاتب ووقع كل هذا القتل والأسر والتشريد! فكيف إذا كانت العلاقات عدوانية؟!
لقد كان الجنود الفرنسيون معجبون بشخصيّة الأمير الفذّة ، فهو عسكريٌ محنّك استطاع أن يهزم الجيوش الفرنسية المدججة بأحدث وأثقل الأسلحة ، وهو لا يملك إلاّ سيفه ومسدسه!
وهو السيد الشريف المتخلّق بالآداب الإسلاميّة السامية التي لم يكن الأوربيون المتوحشون يجدون في معاجمهم مفردات لتلك الأخلاق والسجايا!
وتذكر المصادر التاريخية أن عددًا ليس بالقليل من الجنود والضباط الفرنسيين أعلنوا إسلامهم وانضموا إلى جيش الأمير وكانوا يُشرفون على تدريب جيشه وتصنيع المدافع وبعض الأسلحة .
يقول الكولونيل شارل هنري تشرشل :((لقد كان مدربو جيش الأمير النظامي من المشاة ، من الفارّين من الجيش الفرنسي . وقد ازداد هؤلاء الفارّون إلى أن أصبحوا أخيراً يكوّنون كتيبة خاصة بهم ، وقد حاربوا ضد مواطنيهم (الفرنسيين المسيحيين) بكل شجاعة وإقدام لا يكاد الجندي المسلم يزاحمهم فيها)).انتهى [انظر (حياة الأمير عبد القادر) لتشرشل ص141]
ويقول تشرشل في صدد حديثه عن انبهار الجيش الفرنسي بأخلاق وأعمال الأمير عبد القادر : ((وقد قال أحد الضباط الفرنسيين الكبار بعد ذلك :"لقد كان علينا أن نخفي هذه الأشياء بقدر ما نستطيع على جنودنا ، لأنهم لو اطلعوا عليها لما كان في استطاعتنا أبدًا أن نجعلهم يحاربون عبد القادر بنفس الاندفاع والحماسة)).انتهى [المصدر السابق ص204]
((وكان الأسرى الفرنسيون يتبرعون ، عند إطلاق سراحهم ، بالسلاح لأحد خلفاء الأمير وهو ابن علال بن مبارك تكريمًا له)).انتهى [المصدر السابق ص204]
ويذكر هنري تشرشل أن: ((الأمير عبد القادر أثار في صدور الجنرالات الفرنسيين مشاعرَ الإعجاب البطولي ، وكانوا ينشدون اللقاء به دون جدوى ، بينما كلّف مواهبهم العسكرية غالياً)).انتهى [انظر حياة الأمير لتشرشل ص120]
ولا غرابة في موقف الجنود الفرنسيين من الأمير عبد القادر ؛ وإليكم مثالاً قريباً : ففي الحرب العالمية الثانية ، وبعدما عُيّن الماريشال "رومل" قائدًا للجيوش الألمانية في شمال إفريقية ، راح يُنكّل بالقوات البريطانية والفرنسية ويذيقها الهزائم المتتالية ، وكانت مناوراته العسكرية البارعة تُعدّ من المعجزات بنظر قوات التحالف ، إلى أن وصل بقواته إلى مدينة "العَلَمين" قرب الإسكندرية .
عندئذ أيقن الإنكليز وحلفاؤهم الفرنسيون أنّ الخطر داهم ، فعزلوا قائد قوات الحلفاء في شمال إفريقية الجنرال "ألكسندر" ، وعيّنوا بدلاُ منه عبقريّة عسكرية مماثلة لرومل هو الجنرال "المنتوغمري"... فتسلّم القيادة فورًا ، وفوجئ ، كما قال في مذكراته ، أنّ القائد لجيوش الحلفاء في الواقع رومل وليس ألكسندر!! فأحاديث الجنود البريطانيين والفرنسيين كانت تدور عن معجزات رومل العسكرية ومناوراته الناجحة والرائعة .
ولَمَسَ الإعجاب الشديد لدى جيوشه برومل إلى درجة أنّ البعض لم يتورّعوا عن إلصاق صورته في مهاجعهم!!
مما دعا المنتوغمري إلى عقد ندوات وإلقاء دروس في الوعي القومي وأخطار الإعجاب بالعدو .[انظر (أصحاب الميمنة) ص152]
وأمّا الأمير عبد القادر فإن الأمر لم يكن مقتصرًا على شجاعته ومهارته العسكرية وعبقريّته القتالية! فإنّ التزام الأمير بالأخلاق الإسلامية الحميدة ، وتطبيقه للأوامر الشرعيّة الخاصة بشؤون الحرب والقتال والأسرى ، حمَلَ أعداءه على محبّته والإعجاب به ، وعلى الإعجاب بدين الإسلام ، فتحوّل الكثير من الضباط والجنود الفرنسيين إلى الإسلام ، وانحازوا إلى معسكر الأمير والجزائريين ، وساعدوا في تدريب جيش المجاهدين ، وفي بناء معامل الأسلحة ، وفي التخطيط الحديث للمعارك مع الجيش الفرنسي المعتدي ، وبذلك كان النصر للمجاهدين وللدعوة الإسلامية في ذلك العصر ، بعدما كانت الدعاية الأوربيّة تشوّه صورة الإسلام والمسلمين وتظهرهم بمظهر المتوحشين .
فكيف أصبحت هذه المنقبة والمكرمة للأمير بنظر الأخ محمد المبارك مذمّة ومثلبة؟؟!!
ولا حول ولا قوة إلاّ بالله
خلدون مكي الحسني
للبحث صِلة إن شاء الله
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
جـزاكم الله شيخنا الحبيب أبا ادريس
-
الحلقة الثانية عشرة من رد الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الثانية عشرة
أريد أن أنبّه إلى شيء هام وهو أن الأخ الكاتب صاحب (فك الشفرة) لم يقف عند الطعن بالأمير عبد القادر وحده ، أو بحفيده الأمير سعيد ، وإنما تعدّاه إلى الطعن بذرية الأمير عبد القادر ، وإلى الطعن بكبار علماء الشام ومفتيها ومحدّثيها وأشرافها!!!
لقد اتّهم كبار رجالات الإسلام في الشام في ذلك العصر بالانخراط في سلك الماسونية معتمدًا على كلام المدعو شاهين مكاريوس ؛ منهم : الشريف الشيخ محمود الحمزاوي مفتي دمشق الشام ، والشيخ المحدّث سليم العطار ، والعلاّمة الشيخ محمد المنيني مفتي دمشق ، و المُحدّث وابن شيخ المحدّثين في الشام الشيخ أحمد مسلم بن عبد الرحمن الكزبري ، والعلاّمة الكبير الشيخ محمد الطنطاوي (جدُّ شيخنا العلامة علي الطنطاوي رحمه الله) ، ونقيب الأشراف بدمشق السيد حسن تقي الدين الحصني، وغيرهم ...
ونحن إذا عدنا إلى الكتب التي ترجمت لهؤلاء الرجال الكبار مثل (الأعلام) للزركلي ،و(حلية البشر) للبيطار ، و(روض البشر) للشطي ، و(منتخبات التواريخ) لأديب الحصني ، لوجدنا أنفسنا أمام شخصيات مرموقة نزيهة وصفها العلماء المعاصرون لها بالعلم والتقوى والديانة والفضيلة ، والعلماء الذين ترجموا لهم لم يكونوا يجاملون أو ينافقون لأحد ، وقد ذكروا بعض الأشياء التي ينتقدونها على بعض تلك الشخصيات ، وتعرّضوا كذلك إلى شيء من المؤاخذات ، ولكن ليس في شيء منها أي جرح في الإيمان والديانة ، ولو كانوا من الماسون لذكروا ذلك عنهم . ولكن فيما يبدو لا يعلم أحد أنهم من الماسون إلاّ مكاريوس هذا!!
وأمّا ذريّة الأمير فليس في كتب التراجم والتاريخ ما يقدح فيهم أو ينسبهم إلى الماسونية ، ولعلّ الأخ محمد المبارك استقى كلامه من مكاريوس أو أنه اغترَّ بمقال على الإنترنت لكاتبه: (أبوعبدالله همَّام بن محمد الجزائري) ، وفيه أتى بكلام لم يذكر مصدَرَه! وفيه أن أحد رجال الماسون وهو شاهين مكاريوس يزعم أنّ أبناء الأمير محمد ومحيي الدين وعلي وعمر كانوا من الماسون!! هكذا وبكل بساطة! وأنا أتعجّب من الإخوة الذين يكتبون المقالات وينشرونها في الإنترنت كيف يستسيغون الركون إلى كل من هبَّ ودبّ، وكتب وشغّب ، أوكان ماسونيًا أو يهوديّا؟!
أنتم تطعنون في رجال مسلمين لم تعاصروهم ولا تعرفونهم ولم تقرؤوا عنهم شيئًا ، ولم يسبقكم إلى الطعن فيهم أحدٌ من علماء المسلمين أو مؤرِّخيهم؟! واكتفيتم بكلام شخص ماسوني!!
أمّا الماسوني شاهين مكاريوس هذا فقد ترجم له الزركلي فقال : ((شاهين بن مكاريوس (1853-1910م): من مؤسسي جريدة (المقطّم) بمصر، وأحد أصحاب (المقتطف) ومنشئ جريدة (اللطائف) ولد في قرية "إبل السقي" من (مرج عيون - بلبنان) ونشأ في بيروت يتيمًا فقيرًا، قُتِلَ أبوه في حادثة سنة 1860م، وحملته أمه إلى بيروت حيث كانت تعوله من عملها في خدمة الدكتور فانديك، فتعلم فن الطباعة، وتولى إدارة مجلة المقتطف ببيروت سنة (1876م) ورحل إلى مصر مع زميليه يعقوب صرّوف وفارس نمر.
وخدم الماسونية بكتبه: (الجوهر المصون في مشاهير الماسون - ط) و(الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية - ط) و(الدر المكنون في غرائب الماسون - ط) و(الآداب الماسونية - ط).)).انتهى
إذن الرجل ماسوني، فَقَدَ والده بعدما قتله الدروز في لبنان في أحداث 1860م ، واضطرّت أمّه للعمل خادمةً لتتمكن من إعالته، فنشأ يتيمًا فقيرًا ناقمًا، وانخرط في الماسونيّة ، واستفرغ وسعه في الكتابة عنها والترويج لها.
ولمّا كان الفضل ـ في إنقاذ المسيحيين من مذبحة 1860م ـ لعلماء المسلمين وكبرائهم أمثال الأمير عبد القادر والشيخ الحمزاوي والعطار والمنيني.. وغيرهم ، ثقُلَ على أمثال ابن مكاريوس (الذي فقد أباه في تلك المذبحة) أن يشهدوا بالفضل لأصحابه لأنّهم من المسلمين! وغيرُ المسلمين لا يُطيقون أن يُنسَبَ الفضل والخير للمسلمين ، فما كان منهم إلاّ أن ألصقوا صفة الماسونية بكل من ساهم في إنقاذ وحماية المواطنين المسيحيين في بلاد الشام! ونحنُ لا نجد في كل ما كتبه الكتّاب المسيحيون عن مذبحة 1860م الغربيون منهم أو الشرقيون ؛ أيّ إشارة إلى فضل الشريعة الإسلامية التي طبّقها كبار رجال الإسلام في صيانة أعراض النصارى وحقن دمائهم ، وإنما أثنوا على أولئك الرجال وألحقوهم بالماسونية زورًا وبهتانًا!!
على كل حال فإنني سآتي على تفاصيل هذا الموضوع في الحلقات القادمة إن شاء الله ، ولكن لي هنا تعقيب سريع حول أبناء الأمير : فالأمير محمد باشا كان من الأعيان الفضلاء ، تلقى العلوم الشرعيّة واهتمّ بالتاريخ وكان مقرّبًا عند السلطان عبد الحميد خان وكان برتبة فريق في الجيش العثماني إلى وفاته بالأستانة سنة 1331هـ. وله عدّة رسائل ومؤلّفات منها : "عقد الأجياد في الصافنات الجياد"، ومختصره "نخبة عقد الأجياد" كلاهما في الخيل ومحاسنها وما قيل فيها، و(مجموع ثلاث رسائل) إحداها 1ـ (ذكرى ذوي الفضل في مطابقة أركان الإسلام للعقل) ، والثانية (كشف النقاب عن أسرار الاحتجاب) ، والثالثة (الفاروق والترياق في تعدد الزوجات والطلاق).
وكل ما ذُكر مطبوع.
وترجمته موجودة في عدة كتب منها [الأعلام ، والأعلام الشرقية ،وإيضاح المكنون]
وأما الأمير محيي الدين باشا ، فمن أهل العلم والأدب ، حفظ القرآن عن ظهر قلب وهو ابن تسع سنين ، وحفظ المتون وتفقّه على أيدي كبار العلماء في الجزائر والشام ، وكان مقرّبًا عند سلاطين آل عثمان ، وكان من رجال الدولة العثمانية ، ورقّاه السلطان عبد الحميد خان إلى رتبة (مير ميران) أي أمير الأمراء ، وفي سنة 1303هـ رقّاه إلى رتبة (روملي بيكلر بيكي) ، وعيّن له معاشًا شهريًا كبيرًا، حيث إنه رفض بعد وفاة أبيه معاش دولة فرنسا التي طلبت منه أن يكون من رعيّتها هو وإخوته. وفي سنة 1305هـ منحه السلطان عبد الحميد رتبة الفريقية مع الياورية العظمى (يعني جعله قائدًا لفرقة عسكرية ومساعدًا للسلطان) ، وفي سنة 1307هـ عيّنه السلطان عبد الحميد عضوًا في مجلس التفتيش العسكري . وكان مقرّبًا من العلماء ، وكان قد التحق بالمجاهدين في الجزائر وشارك في ثورة 1871م ؛ ومات في الأستانة سنة 1336هـ ، وقصّته مشهورة وقد فصّل القول فيها صديقه وخليله العلاّمة الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه (حلية البشر) ، وأثنى عليه كثيرًا العلاّمة السلفي الدمشقي الشيخ محمد بهجة البيطار رحمه الله. وانظر ترجمته في (حلية البشر) ، و(الأعلام) ، و(تاريخ علماء دمشق).
وأمّا علي باشا ، فكان من رجال الدولة العثمانية المشاهير وهو الرئيس الثاني لمجلس الأمة العثماني، والنائب عن ولاية دمشق، وهو من أهل الدين والصلاح ومن الشجعان ، وهو عثماني النزعة ، وكان مبعوثًا من الحكومة العثمانية إلى ليبيا لدعم المجاهدين ، وكانت له جهود كبيرة ومشهودة في مقاتلة الجيوش الإيطالية هو وولده الأمير عبد القادر الحفيد! وكان من أشهر المدافعين عن الجامعة الإسلامية. ومما قاله فيه بعض أفاضل الكتّاب الذين وضعوا كتابًا خاصًّا لتاريخه : ((ولمّا كان الأمير علي باشا محبوبًا من أهالي طرابلس الغرب بصورة خاصة وكان له في قلوب أهالي مراكش وتونس والجزائر أكبر احترام ،أحبّت الدولة العثمانية أن تستخدم عاطفة هذا الحب في مصلحتها فأناطت بالأمير مشروع الاتحاد الإسلامي الإفريقي)).انتهى[تاريخ الأمير علي ص27].
وقالوا: ((وكانت حياته جهادًا في سبيل عظمة الخلافة الإسلامية والجامعة المحمّدية التي لا حياة للعالم الإسلامي المنتشر في أقطاع المسكونة بدونها ولا نشور لمجده إلا بالتمسك بها فإنها الجامعة الوثقى التي تنادي بالمسلم العربي إلى أشد وثاق المحبّة مع أخيه الهندي والصيني والجاوي والكردي وغير ذلك من بقية شعوب الإسلام..)).انتهى[تاريخ الأمير علي ص44]
وتوفي في الأستانة في الثاني من رجب سنة 1336هـ.[انظر ترجمته في (الأعلام) للزركلي ، وفي (تاريخ الأمير علي)]
وأمّا ابنه الأمير عبد القادر (الحفيد) ((فقد عاش بين القبائل الرُّحَّل الضاربة في البطحاء الجرداء يُماشي هذه القبائل الجموحة النافرة بأخلاقها وأذواقها ومشاعرها ..ويُحادث كل قبيلة بلسانها ولهجتها ويقدم على تحمّل حرّ الهاجرة والقيظ طروبًا مسرورًا فرحًا كأنما هو لا يشعر بلذة مثل هذه اللذة التي تنشأ فيه من عيش البداوة والقفر.... ترك القصر وضجيجه والبيت وعجيجه ونزل في هذه البطحاء)).انتهى[تاريخ الأمير علي ص173ـ175].
وقد ذكرت في الحلقة العاشرة بعضًا من مواقفه الإسلامية ، إلى أن اغتاله رجال الكولونيل البريطاني لورنس في دمشق!
وأمّا الأمير الهاشمي بن عبد القادر فغادر دمشق بعد وفاة أبيه ووصل إلى الجزائر وكان مصدر قلق للسلطات الفرنسية المحتلة ووضعوه في إقامة جبرية ، وكان لولده الأمير خالد الدور الأكبر في تأسيس حركة التحرر الوطنية الجزائرية وإظهارها إلى الوجود. [انظر الثورة الجزائرية في عامها الأول للدكتور محمد العربي الزبيري ص70]
وأمّا الأمير عبد المالك فقد التحق بالمجاهدين في المغرب وقُتِل هناك سنة 1343هـ = 1924م .
قال عنه الزركلي في الأعلام : ((عبد المالك بن عبد القادر بن محيي الدين الجزائري: مجاهد كان مع أبيه في المشرق. ورحل إلى المنطقة الخليفية بالمغرب، لمناوشة الدولتين الفرنسية والاسبانية.
وظل يقاوم ويحرض الناس على الجهاد إلى أن قتل في قبيلة "بني تنزين" من الريف برصاصة من بعض الأعداء ونقل إلى تطوان ودفن فيها)).انتهى [ترجمته في الأعلام ، والذيل التابع لإتحاف المطالع ـ خ]
وأمّا الأمير الشاب عمر فقد شنقه جمال باشا السفّاح لأنّه كان يُعارض سياسة التتريك ومحو اللسان العربي ، وينتقد جمعية الاتحاد والترقي وجماعة حزب تركيا الفتاة! وقد أثنى عليه العلاّمة السلفي محمد بهجة البيطار في جملة الذين شنقوا في ذلك اليوم.
كل هؤلاء ترجم لهم الأمير شكيب أرسلان ، وهو سياسي مخضرم ويعرف رجالات الماسون ويذكرهم ، ومع ذلك لم يصف أحدًا من أبناء الأمير بالماسونية!! والأمير شكيب على صلة قوية بأبناء الأمير. [انظر حاضر العالم الإسلامي 2/172] ؛ وكذلك ترجم لهم (عدا الهاشمي وعمر) المؤرّخ السياسي الكبير الزركلي في الأعلام ، ولم يذكر أنّهم انتسبوا إلى الماسونية! مع أنه في موسوعته يذكر المنتسبين إلى الماسونية.
وترجم لهم مؤرخون آخرون أيضًا ولم يذكروا عنهم مسألة الماسونية ، ونحن إذا نظرنا في سِيَرهم فلا نجد أي شيء ينسجم مع الفكر الماسوني!
وأمّا أحفاد الأمير فلم يُذكر أنّ أحدًا منهم انتسب إلى الماسونية سوى الأمير سعيد وليس الأمر كما يُظن وقد بيّنا شيئًا من سيرته فيما سبق وسيأتي المزيد عند حديثنا عن الماسونية . وقد سجّل لنا التاريخ رجالاً منهم كانوا من المجاهدين والشهداء أمثال الأمير عز الدين والأمير عبد القادر الحفيد ، وكان منهم علماء أمثال الأمير جعفر عضو المجمع العلمي بدمشق وقد أثنى عليه كثيرًا العلاّمة محمد كرد علي المشهور بطعنه في الماسونية ورجالها . وكذلك الأمير عبد المجيد أمين المكتبة الظاهرية. والحديث عن أحفاد الأمير وذريته يطول وليس هذا محلّه ، المهم أنّ الطعن فيهم واتهامهم بالماسونيّة دون دليل واضح أو برهان لا يجوز.
ثم يعود صاحب (فك الشفرة) ، فيقول : "وقد كان الأمير عبد القادر ـ خلال وجوده في الشام ـ دائما ما يفزع الى القنصلية الفرنسية عند تعذُّر بعض مهامه ، بل و كذلك في شئونه (كذا) الخاصة كما مرَّ بنا ، فقد كانت هناك علاقة وطيدة بينه وبين الدولة الفرنسية الاستعمارية".انتهى
وأقول : بعد هذا الاتهام الشنيع ، ألا يجد الأخ الكاتب نفسه بحاجة لإيراد دليل واحد على الأقل ليثبت صحة ما يدّعيه؟ فمن أين له أنّ الأمير كان يفزع إلى القنصلية الفرنسية لتحل له مهامه وشؤونه الخاصة أيضًا!
ثم يضرب لنا مثالاً على دعواه فيقول :"فقد تمت وساطة فرنسية لدى الباب العالي للسماح للأمير عبد القادر بالإقامة في الشام".انتهى
مرَّ معنا سابقًا قول صاحب (فك الشفرة) أن الأمير خرج من سجنه في فرنسا ليمر مرورًا باسطنبول في طريقه إلى دمشق . وبينتُ في حينها بطلان كلامه (فالأمير لم يكن في طريقه إلى دمشق ولم يكن هذا في باله ، وإنما اتجه من اسطنبول إلى بروسة وبقي فيها ثلاث سنوات) . وهو الآن يناقض نفسه فيقول إن هناك وساطة جرت لينتقل الأمير من تركيا إلى دمشق .
وقد بيّنتُ لكم سابقًا القصّة كاملة كما ذكرها المؤرخون الثقات وهي أنّ السلطان العثماني هو الذي تدخّل لدى إمبراطور فرنسا ليسمح بانتقال الأمير من "بروسة" في تركيا إلى دمشق وليس العكس . لأنّ السلطان هو الذي تكفّل بالأمير وكان الاتفاق بينه وبين نابليون الثالث على أن يقيم الأمير في "بروسة" ، فلمّا أراد السلطان أن ينتقل الأمير إلى دمشق ، أعلم نابليون بذلك وجرى الانتقال بعد موافقته.
ثم يضرب الكاتب مثالاً آخر فيقول : "فأثناء إقامته في منفاه في سوريا كان الأمير عبد القادر كثيراً ما يتدخل لانقاذ المسيحيين ((العملاء لفرنسا والجواسيس لها ضد المسلمين))".انتهى
وهنا أيضًا الاتهام دون أية بيّنة أو برهان! من أين يأتي بهذه الاتهامات؟ ولماذا لا يذكر لنا تلك الحوادث ومَنْ ذكرها؟ ومن هم الجواسيس والعملاء المسيحيين الذين أنقذهم الأمير؟
وهكذا نرى بوضوح سقوط هذه التهمة .
قال تعالى : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58]
ثم يعود الأخ الكاتب إلى التهمة القديمة التي بدأ بها مقاله ، وهي تهمة العمالة السافرة لفرنسا والعمل على تمزيق الدولة الإسلامية . وقد بينتُ سقوط هذه التهمة سابقًا فلا أطيل بشرحها ، ولكنني أكتفي بتذكير الإخوة القراء بأنّ الأمير هو الذي حافظ على كيان دولة الخلافة الإسلامية العثمانية وخرّب المخططات الأوربية لتفكيك تلك الدولة ، فهو الذي صدّ الأسطول الفرنسي الذي نزل بميناء بيروت سنة 1860م لاحتلال بلاد الشام وفصلها عن تركيا . فردّه الأمير بحنكته وصدق فعاله ، فعاد الأسطول الفرنسي خائبًا ذليلاً ، لكن ليعود مرّة أخرى لينفذ مخططه الماكر والخبيث ، وذلك سنة 1920م ، وبذلك يكون الأمير قد أخّر تمزيق الدولة العثمانية ستين سنة!! ؛ 23سنة في حياته و37 سنة بعد وفاته!! (وسيأتي معنا في الحلقة القادمة تفصيل ذلك كله وبيانه إن شاء الله).
ويستدل صاحب (فك الشفرة) على فرية العمالة لفرنسا بقول التميمي :((إننا لانعرف ولا وثيقة واحدة صادرة عن الأمير تشجع الحركات الانتفاضية في بلاده (الجزائر) ، أو على الأقل مساندته المعنوية لعدد من الزعماء الجزائريين الذين أبلو البلاء الحسن حتى آخر رمق من حياتهم. بل إن الأمير ذهب لاحترام وعده إلى حد التنكر لابنه محي الدين الذي تحول سراً إلى الجزائر لانقاذ البلاد من فرنسا سنة 1870)).انتهى
وأقول : إنّ الاعتماد على قول التميمي لا يرفع عن الكاتب المسؤولية .
إن التميمي مؤاخذٌ فيما يقول ـ وهو متحامل على الأمير ـ فإنّ عدم معرفته بأي وثيقة صادرة عن الأمير تشجع الثوّار ، لا يعني عدم وجود هذه الوثائق ، وإنما يعني جهله بها ، وإن عدم اطلاعه على حقيقة موقف الأمير من الحركات الانتفاضية في الجزائر لا يسمح له بالتدخل في باطن الرجل! وكان الأولى به أن يقف عند حدود معرفته لا أن يتخرّص ويُعرّض بالأمير!!
ثم عن أية وثائق يتحدث؟ والإدارة الاستعمارية الفرنسية لم تترك لنا أي وثيقة صحيحة يُرجع إليها!
وإنما هم يُفرِجون عن بعض الوثائق التي لا تخدم تاريخنا ، أو يروّجون لوثائق مزيفة ومزوّرة .
ولمن يريد الاضطلاع على شيء من هذا فأحيله على كتاب (المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر) للأستاذ إسماعيل العربي من الصفحة 150 إلى الصفحة 155 ؛حيث تحدث عن كيفية تزوير الفرنسيين للوثائق الجزائرية في الأرشيفات الفرنسية وذلك عندما كان في باريس يجري بعض أبحاثه سنة 1950م ؛ يعني قبل استقلال الجزائر!!
وللعلم فإن اسم الأمير ورد في عدّة وثائق تتعلق بثورة بلاد القبائل سنة 1857م ، وثورة أولاد سيدي الشيخ سنة 1864 و1881م ، وثورة 1871م ؛ وكانت السلطات الفرنسية في الجزائر تتوجس من الأمير خيفة وكانت تصرّح بأنه على صلة بأهل الجزائر من الثوار وغيرهم . [انظر (حياة الأمير عبد القادر) ترجمة سعد الله ص25] ، ولذلك كانت الحكومة الفرنسية مصرَّة على منع عودة الأمير إلى الجزائر إلى أن مات . ومع ذلك فإنّ الكتّاب الفرنسيين صاروا يروّجون أن الأمير لم يكن راضيًا عن بعض الثورات وخصوصًا ثورة 1871م ، لكي يوقفوا تأسّي الشعب الجزائري بسيرة ونضال الأمير عبد القادر الذي بقي اسمه ونضاله ومواقفه موردًا ينهل منه المقاومون الجزائريون وقوة معنوية تحفّز إرادتهم وهمّتهم ؛ كما يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله.[المرجع السابق ص25]
وعلى كل حال فإن الوثائق التي لم يطلع عليها التميمي اطلع عليها المؤرّخ الدكتور يحيى بوعزيز؛ ونشرها في كتابه (كفاح الجزائر من خلال الوثائق) ، ونجد فيها ما يردُّ على التميمي والمعتمدين على كلامه.
فمن ذلك أن الدكتور بوعزيز ذكر في كتابه السابق ص347 تحت عنوان : (وثائق جديدة عن موقف الأمير عبد القادر والدولة العثمانية من الثوار المقرانيين عام 1871م) وهو يرد على المزاعم الفرنسية التي تقول أن الأمير كان مستنكرًا لثورة المقرانيين . فقال ص349 : ((إننا لم نلاحظ، فيما عثرنا عليه من رسائل الأمير ، على ما يدل على غضبه عن المقرانيين ، بل على العكس ، فإنه أبدى عطفه عليهم بعد محنتهم الكبرى عام 1871م وما بعده ، عندما هاجروا بجموع غفيرة إلى تونس . وهذا يعني عدم وجاهة آراء الفرنسيين تجاه موقف الأمير نحو زعماء ثورة 1871 ، خاصة المقرانيين منهم . والدليل على أنّ الأمير لم يكن ضدهم ، ولا يحقد عليهم ، هو قيامه بمراسلة السلطات التونسية ليستوصيها بهم خيرًا بعد أن هاجروا إلى هناك . ومما ذكره في رسالته إلى الوزير التونسي رستم ، قوله : (((فإنّ ولدنا الشريف الأثيل السيد الحاج محمد بوزيد المقراني ورَدَ علينا بالديار الدمشقية المحروسة ... ثم المأمول من السيادة أن تستوصوا خيرًا بولدنا المذكور ووالده وإخوته ، وأن تلاحظوهم بالمساعدة فيما يعرض لهم من الأمور وأن لا تقطعوا على المهاجرين كافّة ما تعوّدوه من إحسانكم وتواصل أفضالكم))) .
وفي رسالة أخرى إلى الوزير خير الدين قال له : ((( .. وإنه بلغنا وصول الفئة المقرانية وأولاد يلّس إلى الحاضرة ملتجئين إلى سطوتك التي هي أقوى ما يشد به الملتجئ أزره، ويعضد أمره ، وهم في هذا لا شك مصيبون في اجتهادهم ظافرون بنجاح مرادهم وكيف لا وقد أمّوا دولةً لم تزل ولا تزال مأوى القاصد وملجأ الوارد .... ومع ذلك فلا نخلّي كتابنا هذا من تقديم الرجاء إلى مقامها الأسما والتوصية النافعة إلى جنابك الأسنى بأن تشملهم بلحظة تخلصهم من غوائل الدهر وتنقذهم من شرك الكدر والقهر))) ولم يكتف بهذا الاقتراح والتوصية فطلب منه ، فيما إذا كانت الظروف غير مناسبة بتونس ، قائلاً : ((( وإلاّ فأشيروا عليهم بالتوجه إلى هذه الأقطار عسى الله أن ييسر عليهم فيها بلوغ الأوطار))) ، واستوصاه خيرًا بعد ذلك بمن دعاه : (((عوض ولدنا السيد مصطفى العقبي))).
وفي رسالته إلى الوزير خزندار عبّر عن نفس الرغبة في الاعتناء بالفئة المقرانية ، وأولاد يلّس ، ورعاية عوض ولده مصطفى العقبي ، أو توجيههم جميعًا إلى الديار الدمشقية .
ويتابع الدكتور بوعزيز قائلاً : إن هذه الرسائل دليلٌ واضح على أنّ الأمير عبد القادر يعطف على المقرانيين ، وأن معارضته لابنه خلال ثورة هؤلاء لم تكن بسبب كرهه لهم أو مواقف بعضهم ضده خلال ثورته في صدر الاحتلال . وما أحوج تاريخ الجزائر إلى إبراز كل وثائقه الوطنية ونشرها من أجل تصحيح مثل هذه المواقف والآراء المتحيزة ، والمغرضة ، التي ما انفكّ الكتّاب الفرنسيون يبدونها ويسجلونها حتى مسخوا تاريخ الجزائر مسخًا لا نظير له في تاريخ الشعوب الأخرى ، وخاصة فترة الكفاح الوطني خلال القرن التاسع عشر)).انتهى [(كفاح الجزائر) ص349 ـ351]
وبهذا يظهر بوضوح سقوط التهمة التي يروج لها صاحب (فك الشفرة) بالاعتماد على كلام التميمي!
والوثائق التي كان يطالب بها قد ظهرت والحمد لله ، فهل سيرجع عن اتهامه للأمير؟
وأحب أن أضيف إلى تلك الوثائق وثائق أخرى هي في حوزتي ، وفيها بيان بالمرتبات الشهرية التي كان يخصصها الأمير لآل المقراني في دمشق وذلك بعد هجرتهم إليها بعد محنتهم وفشل ثورتهم في الجزائر ، فهل يُعقل أن يكون الأمير غير مؤيد لثورتهم ثم هو بعد ذلك يوصي بهم خيرا ، ليس هذا فحسب وإنما يلجؤون إليه ويلوذون به؟ ونحن على علاقات طيبة معهم إلى يومنا هذا.
وأمّا ما زعمه التميمي ونقله عنه كاتب (فك الشفرة) وغيره ، مِنْ تنكّر الأمير لذهاب ابنه محيي الدين للمشاركة في الثورة على فرنسة في الجزائر. فهو أيضًا غير صحيح. وما ذكرناه آنفًا من عطف الأمير على المقرانية ومساندته لهم وتوصية الوزراء في تونس بهم ، وهم الذين انضم إليهم ولده محيي الدين ، لأكبر دليل على أنّ الأمير ليس معارضًا للثورة ولا لمشاركة ابنه فيها من حيث المبدأ.
وتفاصيل القصّة رواها لنا العلاّمة عبد الرزاق البيطار في كتابه (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر) والبيطار صديقٌ حميم لمحيي الدين وفي الوقت نفسه هو من خواصّ الأمير عبد القادر ، إذن هو أدرى الناس بتفاصيل هذه القصّة . وهو لم يذكر أن الأمير استنكر ذهاب ابنه أو غضب عليه! ولم يلمح إلى ذلك أبدًا.
المهم في الموضوع أنّ العلاّمة البيطار بعد سرده لقصة توجه السيد محيي الدين إلى الجزائر ومشاركته في ثورة 1288هـ (1871م) ، وتمكن الجيوش الفرنسية في النهاية من السيطرة على الوضع قال : ((والتمست دولةُ فرانسا من حضرة والدِه إرسالَ أمرٍ ونصيحةٍ له)).انتهى
إذن فرنسا طلبت من الأمير أن ينصح ولده ويأمره بالعودة! وذلك تطبيقًا للمعاهدة التي بين الأمير ونابليون الثالث والتي تنصّ على عدم عودة الأمير أو أحد أبنائه إلى الجزائر للمشاركة في أي قتال.
ومن الوثائق التي أوردها الدكتور يحيى بوعزيز ، رسالة أرسلها الأمير عبد القادر إلى ابن عمّه الطيب بن مختار قاضي مدينة معسكر . وقد أثبت نصّها في كتابه كفاح الجزائر ص279، وإليكم النص :
(((الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم.
ابن عمّنا العلاّمة سيدي الطيب ابن المختار قاضي معسكر حفظكم الله ورعاكم ومن كل مكروه حماكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : فقد وصلنا مكتوبكم المؤرّخ بأواخر ذي الحجة وحمدنا الله على عافيتكم وكمال الخصب في مواطنكم . ثم اعلمْ أنه بلغني أن محيي الدين ظهر في نواحي الصحراء الشرقية مع أنني لم آذن له إلاّ في الإسكندرية ونواحيها بقصد تغيير الهواء لما كان لازمه من أنواع الأمراض فاحذروا متابعته وحذروا الأحباب منه فإنه محضُ عبث ؛ والعاقل من اتعظ بغيره ، وتثبت في جميع أموره، فقد ألقى بنفسه فيما يؤول به ما لا خير فيه. إنا لله وإنا إليه راجعون
يُغمى على المرء في أيّام محنته *** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
والسلام . أخوكم عبد القادر في 20 محرم الحرام 1288))).انتهى
وأريد أن أنّبه إلى أمر هام وهو أنّ الكيفية التي اعتمدها الأستاذ بوعزيز لقَبول الوثائق هي ـ وياللأسف ـ كيفية لا تعتمد على أصول بحثية علمية في التوثيق (كمطابقة الخط وكشف التزوير ، ومعارضة الوقائع الصحيحة لها أو اتفاقها معها). لذلك علينا أن نكون حذرين من قبول أي معلومة فيها إذا لم تعضدها قرينة صحيحة.
ومع ذلك فإننا إذا نظرنا في هذه الرسالة نجدها منسجمة مع ما قاله البيطار من أن فرنسا طلبت من الأمير أن يرسل لولده طلب نصيحة وأمر بالعودة ، وكذلك نجد أن أسلوب الكلام فيها مشابه لأسلوب الأمير . ومضمونها : أنّ الأمير لم يأذن لولده بالذهاب إلى الجزائر ، وهو بذلك ينبّه إخوانه وأحبابه في الجزائر أنّ محيي الدين ليس أهلاً لاستلام قيادة حرب ، وأنّه مريض ، ولا خبرة له في القتال . (وهذا من حق الأمير أن يقوله ؛ تمامًا كما فعل والده من قبل سيدي محيي الدين بن مصطفى عندما أشار على الناس في الجزائر بمبايعة ابنه عبد القادر لما رأى فيه من القوة والحنكة والشجاعة). وليس في كلام الأمير أي اعتراض على محاربة فرنسة أو الثورة عليها! وإنما اعتراضه على جعل محيي الدين قائدًا لتلك الثورة . ولذلك يمكننا مبدئيًا تصديق هذه الرسالة ريثما يجري التحقق من ثبوتها .
في حين أنّ باقي الرسائل التي أثبتها الأستاذ بوعزيز لا يمكن القَبول بها أبدًا والتزوير فيها مُفتضح ، وظاهر كل الظهور. وفيها الوثيقة التي اعتمد عليها عبد الجليل التميمي في اتهامه للأمير بتأييد فرنسة والتخلي عن ابنه. وقد قال الدكتور أبو القاسم سعد الله عن هذه الوثيقة : ((والوثيقة المنسوبة إليه (يعني الأمير) قد تكون مزورة لخدمة أغراض داخلية)).انتهى [حياة الأمير ، ترجمة سعد الله ص25] .
ومن الأسباب التي تدعونا لرفض هذه الرسائل ، وتُثبت تزويرها :
1ـ هذه الرسائل موجهة إلى القناصل الفرنسيين بدمشق وطرابلس الغرب يُعْلِمُهم الأميرُ فيها أن ابنه محيي الدين قد توجّه إلى الجزائر .
وهذا خلاف المصادر التاريخية التي أثبتت أن القنصل الفرنسي هو الذي أبلغ الأمير بتوجه ابنه إلى الجزائر ، وأنّ الحكومة الفرنسية هي التي طلبت من الأمير أن يأمر ولده بالعودة.
2ـ إن مضمون تلك الرسائل فيه سبٌ ودعاء على ولده محيي الدين بل وفيها يتمنى موته ، ويتبرأ منه إلى درجة أن لا ينسبه إليه!!
3ـ الكلام في تلك الرسائل يوحي أن جميع القبائل الجزائرية كانت راضية بالحكم الفرنسي وأن محيي الدين هو الذي جاء ليؤلّبها على فرنسة! وطبعًا هذا غير صحيح. وإنما هو دليل على أنّ الكاتب لهذه الرسائل إنما هي الحكومة الفرنسية!
4ـ إن أسلوب الكلام في جميع تلك الرسائل عامّي ومفكك وفيه تعابير أوربية (فرنسية مترجمة) ، وإذا قارناه بأي رسالة ثابتة للأمير نجده لا يشبه أسلوب الأمير مطلقًا. بل ولا يرقى إليه ، وإنما صِيغ بقلم فرنسي مقيم في الجزائر.
5ـ في الرسالة الأخيرة نجد فيها أن الحكومة الفرنسية هي التي تتوسط لدى الأمير ليصفح عن ولده!!! وفيها معلومات غير صحيحة ومخالفة للواقع . (وتأمّلوا في هذه المهزلة صارت الحكومة الفرنسية هي التي ترجو من الأمير أن يسامح ابنه الذي ذهب للمشاركة في الثورة عليها ومجاهدتها، يعني فرنسا راضية عن فعل محيي الدين والأمير هو الغاضب!أرأيتم إلى هذا السقوط في التزوير!!)
وإليكم بعض النماذج :
1ًـ في الرسالة المزعومة والموجهة إلى قنصل فرنسة بدمشق جاء فيها : ((...فإذا استحسنتم جنابكم تتخابرون (كذا) مع الوزير فإذا أحسن عنك (كذا) مساعدته (كذا) أكتب (كذا) مكاتيب خصوصية لكل قبيلة من القبائل الذين (كذا) مع المفسد (كذا) بعد أن يعرفوني (كذا) أين هو وأسماء القبائل هم (كذا) عندهم (كذا) ليتحقق الناس أنني بريء منه ومن عمله)). انتهى[كفاح الجزائر ص279]
أرأيتم إلى هذا النص المقطع الأشلاء والركيك. أيُعقل أن يكتب شخص عربي كلامًا كهذا؟
فما بالكم بالأمير العالم والأديب والشاعر؟
2ً ـ جاء في النداء المزعوم من الأمير إلى سكان الجزائر : ((إن ولدنا التعيس (كذا) محي (كذا) الدين قد تجاسر من مدة (كذا) وذهب ضد (كذا) إرادتنا إلى نواحي المغرب وبمقتضى (كذا) ما بلغنا أنه اتحد مع بعض الأشقياء وشرعوا في زرع الفساد وعمل الحركات في جهات (كذا) حكومية (كذا) قسنطينة التي من شأنها سلب راحة الأهالي ......وعليكم أن تردعوا جهالكم من موافقته وعدم المداخلة (كذا) في عمل أو هيجان (كذا) وأن تحرضوهم على الخضوع لأوامر الحكومة الفرنساوية التي تحسب (كذا) سيادتها قد وطدت الراحة التامة في بلادكم وكثرت ثروتكم ورفعتكم إلى أعلى درجة من المجد والترقي محترمة شرائعكم الدينية وعظمة نبيكم وكتابكم . والذين يتجاسرون على المساعدة في سلب الراحة وإلقاء البلاء بل (كذا) يستحقون غضب الله لأنه يكره الشر ويحب الخير..)) انتهى [كفاح الجزائر ص280]
وكأننا نقرأ كلمة لقسيس في كنيسة فرنسية في الجزائر ، سواء من جهة التراكيب الدينية أو التراكيب اللغوية ، أو من جهة إظهار فرنسة بأنها راعية للدين الإسلامي . ونحن نعلم كيف كانت الأوضاع في الجزائر في ذلك الوقت من هدم للمساجد أو تحويلها إلى مستودعات واصطبلات وكنائس ، ومحاربة الدين ونشر التنصير!! وهذه الرسالة لم تمهر بختم الأمير في النهاية!!! ولم يوضع لها تاريخ محدد كالعادة في سائر الرسائل!! وقد لاحظ الدكتور بوعزيز هذه الأشياء وأشار إلى بعضها في النص.
