-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (69)
الحلقة (76)
تفسير سورة البقرة (39)
ادّعى اليهود أن الجنة خالصة لهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للمباهلة، فلم يفعلوا، ولن يفعلوا؛ لأنهم يدركون فداحة سيئاتهم، وعظم جرائمهم، ولهذا يتمسكون بالحياة، ويعضون عليها بأسنانهم، ولا فرق عندهم بين حياة كريمة وأخرى دنيئة، المهم أن يبقوا على ظهر البسيطة، يتنفسون، ويأكلون، ويشربون، ولا يدركون هم وغيرهم من المشركين أنهم لو عمّروا ألف سنة فإن مصيرهم في نهاية المطاف إلى جهنم وبئس المصير.
تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:94-98] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس كنا مع ربنا تعالى وهو يقرّع اليهود ويؤنبهم، ويكشف الستار عنهم، ويضعهم أمام ما تأهلوا له من الخزي، والهون، والدون.ولا بأس أن يؤنب أو يقرع أو يؤدب من يطغى، ويتمرد، ويفسق، ويفجر، فهذه سنة الله في الناس، وقد قرّع اليهود وأنّبهم كما في الآيات.
مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود
ها نحن الآن مع قول ربنا جل وعز وهو يقول لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: قُلْ أي: لليهود الذين يجادلون ويعاندون، إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94] فاليهود قد ادعوا أن الآخرة لهم وقالوا: لسنا في حاجة إلى هذا الدين، وإلى هذا الرسول والكتاب، فنحن شعب خصنا الله عز وجل بنعيم الجنة والدار الآخرة، ولسنا في حاجة إلى أن نؤمن بك، ولا إلى أن نمشي وراءك، وإلى أن نأخذ بكتابك وما جئت به من الدين، لسنا في حاجة إلى هذا كله.أما قال اليهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] أي: مملوءة بالعلم والمعرفة فما نحن في حاجة إلى ما تدعونا إليه.أما ادعوا أنهم هم أهل الجنة، وأنهم إن دخلوا النار لا يبقون فيها أكثر من أربعين يوماً، وهي مدة عبادتهم للعجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]. فأحبارهم يكذبون، ويلفقون الكذب، ويكتبونه، ويهمشونه على التوراة، والعوام يقلدون ويقولون: لن تمسنا النار أكثر من أربعين يوماً، ولهذا إن فجرنا .. إن رابينا .. إن قتلنا الأنبياء .. إن عذبنا العلماء كل هذا مغفور لنا، وقد نؤاخذ به مدة محدودة أربعين يوماً ثم نعود إلى الجنة. والرب تبارك وتعالى يقول لرسوله قل لهم: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ [البقرة:94] والدار الآخرة هي نعيم الدار الآخرة في دار السلام، فالمعنى: إن كانت لكم الدار الآخرة -لا لغيركم- خالصة من دون الناس؛ أبيضهم وأسودهم .. أولهم وآخرهم فهيا تمنوا الموت، وهذا يسمى بالمباهلة، فتعالوا واسألوا الله تعالى أمامنا الموت: اللهم أمتنا -يا ربنا- لندخل الجنة؛ دار السلام. فاسألوها صادقين من قلوبكم لتوافق ألسنتكم، وانظروا فإنكم تموتون.فوالله ما استطاعوا، وعجزوا، وخافوا، ولو وقفوا في صف واحد وقالوا أمام رسول الله: اللهم إنا نسألك أن تتوفانا الآن لنستريح من أعباء الدنيا وتكاليفها، ومحنها، ولندخل الجنة دار السلام، لو قالوها لما بقيت فيهم عين تطرف.
مباهلة الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران
حدث للنصارى مباهلة -أيضاً- في مسجدنا هذا؛ ليتقرر عندنا أن اليهودية بدعة من البدع، ما جاء بها كتاب ولا بعث بها رسول، وأن النصرانية -والله- ما هي إلا بدعة مبتدعة، ما جاء بها عيسى ولا غيره.والنصارى كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة؛ في نجران، فسمعوا بالدعوة الإسلامية، فجاء وفد منهم مؤلف من ستين فارساً، جلّهم علماء، ونزلوا ضيوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوزعهم على المؤمنين، ودعاهم للمباهلة، فقالوا: باسم الله، فمن كان منا على الحق لا يموت، ومن كان منا على الباطل يهلك.وبالفعل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـفاطمة والحسنين إلى المسجد، فما إن شاهد النصارى تلك الزمرة النورانية حتى انهاروا وقالوا: لا نباهل، وقال قائلهم: والله لو باهلتم هؤلاء ما بقيت فيكم عين تطرف.فذلوا، وخضعوا، وضرب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية، وعادوا إلى ديارهم، وقد جاء هذا من سورة آل عمران، إذ قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:59-61]. فخافوا كما خاف الآن اليهود، وما استطاعوا المباهلة.
دعاء اليهود على أنفسهم بالموت
الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ أي: الجنة خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة:94] فالآن موتوا لكي تستريحوا، فلم الحصاد والزرع، والتجارة، والآلام، والأمراض، والأوجاع وأنتم أهل الجنة، فمن الآن: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94].
تفسير قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ...)
اليهود بين تمني الموت وما قدمته أيديهم
سبق الله تعالى اليهود إلى ما في صدورهم .. إلى ما يريدونه فقال لرسوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] بـ(لن) الزمخشرية إن شئتم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لم؟ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فما من جريمة إلا اقترفوها، وحسبهم من ذلك قتلهم الأنبياء والعلماء .. استباحتهم الربا والمحرمات، فالخبث بكامله قد انغمسوا فيه، ومع ذلك يتمنون الدار الآخرة، فهم مؤمنون بها، فكيف يتمنون الموت، أليلقوا في أتون الجحيم؟!فأخبر تعالى بما يعلمه من قلوبهم، ومن طبائعهم، وما فطروا عليه: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] أي: لا يخفى عليه من أمرهم شيء، وهم ظالمون، فسجل عليهم الظلم، ووالله إنهم لظالمون.والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالله أرسل الرسل وأمر بحبهم، وتبجيلهم، وتعظيمهم، واتباعهم، والانقياد لهم، وهم ذبحوهم .. كذبوهم .. قتلوهم .. مكروا بهم، وهذا ظلم.والله تعالى أمرهم بطاعته وطاعة رسله، ففسقوا عن طاعته وعن طاعة رسله، وأي ظلم أفظع من هذا؟!وهم ظالمون والله عليم بهم، فلهذا لا يستطيعون أبداً أن يتمنوا الموت وأن يقولوا: اللهم توفنا الآن، فإنا أولياؤك وعبيدك، مع أنهم كانوا يدّعون أنهم أولياء الله، والبشرية كلها نجس، وهم أقرب الناس إلى الله، فلهذا ترفعوا وسادوا وارتفعوا ولم يرضوا لأحد أن يدخل في دينهم.لكن الله أبطل فريتهم .. أبطل دعواهم فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] أي: إلى يوم القيامة، فما جاء يوم من الأيام وتمنوا الموت، فما هناك من هو أجبن من اليهودي، لا يقوى على الموت أبداً؛ لما يعرف من مصيره المظلم؛ ولما يعرف أين ينزل بعد موته في الدركات السفلى من عذاب الله.قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة:95] بسبب: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95].