3ً ـ جاء في الرسالة المزعومة من الأمير إلى وكيل قنصل فرنسا بدمشق : ((فنقول إننا مصممين (كذا) ألا نراه مدة حياتنا قط (كذا) وذلك ليس فقط في بيت واحد بل كنا معتمدين (كذا) على أننا لا نوجد معه (كذا) في مدينة واحدة ولذلك أطردنا (كذا) من دارنا حريمه وأولاده!! ...... والحالة المزعجة الموجود هو بها الآن (كذا) عرفوه (كذا) جرم الجنون الذي ارتكبه ونتأمل أن يكون ذلك كفالة له في المستقبل (كذا) ، ولا حراعة (كذا) لنا لإطالة الشرح إذا (كذا) أننا مخجولين (كذا) من تصرف محي (كذا) الدين الخبيث ...)).انتهى [كفاح الجزائر ص281]
وهنا أيضًا نرى بوضوح التحطيم الإعرابي وسقامة النص العربي والأخطاء الإملائية . إضافة إلى المعلومات الخاطئة ففي الرسالة قرأنا أن الأمير يقول أنه طرد حريمَ وأولاد ابنه محيي الدين!!
وهذه سقطة كبيرة من مزوِّري هذه الرسائل ، بها انفضح أمرهم وانكشف باطلهم وتزويرهم وكذبهم؛ فمن المعلوم والثابت أن السيد محيي الدين لم يكن له أي زوجة أو أولاد عندما سافر إلى الجزائر ليلتحق بثورة 1871م ، وإنما تزوج بعد عودته!! وتأخّر إنجابه للأولاد.
ولكن غاب هذا عن المزورين ، ففضحهم الله!! وهذا أكبر دليل وبرهان على بطلان تلك الرسائل وسقوطها ، ولا يمكن أن تعدّ من الوثائق ولا يُبنى عليها حكم!
ثم إذا لم يستح مزوّر هذه الرسالة من قوله إن الأمير طرد زوجة ابنه وأولاده من داره؟! فكيف يقبل مؤرّخ جزائري مثل هذا الكلام؟! والأمير كان يصفح ويسامح الذين خانوه في الجزائر ويضمهم إلى جواره وينفق عليهم!
ويزعمون أنّ كل هذا الغضب من الأمير على ابنه لأنه ذهب وشارك في ثورة 1871م ، ومرَّ معنا آنفًا كيف كان الأمير يوصي الوزراء في تونس بآل المقراني خيرًا وهم الذي أشعلوا ثورة 1871م!!
وكذلك استضاف الأمير آل المقراني ؛ الذين هربوا من الجزائر بعد ثورتهم ؛ في دمشق وأكرمهم وكان ينفق عليهم! فما هذا التناقض؟ كيف يغضب الأمير على ابنه لمشاركته في الثورة ، ثمّ هو يكرم زعماء الثورة ويوصي بهم خيرًا ويكتب الرسائل والتوصيات ويرسلها ، دون أن يخشى من فرنسة وجواسيسها؟ أفلا تعقلون؟!!!!
أظن أنّ ما ذكرته فيه الكفاية لبيان سقوط تلك التهم . وأسأل الله تعالى أن يرزقنا السداد ويلهمنا الصواب.
ولا حول ولا قوة إلا بالله
خلدون مكي الحسني
للبحث صِلة إن شاء الله
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
بارك الله فيكم - شيخ خلدون - على هذه الحقائق التاريخية ؛ التي تنقض ما نشر هذه الأيام في بعض الصحف عندنا على لسان واسيني الأعرج من إثبات استسلام الأمير عبد القادر وتبرأه من ابنه محيي الدين والوثوق بكتاب ( المواقف ) ، مع الرد على الفاضلة الأميرة بديعة - حفظها المولى - ،،،
وفقكم الله لإتمام هذه الحلقات ، وأساله - سبحانه - أن يهدينا جميعا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ،،،
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا أحسب أن ما أتى به الكاتب ( واسيني الأعرج ) هو من بنات رأسه ,,,فلقد ذكر هذه العباارة قبله الإمام العلامة محمد البشير الإبراهيمي - قال رحمه الله " .. ولما اجتمع على عبد القادر تدبير الأقدار وتخاذل الأنصار وقعود الجار , استسلم , ولكن الجزائر لم تستسلم , وبقيت الثورات مشتعلة في جهات القطر , لم تفقد إلا صبغتها العامة الشاملة لجهاتها الأربع من حدود( وجدة ) إلى مخارم ( أوراس ) في حدود تونس ,,, " ( في قلب المعركة لمحمد البشير الإبراهيمي مع تصدير الدكتور : أبو القاسم سعد الله ص :162 ) .
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأت في كتاب بالانجليزية بأن عبد القادر الجزائري قد طلب الانتساب للماسونية, فما صحة هذه الدعوى؟؟
وهل هذا هو خط الجزائري؟
http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
]
-
خط الأمير عبد القادر
الأخ أحمد البكري السلام عليكم ورحمة الله
فيما يخص دعوى انضمام الأمير إلى الماسونية سيأتيك الجواب عنها مفصّلاً في الحلقات الثلاث القادمة إن شاء الله ، وعلى كل حال هي دعوى غير صحيحة.
وأمّا الرسالة التي عرضتها (وهي فيما يبدو موجّه إلى الكولونيل تشرشل) فلم أطلع عليها سابقًا ، وهي مؤرّخة بتاريخ 1273هـ أي في سنة وصول الأمير إلى دمشق قادمًا من تركيا عبر ميناء بيروت. وهذا غريب! والختم الذي بأسفلها يشبه ختم الأمير ولكنه يبدو تام الاستدارة ، في حين أن ختم الأمير شبه بيضوي (دائري مفلطح قليلاً).
وأمّا خطّ كاتبها فليس خط الأمير عبد القادر قطعًا. وأنت إذا نظرت في الوثائق الصحيحة النسبة إلى الأمير فستجد الفارق الكبير بين المميزات المكوّنة لخط الأمير ومميزات خط تلك الرسالة.
فمثلاً لفظ الجلالة في قوله (الحمد لله وحده) لا يشبه في رسمه خط الأمير ، فالأمير يكتب لفظ الجلالة بأسلوب خاص وذلك بإطالة اللام الأولى فيه وتحويل اللام الثانية إلى سن قصير .
وكذلك حرف الدال في كلمة (الحمد) وكلمة (وحده) لا يشبه رسم الدال في خط الأمير فالأمير يكتبه إلى الأسفل ولا يجعل له امتدادًا إلى الأعلى إلا بمقدار سن صغير .
وكذلك حرف الميم في آخر الكلمة بعيد جدًا عن أسلوب الأمير ، وكذلك حرف اللام ألف (لا) لا يشبه رسم الأمير البتّة!! كما في الكلمات: الأوفى ، الأوفر، إلاّ، الأحوال، الأعمال، الأولى ، السلام ...
هذا فضلاً عن أسلوب الخطاب وبعض الألفاظ : فمثلاً يقول له (الكردنيل) بدل (الكولونيل) وهذا غريب جدًا.وكذلك يقول (الشريف خاطركم) وهذا تركيب غريب أيضًا!
وما أخبرتكم به عن المزايا المكوّنة لخط الأمير ليس من اجتهادي فحسب ، وإنما هي مقتبسة من تقارير الخبرة الفنيّة التي أجراها خبير الخطوط والوثائق العالمي الأستاذ هشام غراوي.
وستجد مرفقًا بكلامي مقاطع صغيرة من أحد تلك التقارير ، بخط الخبير ، وفيها رسوم توضيحيّة.
وإن شاء الله تعالى سأخصص بحثًا مختصرًا أعرض فيه نماذج من رسائل الأمير .وأتحدث فيه عن مسألة التزوير التي مارستها فرنسة في كتابة رسائل وصكوك باسم الأمير وغيره.
/// الصورة الأولى:
http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
/// الصورة الثانية:
http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
الحلقة 13 ؛ حادثة 1860م وموقف الأمير عبد القادر فيها، وقصة الأوسمة! وتهمة الماسونية1.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الثالثة عشرة
إنّ سلسلة التهم السابقة التي وجّهها الأخ محمد المبارك صاحب (فك الشفرة) للأمير ، انتهت باتهام الأمير عبد القادر بالماسونية!!
فتحت عنوان الأمير في بلاد الشام ، بدأَ التهمة الجديدة ، مستدلاً بأحداث جبل لبنان (اقتتال الموارنة والدروز) والتي امتدت إلى دمشق سنة (1277هـ،1860م) فسعى الأمير عبد القادر في حينها لإطفاء نار تلك الفتنة وتخييب آمال مشعليها ، فعدَّ كاتبُ المقال أنّ في ذلك دليلاً على ماسونية الأمير وعمالته لفرنسا!!!
قال في (فك الشيفرة) :"قبل عام 1860 كان المتصرف العثماني يقيم في جبل لبنان بينما يشرف على جميع لبنان و سورية ، و إثر ما عرف في التاريخ اللبناني بفتنة الجبل تدخل الأمير عبدالقادر للتوسط لدى الدولة العثمانية لصالح (ثورة يوسف بك كرم الماروني في (1859 ـ 1860 م) التي ثارت على داود باشا اول متصرف عثماني على الجبل اللبناني ، و طالبت بالحكم المحلي لموارنة الجبل ، ثم دعت الى التدخل الفرنسي بصوت مطرانها "طوبيا عون" ... وحين أفرزت تلك الفتنة غضباً عارماً في دمشق والشام على المسيحيين الذين راسلوا و جلبوا المستعمر الاجنبي الفرنسي إلى ديار المسلمين ، قام الأمير عبد القادر، باعتراف العديد من قادة تلك الفترة بحماية و إنقاذ حوالي 12000 مسيحي ويهودي احتموا بالأمير من غضب جماعات ثائرة، و قد حمل مع أتباعه السلاح من أجل ذلك . وهو ما دفع العديد من ملوك وقادة تلك الفترة ورجالات الدين إلى منح الأمير أوسمة شرف عرفانا لإنقاذ أرواح عدد من رعاياهم بمن فيهم قناصلة روسيا وفرنسا واليونان وأمريكا و قد انتهت تلك الفتنة بالتدخل الاجنبي الفرنسي ، و بعد تلك الخدمة الجليلة للتاج الفرنسي تهاطلت على الأمير الأوسمة والنياشين من عدد كبير من رؤساء الدول الأوربية ، وعلى الخصوص من نابليون الثالث الذي وشحه وسام الشرف الفرنسي الأول ، ونتيجة لذلك أخذت تنتشر في أوربا التآليف التي مجدت الجانب الإنساني للأمير وتسامحه".انتهى
ثمّ راح يستدل بأقوالٍ لماسونيين وصليبيين حاقدين معاصرين!(أمثال : جرجي زيدان، وأنطوان عاصي ، وشاهين مكاريوس)!!!
وإذا كان بعض الكتّاب ـ غير المسلمين أو غير المتدينين ـ يرضى بأمثال هؤلاء ليحتج بهم على رجال الإسلام ويطعن فيهم ، فما كان ينبغي على الأخ محمد المبارك أن يرضى بذلك!
لأنّ المسلمين أصحاب العقيدة الصحيحة والمنهج القويم ، لا يقبلون أبدًا بأمثال هؤلاء ولا بمن ينقل عنهم ، بل يلقون بهم وبكلامهم ، ولا يرضون إلاّ بكلام الثّقات الأتقياء من أهل الإسلام!
وإنّ كل ما نقله الكاتب عن هؤلاء ، مِنْ أحداثٍ وتحليلٍ لها باطلٌ وغير صحيح ، وكي أُبيّن بطلان تلك المزاعم لا يكلّفني الأمر أكثر من عرض وقائع تلك الحادثة بصدق وأمانة كما وردت في المصادر الموثوقة والمشهورة . وسيظهر للقارئ عندها الحقُ جليًا دون الحاجة لأي شرح أو تحليل.
ولكن هناك أمرٌ هام أريد أن أنبّه عليه : وهو أنّ الأخ محمد مبارك صاحب المقال قام بخلطٍ عجيب للأحداث التاريخية ، وأدخل الوقائع في بعضها على نحوٍ لم يُسبق إليه ، وبعد ذلك أخذَ يستنتج ما يشاء من هذا الخليط العجيب ويصوغه وكأنّه مسلَّمة تاريخية! وهذه مصيبة كبرى!
لذلك سأضطر لتجلية الموضوع حتى يتبيّن له وللجميع حقيقة ما جرى.
أولاً ؛ بدأ الكاتب كلامه متحدِّثًا عن حادثة تاريخية مشهورة وهي المعروفة باسم (فتنة الجبل) سنة 1860م في لبنان والتي امتدت فيما بعد إلى دمشق ، فزعم أنَّ الفتنة كانت بثورة يوسف كرم على المتصرف العثماني "داود باشا" وأنّ الأمير تدخل لصالح ثورة يوسف كرم!! وهذا خلط عجيب! ولن أطيل في شرحه ويكفيني أن أعرض لكم ما قاله الأستاذ خير الدين الزركلي في موسوعته "الأعلام" عن يوسف كرم؛ قال: ((يوسف بن بطرس كرم (1238-1306هـ = 1823-1889م): شجاع لبناني ماروني، يُنْعَت ببطل لبنان. من أهل قرية "إهدن" أقامه الأمير حيدر الشهابي حاكمًا عليها بعد أبيه.
وعيَّنه الوالي "فؤاد باشا" على إثر حادثة 1860م "وكيل قائم مقام" في بلده. ولم يلبث أن اعتزل العمل، طامحًا إلى أن يكون متصرفًا "وطنيًا" للبنان بعد أن تنتهي مدة المتصرف "الأجنبي" داود باشا، فاعتقله "الباشا" فؤاد، ونفاه إلى الآستانة (سنة 1861م) فَفَرَّ (سنة 1864م) عائدًا إلى بلده.
وقلق منه داود باشا فأراد القبض عليه، فقاتله، وكثر أنصار يوسف، وظهرت بسالته، ونشبت بينه وبين العساكر اللبنانية معارك. وتوسط القنصل الفرنسي، فأخرجه "تحت الحماية الفرنسية" إلى فرنسة (سنة 1867م) فتنقل في أوربة. واستقر في "نابلي" بإيطالية، محتفظًا بجنسيته العثمانية، معلنًا أنه لم يخرج على السلطان، بل دفع عن نفسه ظلم "داود" ومات في "نابلي" ونقل أقاربه جثمانه إلى "إهدن" وأقيم له فيها "تمثال" بعد مدة)).انتهى
إذن صار واضحًا الآن أنّ ما يُسمّى ثورة يوسف كرم كانت بعد انتهاء فتنة الجبل المشهورة سنة 1860م ، وخروج يوسف كرم على المتصرف العثماني وقتاله كان سنة 1864م!! ، والذي توسّط ليوسف كرم لدى العثمانيين هو القنصل الفرنسي!! ولم يحدث أي تدخل عسكري أجنبي!!
ثانيًا؛ إليكم الآن وقائع حادثة 1860م (فتنة الجبل) وذلك من المراجع الإسلامية الموثوقة.
وكنتُ أريد الاختصار في عرضها ولكنني رأيت أن أتوسّع قليلاً في ذلك ، والسبب هو أنّه كما يُقال: "التاريخ يُعيد نفسه" وأحداث لبنان اليوم ما هي إلاّ امتداد وتكرار للأحداث التي جرت في السابق (سنة 1841م ثمّ 1845م ثمّ 1860م ثم 1864م ..ثم..) وكان كبير الفاتيكان الذي سبق الحالي قال ضمن كلمة له: ((لبنان أكثر من وطن: إنه رسالة!!)) ، ونحن نرى بوضوح اهتمام الغرب بلبنان واستخدامه دائمًا لزعزعة المنطقة واتخاذه ممرًا لتمرير خططهم ومشاريعهم!! فلعلّنا نستخلص العِبَر!
جاء في التاريخ الإسلامي للعلاّمة محمود شاكر قوله:
((فبعد وفاة الخليفة العثماني محمود الثاني تسلّم الخلافة ولده عبد المجيد الأوّل سنة (1255هـ،1839م) ، وكانت الدولة العثمانية قد بدا ضعفها وكان "محمد علي" الوالي على مصر قد أعلن انفصاله عن الدولة العثمانية وصارت له أطماعه الخاصة وزادت قوّته ، فخشيت الدول الأوربية الاستعمارية (انكلترا وفرنسا والنمسا وبروسيا) من احتمال استيلائه على إسطنبول ، وهنا قد تتدخل روسيا لأنها مرتبطة في ذلك الوقت مع الدولة العثمانية بمعاهدة دفاع مشتركة ، لذا فقد قدّمت دول أوربا لائحة مشتركة من (روسيا وانكلترا وفرنسا والنمسا وبروسيا) تطلب من الخليفة الجديد ألاّ يُقرَّ موضوعاً في شأن يتعلّق بوالي مصر دون الرجوع إليهم ، وفي الوقت نفسه فإنهم مستعدون للتوسط بينهما ، فَقَبِلَ الخليفة اللائحة ، واجتمع السفراء عند الصدر الأعظم وتداولوا الرأي ، وظهر تباين في وجهات النظر . روسيا تريد أن تحتفظ بالمعاهدة الدفاعية مع الدولة العثمانية التي تُبقيها تحت حمايتها ، وانكلترا وفرنسا تخشيان من ذلك وترغبان أن تكون لهما قطعات بحرية في المضائق بحيث تشاركان ، وتمنعانها من التفرّد بالتصرف في شؤون الدولة وحدها . ومن ناحية أخرى فإنّ فرنسا تود دعم محمد علي وأن يحتفظ بما أخضعه ، وانكلترا لا تريد ذلك منافسةً لفرنسا على مركزها في مصر ، وخوفاً من منافستها على طريق الهند ، والنمسا وبروسيا تريان في قوّة محمد علي خطراً على أوربا خشية من أن يُسيطر على الدولة العثمانية ويُعيد لها الحياة ، فهما أقرب إلى انكلترا. وبعد فشل لقاءات ، وتهديدات بالانسحاب ، ودعوة إلى مؤتمرات ، نجحوا في عقد اتفاقيّة عام (1256هـ =1840م) بين انكلترا وروسيا وبروسيا والنمسا بعد انسحاب فرنسا! ومحاولة اتفاقِها مباشرة مع الدولة العثمانية ومحمد علي وتشجيعه على رفض مطالب انكلترا، ودعمه إن عارضته انكلترا)).
[[طبعًا هذه الأحداث تجري والجيوش الفرنسية كانت قد احتلت الجزائر ودخلت في حروب طاحنة مع الأمير عبد القادر ، وكان الأمير يجاهد الفرنسيين في الجزائر ، ومحمد علي كان يبعث بجنود من مصر لمساعدة الفرنسيين في حربهم على الأمير!!]]
((ولمّا كانت فرنسا قد انسحبت من تلك الاتفاقية ، عادت للتحايل على منافستها انكلترا التي بدأت تحرّض سكان جبال لبنان من دروز وموارنة وغيرهم . وبدأ تحرّك الأساطيل الإنكليزية والفرنسية على سواحل بلاد الشام . وكانت خطّة فرنسا هي دعم الموارنة ومحمد علي لكي تضمن نفوذها في بلاد الشام ، في حين كانت خطّة انكلترا دعم الدروز وتحريضهم على النصارى!!
ولكنّ الحكومة الفرنسيّة ضَعُفت ، وسَحَبَت قواتها البحرية إلى مياه اليونان ثم إلى فرنسا ، وتركت سواحل مصر والشام لسفن إنكلترا ، فاقتصر العمل على إنكلترا مع دعمٍ قليل من النمسا . وأنزلت إنكلترا قواتها شمال بيروت ، وبدأت المعارك ، وهُدِّمت أكثر المدينة وأُحْرِقَت ، وكذا بقيّة الثغور الشاميّة ، وتمكّنت القوات الإنكليزيّة ومَنْ معها من أخذ الموانئ وإجلاء جيش محمد علي.
اعتدى الدروز على الموارنة عام (1257هـ =1841م) ، ودخلوا دير القمر ، وارتكبوا أبشع الأعمال . (طبعاً الأمير عبد القادر مازال في الجزائر!!وليس له وجود في الشام قبل سنة 1273هـ ، 1856م) فَعَزَلَ الخليفةُ الأميرَ "بشير الشهابي" ، ووضع والياً عثمانياً مكانه ، وحُرِمَ الجبل مما كان له من امتيازات ، ولم تقبل الدول الأوربية ذلك ، فاضطر (الخليفة) أن يُعيد للجبل امتيازاته ، وأن يُعيّنَ قائمقام درزي وآخر ماروني وذلك عام (1258هـ) . ولكن الأمر لم يستقم لاختلاط الطوائف في القرى ، فرأى الخليفة ضمّ شمال الجبل ـ أي منطقة الموارنة ـ إلى ولاية طرابلس ، فاحتجّ الموارنة ، فأرسلَ من يدرس الموضوع ويُقدّم الحلول ، فلم يُفد ذلك شيئاً ، وأصرّ الدروز أن يبقى الموارنة تحت سلطانهم ، وفضّل بعدئذ الموارنة أن يتبعوا ولاية أخرى من أن يكونوا تحت سلطان الدروز ، فاستحسن الخليفةُ الرأي ، ولكن لم يُعجب الدروز فقاموا باعتداءاتهم الثانية عام 1261هـ)). (أيضًا الأمير مازال في الجزائر)!!
((وبعد ذلك أرسلت الدولة العثمانية جيوشها واحتلت المنطقة كلّها ، وأعلَنت فيها الأحكام العرفية. ثمّ اتفقت الدول الأوربيّة مع الخليفة على تشكيل مجلس يضم أعضاء من المجموعتين ومن غيرهم . ولم تنته القضيّة إلاّ بمذابح عام 1277هـ/1860م )).
[كانت الدول الاستعمارية تحتال بكل ما تستطيع لكي توجد لنفسها قدمًا في أراضي الدولة العثمانية، ومن تلك الحيل قضيّة حماية رعايا الدولة من النصارى ، وكذلك مقدّسات النصارى!]
((وهاهي فرنسا بحكم الامتيازات القنصلية في الدولة العثمانية تملّكت الإشراف على الكنائس في بيت المقدس ، ثمّ انتقل هذا الإشراف لروسيا بسبب انشغال فرنسا بحروب نابليون ، فلما انتهت فرنسا مما تعاني أرادت العودة إلى ما كانت عليه فحصل خلاف بين رجال الكنائس الكاثوليك والأرثوذكس ، فشكّلت الدولة العثمانية لجنة من رجال كنائس مختلفي المذاهب ، فأقرّوا بحق فرنسا في ذلك فاحتجّت روسيا وهددت بالحرب ... ورفض الخليفة أيضاً من السفير الروسي حق حماية روسيا للنصارى المقيمين في الدولة العثمانية.
وبدأ التوتر يرتفع بين الدولتين وتحركت الأساطيل البحرية وتقدمت الجيوش الروسية، ثم عقد مؤتمر للتوفيق بين الدولتين ولكن الخليفة رفض مطالب روسيا ، وشجّعت انكلترا وفرنسا الدولة العثمانية في عدم الخضوع لطلبات الروس ، وكان موقف فرنسا وانكلترا ضد روسيا خوفاً على مصالحهم لا حباً بالمسلمين . وجرى اتفاق بين الدولة العثمانية وفرنسا وانكلترا على محاربة روسيا وذلك في (12/6/1270هـ =11/3/1854م) ، واقتضى ذلك الاتفاق أن ترسل فرنسا خمسين ألف جندي ، وتبعث انكلترا بخمسة وعشرين ألفاً ، وأن تجلوَ هذه الجنود عن الدولة العثمانية بعد خمسة أسابيع من الصلح مع روسيا . وبدأت حرب "القرم" ، ثمّ جاءت معاهدة باريس وقبلت روسيا بشروط الدول المتحالفة.
وأعقب ذلك بحث بعض الشؤون الأوربية ، فاتفقوا على تكوين دولة واحدة من إقليمَي "الأفلاق والبغدان"([1]) شبه مستقلّة تُسمى حكومة الإمارات المتحدة وتكون تحت حماية جميع الدول ، أي إخراجها من تَبَعية الدولة العثمانية ، ووقع ذلك في باريس عام (1275هـ =1859م) ، وكان الخليفة قد أصدر بعض التعليمات الإدارية في سبيل الإصلاح وهو ما عُرِفَ باسم (الخط الهمايوني) وذلك عام (1272هـ =1856م).
وأوجدت الدول النصرانية كذلك مشكلاتٍ في الصرب ، والجبل الأسود ، والبوسنة والهرسك ، لتفصلها عن الدولة العثمانية ، فبدأت تقوم الثورات ، وتمنع دولُ أوربا الدولةَ العثمانية من قمع هذه الثورات بتهديد الدولة ، وقطع العلاقات السياسية معها ، بل غالبًا ما كانت الدول الأوربية هي التي تدعم الثورات وتثيرها ، وأصبح سفراء هذه الدول شركاء في السلطة تقريبًا!!
وأُثيرت آنذاك مشكلة جزيرة "كريت" ، وحدَثَ اعتداءٌ على النّصارى في "جُدّة" ، وأُصيب قنصل فرنسا ، وهدَّأ والي "مكّة" الوضع غير أنّ الانكليز قد ضربوا "جُدّة" بالمدافع!)).انتهى[انظر التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر الجزء 8 /من ص173 إلى ص181]
كل هذه الأحداث والأمير لم يدخل دمشق بعد! فالأمير رست سفينته في ميناء بيروت في (27/3/1273هـ = 24/11/1856م) .
إذن فرنسا وانكلترا وروسيا وغيرها كانوا يسعون للقضاء على دولة الخلافة العثمانية وكانوا يستعينون بالأقليات النصرانية الموجودة في أراضي الدولة العثمانية لإيجاد الذرائع للتدخل في تلك الأراضي ومن ثَمَّ فصلها عن دولة الخلافة واحتلالها!
فكانت الفتنة الطائفية في الشام : يقول الأستاذ محمود شاكر : ((تساهل السلطان عبد المجيد مع الدول الأوربية فاستقرت الأوضاع في إقليمي الأفلاق والبغدان ، والصرب ، واشتعلت الفتنة في بلاد الشام ، إذ اعتدى الموارنة على الدروز عام (1276هـ =1860م) فقام الدروز يأخذون بالثأر ، وامتد اللهيب من جبل لبنان إلى طرابلس ، وصيدا ، وزحلة ، ودير القمر ، واللاذقية ، ودمشق ... وأسرعت الدولة العثمانية فأرسلت فؤاد باشا، وقضى على الفتنة ، وعاقب المسؤولين عنها ، كلاً بما يستحق ، واحتجّت الدول الأوربيّة وهددت بالتدخل ، وكانت متفرّقة الرأي ، ثمّ أجمعت واتفقت على أن ترسل فرنسا ستة آلاف جندي لمساعدة الدولة فيما إذا عجزت عن إطفاء الفتنة ـ حسب زعمها والحجّة التي اتخذتها ـ وأنزلت فرنسا قواتها في بيروت في (22 المحرّم 1277هـ= 9/8/1860م) بعد اتفاق الدول الأوربيّة الذي تمّ قبل أسبوع (15 المحرم) ، وهذا الاتفاق تَدَخَّلَ في شؤون الدولة التي أحسَنَت القيام بمهمّتها لكن كان القصد تقوية النصارى ، وإظهارهم بمظهر القوة ، وأنّ أوربا كلّها من خلفهم ، لتزداد قوتهم ، ويخشى خصومهم بأسهم . وجرى الاتفاق مع فؤاد باشا على أن يعوّض النصارى على ما خسروه ، ويُمنح أهل الجبل حكومةً مستقلّةً تحت سيادة الدولة ، وأن يرأس هذه الحكومة رجل نصراني لمدّة ثلاث سنوات ، ولا يحق عزله إلاّ برأي الدول الأوربية ، وتقترحه الدولة العثمانية ، وتوافق عليه أوربا ، وقد اختير أوّل حاكم "داود الأرمني" ... هذا التساهل قد ألزم فرنسا بالانسحاب من الشام ، إذ أخلت المناطق التي دخلتها في (27/11/1277هـ) أي بعد عشرة أشهر وخمسة أيام من دخولها .
وتوفّي الخليفة العثماني عبد المجيد في (17/12/1277هـ) )).انتهى [من التاريخ الإسلامي8/181ـ182]
وقال الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر) :
((وقعت فتنة بين الدروز والنصارى في جبل لبنان واشتد بسببها الضرب والطعان، وعاثت طائفة الدروز وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتّسقوا، ومنعوا جفون أهل الذمة السّنات، وأخذوا البنين والبنات من حجور الأمهات، وخرّبوا القرايا والبلدان، وسفكوا الدماء وحرقوا العمران، ونهبوا الأموال ومالوا عليهم كل الميل، وبادرت لمساعدتهم والغنيمة معهم دروز الجبل الشرقي تجري على خيولها جري السيل، ولم يروا في ذلك معارضًا ولا منازعًا، ولا مدافعًا ولا ممانعًا، والنصارى بين أيديهم كغنم الذبح، هم وأموالهم وأولادهم وبلادهم غنيمة وربح، ودام هذا الأمر واستقام، إلى ابتداء ذي الحجة الحرام، سنة ست وسبعين بعد الألف والمائتين، وقد هرب كثير من النصارى إلى الشام، ظانّين أن الحكومة تحميهم من الدروز اللئام، فصارت الدروز تدخل إلى الشام بأنواع السلاح، ويخاطبون الأشقياء بقولهم كنا نظن بكم الفلاح، لقد أخلينا البَرَّ من النصارى، وأنتم عنهم كأنكم سكارى، فاذبحوهم ذبح الأغنام، وأذيقوهم كأس الحمام، واغنموا ما عندهم من الأموال والأمتعة الكلية، وأن الحكومة بذلك راضية مرضية، ولو لم يكن لها مراد بذلك، ما مكنتنا من إذاقتهم كؤوس المهالك، والوالي ساكت عن هذا الأمر كأنه لم يكن عنده خبر، حتى ظن أكثر القاصرين أن هذا الواقع عن أمر شاهاني صدر.... وما زالت الأشقياء تتطاول أعناقها، وتتزايد لهذه الأفعال أشواقها، والدروز في كل وقت يجددون لهم همة، ويتواردون عليهم أمة بعد أمة، وقد قامت لديهم الأفراح، وزالت عنهم برفع القيد الهموم والأتراح........... وصاروا يتكلمون بكلام، لا يليق إلا بالأشقياء اللئام، كقولهم حنا يقول لنخلة، إسماعيل الأطرش حرق زحلة، وأمثال ذلك خصوصاً مما يدل على التخويف والتهديد، وصارت الأولاد تقوله على طريقة الأناشيد، فذهب بعض النصارى إلى والي البلد، لينقذهم من هذا الهم والنكد، وكان ذلك يوم الاثنين من ذي الحجة الحرام، سنة ألف ومائتين وست وسبعين من هجرة سيد الأنام، فأمر الوالي بالقبض على بعض الأولاد، فمسكوا منهم جملة وقيدوهم بالحديد وأمروهم بالكنس والرش تأديبًا لهم عن هذا الفساد، فقامت عصبة جاهلية في باب البريد من الجهال الطغام، ونادوا بأعلى صوتهم يا غيرة الله ويا دين الإسلام، وكان الوقت قبيل العصر من ذلك اليوم المرقوم، وتلاحقت الأشقياء إلى حارة النصارى كأنه لم يكن عليهم بعد ذلك عتب ولا أحد منهم على فعله مذموم، وأقبلت عليهم الدروز أفواجاً أفواجا، واشتغلوا بالحرق والقتل والسلب والنهب أفراداً وأزواجا................ .....
والوالي ما زال على إهماله، وسكوته وعدم سؤاله، غير أنه عين للمحافظة أربعة من الأعيان، اثنين من المدينة واثنين من الميدان، فقام من كان من الميدان حق الحماية، وقصر من عداهما في البداية والنهاية، غير أن سعادة الأمير المعظم، والكبير المفخَّم، حضرة الأمير السيد عبد القادر الجزائري قد بذل كامل همته في ذلك، وبذل أمواله ورجاله في خلاص من قدر عليه من المهالك، واستقامت النار تضطرم في حارة النصارى سبعة أيام، والناس فوضى كأنه لم يكن لهم إمام، فلما أحضروا من أحضروه من النصارى إلى الميدان، وقد امتلأت البيوت أخذنا نطوف عليهم نهنيهم بالسلامة ونطيب قلوبهم بالأمن والأمان، وكنا ما نرى منهم غير دمع سائل، وبصر جائل، وقلب واجف، ورجاء قليل وبال كاسف، وهذه تقول أين ولدي؟ وهذه تقول قد انفلق كبدي، وهذه تقول مالي، وهذه تقول كيف احتيالي؟ والرجال منهم حيارى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى...
ولما علم دروز الجبل الشرقي أن أهل الميدان، قد أدخلوا النصارى في حصن الأمان، ووضعوهم في أماكنهم مع عيالهم، واجتلبوا لهم سرورهم بقدر الإمكان وراحة بالهم، تجمعوا وتحزبوا وتوجهوا إلى الشام، إلى أن وصلوا إلى أرض "القدم" بالكبرياء والعظمة والاحترام، ثم أرسلوا خبراً إلى الميدان إمّا أن تسلمونا النصارى لنذيقهم كؤوس المنية، ونبيدهم بالكلية، وإما أن ننشر بيننا راية القتال، ونطوي بساط السلم واستقامة الحال، فبرز أهل الميدان إليهم بروز الأسد، وقالوا لهم بلسان واحد ليس لكم على قتالنا من جَلَد، أظننتم أنكم تصلون إليهم، وتحكمون بما تريدون عليهم، إن ذلك أمر محال، إياكم أن تتوهموه بحال، إننا وحق من أحيا الأشباح بالأرواح، لا نسمح لكم منهم بقلامة ظفر وليس لكم في مطلوبكم من نجاح، وكثر القيل والقال، وكانت البيداء قد امتلأت من الفرسان والأبطال، وتجمع الصفان، وتقابل الصنفان، وارتفع العجيج وعلا العجاج، وكثر الضجيج من كل الفجاج، وأشْهَرَ كلٌ سلاحه، واعتقد أن في قتل عدوه فلاحه، وأن شرر الموت ينقدح من ألحاظه، ويفصح بصريح ألفاظه، فلما رأى الدروز ما كان، من المشاة والركبان من أهل الميدان، علاهم الوجل، وقد خاب منهم الأمل، وضاق بهم من الأرض فضاؤها، وتضعضعت من أركانهم أعضاؤها، فتنازلوا عن العناد إلى الوداد، وقالوا نحن العين وأنتم لها بمنزلة السواد، وليس لنا عنكم غنى، وأنتم لنا غاية المنى، ونزيلُكم عندنا مصون، ومن كل ما يضره مأمون، والذي وقع منا كان هفوة مغفورة، وسقطة هي بعفوكم مستورة، فقابِلوها بالسماحة والغفران، ونحن وإياكم أحباب وإخوان، ثم تفرقوا بعد الوداع، وانقاد كل منهما للسلم وأطاع، وتفضل الله وأنعم، وحسم مادة الشر وتكرم...
ولا زال أهل الميدان في الليل والنهار، يحرسون النصارى من الأشقياء والأشرار، إلى السادس والعشرين من محرم الحرام، دخل الشام محمد معمر باشا ومعه أربعة آلاف جندي من عسكر النظام، وفي غرة محرم سن سبع وسبعين، دخل خالد باشا المصري للنظر في أمر هذه الخيانة، وكان قبل دخوله بيوم قد سافر أحمد باشا المذكور أولاً إلى بيروت متوجهاً إلى الآستانة، وفي حادي عشر المحرم الحرام، دخل ناظر الخارجية فؤاد باشا إلى الشام، مرخَّصاً من قبل الدولة وباقي الدول، مهما شاء أجرى ومهما أراد فعل، ومعه عوضاً عن أحمد باشا المترجم المذكور عبد الحليم باشا المشير المشهور، واجتمع بالشام من العساكر السابقة واللاحقة نحو ثلاثين ألفاً، ثم بعد ثلاثة أيام، أمر بعقد مجلس عام، وطلب فيه مأخوذات النصارى ومسلوباتهم، ومغصوباتهم ومنهوباتهم، وذلك يوم الخميس خامس عشر المحرم، وشدد غاية التشديد، وأكد أعظم تأكيد، ولما أصبح صباح الجمعة سادس عشر المحرم، وجد الناس أثمان الشام قد امتلأت من العساكر، وقد أغلقوا أبواب البلد ولم يعرف أحد ما الأمر إليه صائر، فدخل على الناس من الهم والكدر، ما هو عبرة لمن اعتبر)).انتهى [انظر (حلية البشر) للبيطار 1/261ـ267] (وقد كان للشيخ البيطار رحمه الله ، دورٌ بارز وموقف حميد في إخماد هذه الفتنة).
هذا عرضٌ تاريخي مختصر لتلك الأحداث ، ولكن ما هو دور الأمير عبد القادر الجزائري فيها؟
لقد كان للأمير عبد القادر دور هام في السيطرة على نتائج تلك الحوادث.
أوردتُ في الحلقة الثانية قولَ المؤرخ المحقق الدكتور أبي القاسم سعد الله ، وهو : ((أنّ الماسونيّة تآمرت على دولة الأمير عبد القادر في الجزائر ، لأنّ دولة الأمير كانت دولة عربيّة سلفيّة ، شريفة ، لو انتصرت لكانت خطرًا عظيمًا على مخططات الماسونية ـ الصهيونية في الشرق!!، ولكانت أوَّل دولة توحِّدُ العربَ على كلمة الجهاد كما وحّدتهم عليها زمنَ الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزمن الخلفاء الراشدين)).انتهى [الحركة الوطنية الجزائرية ص274ـ275].
إذن فالأمير كان متيقظًا للمخطط الاستعماري الذي تسعى الصليبيّة العالمية والصهيونية اليهودية لتنفيذه ، وأساس هذا المخطط هو القضاء على دولة الخلافة الإسلامية ، واقتسام أراضيها وممالكها في الشرق والغرب وجعلها تحت حكمهم. وكان الأمير على خبرة بأساليب المستعمرين التي يحتالون بها للوصول لأغراضهم. وخلال مدّة حربه مع فرنسا في الجزائر أدرك الأمير مدى أهمية بلاد الشام للدول الأوربيّة ، والمساعي التي تبذلها تلك الدول لاحتلال تلك البلاد .
وبعد وصول الأمير إلى دار الخلافة واستقراره في "بروسة" قرر السلطان العثماني عبد المجيد خان أن ينتقل الأمير إلى دمشق ، وذلك لأن السلطان أدرك أن وجود الأمير في دمشق سيكون مفيداً لدولة الخلافة .
(((وبالفعل فبعد انتقال الأمير إلى دمشق شعر بالتحركات الأوربية في بلاد الشام ، ولمّا بدأت أحداث جبل لبنان راح الأمير يحذّر رؤساء البلد من عاقبة اشتعال هذه الفتنة ، وما هي العواقب المترتبة عليها، وكيف يمكن للغرب أن يستغلّ هذا الحدث ، بل وحتمية وقوف الغرب نفسه وراء هذه الفتنة ، وكان يحثهم على بذل المجهود في درء هذه الفتنة ، لكن لم تلق كلماته آذانًا صاغية ، ولا قلوباً واعية!)))
(((ففي سنة (1276هـ،1860م) مازالت تلك الفتنة تتعاظم وتشتعل نيرانها والدولة العثمانية غير ملتفة إلى تسكين تلك الفتنة ، إلى أن وصلت نارها إلى دمشق وبدأ الغوغاء من الناس بالتعرض للمسيحيين بالضرب والقتل ، وكان موقف والي دمشق أحمد باشا ورؤساء الجند سلبياً من الفتنة وذلك لقلّة عدد الجند ، لكنّه قدّم لرجال الأمير المساعدة والسلاح . وتحرّكت إِحَنُ المسلمين على النصارى وتذكروا ما نالهم من "حنّا بك البحري" وطائفته من الاعتداء أيّام دخول جيش مصر بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي فقام بعض المشايخ والوجهاء في دمشق وشجعوا الغوغاء على قتل المسيحيين ، وسبب ذلك هو تجبر النصارى وتكبرهم وتجاوزهم حدّهم وخروجهم عن العهود الذميّة، وتعلّقهم بالدول الإفرنجيّة! وكذلك بسبب المرسوم السلطاني المسمّى بـ(الخط الهمايوني) الذي تضمّن بعض الامتيازات للنصارى على حساب المسلمين))).انتهى ملخصًا[انظر (تحفة الزائر) 2/93، و(نخبة ما تسر به النواظر) ص251]
وقد صدر هذا المرسوم كما مرّ معنا سابقاً تحت ضغط من الدول الأوربيّة، قال تشرشل :"فالدول المسيحية ، بانتزاعها من الترك قانون (خط همايون) سنة 1856م ، قد جعلتهم يضعون السكين على رقبتهم".انتهى [حياة الأمير لتشرشل ص278]
يقول محمد باشا: ((والباعث للأمير على حمل تلك المشاق تأييد الدولة العليّة والدفاع عن حوزتها إذ لو لم يقف في وجوه الغوغاء لاستأصلوا النصارى واستلحموهم وتفاقم الأمر أكثر مما وقع وبذلك يحصل للدولة من الارتباك ما لا يخفى ، ولعناية الله بصاحب الخلافة العظمى ورعايته لسلطنته لم يقع أدنى خلل يتشبّث به الأعداء لإلحاق الضرر بالدولة العليّة ، ولم يزل الأمير يعاني المشاق إلى أن حضر صاحب الدولة فؤاد باشا وزير الخارجية إلى دمشق ، ولأوّل وصوله أجرى فيها حكومة عرفية خارجة عن القوانين المعتادة فقبض على ألوف من أهلها حتى امتلأت بهم السجون وأمر برد المسلوبات وعيّن لذلك مجالس مخصوصة في محلات البلدة وأنحائها فجمعوا أغلبهم ، وأجرى ما أمر بإجرائه من إمعان النظر وتحقيق الدعاوي ثم فعل ما رآه صواباً واقتضته السياسة ، فقتل من ثبت عليه القتل أو قامت عليه البينة بأنه أثار الفتنة أو وافق عليها ونفى جماعة من الأعيان والعلماء لتقصيرهم عن تدارك الأمر وكف أيدي الغوغاء ... )) انتهى[تحفة الزائر 2/94]
ويقول السيد أحمد بن محيي الدين الحسني : ((ومن الأشخاص الذين قررَ فؤاد باشا أن يشنقهم : الشيخ عبد الله الحلبي ، وعمر أفندي الغزي ، وعبد الله بيك من رؤساء المجلس ، ومفتي البلد طاهر أفندي ، ونقيب الأشراف العجلاني وغيرهم من وجوه البلد وأكابرها . فلما سمع الأمير بذلك ذهب إلى فؤاد باشا وعارضه كل المعارضة ، فقال له فؤاد باشا : لابُدّ من ذلك ولا مندوحة عمّا هنالك . لأنّ إطفاء نار تلك الفتنة لا يتم إلاّ بقتل أولئك الأشخاص . وما زال الأمير يُعارضه ويُراجعه إلى أن قَبِلَ رجاءَهُ فيهم وصرف عنهم القتل إلى النفي المؤبّد ، فنُفيَ بعضهم إلى قبرص ، وبعضهم إلى جزيرة رودس . وبعد نفي أولئك أمر فؤاد باشا بقتل الوالي أحمد باشا ومعه بعض باشاوات العسكر.
وإنما عارض الأمير كل المعارضة في دفع القتل عن المذكورين لنِسْبَة بعضهم إلى العلم والبعض إلى الشرف ، وفي قتلهم إهانة للدين المحمدي . . وما دافع الأمير عن تلك الجماعة ـ مع شدّة عداوتهم له وهم الذين أمروا بإحراق بيته ـ إلاّ لكون موتهم ثلمة في الإسلام)).انتهى [مخطوط(نُخبة ما تُسر به النواظر..) ص254]
إذن الدّول الأوربيّة الصليبيّة أوجدَت هذه الفتنة لتكون ذريعةً لها في احتلالها لبلاد الشام وفصلها عن الدولة العثمانية ، ولم تكد تلك الفتنة تبدأ حتى رأينا القادة والملوك الغربيين يطالبون الدولة العثمانية بحماية المسيحيين وإلاّ سيتدخلون بجيوشهم لحماية إخوانهم في الدين (زعموا) ، وما هي إلاّ أيام حتى رأى الناس الأسطول الفرنسي يرسو في ميناء بيروت ويُنزل قواته الغازية!!
وفي هذا أكبر دليل على النية المبيّتة والتخطيط المسبق لهذا الغزو ، وما قضية المسيحيين إلاّ ذريعة ؛ وما أشبه اليوم بالأمس!
وكانت فرنسا قد استطاعت إقناع أوربا أن تتولى هي أمر هذه الحملة بسبب قربها المذهبي من المسيحيين في لبنان ، ولكونها المشرفة على الكنائس في بيت المقدس ، في حين لم تستطع إنكلترا فعل ذلك لأنها على خلاف كبير في المذهب مع نصارى الشرق (فالإنكليز برتوستانت ، ونصارى الشام أرثوذكس وكاثوليك) ، لذلك عمدت إنكلترا لدعم الدروز حتى يكون لها مدخل في البلاد لتفويت الفرصة على منافستها فرنسا ، والنتيجة واحدة بالنسبة للمسلمين ، ففرنسا وإنكلترا في النهاية أعداء لهم! (المهم أنّ التحرّك الفرنسي كان بمباركة الإنكليز!!)
ومن الأدلّة على ضلوع فرنسا في الفتنة وأنها هي المُشعلة لها ، أنّ الأمير عبد القادر أثناء قيامه بإطفاء تلك الفتنة والسيطرة على الأوضاع ومطاردة الغوغاء الذين هجموا على حي العمارة حيث دارُ الأمير التي يحتمي بها بعض النصارى ، ألقى رجالُه القبضَ على بعض المهاجمين ، فإذا فيهم عدد من المسيحيين اللبنانيين!!! نعم نصارى لبنانيون متنكرون بلباس المسلمين يقومون بقتل النصارى في دمشق. لماذا؟ لكي يعطوا فرنسا الذريعة لاحتلال البلاد بحجة الدفاع عن النصارى![انظر كتاب(أصحاب الميمنة إن شاء الله) ص215]
وهذا التصرف ليس جديدًا ، فعلى مرّ العصور كان المستعمرون يلجؤون لقتل بعض رعاياهم أو أبناء دينهم ويلصقون التهمة بالمسلمين (أو غيرهم) لكي يتسنى لهم تهييج شعوبهم وحملهم على القتال والاحتلال. والأمثلة في عصرنا هذا كثيرة كما لا يخفى.
وعندما بدأت الدول الأوربيّة تحرّكها وأرسلت إلى الدولة العثمانية تستنكر ما يجري في الشام ، تكفّلت الدولة العثمانية للدول الغربية بأنها ستنتقم من الذين أشعلوا الفتنة وتقتصّ لرعاياها من النصارى ـ وذلك لكي لا تعطي للدول الأوربية الفرصة للتدخل في بلاد الشام ـ فبعثت فعلاً فؤاد باشا (كما مرَّ معنا) أحد وزرائها العظام وفوضت إليه الأمر في جميع ما يفعل ، فلما دخل الشام أمر برد الأموال المنهوبة ، ثم شرع بالقبض على كل من سعى في تلك الفتنة فقتل منهم مَنْ قتل ، ونفى من نفى. وانطفأت الفتنة.
(((ومع ذلك فإنّ الدول الأوربيّة ؛ التي كانت عازمة على احتلال بلاد الشام ؛ تظاهرت بأنها لم تقنع بما فعلته الدولة العثمانية ، وأرسلت جيوشها ومراقبيها تحت قيادة الأسطول الفرنسي الذي رسا في ميناء بيروت ، وما كان يخشى الأمير عبد القادر حدوثَهُ قد حدث فعلاً ، فقد نزلت القوات الفرنسية في ميناء بيروت وتوجهت قواتها بريًا باتجاه جبال الدروز بحجّة القضاء عليهم ، فتدخل الأمير لدى فؤاد باشا وطلب منه أن يبذل كل جهده في منع الجيش الفرنسي من تقدّمه ، وبيّن له أن هذا الأمر إذا بدأ فإنه لن ينتهي إلا باحتلال سورية ، لأن القتال في الأماكن الجبلية صعب وسيستغرق زمناً طويلاً ، ومِنْ ثَمَّ ستجلب فرنسا إلى المنطقة أعدادًا كبيرة من الجنود ومع الوقت سيكون لديها الاستعداد الكامل لغزو المنطقة! (فالأمير خبير بالخطط والحيل الفرنسية)!
وجرت مفاوضات بين فؤاد باشا والجنرال الفرنسي "بوفور" إلاّ أنهما لم يتفقا. فقرر الجنرال الفرنسي الزحف باتجاه دمشق والتي سيبدأ بقصفها أولاً!
فلمّا بلغ الأمير أن قائد الحملة الفرنسية الجنرال بوفور يريد قصف دمشق من الصالحيّة ، تمهيدًا لدخول دمشق ، بعث الأمير برسالة لبوفور يطلب منه أن يوافيه في البقاع. وتوجّه الأمير ليلاً ومعه بعض أتباعه إلى معسكر الجيش الفرنسي واجتمع بالجنرال وأظهرَ له سوء عاقبة ما اعتمد عليه ، فأصرَّ الجنرال على قصف دمشق ودخولها ، فهدَّدهُ الأمير وقال له إنّهم إذا قصفوا دمشق أو حاولوا دخولها فإن العهود التي بينه وبين دولة فرنسا تصبح لاغية ، وأنه سيكون أوّل المدافعين والمقاومين لأي حملة فرنسية تهاجم البلاد ، وسيعود للجزائر ويباشر الجهاد هناك من جديد! فعندها عدلت فرنسا عن قصدها ورجعت الجيوش الفرنسية إلى بلادها خائبة وبلا طائل!))).انتهى [ (نُخبة ما تُسر به النواظر..) ص258، و(تحفة الزائر) 2/95] .
وهكذا استطاع الأمير عبد القادر بحنكته ، وبُعْدِ نظره ، والتزامه الكبير بالمسؤولية وبأوامر الشريعة الإسلامية ، أن يحافظ على تماسك الدولة العثمانية ، ويُبطل المخطط الأوربي لاقتطاع بلاد الشام من الدولة العثمانية ، ويمنع جيوش فرنسا من دخول الشام ويردّها على أعقابها خائبة.
ولمّا رأى فؤاد باشا شجاعة المغاربة وما جُبِلوا عليه من قوة الجأش وشدّة الإقدام فاوض الأمير في أن يعيّن منهم كتيبة ليكونوا في خدمة الدولة العليّة ، فوافق الأمير على طلب فؤاد باشا واختار منهم أربعمئة فارس وجعل السيد محمد بن فريحة رئيسًا عليهم.
ولمّا بلغتْ أخبارُ هذه الواقعةِ الهائلة حَضْرَةَ الخليفة العثماني عبد المجيد خان ، وما صنعه الأمير في سبيل طاعة الخليفة وأداء واجب خدمته ، أظهر الخليفة رضاه العالي بفعله وأنعم عليه بالنيشان المجيدي العالي الشان من الرتبة الأولى وأرفق معه فَرَمَانًا وحملهما إلى الأمير الصدرُ الأعظم علي باشا، وإليكم نصّ الفرمان:
((قد أحاط علمي الشريف السلطاني بحال الحميّة الدينيّة الثابتة في أصل فطرة الأمير عبد القادر الجزائري ، زيدَ فضلُه ، وخلوصه الأكيد الوطيد لطرف دولتي العليّة ، وقد اضطره كل منهما لاستعمال الهمّة والغيرة الكليّة الفائدة في الخدمة المرغوبة وهي تخليص عدد كثير من تبعة دولتي العليّة الواقعين بأيدي الأشقياء الظالمين عند وَقع الفتنة والعناد مؤخرًا في الشام من بعض ذوي التوحش الجاهلين بالوظائف العليّة الإسلاميّة والأحكام الجليلة الشرعيّةوحيث أنّ حركته الحسنة قد استوجبت لدى سلطنتي زيادة المحفوظيّة ووقعت موقع الاستحسان ولأجل حسن توجهاتي السلطانية الحاصلة في حقّه والمكافأة العلنيّة على خدمته الخيرية الواقعة ، أحسنتُ إليه بنيشاني المجيدي الهمايوني من الرتبة الأولى ، وأصدرتُ له فرماني السلطاني المعلوم المؤْذن بالمكارم الملوكانية في أول صفر الخير سنة سبع وسبعين ومئتين وألف)).انتهى
فسُرَّ الأمير بهذا الإنعام السلطاني ورفع إلى حضرة الخليفة كتابًا يشكره فيه ويلخص له ما حدث ، جاء فيه : ((...ثمّ لمّا وقعت حادثة الشام وانتُهِكت محارم الله بلا احتشام ،وتعيّنَ على كل فردٍ من العباد بذل المجهود في دفع ذلك الفساد ، قمتُ بأداء ما قدرت عليه من هذه الفريضة العينية ؛ والنيّةُ الصحيحة في ذلك تحصيلُ رضاء الله تعالى ثمّ طاعةُ الدولة العليّة...)).انتهى [الرسالتان مثبتتان في (تحفة الزائر) لمحمد باشا 2/96ـ98]
وتوالت مكاتيب الشكر وقصائد التهنئة بالورود على الأمير من الدول والأدباء والشعراء والعلماء والأعيان اقتداءً بالدولة العثمانية.
ومنها رسالة من قائد الثورة في الداغستان والشيشان الشيخ (محمد شامل الداغستاني) رحمه الله ؛ ونصّها:
((..إلى من اشتهر بين الخواص والعوام ، وامتاز بالمحاسن الكثيرة عن جملة الأنام ، الذي أطفأ نار الفتنة قبل الهيجان ، واستأصل شجرة العدوان ، رأسها كأنه رأس شيطان ، المحبّ المخلص السيد عبد القادر المنصف ؛ السلام عليكم وبعد : فقد قرع سمعي ما تمجّه الأسماع ، وتنفر عنه الطباع ، من أنه وقع هناك بين المسلمين والمُعاهَدِين ما لا ينبغي وقوعه من أهل الإسلام ، وربما كان يُفضي إلى امتداد العناد بين العباد في تلك البلاد ، ولذلك عند سماعه اقشعرّ منه جلدي ، وعبست طلاقة وجهي ، وقلتُ (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) ، وقد تعجبتُ كيف عميَ من أراد الخوض في تلك الفتنة من الولاة عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا من ظلم مُعَاهَدًا أو انتقصه حقّه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة"وهو حديث حسن ، ثمّ لما سمعتُ أنّك خفضت جناح الرحمة والشفقة لهم وضربت على يد من تعدّى حدود الله تعالى وأخذت قصب السبق في مضمار الثناء واستحقيت لذلك ، رضيتُ عنك والله تعالى يرضيك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون لأنك أحييت ما قال الرسول العظيم الذي أرسله الله رحمة للعالمين ، ووضعتَ من يتجرّأ على سنّته بالمخالفة نعوذ بالله من تجاوز حدود الله ، ولكوني ممتلأً بالرضى عنك كتبتُ إليك إعلاماً بذلك . والسلام . حرر سنة 1277هـ شامل الغريب)).انتهى
فأجابه الأمير برسالة جاء فيها : ((الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى سائر إخوانه من النّبيين والمرسلين ، إنه من الفقير إلى مولاه الغني عبد القادر بن محيي الدين الحسني إلى الأخ في الله تعالى والمُحب من أجله الإمام شامل كان الله لنا ولكم في المقام والرحيل وسلام الله عليكم ورحمته وبعد ، فإنه وصلني الأعز كتابكم وسرّني الألذ خطابكم ، والذي بلغكم عنّا ورضيتم به منّا من حماية أهل الذمة والعهد ، والذَّب عن أنفسهم وأعراضهم بقدر الطاقة والجهد ، هو كما في كريم علمكم مقتضى أوامر الشريعة السّنية ، والمروءة الإنسانية ، فإنّ شريعتنا متممة لمكارم الأخلاق ، فهي مشتملة على جميع المحامد الموجبة لائتلاف اشتمال الأطواق على الأعناق . والبغيُ في كل الملل مذموم ومرتعه وخيم ومرتكبه ملوم ولكن :
يُقضى على المرء في أيام محنته **** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
فإنّا لله وإنا إليه راجعون على فقد أهل الدِّين وقلَّة الناصر للحق والمعين ، حتى صار يظنُّ من لا علم له أنّ أصل دين الإسلام الغلظة والقسوة والبَلادة والجفوة ، فصبرٌ جميل والله المستعان ..
حرر في أول جمادى الأولى 1277)).انتهى [انظر (تحفة الزائر) ص114ـ 115]
إن الناظر في كلام الأمير في جوابه للسلطان وللشيخ شامل يرى بوضوح أنّ الأمير يشرح سبب موقفه من أحداث 1860م بأنه الالتزامُ بأوامر الشريعة الإسلامية في دفع الفساد ، والعدلُ مع أهل الذمة ونصرةُ خليفة المسلمين ، وكلامه صحيح ولا يستطيع أحدٌ إنكاره ، فالواجب على كل مسلم عاقل أن يعتمد هذا الكلام ، فهو كلام ثابت صحيح صرّح به الأمير نفسه وهو موافق للشريعة. وأما ما سواه فهو كذب ومفترى وتأباه الشريعة!
تابع القسم الثاني!
-
الحلقة 13 ؛ حادثة 1860م وموقف الأمير عبد القادر فيها، وقصة الأوسمة! وتهمة الماسونية1.
ـ والآن ما هو موقف فرنسا وإنكلترا وباقي دول أوربا الصليبيّة؟تلك الدول التي كانت بالأمس تصرخ وتنادي بالدفاع عن المسيحيين في بلاد الشام وحرّكت جيوشها وأساطيلها لهذا الغرض ، وها هي ترتد خائبة لم تصنع شيئًا للمسيحيين وتركتهم دون إمدادهم بالقوة التي وعدتهم بها! بل رضيت بالتدابير العثمانية ، التي كانت ترفضها من قبل!
وحقيقة الأمر أنّ الدولة العثمانية المسلمة هي التي حمت النصارى في الشام (سواء من رعاياها أو من الأجانب) وأنقذتهم من الفتنة ، وكذلك فإنّ الأمير عبد القادر الجزائري الذي تعرفه الشعوب الأوربيّة بوصفه قاهرَ فرنسا وجيوشها الصليبيّة ، والمدافع عن حمى الإسلام والمسلمين في الجزائر ، والمتعصّب لدين الإسلام ، هو الذي تولّى أمر إطفاء الفتنة وإنقاذ المسيحيين أفرادًا ورجال دين. عملاً بأحكام الشريعة الإسلاميّة! وقد كافأته الدولة العثمانية وشكرت صنيعه.
وفي الوقت نفسه هو الذي أحبط المخطط الأوربي ، وخيّب مساعي الجيش الفرنسي ، وفوّت الفرصة على الصليبيين لتقويض دعائم الخلافة الإسلاميّة. وهذا ولّدَ غيظًا شديدًا في صدور ملوك فرنسا وأوربا على الأمير ، الذي ظنّوا أنهم قد استراحوا منه ، وقضوا على حركته المقاومة لهم.
وبالمقابل فإنّ سكوت حكّام الدول الأوربيّة سيفضح أمرهم أمام نصارى الشرق ويكشف كذبهم وادّعاءهم الغيْرَة على أبناء دينهم ، وسيُعرّي أغراضهم الدنيئة ، ومطامعهم الجشعة ، التي هم على استعداد لسفك دماء أبناء دينهم في سبيل تحقيقها!! فما العمل؟
لم يكن أمام ملوك وحكّام أوربا حلٌّ يخرجهم من ورطتهم إلاّ أن ينضموا إلى صفوف المباركين والمهنّئين والشاكرين والمادحين للأمير عبد القادر.
فبدأت كتب الشكر والنياشين والأوسمة والهدايا الاعتبارية ، تتوالى على الأمير من الملوك والقياصرة. وسأثبتُ لكم نصوصها نقلاً من كتاب (تحفة الزائر ص99):
1 ـ {صورة المرسوم الممضي بخط يد قيصر الروس المرسَل صحبةَ النيشان}
((نحن اسكندر الثاني إمبراطور وافطركراطور جميع الروسيين .. إلى آخر الألقاب.
إلى الأمير عبد القادر ، اقتضت رغبتنا أن نُشْهِرَ التفاتنا إليكم بشهامتكم وعملكم بما اقتضته الإنسانيّة، واجتهادكم في إنقاذ ألوف المسيحيين من أهالي دمشق ، الذين وُجدوا في خطر عظيم.
اقتضى الحال أننا سمّيناكم من أعظم فرسان رتبتنا الإمبراطورية الملوكانية المشهورة بالنسر الأبيض ، وهذه علامتها واصلة إليكم ونحن لم نزل باقين على المحبّة لنحوكم بالاعتبار الإمبراطوري الملوكي.
حُرر في بطرسبورج في يناير سنة ستين وثمانمئة)).انتهى
2ـ {صورة ما كتبه ملك اليونان}
((نحن "أوتون" بنعمة الله ملك اليونان قد أعطينا الأمير عبد القادر النيشان الكبير رتبة أولى من صنف نيشاننا الملوكي ، المدعو بنيشان المخلص. المؤرخ يوليه سنة 1833 وأرسلناه إليه ليحمله ويستعمله بمقتضى أمرنا ، وبناءً على ذلك أصدرنا له هذا المرسوم ممضيًا منا ، ثمّ من وزير بلاطنا الملوكي والتعلقات الخارجية. حرر في أثينا بتاريخ سبتمبر 1860)).انتهى
3ـ {صورة المرسوم الممضي بخط ملك بروسيا صحبة النيشان}
((نحن غليوم بنعمة الله تعالى ملك بروسيا .. إلى آخر الألقاب. قد منحنا الأمير عبد القادر بن محيي الدين نيشان صليب النسر الأحمر من الطبقة الأولى. وقد أعطينا إرادتنا هذه لأجل تملّكه الحقيقي لهذا الوسام ، حاوية توقيعنا وإمضانا مع الختم الملوكي من بالسبيرج في 12/11/1861)).انتهى
4ـ {نص تحرير ملك إيطاليا}
((إنّ عظيم تصرّفكم في أمر المسيحيين في الحوادث الشاميّة قد أثبتت أمام أوربا أنّكم ممن حاز المزايا الحربية العظيمة ، خصوصًا في الحادثة الدمشقية ، التي أنقذتم فيها النفوس الكثيرة ، فكان ذلك حلية لنفسكم الكريمة المصطفاة ، ثم إنه يوجد بيني وبينك أيها الأمير العزيز ، مواصلة أفرحُ بذكرها وهي محبّة الحريّة التي تجعل تابعيها محافظين على العدالة الحقيقيّة ، وإذا كنتَ في أيّامك السابقة لم يمكنك الحصول على النجاح التام على حسب مرغوبك ، فهذا لا يكون مانعًا لاكتسابك ـ بالنظر لشجاعتك القوية ـ الاحترام والاعتبار من جانب أهل الحرب المعاصرين لك ، والذين يقاتلون في صالح استقلالية الشعوب. ونظرًا لشهادتي بهذا الاحترام المخصوص لشخصك الكريم ، فأنا مرسل إليك الآن الشريطة الكبرى ، نيشان موريس والعاذر ، وهو أقدم نياشين الخيولية والفروسية ، وهو يسلّم لك على يد اثنين من ضباطي ، وهما الكاواليردي كاستيلونو ، والكونت دي كاستيلونيه ، القادمين إلى حضرتك لأجل هذا الأمر . وإني أوصي بهما شديد اعتنائك ، وأرجو أن تصادفك السعادة فيما بين يديك أيها الأمير السعيد ، نظير النّدا الذي يقطر من السماء ليعطي الإقبال إلى الأرض ، والمأمول قبول هذا الدعاء مني لأجلك في المستقبل ، كما أرجو أن تعتقد تمام محبّتي.
حرر في مدينة تورين بتاريخ سبتمبر سنة 1860
محبّك فيكتور عمانوئيل )).انتهى
5ـ {نص ما كتبه وزير خارجيّة فرنسا}
((أيها الأمير السامي ، إنّ خبر الحوادث الشاميّة قد طرق مسامع الدولة الفرنساوية ، وإجابة لطاعة مولاي الإمبراطور وإرادته ، بادرتُ الآن بإعلان اعتباره السامي والتشكر الوافر من طرف جلالته على السعي الذي تكرّمتم به على الأهالي المسيحيين والراهبات والمبعوثين الفرنساويين وجمهور القناصل بتلك الواقعة المحزنة.
والمزية العظيمة في ذلك هي مشاهدة همتكم العليّة التي جعلتكم وقاية لحياة ألوف المساكين ، وجعلت محلّكم ملاذًا لهم في وقتٍ كان الأشقياء الخارجون عن الطاعة يرتكبون القبائح المخالفة لأوامر الباري تعالى ، ولما تقتضيه الإنسانية. أما الإمبراطور نظرًا لمعرفته بعليّ همتكم وكرم أخلاقكم ، فإنه لم يتعجب مما أظهرتموه من الإقدام في ذلك الوقت الضنك ، وهو الآن يشعر بداعٍ ذاتي يدعوه إلى أن يخبركم عن فرحه الشديد الذي أثّر فيه تأثيرًا قويًا بإجراء ما أجريتموه ، وأنا أرجوكم قبول التهاني الشخصية مني التي أضيفت ، أيها الأمير السامي ، تأكيدات سمو اعتباري لحضرتكم في 31/8/1860)).انتهى
ثمّ حضرَ رئيس المترجمين في دائرة الوزراء الفرنساوية مبعوثًا من لدن الإمبراطور إلى حضرة الأمير وقدّم إليه نيشان "الليجون دونور" المرصّع من الرتبة الأولى ، وبلّغه اعتبار الإمبراطور وسائر الفرنساوية لمقامه العظيم.انتهى ["الليجون دونور" تعني: وسام الشرف].
6ـ {نص تحرير قنصل دولة إنكلترا في دمشق}
((إلى عظمة الأمير السيد عبد القادر. المعروض لسعادتكم أنني قد أُمرت من الحكومة الإنكليزية الفخيمة أن أبيّن لكم حاسّيتها الفائقة ، نظرًا لما أظهرتموه من حقوق الإنسانية بتخليص جماعة كبيرة من المسيحيين ، الذين لولا ذلك لهلكوا بين أيدي أهل القَسَاوة في المذبحة الأخيرة بدمشق ، وبسلوك عظمتكم عرفت الحكومة الإنكليزية مقامكم الرفيع للغاية ، ثم أعرض أنّ هذا الشرف الذي صيّرني واسطة لتقديم حاسيات دولة إنكلترا الفخيمة إلى حضرتكم ، أعتبره شرفًا عظيمًا لا مزيد عليه ، وقد كنتُ شاهدت اجتهاد عظمتكم في تخليص عدّة أناس كانوا مضطهدين ، حتى إنني حصلتُ بذلك على حاسيات التعجب . والآن لي الشرف بأن أكون مبلغًا لكم ما سطرته ، وداعيًا لعظمتكم.
حرر في 24/8/1860 من قنصلاتو دولة إنكلترا في دمشق))
وبعد هذا بعثت الملكة بندقيةً هدية للأمير مكتوبًا على ظهر صندوقها : من حضرة جلالة ملكة المملكة المتحدة بريطانيا العظمى إلى صاحب السمو الأمير عبد القادر ، تذكارًا للمساعدة الخيرية المبذولة للمسيحيين في دمشق سنة 1860.انتهى
إذن إنّ أوّل مَنْ منح الأمير تقديرًا ونيشانًا ووسامًا هو الخليفة والسلطان العثماني ، وباسم الدولة العثمانية . فهذا يدل أنّ موقف الأمير من أحداث فتنة النصارى في الشام ، كان في جانب الدولة العثمانية وخدمة مصالحها ، ونصرة سلطانها ، ولذلك استحقّ هذا التكريم.
وأما النياشين والأوسمة الأوربيّة فقد علمتم سببها ومناسبتها ، والقضية كما رأيتم لا علاقة لها بالماسونية لا من قريب ولا من بعيد!! وإنما هي أوسمة منحتها الدول والحكومات ، وليس جمعيات سريّة! والأمير لم يضعها إلاّ مرّة واحدة وأُخِذَت له صورة واحدة ، ولم يكن سعيدًا بذلك ؛ كما روى عنه أبناؤه ؛ وكان الغرض من تلك الصورة أن تنشر في الصحف الأوربيّة فيرى الشعب الأوربي بنفسه تكريمَ ملوكه وحكَّامه للرجل الذي كانوا بالأمس يطعنون فيه ويظهرونه بصورة العربي المسلم المتعصِّب والحاقد على المسيحية ، والهمجي المتعطش للدماء ، وأن حربه مع الفرنسيين كانت فقط لأنهم مسيحيون لا لأنهم غزاة معتدون!! واليوم هم يعترفون بأنه داعية سِلم لا سفّاح ، ولا يحقد على الديانة المسيحية وإنما يتعامل مع أصحابها المعاهَدِين (أهل الذمَّة) وفقًا لأحكام الإسلام ، فلا يسمح بالاعتداء عليهم وتقتيل العُزَّل منهم ، بخلاف المعتدين والغزاة. تقول الأميرة بديعة بنت مصطفى الحسني متحدِّثَةً عن قصة صورة الأمير بالأوسمة:((...وما من شيء يُحمل إلا لهدف، وهدف الأمير لم يكن للتزيّن أو التفاخر، لأنه كان يحمل وسامًا واحدًا يعتزّ به، وهو وسام الجهاد. والدليل على ذلك عدم ظهوره في أي مناسبة بهذه الأوسمة، وأنه لم يذهب بها إلى احتفالات افتتاح قناة السويس عام 1864م ولا غيرها.وكانت غايته من أخذ صورة بها هو تحذير جميع الأطراف من العودة إلى مثل تلك المغامرات الخطيرة. لقد أراد من إشهارها القول للمستعمرين إني جعلت خططكم هباءً منثورًا ، وما أرسلتموه من تقدير لعملي هو ميثاق منكم بعدم العودة للتفريط في حقّ الإنسانية. وأراد القول للذين أسرفوا على أنفسهم: حذار أن تثقوا بالمستعمرين! فلقد غرّروا بكم ودفعوكم إلى عمل طائش طالما حذّرتكم منه. انظروا، لقد تبرّؤوا منكم وقدموا الأوسمة صاغرين لمن وقف ضد طموحاتهم. هذا ما كنت أسمعه من جدتي زينب عندما كانت تنظر إلى صورته هذه وتقول: كم كان أبي حزينًا عندما وضعنا له هذه الأوسمة لأخذ صورة فوتوغرافية له، وقد وُضعت مرة واحدة ولغاية واحدة كما أسلفت)).انتهى[انظر (أصحاب الميمنة إن شاء الله)ص224].
وقد يتساءل البعض فيقول إنه رأى هذه الأوسمة في عدّة صور مختلفة للأمير عبد القادر.
وفي الجواب أقول : ليس بين أيدينا للأمير عبد القادر الجزائري سوى أربع صور فوتوغرافية شخصية، واحدة منها فقط فيها تلك الأوسمة! أمّا الثلاث الأُخَر فيظهر فيها الأمير بزيّه المعروف (الجبّة والعِمامة) ونحن لا نشاهد هذه الصور الأربع في معظم وسائل الإعلام والنشر! في حين أن الصور الأخرى المنتشرة ـ وياللأسف ـ في الصحافة والإعلام العربي والغربي إنما هي صور مرسومة ومتخيّلة وفيها اختلاف كبير في شكل الأمير وهيئته!
والصور الفوتوغرافية الحقيقية للأمير أُخِذَت له في عدّة مناسبات أشهرها تلك التي كان حاضرًا فيها حفل افتتاح قناة السويس سنة (1869م) ، والناظر إلى تلك الصورة يجد الأمير فيها بلباسه البسيط (الجبة والعمامة) ولا وجود لأي أوسمة أو نياشين (سواء التي حصل عليها سنة 1860م أو غيرها!)، مع أنّ الحفل يحضره ملوك وأباطرة العالم ، وكانت العادة في ذلك العصر أنّ الشخصيات المرموقة إذا حضرت مثل تلك الاحتفالات تزيّنت بكل ما تملكه من أوسمة ونياشين!
ولو نظرنا إلى صورة بعض رجال الدولة العثمانية في ذلك الوقت لرأينا صدره وبطنه قد غُشّي بالأوسمة والنياشين والأشرطة ، والمتصفح لكتب التراجم والأعلام المصوَّرَة يرى صور الوُلاة ورجال الدولة العثمانيين وكثيرًا من الوجهاء في تركيا ومصر والشام وقد غشّيت صدورهم بالأوسمة ، وكانت عادة منتشرة!
في حين أن المعروف عن الأمير أنه لم يكن يضع تلك الأوسمة حتى في المناسبات الرسمية وكان مظهره دائمًا عاديًا وبسيطًا ، كيف لا وهو الذي كلما ازدادت شهرته وتعظيم الناس له ازداد تواضعًا وتبسّطًا ، هذا كان منهجه وطريقته كما وصفه المترجمون له. والأمير كان ذائع الصيت مُحْتَرَمًا عند الجميع ومآثره معروفة فلا حاجة له إلى إظهار الأوسمة أو ما شابهها ليلفت انتباه الآخرين. بخلاف غيره!!
والناظر إلى الصورة الفوتوغرافية الشخصية للأمير والتي فيها تلك الأوسمة ، يجد أنّ الأوسمة الثلاثة التي وُضِعت أعلى الصدر إنما هي الأوسمة العثمانية!، وإلى أسْفَلَ منها يجد الأوسمة الأربعة الأخرى ، وأمّا الشريط الأحمر الذي يتقلّده فهو وسام (الليجون دونور) الفرنسي.
والعجيب أنّ بعض الناس المروّجين لتهمة انتساب الأمير إلى الماسونية ، إذا سُئِلوا عن دليلهم على ما يزعمون؟ أجابوا بأنّ الشريط الأحمر الذي على صدر الأمير هو شعار الماسونية!!
وهذه سقطة كبيرة منهم ، وسببها أنهم يجهلون أوصاف ورتب الأوسمة الخاصة بكل دولة. كما يجهلون شعارات الماسونية. فليس في شعارات الماسونية هذا الشريط (الوسام) ، في حين أنه وسام معروف ومشهور وهو وسام (الليجون دونور) الفرنسي ، وهذا مثبت في المراجع المتخصصة في هذا الشأن.
ومن بين الأوسمة الأوربية يوجد وسام فيه صليب!
وأنا لا أدافع عن الأمير في وضعه لذلك الوسام الذي فيه صليب ، ولكن بناءً على كل ما ذُكر ، لا يجوز لأحد أن يزعم أنّ وضعه لذلك الوسام دليل على الماسونية أو العمالة فضلاً عن الردّة!! فالموضوع كلّه عبارة عن اجتهاد فيما يُسمّى بالتكتيك السياسي ربما يُخطئ فيه الرجل وربما يُصيب ؛ فهو يضع وسامًا فيه صليب ولا يضع صليبًا مستقلاً وبين الحالين فرق واضح ؛ فإذا أراد بعض الباحثين المتخصصين والمطّلعين أن يحكم في القضيّة فله أن يقول: أخطأ الرجل أو أصاب. وليس له أكثر من ذلك ، ولا يجوز له أن يسرح بخياله إلى ما هو أبعد من ذلك.
ويبدو أن حقيقة هذه الأوسمة والنياشين غابت عن الأخ محمد مبارك ، وكما رأيناه في البداية يزعم أنّ الفتنة بدأت بقتل داود باشا مع أنها في الحقيقة انتهت بتنصيب داود باشا حاكمًا على جبل لبنان!! راح يروّج الآن لفكرة جديدة وهي أنّ الفتنة انتهت بالتدخل الأجنبي في بلاد الشام ، وبذلك يكون الأمير قد قدّم خدمة جليلة للتاج الفرنسي!!
إذن الأحداث دائمًا مقلوبة عند الأخ صاحب (فك الشفرة)!!
لقد زعم أنّ الفتنة انتهت بالتدخل الأجنبي مع أنّ جميع المراجع التاريخية ـ والواقع أيضًا ـ تُأكّد أنّ الفتنة انتهت بجلاء القوات الأجنبية مخذولة.
وجميع المراجع ـ بل والوقائع ـ تُبيّن أن الأمير قدّم خدمة جليلة للدولة العثمانية ، في حين يصرّ صاحب (فك الشفرة) وغيره على جعل تلك الخدمة في صالح فرنسا!!
ومَنْ هذا الذي يمكنه أن يقبل بهذا الكلام؟! وعن أي خدمة للتاج الفرنسي يتحدث الكاتب؟
الأمير أحبط المخطط الفرنسي الأوربي ، وأجبر بحنكته ودهائه الجيوش الفرنسية على الرحيل ، وحافظ على التبعيّة لدولة الخلافة ، وحاز على رضا الخليفة (أمير المؤمنين) ، وأنقذ بلاد الشام من الاحتلال الصليبي (الذي عاد ليحتلّ بلاد الشام ولكن بعد ستين سنة!! من أحداث فتنة النصارى هذه ، أي بعد 37 سنة من وفاة الأمير).
ثمّ إنّ الأمير لم يكن المتصرف الوحيد في هذه الأحداث ، لقد كان لوزير الخارجيّة العثمانية فؤاد باشا الدور الأكبر في إنهاء تلك الفتنة ، وذلك بتوجيهات من الخليفة ، وإنما كان دور الأمير هو منع استفحال الفتنة وتدهور الأوضاع ريثما يصل فؤاد باشا ، وكما رأينا فإنّ فؤاد باشا هو الذي ردَّ المظالم وهو الذي سجن المتورطين في الفتنة وهو الذي أعدم وقتل ونفى! وهو الذي تفاوض مع الأوربيين ، وهو الذي عيّن الحاكم النصراني لجبل لبنان ، طبعًا ذلك كلّه بتوجيهات من الخليفة.
وهذا الموضوع لا يحتاج لكثير توضيح ، فالأمير ليس له أي صفة حكوميّة رسميّة ، وليس له أي منصب عسكري أو قيادي ، فلا يمكنه أن يفعل ما فعله الوزير فؤاد باشا ، فليس للأمير أي صلاحيات تمكنه من ذلك . والذي دفعَ الخليفة العثماني لشكر الأمير ومكافأته على موقفه ، هو أنّ الأمير قام بدورٍ أنقذ فيه الدولة العثمانية من ورطة كبيرة بدافعٍ من التديّن والإخلاص لدولة الخلافة ،
وهو غير مؤاخذ إن وقف على الحياد ولزم بيته وانعزل عن الأحداث!
فإذا كان البعض يرى أنّ إنقاذ الرعايا المسيحيين العزّل والنّازلين تحت الحكم الإسلامي هو خدمة للتاج الفرنسي أو الإنكليزي ، فعليه أن يقول إنّ الخليفة ووزيره قاما بهذه الخدمة وليس الأمير عبد القادر! وطبعًا فإن هذا الكلام ضربٌ من الجنون.
والسؤال الذي كان يجب على الأخ الكاتب أن يسأله لنفسه قبل أن يتهم الأمير ؛ هو :ما الذي استفادته فرنسا من موقف الأمير من أحداث 1860م؟؟ وما الذي استفادته إنكلترا؟؟
لقد مرّ معنا آنفًا كيف أنّ النصارى اللبنانيين كانوا يقتلون النصارى في دمشق بأمر من فرنسا لتتخذ من ذلك ذريعة للاحتلال ؛ ومرّ معنا في رسالة الشكر التي بعثتها الحكومة البريطانية للأمير ثناؤها على موقف الأمير الإنساني تجاه المسيحيين!! ونحن نعلم (وفقًا لجميع المصادر التاريخيّة التي مرّت معنا سابقًا) أن بريطانيا هي التي حرّضت الدروز على النصارى!! وهي التي أغرتهم بقتلهم!! واليوم هي تثني على الأمير وتمدحه لأنه حمى النصارى!!!
ثمّ يأتينا البعض ليقول لنا إنّ الأمير خدم التاج الفرنسي أو التاج البريطاني!
أتمنى أن أكون قد أوضحت أحداث جبل لبنان وفتنة النصارى التي وصلت إلى دمشق ، ودور الأمير عبد القادر في إطفائها ، وإحباطه للمشروع الأوربي القاضي بفصل بلاد الشام عن الدولة العثمانية تمهيداً لاحتلالها . وبذلك تسقط الشبهة التي أوردها صاحب (فك الشيفرة) حول الأمير كسائر الشبه السابقة . وفي الحلقة القادمة سأتابع مسألة الماسونية بتفاصيلها إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين
خلدون مكي الحسني
للبحث صِلة إن شاء الله
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
جزاكم الله شيخنا الحبيب أبا ادريس و يعلم الله أنا في الجزائر ظلمناه بقلة الإطلاع على تاريخه و ظلمه المسؤولون عن الكتب الدراسية اذا خلال دراستي لم يمر علي غير أن الأمير صاحب قلم و سيف على الأعداء و بايعه الناس و قد حارب الإستدمار الفرنسي حتى تمكن الفرنسيون من نفيه وهنا لا يزيدون على هذا , فقد غمطوه حقه فقد قام بدور عملاق في المشرق كما قام به في المغرب رحمه الله و أشبه عند النصارى صلاح الدين في دوره في الحد من العدوان على النصارى فسبحان الله كيف يكال للأمير بمكيالين تطفيف و أي تطفيف و الأنصاف يقتضي الكيل بمكيال العدل و الصدق
و الله المستعان
كما قال سفيان الثوري -رحمه الله- إلى عباد بن الخوّاص رحمه لله بتصرف فقال :
أمابعد:
فإنك في زمان كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوّذون أن يدركوه ولهم من العلم ماليس لنا ولهم من القدم ماليس لنا فكيف بنا حين أدركناه على قلة علم ,وقلة صبر ,وقلة أعوان على الخير ,وفسادمن الناس , وكدر من الدنيا؟!
فعليك بالأمر الأوّل , والتّمسك به وعليك بالخمول , فإن هذا زمن الخمول وعليك بالعزلة ,وقلة مخالطة النّاس ,فإذا كان الناس إذا التقوا ينتفع بعضهم ببعض , فأما اليوم فقد ذهب ذلك والنجاة في تركهم فيما نرى
كان يقال : اتقوا فتنة العابد الجاهل والعالم الفاجر فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون واياك أن تكون كمن يحب أن يعمل بقوله أو ينشر قوله أو يسمع قوله فإذا ترك ذاك منه عُرف فيه فتفقد نفسك واعمل بنية واعلم أنه قد دنا الناس أمر يشتهي الرّجل أن يموت
والسلام
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
بارك الله فيكم يا شيخ خلدون
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
وفيكم بارك الله يا أخ محمد ، وعيدكم مبارك إن شاء الله.
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
جزاك الله خيرا يا شيخ خلدون على هذه الحقائق النفيسة .
و ليتك تضعها على ملف وورد .
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
وجزاكم الله خيرا يا أخي (أبو عبد الأعلى) ، وإن شاء الله يكون ما طلبت.
وأرجو أن تتابع معنا الحلقة 14.وهي إن شاء الله قبل الأخيرة.