لا تمايز بين الخلق إلا بالتقوى والعمل الصالح
نحن أيها المستمعون والمستمعات ماذا قدمت أيدينا؟ أو نقول هذا في بني إسرائيل فقط!وكذلك نحن إذا قدمنا الخير نثاب عليه، وإذا قدمنا الشر نجزى به، وليس عندنا امتيازات خاصة أو وعود من الله عز وجل أو صكوك أننا إذا فسقنا .. فجرنا .. كذبنا .. ترابينا .. سببنا .. شتمنا فلا نؤاخذ، ليس هناك من ذلك شيء.وقد قيل: الدنيا مزرعة الآخرة، فمن زرع الآن البرتقال، والرطب، والعنب فسوف يحصد ذلك يوم القيامة، ومن زرع الشوك، والسدر، والحنظل وما إلى ذلك فسوف يجني ما زرع، فمن زرع اليوم الإيمان وصالح الأعمال سوف يحصد رضوان الرحمن، وسكنى الجنان. ومن زرع الكذب، والخيانة، والكبر، والحسد، والتعالي، والظلم، والشر، والفساد والله لن يحصد إلا مثيله، ولسنا بأشرف من اليهود أبداً.والحقيقة أن نسبتنا إلى الله واحدة فنحن عبيد إلى سيد، فكونه بيَّضك وسوَّدني .. قصَّرك وطوَّلني .. أغناك وأفقرني هذا لا قيمة له، فهو ابتلاء فقط في العمل، أما نسبتنا فهي أننا عبيد لله، فمن أطاعوا سيدهم، وخنعوا، وخضعوا له، وذلوا، واستكانوا رفعهم، ومن تكبروا عنه، وتعالوا، وحاربوه أذلهم وأهانهم. ولا فرق بين أحد وأحد إلا بتقوى الله عز وجل، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قرر هذه الحقيقة وعلمناها فقال: ( لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى )، وقال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
النفس البشرية بين التزكية والتدسية
قد قررنا وعرفنا -أيها السامعون- حكم الله في البشرية، واسمعوا الله تعالى يحلف لكم لتطمئن نفوسكم، وتسكن قلوبكم إلى صدق هذا الخبر، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]. فإن قال قائل: لم تحلف يا ربنا؟ فالجواب: لتعرفوا حكمنا في البشرية، فتسلكوا سبل النجاة، وتبتعدوا عن طرق الهلاك والخسران، فمن أجلكم حلف الرب تعالى.لكن ما هذا الحكم الذي حلف من أجله؟اسمع واحفظ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] واطوِ الصحيفة.فقوله: (قد أفلح) هل الرئيس .. الشريف .. الغني؟! الجواب: ( من زكاها) أي: زكى نفسه، ومعنى (زكاها): طيبها وطهرها بأدوات التزكية والتطهير التي وضعها الله لذلك، والفلاح هو الفوز، يقال: فلان فاز أي: نجح في الصفقة التجارية الفلانية .. نجح في الامتحان، ومعناه هنا: أُبعد عن النار، وأُدخل الجنة؛ دار الأبرار.والله سبحانه وتعالى هو الذي بين لنا هذا الفوز، وقد قال من سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] هل هناك: إلا نفس فلان وفلان أو إلا أنفس بني فلان؟ لا يوجد، وهذا الحكم لم يتخلف، ولذلك الحكم الثاني أيضاً -والله- لا يتخلف قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. فوجب على كل مؤمن ومؤمنة .. عرب وعجم أن يحفظوا هذا الحكم الإلهي.إذاً صدر الحكم على البشرية ونصه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فهنا يتم تقرير المصير وليس في يوم القيامة، وكل عاقل مكلف بلغ سن الرشد هو الذي يقرر مصيره بيده، قال الحاكم العدل رب العالمين: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] فأسند الفلاح والتزكية له، أي: أفلح من زكى نفسه وخاب من دسى نفسه؛ لأن النفس الزكية، الطاهرة، النقية هي التي يقبلها الله في جواره، وهي التي يرضى بأن تسكن في دار السلام.أما النفس الخبيثة المنتنة العفنة فلا يرضاها الله أبداً، ولا يتلاءم معها الطهر والكمال في دار السلام، إنما يتلاءم معها حفر الجحيم، ولظاها، ولهبها، ودخانها.وهنا مثل عامي: فلو يدخل الآن علينا رجل قد تلطخت ثيابه بالبول، والخر، والأوساخ، والدموع، والدماء فهل تفسحون له ليجلس معكم؟ أكثركم سيقول له: اذهب .. اخرج .. خذوه .. طهروه، هذا لا يدخل هنا! وهذا المعنى واضح.كذلك الذي يأتي بنفس عفنة، منتنة، كيف يدخل الجنة؟! وقد قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14].فإن قال قائل: لم الأبرار في النعيم، والفجار في الجحيم؟فالجواب: الأبرار لبرورهم، والفجار لفجورهم، فالأبرار المطيعون الذين زكوا أنفسهم وطهروها مآلهم إلى الجنة، والفجار الذين فجروا عن تعاليم الله، وفسقوا، ولطخوا أرواحهم، وخبثوها، هؤلاء يتلاءم معهم أتون الجحيم.اسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نادى بني هاشم رجع إلى ابنته وقال: ( يا فاطمة ) فيناديها باسمها العلم وهي تسمع ( إني لا أملك لك من الله شيئاً فأنقذي نفسك من النار )، أي: آمني واعملي الصالحات.إذاً: هذه الآيات كلها هي فينا، وهي كذلك في اليهود، فإنهم لما ادعوا أن الجنة لهم قال تعالى لهم: هيا اطلبوا الموت حتى تدخلوا، لكنهم -والله- لا يطلبونه.ولو نطالب به نحن فإن الصالحين الطاهرين يفرحون بدار السلام، ولو ندعى إلى الجهاد لتسابق المؤمنون إلى دار السلام.
سوء ما قدمه اليهود من أعمال
نعود إلى السياق الكريم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [البقرة:95] أي: الموت، أبداً لم؟ بما والباء سببية، أي: بسبب ما قدمته أيديهم من ذبح الأنبياء والعلماء، وأكل الربا، وإباحة الزنا، والخيانة والغش، والخداع، وكل أنواع الجرائم التي انغمسوا فيها، وما زالوا فيها إلى الآن.
سعة علم الله بأحوال عباده
قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] فيجزيهم بحسب ظلمهم يهوداً كانوا أو غير يهود .. عرباً أو عجماً .. في الأولين أو الآخرين.وهل هناك ظالمون لا يعلم الله بهم؟!يقول قائل: بعض الظالمين عندهم حيل وستائر عجيبة لا يطلع الله عليها.تقول له: يا هذا! الله تعالى يقول: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].ومن ذلك على سبيل المثال أن تظهر فتاة من على السطح، أو ينكشف الستار عنها وهي على الجمل فتجد من الناس من يتكلم معك وهو يخون ويسترق النظر.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟! هل هذا معناه أنه لا يجوز لنا أن ننظر إلى النساء؟! وقد قالت إحدى الصحف: القول بأن صوت المرأة عورة خرافة، فدعوها تغني.أقول: نحن نمشي مع بني إسرائيل خطوة خطوة إلا من سلم الله عز وجل، فالذين يقولون: صوت المرأة ليس عورة، أما يعلمون أن الله يقول: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر:19] فالعين تخون، وخيانة العين تكون بالنظر إلى شيء حرمه الله، ولقد كتب الله تعالى صالحات الصالحين وسيئات المسيئين في كتاب المقادير قبل أن يخلقهم، فكيف هذا يسأل: كيف أن الله يعرف أو لا يعرف؟!
تفسير قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ...)
حرص اليهود والمشركين على أي حياة
قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ هو الذي يجابه هؤلاء الطغاة من اليهود قال له: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ وهذه اللام موطئه للقسم المقدر: وعزتنا، وجلالنا يا رسولنا لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]. وإخواننا الفلسطينيون هم الذين يعرفون أن اليهودي أجبن وأذل ما يكون. لم؟ لأنهم خائفين من الموت؛ لأن وراء الموت جحيماً، وسموماً، وعذاباً أليماً، وهم موقنون أشد اليقين بأن جزاءً لابد منه للكسب الدنيوي، فلما تلطخوا بكل أنواع الجرائم لا يتمنون الموت، ولا يرضى أحدهم أن يموت.أما أهل دار السلام فوالله إنهم يطربون، وقد كان أحدهم يرقص فرحاً بالموت كما في بدر وأحد.إذاً: كل من كان ملطخاً بالذنوب والآثام فإنه لا يفرح بالموت، ولا يطرب له فضلاً عن أن يتمناه، وكل من زكت نفسه، وطابت، وطهرت فهو يفرح بالموت، ولو رأى رؤيا تبشره بالموت لفرح، فالجنة خير، فالدنيا فيها مشاق وآلام، وأتعاب، وأمراض، وسقم، وفي الجنة نعيم مقيم، يأكلون ويشربون تفكهاً فقط، لا يمرضون، ولا ينامون .. ولا يكبرون، ولا يهرمون، ولا ولا .. أما طعامهم وشرابهم فيتحول إلى عرق وجشاء رائحته أطيب من ريح المسك، قد خلقهم الله على هيئة لا تقبل الفناء أبداً، فكيف لا يفرح العاملون الصالحون بالجنة والموت.قال: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] هل قال: (على حياة) أو (على الحياة)؟ قال: (على حياة) أي: ولو كانت أخس حياة وأرخصها، فهي نكرة في سياق نفي تفيد العموم، فهم أحرص الناس على أوسخ حياة، وأقلّها، وأدناها، فليست حياة العز والكمال والسعادة، وهذه لا يلامون عليها، فأرخص حياة يقبلونها: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].وهناك نوع آخر من البشر يحبون الدنيا، والحياة، والخلود قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة:96] فمن المشركين والمجوس والنصارى و.. من يود أن يعيش ألف سنة، وممكن أن يوجد حتى بين المسلمين الضائعين من يود أن يعيش ثمانين عاماً .. مائة عام.قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96] فما قال: وكل المشركين، فهذا العليم العظيم يعرف النفسيات والطباع، فيوجد من المشركين من يود أن يعيش ألف سنة، أما اليهود فلا يريدون الموت أبداً، لا يتمنونه، ولا يريدونه بحال من الأحوال؛ لعلمهم بالمصير المظلم الذي سيصيرون إليه بعد أخذ أرواحهم؛ لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء والدار الآخرة.أما المشركون فمنهم من لا يؤمن بلقاء الله بالمرة، فلهذا يكره الموت ويريد أن يعيش ألف سنة.قال تعالى: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] لو يعمر الإنسان مليون سنة ممكن لا يعذب لهذا العمر؟ فلا ينفع، فمن الآن أحسن، وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ والزحزحة هي الإبعاد.قال: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ فلو عمر أحدهم ألف سنة، فهل هذا التعمير، وهذا الطول في العمر يبعده عن النار؟ لا يبعد عن النار، طال العمر أو قصر، إنما يبعده عنها زكاة النفس وطهارتها فقط.