-
الحلقة 14:فضيحة الكتّاب والكتب الماسونية ، جرجي زيدان يزعم أنّ صلاح الدين ماسوني!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الرابعة عشرة
بيّنتُ في الحلقة الماضية كيف اتّخذ الأخ محمد مبارك صاحب (فك الشفرة) من أحداث 1860م التي بدأت في جبل لبنان ثم انتقلت إلى دمشق ، حجّة لاتهام الأمير عبد القادر بالعمالة السافرة لفرنسا وبانتسابه إلى الجمعية الماسونية .
وبعد ذلك أكّد تهمة الماسونية بالاستشهاد بكتب وأقوال لبعض رجال الماسونية أمثال : أنطوان عاصي ، وإسكندر شاهين ، وشاهين مكاريوس ، وجرجي زيدان!!
وقبل أن أبدأ بتبيين سقوط هذه التهمة ، أرى من الضروري جدًّا (ومن باب الذِّكرى لجميع المؤمنين) التنبيه على مسألة خطيرة وهي مسألة الاستشهاد بكلام أشخاص صليبيين أو ماسونيين للطعن برجال مسلمين!!
قديمًا كان هذا الشيء لا وجود له عند أهل الإسلام على مختلف مشاربهم ، فلا يُعقل أن يطعن مسلم في مسلم بناءً على شهادة يهودي حاقد أو صليبي مُغرض! وإنما العمدةُ في ذلك على شهادات الثقات من المسلمين! فصفة الإسلام وحدها لا تكفي بل لا بدّ معها من صفة الثقة .
والله تعالى علّمنا ذلك بقوله :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات :6] (وهذه الآية نزلت في أحد المسلمين!)
إذن إذا كان المُخبر لنا مسلمًا فاسقًا لا تُقبل روايته ، فكيف بالفاسق من غير المسلمين؟!
وكيف بالفاسق الحاقد الماسوني؟!!!
ولمّا كان الأخ صاحب (فك الشفرة) يَعُدُّ المنتسب إلى الماسونية شخصًا عميلاً خائنًا ، فهو إذن مُقرّ بأن رجال الماسونية أشخاص أشرار أعداء للإسلام وفيهم خصال السوء ، فكيف رضي أن يستشهد بكلامهم ويعتمد عليه في الطعن برجال الإسلام؟!
وأنا إن شاء الله سأبيّن بكل وضوح ومع الأدلّة والبراهين الساطعة براءة الأمير من تهمة الانتساب إلى الماسونية ومن تهمة الرِّدة والانحياز للكافرين والعمالة لهم ، التي يوجهها إليه بعضهم. ولكن قبل ذلك أنا مضطر لتفنيد (يعني إبطال) المراجع التي يعتمد عليها بعضهم وبيان عدم صحة ما فيها.
لقد بدأ الأخ صاحب (فك الشفرة) كلامه بقوله :" وهناك نص ماسوني موثق كتبه الدكتور انطوان عاصي رئيس معهد الطقوس في المحفل الأكبر اللبناني الموحد راداًّ فيه على بديعة الحسني حفيدة الأمير الجزائري ـ والتي أنكرت ماسونية الأمير ـ لإثبات ماسونية الجزائري ناقلاً فيه عن مصادر معروفة و موجودة".انتهى
أقول : هل أنطوان عاصي شخص موثوق به عند الكاتب ومصادره الماسونية معروفة وموثّقة؟!
ولكي أعطي القرّاء صورة سريعة عن هذا المرجع أقول : أنطوان العاصي هذا هو شخص لبناني مسيحي معاصر ، وليس ممن عاصروا الأمير عبد القادر ولا أبناءه.
وكلامه وردَ في كتابٍ للبناني آخر هو إسكندر شاهين وعنوان الكتاب هو ((الماسونية ديانة أم بدعة)) طباعة بيروت 1999م.
والقارئ لهذا الكتاب يدرك بسرعة تفاهته! فمن العنوان يحاول الكاتب إظهار الماسونيّة على أنّها ديانة قديمة أو حالة روحية عند المتدينين ، يَبْلغونها بعد قطع أشواط في الترقي الفكري والروحي! ويحاول جاهدًا أن يُفهم القرّاء أن الماسونية لا علاقة لها باليهودية ، وأنّ توراة موسى سَرَقَت معالم التوراة الكنعانية وطمست وشوهت معالمها ، فلذلك لا يمكن القول إن الماسونية بنت الصهيونية أو إسرائيل، فهي نقيضها تمامًا!! ... ولكن هناك ماسونية صهيونية ، وهي التي خططت لمجازر الأرمن في تركيا إبّان الحرب العالمية الأولى. وأنه يجب التفريق بين ماسونية وأخرى وبخاصّة أن هناك [52] مذهبًا ماسونيًا يستحيل اتحادها لأن لكل مذهب نظرة فلسفية خاصّة!!!
وأنّ مؤسس الماسونية هو المهندس (حيرام آبي) باني هيكل سليمان ، لا كما يزعم اليهود أن الملك سليمان هو مؤسس الماسونية!!(وهنا من يقول إن سيدنا نوح هو مؤسس الماسونية!) وأنّ سليمان هو الذي أمر بقتل حيرام قبل خروجه من القدس ، وأن قبر حيرام في مدينة صور اللبنانية!! وأنّ الماسونية انطلقت من مدينة صور حيث ولِدَ أول مذهب ماسوني وهو المذهب الكنعاني!! (بحسب كلام أنطوان عاصي) وأن الماسونية يعود وجودها إلى 2000 سنة قبل المسيح ، فالسنة الماسونية الحالية 5999.(بزعم القطب الأعظم ضاهر ديب ؛ ويبدو أنه ضعيف في الحساب!) ؛ وأن محفل الشرق الأكبر اللبناني ، الذي مركزه بيروت أعضاؤه مسلمون!!! وأنّ الماسونية اللبنانية تعُدُّ إسرائيل عدوًا طبيعيًا لها ، وأن صراع الماسونية مع اليهود يعود في جذوره إلى اغتيال حيرام آبي على أيدي اليهود في زمن سليمان!! وأن الماسونية كانت على عداء شديد مع منظمة فرسان مالطا ، وأنّ اليهود لم يكن يُسمح لهم الانتساب إلى الماسونية قبل القرن العشرين!!!
ثمّ يحاول جاهدًا أن يدلل على فضائل الماسونية ومزاياها بكلام لا يُقنع إلاّ الأغبياء. كل ذلك بلغة ركيكة مبتذلة لا يُفهم منها شيء بوضوح.
ثم يحاول أن يوهم أن الماسونية هي مسيحيّة ، ثم يصفها بأنها العلمانية ، ويختم تناقضاته بقوله "البابا يوحنا بولس الثاني (قبل الحالي) أَمَرَ بنشر نصّ صريح في مجلة أعمال الكرسي الرسولي في 1/3/1984م ، يشكل الإعلان النهائي حول موضوع العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والماسونية (العلمانية) ، أكد فيه عدم التوافق بين مبادئ الماسونية وعقيدة الكنيسة".انتهى
وبعد ذلك عمد إلى التفرقة بين الماسونيين ؛ فمنهم من هو وطني محب للعربية ، ومنهم من هو مرتبط بالغرب وبالأطماع الاستعمارية !!!! زعموا.
كما حاول أن يجعل كل منجزات النهضة في سورية ولبنان من مدارس ومعاهد ومجلات وجمعيات إنما هي بفضل الماسونية ، كما أن كل رجال الفكر والنهضة العربية الإسلامية هم من الماسون ومن أعلى الدرجات...!
وقال عن محمد جميل بيهم! أنه كان رئيسًا للمحفل الماسوني (الاتحاد) ووصفه بأنه معارض بارز للانتداب الفرنسي!!!
وفي لبنان وحده يوجد اليوم ربع مليون ماسوني ، بزعمه!
ثم أخذ الكاتب (إسكندر شاهين) يُسمي بعض المحافل فقال : ـ محفل مكة ، محفل المدينة ، محفل الملائكة ، محفل أُميّة، محفل خالد بن الوليد ، محفل عمر بن الخطاب ، محفل الرياض ، محفل العروة الوثقى ، محفل محمد علي ، محفل الملك حسين ..!!!
وأما أسماء رؤساء المحافل فهي محمد وأحمد ومحمود ومصطفى وحسن وحسين وإدريس..وهكذا
وأما مواد التكريس (التثبيت) في بعض المحافل التي على طريقة (شراينر) فأُدخلت فيها بعض الآيات القرآنية!!!!
ولما تكلّم على انضمام الملك حسين إلى الماسونية قال : ((وما كاد نبأ انضمام جلالته إلى العشيرة الحرّة يصل إلى أبناء شعبه الوفي حتى زحفت الوفود إلى قصر بسمان مهنّئةً العاهل البطل!!)).انتهى
إذن الشعب الأردني كله مؤيّد للماسونية. فما رأيكم؟
ومن النصوص الشنيعة التي نقلها صاحب الكتاب (إسكندر شاهين) عن أقطاب الماسونية قولهم "وكان موسى يظن أن العالَم لا يشتمل على شيء سوى سيّارتنا هذه (لعله يقصد الأرض) وأنّ موسى قد غلط في زعمه هذا غلطًا فظيعًا".انتهى بهتانهم.
والمضحك أن إسكندر شاهين أورد صيغة القَسَم الماسوني وفيه يتعهدُ المنتسبُ إلى الماسونية ألا يكتب أو ينشر شيئًا عن الأسرار الماسونية . ونحن نقرأ من أول الكتاب إلى آخره أسرار الماسونية على لسان رؤسائها وأساتذتها وأقطابها ومُخرِّفيها!! (إلاّ إذا كان لديهم أسرار أخرى يخفونها عناوهذا يجعل كل ما جاء في الكتاب ساقطًا ولا قيمة له ؛ فالحقيقة مخفيَّة ولا يجوز البوح بها وكل ما يُقال إنما هو أكاذيب وضلالات لا تنطلي على القارئ المتيقظ).
هذه هي العناوين العريضة للكتاب الأول الذي يحتج بما ورد فيه الأخ صاحب (فك الشفرة)!!
وفي الفصل الثاني من كتاب إسكندر شاهين تحت عنوان ـ الأمير عبد القادر الجزائري والماسونية في الشرق ـ يقول المؤلف : ((يختلف المؤرخون حول مسألة انتشار الماسونية في لبنان وسورية ففي حين يردها المؤرخ الماسوني جرجي زيدان إلى عام 1864م على يد الأمير عبد القادر الجزائري ، تطالعنا المجلة الماسونية "الأكاسيا" عدد حزيران 1994م "بأن الماسونية انتشرت في سورية ولبنان سنة 1738م! وذلك بانضمام نخبة من رجالات دولتي المشرق سورية ولبنان إلى المحفل الأكبر الإقليمي العثماني ومقرّه الأستانة ، وكان تابعًا للمحفل الأكبر الإنكليزي)).انته
وهكذا نرى كيف اختلف الدجاجلة ، فهم يطوّرون كذبتهم وفقًا للأغراض المتوخّاة منها!
ثمّ أورد الكاتب مقالة للأميرة بديعة (حفظها الله) حفيدة الأمير عبد القادر تنفي فيها مسألة انتساب الأمير للماسونية وأثْبَتَتْ فيها وثائق وشهادات وتحقيقات علمية كلها تدعم ما تقول.
إلاّ أنّ الكاتب إسكندر شاهين لم يعلّق على شيء من ذلك واكتفى بإيراد رد أنطوان عاصي على مقال حفيدة الأمير.
والكاتب إسكندر كلما استغرق في التخليط والهلوسة ، استشهد بكلام المدعو أنطوان عاصي. فكان "كضِغْثٍ على إبَّالَة".
والغريب أنّ الأخ صاحب (فك الشفرة) فيما يبدو اطلع على مقاطع من كلام أنطوان عاصي مجتزأة، لأنّه لو قرأ كلامه كاملاً لظهر له بوضوح كم هو مخلِّطٌ كبير ، ومدى سقوط كلامه.
مثلاً : يقول أنطوان عاصي في ردِّه على حفيدة الأمير: "4ـ أُنشئ في نيويورك في 26/9/1872م نظام تحت اسم (النظام العربي القديم لأشراف المزار الصوفي). وأقيم على أساس (مزار صوفي إسلامي). أُسس هذا النظام سنة (656م)! . قبل تطوره أي بعد موت النبي محمد صلى الله عليه الصلاة والسلام (كذا) بأربع وعشرين سنة!!!
ويقول : فلنا أن نقول عن الماسونية : إنها يهودية ، لأنها كذلك في بعض طقوسها ومراسمها ..
ولنا أن نقول : إنها مسيحيّة ، لأنها تحث على السلم والوداعة والمحبة ، وكل ما أتى به الدين المسيحي، من آيات التساهل واللين ...
ولنا أن نقول أيضًا : إنها محمّدية ، لأنها في مجموع وصاياها وفلسفتها ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتشترط في الداخلين في سلكها كل فضيلة ومكرمة".انتهى
كل هذا الكلام قبل أن يبدأ بمسألة ماسونية الأمير .
ثم تابع العاصي كلامه بوصفِ نفسه أنه من الماسونيين العريقين! لا من المتطفّلين!!
إذن فهناك ماسون عريقون وآخرين متطفّلون! يا سلام على هذه الفائدة!
ثمّ راح يستدل على عراقة الماسونية ، بتطابق نصوصها مع نصوص التوراة اليهودية التي هي أهم سند للماسون! ثم راح ينفي عن الماسونية تأثّرها باليهودية وأنّ الخطر اليهودي قد انحسر عنها!!! في تخبّطٍ وهلوسة منقطعة النظير وبِلُغةٍ لا تكاد تَفهم منها شيئًا . فضمن أسطر قليلة تجده يثبت الشيء وينفيه وينتسب إلى شيء ويتبرّأ منه وهكذا ... وبعد ذلك راح يبيّن أنّ الماسونية استلهمت أفكارها ومبادئها من الصوفيّة الإسلامية ، طبعًا هذه بحد ذاتها طامّة من طوامّه وفِرْيَةٌ من مفترياته ؛ ولكنه حتى يزيد الأمر وضوحًا برأيه ، أخذ يعدد رموز التصوف الذين استلهمت منهم الماسونية فقال :"ما استلهمته الماسونية من الصوفية الإسلامية من ابن خلدون ، وعمر بن الفارض ، وأبو العلاء المعري".انتهى
فزاد هذا التوضيح منه الطين بِلَّةً ، فما دَخْلُ ابن خلدون وأبي العلاء المعرّي بالتصوف؟! وابن خلدون أوّل ما بدأ مقدّمته هاجم فيها الصوفيّة!
وجميعنا يعلم أنّ أساس المبادىء الماسونية هو القضاء على الإسلام وغيره من الأديان وإبقاء الدين اليهودي حاكمًا للعالم ، فكيف تكون الأفكار الماسونية مستمدّة من التصوف الإسلامي ومن كلام مؤرخ الإسلام ابن خلدون أو أبي العلاء المعرّي؟
ونسي العاصي ما كتبه قبل أسطر من أنّ الماسونية مستمدّة بالكليّة من التوراة اليهوديّة!
ثمّ بعد ذلك راح يتحدث عن أحداث 1860م فزعم أنّ تلك الفتنة كان وراءها الإنكليز بالتعاون مع وريث العهد المصري (يعني محمد علي) والدولة العثمانية نفسها ، وذلك لإخضاع سورية للحكم العثماني!! فأرسلت فرنسا وبروسيا وإنكلترا(انتبه)! وإيطاليا والنمسا جيوشها البالغ عددهم (12.000) جندي بقيادة الجنرال بوفور الفرنسي لحماية الدروز والموارنة من المجازر التي ارتكبها بحقهم (الطورانيون الأتراك) بقيادة فؤاد باشا!!!
ثمّ قال العاصي : إنّ المجازر كانت بين الدروز والموارنة ، وبين الدروز وبقيّة الفِرَق الإسلاميّة . فالدروز هم من أشعلوا الفتنة.
ثم قال : وكلّف نابليون الثالث الأمير عبد القادر بالتصدي للجيش الطوراني التركي للحفاظ على الأقليّات في الشرق!! ونجح الأمير في حماية النصارى فقلّده نابليون وسام الشرف.انتهى
أرأيتم إلى هذا التزوير السافر للتاريخ!!
لقد مرّ معنا في الحلقة السابقة تفصيل أحداث 1860م والعنوان العريض لها هو أنّ فرنسا حرّضت الموارنة على الدروز ، وإنكلترا دعمت الدروز ، ثمّ سيطرت الدولة العثمانية عن طريق وزيرها فؤاد باشا على مجريات الأمور ، بعد أن قام الأمير عبد القادر بتهدئة الأوضاع.
والذي كان يُباشر القتل إنما هم الدروز والموارنة في لبنان ، وأما في دمشق فأشقياء البلد مع الدروز، ولم يتدخل في أحداث القتل أي جندي تركي!
أمّا أنطوان هذا فتارة يقول إنّ إنكلترا هي التي كانت وراء الأحداث وهي التي حرّضت الدروز على قتل الموارنة ، وتارة يقول إنّ العثمانيين هم الذين أشعلوا الفتنة وقتّلوا الدروز والموارنة ، وتارة يقول إنّ الدورز كانوا يقتّلون الموارنة وباقي الفرق الإسلاميّة ، وتارة يقول إنّ الإنكليز تحالفوا مع العثمانيين ومحمد علي على فرنسا ، وتارة يقول إنّ فرنسا وإنكلترا أرسلتا جيشًا للتصدي للعثمانيين.
ومحمد علي ؛ الذي هو حليف لفرنسا وخارجٌ على السلطان ، صار عند أنطوان عاصي حليفًا لإنكلترا وللسلطان ، والغرض من الفتنة كما نعلم جميعًا هو فصل سورية عن الدولة العثمانية ، ولكنه صار عند العاصي أنطوان لإخضاع سورية للحكم العثماني!!! وكأنّ سورية ليست تحت الحكم العثماني!! والله هذا كلام يسبب الغثيان، لم أرَ في حياتي كتابًا كهذا! فأنطوان هذا يُناقض نفسه في كل سطر فلا تكاد تصل إلى نهاية السطر حتى تجد أن الكلام صار خلاف أوّله!
فانظروا كيف يكون التزوير والتحريف وقلب الحقائق.
ويُتابع أنطوان عاصي فيقول : ((إنّ الأمير عبد القادر كان المناضل الأكثر شراسة على فرنسا في الجزائر ، وهذا سبَّبَ له عداء نابليون الثاني الذي قام بسجن الأمير في فرنسا ، ولكن بعد إطلاق سراحه كلّفه نابليون الثالث بمهمة إنقاذ المسيحيين في دمشق ، ثم بعد ذلك أشاد الماسون بإنسانية الأمير وعرضوا عليه الانضمام إلى جمعيّتهم ، ولكن هذا الانضمام تأخر لوجود خلافات بين الأمير وبين الماريشال الفرنسي الذي هو الأستاذ الأعظم للمحفل الماسوني، وبعد سنوات انضم الأمير للجمعية الماسونية)).انتهى
أرأيتم إلى هذا الهذيان! فتارة يزعم أنّ الأمير دخل في الماسونية وهو في السجن في فرنسا وبناء على ذلك كان يتلقى التكاليف من نابليون وأوّل تكليف له كان حماية النصارى في أحداث 1860م ، وتارة يزعم أنّ الماسون عرضوا على الأمير الانضمام إليهم بعد أحداث 1860م وأنّه كان على خلاف مع الماريشال الفرنسي فلم ينضم إلاّ بعد خمس سنوات ، وأنّه كان يُخفي نفسه وبقي في الظل.
لقد روّج الماسونيون مسألةَ كون الأمير ماسونيًا بِناءً على حمايته للنصارى في دمشق وأنّ ذلك كان بتكليف ماسوني . ثم هم يقولون إنّهم لم يعرضوا عليه الانتساب إلاّ بعد أحداث 1860م ، وأنه قبلها لم يكن ماسونيًا . وهكذا كذبهم مفضوح دائمًا!
ولم يأت أنطوان بأي دليل يُثبت انتساب الأمير للماسونية وكذلك إسكندر شاهين في كل كتابه ، مع أنّهم يروّجون للماسونية على أنها أمرٌ حسن والمنتسبون إليها هم من الكُمَّل (زعموا) . والمحاولة البائسة والوحيدة التي قام بها إسكندر هذا لإيهام القرّاء بأنه يملك وثائق تثبت صحة ما افتراه على الأمير : هي أنّه عَرَضَ في نهاية الكتاب ـ ضمن الصور التي عرضها للشخصيات اللبنانية الماسونية المعاصرة ـ لوحة زيتية مشهورة للأمير عبد القادر وهو يثير حماس جنوده قبل إحدى معاركه مع فرنسا ، ولكن بعد أن زوّر إسكندر مناسبتها فكتب تحتها (رسم يمثل الأمير عبد القادر على أبواب دمشق)! ومهما يكن الأمر فأي دليل في هذه اللوحة على صحّة ما يدّعيه؟!!
ووصف ـ في نهاية كلامه الغثّ ـ الماسونية ((بأنها حالة هيولية ما وراء العقل ثم ترتقي إلى الوحي أي "النيرفانا الهندية" وهي المرحلة الأخيرة قبل وصول قمّة التركيز التي هي "اليوغا")).انتهى ؛ ورضي الكاتب صاحب (فك الشفرة) بهذا الكلام!!
إذن هذا هو الكتاب الذي عدَّه الأخ كاتب (فك الشفرة) من المصادر الموثوقة التي تثبت ـ برأيه ـ دون أدنى شك إدعاءاته على الأمير.
والجميع أصبح يرى مدى تهافت الكتاب ومؤلّفه ومدى سقوطه وسخافته ، ومقدار الكذب المفضوح الذي حواه وانبنى عليه.
والذي يُفهم من كلام أنطوان عاصي وأمثاله أنّ الإمبراطور نابليون الثالث كان ماسونيًا ، وأن ماريشالات الجيش الفرنسي كانوا من الماسون ، وأن الإنكليز ماسون ، وأن حماية الأمير للنصارى في أحداث 1860م كان بتكليف من الماسون ، وكل هؤلاء نصارى والخدمة كانت للنصارى ، إذن فالنصارى هم الماسون وليس اليهود أليس كذلك؟!
على كل حال سآتي على تفصيل هذا الموضوع وبيانه ؛ إن شاء الله ؛ عند معالجتي لحقيقة الماسونية.
ونعود الآن إلى الأخ كاتب (فك الشفرة)، فبعد فراغه من نقل كلام أنطوان عاصي ، انتقل إلى مرجع ماسوني آخر وهو المدعو شاهين مكاريوس ، ولكن على عادته يبدأ بمقدمة تساعده على عرض ما يريد فقال :" بعد أحداث سنة 1860 في جبل لبنان صارت دمشق عاصمة ولاية سورية في الدولة العثمانية". انتهى
يا سبحان الله! وماذا كانت قبل ذلك؟ عاصمة فرنسا!!!
ثمّ زعم أنّ الوالي العثماني الذي استلمها كان ماسونيًا ، لأنّ دولة الخلافة العثمانية بزعمه كانت لا تعيّن إلاّ الماسون!! ثم بدأ الوالي العثماني بنشر الماسونية في دمشق بسرعة وجرأة وبعدها طلب من الأمير أن يتولى هو نشر الماسونية ودعمها ، ولكي يثبت هذا الادعاء استشهد بكتاب شاهين مكاريوس.
لقد زعم مكاريوس ـ الماسوني الكبير ـ كما نقل كاتب (فك الشفرة) "أن الأمير التحق بالماسونية فأحبها وأحب أهلها ، ومال إليها وإليهم كثيراً، وكان لا يخفي نفسه ، وطالما جاهر بأنه من أعضائها" .انتهى
ورضي الأخ صاحب (فك الشفرة) بهذا الكلام أيضًا!
ولكن من هو شاهين مكاريوس؟ ((إنّه من مواليد (1269-1328 هـ = 1853-1910م): من مؤسسي جريدة (المقطّم) بمصر، وأحد أصحاب (المقتطف) ومنشئ جريدة (اللطائف) ولد في قرية "إبل السقي" من (مرج عيون - بلبنان) ونشأ في بيروت يتيمًا فقيرًا، قُتِلَ أبوه في حادثة سنة 1860م، وحملته أمه إلى بيروت حيث كانت تعوله من عملها في خدمة الدكتور فانديك، فتعلَّم فن الطباعة، وتولى إدارة مجلة المقتطف ببيروت سنة (1876م) ورحل إلى مصر مع زميليه يعقوب صرّوف وفارس نمر.
وخدم الماسونية بكتبه: (الجوهر المصون في مشاهير الماسون - ط) و(الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية - ط) و(الدر المكنون في غرائب الماسون - ط) و(الآداب الماسونية - ط).)).انتهى [انظر الأعلام للزركلي . (ط) تعني مطبوع]
إذن الرجل ماسوني، فَقَدَ والده بعدما قتله الدروز في لبنان في أحداث 1860م ، واضطرّت أمّه إلى العمل خادمةً لتتمكن من إعالته، فنشأ يتيمًا فقيرًا ناقمًا، وانخرط في الماسونيّة ، واستفرغ وسعه في الكتابة عنها والترويج لها.
قال عنه حسين حمادة: ((مؤسس محفل (اللطائف) وهو حائز على النيشان الماسوني العالي ، وكاتب السر الأعظم للمحفل الأكبر الوطني المصري)).انتهى[شهادات ماسونية ص96] وكل كتبه الخاصة بالماسونية وضعها وطبعها بعد وفاة الأمير بسنوات!
ويروي شاهين مكاريوس في كتابه "الأسرار الخفية في الجمعية الماسونية" المطبوع في مصر سنة 1900م ، أنّ نبيَّ الله ((سليمان بن داود ملك إسرائيل كان أوّل معلّم أعظم في الفرانماسونية واسم أمّه (بتشايع) ، وأنه لم يكن له من أمه سوى أخ واحد اسمه أبشالوم ، وأنّ (حيرام آبي) أستاذ الماسونيين الذين يقيمون له مأتمًا عند دخول الطالبين ، وأنّه ابن أرملة من السوريين من سبط (نفتالي) كان أبو صوريًّا يعمل في النحاس ، وأنه كان متعرّفًا بالأخوية الديونيسية ، وأنه الناشر لأسرار تلك الأخوية)).انتهى [ص97 من كتاب حسين حمادة]
وفي كتابه "فضائل الماسونيّة" المطبوع بمصر سنة 1899م يخبرنا عن إحدى فضائل الماسونية فيقول في الصفحة 53((نجا أحد الماسون المدعو جورج كاروتر ، إذ وقع في أيدي اللصوص فأرادو قتله لولا أنه أبدى الإشارة الماسونية ، ففهم معناها زعيم اللصوص المدعو بيل أندرسن ، فترجّل عن جواده ، وصافحه مصافحة الإخوان ، مما دعا جورج كاروتر ليشكر الماسونية بسبب خلاصه من الموت)) وعلّق الكاتب حسين حمادة على كلام مكاريوس فقال : على أنّ الروائي شاهين مكاريوس نسي أن يهنئ الماسونية على إدخال اللصوص في محافلها ، وإلاّ فكيف لهم أن يفهموا إشارات الماسون إن لم يكونوا منهم؟)).انتهى [شهادات ماسونية لحمادة ص97]
هذا ما تيسر لي من كتابات هذا الشخص. فتأمّل!
ولمّا كان الفضل ـ في إنقاذ المسيحيين من مذبحة 1860م ـ لعلماء المسلمين وكبرائهم أمثال الأمير عبد القادر ومفتي الشام الشيخ الحمزاوي والعطار والمنيني.. وغيرهم ، ثَقُلَ على أمثال ابن مكاريوس (الذي فقد أباه في تلك المذبحة) أن يشهدوا بالفضل لأصحابه لأنّهم من المسلمين!
وغيرُ المسلمين لا يُطيقون أن يُنسَبَ الفضل والخير إلى المسلمين ، فما كان منهم إلاّ أن ألصقوا صفة الماسونية بكل من ساهم في إنقاذ وحماية المواطنين المسيحيين في بلاد الشام! ونحنُ لا نجد في كل ما كتبه الكتّاب المسيحيون عن مذبحة 1860م الغربيون منهم أو الشرقيون ؛ أيّ إشارة إلى فضل الشريعة الإسلامية التي طبّقها كبار رجال الإسلام في صيانة أعراض النصارى وحقن دمائهم ، وإنما أثنوا على أولئك الرجال وألحقوهم بالماسونية زورًا وبهتانًا!!
ـ ثم انتقل الأخ كاتب (فك الشيفرة) إلى الاستشهاد بكلام جرجي زيدان (وما أدراك ما جرجي زيدان)
لقد زعم جرجي :"أن الماسونية دخلت إلى الشام بمساعي الأمير وأنه أول من أسس المحافل الماسونية".انتهى ، ورضي الأخ الكاتب بهذا الكلام أيضًا!
وانظروا إلى هذا التخبّط : فمرّة يقولون إنّ الماسونية كانت في بلاد الشام قبل الأمير وأن الولاة العثمانيين هم الذين أدخلوها ، ومرة يقولون إنّ الماسون أسسوا محافلهم في الشام وسعى الأمير للانضمام إليها ، ومرة يقولون إنّ الأمير هو الذي أدخل الماسونية إلى الشام ، ومرّة يقولون إن الأمير في البداية كان يُخفي نفسه ، ومرّة يقولون إن الأمير كان منذ البداية يُجاهر بنفسه ، و...
وبعد ذلك يرى الأخ صاحب (فك الشفرة) أنّ هذه المصادر الماسونية هي مصادر موثوقٌ بها وعلمية وصالحة للاحتجاج على عمالة وردّة الأمير عبد القادر!! الذي شَهِدَ له المؤرِّخون والعلماء المسلمون أمثال مفتي المالكية العلاّمة محمد عليش وولده الشيخ الأزهري عبد الرحمن عليش ، والعلاّمة عبد الرزاق البيطار وحفيده الشيخ محمد بهجة البيطار ، والعلاّمة جمال الدين القاسمي ، ومفتي الحنابلة الشيخ محمد جميل الشطي ، وآخرون كُثر ، شهدوا له بالفضل والدِّيانة والغَيْرة على دين الإسلام ، وأشادوا بحرصه على إقامة أحكام الشريعة وحدودها ، وسعيه الحثيث لنشر علوم الدين ، حتى إنه إلى آخر أيّام حياته كان يُقْرِئُ صحيح البخاري ويُجيزُ به الطلبة والمشايخ ، وكذلك موطأ مالك وغيره، فضلاً عن سنده في القرآن الذي أخذه عنه جمعٌ من المشايخ والطلاّب ، وشهدوا له بمواظبته على حضور صلاة الجماعة في المساجد حتى وفاته ، إلى غير ذلك من الخصال التي تدلّ على تمسّك الرجل بدينه وحرصه على اتباع سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأحب أن أنبّه الإخوة القرّاء جميعًا إلى أمر هام وهو أن المدعو جرجي زيدان في كتابه الذي ادّعى فيه أنّ الأمير عبد القادر كان ماسونيًا ، ادّعى أيضًا أن خلفاء المسلمين من الأمويين والعباسيين هم أول من أدخل الماسونية إلى المدينة والشام وبغداد ، وادّعى أن الخليفة الوليد بن عبد الملك استعان بالماسون لبناء المسجد النبوي والمسجد الأموي بدمشق والمسجد الأقصى!!!
وأنّ الكثير من علماء المسلمين وفقهائهم وأمرائهم انتسبوا إلى الماسونية في حينها!!!
وزعم أنّ القائد صلاح الدين الأيوبي كان ماسونيًا!
ليس هذا فحسب فقد قال :"إنّ الله أسسَ أوّل محفل ماسوني في جنّة عدن وأن ميخائيل رئيس الملائكة كان أوّل أستاذ أعظم"!!
وكتاب (تاريخ الماسونية العام) لجرجي زيدان [مطبعة الهلال بمصر الطبعة الثانية (1920م)]([1])في المجمل يشبه قصّة روائية خيالية كاتبها سكران! فهو يدّعي أنّ الماسونية قديمة قدمَ الإنسان ومع ذلك تعجّب من نبيّ الله عيسى ابن مريم فقال : ((ولا نعلم ما الدّاعي لإغفال السيد المسيح ذِكرَها مطلقًا، مع أنه تكلّم كثيرًا عن طائفتي الصديقيين والفريسيين المعاصرتين لها)).انتهى [تاريخ الماسونية ص19]، وزعمَ أن الماسون هم عمّالُ بناء ، وأنهم كانوا أقوى وسيلة لنشر الديانة المسيحية [انظر ص42]، وأنّ كبار ملوك وحكام أوربا كانوا من الماسون! ، وكان الماسون يحظون برعاية بابا روما ورجال الدين المسيحي [انظر ص60]، وأنهم المسؤولون عن بناء جميع المعابد والمساجد ، وهم الذين بَنَوا مدينة بغداد وقرطبة وإشبيلية (قصر الحمراء) ؛ وفجأة تحوّلوا من عمال بناء إلى دعاة ينشرون العلم والفضيلة!
ثمّ سردَ الوقائع والمنشورات التي تبيّن العداء الشديد الذي تضمره الكنيسة ورجالها تجاه الماسون، وأنهم كانوا يعدّون الماسونية مناقضة لعبادة الله وللديانة المسيحية ، بل وللديانة على وجه العموم! (هذا أحد التناقضات الشديدة التي مُلِئ الكتاب بها)[انظر ص126] ؛ وأنه لم يكن فيهم أي إسرائيلي ، وإنما بدأ قبول الأعضاء الإسرائيليين في الماسونية سنة 1840م!![انظر ص136] .
وهو في كتابه يعترف أن الماسونية جمعية سريّة ، ولكنه يعلل ذلك بأنه شأن جميع الحركات الإصلاحية ، والأديان ، ويضرب على ذلك مثلاً المسيح ابن مريم عليه السلام في أوّل أمره . ولكن غاب عن جرجي أنّ تكتُّم وسِرِّية جمعيته الماسونية استمر على الأقل من 2000 سنة قبل الميلاد إلى ما بعد 2000 سنة من الميلاد وإلى يومنا هذا!!
وسأعرض بعض أقواله وافتراءاته الشنيعة بحرفيتها :
يقول المدعو جرجي زيدان في كتابه (تاريخ الماسونية العام) مطبعة الهلال بمصر الطبعة الثانية (1920م) ص50 تحت عنوان ـ الماسون في عهد الخلفاء ـ : ((أمّا فئات الماسون الذين جاؤوا المشرق وكان منهم جماعة في القسطنطينية فإنهم اكتسبوا شهرة عظيمة وكان يدعوهم الملوك من أنحاء فارس وبلاد العرب وسورية لبناء المعاقل والمعابد . من ذلك أنّ الخليفة الوليد بن عبد الملك استعملهم سنة (88) للهجرة في بناء المساجد في المدينة ودمشق وأورشليم وقد ذكر مؤرخو العرب ما يشير إلى شيء من ذلك!!)) .انتهى [(تاريخ الماسونية العام) لجرجي زيدان ص50 ـ 51]
ثم عرضَ نصًا من تاريخ ابن خلدون فيه ذِكْرُ كتابةِ الوليد بن عبد الملك لأميره على المدينة عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم الحجرات وبناء المسجد النبوي ، وأن عُمر شرع في العمل بعد وصول الأموال والفََعَلَة (الذين يدَّعي جرجي أنهم ماسونيون!)
ويتابع جرجي فيقول : ((وما زالت جمعيات الإخوة البنائين الأحرار تتسع نطاقًا في "اسكوتلاندا" و"غاليا" حتى نهاية الجيل السابع وبداية الثامن إلى أيام الفتوحات الإسلامية سنة (718م) فانحطّت وضعفت شوكتها . حتى إذا جاءت أيام الخلفاء العباسيين وبُنِيَت بغداد فازدهرت تلك العاصمة وصارت إليها الصناعة برمّتها ، ولا سيما صناعة البناء وكأنّ الماسونية انتقلت في ذلك القرن من أوربا إلى آسيا على أثر التمدن الإسلامي ، وأصبحت جماعات البنائين على جانب من الكثرة والصولة في سورية والعراق وبلاد العرب . فانتظم في سلكها كثيرٌ من العلماء والفقهاء والأمراء . ويُستَدل على شيء من ذلك مما ورد في كتب التاريخ عن كيفية بناء مدينة بغداد)).انتهى [(تاريخ الماسونية) لجرجي ص51]
ثم عرض نصًّا من تاريخ ابن الأثير فيه ذِكْرُ كتابة الخليفة المنصور إلى الشام والجبل وغيرها يطلب الصُنَّاع . ثم ذكر حضور الحجاج بن أرطاة وأبي حنيفة! (وكأنه يعرّض بهما بعدما زعم انتساب العلماء والفقهاء إلى الماسونية في ذلك الوقت ، كما عرّض بعمر بن عبد العزيز في النص السابق)
ثمّ زعم جورجي في حاشية الصفحة 53 : أنه كان يوجد في بغداد أيام بنائها جمعية سريّة تشبه في مبادئها الجمعية الماسونية وبينهما علاقات وارتباطات واسمها (الروزكريسيان) وأن من أعضائها : الفارابي ، والفضل بن سهل الفلكي ، وخالد بن برمك ، والمورياني وغيرهم.انتهى [(تاريخ الماسونية) لجرجي حاشية ص53]
والمطلعون على التاريخ والرجال ، يدركون تمامًا لماذا اختار جرجي تلك الأسماء لتمرير فريته الشنيعة!
ويقول جرجي تحت عنوان ـ ريكاردوس قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي ـ: ((.. ويستلمح من الحادثة المشهورة التي حصلت بين هذا البطل! والسلطان صلاح الدين الأيوبي أثناء الحروب الصليبية في سورية أن هذا الأخير كان على شيء من الماسونية لأن المعاملة التي عاملها السلطان صلاح الدين لريكاردوس ، مع كونه من أعداء وطنه ودينه ، لا يمكن أن تحدث إلا عن ارتباط داخلي أشدُّ متانةً من رابطة الوطنية ألا وهي رابطة الأخوية الماسونية ، والله أعلم)).انتهى [(تاريخ الماسونية) لجرجي ص60]
ويقول جرجي : (( وفي سنة (1380م) تم بناء حصن الحمراء وقصرها في غرناطة ويعد هذا البناء من أجمل مباني الأندلس (إسبانيا) إلى ذلك العهد ، فإن ذلك القصر فريد في بدائعه وقد بني على نمط روماني كان متَّبعًا في القرن الثالث بعد الميلاد .أما بعد ذلك فلم يكن معروفًا عنه شيء ، والظاهر أن هذا البناء وغيره من مثله في غرناطة قد بنتها جمعية ماسونية حافظت على ذلك النمط ، وكانت في إسبانيا ثم فُقِدت أوراقها فلم يصل إلينا منها ما ينبئنا عن خبرها)).انتهى [تاريخ الماسونية ص65]
فإذا كانت الأوراق مفقودة ولم يصل من أخبار تلك الجمعية شيء فمن أين لهذا الكذّاب هذه المعلومات؟!
ويقول جرجي تحت عنوان ـ الماسونية في سورية ـ : ((...إن الماسونية العملية انتشرت في أنحاء سورية في أوائل التاريخ المسيحي وأوائل الهجرة ، وقد بنى البناؤون الأحرار (الماسون) بنايات عديدة لا تزال آثارها إلى الآن من الكنائس والجوامع والقلاع والأسوار..)) ....
ثم قال : ((ويظهر من مراجعة ما تقدّم أن الماسونيين في سورية لم يكونوا مضطهدين في أيّام الدولة الإسلامية كما كانوا في أيّام الدولة الرومانية قبلها ، لأنك رأيت كيف كانوا يستدعونهم من أماكن شتى ويعهدون إليهم بناء المعابد والمدن والمعاقل . وقد انضم إليها كثيرون من أفاضلهم وعلمائهم)).انتهى [تاريخ الماسونية ص152]
إذن يريد جرجي أن يقنعنا بأنّ الماسون كانوا مضطهدين أيام الرومان ، في حين أنهم لم يكونوا كذلك أيّام الدولة الإسلامية الأولى التي كانت ترعاهم وتتعامل معهم! فأرجو أن يتنبّه لهذا الأخ كاتب "فك الشفرة".
ويقول جرجي : ((أمّا شأن الماسونية عمومًا في تركيا فشأنها في سائر البلاد ؛ هذا من قبيل العامّة واعتقاداتهم ، أمّا من قبيل الدولة فلم تصادف مقاومة رسميّة مطلقًا . وإن تكن من الجهة الثانية لم تصادف تنشيطًا كبيرًا ، على أنّ مولانا أمير المؤمنين قد كان في ريبة من أمرها ولكنّه علِمَ مؤخّرًا صحّةَ مباديها وإخلاصها لجلالته ولسائر الأمّة والوطن وقد تشّرفتْ برضائه عنها)).انتهى [تاريخ الماسونية ص161] .
أقول: إنّ جرجي زيدان مات سنة 1914م وكان قد فرغ من تأليف تاريخ الماسونية قبل ذلك بسنوات ، إذن فأمير المؤمنين الذي يتحدث عنه هو السلطان العثماني الخليفة عبد الحميد الثاني، على الأغلب(المتوفى سنة 1336هـ = 1919م ، وانتهت خلافته سنة 1328هـ = 1911م) ، وجرجي يدّعي أنه كان راضيًا عن الماسونية وأن الماسونية كانت مخلصة لجلالته ولسائر الأمّة! فما رأي الأخ محمد مبارك بهذا؟
ـ طبعًا هذه النقول اشتملت على مغالطات تاريخية كثيرة غير مسألة الماسونية!
أرأيتم إلى هذه المصادر التي يعتمد عليها البعض ويثق بما فيها؟!
أرأيتم إلى هذا البلاء! خلفاء المسلمين هم أوّل من أدخل الماسونية إلى بلاد المسلمين!!
فإذا كان الأخ كاتب (فك الشفرة) يرى كلام جرجي زيدان كلامًا يُوثَق به فهذا يعني أنه يقول بقوله في اتهام الخلفاء بالاستعانة بالماسون ، وبانضمام علماء التابعين وتابعيهم إلى الماسونية ، وكذلك يقرّه على اتهامه صلاح الدين بالماسونية (ولا أظنه يقول بذلك أبدًا) ولكن ما معنى أن يقبل كلامه في الأمير فقط!
إما أن يقبل الكل أو يرفض الكل فالمصدر واحد والاتهام واحد وانعدام البيّنة واحد.
وأمّا فيما يخص الأمير عبد القادر ، فإنّ جرجي زيدان تعرّض لذكره في آخر كتابه تحت عنوان ـ الماسونية في دمشق ـ وهي فقرة تتألف من خمسة أسطر فقط!! بدأها بقوله : ((دخلت الماسونية الرمزية إلى دمشق بمساعي الطيب الذكر المغفور له الأمير عبد القادر الجزائري. وأوّل محفل تأسس فيها هو محفل سورية بشرق دمشق تحت (شرق إيطاليا الأعظم) ولا يوجد في دمشق غير هذا المحفل وقد ترأّسَ عليه كثيرون من أعيان البلاد وأمرائها . وقد لاقى اضطهادًا قليلاً إلاّ أنه تغلّبَ على كل الصعوبات فثبتَ بمساعي الإخوة وتنشيطهم)).انتهى [تاريخ الماسونية ص156] ،
ثمّ تحدث بعد ذلك عن الماسونية في فلسطين ثم في تركيا إلى أن قرَّر تشرف الماسونية برضا السلطان عبد الحميد!![ص161] .
أقول: إذن الماسوني جرجي زيدان يزعم أنّ الأمير هو الذي أسس محفل "سورية" وأنه لا وجود لمحفل آخر في دمشق! وأنه لاقى اضطهادًا قليلاً! في حين أنّ الماسوني أنطوان عاصي يزعم أنّالأمير بعد عودته من باريس إلى سورية سنة 1865م أصبح عضوًا فخريًا في محفل "سورية" الذي كان ينتمي إلى الشرق الدمشقي . وهذا يعني أنّ المحفل كان موجودًا قبل الأمير!! ولكن يخالفهما الرأي صاحب (فك الشفرة) فهو يقول :تعاون راشد باشا مع الأمير عبد القادر بعد رجوعه من مصر بهذا الخصوص فأسَّسا محفل "سورية" أو الجمعية الماسونية، وكانت هذه الجمعية تتستر تحت اسم : (لجنة الإصلاح)!!! وصاحب (فك الشفرة) يعتمد في نقوله على جرجي وعاصي وأضرابهما!! . ومرَّ معنا قبل ذلك قول جرجي أن السلطان العثماني كان راضيًا عن الماسونية ، وصاحب (فك الشفرة) يقول إن مخلص باشا والي دمشق كان ماسونيًا وينشر الماسونية بجرأة وأنه كلّف الأمير بنشر الماسونية!! ونقل عن مكاريوس أن مفتي دمشق ونقيب الأشراف فيها وشيخ الأموي ومحدّث الشام وكبار العلماء في دمشق كانوا من الأعضاء في ذلك المحفل!!
إذن من الذي كان يضطهد الأمير ومحفل "سورية" إذا كان الوالي والسلطان مؤيّدان ، وشيوخ البلد والمُفْتُون فيها وأشرافها من الماسون؟!
فما هذا التناقض في الأقوال؟
ثم تحدث جرجي عن الماسونية في مصر إلى أن قال : ((وفي سنة 1845م [يعني عندما كان الأمير يجاهد الغزاة الفرنسيين في الجزائر!] تأسس في الإسكندرية تحت رعاية الشرق الأعظم الفرنساوي محفل اسمه "الأهرام" انضمَّ إليه كثيرون من الإخوة الماسونيين من جميع الطوائف والنزعات وكثُرَ أعضاؤه وكان يشتغل بعلم الحكومة المحليّة لا يخشى اضطهادًا ولا يبالي بما يقوله القائلون على غير هدى. ولهذا المحفل بالحقيقة الفضل الأعظم في بثّ التعاليم الماسونية في القطر المصري والتحق به قسمٌ عظيم من رجال البلاد من وطنيين وأجانب وفي جملتهم البرنس حليم باشا ابن ساكن الجنان محمد علي باشا والأمير عبد القادر الجزائري المشهور بالفضل والحلم وعزَّة النفس التي هي الصفات الماسونية الحقة!! وقد تمثلت في شخص هذا الرجل . ولا نزيد القارئ علمًا بما أتاه هذا الأمير في بلاده من البسالة وعلو الهمّة والحزم في حربه مع الفرنساويين في الغرب ، وما أبداه من كرم الأخلاق والشهامة أثناء حادثة الشام المشهورة ، فإنّه حمى في كنفه ألوفًا من المسيحيين الذين لولاه لهدرت دماؤهم والناس إذ ذاك فوضى لا سراة لهم)).انتهى [تاريخ الماسونية ص166]
ثم قال : ((ومن الرجال الذين شرَّفوا هذه العشيرة بحمايتهم ، ورعوها بعين رعايتهم ؛ سمو الخديوي إسماعيل باشا الأفخم!)).انتهى [تاريخ الماسونية ص171] .
أقول: عندما وجد جرجي زيدان نفسه أمام مشكلة كبيرة وهي الفارق الكبير بين صفات رجال الماسون الذين يتحدث عنهم سواء في أوربة أو في الشرق (من أمثاله وأمثال مكاريوس) وبين صفات الأمير عبد القادر السامية والمخالفة تمامًا لصفاتهم الوضيعة ، لم يجد بُدًّا من سرد صفات الأمير الحميدة التي لا يجهلها أحدٌ في ذلك الوقت ، ثمّ علّق عليها قائلاً إنها هي صفات الماسونية الحقة!!!
والأمر الذي يستحق الوقوف عنده هو ادّعاء جرجي أن الذين التحقوا بمحفل الأهرام كانوا أصلاً من الماسون ، ثمّ عطف عليه فقال والتحق بهم البرنس حليم باشا والأمير!! وكان ذكرَ قبل ذلك في الصفحة 158من تاريخ الماسونية ، أنّ ((في الأستانة مجلس عالٍ تركي وهو المجمع الوحيد الوطني أسسه الأخ الكلي الاحترام البرنس حليم باشا وهو رئيسه طول حياته)).انتهى! وهذا يُفهم منه أنّ حليم باشا لمّا التحق بمحفل الأهرام كان ماسونيًا ، وكذلك لمّا علّق على أعمال الأمير يُفهم من كلامه أنّ الأمير لمّا التحق بهذا المحفل كان ماسونيًا أيضًا! حيث جعل موقفه من أحداث 1860م من أثر الانضمام للماسونية ، وكذلك فعل أنطوان عاصي حيث صرّح بأنّ الأمير كُلِّفَ رسميًا بإنقاذ المسيحيين من قِبَل الماسون!! فالذي يُفهم من هذا الكلام أنّ الأمير انتسب للماسونية قبل 1860م وهذا مخالف لما زعموه سابقًا من أنّ الأمير انتسب للماسونية سنة 1865م!!! ليس هذا فحسب فقد مرَّ معنا في البداية أنهم زعموا أنّ الأمير انضم للماسونية وهو في السجن في أمبواز ، وفي هذا المقطع يوحي الكلام للبعض أن انتسابه كان سنة 1845م أي أثناء جهاده في الجزائر! ويؤيّده ما قاله عبد الحميد صمادي في مقالٍ له بعنوان ـ نظرات في الماسونيّة ـ وهو منشور على الإنترنت. قال : ((وفي عام 1845م تمّ تأسيس محفل آخر في الإسكندرية باسم (محفل الأهرام) رُخّص له من الدولة أيضًا ، وبهذا المحفل التحق الأمير عبد القادر الجزائري بطل الثورة الجزائريّة المشهور بعد نفيه من السلطات الفرنسيّة إلى دمشق ، ثمّ انتقاله إلى القاهرة!! وقبوله ضيافة (حليم باشا بن محمد علي باشا) الذي سبقه إلى الماسونيّة ، حيث قام حليم باشا بتقديم الأمير إلى المحفل الأعظم في الإسكندرية، وجرى استثناؤه ، ومنحه لقب أستاذ أعظم ـ البعض يعتبر أنّ الأمير كان ماسونيًّا قبل ذلك!! ـ.
و الأمير عبد القادر هو الذي أدخل الماسونيّة إلى الشام ..... ويؤكّد ذلك ما ورد في دائرة المعارف الماسونيّة : بأنّ المغفور له الأمير عبد القادر الجزائري الكبير أسّس أوّل محفل في دمشق ، و سمّاه محفل سورية ، وكان تابعًا للشرق الأعظم الإيطالي و ذلك سنة 1864م)).انتهى
طبعًا في كلام الصمادي أشياء عجيبة تفرّد بها وهي قوله أنّ الأمير انتقل من دمشق إلى مصر ونزل بضيافة حليم باشا ، وهذا غير صحيح ومخالف لكل مَنْ كتب في سيرة الأمير بل ومعارض لمجريات الأحداث، على كل حال المهم في هذا النقل أنّه يؤكد مسألة ادّعاء الماسون انتساب الأمير للماسونية قبل 1864، وهذا يظهر بوضوح مدى تناقضهم وكذبهم . والمعلوم أنّ البرنس حليم باشا مات في أواخر سنة 1862م ، إذن فمن غير المعقول أن يكون التقى بالأمير عبد القادر واستضافه ، ((والأمير لم يقدم إلى مصر إلاّ في 5/1/1863م ، والثابت أنّ الذي استقبل الأمير هو الخديوي سعيد باشا)). [انظر تحفة الزائر 2/121].
هذا كل ما استطاع جرجي زيدان أن يروّج له في كتابه بخصوص الأمير ، وطبعًا كل ذلك دون أدنى بيّنة أو دليل ، وإنما مجرّد افتراءات ضمن سلسلة تناقضات وتخبطات؟!
والعجيب حقًا كيف يرضى البعض الاستشهاد بكلام جرجي؟!
ومحلّ التعجب ليس محصورًا في سقوط وتفاهة كتاب جرجي ، وإنما في شخص الكاتب نفسه. فإنّ المدعو جرجي زيدان هو أحد أركان الكذب والدجل في القرن الماضي ، وهذا الصليبي الحاقد قد سخَّرَ حياته كلها لتشويه الإسلام والطعن فيه وفي رجاله ، بدءًا من رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مرورًا بأصحابه وذريّته وأئمة المسلمين وانتهاءً بالأمير عبد القادر!! وقد أُلِّف الكثير من الكتب لفضح هذا اللّعين وكشف زوره وبهتانه ، أذكر منها كتاب (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان) لفضيلة الشيخ أمين حسن الحلواني المدني المتوفى سنة (1316هـ = 1898م) وفيه بيان بالتزييف العجيب الذي قام به زيدان في نقله لأخبار التاريخ الإسلامي وأقوال رجاله ، وكتاب (انتقاد تاريخ التمدن الإسلامي لزيدان) تأليف العلاّمة شبلي النعماني ، وهو من رجال الإصلاح الإسلامي في الهند ، المتوفى سنة (1332هـ = 1914م) ، وحكم على جرجي بعد مناقشة أقواله والعودة إلى مصادره بأنه جريء على الكذب ، عظيم التدليس . وكتاب (جرجي زيدان في الميزان) لشوقي أبو خليل الصادر سنة 1980م .
[1] ـ وكذلك في طبعة دار الجيل 1984م (بيروت) .
-
الحلقة 14:فضيحة الكتّاب والكتب الماسونية ، جرجي زيدان يزعم أنّ صلاح الدين ماسوني!
وأرى من الضروري إعطاء الإخوة القرّاء لمحة إلى حياة هذا الشخص وآثاره الشنيعة ، وذلك لخطورة أمره فهو لا يكتب إلاّ في التاريخ الإسلامي والأدب العربي ، وقد يقع بعض الناشئة في شِباك أكاذيبه ، وخاصة بعد أن يجدوا في منتديات إسلامية مقالات لمسلمين تستدل بأقول ذلك المأفون!
وسأنقل لكم ما لخّصه الأستاذ الفاضل الدكتور مازن بن عبد القادر المبارك الجزائري في مقاله (جرجي زيدان وتاريخ الإسلام) (مجلة "المنتدى" العدد 99).
((أما جرجي زيدان فهو نصراني من لبنان ولد عام 1861م . اتصل فكريًا بجمعيّة الشبّان المسيحيين التي انتسب إليها . هاجر إلى مصر وعمل في جريدة "الزمان" ، وهي الصحيفة التي سمح لها الإنكليز بالصدور بعد أن عطّلوا صحافة مصر الحرة . قيل إنه عمل في الاستخبارات البريطانية ، ورافق الحملة الإنكليزية إلى السودان . زار إنكلترا ثم عاد إلى مصر وعمل في مجلة "المقتطف" ولم يلبث أن أصبح صاحب مطبعة الهلال وأصدر مجلة الهلال ، ومات سنة 1914م .
وكان اهتمامه فيما ألّف أو ترجم متصلاً بالتاريخ وتاريخ الإسلام ، وتاريخ الأدب العربي ، واللغة العربية ، وهي من الموضوعات التي أثارت وما زالت تثير اهتمام الكثيرين!
ووضع جرجي عددًا من الكتب التاريخية منها تاريخ التمدن الإسلامي ، وتاريخ مصر ، وتاريخ إنكلترا ، وتاريخ الماسونية .. وغيرها ، كما أخرج سلسلة من الروايات بعنوان "روايات تاريخ الإسلام".
وعُرِفَ عنه أنه كان يُترجم بعض ما في كتب الفرنسيين ويُضيف ما ترجمه إلى كتبه دون إشارة تدل على الترجمة ليُوهم أنه من تأليفه ، اتّهمه بذلك صراحة الأب اليسوعي لويس شيخو ، وذكر الدكتور أبو خليل أمثلةً تَدُلُّ على ذلك وتُثْبِتُه))
((وذَكَرَ الدكتور عمر الدسوقي أن جرجي زيدان رافق الحملة النيلية إلى السودان سنة 1884م مترجماً بقلم المخابرات)) ، ((وسُئِلَ الدكتور أحمد الشرباصي عن روايات جرجي زيدان فأجاب :"إن هذه الروايات لا تليق بالمسلم قراءتها ، لأنها وُضِعَت لتشويه التاريخ الإسلامي وتحريف حوادثه وقلب أموره رأسًا على عقب والنَّيْل من جماله وجلاله. وكأنما كانت هذه الروايات نتيجة لخطة أريد بها مسخ التاريخ الإسلامي في أنظار أهليه ..... ونجد في هذه الروايات أنّ صاحبها يدُسُّ في كل واحدة منها راهبًا من الرهبان يصوره بصورة البطولة ، يدافع عن الحريّات أو يدعو إلى المكرُمات ، فإن لم يختلق راهبًا اختلق ديرًا يصوّره على أنه معقل الجنود المسلمين الهاربين ، وحصن المجاهدين المطَاردين ..!"))
((قال الدكتور شوقي أبو خليل :"أبرز ما في حياة جرجي أنه أولاً : صَنَعَت شخصيّته المدارس التبشيرية في لبنان . ثانيًا : رجل استخبارات بريطانية" وقال : إنه "أظهر شعوبيةً وحقدًا على العرب، فلقد حقَّر جرجي ـ في ذهنه فقط ـ أمتنا وأظهر مساوئها ، بل ما ترك سيئة إلاّ وعزاها لأمتنا ، وابتزّ منها كل مكرُمة ، لقد جعل جرجي العربَ غرضًا لسهامه .. يرميهم بكل نقيصة وعيب وشر"
وقال :"روايات جرجي زيدان تعمَّدَ فيها التخريب والكذب لأجل تحقير العرب عن سوء قصد لا عن جهل .. تعمّدَ التحريف وتعمّدَ الدسّ والتشويه ، وتعمّدَ فساد الاستنباط مع الطعن المدروس! .. لعمالته الأجنبيّة وتعصّبه الديني الذي جعله ينظر إلى تاريخنا العربي الإسلامي وآداب اللغة العربية بعين السخط والحقد")).انتهى
ومن شدّة حقد جرجي زيدان على الإسلام والمسلمين أنه لم يترك أحدًا من أعلامهم إلاّ وتناوله بالتشهير والتشويه والطعن ، فبدأ برسول الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ بالصحابة والخلفاء والفاتحين ..
لقد نذر حياته الخسيسة لتشويه الإسلام ورجاله ، وذلك حتى يصرف غير المسلمين عن التفكير بالإسلام والدخول فيه ، وليزرع البغضاء في قلوبهم تجاه المسلمين ، وما أظنّه كان يحلم أن يأتي يوم تصبح فيه كتبه وكلماته مرجعًا لبعض المسلمين!!
وإليكم بعض أقواله الساقطة ؛
· ((قال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "إن سطوته انتشرت في جزيرة العرب ، ويسمى أتباعه المسلمين .... وهو لم يدع قافلة تمر بالمدينة إلاّ غزاها وفرّق أسلابها وأموالها بين رجاله"!!
· ووصف الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنه "تشغله فتاة تورّدت وجنتاها وذبلت عيناها ، وتكسّرت أهدابها ، واسترسل شعرها الأسود على ظهرها وصدرها"!!
· ومحمد بن أبي بكر ومروان بن الحكم يتنافسان على حب فتاة مسيحية .
· والصحابي ابن الحواري عبد الله بن الزبير "ملحد"!!!
· وسُكينة بنت الحسين "أمرت أشعب ، وكان مضحكاً لها ،أن يقعد على بيض حتى يفقس ، وقعد أيامًا ثم فقس البيض وملأت فراريجه الدار ، فسمتها بنات أشعب"!!
· وأما السيدة نائلة زوجة عثمان رضي الله عنهما ، فيصفها جرجي قبّحه الله وصفًا أخجل أن أنقله [انظر عذراء قريش ص32]
· وعبد الرحمن الغافقي "له خباء من النساء ، وفي خبائه عشرات من النساء ، وهو هائم بحب إحدى الفتيات ، وله قهرمانة تشرف على خباء نسائه .. وهي ذات نفوذ تولي وتعزل من تشاء"!!
· ويقول عن الخليفة المعتصم :"إنه أنشأ كعبة في سامرا ليحوّل المسلمين عن كعبة مكّة ويذهب بما بقي للعرب من مصادر الرزق حتى يميت عرب الحجاز لأنهم يرتزقون من الحُجّاج ، فأنشأ كعبة في سامرّا ليغني المسلمين عن الحجاز ، ولكنه ليس أول من فعل ذلك من الخلفاء أو الأمراء ، فقد حاول ذلك الحَجَّاج والمنصور ولم يُفلحا"!!
يتابع الدكتور مازن المبارك قائلاً : وكأني بجرجي .. يظن أن الحج إلى الكعبة صادر بمرسوم أو أمر من الخليفة! وأن الخليفة يستطيع أن يبني كعبةً حيث يشاء ، وأن يأمر المسلمين بالحج إليها ، وأن المسلمين يطيعون فيستغنون عن كعبة بيت الله الحرام في مكّة!!
والجدير بالذكر أن التاريخ يقول عن الخليفة المنصور الذي يتهمه جرجي بمحاولة بناء الكعبة أنه مات محرماً في طريقه إلى الحج على بعد أميال من مكّة.
وما لنا نعدد الأسماء؟ ولم لا ننظر إلى ما قاله عن العرب والمسلمين كافّة؟
· يقول جرجي "لم يبق أحدٌ يحاربنا إلاّ ثلاثة : العرب والمغاربة والأتراك ؛ والعربيّ بمنزلة الكلب (هكذا!) اطرح له كسرة واضرب رأسه ، والمغاربة أكلة راس ، والأتراك ما هي إلاّ ساعة حتى تنفد سهامهم ، ثم تجول الخيول عليهم فتأتي على آخرهم ، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم" [انظر (عروس فرغانة) ص168]
· وفي مجال الصراع بين العرب وخصومهم يقول "إن السِّخال لا تقوى على النطاح ، والبغال لا صبر لها على لقاء الأُسْد"!!
· ويقول :"إنّ ما عند كسرى من ذهب وحجارة كريمة ذهبَ كلّه غنيمة للمسلمين ، وهم يومئذ أهل بادية ، حفاة عراة ، لا يفرّقون بين الكافور والملح ، ولا بين الجوهر والحصى ..فاقتسموا الآنية ، وقطّعوا الأبسطة ، ومزّقوا الستائر . وكان نصرهم من آيات تغلب البداوة على الحضارة"!!)).انتهى
هذا غيضٌ من فيض نتن من آثار جرجي زيدان ذلك الكذاب الأشر والحاقد والمزوّر القذر.
وهو المرجع الذي يعتمد عليه المتهجّمون على الأمير!
ومرّ معنا آنفًا كيف اتّهم الكذّاب جرجي القائد صلاح الدين بالماسونية ، ومن قبله الخليفة الوليد بن عبد الملك! بل وعلماء المسلمين وفقهاءهم.
فالذي يفتري كل هذا الكذب والبهتان هل يصعب عليه أن يفتري على الأمير عبد القادر ويتهمه بالماسونية؟!
ثمّ إذا كانت الماسونية دخلت إلى سورية من أيام الوليد وصلاح الدين فلماذا يقول جرجي إن الأمير هو أول من أدخلها إلى سورية؟! الجواب : لأنّه كذّاب أشر في كلّ ما قاله وادَّعاه .
والعجيب من الأخ صاحب (فك الشفرة) أنّه لم يطلب من كل هؤلاء الكذّابين الحاقدين الصليبيين أي برهان أو بيّنة!!
والحديث عن تفاصيل قصّة ادعاء الماسونية لانضمام الأمير إليهم سيأتيكم إن شاء الله
في الحلقة القادمة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
خلدون مكّي الحسني
للبحث صِلة إن شاء الله
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
سلمت يمينك يا شيخ خلدون، وسدد الله قلمك..
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
بارك الله فيك و نفع بجهودكم .
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
السلام عليكم ورحمة الله
أشكر الأخوين (أبو الحسين العاصمي) و(أبو عبد الأعلى) على دعائهما ولطفهما .
وكنتُ أرجأت نشر الحلقة الأخيرة بسبب الحرب العالمية الهمجية على المسلمين في غزّة ،
أسأل الله تعالى أن يفرّج عن إخواننا في غزّة ويدفع عنهم عدوّهم ، ويثبت أقدام المجاهدين ويُفرغ عليهم صبرا ،
وأن يمدّهم بملائكة من عنده ، وأن يسدد رميهم.
وأسأله تعالى وهو المنتقم الجبّار أن ينزل عذابه على جيش اليهود ويلقي في قلوبهم الرعب ويجعلهم يقتلون أنفسهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، ويردهم خزايا وخاسرين. آمين آمين آمين
-
الأمير: وثائق ماسونية مزورة والنجمة السداسية وقناة سويس وآل روتشيلد و..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الخامسة عشرة
إنّ الذين اتّهموا الأمير عبد القادر الجزائري بالماسونية ، لم يكن لديهم أي مستند صحيح! وإنما هي مجرّدُ تخرُّصات منشؤها إساءة الظن في فهم بعض الأحداث أو المواقف! ولقد مرَّ معنا سابقًا كيف استند بعضهم إلى حادثة 1860م ـ ومساهمة الأمير مع باقي أعيان دمشق في حماية المواطنين النصارى في دمشق من التقتيل ـ في جعلها دليلاً على ماسونية الأمير ، وقد بينتُ سقوط هذا التخرّص وبطلانه.
وكذلك استند بعضهم إلى الأوسمة والنياشين التي مُنحت للأمير ، وقد بيّنتُ قصّتها وبطلان هذا الافتراء . والبعض الآخر استند إلى كلام بعض الشخصيات الماسونية الحاقدةِ على الإسلام ورجاله، والمخرِّبَةِ لتاريخهم ، أمثال المدعو جرجي زيدان ، ومكاريوس! وقد بيّنتُ في الحلقة السابقة بطلان هذا المستند أيضًا.
وفي الفيلم المُغرض الذي تعرضه قناة "العربية"([1]) من حين لآخر ـ وهو الذي اقتبس منه الأخ صاحب "فك الشيفرة" فيما يبدو بعض فقرات مقاله ـ وجَّه المُخَطِّطُ للفيلم سؤالاً إلى أستاذ فرنسي يُدعى "برونو إيتيان" وهو عضو في معهد فرنسة الجامعي ، عن علاقة الأمير بالماسونية؟
فأجابه الأستاذ الفرنسي قائلاً : ((إن الرسائل والإثباتات موجودة في الأرشيف الفرنسي.. ففي تلك الحقبة كان عبد القادر بحاجة إلى حلفاء في الغرب ، إذ كان يُفكر أنّ الغرب لديه التكنولوجيا ، والشرق لديه الروحانية . إذن كانت الكنيسة الكاثوليكية مع المسيو ديبوش أحد هذه العناصر الممكنة لهذا التبادل الذي يقوم على الحوار بين المسيحيين والمسلمين :هذه هي الماسونية)).انتهى بحروفه!
أرأيتم إلى هذا الخلط العجيب! الأستاذ الفرنسي عرّف الماسونية أنها تبادل بين الغرب والشرق ، الشرق الذي يملك الروحانيات (يعني التديّن) والغرب لديه التِّقَانة الصناعية ، فالذي ينقل التقانة من الغرب المسيحي إلى الشرق المسلم ، ويجادل المسيحيين بالتي هي أحسن يكون ماسونيًا برأي هذا الأستاذ!!
وبناءً على هذا التقرير الفريد يمكننا إلصاق صفة الماسونية بمعظم رجالات المسلمين في عصرنا هذا!
وكما يرى الجميع فهذه شبهة مردودة بداهةً ولا حاجة إلى التطويل في ردّها.
والعجيب من الأخ محمد مبارك صاحب "فك الشفرة" أنه رضي بكلام هذا الفرنسي على نكارته ، ولم يأخذ بكلام السيد الفاتح الحسني ابن سعيد حفيد الأمير عبد القادر الذي عُرِض في نفس الفيلم قبل كلام الأستاذ الفرنسي! والسيد الفاتح قال بكل وضوح وصراحة : ((أنّ والده الأمير سعيد كان ماسونيًا، ولكن جدّه الأمير عبد القادر لم يكن ماسونيًا قط ولديه إثباتات على ذلك!)).
كل هذه الشبهات ـ وغيرها مما سآتي عليه في هذه الحلقة ـ روّج لها بعض الكتّاب والصحفيين المشغولين بالشأن الماسوني إلى حدٍّ زائد! وعنهم وعن أمثالهم من الغربيين اقتبس واعتمد بعض الإخوة طلاب العلم ظنًا منهم أنّ ما كتبه هؤلاء صحيح أو ثابت! (كما جرى مع الأخ محمد المبارك صاحب "فك الشيفرة") ، ولكن القارئ لتلك الكتب والمقالات يدرك بوضوح أنها غير علمية ولا يمكن الاعتماد عليها أو وصفها بالمراجع! وهي أشبه ما تكون بالأسلوب الصحفي غير المسؤول! يعني جمع أوراق وقصاصات وكلام من هنا وكلام من هناك ، وتفاصيل كثيرة لا أساس لها ، ثم دمج الجميع في سياق تسيطر عليه أفكار سابقة وأوهام مطبِقَة ، وذلك إمّا رغبة في سَبْقٍ صحفي بخبر مدهش ، أو لمرض نفسي مُزْمِن . كما نسمع اليوم مثلاً:
1ـ نهر الفرات موجود في الجزيرة العربية وليس في الشام!
2ـ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُهاجر!!
3ـ كلمة "النساء" في اللغة العربية تعني "الرجال"!!
4ـ القائد التركماني أورخان بن عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه بن قيا ألب ، عربي قرشي ومن المدينة!!
5ـ الخليفة الوليد بن عبد الملك استعمل الماسون لبناء المسجد الأقصى!!
6ـ القائد صلاح الدين الأيوبي ماسوني!!
ومن أمثال هذه الأخبار العجيبة السخيفة المخالفة للبدهيات.
في حين أنّ القارئ لكتب العِلْميين المحققين أهل التخصص ، يجد الفارق الكبير بينها وبين تلك الكتب الصحفيّة . وأضرب لكم مثالاً على ما أقول بعرضِ مقطعٍ من كلام الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري المتخصص في الشؤون اليهودية وتوابعها ، وذلك نقلاً من موسوعته الضخمة((موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية)) :ففي المجلد الخامس: الباب الحادي عشر: العبادات الجديدة ؛تحت عنوان: الماسونية : تاريخ وعقائد،
يقول الأستاذ المسيري : ((ولكن الماسونية البريطانية لم تكن الماسونية الوحيدة التي انتشرت في المستعمرات، إذ إن الصراع الإمبريالي على العالم انعكس من خلال صراع بين الحركات والمحافل الماسونية، فكان كل محفل ماسوني يخدم مصلحة بلد ويمثله، تمامًا كما حدث صراع بين المبشرين البروتستانت والمبشرين الكاثوليك الذين كانوا يمثلون مصالح بلادهم. ويبدو أن بعض الشخصيات المهمة في العالم العربي أرادت أن تستفيد من هذا الصراع، وخصوصًا أن أعضاء هذه المحافل كانوا من الأجانب ذوي الحقوق والامتيازات الخاصة المقصورة عليهم. فكان الدعاة المحليون ينخرطون في هذه المحافل بغية توظيفها في خدمة أهدافهم، وحتى يتمتعوا بالمزايا الممنوحة لهم. وكان من بين هؤلاء الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والأمير عبد القادر الجزائري. ولعل هذه الشخصيات الدينية والوطنية حذت حذو ماتزيني وغاريبالدي وغيرهما ممن حاولوا الاستفادة من أية أطر تنظيمية قائمة. ولنا أن نلاحظ أن الأفغاني قد اكتشف حقيقة الماسونية في وقت مبكر، وتَوصَّل إلى الأسس العلمانية التي يقوم عليها خطابها الديني، ومِنْ ثَمَّ ناهض هذه الأفكار في كتابه الرد على الدهريين. أما عبد القادر الجزائري فلا توجد تفاصيل حول علاقته بالماسونية!! وإن كان قد حاول إيجاد أطر تنظيمية وتأسيسية لحركته مع الاستفادة من أسلوب التنظيمات الماسونية)).انته [موسوعة اليهود 5/385]{وليت الإخوة المهتمين بالموضوع يرجعون إلى بحث الماسونية في موسوعة المسيري فإنه بحث عميق ومفيد. أقول هذا بعد أن قرأت عشرة مراجع في موضوع الماسونية كان آخرها موسوعة المسيري ، فوجدت أنّه قد أحاط بالقضيّة وهضمها واستطاع عرضها على الوجه الصحيح إن شاء الله}
القارئ يرى بوضوح أنّ الدكتور المسيري مستوعبٌ للمسألة من جميع أطرافها ، ويضع الأشياء في نصابها. وهو يُحسن التعامل مع المعطيات ، فعندما وقف أمام مسألة انضمام الأفغاني إلى الماسونية أثبتها لأنّه استطاع أن يتيقَّنَ هذه المعلومةَ من معطيات علمية وتحقيق فيها ، ثم بعد ذلك عالج حقيقة هذا الانضمام ودوافعه ، وبعد ذلك نبّه على معارضة الأفغاني للأفكار العلمانية التي يقوم عليها الخطاب الديني الماسوني. في حين نجد الدكتور المسيري عندما وقف أمام مسألة انضمام الأمير عبد القادر إلى الماسونية لم يجزم بثبوتها وإنما أوْرَدَها على صورة خبر يحتاج إلى دليل وعبّر عن ذلك بقوله : ((أما عبد القادر الجزائري فلا توجد تفاصيل حول علاقته بالماسونية!!))
أليس عجيبًا أن إنسانًا مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري ـ صاحب الموسوعة الكبيرة التي استغرق في تأليفها ووضعها عدة عقود من الزمن واستند فيها إلى كمٍّ هائل من المراجع والوثائق وهو الخبير في الشؤون الصهيونية ـ لم يجد أي تفاصيل عن علاقة الأمير بالماسونية ، في حين نجد أن بعض الكتاب والصحفيين وهواة الكتابة في الإنترنت يسردون عشرات التفاصيل عن هذه العلاقة؟! والدكتور المسيري رحمه الله، توفّي من قريب سنة 2008م ، فهو مُطَّلِعٌ على الكتب والمقالات التي صدرت في هذا الخصوص ، ولو أنّه رأى أنّ المعلومات التي فيها تصلح للنظر لَنَظَرَ فيها ، ولكنه كما هو ظاهر لم يرها ترقى لِيُنْظَر فيها أصلاً! وأظن أنّ الإخوة القرّاء الذين تابعوا معنا هذه الحلقات يشاركون الأستاذ المسيري رأيه ، لأنه صار من الواضح أن المعلومات التي أوردها أصحاب تلك الكتب مصدرها واحد، وهو مصدر ساقط الاعتبار. وإذا كان الدكتور المسيري قد اقتصر على بيان عدم وجود تفاصيل حول علاقة الأمير بالماسونية ، فأنا في هذه الحلقات أظن أنني أوضحت بجلاء تهافت جميع الشبه المتعلقة بذلك والتي عدَّها البعض ـ ويا للأسف ـ تفاصيل يُعتمد عليها! وسأتابع معكم إن شاء الله بيان سقوط باقي الشبه فيما يأتي.
فاليوم نحن أمام شبهة جديدة اعتمد عليها بعضهم في اتهامهم الأمير عبد القادر بالماسونية ؛ إنها الرسالة التي بَعَثَتْ بها (الجمعية الفرانماسونية بفرنسة) إلى الأمير عبد القادر تشكره فيها على موقفه المشرّف من أحداث 1860م. وإليكم نصّها: ((إلى الأمير الأجلّ عبد القادر في دمشق ، اعلم أيّها الأمير أنّ العالم المتمدِّن قد كلَّل هامَتَكم الشريفة المقدسة بإكليل الشرف والافتخار ونحن نقدّم إليكم فرحنا بكونكم تَسَمَّيْتُم : مِنَ المحكومِ لهم بحسن السيرة مِنْ أيّ فرقة كانوا أو دين ، الذين أظهروا أنفسهم بكمال الإنسانية ، وأنتَ أظهرتَ نفسك إنسانًا قبل الكل ، ولم تسمع إلاّ إلى إلهامات ربّانية في قلبك أمَرَتك بمقاومة نار مشتعلة من الهيجان البربري والتعصب الجاهلي ؛ نعم إنّك النائب الوحيد للأمّة القوية العربية، التي أوربا مديونة لها بقسم عظيم من تمدنها وعلومها التي استنارت بها، ولقد أثبتَّ بأعمالك وبكريم شيمك أنّ هذا الجنس لم ينحطَّ اعتبارُه السابق ، وهو وإن كان الآن في سِنَةٍ من النوم فسَيَستيقظ للأعمال العظيمة باستدعاء نفسٍ قويّة نظير نفسِكَ . وانظر فرانسا التي كانت خصيمتك فإنها الآن عَرَفَت كيف تعتبرك وتبتهل بك ، وما ذلك إلاّ لكونك أعطيت للتمدّن حقّه ؛ أيها الأمير لك المجد والشكر تكرارًا ، فالإله الذي نسجد له جميعًا والذي عرشه داخل قلوبنا وقلوب كافّة الكرماء يُتمم عمله بكم في الخير ، أفلا يُنْظَر إلى العناية الإلهية، بعد تقلبات عديدة كيف أتت بكم إلى تلك البلاد لأجل تبديد ظلمات الجهل وإطفاء نار التعصب الجاهلي ، وإنقاذ تعيسيْ الحظ من يد الجهلة . واعلم أيها الأمير الأجلّ أننا واثقون بأن تقبلوا منا هذه الرسالة وإن كانت لا قيمة لها. حرر في باريس 2/10/1860م)).انتهى[انظر (تحفة الزائر) 2/101]
هذه الرسالة لم تكن مكتومة أو سريّة ، ولم يُخفها أحد من أسرة الأمير ، وأول من نشَرَها هو محمد باشا ابن الأمير عبد القادر في كتابه المذكور.
وكما يرى القارئ فمضمون الرسالة عبارة عن شكر وثناء وإعجاب أبدته هذه الجمعيّة لشخص الأمير ، وكيف لا تفعل ذلك وهي الجمعيّة التي تروّج لنفسها بأنها المعنيّة بحقوق الإنسان والأخوة الإنسانية والنجدة!! وليس في الرسالة أي شيء يشير إلى كون الأمير من أعضاء تلك الجمعية أو المنتسبين إليها ، بل ليس فيها ما يدل على أنّ الأمير كان يعرف تلك الجمعية أصلاً! وإن أسلوب الخطاب فيها هو أوضح دليل على أنّ الأمير لا صِلَة له بهذه الجمعيّة.
فهل مجرَّدُ وصول رسالة من جمعيّةٍ ما إلى أي شخصيّة مشهورة ، يُعدُّ دليلاً على صِلَة تلك الشخصية بتلك الجمعية؟ الجواب : طبعًا لا!
ولكي أزيد الموضوع وضوحًا أقول : تحدثتُ في حلقات مضت ، عن موقف الأمير عبد القادر من الأحداث التي جرت سنة 1860م في دمشق (فتنة النصارى) ، وكيف تلقى الأمير بعدها رسائل الشكر والتقدير والأوسمة من الخليفة والسلطان العثماني ، وكذلك من ملوك وقياصرة أوربة.
لم يكن هؤلاء وحدهم الذين أرسلوا إلى الأمير رسائل الشكر والتقدير ، وإنما شاركهم في ذلك الكثير من الأدباء والعلماء والوجهاء العرب ، المسلمين والمسيحيين ، الذين نظموا القصائد والمدائح وأهدوها إلى الأمير ، وألّفوا الكتب التي تدوّن وقائع تلك الحادثة وأهدوها إليه أيضًا ، وكذلك شاركت في ذلك بعض الجمعيات الخاصة والأهلية ، ومنها ما هو أوربي أو أمريكي ؛ فأرسلت إلى الأمير رسائل تشيد بمواقفه وأخلاقه وشرفه .
أذكر منها :
1ـ (جمعية عمل الخير وإعانة المصابين في البرّ والبحر) . وهذا نصُّ ما بعثت به إليه : ((إنّ جمعية المصابين المؤلّفة من أعيان الأمصار ووجوه المدن الشهيرة في فرنسة ، قد اتّفقت كلمتها على أن يكون الأمير عبد القادر رئيسَ شرفٍ لها ، وإنما فعلتْ هذا لتؤكد له عظيم اعتبارها لجنابه الشريف، وجزيل تشكراتها الفائقة لما أبداه من أعمال الخير الجسيمة في سورية سنة ستين وثمانمئة ، وبناءً على ذلك بعثت إليه هذا الرَّقيم كالشاهد على عقدها لِمَا اتّفقت عليه ، وذلك في باريس آخر يونيو (حزيران) سنة إحدى وستين)).انتهى [تحفة الزائر 2/111ـ112]
2ـ (الجمعية الشرقية) . وكانت الجمعية الأمريكية الشهيرة بالشرقية القائمة بتأليف تاريخ العالم ، سبقت (جمعية عمل الخير) إلى مثل ما فعلته ، وأرسلت إلى الأمير نسخةً من تقريرها؛ وصُورَتُه : ((بناءً على تقرير الجمعية الأميركانية الشرقية ، وعلى قرار المجلس قد أعلنت بتعيين الأمير السيد عبد القادر بن محيي الدين ، عضوَ شرفٍ لها تتشرف بذِكْرِه ، وبعثت إليه بهذه النسخة المطابقة للأصل إعلانًا بما قررته في باريس في الثاني عشر من (تموز) سنة ستين وثمانمئة وألف)).انتهى [تحفة الزائر 2/112]
ونلاحظ في خطاب هاتين الجمعيّتين أنّ أعضاءها قاموا بتسمية الأمير رئيسَ شرفٍ للجمعية الأولى، وعضوَ شرفٍ للثانية!! في حين أنّ خطاب الجمعية الماسونية ليس فيه شيء من ذلك!!
فلو أراد أحدُ هواة توجيه التُّهم أنْ يختلق تُهمة ويُلصقها بالأمير ، لكانت تلك التهمة هي انتساب الأمير إلى جمعية إعانة المصابين أو الجمعية الشرقية! لأنّه سيجد في نص رسالتيهما ما يُلبّس به على الجهلة من الناس! بخلاف رسالة الجمعية الماسونية التي لن يجد فيها العبارات التي تساعده على إلصاق تلك التهمة! ولكن العجيب أنّ الذي حصل هو العكس!!
ومع ذلك أقول : إنه حتى في نص الرسالتين الموجّهتين إلى الأمير من جمعية إعانة المصابين والجمعية الشرقية ، ليس هناك ما يدلّ على انتساب الأمير إليهما البتّة! وكل ما في الأمر أن أعضاء الجمعيّتين عيّنوه عضوَ شرفٍ فيهما من تلقاء أنفسهم ودون أي طلبٍ منه ، ولا شأن له هو في ذلك لا من قريب ولا من بعيد! وهذه جمعيات خيريّة وهي تشكره على صنيعه فلم يكن هناك أي ضرورة لرفض تصرفاتها تجاهه ، بل لو حدث شيء من ذلك لكان في غير مصلحة المسلمين!