وسائل تزكية النفس
إن قال قائل: يا شيخ! أنت تقول: زكاة النفس، فدلنا يرحمك الله على أدوات التزكية أين توجد وأين تباع وفي أي صيدلية؟ وهذا السؤال ضروري للعقلاء الذين ما علموا: ما دامت القضية منوطة بتزكية أنفسنا فمن فضلك دلنا على هذه الأدوات والعقاقير التي نزكي بها أنفسنا، أو ليس هناك عقاقير ولا أدوية؟الجواب: والله توجد، والصيدلية هي صيدلية الله ورسوله، وقال الله، قال رسوله؛ الكتاب والسنة، فإنك تجد فيهما كل أدوات التزكية من كلمة: لا إله إلا الله إلى إماطة وإزالة الأذى من طريق المؤمنين والمؤمنات.فكل عبادة من أعمال القلوب أو الألسن أو الجوارح هي عبارة عن أداة تزكية للنفس البشرية وتطهيرها، ولا بد من استعمالها حسب الشروط التي وضعت لها؛ إذ لابد من مراعاة الكيفية فلا تقدم ولا تؤخر، ومراعاة الزمن فلا توقعها في غير زمانها، ومراعاة العدد، فلا تزيد ولا تنقص وإلا ما تنتج.وأعظم أداة في تزكية النفس البشرية وتطهيرها ذكر الله، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وذكر الله شرطه أن تكون في مكان طاهر، وأن يتحد قلبك ولسانك معاً، فعندما تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم فلابد أن يكون قلبك مع لسانك، فإن قلت بلسانك وقلبك غافل فإن ذلك لا ينتج، ولا يولد الطاقة، وإن ذكرت فقط بالقلب واللسان فذلك لا ينفع، ولا ينتج.إذاً لابد من توافق القلب واللسان، ومن هنا كانت الصلاة أعظم مولد للنور أو للطاقة النورانية، فلا توجد عبادة أكثر توليداً للحسنات وللطاقة النورانية من الصلاة أبداً، وبعض السامعين لا يعرفون كيف تولد الصلاة النور؟ كالماكينة الصغيرة التي تولد الكهرباء وتدور الآلات، فإذا خربت لا تولد.فالصلاة أعظم مولد للطاقة النورانية، واقرءوا إن شئتم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] أي: في توليد هذه الطاقة، إلا أن الصلاة لا تنتج نتاجها، وتؤدي ثمارها إلا إذا استوفت شروطها.وقد بينا سابقاً أن للصلاة شروطاً لابد من استيفائها، ومن ذلك الطهارة، والتي تشمل: طهارة المكان، وطهارة البدن، وطهارة الثياب، فأنت في الصلاة كيف تقف أمام الله، وتتكلم معه، وأنت نجس؟ هذا لا يجوز، وكيف تقف في مكان نجس وتناجي الله في الصلاة، فهذا لا يصح، وكيف تقف في الصلاة وجسمك ملطخ بالقذى والأذى، وتتكلم مع الله، هذا حرام -يا عبد الله- وعليك أن تتطهر.والصلاة إذا كان لها وقت معين كصلاة العشاء بقي عليها ثلثها فلو قلتم: هيا نصلِّها الآن، فهذه الصلاة لا تولد لك النور، ووالله لا تولد حسنة، فهي كالعملية الفاشلة؛ لأنه يشترط لها وقت تقع فيه، وإلا ما أنتجت. والوقت ضروري لأية عبادة مربوطة بوقتها، ومن ذلك أيضاً: ( الحج عرفة ) الذي هو تاسع شهر ذي الحجة، فلو اتفقت الأمة بملوكها ورؤسائها أن الحج هذا العام يقع في المدينة، وعلى جبل أحد الذي هو أشرف من عرفات، فوقف الحجاج على جبل أحد لقلنا لهم: حجكم غير صحيح، ولا يصح هذا الحج.وكذلك لو قالوا: هذا العام الحر شديد، فدعنا نعمل الحج هذا العام في الشتاء، ووقفوا فعلاً في الشتاء فهل يقال: حجوا؟ كلاء والله ما حجوا.وهكذا كل عبادة وضعت لتزكية النفس وتطهيرها بما تولده من الحسنات لابد وأن يراعى فيها أن يكون الله قد شرعها لذلك، ولهذا لو أن مليون بدعة أنفقت فيها مالك كله، وتبدد طاقاتك وجهدك كله، فهذه والله لا تولد جرام حسنة؛ لأن البدعة ما شرعها الله، والذي لم يشرعه الله من يوجد فيه المادة النورانية؟ من يقوى؟ وهذا والله ليس بممكن.وهل يستطيع أحدنا أن يوجد مادة الغذاء في الرمل .. في الحصى .. في الطين .. في التراب؟ لا يستطيع؛ لأن الله ما أودعها هناك، إنما أودعها في البطيخ، والعنب، واللحم، والخبز.وهل يستطيع البشر -لو اجتمعوا كلهم- أن يوجدوا عبادة ولو بالقول على أن من عملها تزكو نفسه عليها وتطيب وتطهر؟ الجواب: لن يستطيعوا، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] فهذا الأمر لله وحده.ولهذا الصلاة لو توقعها في غير وقتها فإن الفقيه يقول: بطلت، ونحن نقول: ما أنتجت. فالصلاة عندما تنقص شروطها أو تقدم أو تؤخر فيها يقول الفقيه: صلاتك باطلة يا ولد. ولو تصلي أمام فقيه، ولا تطمئن في الركوع، ولا السجود يقول الفقيه: صلاتك باطلة. ونحن لا نقول: باطلة، إنما نقول: لا تزكي نفسك، ولا تولد لك النور الذي هو الحسنات، فأعد صلاتك.وهكذا كل العبادات.
أهمية الإيمان والعمل الصالح
نعود إلى السياق الكريم قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: تعميره الألف سنة والمليون لا يزحزحه من عذاب الله.وما الذي يزحزح عن العذاب؟الجواب: الإيمان وصالح الأعمال؛ لأن الإيمان يدفع إلى اكتساب الحسنات، والحسنات هي التي تزكي النفس وتطهرها. واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البروج:11]، فتجد الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان يقوي نفسك وقدرتك على أن تصلي وتصوم وتجاهد وتتصدق، وتلك الأعمال الصالحة هي أدوات التزكية .. هي التي تنظف القلب البشري وتطهره. والسيئات هي التي تصيب القلب بالظلمة، والنتن، والعفونة.واسمع رسول الله يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً ) أي: اقترف خطيئة سيئة، وسمي الذنب ذنباً لأنه يؤخذ به الإنسان كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، ونحن نؤاخذ بذنوبنا، والحيوانات تؤخذ بذيولها وأذنابها.قال: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتة سوداء في قلبه )، كهذه، ( فإذا تاب ونزع صقل ذلك المكان وطهر ) كالزجاجة المشرقة إذا وقع فيها شيء ما لطخها، ومن الممكن أن تمسحها ويزول على الفور، ويبقى النور والإضاءة، وكذلك قلب الإنسان أو نفسه.قال: ( وإذا لم يتب وأذنب ذنباً آخر وقع إلى جنب النكتة الأولى )، وهكذا تتزايد الذنوب حتى تتسع الرقعة، فالذنب إلى الذنب إلى الذنب بلا توبة، ولا مسح ولا صقل حتى يلطخ القلب كله، ويحجب عن الإيمان، وعن عمل الصالحات.قال صلى الله عليه وسلم: ( فذلكم الران الذي قال الله فيه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ) ولهذا من لطف الله بأوليائه ورحمته بعباده المؤمنين أنه شرع لهم التوبة الفورية، فإذا شعرت بالذنب فعلى الفور قل: أستغفر الله وأتوب إليه. وابتعد عن الخطيئة ينمحي ذلك الأثر، وقل: آمنت بالله.فإن أنت أصررت وما باليت، وواصلت الذنب إلى الذنب، فسيأتي يوم لو تعرض عليك التوبة -والله- ما تقبلها، بل لو قيل لك: استغفر الله. تهزأ وتسخر. أما سمعنا الله تعالى يقول من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]. قال: (من قريب) لأنه إذا واصل في الذنب فإنه سينطبع في نفسه طابع، ويصبح لا يرضى إلا ذلك الذنب. واسألوا الذين تعودوا الأفيون والكوكاين تجدوهم يقولون إنهم الآن يستعملون الإبر، ولا ينفع أن يأخذ بدلها حبة.وكذلك هو حال الذي قد تعود اللواط .. السرقة .. الخيانة، فهذا شأنه.قال بعض علماء النفس: الذي تعود السرقة وتمرن عليها، لما يلقى عليه القبض، وتوضع الحديدة في يده ويمشي، فتعرفه بأنه سارق، وأنت في ذلك الوقت تخاف وترتعد وتقول: يا ويله. لكن السارق في ذلك الوقت يفكر كيف يسرق مرة ثانية! وكذلك عندما يصل إلى السجن تجده يفكر كيف يسرق إذا فكوه بعد عام أو عامين؟ فانظر بماذا يفكر هو، وبماذا تفكر أنت، فتجد العكس.والله سبحانه وتعالى خالق الأنفس، وطابع الطبائع، وغارز الغرائز هو الذي يقول: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17].وإذا واصل الجريمة فقد يحال بينه وبين التوبة قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الآن! لا، قد فات الوقت .. فات الأوان يا بني: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فإذا حشرجت في الصدر، وقال الطبيب: ودعوا أخاكم، فلو استغفر وتشهد، فوالله لا ينفع، فقد انتهى أمره.وهذا من باب الرحمة المحمدية، يقول: ( إن الله يقبل توبة العبد .. )، والله لحق، لكن لا يستطيع أن يتوب عبد غرق في بحور الآثام والذنوب، فسفك الدماء، ومزق الأعراض، ودلوني على واحد تاب من هذا النوع، فما عنده قابلية التوبة، لكن إن تاب هل يرده الله؟ لا والله: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، فإن حشرجت في الصدر، وعرف المودعون والزوار فحينئذٍ لا عودة، قد انتهى أمره.وهكذا يقول تعالى وقوله الحق: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: التعمير: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96]، فالله أسأل أن يتوب علينا وعليهم، وأن يغفر لنا ولهم، وأن يرحمنا وإياهم، وصل اللهم على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (70)
الحلقة (77)
تفسير سورة البقرة (4)
أخبر سبحانه وتعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم المؤمنون: لا تفسدوا في الأرض بالمعاصي وموالاة الكافرين كان جوابهم بأنهم هم المصلحون لا غيرهم، وأن صلاحهم ظاهر للعيان، فلا يمكن إنكاره، فإذا قال لهم المؤمنون: آمنوا كما آمن الناس، أجابوا بأن من آمن هم سفهاء العقول، الذين لا رشد لديهم ولا بصيرة، فرد الله عليهم دعواهم بأنهم هم أهل السفه والجهل، ونفاه عن المؤمنين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السياق الكريم ما زال في كشف عورات المنافقين، وإظهار ما هم عليه من الخبث والنفاق.وقبل ذلك نشير إلى ما سبق من أن الناس ثلاثة أصناف: مؤمنون أتقياء، كافرون مشركون، منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.
طائفة المؤمنين المتقين
الطائفة الناجية الكاملة السعيدة هي طائفة المؤمنين المتقين، الذين قال تعالى فيهم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:3-5]، أي: الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار.إيمان، وتقوى، وإنفاق في سبيل الله عز وجل، وإيمان بكل ما أمر الله بالإيمان به من الكتب والرسل، والدار الآخرة وما فيها من حساب وعقاب وجزاء، فالمتصفون بهذه الصفات هم المفلحون، وهم الذين يجدون في القرآن الكريم الهداية، ويهتدون بها وينتفعون.
صنف الكفار
الفريق الثاني: الكفار، أي: الجاحدون لله تعالى في وحدانيته، في إلوهيته، في أسمائه، في صفاته، في عباداته، وكل كافر مشرك، وكل كافر ظالم.وخلاصة القول: أن من لم يؤمن بالله ولقائه وما أمر الله تعالى بالإيمان به من شأن الغيب، فهذا هو الكافر، بمعنى الجاحد المكذب، وقد يكون كافراً كفر عناد، والعياذ بالله.وهذا الصنف من الكفار قد علم الله أن منهم من يموت على كفره، فيصر على الجحود والمكابرة والتكذيب، حتى يموت على كفره فيخلد في عذاب النار.والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول له ربه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7]، علمنا: أنه ليس من حق أحد أن يقول: إذاً من ينذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم ينذر الذين كفروا فمن ينذر؟ وعلمنا أن الله عز وجل أخبره بأن بين الكافرين أفراداً ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعميت أبصارهم، فلا يدخلون في رحمة الله.إذاً: واصل دعوتك وإنذارك للناس، وإن أصر أناس على الكفر فلا تحزن؛ لأن منهم من كتب الله أزلاً شقوتهم وشقاءهم على بعض.ولا يقولن قائل: إذاً: لِم الإنذار والتخويف والترغيب والترهيب ما دام قد حكم الله بشقائهم وموتهم على الكفر؟