ونعود إلى ذكر الذين أرسلوا إلى الأمير رسائل الشكر والثناء:
3ـ (جمعية حماية بني الوطن) ، وفي أيّام زيارته إلى مدينة "لوندرا" في بريطانيا ـ وذلك بعد زيارته لفرنسة سنة 1865م مُرْسَلاً من قِبَل السلطان للقاء نابليون الثالث ليطلب منه التوسط لدى قيصر روسيا لإطلاق سراح زعيم الجهاد الشيشاني ، الشيخ شامل الداغستاني ـ قدَّمَتْ إليه هذه الجمعية تحريرًا صوْرَتُه : ((إلى سمو الأمير عبد القادر أما بعد : فنحن الواضعون اسمنا في هذا التحرير عمدة جمعية حماية بني الوطن قد سررنا وابتهجنا عندما سمعنا بوصولك إلى عاصمتنا لأننا نحب شخصك ونحترمه نظرًا لِمَا نعرفه من حسن أخلاقك ، وصفاء طويّتك لسائر عباد الله ، ولا يخفى أنّ مبادئ هذه الجمعية التي نحن مرتبطون بها ، توجب علينا أن نحبّ ونحترم أبناء الشَّرَف ، وتلزمنا بمراعاة مصالحهم ؛ وقد رجَحَ ميلنا لنحوك لأنك مملوء بالشفقة والرحمة على عباده تعالى ، وبرهان ذلك ما أبديته مع ألوف من مسيحيي دمشق حين التجؤوا إليك ، فإنّك آويتهم وبالغت في الإحسان إليهم مع أنهم ليسوا من أبناء دينك! فنحن الآن بالنيابة عن نصارى هذه العاصمة نؤدي لك الشكر والثناء الجميل حيث أنك جبرت المنكسرين، ثم نخبرك أننا قد تمثّلنا بين يدي إمبراطور فرنسة وأدَّينا له ما يليق بعظمته من الشكر على إحسانه إلى سكّان الجزائر ، ونفرح الآن بكوننا نخاطبك أيها السيد المحترم ونسأل الله تعالى أن يديمك رحمةً للمساكين زمنًا طويلاً)).انتهى [تحفة الزائر 2/160]
4ـ جريدة (مندابلوسنمري) الفرنسية ، التي نشرت في عددها الصادر في 4/8/1860م تحت عنوان : "عبد القادر أمير (مْعسكر) سابقًا" ما نصّه : ((إنّ حوادث سورية المحزنة قد أظهرت للوجود اسمًا كان محجوبًا بغياهب الغربة ، وهو ذاك الاسم الذي طالما كررته ألْسِنَة الأمّة الفرنسوية بالرَّجفة والاضطراب ؛ هو ذلك الاسم المرسوم بأحرف دمويّة من شاطئ نهر (شْلف) إلى رمال الصحراء في الجزائر . وقد أبدت له قناصل الدول ونصارى دمشق الشكران الجميل في سورية ، وبذلك انكشف عن مزاياه الحجاب الذي كان ساترًا لها ، وغدونا جميعًا نتبارك باسم عبد القادر ؛ وهو الذي اقتحم الأخطار لأجل أولئك المساكين من أيدي سافكي الدماء ثمّ جمعهم في قصره وأفاض عليهم من سجال كرمه وبرّه ، وقام فرسان المغاربة الأمناء بمساعدته أحسنَ قيام فبذلوا وسعهم في انقاذ المسيحيين وحمايتهم من اعتداء سفهاء الشام والدروز ، هو ذلك الرَّجل الذي كان يلوح على وجهه أمارات الثبات ، وعلامات الحزم والفطنة ، مما يدل على شرفه واتّصال نسبه بالرسول! هو ذلك الرَّجل الذي أقام في منفاه سنين ولم يتغيّر عمّا كان عليه من المحافظة على الأوامر الشرعيّة!، وأداء الحقوق الثابتة للإنسانية ، هو ذلك الرجل الذي كان عدوًا لدولة فرنسة وأقام مدّة سبع عشرة سنة ينادي بالجهاد فيها ؛ ثمّ إنّ ما نَسَبَه إليه أعداؤه من الأفعال غير اللائقة كقتل الأسرى والحنث في اليمين إلى غير ذلك مما نسبوه إليه ، ويأباه طبعُه الكريم ، قد كذّبه تحريرُه الشهير الذي بعثه إلى لويس فليب ملك فرنسة الدّال على كرم أخلاقه ولطف جانبه...... وغاية الأمر فإنّ مزايا الأمير وأخلاقه الكريمة كانت دليلاً على شرف نفسه وتقدّمه في الجزائر كما هو الآن في سورية ، وبرهانًا قويًا على طهارة قلبه وإرادته الخير إلى سائر عباد الله ....الخ)).انتهى [انظر (تحفة الزائر) 2/112ـ113]
5ـ ونشرت جريدة فرنسية أخرى مقالاً فيه : ((الأمير عبد القادر هو ذلك الرجل الباسل الذي أبدى أمورًا وأعمالاً لم يكن أحدٌ يتصورها ولذلك كانت جديرة بأن تدوّن في أجمل تواريخ العالم ، وآخر ما نقول إنّ عدونا القديم في الجزائر قد جعله الله الآن سببًا لإنقاذ المسيحيين في الشام)).انتهى[تحفة الزائر 2/114]
6ـ ليس هذا فحسب ، ((ففي مدّة إقامة الأمير في الحجاز سنة1280هـ = 1864م ، توفّي ملك اليونان وانعقد مجلس نواب الأمة اليونانية في أثينا للنظر فيمن يولونه عليهم ملكًا ، فكتبوا اسم الأمير في المنتخبين لذلك ، ونادى كثيرٌ منهم باسمه ،
7ـ وكذلك أهل إسبانيا قد انتخبوه في جملة من انتخبوهم للمُلك عليهم حين وقوع الفتنة بينهم قبل أن يتولى ملكهم المتوفى أخيرًا. فتشكّر الأمير للأُمّتين على اعتبارهما لمقامه بما دلَّ على ما تكنّه صدورهم من احترامه وإعظامه)).انتهى [6و7 من تحفة الزائر 2/145](يذكرني هذا بما حدث في أيامنا هذه عندما طلب بعض النواب الإسلاميين في الأردن من (هوغو شافيز) رئيس فنزويلة أن يكون رئيسًا للجامعة العربية أو رئيسًا لمنظمة المؤتمر الإسلامي! وما ذلك إلاّ بسبب موقفه الشجاع والرجولي عندما طرد السفير الإسرائيلي من فنزويلة وقطع علاقات بلاده مع إسرائيل فور وقوع الهجوم اليهودي الهمجي على غزّة 1430هـ /2009م ، وزيادة على ذلك خطب عدة خُطَب هاجم فيها النظام الإسرائيلي ووبَّخه)
8ـ وكذلك كان معظم الشعب الفرنسي يحترم الأمير عبد القادر ويجلّه ، وقد تجلّى ذلك بداية في الاحتفالات التي أقاموها بمناسبة إطلاق سراحه من السجن ، وازدحام الناس بشدة في شوارع المدن الفرنسية التي كان يمرّ بها في طريقه من سجنه في "أمبواز" إلى العاصمة "باريس" ، وليس لتلك الحشود همٌّ إلاّ النظر إلى الأمير ومحاولة مصافحته أو إلقاء التحيّة عليه . وحتى بعد سفر الأمير من فرنسة متّجهًا إلى "بروسة" في تركيّا وبقائه فيها ثلاث سنوات ثمّ انتقاله إلى دمشق وبقائه فيها تسع سنوات، عاد الأمير فزار فرنسة ، بعد اثني عشر عامًا ، وذلك خلال رحلته السياسية المشهورة التي بدأها بزيارة الخليفة العثماني في الآستانة ؛ والتي كان من جملة أغراضها التوسط والشفاعة في أعيان دمشق الذين حكمت عليهم السلطات العثمانية بالنفي إلى "قبرص" و"روديس" إثر حادثة (فتنة النصارى) سنة1860م التي فصّلت الحديث عنها سابقًا ، وقد قَبِل الخليفة شفاعة الأمير وسرّح المنفيين وأعادهم إلى أوطانهم؛ ثم طلب الأمير من الخليفة التوسط لإطلاق سراح الشيخ شامل الداغستاني ، فأخبره الخليفة أنه مستعدّ لكفالته واستقباله في أراضي الدولة العثمانية ، ثم أرسَلَه إلى فرنسة ليُقابل الإمبراطور لويس نابليون ، ويطلب منه التوسط لدى قيصر روسيا لإطلاق سراح الشيخ شامل ؛ ((وعند وصول الأمير إلى مدينة "مرسيلية" استقبله حاكمها بالاحترام واهتزّت البلد بأهلها لقدومه ، فإذا خرج من محلّ نزوله تبعته زُمَرُ الأهالي ينظرون إليه احتفالاً به واحتفاءً ، وكانت جماعات كثيرة تجتمع في ساحة الدار النازل فيها ، ويصرخون : "فليعش الأمير عبد القادر". وكذلك الحال في مدينة ليون وباريس.
واستنفرت الجرائد والمجلاّت للحديث عن الأمير وعن لطفه وكماله وافتخار بلادهم بزيارته)).انتهى [انظر (تحفة الزائر) 2/157ـ158]
9ـ واحتفل الشعب الأمريكي بتسمية إحدى مدنه في ولاية (Iowa) باسم الأمير عبد القادر (وذلك بعد وفاته).وهذا الاسم باقٍ إلى اليوم.
إذن الشعوب الغربية كانت تحترم الأمير وتُكن له التقدير والإعجاب ،
والسبب الأوّل: هو موقفه الشجاع في الدفاع عن بلده وهو شاب عمره خمس وعشرون عامًا ، وإقامته للإمارة الإسلامية التي وقفت في وجه الاعتداء الفرنسي مدّة خمسة عشر عامًا ،
والسبب الثاني: هو ثباته على مواقفه وثوابته الدينية مدّة سجنه خمس سنوات ، على الرغم من التضييق عليه وصعوبة السجن وفقدانه لبعض أبنائه وأقاربه وأحبابه فيه.
والسبب الثالث: حزمُه في الدفاع عن دين الإسلام ورفضه لجميع المغريات والعروض الفرنسية التي تريد منه البقاء في فرنسة بصفة مواطن فرنسي!
والسبب الرابع: موقفه في الدفاع عن المواطنين النصارى العزّل في بلاد الشام عندما اعتدى عليهم الدروز وبعض أشقياء الشام . والغرب المسيحي كان يظن ويُوهَمُ أنّ جهاد الأمير وحربه على فرنسة إنما هو بسبب الحقد على المسيحيين ، فلمّا شاهدوا الأمير يبذل وسعه في مساعدة المسيحيين المنكوبين في الشام ، أدركوا أنه لا يضمر الكراهية أو الحقد للديانة المسيحية أو لمعتنقيها . وأنه ليس بالسفاح أو محب سفك الدماء ، وإنما هو رجلٌ منضبط بأوامر دينه الإسلامي، الذي يأمره بجهاد المعتدين ، وبالوفاء بذمّة الكتابيين النّازلين تحت الحكم الإسلامي!
والسؤال الموجه إلى الذين استندوا إلى رسالة الشكر الموجهة للأمير من الجمعية الفرانماسونية هو : هل سمعتم عن رجلٍ وُجِّهت إليه مثل كل تلك الرسائل والكتب والمقالات والأوسمة التي وُجِّهَت إلى الأمير عبد القادر؟!
وهل سمعتم عن رجلٍ يُرشَّح اسمُه ليكون رئيسًا لدولتين مثل اليونان وإسبانيا ، مع أنّه عربي ومسلم؟!
وهل سمعتم عن رجل عربي مسلم أحبّته شعوب الغرب فأطلقت اسمه على بعض مدنها ، وأعلنته رئيسَ شرفٍ لجمعيتها ، وهتفت باسمه؟!
وهل سمعتم عن رجل عربي مسلم قاتل دولةً مثل فرنسة ولم يبقَ فيها بيتٌ إلاّ وفيه فقيد أذهبته سيوفُ جنودِ ذلك الرجل ، ثم بعد ذلك تتعالى أصوات شعب تلك الدولة لإطلاق سراح ذلك الرجل ويتسابقون لمصافحته والتبرّك به؟!
وهل سمعتم عن رجلٍ تستنفر جرائد وصُحف الدولة ، التي كان يقاتلها ويُحمِّلها الخسائر الكبيرة في أموالها وأبنائها ، للدفاع عنه والانتصار له ، ليس هذا فحسب بل تهاجم حكومَتَها ومواقفها المخزية الرامية إلى تشويه سمعة ذلك الرجل؟!
وهل سمعتم عن رجلٍ عربي مسلم تثني عليه المجتمعات الأوربيّة فتحمد له تمسّكه بشريعة الإسلام ، وقيامه بفريضة الجهاد ، وتُعلن له تشرّفها به لأنّه من ذريّة نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟؟([2])
إننا لم نسمع أن شيئًا مما سبق حدث لأحدٍ ـ من قرون سلفت إلى أيامنا هذه ـ إلاّ للأمير عبد القادر الجزائري ، فهل يُعقل عندكم أن تكون كل تلك المزايا التي حصل عليها دليلاً على ماسونيّته؟!
ألا يوجد ماسوني آخر على وجه الأرض؟ إذن فلماذا لا يُكرّم ويُحتفى به مثل الأمير عبد القادر؟
لقد عرف تاريخنا المعاصر رجالاً كثيرين أعلنوا انضمامهم إلى الماسونية وقدّموا لها خدمات كبيرة ومع ذلك لا نجدهم حصلوا على شيء مما حصل عليه الأمير من التكريم والاحترام العالمي!
إنّ الأمر واضحٌ لكل عاقل ومنصف ؛ فإنّ ما جرى للأمير عبد القادر الجزائري لم يكن له أي صلة بأي جمعية خاصة أو سريّة ، ولم يكن له أي صلة بعقائد مشبوهة أو انتماءات.
إن الذي جرى له ذو صلةٍ بشخصيّته الفذّة ومواقفه الحميدة المشهودة ، بدءًا من قيامه بالجهاد وتأسيسه للدولة الجزائريّة الحديثة بجميع أركانها، وإنشائه للعلاقات الدبلوماسية مع دول العالم ، مع أنه لم يتلقَّ أي تعليم عالٍ في الجامعات الأوربيّة المتخصصة بتلك العلوم!!، مرورًا بكريم أخلاقه وحسن تعامله مع خصومه وأعدائه وترفّعه عن الأحقاد والأضغان ، وانتهاءً بدوره الكبير في إطفاء نار الفتنة في بلاد الشام ، ومساعيه في استرداد دار الحديث الأشرفية وترميمها على نفقته ، وروايته لكتب الصحيح (البخاري ومسلم) وغيرها ، وعنايته بأهل العلم في الشام وغيرها ، وخدماته الجليلة للدولة العثمانية وتوطيده لحكم الخلافة الإسلامية وردّ المعتدين عليها والرامين لتمزيقها ، وسعيه الحثيث لإطلاق سراح المجاهد الكبير الشيخ شامل الداغستاني ، ورعايته لإخوانه المجاهدين في الجزائر ومتابعة أخبارهم وتقديم العون لهم ، إلى غير ذلك من الخصال وجميل الفِعال..
الأمير عبد القادر شخصيّةٌ محسودة ولها خصوم وأعداء ، فهو الشاب الحديث السِّن الذي بويع أميرًا على قبائل الجزائر ، وكان هناك رجالٌ أكبر منه سنًّا ولهم في مجال الحكم والعسكرية سابقيّة ، فكَبُرَ عليهم أن ينزلوا تحت حكمه ويُبايعوه ، فانتصبوا له أعداءً ومخاصمين.
وكذلك هناك من أعلن الجهاد مثله ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئًا مما صنعه هو ، ولم تكن له الآثار العظيمة كتلك التي تركها الأمير عبد القادر ، فثارت غيرته وامتلأ صدره غلاًّ وحسدًا على الأمير.
وفي بلاد الشام كان لحضور الأمير فيها أثرٌ كبير على بعض أعيانها ورجالاتها ، حيث انصرفت أنظار الناس عنهم ، واتّجهت نحو الأمير منذ الأيّام الأولى لوصوله ، وما هي إلاّ أيّام قليلة ويصبح الأمير ملجأً للمحتاجين والمنكوبين وأصحاب الحاجات ، ويقصده الولاة والعلماء للتوسط عند السلطان ، لِما له عنده من منزلة رفيعة. وهو الذي شفع في بعض الوجهاء المعادين له! الذين كان يريد (الصدر الأعظم) فؤاد باشا أن يعدمهم ، فخفف العقوبة إلى النفي ، وبعد ذلك شفع فيهم الأمير عند السلطان لكي يرجعهم إلى بلادهم.
فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنّ أصحاب تلك الشخصيات أو أبناءهم أو الموالين لهم أخذوا يحاولون تشويه صورة الأمير لكي يجمّلوا صورهم ويُنقذوا سُمعتهم!
فإذا ذُكِرَ الجهاد وتألّق الأمير في مجاله ؛ قال المتخاذلون عن الجهاد الذين لا يد لهم فيه ـ وبكل بلاهة وسفاهة ـ إنه صديق فرنسة وهي تُعينه!!
وإذا ذُكِرت الفتنة وتصدي الأمير لها وفقًا لأحكام الإسلام ؛ قال المتورّطون فيها والمخالفون لشريعة الإسلام إنّه ماسوني!!
وإذا ذُكِرَت النهضة العلمية والتبصرة الفكريّة والدروس الحديثيّة والتمسّك بالسنّة النبويّة ونبذ التقليد، قال المتحجّرون ، والمبتدعون ، إنّه فيلسوف وجودي وعلى قدم ابن عربي!!
وإذا ذُكِرَ التزامه بأحكام الشرع الإسلامي في حُسْن معاملته للأسرى ، ومحافظته على عهوده ، قال الغافلون عن أحكام الشرع وآدابه ، إنه مفتون بالحضارة الغربية!!
وإذا ذُكِرَت المواقف السياسية المتمسّكة بالمبادئ الإسلامية والمتحلّية ببعد النظر والحكمة والإخلاص، قال الفاقدون لهذه الصفات إنه يُنفذ المخططات الغربية!! (رمتني بدائها وانسلّت)
وإذا ذُكِرَ الكرم والسّخاء والبذل والعطاء واتّصاف الأمير بها ؛ قال المحتكرون والأَشِحّاء والقابضون إنّه يتلقى الأموال من فرنسة لأنه موظف عندها!!
وهذا حال كل ذي نعمة وقدر عظيم؛ يقول الله تعالى :{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54]
فإذا كان الحُسّاد يرمون خصومهم بالتهم والأباطيل ، فهل يُعقل أن يَقْبل الدارسون للتاريخ والرجال ، أو القرّاء من العرب والمسلمين هذه التهم ويُصدِّقوها دون دليل أو برهان؟!
والأمر ليس مقصورًا على الحسّاد والخصوم من العرب والمسلمين ، وإنما دخل فيه أيضًا الكتّاب الغربيون الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للاعتراف بسمو شخصية الأمير عبد القادر ـ العربي المسلم ـ وبعظيم مآثره! ولكنهم حاولوا أن يصبغوا حديثهم عنه ومديحهم له بشيء من تراثهم المُتَهَرِّئ ومدنيّتهم الزائفة!
فها هو الكولونيل تشرشل عندما يتحدث عن التزام الأمير عبد القادر الديني وقيامه بشعائره وسعيه الدائم لمزيد من القُربات والطاعات ، بخلاف حكّام الغرب وقادته العسكريين الذين لا هَمَّ لهم إلاّ الطغيان والزهو بجرائمهم الحربية وإسرافهم في الملاهي والملذات والفحش وصحبة العاهرات!
يقول : ((وطالما اشرأبّت نفس عبد القادر إلى تحقيق أملٍ ورغبة ، وهي أن يكون قادرًا عاجلاً أو آجلاً، على إكمال واجباته الدينية بتتويجها بعملٍ آخر من أعمال العبادة . ففي عين المسلم الحقيقي ليس هناك رتبة دنيوية أو تقدير يمكن أن يُقارن بذلك مثل الميزة العالية التي يُطلق على صاحبها (مجاور النبي) ، ولكي يحقق المرء هذه الميزة يجب عليه أن يُقيم باستمرار في مكّة أو في المدينة مدّة سنتين ، أو على كل حال أن يبقى في الحرمين الشريفين حتى تتعاقب عليه حجّتان ويغادر الحجيج بعدهما الحرمين المذكورين.
وعندما سُئل ذات مرّة كيف يستطيع أن يفصل نفسه في مثل سِنِّه (55سنة) عن عائلته كل تلك المدة؟ أجاب :"حقيقةً إن عائلتي عزيزةٌ عليّ ، ولكنّ الله أعزُّ منها".
ويُتابع تشرشل:...ووصل إلى مكّة في الموعد المحدد.... وقد أمر له شريف مكّة بغرفتين في فِناء الحرم توضعان تحت تصرفه . وتهاطل عليه الزوّار ، وبعد عشرة أيّام أعلن أن مدة الاستقبال قد انتهت . وسأل أن يُترك على انفراد وفي عزلة هادئة . وخلال الاثني عشر شهرًا الثانية لم يُغادر حجرته إلاّ للذهاب إلى الجامع الكبير (كذا) . فكل وقته قد كرّسه للدراسات الدينية والتعبد والصلاة ، وكان حماس فكره الديني قد استثير بأشد أنواع إنكار الذات ، فلم يسمح لنفسه بسوى أربع ساعات من النوم ، ولم يوقف صومه خلال الأربع والعشرين ساعة سوى مرة واحدة ، وحتى عندئذ فإنه كان لا يتناول سوى الخبز والزيتون ، وكان قد أَنهَك هذا التقشف القاسي الطويل قواه حتى ظهر على بدنه الحديدي.... (ثم تحدث كيف سافر إلى المدينة)...
... وقد بقي عبد القادر في المدينة أربعة أشهر ، مستأنفًا العمل الذي كان قد مارسه بينما كان في مكّة قرب قبر النبيّ!([3]) ، وكان حارس الضريح النبوي يطلب منه دائمًا أن يفحص الأشياء الثمينة التي يحتوي عليها : نذور الماس والجواهر والأحجار الكريمة ، والذهب والفضة ، المرسلة من الملوك والأمراء ورجال الدين والأعيان من جميع أنحاء العالم الإسلامي . ولكن عبد القادر كان يرفض حتى النظر إلى هذه الأشياء. فقد كان ينظر إليها على أنها تبذيرٌ وبذخ لا فائدة منه وسوءُ تصَرُّفٍ مُذْنِب في الثروة التي كان يمكن استعمالها في أعمال الخير والمصلحة العامة...
وعندما حان وقت رحيله..... ووصل مكّة .. في الوقت الذي يجب عليه أن يكون حاضرًا لأداء شعائر وفرائض عيد الأضحى!! للمرة الثانية. وبذلك يكون قد حقق وعده وغرضه فالتفت الآن عائدًا نحو أهله ، وفي شهر يونيو سنة 1864 وصلَ إلى مدينة الإسكندريّة.
لقد نجح عبد القادر في تحقيق أعلى المراتب الدينية التي تعتبر أساسية وجليلة ، بعد عملٍ شاق وإنكارٍ طويل للذات . ومن جهة أخرى أصبح يحمل شعار جمعيّة تقوم على مبدأ الأخوّة العالميّة. إن الجمعيّة الماسونية في الإسكندرية قد سارعت للترحيب بالعضو الجديد الشهير . فقد دعا المحفل الماسوني ، المعروف بمحفل الأهرام ، للاجتماع خصيصًا لهذه المناسبة ، عشيّة الثامن عشر من يونيو. وأدخل عبد القادر في هذا النظام الصوفي الغامض. وقد أضيف إلى ميزة (مجاور النبي) ميزة (ماسوني حر ومقبول) ، وهي العبارة العرفية المستعملة في هذا المقام)).انتهى مختصرًا من[حياة الأمير عبد القادر ص291ـ294]
إذن تحدث تشرشل عن تديّن الأمير عبد القادر من قيامه بالحج والمجاورة في الحرمين والخلوة للتعبد والتقرب إلى الله . في حين أنّ تشرشل نفسه ـ وهو من كبار الضباط البريطانيين ومن النبلاء ـ وكثير من الحكام والملوك وكبار الضباط الأوربيين لم يكن لهم نشاط أو اهتمام ديني ، وإنما كانوا ينخرطون في سلك الماسون ويتبجّحون بعناوين عريضة ودعايات فارغة ، فما الحل حتى يتساوى الطرفان؟ لقد زعم تشرشل أن الأمير انضمّ ـ كسائر ملوك وحكام أوربة ـ إلى الماسونية . ثمّ أطلق على الماسونية وصفًا عجيبًا فقال : "هذا النظام الصوفي الغامض"!!
إذن على رأي تشرشل الماسونية طريقة صوفية يتبعها الأوربيون فلا مانع من انضمام الأمير العربي المسلم إليها! ومتى كان هذا الانضمام؟ لقد كان في رحلة العودة من الديار المقدسة من الحرمين الشريفين بعد مجاورة دامت أكثر من سنة!! أليس هذا من الأخبار الفجّة والمستهجنة والتي لا يمكن تصديقها إلاّ بدليل قاطع وبرهان ساطع.
ضمن أسطر قليلة نجد تناقضًا عجيبًا ، ففي البداية عرّف تشرشل الماسونية فقال:"جمعيّة تقوم على مبدأ الأخوّة العالميّة" ، وبعد سطرين وصفها فقال:"هذا النظام الصوفي الغامض" . ومرَّ معنا في الحلقة (14) تناقض الماسون أنفسهم في تعريف الماسونية ، ومرَّ معنا أيضًا تضارب مزاعمهم في تاريخ انضمام الأمير إليهم، وتبيّن لنا سقوط جميع دعاويهم ومزاعمهم! فيمكنكم الرجوع إلى تلك الحلقة لمراجعة الموضوع.
إنّ تشرشل قال في مقدمة كتابه أن المعلومات التي يوردها عن الأمير مصدرها اللقاءات التي جرت بينهما طيلة الخمسة أشهر التي تردد فيها تشرشل إلى الأمير في دمشق. وذَكَرَ لنا أنّه غادر دمشق في مطلع سنة 1860م!(قبل حادثة النصارى) إذن الأحداث التي جرت للأمير بعد ذلك التاريخ لم يكن تشرشل يُعاينها من قريب ، فضلاً عن تلقي تفاصيلها من الأمير . فمن أين إذن حصل تشرشل على هذه المعلومات؟ ولماذا لم يذكر مراجعه أو أدلّته على ما يقول؟
لقد اكتفى بالقول في مقدمته : ((ولم يكن يخطر على بالي وأنا أغادر دمشق في ربيع سنة 1860 أنّ فصلاً آخر كان يوشك أن يُضاف إلى تاريخه الغريب الكثير الوقائع ، أو أنّ نجمه المجيد الذي كان يبدو أنه سيظل ساطعًا إلى الأبد ، كان مقدّرًا له قريبًا أن يظهر فجأة من جديد بعظمةٍ أخرى ثاقبة. أمّا عن سلوكه الباهر النموذجي خلال المذبحة المخيفة التي تعرّض لها مسيحيو دمشق ، وسط تواطئ السلطات التركية المخزية القاسية ، فقد حصلتُ على تفاصيل على درجة كبيرة من الأهمية والصحة من مشاهدي العِيان . هذه هي إذن مادتي ، ولم يبق لي إلاّ أن أنسقها وأصوغها ، وقد فعلتُ ذلك . وإنني أدعو قرّائي ، بكل هيبة وتواضع ، أن يصدروا حكمهم على العمل نفسه)).انتهى[حياة الأمير عبد القادر ص37]
ولأنّ تشرشل يدعونا لإصدار الحكم على عمله ، أقول : إن الباحثين استفادوا من كتاب تشرشل المعلومات التي ذكرها عن الأمير سماعًا منه ، وهي في معظمها متّفقة مع ما ذكره عنه المؤرّخون العرب والمسلمون. ولكنه لم يغب عن ذهنهم أنّه أثناء كتابتِه عن الأمير وثنائه عليه كان يدسّ بعض المعلومات الكاذبة ليروّج للسياسة البريطانية المعادية للخلافة العثمانية بشدّة ، وكتابه من أوّله إلى آخره طافحٌ بالعبارات الممتلئة بغضًا وكرهًا للأتراك العثمانيين ، بل إنه كان يفتري عليهم ويزوّر تاريخهم إلى درجة مفتضحة . كما نرى في النص السابق!
وإذا كان مصدر معلوماته الأخيرة عن الماسونية والأمير ،كما صرّح هو ،"بأنه من مشاهدي عيان"، فلماذا لم يسمّهم لنا؟ لعلّهم من الماسون أنفسهم! وهم دون أدنى شك مستعدون لافتراء مثل هذه المزاعم بعد أن صدّهم الأمير حين دعوه للانضمام إليهم ، وذلك كي لا يظهروا أمام العالم بصورة تُضعِفُ دعايتهم بأنهم جمعيّة الكبار والعظماء!!
على كل حال يبقى هذا الخبر مرفوضًا من الناحية التوثيقية ولا يمكن الاعتماد عليه ولا الركون إليه.
وإذا كان البعض يرى أن القَبول بكلام تشرشل أو جرجي زيدان لا بأس فيه! فأقول لهم إنّ القبول بكلام من هو أصدق منهم أولى وألزم. لقد روى السيد بدر الدين بن أحمد الحسني كلامًا يردّ مزاعم تشرشل وجرجي!
أقول : حدّثني ظافر بن أحمد مختار الحسني قال حدّثني جدّي بدر الدين بن أحمد الحسني قال سمعتُ عمّي الأمير عبد القادر يقول: ((عندما حضرت حفل افتتاح قناة السويس (سنة 1869م) أتاني بعض أعضاء الجمعية الماسونية يدعونني إلى الانضمام إليها ، فقلت لهم إلى أي شيء تدعون؟ قالوا ندعو إلى التضامن والتكافل فيما بيننا. فقال لهم الأمير : لا يجوز عندنا نحن المسلمين أن يتكافل البعض دون الكل. فانصرفوا)).انتهى
وبدر الدين هو ابن السيد أحمد شقيق الأمير الأصغر ، وهو أيضًا صهر الأمير زوجُ ابنته زهرة! وهو من المُعمَّرين عاش مئة سنة توفي في 1/12/1967م. وسأعرض شهادات أخرى لاحقًا.
وبعد انتشار إشاعة انضمام الأمير إلى الماسونية عَقِيْبَ وفاة الأمير ، وتداولها من قبل بعض الصحف والجرائد المشبوهة (وبخاصة تلك التي كان يصدرها جرجي زيدان وأمثاله) ، قامت بعض الجرائد والصحف المصرية واللبنانية بتكذيبه والاعتراض عليه ، ومن الأدلة التي كانت تلك الصحف تعتمد عليها في تكذيب هذا الخبر هو قولهم : "إن الماسون يزعمون أن الأمير استقبل عضوًا في محفل الأهرام الماسوني بتاريخ 18/6/1864م!!! الموافق 14/1/1281هـ في الإسكندرية. ومع العلم أن الأمير في هذا التاريخ كان لم يزل في الحجاز، وهو لم يصل إلى الإسكندرية إلاّ بعد 14/5/1865م!! الموافق 19/12/1281هـ ؛ ووصل إلى دمشق بتاريخ 19/1/1282هـ الموافق 13/6/1865م!!!!".انتهى[كنتُ نقلت هذه المعلومات من صحيفة لبنانية وأخرى مصرية. ورجعت إلى بعض الكتب التي أرّخت للأمير عبد القادر فوجدت أنّ التواريخ المذكورة في تلك الصحيفة موافقة لما ذكرته تلك الكتب ، وهي (تحفة الزائر 2/145) لمحمد باشا ، و(حلية البشر 2/899) لعبد الرزاق البيطار ، و(الأمير عبد القادر الجزائري ص26) لنزار أباظة].
والعجيب أنّ بعض المشتغلين بتلخيص كتب التراجم والتواريخ ، وهو الأستاذ نزار أباظة ، وضع كتابًا بعنوان (الأمير عبد القادر الجزائري العالمُ المجاهد) وقد جمعه من عدة مصادر أهمها (تحفة الزائر) و(حلية البشر) و(حياة الأمير) لتشرشل وكتاب جواد المرابط (التصوف والأمير عبد القادر)؛ وعندما تحدث فيه عن رحلة الحج وعودة الأمير منها ومروره بالإسكندرية أوردَ هذه المعلومة فقال: ((وفي الإسكندرية عرضَ عليه الماسونيون الدخول في جمعيّتهم(1) ثم توجّه إلى دمشق فوصلها في 19 المحرّم سنة 1282هـ = 13/6/1865م)).انتهى[الأمير عبد القادر ص26]
هذا كل ما قاله في هذا الخصوص ولم يزد عليه كلمة واحدة ، واكتفى بوضع حاشية في أسفل الصفحة قال فيها:{(1) انظر مجلة الثقافة 269، ومجلة الحقائق مج2،ح2، ص2 ،78}.انتهى
وترك القارئ يفهم من عبارته وحاشيته ما يشاء! والذي يتبادر إلى ذهن القارئ أنّ هذه المجلاّت التي ذكرها في الحاشية تثبت الخبر الذي أورده في المتن ، ثم يقرر القارئ من تلقاء نفسه : أقَبِلَ الأمير العرض أم لا!
راجعتُ مجلّة "الحقائق" لصاحبها السيد عبد القادر الإسكندراني، فوجدتُ أمرًا عجبا!!
أتدرون ماذا وجدت؟ لقد وجدت على الغلاف الخارجي للعدد المذكور نفسه إشارة إلى مقال في داخله ص77 بعنوان : (الأمير عبد القادر والجمعية الماسونية ـ وفيه تبرئة الأمير رحمه الله مما نُسِبَ إليه من دخوله في هذه الجمعيّة المجهولة الحقيقة والشروط) بقلم حفيد الأمير محمد سعيد الجزائري!
وإليكم نص المقال:
الأمير عبد القادر
والجمعية الماسونية
((في سنة ست وثمانين(1286هـ = 1869م) دُعيَ الأمير عبد القادر مع من دعي من ملوك أوربا ليحضر احتفال فتح ترعة السويس ، وبينما كان عائدًا لسورية عن طريق الإسكندرية اغتنمت الجمعيّة الماسونيّة فرصة وجوده في ذلك القطر فأوفدت إليه هيئة من أعضائها لتعرض عليه المبادئ الماسونية ، وعندما ذَكَرَ الوفدُ المشار إليه فضائلَ الماسون وخدمتها في الإنسانية ، شكرها الأمير على عملها الذي ادَّعته شأنَ كلِّ رجل يدّعي له شخصٌ أنه يخدم الإنسانية ويسعى في سبيل خير البشر فيستحسن أعماله ويشكر مقاصده. فاتخذ بعض المنتمين للجمعية ذلك الاجتماع ذريعةً حسنة لِنِسبة دخول الأمير في جمعيّتهم ، وبدؤوا يترجمون سيرته ويشكرون عظيم خدماته في الإنسانية. بيد أنّ هذا الاجتماع وتلك الدعوى لا تثبت ولا تحقق دخول الأمير في الجمعيّة الماسونية ، لأنّ هذه الحجة ضعيفة تحتاج إلى أدلّة مؤدية ؛ ومن المعلوم أن لجمعية الماسون نظامًا كما لسائر باقي الجمعيات، تطبّق أعمالها بموجبه ، ومن جملة مواد نظام جمعيّة الماسون أنه لا بد لكل شخص يريد الدخول إلى هذه الجمعية أن يطلب الانخراط بها بموجب استدعاء يلتمس منها قبوله فإذا تمَّ له ذلك واستحسنت الجمعيّة إدخاله ، تكلّفه بوضع إمضائه في سجل أعمالها وعليه أن يكتب أنه دخل بإرادته واختياره ؛ هذا ما يدّعيه أيضًا بعض أفراد الجمعيّة الذين ينسبون دخول الأمير في هذه الجمعية بمجرّد القول! وحيث أنّ وجودَ مثل هذه المواثيق المادية هي أعظم دليل وأقوى برهان بيد كل من يريد أن يُثبت حجته ، فإنني أطالب كل من يدَّعي من أفراد هذه الجمعيّة انتظامَ الأمير بها ، بإبراز هذه الوثائق الراهنة مطبوعةً نُسَخُها على الحجر؛ وما من أحدٍ يجهل خطَّ الأمير وإمضاءه ؛ هذا ما نطالب به من يفترون على الأمير والجمعيّة معًا الكذب والبهتان. وأمّا نحن فإننا نقول إنّ الأمير عبد القادر الذي اشتهر بالتُقى وبصلابة الدِّين سيما وأنّه كان يُقيم الحدود الشرعيّة في هذه البلاد السوريّة كما أقامها في وطنه ، لا يُخالف الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة ويدخل في جمعيّة سريّة لا يعلم حقيقتها إلاّ من انخرط بين جماعتها . وإننا بصرف النظر عن كون مبادئ هذه الجمعيّة حسنة أم سيّئة ، فالشرع لا يسمح للمسلم أن يدخل بها قبل معرفته حقائقها ، وقد قال الله تعالى {يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم}الآية ، وقوله جلَّ شأنه {لا تجدُ قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادُّون مَنْ حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم}الآية.
وقال رسوله عليه الصلاة والسلام (ليس منّا من عمل بسنّة غيرنا) رواه ابن عبّاس ، وقال (ليس منا من تشبّه بغيرنا) رواه ابن عمرو رضي الله عنه ، وأمثال هذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية كثيرة سيما وأنّ الجمعيّة الماسونية وأصلها (فران ماسون) أي البنائين مأخوذة عن الأمم الغربية والملل الأجنبيّة ؛ ولا جرم أنّ جمعية مبدؤها خدمة الإنسانية وخطتها تعميم الأخوة والمساواة والحرية لا ترضى بأن يفتري بعضُ أفرادِها عليها الكذب قصدَ إغراء بعض الناس بنسبة دخول زيد وعمرو بها!
وخلاصة القول إن الجمعية التي هي على يقين من طهارة وجدانها لا تحتاج لترغيب لأنها ترتقي بسنّة طبيعيّة ؛ وعليه فإنّا نحذّر كل من يتشدَّقون بنسبة انتظام الأمير بسلك الجمعيّة الماسونية أن يرجِعوا عن غِيّهم أو أن يأتوا لنا ببرهان من البراهين الآنفة {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.
ابن الأمير
محمد سعيد)).انتهى
([1]) أظن أنه لم يعد خافيًا اليوم ميلُ وانحيازُ هذه القناة إلى الجهات المعادية للإسلام والمسلمين!! ـ بعد حرب اليهود على المسلمين في غزّة والموقف المخزي لقناة "العربية" من أحداث تلك الحرب على وجه الخصوص.
([2]) ملاحظة : يتّخذ بعض الناس ـ في مجتمعاتنا العربية الإسلامية ـ من المديح أو الثناء الصادر من جهة الغرب اليهودي النصراني أو العلماني تجاه شخصيّة عربية مسلمة ، وسيلة لاتهام تلك الشخصية! بصرف النظر عن طبيعة تلك الشخصية ، وهذا فعلٌ غير صائب ، لأنّ بعض كتّاب وعلماء الغرب المنصفين قد يُثني ويمدح رجال الإسلام إذا رأى فيهم فضائل ومحاسن ومزايا لا مجال لنكرانها . وأوضح مثال على ذلك هو كتاب (المئة الأوائل) فإنّ كاتبه اليهودي الأمريكي "د. مايكل هارت" جعل الشخصيّة الأولى في العالم هي شخصية نبيّ الإسلام سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
[3] ـ وهنا نلاحظ بوضوح جهل هذا الكاتب (تشرشل) بحقائق شهيرة وهي أنّ قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وليس في مكّة!! ولذلك من الخطأ الاعتماد على كل ما يذكره الكتّاب الغربيون عن الإسلام ورجاله!
-
الأمير: وثائق ماسونية مزورو والنجمة السداسية وقناة سويس وآل روتشيلد و..
فسبحان الله العظيم ، الأستاذ أباظة أحال إلى مرجع فيه نصٌّ قاطع كتَبَه حفيد الأمير عبد القادر ، ينفي فيه بشدّة وتَحَدٍّ دعوى انتساب الأمير إلى الجمعيّة الماسونية ، وهذا المقال نُشِرَ بتاريخ رمضان 1329هـ أي بعد وفاة الأمير بتسع وعشرين سنة!!وقبل مئة سنة من يومنا هذا!!!
لقد تحدّاهم الأمير سعيد أن يبرزوا شيئًا من الأدلّة المادية ولكنّهم لم يفعلوا!
إذن عندما ادّعى بعض الماسون انضمام الأمير إلى جمعيتهم لكي يرغّبوا الآخرين بالانضمام إليها، في الوقت الذي لم تكن فيه الماسونية تُهمةً ، تصدى لهم حفيد الأمير ونفى مزاعمهم ، ونشرت المجلات هذا النفي في حينها. وانتهت القضيّة ، فلماذا نجد اليوم ـ وبعد مئة سنة من ذلك النفي ـ بعض الناس يعيدون الحديث في القضية بعدما انكشفت الماسونية وصارت تهمة؟!
وأرجو أن تلاحظوا معي التباين والاضطراب في قضيّة اجتماع الماسون بالأمير وعرضهم عليه الانضمام إليهم. فتارة يقولون إن ذلك حدث قبل 1860 ، وتارة يقولون إنه حدث سنة 1864 ، وتارة يقولون إنه حدث سنة 1869 ؛ وفي مقال الأمير سعيد أثبتَ أنّ ذلك حدث سنة 1869!! وكذلك الأمر فيما نقله السيد بدر الدين عن عمّه الأمير!
ومحلُّ تعجّبي من فعل الأستاذ أباظة أنّه أورد خبر لقاء الماسون بالأمير في متن كتابه ولم يُعلّق عليه بشيء مع أنه مطلعٌ على مقال الأمير سعيد . فما فائدة إيراد مثل هذا الخبر دون بيان قبول الأمير الانضمام أو لا؟!
على كل حال المهم أنه ظهر للجميع تهافت شبهات المروّجين لقصة انضمام الأمير إلى الماسونية .
ـ وبعد المقال الذي كتبه الأمير سعيد متحديًا فيه الذين يدّعون انتساب الأمير إلى الماسونية ، خمدت أصوات أولئك الأشخاص .
طبعًا الشعوب العربية المسلمة بعلمائها وعامّتها لم تكن تلتفت إلى تلك الدعاوى فسُمْعَةُ الأمير عبد القادر عندهم من أصفى ما يكون لا يُعكّر صفوها تشويش المشوّشين!
ولكن بعد نكبة العرب والمسلمين سنة 1948م بسلخ جزء كبير من فلسطين عن جسم الأمّة ، وبعد نكستهم سنة 1967م وخسارة ما تبقى من أرض فلسطين، وبعد توالي الهزائم وانحطاط الأمّة وضياع كرامتها ، بدأت تظهر في طائفة من أبنائها أعراضٌ لمرض نفسي خطير ، مرض يسبب لصاحبه الشلل ، إنه مرض الانهزام النفسي الكُلّي ، وبعد استحكام الشعور بالهزيمة عند المصاب بهذا المرض يلجأ إلى إيجاد الأعذار التي سيتّكئ عليها ، وبعد تراكم عدد كبير من تلك الأعذار عند أولئك المصابين تكوّنت لديهم نظرية صارت تُعرف فيما بعد بنظريّة المؤامرة! وأيّ مؤامرة؟ إنها بزعمهم مؤامرةٌ أحْكَمَ نسج خيوطها وحياكتها حكماءُ صهيون، وتقوم على تنفيذها الحكومة الخفيّة أو الجمعيّة الماسونيّة ، فكلّ ما يجري في العالم إنما هو بتدبيرهم وإرادتهم!!(زعموا) لأنّ كل رؤساء العالم ماسون وكل موظفي هيئة الأمم ماسون ، وكل من يعارضهم يكون مصيره الهلاك ، لأنّ الماسون يعرفون كل شيء ويهيمنون على كل شيء!
سبحان الله! لقد صار الماسون وحكماء صهيون عند أولئك الناس كأنّهم آلهة يشركونهم مع الله! والعياذ بالله.
وبدأت هذه النظرية تأخذ مكانها في كتابات بعض المعتقدين بها أو المروّجين لها ، ثمّ تكاثرت مقالاتهم وصارت تغزو الصحف والجرائد اليومية ، وكَثُرَ الحديث عن هذه المؤامرة ورجالاتها والمنخرطون في سلكها ، أو الذين استُخْدِموا لتمرير خططها ، وبدأت التُّهم تُلقى جزافًا ولا رقيب ولا حسيب!
وساهمت بعض الجهات في تغذية هذا التوجّه وتدعيمه ، لأنها ستستفيد من رواج هذا الفكر واستقراره . وصحيح أنّ بعض الصحفيين يكتب عن الماسون وعمالتهم ، من باب تأثّره بنظرية المؤامرة وبرتوكولات حكماء صهيون. إلاّ أنَّ البعض الآخر كان يكتب من باب استغلال تلك النظرية! والسبب أنّ البعض سيستفيد من هذا الأمر في درء الشبهات عن نفسه وتحييد خصومه ، وصرف الأنظار عنهم ، وإقناع الناس بالواقع المرير!([1])
ومما ساعد أصحاب هذا التوجّه على ترويج نظريتهم ، أنّ بعض رجالات العرب والمسلمين انتسبوا إلى الجمعيّة الماسونية في وقت مضى ـ قبل تلك النكبات والنكسات ـ وأعلنوا انتسابهم إليها، وذلك لأنّه لم يكن هناك شيء ظاهر يبعث على الريبة فيها ، بل على العكس كان يُنظر إلى تلك الجمعيّة على أنّها أمرٌ حسن ، فهي تُنادي بالقيم الإنسانيّة وتدعو إلى مساعدة الآخرين وإلى النهوض بالأمم والرقي بها . هكذا كانت تروِّج لنفسها . وقد انضمَّ إليها في السابق أشخاص لا يُشك في نزاهتهم وصدق نيّاتهم ، وهذا جعل المنتسبين الجدد يشعرون بالارتياح.
ولكن بعد مدّة من انتسابهم أحسّوا أنّ وراء تلك الجمعيّة أغراضًا خبيثة مخفيّة لا يُمكن أن يرضوا بها، وأدركوا أنّ تلك الجمعية ستستفيد من انضمامهم إليها لتمرير شيء من أغراضها ، فما كان منهم إلاّ أن انسحبوا منها وانقطعوا عنها. بل أخذوا يحذِّرون منها ، ويكتبون لفضحها.
ولعلّ كتابات الدكتور عبد الجليل التميمي عن الأمير عبد القادر والماسونية ، كانت المصدر الثاني للصحفيين والمفتونين بالشأن الماسوني ، بعد كتابات جرجي زيدان وشاهين مكاريوس!!
وعبد الجليل التميمي كان ينقل أشياء عن بعض الكتّاب الغربيين ولكنه يصبغها فيما بعد بنظرته السوداوية للأشخاص! ومرَّ معنا في حلقات سبقت اعتماد التميمي على رسائل مزوّرة ـ سمحت السلطات الفرنسية له ولغيره بالاطلاع عليها وتصويرها!! ـ في الطعن بالأمير وموقفه من الحركات الانتفاضية في الجزائر بعد خروجه منها . وبيّنتُ وقتها التزوير المفتضح لتلك الوثائق ، وكذلك جهل الدكتور التميمي بالوثائق الحقيقية التي تُثبت عكس ما ادّعاه.
وبعد ذلك اعتمد عبد الجليل التميمي على كلام ووثائق "زافيني ياكونو" في دعم نظريته القائلة بانضمام الأمير إلى الماسونية! والوثائق المزعومة هي ثلاث رسائل موجّهة إلى الماسون وُضِعَ في نهايتها اسم الأمير عبد القادر وختمه!!وزعموا أنها بخط الأمير!! [بحث التميمي هو :الأمير عبد القادر الجزائري في السنوات الأولى من إقامته بدمشق]
وكتابات التميمي بهذا الخصوص غير علمية وغير موثّقة وهي تعكس رأيه ونظرته ونفسيّته وقد ضمّنها مواقفه القَبْلِيَّة من الأشخاص والأحداث! وعن التميمي نقل الصحفيون وهواة الماسونية تلك الرسائل واستنتاجات التميمي وزافيني منها!!
وأقول : لو كان التميمي والناقلون عنه في كتبهم يتحرّون الحقيقة لأمكنهم بمجرّد إلقاء نظرة سريعة عليها أن يقطعوا بأن تلك الرسائل ليست بخط الأمير حتمًا ، ولو قرؤوها وقرؤوا ما فيها من ألفاظ عامّية وإملاء لا يصدر إلاّ عن شخص أعجمي حديث عهد بتعلّم العربية ؛ لأيقنوا أنها ليست للأمير الذي يحفظ كتاب الله تعالى ، ويروي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، وينظم الشعر وكتاباته مشهورة ومعلومة!
وقد صدرت دراسات علميّة تُبيّن زيف وبطلان هذه الرسائل. ومن أهم تلك الدراسات والوثائق تقرير الخبرة الفنيّة الذي أعدَّه الخبير المحلّف الأستاذ هشام الغراوي بتاريخ (21/جمادى الأولى/1420هـ = 1/9/1999م) الخاص بدراسة إحدى تلك الرسائل وهي الرسالة الموجهة إلى محفل هنري الرابع ، ظهرت في زمن متأخر، مضمونها شكر وثناء على جمعية المحفل وعلى أغراضها ودعاء لها ولأعضاء المحفل ، وكاتب الرسالة يقول إنه مندرجٌ معهم في الأخوية المحبوبة!
وقد تناولها الأستاذ الغراوي بالدراسة الفنية وكانت النتيجة أنها مزوّرة بكل وضوح!
يقول الأستاذ هشام الغراوي ؛ الخبير المحلّف بشؤون الوثائق : ((الوثيقة 4 تَبيَّنَ بالدراسة الفنية الكاملة عليها أنها مزوّرة أيضًا بكل وضوح في أسطرِها التسعة وختمِها وإمضائِها:
فالنصُّ خالٍ من الحمد بالأعلى (خلافًا لعادة الأمير فيما عهدناه في رسائله الصحيحة)، وجاءت الكتابة بالخط "الرقعي/المشرقي" من العصر التركي ، وبعيدٌ كل البعد عن الخط المغربي للأمير بأدلة كثيرة جدًّا ظاهرة بالعين المجرّدة ولا تحتاج إلى تفصيل بعد الذي سبق لنا بيانه ، وعدد هذه الأدلة يتجاوز "التسعة" بكثير ، وفي مقدمتها التركيب الإنشائي المخالف تمامًا لأسلوب الأمير بكتاباته الصحيحة ، فضلاً عن عدم معقولية ما فيها من كلامٍ مرفوض لا يُصدّق صدوره عن الأمير من حيث الدعاء لرجال الماسونية بأن يبلّغهم الله أقصى مرادهم (الذي كان مجهولاً في ذلك العصر ، حينما لم تكن الماسونية قد انكشفت عالميًا على حقيقتها السرية الرهيبة) ؛ وهي مؤرّخة في 10آب (آغسطوس 1864 وتحمل خاتمًا جديدًا لم نرَ مثله في الوثائق الصحيحة (الثابتة على ختم واحد) .. وكأنّ الأمير رحمه الله كان يملأ جيوبه بمجموعة من الأختام .. ثم يتعمّد أن يختم كل وثيقة بخاتم خاص بها! .. ويمتاز الخاتم المنسوب للأمير بهذه الوثيقة (4) بأنه محاط بإطار شبه دائري ، وبمثابة (out line) منتظم لا نجد له مثيلاً بالأختام الأخرى المزوّرة .. ولا الصحيحة!.)).انتهى[من التقرير الفني ص7ـ8]
طبعًا هذا الكلام ينطبق على الرسالتين الأخريين. وبهذا يتبيّن سقوط هذه الشبهة وهذه التهمة.
(والأستاذ هشام الغراوي خبير في الخطوط والوثائق والمخطوطات ، وهو الخبير المحلّف بشؤون الوثائق لدى وزارة العدل السورية مدّة 28 سنة ، من 1952 إلى 1979م . ويقيم في "أنقرة" بتركية ، متفرّغًا للبحث العلمي بشأن المخطوطات والكتب العربية الأثرية ، وهو مرجعٌ لكثير من الباحثين يساعدهم في قراءة المخطوطات وفكّ المستعصي فيها).
والآن مع شبهة جديدة : فبعدما تهاوت وسقطت جميع الحجج التي ساقها متَّهمو الأمير بالماسونية، اضطروا إلى اللّجوء لأشياء أخرى ولو كانت بعيدة ، ولكن يمكن بتضافرها أن تخلق شكوكًا عند بعض الناس وتدعم حججهم الأولى!
قال الأخ محمد مبارك في (فك الشيفرة) : ((كما لجأ إليه فردينان ديليسبس للتوسط من أجل إقناع العثمانيين بمشروع قناة السويس ـ والذي جلب الاستعمار الانجليزي فيما بعد ـ ، و لذلك فقد كان الأمير عبدالقادر في طليعة المدعوين في الحفل الأسطوري الذي صنعه الخديوي إسماعيل في عام1869 م احتفالا بافتتاح القناة)).انتهى
أقول : ما هو مصدر هذا الكلام العجيب المخالف لما هو ثابت في المراجع الكبيرة التي تحدَّثت عن قصّة شق قناة السويس؟
إنّ في هذا الكلام عدّة مغالطات! أوّلها الزعم أنّ فردينان دوليسبس لجأ إلى الأمير عبد القادر لإقناع العثمانيين بمشروع القناة.
وهذا طبعًا غير صحيح البتّة ولا دليل عليه . والحقيقة أنّ دوليسبس لجأ إلى الأمير سعيد باشا ابن محمد علي باشا حاكم مصر. والقصّة هي أنّ محمد علي باشا كان على صلة بالدبلوماسي ماتيو دوليسبس المقيم في مصر ، وكان ابنه الشاب فردينان صديقًا للأمير سعيد ومعلّمًا له. ودوليسبس له قرابة من الإمبراطورة أوجيني ، وكان يعمل في القنصلية الفرنسية وكان أبوه من قبله قنصلاً في القاهرة، فكان دوليسبس وهو صبي يختلط ببيت محمد علي وعرف معظم الأمراء الذين حكموا مصر بعد ذلك، وكان الأمير محمد سعيد الذي صار بعد ذلك واليًا على مصر من خاصة أصدقاء دوليسبس. وسبب اختصاصه به أنّ محمد علي غضب عليه فنفاه إلى باريس فلمّا قصدها وجد بيت دوليسبس أهلاً وسهلاً ، فكان يصحب دوليسبس ويرافقه أينما ذهب.[ عن مجلة الهلال . ملخصًا عن مقالة للمستر كرابيتس القاضيالأمريكي في المحاكم المختلطة نشرها في مجلة "آسيا"]
وسبق أن عرض الفرنسيون مشروع القناة على محمد علي فلم يقبل به (خشية طغيان الماء على البلاد) ، وبعد سقوط حكم نابليون وعودة أسرة دوليسبس إلى فرنسة عانت الفقر والضعف . وعندما وصل الأمير سعيد باشا إلى سدّة الحكم وصار خديوي مصر ، أسرع فردينان دوليسبس وسافر إلى مصر والتقى بصاحبه القديم الأمير سعيد وعرض عليه مشروع شق قناة سويس ، فما كان من الخديوي سعيد إلاّ أن وقّع وثيقة امتياز حفر القناة لدوليسبس وذلك سنة 1854م! (الأمير عبد القادر كان في ذلك الوقت مقيمًا في تركية بعد سنة من إطلاق سراحه). وبعد ذلك بسنوات أقرَّ السلطان العثماني الامتيازَ الممنوح لدوليسبس.
وبكلامٍ جامع يقول المؤرّخ الكبير محمود شاكر : ((وما إن تولّى ـ محمد سعيد ـ حتى عرضَ عليه صديقه المهندس الفرنسي فرديناند دولسبس مشروع قناة السويس فأعطاه امتياز ذلك ، ودولسبس ابن قنصل فرنسة في الإسكندريّة وصديق محمد سعيد منذ الطفولة ، غير أن هذا المشروع قد لقيَ معارضةً واسعة من قِبل الدولة العثمانية على اعتبار أن مصر ولاية منها ، وشجّع على ذلك الرفض الإنكليز الذين يخشون من النفوذ الفرنسي في مصر ، على حين تريد فرنسة بحصولها على هذا الامتياز أن يزداد نفوذها وتصبح المشرفة على طريق الهند . إلاّ أنّ نابليون الثالث إمبراطور فرنسة قد أيّد هذا المشروع بصورة تامّة ، ومشى وراءه بكل إمكاناته ، وحصل في النهاية على موافقة الخليفة)).انتهى[التاريخ الإسلامي 8/498]
والعجيب في كلام الأخ صاحب (فك الشفرة) أنّه جعل مشروع شق القناة تهمةً لأنّه كان سببًا في رأيه للغزو الإنكليزي!!
مع العلم أنّ سبب التدخل الأجنبي في شؤون الحكم بمصر ، والذي تلاه فيما بعد الغزو البريطاني ،لم يكن بسبب القناة وإنّما كان سببه تبذير وضخامة الإنفاق من الخزينة ، الذي مارسه الخديوي إسماعيل، وبدأ بالاستدانة من البنوك الغربية بفوائد ربوية فاحشة ، واضطر إلى بيع أسهم مصر من القناة فاشترتها إنكلترا ، وأصبح لها النفوذ القوي في مصر وازدادت الديون على مصر ، وبدأت الدول الأوربيّة تطالب بديونها ، فبدأ التدخل الإنكليزي بشؤون الحكم في مصر إلى أن انتهى بالغزو والاحتلال. [راجع تفاصيل الموضوع في التاريخ الإسلامي الجزء الثامن من ص500 إلى ص507].
وبفَرْض أنّ الأمير عبد القادر توسّط عند السلطان للقَبول بهذا المشروع ، فلماذا يرى البعض أن ذلك أمرٌ قبيح أو تهمة؟!
مصر كانت ولاية عربية مسلمة يحكمها مسلمون تابعون للسلطان العثماني ، فما المانع من إقامة مشروع قناة سويس الذي سيحسّن أوضاع تلك البلاد ويدرّ عليها المال؟! وهل إذا طمع الأعداء فيها بسبب مزايا تلك القناة، يعني عدم صحّة الشروع بها؟! لقد غزت الجيوش الفرنسية مصر واحتلتها قبل شق تلك القناة ، ثم تحررت البلاد ورجعت إلى أهلها ، وبعد ذلك غزتها الجيوش البريطانية ، وعادت وتحررت ، ومن حينها إلى اليوم مصر تنعم بالوارد المالي الضخم الذي تدرّه عليها تلك القناة، وتتبوّأ مكانةً عالمية مميزة بسبب ذلك.
على كل حال إن أوّل من تحقق على يديه شق قناة تصل بين البحر المتوسط والبحر الأحمر هو سنوسرت الثالث أحد فراعنة السلالة الثانية عشر (2000ـ1800 قبل الميلاد) ، ولمّا حكم ملك الفرس داريوس مصرَ سنة 510 قبل الميلاد أدخل على تلك القناة تحسينات كبيرة ، وفي سنة 285 قبل الميلاد أعاد حفر القناة كلها بطلميوس الثاني، وفي سنة 98 قبل الميلاد أعاد الرومان استعمال القناة بعد أن أُهملَت في أواخر عهد البطالسة.[الموسوعة العربية 11/364]
وأمّا في عهد المسلمين فتذكر الموسوعة العربية أنه : ((لمّا فتح العرب المسلمون مصر ، ووُلِّي عليها عمرو بن العاص (641ـ644م) ، خطر له أن يحفر قناة تصل مباشرة بين البحرين المتوسط والأحمر، وتشقّ السهل المنبسط القليل الارتفاع ، الممتد جنوبي "فرما" ، وهي مدينة كانت قائمة على مقربة من موقع بور سعيد الحالي . ولكن الخليفة عمر بن الخطّاب عارض هذا المشروع ، إذ جاء من يُنبّهه إلى أنّ شق البرزخ يُعرّض مصر كلها لطغيان مياه البحر الأحمر ، فأمر الخليفة بالاكتفاء بإعادة قناة الرومان القديمة ، لكي يتسنّى للسفن السفر إلى الحجاز واليمن والهند ، وبذلك أعاد العرب قناة الرومان إلى الملاحة من الفسطاط إلى القلزم ، في أقل من ستة أشهر (القلزم هو اللفظ العربي لاسم السويس القديم كليسما).
وقد سمّيت هذه القناة بقناة أمير المؤمنين ، واستُخدمت زهاء 150سنة ، لتنشيط التبادل التجاري بين البلاد العربية وأنحاء المعمورة كافة ، وخاصة لنقل الحجاج إلى بيت الله الحرام ، على أن الخليفة العبّاسي أبا جعفر المنصور أمر بردمها في نهاية القرن الثامن ، كيلا تستخدم في نقل المؤن إلى أهل المدينة الذين تمرّدوا على سلطته ، فتعطّلت بذلك الصلة مع البحرين مدة أحد عشر قرنًا.
وفي أثناء إقامة الفرنسيين في مصر ، إثر الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت ، درس المهندسون الذين رافقوا الحملة العسكرية ، النيل والبحر الأحمر وبرزخ السويس ، وبحث علماء الآثار عن بقايا الأقنية القديمة. ولم يكن من السهل على "دوليسبس" إقناع المسؤولين بفكرة فتح القناة ، بسبب المخاوف القديمة من طغيان مياه البحر التي كانت تراود أفكار الناس . واستمر دوليسبس في بذل مساعيه مستفيدًا من صداقته للخديوي محمد سعيد ، الذي أصدر فرمانًا في تشرين الثاني من عام 1854 يُعطي امتياز فتح القناة إلى دوليسبس ، وصدَّق الباب العالي امتياز القناة في تشرين الثاني 1858 ، وكانت مدة الامتياز 99 سنة.
ومع العقبات الكثيرة التي واجهت هذا المشروع ، فقد أمكن تدشينها في تشرين الثاني من عام 1869، وحضر الحفلة عدد من ملوك أوربا ، ومنهم الإمبراطورة أوجين زوجة نابليون الثالث وامبراطور النمسا وأمير بروسيا {ألمانيا}.
وبقيت القناة التي تمر عبر أراضي مصر ، والتي حفرتها أَيْدٍ عربية ، ملكًا لشركة السويس العالمية ، ومركزها باريس إلى أن أممتها الحكومة المصرية في 26 تموز 1956 {يعني قبل نهاية الامتياز بـ 12سنة}، فغدت شركة مصرية (عربية) وطنية)).انتهى[الموسوعة العربية 11/365]
إذن هذه قصّة قناة سويس ؛ وألفت انتباه القارئ إلى أنّ بعض الكتّاب يذكرون في كتاباتهم أنّ دوليسبس صديقٌ للأمير عبد القادر! وهذا خطأ أيضًا ، ولعلّ السبب في ذلك أنهم أثناء قراءتهم لتاريخ مصر في عهد محمد علي وابنه الأمير سعيد ، يكثُرُ الحديث عن الأمير وصديقه دوليسبس! ثم يأتي الحديث عن قناة سويس وعن حضور الأمير عبد القادر. فينصرف ذهنهم إلى أنّ المقصود بصديق دوليسبس هو الأمير عبد القادر مع أنّ المقصود هو الأمير سعيد باشا كما هو ظاهر في جميع النقول التي سقتها.
والعجيب من أولئك الكتاب إطلاقهم هذا الوصف (صديق الأمير) على بعض الأشخاص! فهل كل من يراسله الأمير أو يتصل به لسبب أو لآخر يكون صديقًا له؟ وكلمة صديق يستعملها العرب لدلالة معيّنة بخلاف الدلالة التي يريدها الأوربيون!
ولمزيدٍ من البيان أقول : إنّ معرفة الأمير بدوليسبس كانت بعد قناة السويس ، فبعد افتتاح هذه القناة ونجاحها والثناء العالمي عليها ، تحمّست فرنسة لإنجاز مشروع "البحر الداخلي الإفريقي" الذي يشتمل على أجزاء كبيرة من الأراضي التونسية والجزائرية ، وذلك في عقد السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر ، ويقع حوض هذا البحر في المنطقة المحصورة بين خليج فابس على الساحل التونسي شرقًا ، وجبال أولاد نايل وهضبة ميزاب غربًا ، وجبال الأوراس والنمامشة وتبسّة والظهر التونسي شمالاً ، وجبال مطمامة والهقّار جنوبًا . ولكن سكّان تلك الأراضي ترددوا في قبول هذا المشروع وعارضوه ، لأنّ البحر المفتوح سيغمر قراهم وأراضيهم ، فلجأ أصحاب هذا المشروع ، وعلى رأسهم دوليسبس ، إلى الأمير عبد القادر الجزائري وتَرَجَّوْهُ أن يكاتب أهالي وسكّان تلك المناطق ليقنعهم بفائدة المشروع. وليس ذلك لأن دوليسبس والحكومة الفرنسية أصدقاء للأمير كما يزعم البعض! وإنما لما يعلمه هؤلاء من المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة التي للأمير عند شعبه في الجزائر ومدى تأثيره فيه ، على الرغم من كل الحواجز التي وضعتها واختلقتها فرنسة بين الأمير وشعبه!.
فلمّا اقتنع الأمير بجدوى هذا المشروع وما سيجلبه لبلاده من الخيرات الكثيرة في مستقبله المنظور ـ لأنّ الاحتلال الفرنسي لبلاده لن يدوم بل سيزول ـ كتبَ رسالة وأرسلها إلى الجزائريين يحثّهم فيها على تأييد هذا المشروع، وأوضح لهم الأهميّة التي ستنجم عن إنجاز هذا البحر ، ودعَمَ آراءه بآيات من القرآن الكريم ، وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن عندما اطلع بعض الناس (من أصحاب فكر الاتهام والتشكيك في سلف الأمّة) بعد قرابة قرنٍ من وفاة الأمير على رأيه في المشروع أسرعوا وأطلقوا أحكامهم المنتقدة للأمير على موقفه هذا.
وقد تأثّر بعض الباحثين بهذه الانتقادات وبما كانت تروّجه بعض الكتابات الفرنسية ، ولكنه سرعان ما استدرك الأمر وصدع بالحق.
وأقصد بهذا المؤرّخ الأستاذ الدكتور يحيى بو عزيز رحمه الله ، الذي تعرّض لموضوع البحر الداخلي بالدراسة والبحث في عدّة رسائل ومحاضرات ثمّ جمع مضمونها في كتابه (مع تاريخ الجزائر في الملتقيات الوطنية والدُّولية) ومنه نقلتُ الموضوع ؛ يقول الدكتور يحيى بو عزيز معلّقًا على مراسلة الأمير للجزائريين بخصوص المشروع : ((.. وراسلهم وذلك مما يدل على بعد نظره وتفهّمه ، وإدراكه للأهمية الاقتصادية لهذا المشروع الضخم ، رغم أنه كان بعيدًا عن الميدان ، وليس صاحب اختصاص في الموضوع. وقد نشرنا عن هذا الموضوع دراسة وثائقيّة بمجلّة الأصاله انتقدنا فيها موقف الأمير ، ثمّ لمَّا تعمّقنا في الموضوع بالبحث والدراسة اكتشفنا أنه على حق ، فصححنا ذلك في الملتقى الثالث عشر للفكر الإسلامي بـ "تامنراست" عندما تناولنا هذا الموضوع بالبحث والدراسة من جديد)).انتهى[(مع تاريخ الجزائر) ص235]
رحِم الله الأستاذ بو عزيز ؛ وهذا الموقف منه يدلّ على حرصه وتمسّكه بالحق ، وسرعة رجوعه عن الخطأ بمجرّد ما لاح له الحق. وهذا هو دأب المنصفين والمتّقين من علماء المسلمين.
وقد أَسِفَ الدكتور يحيى بو عزيز على عدم إنجاز مشروع البحر الداخلي وتمنّى لو يُعاد النظر فيه اليوم ، فقال: ((إن مشروع هذا البحر الداخلي الإفريقي ، عظيم الأهمية ، كثير الفوائد والمزايا ويا حبّذا لو يُعاد التفكير في إنجازه مرة أخرى بعد أن تحررت شعوب المنطقة من الاستعمار الأوربي . فتسعى كلٌّ من تونس والجزائر ولربما ليبية ، لدراسته من جديد وفقًا للتطورات العلمية والتقنية الحديثة . وتعمل على إنجازه بواسطة الخبرة الدولية ، ورؤوس أموال الدول البترولية العربية الغنية التي تملك أرصدة ضخمة في البنوك الأجنبيّة الأوربيّة ، والأمريكية ، ولربما اليابانية كذلك.
إن هذا البحر ، رغم ما سيغمره من أراضٍ وقرى عمرانية كثيرة ، ستكون له آثار ونتائج إيجابيّة على مستقبل الصحراء وسكانها في الآماد البعيدة . لأنه سيقضي على الجفاف الحاد والعزلة الشديدة والتخلّف الفظيع . ويسمح للأساطيل البحرية أن تصل إلى أعماق الصحراء لإفراغ وشحن حمولاتها المختلفة ، وإيصال مرافق الحضارة إلى السكان العزّل بسهولة ، وييسر الاتصال بين أعماق الصحراء والعالم الخارجي.
وإذا ما أنجز هذا البحر الداخلي ، فإنه سيضاف إلى قائمة المنجزات العملاقة للجزائر ، وجيرانها من بلدان الشمال الإفريقي ، وسيقضي على خرافة التفوق الأوربي كذلك ، ويفتح المجال على مصراعيه للرأسمالية العربية لتستثمر في مشاريع التنمية الاقتصادية العربية الإسلامية ، بدلاً من استثمارها في مشاريع الأغنياء المترفين في أوربا وأمريكا ولربما اليابان)).انتهى[(مع تاريخ الجزائر) ص88]
فرحمة الله على الدكتور يحيى بو عزيز ، ورحمة الله على الأمير عبد القادر!
أمّا الشبهة قبل الأخيرة التي أثارها بعض الناس حديثًا حول الأمير فهي حقًا من أعجب الشُّبَه!!
ألا وهي النجمة السداسية الموجودة في شعار الختم الذي تُختم به بعض أوراق الأمير. وقد زعموا أنه ختم الأمير الخاص.
أقول : إنّ هذا الختم الذي يتحدّثون عنه ليس ختمًا خاصًّا بالأمير ، وإنما هو ختم الإمارة والدولة! وكانت الأوراق الرسمية (كالمعاهدات والمراسيم) تختم به في أعلاها ، وهو دائري الشكل مكتوب في محيطه البيت المشهور من قصيدة البردة للبوصيري :
((ومن تكن برسول الله نصرَتُه *** إنْ تَلْقه الأُسْد في آجامها تجِمِ)) وفي وسط الختم يوجد نجمة سداسية مرسومة بخطوط متقاطعة كتب في كل رأس من رؤوسها المثلّثة، على التسلسل ((الله ، محمد، أبو بكر ، عمر ، عثمان ، عليّ)) ؛ وفي وسط النجمة يرتسم الشكل المسدس المشهور لخلية النحل وكُتِب في وسطه : ((الواثق بالقوي المتين ، ناصر الدين ، عبد القادر بن محيي الدين))
وقد نصّ المؤرخون على كون هذا الختم خاصًّا بالإمارة الجزائرية [انظر على سبيل المثال كتاب (المقاومة الجزائرية تحت لواء الأمير عبد القادر) لإسماعيل العربي ص221].
وهذا الختم صنع سنة 1832م يعني قبل قيام إسرائيل بـ (116) سنة!
واليهود لم يتخذوا النجمة السداسية شعاراً لهم إلاّ بعد تأسيسهم لدولتهم المسخ!
وأمّا الماسون قبل الكيان الصهيوني فكان في شعاراتهم النجمة الخماسية وما زالت!
فكان على مثيري هذه الشبهة أن يتّهموا كل مَنْ في شعاره أو ختمه أو علم بلاده أو نقوشه ورسومه نجمة خماسية أنه ماسوني! لأنّها شعار للماسونية منذ نشأتها إلى اليوم بخلاف السداسية. وطبعًا هذا ضربٌ من الجنون أيضًا!
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري : ((من رموز الماسونية: المثلث، والفرجار، والمسطرة، والمقص، والرافعة، والنجمة الخماسية، والأرقام 3 و5 و7)).انتهى[موسوعة اليهود 5/380] ؛ ولم يذكر النجمة السداسية.
والنجمة السداسية هي شكل هندسي مشهور وكان يُعدُّ شعارًا لشمال إفريقية ، ويمكن للناظر أن يجده منقوشًا أو مرسومًا في الكثير من الأبنية القديمة الباقية في الجزائر أو المغرب أو تونس ومصر...
وكذلك يمكن أن يراه في الأبنية العثمانية الموجودة في شمال إفريقية أو في المشرق أو في تركية.
وعندنا هنا في دمشق نرى النجمة السداسية موجودة في معظم الأبنية العثمانية كالمساجد أو التكايا، وهي ظاهرة بوضوح ولونها أسود . هذا عدا النجمات السداسية المتشكلة من الرسوم والنقوش الهندسية المعروفة بـ (خط النقش العربي) والتي تظهر بوضوح في قطع الأثاث المصنوع من "الموزاييك" وكذلك في الجدران والأسقف الخشبية التي تزين بها الأبنية الفخمة .
وأكثر من ذلك: فإن كل أحد يستطيع أن يرى النجمة السداسية المفردة بكل وضوح على مآذن الجامع الأموي بدمشق ؛ والذي بناه الأمويون قبل ثلاثة عشر قرنًا!!
وإنّ بعض ملوك وسلاطين المغرب وعلمائه أيضًا ، اتّخذوا لأنفسهم أختامًا شخصيّة شعارها النجمة السداسية ، وهذا قبل عصر الأمير عبد القادر. والناظر في كتب التراجم المصوّرة يقف على بعض هذه الأختام والشعارات. وأضرب لكم مثالاً على ذلك ، الختمَ الخاص لسلطان المغرب سليمان بن محمد ويمكن رؤيته في موسوعة "الأعلام" للزركلي. وإليكم ترجمة هذا السلطان:
قال الزركلي: ((المولى سليمان (1180- 1238 هـ = 1766- 1822م) سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل، أبو الربيع، الشريف العلوي: من سلاطين دولة الأشراف العلويين في مراكش.
بويع بفاس سنة 1206هـ ، بعد وفاة أخيه المولى يزيد. وامتنعت عليه مراكش، فزحف إليها سنة 1211هـ ، فبايعه أهلها.وأقام فيها مدة ثم استوبأها، فانتقل إلى مكناسة، وتوفي بمراكش.
كانت أيامه كلها أيام ثورات وفتن وحروب، انتهت باستقرار الملك له، في المغرب الأقصى.
وكان عاقلاً باسلاً، محبًا للعلم والعلماء، له آثار في عمران فاس وغيرها، قال الكتاني: كان من نوادر ملوك البيت العلوي في الاشتغال بالعلم وإيثار أهله بالاعتبار. له حواش وتعاليق على الموطأ والمواهب)).انتهى
وقال عبد الحيّ الكتاني في "فهرس الفهارس" مترجمًا له: (( الفقيه البياني النحرير الناسك، له حواش وتعاليق على الموطأ وشرحها للزرقاني والمواهب وغيرها، وحاشية عليّ الخرشي في مجلدين، حلاّه أبو التوفيق الدمنتي في فهرسته بـ "السلطان الجليل، العلامة النبيل، الشريف الأفضل، الحجة الأكمل".... وقال القاضي ابن الحاج في "الأشراف" : " كان لا يجالس إلا الفقهاء، ولا يبرم أمراً من أمور مملكته إلا بعد مشاورتهم ولا يقبل منهم إلا النص الصريح، ويبالغ في الثناء عليهم وتعظيمهم وصلتهم ومودتهم وتفقد أحوالهم وأحوال كل من له صلة بهم"اهـ. وكان له اشتغال بقراءة التفسير والحديث غريب، انقطع لذلك وعكف عليه)).انتهى
ولم يكن أحد في السابق ينفر من هذه النجمة أو يستهجن وجودها قبل قيام دولة إسرائيل وجعلهم تلك النجمة شعارًا لهم . ومع ذلك فإنّ اليهود يرسمون شعارهم على شكل مثلثين متداخلين غير متحدين فيظهر الشكل يشبه النجمة السداسية .
وأمّا الماسون فهم لا يتخذون من النجمة السداسية شعارًا لهم وإنما شعارهم الفرجار والزاوية القائمة، وهم يرسمونه بحيث تتداخل الزاوية القائمة مع الفرجار فيظهر بشكل يشبه النجمة السداسية، وذلك لأنهم يرمزون بهذا الشكل إلى زعيمهم الذي يدعونه بـ "مهندس الكون الأعظم"
فليس من المقبول عقلاً أن يُقال إن دولة الأمير اتخذت رسم النجمة السداسية ضمن خاتمها الرسمي تشبّهًا باليهود أو تقليدًا لهم . واليهود لم يتخذوا ذلك الشعار إلاّ بعد أكثر من قرن من تصميم ختم الإمارة الجزائرية. ليس ذلك فحسب بل إن قائل ذلك لا يتهم الأمير وإنما يتهم كل الدولة الجزائرية في ذلك الوقت : القواد العسكريين والوزراء والخلفاء والشيوخ والشعب عامّة.
وكل ما في الأمر أنه رسم هندسي لا علاقة له بأي جهة لا من قريب ولا من بعيد .
أمّا الأمير عبد القادر فاتخذ لنفسه خاتمًا شخصيًا يختم به رسائله أو إجازاته . وهو ختم دائري صغير مكتوبٌ فيه : (عبد القادر بن محيي الدين) وكان يختم به الرسالة في نهايتها آخر الصفحة ، بخلاف ختم الإمارة الذي يوضع في رأس الصفحة . وختم الأمير الخاص لا يوضع إلا في نهاية الرسائل أو الإجازات.
وأمّا آخر شُبهة وقفتُ عليها في اتهام الأمير، فهي ما ذكره الأخ صاحب"فك الشفرة" بقوله : ((كما قام بإنشاء مصرف دولي كان يموّل الطريق التي تربط ما بين دمشق وبيروت، ومن خلاله قام باستقبال أسرة آل روتشيلد اليهودية العالمية المُريبة "صانعة الملوك")).انتهى
أقول : هذا الكلام باطلٌ جملةً وتفصيلاً! وأنا لم أقف عليه في أي مرجع ولم أسمعه من أي شخص عارف مطلع ، وأوّل مرّة سمعت به كان على لسان الفرنسي"برونو إيتيان" في الفيلم المُغرض الذي بثّته وتبثّه القناة المشبوهة "العربية"! ويبدو أنّ الأخ محمد مبارك اعتمد عليه كسائر الأقوال التي اقتبسها من هذا الفيلم! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكل معطيات هذا الكلام مردودة بالوقائع الثابتة!
إنّ مهمّة إنشاء الطرق بين المدن والولايات والإنفاق عليها هي من صلاحيات الحاكم أو الوالي وبموافقة الباب العالي، ويُرصد لها ميزانيّة كبيرة ؛ فكيف يُنسب هذا المشروع ـ شق الطريق بين دمشق وبيروت ـ إلى الأمير عبد القادر الذي لا يحمل أي صفة رسمية في الدولة؟ ومن أين للأمير أن يموّل مثل هذا المشروع وهو يحصل على مرتب شهري من الحكومة الفرنسية ، وعطاءات من السلطان العثماني؟
وحقيقة الأمر أنّ الذي قام على مشروع الطريق بين دمشق وبيروت إنما هو "رشدي شرواني باشا" والي دمشق العثماني (من 1277 إلى 1280هـ تقريبًا) وفتحُ هذا الطريق يُعدُّ من منجزاته وآثاره. هذا ما تذكره المراجع التاريخية المتخصصة في هذا الشأن : قال أديب تقي الدين في "منتخبات التواريخ لدمشق" : ((ثم جاء رشدي شرواني باشا ، وهو من المطلعين على حقائق هذه البلاد ، لأنه كان في معيّة فؤاد باشا بعمامة بيضاء سالكًا سلوك العلماء ، وهو من أعضاء مجلس فوق العادة ، ومن المريدين لهذه البلاد الإصلاح والسعادة ، فانتفع به الوطن وحَمِدَ الناسُ أيّامَ ولايته ، وأبقى من الآثار الحسنة ما يستوجب عليه الثناء لأنه كان فخر الأمراء وعين العلماء . وكان متقلدًا لمنصب الصدارة ، وفي زمنه صار تشكيل الولايات ، وطريق "الشوسة" بين بيروت ودمشق)).انتهى [منتخبات التواريخ 1/269] ؛ و"الشوسة" اسم الشركة التي شقت الطريق.
والقارئ لتراجم وسِيَر الولاة العثمانيين على مدينة دمشق يرى أنّ شق الطرق وإصلاحها وبناء المدارس ومدّ الأسلاك البرقية وبناء الجسور وغير ذلك إنما هو من مهامهم ، وتمويله يكون من خزينة الولاية! والدولة العثمانية كانت تستعين بشركات أجنبية إيطالية وألمانية وغيرها لإنجاز كثير من تلك المشاريع. (من بين تلك المشاريع إنشاء شبكة للاتصالات البرقية بين دمشق والمدينة المنورة).
ولكن الأمر العجيب الذي لا أدري كيف استساغه الأخ محمد مبارك أو غيره ممن خاض في هذا الموضوع ، هو زعمه أنّ الأمير أنشأ مصرفًا دوليًا للتمويل ومن خلاله استقبل آل روتشيلد!!
فإمّا أنه غاب عنه معنى مصرف دولي أو أنه غاب عنه ما معنى آل روتشيلد!
الأمير عبد القادر كان ميسور الحال ، هذا صحيح ، ولكن هذا لا يعني أنّه كان من عمالقة الرأسماليين بل ولا من صغارهم. فدخله الشهري يكاد لا يبقى منه شيء آخر الشهر فهو يخصص منه مرتبات ثابتة لعشرات العلماء ولأبنائهم وكذلك لأُسَر الفقراء وللأعمال الخيرية ، وطبعًا لأسرته وعائلته ، وتحدّثنا بشيء من التفصيل عن وضعه المالي في حلقات سبقت فيمكن الرجوع إليها.
كانت تأتيه السندات المالية (الكمبيالات) بمرتبه الشهري ، ويقوم ببيعها إلى صرّاف في بيروت وكانت قيمة السند تساوي (12,375) فرنك فرنسي!!
فرجل هذا هو دخله الشهري ، كيف يمكن له أن يؤسس مصرفًا دوليًا أو يموّل مشروعًا بملايين الفرنكات؟! (وللفائدة فإن تَرِكَة الأمير المالية ليس فيها مصارف ولا بنوك ولا أموال نقدية كبيرة ، وإنما هي دُوْرُه وأراضيه)
أمّا آل روتشيلد : ((فهم عائلة من رجال المال ويهود البلاط الأوربي الذين تحوَّلوا بالتدريج إلى رأسماليين من أعضاء الجماعات اليهودية. واكتسب نيثان ماير روتشيلد مكانة مرموقة في عالم المال أثناء الحروب النابليونية حيث ساهم في تمويل إنفاق الحكومة الإنجليزية على جيشها في أوربا، واستعان في ذلك بأخيه جيمس روتشيلد المقيم في فرنسة، كما ساهم في تمويل التحويلات البريطانية إلى حلفائها في أوربا. وقد استطاعت عائلة روتشيلد، خلال تلك الفترة، تدبير ما يقرب من 100 مليون جنيه إسترليني للحكومات الأوربية. وبعد الحرب، كانت هذه العائلة هي الأداة الرئيسية في تحويل التعويضات الفرنسية إلى الحلفاء وفي تمويل القروض والسندات الحكومية المخصصة لعمليات إعادة البناء. وأكسبته هذه المعاملات المالية مكانة متميِّزة في جميع أنحاء أوربا ودعمت مركز مؤسسته كواحدة من أبرز المؤسسات المالية الأوربية في تلك الفترة.
ولـ "ليونيل روتشيلد" أعمال مالية شهيرة : من بينها تدبير قرض قيمته 16 مليون جنيه لتمويل حرب القرم (التي خاضتها الدولة العثمانية مع حلفائها بريطانيا وفرنسة لمواجهة روسيا). كما قدم ليونيل التمويل اللازم لدزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا، الذي كانت تربطه به صداقة وثيقة، لشراء نصيب مصر في أسهم قناة السويس عام 1875، وهي عملية تمت في كتمان وسرية تامة بعيداً عن الخزانة البريطانية، ولم يُبلَّغ البرلمان البريطاني بها إلا بعد إتمامها. ولا شك في أن مساهمة بيت روتشيلد في تقديم القروض للخديوي إسماعيل ولأعيان مصر، وما تبع ذلك من تَضخُّم المديونية المالية لمصر، ثم ما جر ذلك وراءه من امتيازات أجنبية ثم تَدخُّل بريطاني في آخر الأمر بحجة الثورة العرابية، كل ذلك تم في إطار المصالح الإمبريالية الرأسمالية التي كانت تسعى لفصل أهم أجزاء الإمبراطورية العثمانية عنها تمهيداً لتحطيمها وتقسيمها.