نقول: لا تقل هذا، فلم يقل الله تعالى: إن أبا لهب ، إن عمرو بن فلان .. إن فلاناً، لو أنزل تعالى فيهم قرآناً بأسمائهم ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعب، ولا يشقى ولا يأتيهم إلى أبوابهم، ولا يطالبهم، لكن الله عز وجل أمره بأن ينذر ويبلغ ويدعو، فلما رأى أناساً مصرين معاندين مكابرين هون عليه تعالى ذلك، وقال: لا تحزن ولا تأسف عليهم، فقد كتب الله شقوتهم أزلاً.ثم ذكرنا -ولا ننسى- أنهم ما ولدوا كفاراً معاندين، وإنما ولدوا على الفطرة، ثم أخذت الشياطين تزين لهم الباطل وتحسنه لهم، فكفروا وأشركوا، ثم تعمدوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام، وأخذوا يتوغلون في الفتنة، ويسعون فيها ليل نهار، يستهزئون، ويسخرون، ويكذبون، ويعاندون، فما زالوا كذلك والنور ينطمس، والفطرة تفسد شيئاً فشيئاً، حتى ختم الله على قلوبهم، فما أصبح يجد الإيمان منفذاً إلى قلوبهم، فقد ختم عليها بالكامل، وعلى سمعهم ما يسمعون، أي: ما أصبحوا يرتاحون لسماع الحق، فيسمع كل شيء إلا إذا ذكرت لا إله إلا الله أو محمد رسول الله أو الإسلام فلا يسمع.وقد جاء من سورة هود قول الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود:20]. وأيام الطفولة والصبا والطلب، كنا نعجب كيف ما يستطيعون السماع؟! كيف له أذن يسمع وما يقدر وما يستطيع؟ً وما وجدنا من نسأل، فبقي في أذهاننا العجب: كيف لا يستطيعون السماع؟ وتمضي الأيام، وبلغنا أشدنا وعاصرنا الأحداث والمشكلات، فتحقق ذلك، فأصبحنا لا نقدر على سماع هذا الكلام، والله ما أستطيعه.وشاء الله أن أسافر من المدينة إلى الديار المغربية بطريق البر، فركبنا السيارة من القاهرة إلى تونس، وفي طريقنا ليلاً في الأراضي الليبية سمعنا إذاعة صوت العرب، وفيها أكاذيب وأباطيل وحقائق، فسمعت لأول مرة أن الملك سعود -تغمده الله برحمته- مر بموكب من مواكبه وإذا ببدوية على حمارة فأمرهم فاختطفوها له! والله لا إله إلا الله، كيف يقال هذا الكلام! كيف يسمع؟ لصالح من هذا الكلام؟! فمن ثم ما أصبحت والله العظيم أطيق سماع صوت العرب.وأنتم تعرفون إذا أبغضتَ إنساناً أو إنسانة -كما يقولون- ما ترتاح لكلامهم، يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [البقرة:19] لِم؟ ما يقدرون أن يسمعوا الكلام الحق.إذاً: له سمع وما يستطيع، له بصر وعليه غشاوة وبياض فما يبصر، ما سبب هذا؟ المشي خطوة خطوة في الضلال، وفي الخبث، وفي الشر، وفي الفساد، حتى يأتي الطبع والختم، وحينئذٍ يصبح لا يعقل، ولا يفهم، ولا يفكر.فما هي -إذاً- زبدة هذا؟ أن نتحاشى الإسرار والاستمرار في الباطل، فإنه يقودك إلى أن تصبح تنكر الحق، وهذه هي الثمرة التي يجنيها أهل القرآن، فمن أذنب ذنباً ووقع فيه فليعجل بالتوبة إلى الله، حتى يمحى ذلك الأثر ويزول، أما الاستدامة والاستمرار فيؤدي به إلى أن يفقد حاسة السمع والبصر والعقل، والآيات تكشف هذه الحقيقة.
صنف المنافقين
الصنف الثالث: المنافقون. من هم المنافقون؟قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، يعلنون عن إيمانهم: آمنت بالله وبلقائه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ومع ذلك الله يحكم بعدم إيمانهم؛ لأنه خالق طباعهم وغارز غرائزهم، فهو الذي يقلب القلوب، فعلم أنهم ما هم بمؤمنين، يقولون: مؤمنون، مسلمون، آمنا، في المجامع والمحافل وبين الناس. وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. أي: ما اعتقدوا عقيدة الحق، أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن هذا الكلام كلام الله، وأن لقاء الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، فما اعتقدوا وما صدقوا، ما استساغوا أبداً العقيدة الصحيحة، واضطرتهم الظروف التي يعيشون فيها، حيث ظهر الإسلام وعلا، وأصبح له دولة في المدينة، وهم منافقون من المشركين ومن اليهود، ومنافقو اليهود أكثر.إذاً: فها هو تعالى يكشف الستار عنهم من أجل علاجهم، وهل نفعهم هذا؟ إي نفعهم، فما مات الرسول صلى الله عليه وسلم -وهي عشر سنوات فقط- وما بقي منافق في المدينة، وما سبب ذهابهم؟ عدد قليل منهم مات، وأكثرهم عرفوا الحق واتبعوه بواسطة هذه الدعوة الربانية، وهذه الآيات القرآنية.قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس، ما يسميهم مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، إذاً: لِم يقولون هذا؟ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:9]، يظهرون الإيمان باللسان وبالأركان، أما العقد والجنان فهو فارغ، ففيه الكفر، ما آمنوا أبداً بلقاء الله، ولا أن هذا رسول الله، ولا أن هذا كلام الله.إذاً: يخادعون الله، فيظهرون له وللمؤمنين أنهم مؤمنون، وهو يخادعهم، فهو ما أنزل قرآناً فيه: إن فلاناً وفلاناً منافقون كافرون، بل ستر عليهم وما فضحهم حتى يمضي أمر الله وحكمه فيهم.قال تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، فلو كانوا يحسون أو يعقلون أو يفهمون ما يرضون بالنفاق، فإما أن يصرحوا بكفرهم ويلتحقوا بالكافرين، أو يقاتلوا وإن تحطموا وخسروا، أو يؤمنوا ويسلموا، لكنهم فقدوا الشعور الحي الحق النافع، والإحساس الحقيقي ما عندهم، وسببه ظلمة الجهل وأنهم جهال، وأكثرهم مقلدون أتباع لرؤساء الفتنة من شياطين المنافقين من العرب واليهود في المدينة.وزادهم بياناً فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]. مرض الشك والشرك والنفاق والحسد والكبر، وتلك العلل والأسقام إذا تجمعت في القلب حالت بين العبد وبين الاستقامة على منهج الله.إذاً: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] هذه الجملة ليست دعائية، بل هي الواقع، لماذا؟ المرض إذا لم يعالج ويترك وتزيد أسبابه وعوامله يزيد ويزيد حتى يهلك صاحبه: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] حسب سنته؛ في أن من يصاب بمرض في جسمه وقلبه إذا لم يعالج فيبرأ ويشفى، واستمر على استعمال عوامل المرض وأسبابه ينمو ويزداد المرض، فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا حسب سنته، أكل ملعقة ثم مات، فإذا زاد ملعقة أخرى وثالثة ورابعة هلك.وتوعدهم الله علهم يرجعون إلى الحق ويئوبون إلى الصواب، فأخبر وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10]، أي: موجع يذهب بعذوبة حياتهم، لم يستعذبوا طعاماً، ولا شراباً، ولا مناماً، ولا نكاحاً، ولا راحة أبداً، فهو عذاب من شأنه أن يذهب تلك العذوبة، ولهذا يسمى العذاب الأليم الموجع، الذي يحمل الألم الشديد، وعلل تعالى ذلك؛ لأنه يريد هدايتهم، فقال: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، أي: بسبب كذبهم على الله وعلى المؤمنين وعلى رسول الله، والمنافق إذا حدث كذب، وذلك الكذب كان حائلاً بينه وبين قبول دعوة الحق والاندماج في جماعة المسلمين، فهم يصرفون أنفسهم عما طلب منهم من الهدى بالكذب، فكانت النتيجة هذا الوعيد الشديد، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:10] بسبب ماذا؟ بتكذيبهم، قرئ: (يُكذِّبون) و(يَكذِبون).