وقد اشترك ليونيل روتشيلد أيضاً في إقامة السكك الحديدية في فرنسة والنمسا ....
وأما جيمس ماير دي روتشيلد فكان مقرباً لملك فرنسة لويس فيليب حيث تولى إدارة استثماراته المالية الخاصة، كما قدَّم قروضاً عديدة للدولة. كما شارك مدة طويلة من عمره في رسم السياسة الخارجية الفرنسية. وفي أعقاب ثورة 1848، استمر بيت روتشيلد في تقديم خدماته المالية وقام بتدبير القروض لنابليون الثالث....
وشارك بيت روتشيلد في تمويل الجيوش والحروب، وفي تسوية التعويضات والديون، وفي تمويل مشاريع إعادة بناء ما دمرته الحروب وفي تقديم القروض للعديد من الملوك والزعماء، وفي تمويل المشاريع والمخططات الاستعمارية والتي كان المشروع الصهيوني في فلسطين في نهاية الأمر يشكل جزءاً منها)).انتهى[باختصار من موسوعة اليهود للمسيري 3/88]
إذن فآل روتشيلد كانوا يموّلون الحروب والجيوش والمشاريع الضخمة في أوربة ، وكانت الدول العظمى كبريطانية وفرنسة تقترض من بنوك آل روتشيلد عشرات الملايين من الجنيهات ، وبلغت بعض القروض الممنوحة لعدة حكومات أوربية مئة مليون جنيه إسترليني ، وكانت مصر ترزح تحت وطأة ديونها العائدة لمؤسسات روتشيلد ، بل إن الدولة العثمانية ترتبت عليها ديون كبيرة لبنوك آل روتشيلد! فكيف صدّق الأخ صاحب "فك الشفرة" بأن الأمير يمكن أن يؤسس مصرفًا دوليًا، يستقبل من خلاله أسرة آل روتشيلد؟! والأمير كان يحصل على مرتبه من نابليون الثالث الذي كان يقترض لدولته من مؤسسة آل روتشيلد!!!
وللفائدة أذكره بأنّ توجهات أسرة آل روتشيلد في حياة الأمير عبد القادر لم تكن صهيونية!
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري : ((ومن الجدير بالذكر أن عائلة روتشيلد، مثلها مثل غيرها من عائلات أثرياء اليهود المندمجين في المجتمع البريطاني، كانت في البداية رافضة لصهيونية هرتزل السياسية بسبب تَخوُّفهم مما قد تثيره من ازدواج في الولاء، وهو ما يشكل تهديداً لمكانتهم ووضعهم الاجتماعي. وقد ساهمت العائلة في تأسيس "عصبة يهود بريطانيا المناهضة للصهيونية". لكن هذا الموقف تبدَّل فيما بعد حيث تبيَّن أن وجود كيان صهيوني استيطاني في المشرق العربي يخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية، وذلك إلى جانب أن الصهيونية كان يتم تقديمها في ذلك الوقت كحل عملي لتحويل هجرة يهود شرق أوربا إلى فلسطين بعيداً عن إنجلترا وغرب أوربا)).انتهى[موسوعة اليهود 3/89 ـ90] ؛ توفّي الأمير ، وهرتزل عمره عشرون سنة!
وختامًا أقول: أرجو أن أكون قد وفّقت في رد الشبهات المثارة حول شخص الأمير عبد القادر الجزائري ، تلك الشبهات التي ما كان لها أن تجد مجالاً للقَبول أو الانتشار لو أنّ المتلقّين لها كانوا على شيء من الاطلاع أو المعرفة بتاريخ تلك الحقبة ، فضلاً على تاريخ الأمير عبد القادر وسيرته ، أو أنّهم تريّثوا وتبيّنوا قبل أن يقبلوها ويروّجوا لها.
وللَّذين يريدون معرفة سيرة الأمير عبد القادر الجزائري أقول: إنّ هذه الحلقات ليست السبيل إلى ذلك ، فأنا في هذه الحلقات كنتُ معنيًّا ببحث الشبهات والتهم ثم معالجتها وردّها . ولم أتطرّق إلى سيرة الأمير إلاّ عَرَضًا ولضرورات البحث. وإنما السبيل إلى ذلك هي قراءة الكتب والمراجع المتخصصة في هذا الشأن. وليس من ترجمة وسيرة الأمير التي تنشر في الإنترنت ويتناقلها الجميع وينشرونها في منتديات ومواقع كثيرة ، وهي ترجمة غير دقيقة بل فيها الكثير من الخلل ، ومع ذلك فهي لا تتعرض لتفاصيل سلوك وأخلاق ومبادئ الأمير. ولعلّي في القريب إن شاء الله أضع لكم ترجمة عن حياة هذا الرجل من المراجع الموثوقة تُبيّن بوضوح خصاله وشمائله.
وكنت أود أن أتطرّق إلى كشف حقيقة بعض الكتب التي تعرّضت للحديث عن الماسونية والتحذير منها وأورَدَت أسماء بعض رجالات العرب والمسلمين ضمن المنتسبين إليها في محاولة للتشهير بهم! ولكن أرجأت هذا إلى وقت آخر خشية التطويل.
بقي أمر وهو أنني سأنهي قريبًا بحثي في كتاب "المواقف" وديوان الأمير ، وسيأتيكم في رسالة مستقلة في أقرب فرصة إن شاء الله.
والحمد لله أولاً و آخرًا ، وأشهد ألا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله ، وأستغفر الله العظيم من كل خلل أو زلل. {ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}
خلدون بن مكّي الحسني
دمشق أول المحرّم 1430هـ
****************************** ***********
([1])مثال على ذلك ما يفعله مدير الفضائية العربية من تكرير عرض فيلم الأمير عبد القادر ووصفه بالماسوني! مع أنّ مدير تلك القناة هو أنسب بذلك الوصف وأفعاله أكبر شاهد لا على ماسونيّته بل على ما هو أسوء منها!!
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
أكرمك الله شيخنا حفيد الأكارم أبا إدريس الحسني
ونشكر الأخ محمد المبارك الذي أثار بمقاله هذا الدفين عند شيخنا لتعم القراء هذه الفوائد والتحقيقات
أعلم ضيق وقتك شيخنا، ولكن لي رجاء أن تولي من حولك من طلبة العلم إعادة صياغة هذا المقال ليكون كتاباً يترجم للأمير عبد القادر ويفند هذه الإفتراءات.
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
بارك الله في شيخنا الدكتور خلدون حفظه الله على هذا البحث القيم
و اضم صوتي الى صوت الاستاذ البيطار وفقه الله .
و لي عدة استفسارت بسيطة لعلي أورِدها قريبا حول بعض المباحث فلعل الشيخ الدكتور يتسع صدره لإفادتنا حولها حفظه الله ، و وفقه لما يحبه ويرضاه .
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
عفوا
اسمح لي ياشيخ خلدون_وفقك الله_ بان أضع هنا كلاما قرأته في كتاب "ابن قيم الجوزية حياته آثاره موارده"من تأليف الشيخ بكر أبو زيد ص310:حيث يقول في معرض سبب فقد كثير من كتب ابن القيم (...ان ابن القيم رحمه الله تعالى كما لاقى عناء الخصوم في حياته فإن السخط والخصام مايزالان يتوارثان بتطاول الالسنة وامتداد المداد,وبإيقاد نار السخط والكراهية لهذه المدرسة السلفية وأساتذتها التي قام بإحيائها على هدي الشريعة ونورها شيخا الاسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله
ونتيجة لهذا الطيش تصدى لكتبه وكتب شيخه ابن تيمية أعداء هذه الدعوة السلفية بالجمع والتحريق لها
وكان من اعظم من تولى كبر ذلك :الامير المجاهد ,عبد القادر الجزائري(1),إبان إقامته في دمشق بلد ابن القيم وموطن مكتبته ,قال الاستاذ الالباني في مقدمة"الكلم الطيب ,لابن تيمية مانصه:إن احد الامراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي وكان ذا سلطان ومال جعل يجمع مؤلفات شيخ الاسلام وتلميذه ابن القيم ويحرقها ,فإن لم يتمكن من إقناع مالك الكتاب بحرقه اشتراه منه أو استوهبه وربما التمس وسائل أخرى لاتلافه,بدافع انتصاره لمذهب_الحلول والاتحاد هذا المذهب الذي كشفا زيفه بحجج الله القاهرة)انتهى النقل ...
قرأت هذاالمقطع من الكتاب من زمن قريب , وانا أنقله هنا بنصه وحاشيته , وقلت لعلي أجد عند الشيخ خلدون_وفقه الله_جواب على ذلك...
والله اعلم
(1) هو:عبد القادر بن محي الدين الحسيني الجزائري أمير عالم مجاهد شاعرشجاع فيلسوف في متابعته ابن عربي الحاتمي,صاحب وحدة الوجود ’تةفي سنة 1300هـ ,انظر:الاعلام للزركلي(4_170)
-
جواب وتعليق
الأخ الكريم ابن رشد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بارك الله فيك ووفقك لكل خير. وإليك جوابي عن سؤالك.
بدايةً أقول: لقد عالجتُ هذه المسألة بتوسع في أوّل حلقة من هذه السلسلة ، فأرجو العودة إليها لتكون تفاصيل الموضوع حاضرة في الذهن.
والآن إليك رأيي في ما ذكرت.
إنّ الكلام الصادر عن الشيخ بكر أبو زيد وعن الشيخ ناصر الدين الألباني رحمهما الله ، يحتاج إلى دليل وبينة تثبت ما قالوه! فكلاهما لم يعاصر الأمير ولم يُسندا كلامهما إلى أحد عاصر الأمير. ولا يوجد أن مستند نصي لما قالاه أبدًا!
وفي اعتقادي أنّ الشيخين اعتمدا على كلام الشيخ محمد نصيف الذي أورده الشيخ عبد الرحمن الوكيل في مقدمة كتاب (تنبيه الغبي). وكلام الشيخ نصيف هو: "أقول أنا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف: سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة 1355هـ عن سبب عدم وجود ما صنفه العلماء في الرد على ابن عربي ، وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة؟ فقال: قد سعى الأمير السيد عبد القادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة ، وطالعها كلها ، ثم أحرقها بالنار)).انتهى [ص14]
أقول: إن كلام الشيخ نصيف ـ فيما يرويه عن ذلك السائح الأعجوبة ـ على ضعفه وافتقاره إلى كل عناصر القَبول ، ليس فيه ذكر الشيخين ابن تيمية وابن القيّم! لا من قريب ولا من بعيد كما هو واضح لكل قارئ.
ثم لا أدري كيف يُقبل مثل هذا الكلام؟! انظر إلى هذه العبارات :(بجمعها كلهاـ وطالعها كلها ، ثم أحرقها بالنار) إنّها كافية للدلالة على كذب هذا السائح. فمن أين له أنّ الأمير طالعها كلّها؟؟ ثم كيف يقول جمعها كلّها وأحرقها وهي موجودة كلّها ولم يحرق منها شيء؟؟!!
ويبقى ما قاله الشيخان أبو زيد والألباني كلامًا محْدثًا يحتاج إلى برهان حتى يقبل!
وفي كلام الشيخ بكر أبو زيد أشياء تستحق الاستفهام؟ فهو يذكر أنّ كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيّم تعرضت للتحريق وفُقِد منها الكثير!! ثم قال (إنّ أعظم من تولى كبر تلك العملية هو الأمير عبد القادر).
كلامه واضح أنّ هناك من قام بالإحراق قبل الأمير ، ولكن الأمير برأيه هو أعظم من تولى ذلك! طيب؛ لماذا لم يذكر لنا اسم واحد على الأقل من هؤلاء الذين أحرقوا كتب الشيخين؟
والجواب أنه اعتمد على رواية السائح التركي (والتي فيها ذكر الأمير فقط! ـ وليس فيها ذكر ابن تيمية أو ابن القيم!!)
إن الإمامان ابن تيمية وابن القيّم في عصرهما تعرّضا للهجوم والحرب والخصومات الشديدة وظهر من أفتى بكفرهما ، وسيق ابن تيمية إلى السجن ثلاث مرات ومات في السجن! ومع ذلك لم يذكر أحدٌ من العلماء أن كتبهما تعرّضت للإحراق أو الإتلاف ؛ فكيف ساغ للبعض أن يقول إن الأمير بعد أكثر من خمسمئة سنة جاء ليحرق كتب الشيخين؟!!
مع أنّ تراث الأمير المكتوب ليس فيه أي تعرّض للشيخين أو لمدرستهما؛ بل إنّ الأمير كان يستشهد بكلامهما! فعلى سبيل المثال في كتاب الأمير عبد القادر (المقراض الحادّ لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد) استشهد الأمير بكلامٍ للإمام ابن القيّم فقال ص45 : ((وقال ابن القيّم في حديث العين حق: من وجه بأن الله تعالى أجرى العادة بخلق ما يشاء عند مقابلة عين العائن...إلخ)).انت هى[المقراض الحاد ص45]
فهذا الأمير يستشهد بكلام ابن القيّم الذي يقول الشيخ بكر أبو زيد إن الأمير أحرق كتبه!!
أليس هذا أمرًا عجيبًا!!
وللفائدة فإنّ إحراق كتب الخصوم كان معروفًا وحدث عبر تاريخنا كثيرًا وقد سجّله التاريخ لنا ولعلّ أشهر حادثة هي حادثة إحراق المالكية لكتب الإمام ابن حزم في الأندلس وكذلك إحراق كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ، وغيرها . وفي تراجم العلماء نجدهم يذكرون صفات الشخص المترجم له ثمّ يوردون مواقفه تجاه مخالفيه ومن ذلك إتلافه لكتبهم! فمثلاً في ترجمة الشيخ القاضي مسعود بن أحمد بن زيد الحارثي العراقي الحنبلي (652 ـ 711هـ) قال الحافظ ابن حجر: ((... وكان ابن دقيق العيد ينفر منه لقوله بالجهة ويقول هذا داعية ويمتنع من الاجتماع به ويُقال أنه الذي تعمّد إعدام مسودة كتاب "الإمام" لابن دقيق العيد بعد أن كان أكمله فلم يبق منه إلا ما كان بيّض في حياة مصنفه)).انتهى [الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة]
وإننا لو رجعنا إلى كل الكتب التي ترجمت للأمير عبد القادر ـ وهي بالعشرات ـ لن نجد أحدًا أشار إلى حادثة إحراق كتب ابن تيمية أو ابن القيّم!! وهذا أكبر دليل على أنّه ليس لتلك القصّة أي أصل!! وإنما هي مختلقة.
وكذلك في تراجم العلماء نجدهم يذكرون مؤلّفات العالم ويشيرون إلى المفقود منها. وإننا لو رجعنا إلى الكتب التي ترجمت للإمامين ابن تيمية وابن القيّم ، لن نجد أحدًا أشار إلى وجود كتب مفقودة لهما . والحافظ ابن حجر في كتابه الدرر الكامنة (الذي ذكر فيه قصة إعدام كتاب ابن دقيق العيد) ذكر ترجمةً موسّعة جدًا للإمام ابن تيمية وتحدث عن مصنفاته ولم يشر إلى وجود شيء مفقود منها!! وكذلك الأمر مع ابن القيّم . بل إنّ جميع المصنفات التي ذكروها لهما نجدها مطبوعة اليوم!!!
وليس لدي تفسير لكلام الشيخ بكر أبو زيد إلاّ أنه انطلق من كلام الشيخ محمد نصيف ، ثم زاد عليه ما ظنّه أو توهّمه ، بدليل أنه لم يذكر أحدًا سوى الأمير وجعله الذي تولى كبر ذلك!!
وبمقارنة بسيطة بين ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد في كتابه عن ابن القيّم ، وبين الترجمة التي كتبها شيخنا المحدّث أبو محمود عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله ، لابن القيّم ، نجد الفرق الكبير بين كلامهما! الشيخ الأرناؤوط ذكر مؤلّفات ابن القيّم وعدّها وقال عنها "وجميعها جيد مفيد في بابه" ثم أورد أسماء كثير منها وهي مطبوعة (وقد ذكرها أيضًا ابن حجر في عصره من ستمئة سنة!!) ، في حين نجد أنّ الشيخ بكر أبو زيد يقول إن كتب ابن القيّم وشيخه جمعت وأحرقت!!! أليس هذا عجيبًا!
ثم ما هي الكتب التي فُقِدت من تراث الشيخين ابن تيمية وابن القيّم؟؟ لماذا لم يذكر لنا أمثلة على ذلك؟ مع أن المكتبة الإسلامية والحمد لله زاخرة بكتب ورسائل الشيخين.
ولي ملاحظة هنا أيضًا: فإنّ الحاشية التي أوردها الشيخ بكر أبو زيد وقال فيها : "(1) هو:عبد القادر بن محي الدين الحسيني الجزائري أمير عالم مجاهد شاعر شجاع فيلسوف في متابعته ابن عربي الحاتمي,صاحب وحدة الوجود ، توفي سنة 1300هـ ,انظر:الأعلام للزركلي(4_170)"
الكلام فيها يشعر القارئ أنه منقول عن الأعلام للزركلي. والأمر ليس كذلك فالكلام كله للشيخ أبو زيد وخاصّة قوله : "فيلسوف في متابعته ابن عربي الحاتمي,صاحب وحدة الوجود".
وأمّا كلام الشيخ ناصر الدين الألباني الذي نقله الشيخ أبو زيد .فلا أدري ما سياقه فليس عندي ذلك الكتاب. وإذا سلّمنا به كما ورد ففيه غرابة أيضًا ، فلماذا لم يسمّ الشيخ ناصر الأميرَ الذي يتحدث عنه؟ فالأمر مقصود بلا شك. وعن أي مؤلّفات يتحدث؟
وتفسيري لهذا هو أنّ كلام الشيخ ناصر مستمدٌ من كلام الشيخ محمد نصيف أيضًا .
والشيخ ناصر محدّث ومن علماء الحديث وهو من أدرى الناس بشروط قبول الرواية، فلعلّه أبهم الاسم لأنّ الرواية عنده لم ترقَ إلى درجة القبول والاحتجاج. وعلى كل حال وكما قيل ((آفة العزو التقليد)) .
إننا إذا نظرنا إلى كلام الشيخين أبو زيد والألباني ووضعناه في ميزان شروط قبول الرواية في الإسلام نجده يفتقر إلى شروط كثيرة إذا لم نقل إلى جميع الشروط! فكيف يروون أشياء عن رجل لم يعاصراه؟ وأين مصدر روايتهما؟ وعمّن رووا تلك الحادثة؟ وما الأدلة التي تؤيد ما قالاه؟
إنّ جميع الكتب التي أرّخت لتلك الحقبة أو ترجمت للأمير عبد القادر على مختلف مشاربها لم تذكر تلك القصّة لا في مناقبه ولا في المآخذ عليه!!
وكل العلماء الذين كانوا على مدرسة الشيخين ابن تيمية وابن القيّم في ذلك العصر لم يذكروا شيئًا عن هذه الحادثة ، وأشهر هؤلاء الشيخ عبد الرزاق البيطار والعلاّمة جمال الدين القاسمي والشيخ محمد بهجة البيطار، وقد عانوا الكثير بسبب انتمائهم إلى تلك المدرسة، ومع ذلك فإنهم لمّا ترجموا للأمير عبد القادر لم يذكروه إلاّ بكل التقدير والحب والإعظام وأشادوا بمواقفه في الجزائر والشام، وهم الأعلم به والأقرب إليه زمنًا (الشيخ عبد الرزاق والقاسمي عاصرا الأمير).
و عُثر على معظم تراث ابن تيمية وابن القيّم في دمشق! حيث كان يعيش الأمير عبد القادر ، وحيث كانت دار الكتب الظاهرية التي أنشأها ومدّها بالمخطوطات والكتب أحدُ ألمع تلامذة الأمير عبد القادر والمقرّبين منه: إنه الشيخ طاهر الجزائري السمعوني السَّلَفي ، والأمير كان يمدّه بالمال والمخطوطات ، ومعظم المخطوطات التي كانت عند الأمير أعطاها للشيخ طاهر ، والمكتبة الظاهرية أُسِّسَت سنة 1879م يعني قبل وفاة الأمير بخمسة أعوام وافتتحت بحضوره. والشيخ طاهر يُجلّ الأمير كثيرًا ورثاه بمرثيّة من أبدع ما قيل.
والذي أرشد الشيخ عبد الرحمن العاصمي إلى مجموع فتاوى ابن تيميّة ، هو الأمير عبد المجيد حفيد الأمير عبد القادر ، الذي كان أمينًا للمكتبة الظاهرية قرابة أربعين سنة! وللفائدة فإن الأمير عبد المجيد هو الذي كان يقدم التسهيلات للشيخ المحدّث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ، أثناء وجوده في المكتبة الظاهرية.
فإذا كان مستند كلام الشيخين أبو زيد والألباني هو كلام الشيخ محمد نصيف ، فهذه مصيبة حقًا! أولاً؛ لأنّ مدار رواية الشيخ نصيف على السائح التركي "ولي هاشم" وهو شخص غير معروف ولم أجد له أي ذكر أو تعريف . إذن هو مجهول العين والحال!!
ثانيًا؛ لقاء الشيخ نصيف بالسائح التركي كان سنة 1355هـ أي بعد وفاة الأمير بخمس وخمسين سنة! والشيخ نصيف ولد سنة 1302هـ أي بعد وفاة الأمير!! والسائح التركي لا نعرف عنه شيئًا ، فهنا ضاع شرط المعاصرة واللّقي!!
ثالثًا؛ كلام السائح التركي ظاهر الكذب وغير مقبول حتى بالتجويزات العقليّة!
رابعًا؛ ليس في رواية الشيخ نصيف أي ذكر للإمام ابن تيمية أو ابن القيّم ، فكيف يستندون على كلام ليس فيه موضع الاحتجاج؟
خامسًا، الكتب التي سأل عنها الشيخُ نصيف السائحَ التركي،كانت بحوزته!(تنبيه الغبي)مثلاً ؛ وكتب الشيخ ابن تيمية التي تعرّض فيها لانتقاد ابن عربي كانت موجودة! فقد عَثَر عليها الشيخ عبد الرحمن العاصمي الحنبلي رحمه الله سنة 1340هـ ، ومجموع الفتاوى الخاص بشيخ الإسلام وَجَدَه الشيخ العاصمي في المكتبة الظاهرية بدمشق!!
إذن فلا يُعقل أن يكون الشيخ نصيف يسأل عن هذه الكتب وهي إما بحوزته أو عُثِرَ عليها. فكيف يسوغ للبعض أن يفهم من كلامه أنه يسأل عن كتب ابن تيمية ، ويفهم من كلام السائح التركي أن الكتب التي أحرقت هي كتب ابن تيمية! هذا عجيبٌ حقًا!
ختامًا أقول : أخي ابن رشد وفقك الله وسددك ، إننا إذا أردنا أن نعتمد كلامًا (وبخاصة إذا كان جرحًا أو اتهامًا) عن شخصٍ ما ونحن نعلم أننا سنسأل عنه يوم القيامة ، فلا بدّ أن يكون موثقًا ومدعّما بالأدلة وهذا ما لا وجود له في رواية الشيخ أبو زيد أو الشيخ الألباني رحمهما الله وغفر لي ولهما.
والسلام عليكم ورحمة الله.
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
شكر الله لك ياشيخ خلدون
فأنا بين يديك كالطالب بين يدي معلمه
ولكن الغريب هنا بان الشيخ بكر أبوزيد وصف الامير عبد القادر بالمجاهد ؟!
فماتفسيرك لهذا ؟
وشكر لاتساع صدرك وذبك عن عرض أخيك
-
جواب وتعليق
أخي ابن رشد ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأستغفر الله ، فنحن هنا إخوة في الله نحاول أن نفيد ونستفيد من بعضنا البعض.
وأمّا تعجّبك من وصف الشيخ بكر أبو زيد الأميرَ عبد القادر بالمجاهد!
فلا أظن أن أحدًا من الكتّاب يستطيع أن يجرّد الأمير عبد القادر الجزائري من هذا المقام وهذا الوصف! لأنّ ذلك سيكون مكابرة منه ، والنتيجة أنّ ذلك الكاتب سيفقد صدقيّته.
لقد جاهد الأمير عبد القادر الجيوش الفرنسية الصليبيّة مدّة 17 عامًا ، وأسس دولة إسلاميّة تحكم بالقرآن ، وأقام الشورى ، وأعاد العمل بسيرة السلف الصالح ، فكان ـ على سبيل المثال ـ يتخذ من خطط فاتح شمال إفريقية (عقبة بن نافع) قدوة له ومنهجا. وكان يفتتح رسائله الموجّهة إلى الأمصار والعلماء والسلاطين بقوله : ((من خادم المجاهدين))
وبعد سقوط دولته سنة 1847م استمرّ المجاهدون بالاقتداء بسيرة الأمير والسير على خطاه في الجهاد مدّة 115 سنة!! حتى تحقق النصر بفضل الله .
وآخر ما أُلّف في هذا الخصوص كتاب : (روح الأمير عبد القادر عبر المقاومة الجزائرية) للدكتور إبراهيم مياسي ـ جامعة الجزائر.
فالرجل مجاهد وخرّج مجاهدين وبقيت سيرته قدوة للمجاهدين. فلا نامت أعين الجبناء!
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
بارك الله فيكم يا شيخنا الكريم
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
للرفع ، حفظ الله الدكتور خلدون ونفع بعلمه.
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً ,, وليتكم تجمعون هذه الحلقات في ملف واحد .
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
وفيكم بارك الله أخي محمد ، وأنا بانتظار استفساراتكم برحابة صدر.
أخي علي أحمد عبد الباقي ونفع الله بكم أيضًا وأحسن إليكم .
والأخ الكريم عبد القادر بن محيي الدين جزاكم الله خيرا وبارك فيكم.
والسلام عليكم
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
شيخنا الفاضل خلدون الحسني .
قد ابتدأتُ حفظكم الله بالاستفسارات منذ وقت قريب.
وتجدها في موضوع باسم " الإشادات الوضيئة" في قسم المواضيع المثبتة .
-
رد: الحلقة الثالثة من رد الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
السلام عليكم ورحمة الله
سأبحث عن الموضوع الآن ، ونتابع معًا إن شاء الله.
-
رد: جواب وتعليق
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
ويبقى ما قاله الشيخان أبو زيد والألباني كلامًا محْدثًا يحتاج إلى برهان حتى يقبل!
في حين نجد أنّ الشيخ بكر أبو زيد يقول إن كتب ابن القيّم وشيخه جمعت وأحرقت!!! أليس هذا عجيبًا!
ثم ما هي الكتب التي فُقِدت من تراث الشيخين ابن تيمية وابن القيّم؟؟ لماذا لم يذكر لنا أمثلة على ذلك؟ مع أن المكتبة الإسلامية والحمد لله زاخرة بكتب ورسائل الشيخين.
------------
والسلام عليكم ورحمة الله.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزى الله الشيخ أبا إدريس خيرا على ما أمتعنا وأتحفنا به وبارك فيه ونفع بجهوده
وليسمح لي أن أطرح بين يديه بعض التعليقات عساه يفيدني ويقنعني
وأول ما أبدأ بالتنبيه عليه هو أن الشيخ الفاضل لم يتمكن في تعليقه الأخير من التبين من أحد النقول قبل نقده
على أنني أقر أنه من أفاضل الباحثين الجادين
وهذا لا ينبغي أن ينازع فيه منصف متجرد يتطلّب الحق مظانّه
وقد أحسن كثيرا حين أبدى عذره فقال
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
وأمّا كلام الشيخ ناصر الدين الألباني الذي نقله الشيخ أبو زيد .فلا أدري ما سياقه فليس عندي ذلك الكتاب
وكنت أحب له أن بتبين ويتثبت ويسعى لتحصيل الكتاب المطبوع في الشام قبل انتقاد الشيخ رحمه الله
وأنا أعلم صعوبة الحصول على بعض كتب شيخ الإسلام بدمشق
لكن لن يؤوده تحصيل الكلم الطيب لو بذل بعض الجهد
والمقصود التنبيه على أن الشيخ بكرا رحمه الله أخطأ حين عزا ما في مقدمة الكلم الطيب إلى الشيخ ناصر الدين رحمه الله
ومنشأ الوهم أنه التبس عليه الأمر ودخل عليه حديث زهير الشاويش في حديث الشيخ ناصر الدين
ولو أن الأستاذ تبين لاستغتى عن أن يرقم ما رقمه هنا
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
وإذا سلّمنا به كما ورد ففيه غرابة أيضًا ، فلماذا لم يسمّ الشيخ ناصر الأميرَ الذي يتحدث عنه؟ فالأمر مقصود بلا شك. وعن أي مؤلّفات يتحدث؟
وتفسيري لهذا هو أنّ كلام الشيخ ناصر مستمدٌ من كلام الشيخ محمد نصيف أيضًا .
والشيخ ناصر محدّث ومن علماء الحديث وهو من أدرى الناس بشروط قبول الرواية، فلعلّه أبهم الاسم لأنّ الرواية عنده لم ترقَ إلى درجة القبول والاحتجاج. وعلى كل حال وكما قيل ((آفة العزو التقليد))
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
في حين نجد أنّ الشيخ بكر أبو زيد يقول إن كتب ابن القيّم وشيخه جمعت وأحرقت!!! أليس هذا عجيبًا!
لا محل للعجب هنا
لأن الشيخ بكرا رحمه الله يعلم علم اليقين وحقَّه وعينَه أن أكثر كتب الإمامين رحمهما الله موجودة
وهو من أعلم أهل عصرنا بنسخها المخطوطة والمطبوعة
وحسبك كتابه عن ابن القيم الذي تضمن قصة الإحراق بَلْه ما تلاه من تقريب العلوم والإشراف على آثار الشيخين وما لحقها من أعمال
فقد حوى كتابه عن ابن القيم وآثاره وموارده ثَبَتًا بمصنفات ابن القيم مطبوعِها ومخطوطِها ومفقودِها
وهذه قرينة يقينية وبرهان ساطع على أنه يقصد الكتب التي كانت مُتاحة بدمشق وما حولها
على أنني لستُ أُثبت صحة قصة الإحراق
لكنني أشرح مراد الشيخ ومدركه
والشيخ أعقل وأحصف من أن يظن أن بمكنة مخلوق مهما بلغ ماله وعسفه ونفوذه أن يُفني كتب إمامين ملأت السهل والجبل وانتشرت في أقطار الأرض وتدارسها المسلمون والمستعربون
والأمر واضح ظاهر جلي
فلا أُطيل
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
ثم ما هي الكتب التي فُقِدت من تراث الشيخين ابن تيمية وابن القيّم؟؟ لماذا لم يذكر لنا أمثلة على ذلك؟ مع أن المكتبة الإسلامية والحمد لله زاخرة بكتب ورسائل الشيخين.
من أراد أن أسوق له ثَبَتًا بكتب الشيخين المفقودة فأنا حاضر : ) إن شاء الله تعالى على أن يتكفل الـمُريد بطبعه ونشره حِسبة وأبشّره الساعةَ أن حقوق الطبع غير محفوظة - كذا - لمن رام نشره لوجه الله : )
فليشهد الشاهدون
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
إننا إذا نظرنا إلى كلام الشيخين أبو زيد والألباني ووضعناه في ميزان شروط قبول الرواية في الإسلام نجده يفتقر إلى شروط كثيرة إذا لم نقل إلى جميع الشروط! فكيف يروون أشياء عن رجل لم يعاصراه؟ وأين مصدر روايتهما؟ وعمّن رووا تلك الحادثة؟ وما الأدلة التي تؤيد ما قالاه؟
أما الشيخ ناصر الدين فتقدم أنه لم يعرج على القصة في مقدمة الكلم الطيب
ولا أنفي أن يكون حكاها في درس أو مجلس
فلم أستقرئ مجالسه ودروسه
أقول هذا حفظا لـخط الرجعة حتى لا أُفْحَم بكلام مطمور مغمور مقبور فاه به الشيخ في مجلس خاص مسجَّل : )
على أنه لا ينفك أحد عن حكاية بعض ما لم يتصل سنده
والتثبت واجب
خاصة ما اتصل بنحو حكايتنا
وعفا الله عن الجميع وشملنا بمغفرته وتجاوز عما ندّ به القلم أو شطّ عنه القهم أو سبق إليه الوهم
---------
ورجائي ألا يسبق إلى وهم أحد أنني سليل السائح التركي : )
وحسبكم أنني لم أُثبت هويته : ) بله أن أدافع عنه أو أستميت في إثبات قصة الإحراق التي آلت إلى إحراق أوراق السائح وإدانته والحكم عليه حكما غيابيا : ) بعد موته بدهر طويل : )
وأثنّي بدعواتي الكريمة للأستاذ أبي إدريس أن يزيده الله توفيقا وأن يبارك فيه وأن ينفع بعلمه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
-
شكر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ الفاضل (ابن السائح ، زاده الله من فضله) جزاكم الله عني كل خير ، وأحسن إليكم كما أحسنتم إليَّ بتنبيهكم الكريم، وإني أشكركم على ذلك .
هكذا فلتكن المشاركات والإفادات والتعليقات، حيّاك الله وبيّاك.
وأشكركم على حسن ظنّكم بي.
///والله لقد أرحتني كثيرًا ، وأنا في الحقيقة حاولت أن أرجع إلى مقدمة الكلم الطيب للشيخ ناصر رحمه الله فالتمستها عند من حولي فلم أظفر بها للأسف. ومع ذلك فإنني كنتُ (ومازلت) مصممًا على الوقوف عليها لاحقًا لأتثبّت بنفسي من الكلام المنسوب للشيخ ، ولكنني تعجّلت في كتابة الجواب خشية أن يستبطئني الأخ السائل، أصلحني الله. ولن أضع لنفسي الأعذار.
والفضل في تصحيح خطأ العزو يعود إليكم وإن شاء الله أجره في صحائفكم.
وأرجو أن تتكرم وتبيّن لنا هل كلام زهير الشاويش جاء كتعليق على مقدمة الشيخ ناصر (ضمن الحاشية مثلاً) أم أنه كتب مقدمة مستقلّة؟
///أمّا محلّ تعجبي من كلام الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله ، هو أنه لم يذكر اسم المؤلّفات التي أحرقت!
فعالم مثله يتصدى للحديث عن تراث أحد الأئمّة ويُثبت أنّ تراثه تعرّض للتحريق! ويُسمّي الشخص الذي أحرق الكتب ويذكر آلية ذلك والدافع إلى ذلك! ثم بعد كل ذلك لا يُسمّي اسم كتاب واحد من تلك الكتب التي أحرقت! هذا ما أتعجب منه.
ووجود مخطوط لرسالة أو كتاب لم يطبع أو لم يُعثر عليه ، هذا أمر وارد وحصل لكثير من علماء المسلمين ، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنّ ذلك المخطوط أُحرق أو أُتلِفَ عمدًا!
///وقولكم بارك الله فيكم أنّ مراد الشيخ هو الكتب التي كانت المتاحة في دمشق وما حولها. لم يُزل تعجبي. صحيح أن هناك مخطوطات موجودة في مصر مثلاً، إلاّ أنّ تراث الشيخين جلّه وجد في دمشق، والكثير منه بخطوطهما! وفي عدّة كتب كبيرة مطبوعة لهما ،أشار مخرجو المخطوط أنهم اعتمدوا على النسخة الأصلية الموجودة في المكتبة الظاهرية بدمشق!!
ولم يذكر أحدٌ من علماء دمشق (سواء الموافق أو المخالف) أنّ هناك ثمة كتب أحرقت للشيخين! فمن أين أتى الشيخ بكر بهذه المعلومة؟
///وإذا أتحفتني بالثبت الذي أعددته عن كتب الشيخين المفقودة فهذا من كرمك، وأنا يمكنني السعي لطبعه (حسبة) لدى بعض دور النشر التي تربطني بأصحابها صلة قوية.
///وأمّا أن تكون من سلالة السائح التركي! فهذه والله لم تخطر ببالي. أضحك الله سنّك.
ختامًا : أشكرك مرّة أخرى على مشاركتك القيمة ودعائك الطيّب، وأسأل الله تعالى أن يبارك فيك وينفع بك المسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
-
تنبيه!!!!
السلام عليكم ورحمة الله
كنتُ قد نبهتُ على أمر وأعيد التنبيه عليه : هناك أحد الإخوة المشاركين في عدة منتديات يكتب باسم (خلدون الجزائري). وقد توهّم بعض الإخوة أنه أنا!!
وهو شخص آخر لا أعرفه، ولهو ليس من أسرتنا أيضًا. وأنا أكتب في الإنترنت باسمي خلدون مكي الحسني ، أو بكنيتي : أبو إدريس الحسني وأوقع باسمي، وليس لي أي اسم آخر.
فأرجو التنبه لذلك . وشكرًا
-
رد: شكر
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيرا ووفقك وبارك فيك
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
وأرجو أن تتكرم وتبيّن لنا هل كلام زهير الشاويش جاء كتعليق على مقدمة الشيخ ناصر (ضمن الحاشية مثلاً) أم أنه كتب مقدمة مستقلّة؟
ورد ضمن مقدمة مستقلة كتبها سنة 1385
وتجد كلامه ص5-6 من طبعة المكتب الإسلامي
وآخر طبعة رأيتها الطبعة السادسة الصادرة سنة 1424
ولا تجد لمقدمته أثرا في طبعة مكتبة المعارف بالرياض
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلدون مكي الحسني
تراث الشيخين جلّه وجد في دمشق، والكثير منه بخطوطهما! وفي عدّة كتب كبيرة مطبوعة لهما ،أشار مخرجو المخطوط أنهم اعتمدوا على النسخة الأصلية الموجودة في المكتبة الظاهرية بدمشق!!
ما كنت أحسبها بتلك الكثرة
بل بقيت دهرا أعتقد أن ما بقي بخطهما قليل في بحر ما وُجد بخط غيرهما
وتقبلوا تحياني وسلامي واعتذاري
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
وكيف يفسر وجود قبر الأمير عبد القادر بجوار قبر محي الدين ابن عربي؟؟؟ ففي بعض الروايات أنه طلب دفنه هناك؟؟؟ فهل في هدا دليل على أن الرجل كان من غلاة الصوفية؟؟؟ وما صحة ما ذكره النبهاني في كتابه كرامات الأولياء عن الأمير؟؟؟؟
بارك الله فيكم
-
رد: سلسلة حلقات ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر
ما ذكره الشيخ خلدون لم يكن مقنعا لأنه لم يستطع الإجابة عن تلك الإشكالات التي لا تزال قائمة وإن كثرة من أشاروا إلى تورط الأمير مع الفرنسيين تؤكد أن الأمير قد تورط فعلا مع الماسونية والفرنسيين وأنه من أهل وحدة الوجود وما ذكره خلدون لم يكن كافيا لأنه يحوم حول الموضوع ولا يتكلم عن أصل المسألة وبالتالي فأنا أؤيد الشيخ محمد المبارك في طرحه وهو لم يكن بدعا في هذا الباب فقد اعتمد مصادر كثيرة و لا أرى مناسبة لشن هذا الهجوم عليه الذي مبناه في الغالب على العاطفة والإرهاب الصوفي وسأنقل هاهنا نصا يؤيد ما ذكره الأخ مبارك ونرجوا من الأخ خلدون أن يجيب عما تضمنه و ذلك أنني وقفت بإحدى المكتبات التونسية على كتاب " الرحلة الحجازبة " للشيخ الصوفي محمد بن عثمان السنوسي التونسي الذي عاصر الأمير عبد القادر و التقى به في دمشق كما ذكر في رحلته وهو من المعظمين له فذكر أمورا عن الأمير عبد القادر تثبت ما شاع عنه من التورط مع الفرنسيين والقول بوحدة الوجود و مما جاء في ذلك بعد حديثه عن استسلام الأمير و توجهه إلى فرنسا ثم إلى تركيا العثمانية
" فنقلته الدولة إلى فرنسا واسكنته بقصر مدينة بلوا مصحوبا بجميع أتباعه ثم تنقل إلى قصر أمبواز بالقرب من مدينة بلوا واقام هناك إلى سنة 1852. وعند ذلك أذن له الإمبراطور نابليون بالذهاب حيث شاء فاختار التوجه إلى مدينة بروصة ... و أجرت له الدولة الفرنساوية مرتبا عمريا قدره مائة ألف فرنك كل سنة...( ثم تكلم عن تدخل الأمير في الصلح بين المسلمين والنصارى في سوريا) .. ولما سكنت الثائرة ميزته الدولة الفرنساوية بنيشان ليجيون دينور الصنف الأول سنة .1860 وسافر إلى باريس يحضر معرض سنة 1867 و لاقى حسن القبول هنالك ومن أخبار وفاته أنه لما انهزمت فرنسا .. أظهر كمال الأسف وتزيا بنيشانها الأكبر إظهارا للإعتراف بمصداقيتها وتخلى عن ملاقاة الناس مدة وهكذا كان حسن وفائه وصدقه ...وثبت على متن الوفاءمع فرنسا فلم يستعمل ضدها رأيا فضلا عن السلاح بل إن ولده الأمير محيي الدين كان خرج و قدم إلى إفريقية وجمع شرذمة وبدأ بهم القتال فكتب والده إلى الدولة الفرنسية متبرئا مما فعل ولده المذكور بأن ذلك لم يكن عن رضاه و لا عن إذنه .
... وقد وقفت على حوالي 30 كراسا في تفسير آيات بطريق باطني عالي المشرب من تحريرات هذا الأمير تدل على صدق اعتقاد أهل دمشق فيه بأنه على قدم الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن العربي ... وقد لازم بيته معتكفا على مطالعة الفتوحات للشيخ الأكبر والمحاورة في مسائلها مع جلة علماء الشام ".
الرحلة الحجازية.لمحمد السنوسي الجزء الثالث ص.198 وما بعدها.