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، من القائل لهم؟ الله. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، ننظر أن هناك رؤساء النفاق يوجدون في حي بني فلان في بني فلان، هؤلاء لهم صلات بالمشركين في مكة وفي غيرها، ويعملون على تأليبهم على رسول الله والمسلمين.أو شخص مؤمن صادق الإيمان وأخوه، أو أبوه، أو عمه، أو جاره، يشاهد فيه مظاهر الاستهزاء والتلاعب وعدم الإيمان، فينصح له: يا فلان! لا تفسد في الأرض، فهذه الأرض أرض الطهر، كيف توالي الكافرين؟! كيف تخلو بهم وتتحدث معهم؟! كيف توءاكلهم؟! ما حالك؟ ما شأنك؟ ما أنت بمؤمن؟!يردون عليهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، لِم؟ نحن ما ندري هل هذه الدعوة تنتصر؟ غداً تنكسر ويحكمنا الفلانيون والفلانيون، كيف يكون موقفنا وموقف أولادنا ونسائنا؟ فنحن نريد أن نعمل عملاً يجدينا وينفعنا، فاتصالنا بفلان وفلان من أجل أنه ربما يقع الذي يحوجنا إليهم، فنحن في هذا مصلحون ولسنا بمفسدين. وليس الرسول هو الذي يقول لهم هذا، هذا يقوله المؤمنون لبعضهم، ممن له أخ أو قريب من المنافقين: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11].والإفساد في الأرض معاشر المستمعين والمستمعات! لا يكون بحفر الأرض أو إسقاط المباني أو هدم الجبال، بل الإفساد في الأرض يكون بمعصية الله ورسوله، فارتكاب المعاصي، وغشيان المحرمات، وترك الواجبات والله لهو الفساد.وجاء في غير ما موضع: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] فالفساد في الأرض هو أن يعطل شرع الله وقوانينه التي شرعها وأنزلها لإسعاد البشرية وإكمالها .. لإبعاد البلاء والشقاء عنها .. لتحقيق سعادتها في الدنيا والآخرة، فمن رفض تلك القوانين الإلهية والشرائع الربانية وعمل بضدها، فأحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، وترك ما أوجب الله، وفعل ما حرم الله فهذا هو المفسد في الأرض. وهذا القرآن عجب، جملة كهذه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [الأعراف:56] كيف يفسدون فيها؟ بموالاتهم للكافرين ولرؤساء النفاق، وهذا ينتج عنه ترك طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينتج عنه الإصرار على الكفر وزيادة النفاق والمنافقين، وهذا فساد في المدينة أو لا؟ هو الفساد بعينه، لكن بعبارة موجزة العجب: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11].وهل هذا الآن موجود؟ إيه، ما أكثر الرؤساء والزعماء والفنيون وأرباب العلوم و.. و.. و.. يعتقدون أن بنوك الربا مما تفتقر إليه الأمة وتحتاج إليه، وهذا إصلاح وليس بفساد أبداً، ويفتحون مصانع للخمور ويصدرونها ويبيعونها ويدعون أن حياة الأمة متوقفة على هذا: هل تريدون أن تلصق الأمة بالأرض أو تمد يديها للكفار؟ فيستبيحون الربا: صنعاً، وشرباً، وبيعاً.يصرفون المؤمنين عن تعاليم الله ورسوله، ويضعون خططاً في مناهج التعليم، حتى أصبح في العالم الإسلامي حصة التوحيد؟ لا، حصة الدين حصة أو حصتين في الأسبوع -باستثناء هذه المملكة- فيأخذ الطالب الشهادة الأولى والثانية والثالثة وهو ما عرف معنى لا إله إلا الله، ويدعون أنهم في هذا مصلحون: كيف يرتقي الشعب؟ كيف يخرج من دائرة التخلف إذا لم نحفظ ونعمل ونقرأ ونتعلم؟ ودعونا من كلمة دين، واعبدوا الله كما شئتم.فأفسدوا مناهج التربية والتعليم في العالم الإسلامي تحت هذا الشعار: نحن مصلحون. نريد رقي الشعب وتحركه وتحرره لا اللصوق بالأرض والهبوط. فهمتم هذا أو لا؟ لأن هذا القرآن ما نزل لثلاثة أيام فقط أو لأيام المدينة: عشر سنوات، هذا كتاب الهداية الإلهية إلى يوم القيامة.فكثير من المعاصي الكبيرة والجرائم أوقعوا فيها أمة الإسلام تحت هذا الشعار: نحن مصلحون، أنتم تتصورون أننا نفسد بل نحن نصلح، وهذا لصالح الأمة، وصالح الشعب.يبقى: هل هم على علم؟ منهم من يعرف أن هذا العمل ضد شرع الله وقوانينه، ومنهم المقلدون الجامدون يقلدون غيرهم ويقولون ما لا يعلمون.
تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
قال تعالى: أَلا [البقرة:12] ألو. لماذا دائماً نقول: ألو؟ أسري عليكم، لأنكم ألفتموها، فبناتكم ونساؤكم ورجالكم حتى الطفل الصغير: ألو، فهم معناها، وتأتي (ألا) شبيهة لها، لكن ما فهمنا. أَلا [البقرة:12] اسمع، أحضر مشاعرك وحواسك فالأمر والخطب عظيم، فهي تقال عند إلقاء الأخبار باستعداد النفوس لقبولها وأخذها، فاسمع ماذا قال تعالى؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:11-12] هذه الكلمة ما قالها علي بن أبي طالب أو أبو بكر ، وما قالها حتى رسول الله، هذه قالها الله ربهم ورب كل شيء ومليكه والأعلم بهم أكثر من أنفسهم. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] المفسدون لأي شيء؟ إذا عرفنا الإصلاح بم يكون نعرف الفساد بم يكون. وأصل الفساد هو ما يفقد الشيء ثمرته الطيبة، تقول: فسد الطعام، فسد الخبز، فسدت الفاكهة، بمعنى: طرأ عليها ما أفقدنا طعمها ولذتها ومنفعتها، فأصبحت لا تجدي ولا تنفع.إذاً: العمل بشرع الله وقوانينه يسعد الإنسان في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة وإذا أعرضنا عن ذلك القانون وأهملناه وتركناه واستبدلنا به غيره فمعنى هذا أننا نعمل على الفساد، ونحن المفسدون، ولا تتردد.قال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] لم ما يشعرون؟ ماتت أحاسيسهم، وتجمدت، وتلبدت، فما يذكرون الله، ولا يناجون الله، ولا يقفون ساعة بين يديه، ولا يقرءون كتابه، ولا يذكرون لقاءه، ولم يطلبوا حبه ولا معرفته، فمن أين لهم العلم والمعرفة والشعور؟ فقد فقدوا حتى الشعور كالبهائم.عرفتم هذه؟ من المخبر يرحمكم الله؟ الله. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12].وكل من أراد أن يعطل شرع الله فيبطل الصيام، الصلاة، الزكاة، الحجاب، الأمن وغير ذلك، فمعناه أنه يفسد في البلاد وهو لا يشعر بذلك، وكل من يعمل على أن يعبد الله في القرية .. في البلد .. في الإقليم بما شرع بعد معرفة لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو عامل على إصلاح البلاد، وهو من المصلحين والصالحين، ومن أراد أن يحول المسلمين إلى أن يصبحوا كالكافرين حتى في الزي والذوق والفطرة والطعم فهذا -والله- يفسد بمعاول الفساد، ويدمر البلاد.
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ...)
ثم قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا [البقرة:13] من القائل؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] المنافق اليهودي يقول له أخوه ممن آمن: آمن كما آمن عبد الله بن سلام، أنت أعلم منه؟ وأنت أعرف منه بدين الله؟ فيقول: نعم، نؤمن كما آمن السفهاء! ماذا أصابنا! هل أصابنا الجنون؟ كيف نؤمن إيمان فلان وفلان؟!فيردون هذه الدعوى على إخوانهم بهذه الجملة التي ذكرها الله، والله حرفياً قالوها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13].أقسم لكم بالله! إن كثيرين من العرب والمسلمين إذا قيل لهم: لم ما تحجبون بناتكم ونساءكم كما في السعودية؟ يقولون: هم متخلفون. لم ما تجبون الزكاة؟ يقولون: دعك من هذه المسائل الرجعية، فالضرائب سدت مسدها وهي أقوى وأكثر نفعاً. لم ما تصومون مع السعودية؟ يقولون: دعنا من المتخلفين والرجعيين، ونحن عندنا آلات وعندنا مراصد وعندنا.. كيف نمشي وراءهم؟ والله كما تسمعون. لمَ ما تطبقون حدود الله؟ يقولون: نطبق حدود الله، نقطع اليد! نترك المواطن يعيش هكذا بيد واحدة! كيف يشتغل؟ كيف يعمل؟ هذه السعودية تفعل، يقولون: دعنا من هؤلاء الرجعيين الجامدين، سوف يأتي يوم يفيقون ويخرجون من هذه الورطة.فهمتم أو ما فهمتم؟ والله إني لعلى علم مما أقول.لكن ما هو السبب؟ جهال، فما بكوا ليلة بين يدي الله، وما جلسوا في حجور الصالحين، ولا تربوا بين أيديهم. كيف يعلمون؟ كيف يشعرون؟ كيف يوقنون؟ ما هي أسباب ذلك؟ من مدرسة مدنية أو عسكرية أصبح جنرالاً أو وزيراً، فكيف يعرف الله؟ كيف يخشى الله؟ قد تتحدث معه وتذكره فلا يتذوق لكلامك طعماً أبداً، بل يتهمك بالقصور: أنت هابط، وإن جاملك يقول: الظروف.وما العلاج يا شيخ؟العلاج أن نتوب إلى الله، وأن نطرح بين يدي الله، آمنا به رباً، يملك كل شيء ويدير الكون كله، اطرحنا بين يديه: ارفعنا، أعزنا، أكرمنا، سودنا، وقد فعل، أيام لا فلسفة ولا كذب ولا ولا.. وإنما قال الله وقال رسوله، فرفع الله تلك الأجيال الثلاثة إلى سماء الكمال البشري، وقد قلت وحلفت: ما اكتحلت عين الوجود بأمة أعدل، وأرحم، وأطهر، وأعز، وأقوى، وأكمل من تلك الأمة التي ما كانت تعرف إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. أأنتم مصدقي أو لا؟ راجعوا التاريخ الحقيقي، وليس المزور.إذاً هيا نجرب، والله! لو أن أهل قرية في العالم الإسلامي، عدد سكانها ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، واسمحوا لنا أن نجرب: هل صحيح أن هذا النور الإلهي يهدي .. هذا الروح الإلهي يحيي؟ حتى نعرف الحقيقة. ويتعانق أهل القرية وباسم الله فقط إذا مالت الشمس إلى الغروب وضع الفلاح المسحاة ووضع المنجل فتوضأ وجاء بامرأته وبناته وأولاده إلى المسجد، والصانع رمى المرزبة أو الحديدة وتوضأ وجاء، والتاجر أغلق باب المتجر، وجاءوا بنسائهم وأطفالهم ورجالهم إلى بيت ربهم، إلى المسجد الجامع، فيجلسون جلوسنا هذا، والنساء وراء الستائر، ومكبرات الصوت عندهن، والأولاد في صفوف بين النساء والرجال في آداب، وليلة آية، وليلة حديثاً، فيمر العام الأول والثاني والثالث، يا شيخ! كثير؟ والله ما هي إلا سنة، وما نحتاج إلى سنين، سنة فقط يذوقون طعم الإسلام، ويعرفون لذة الإيمان، فتتجلى فيهم حقائق منها: ألا يبقى بينهم من يفكر في أن يزني بامرأة أخيه أو بنته، ولا يبقى فيهم من يأتي بالحشيشة ويوردها ويبيعها لأفراد القرية، ولا يبقى بينهم من يمد لسانه فيسب أو يشتم أخاه، ولا يبقى بينهم من يترف أو يسرف وحوله فقراء ما شبعوا، ولا يبقى بينهم من يهجر بيت الله أو يقال: فلان لا يصلي أو امرأته لا تصلي، وكل هذه المظاهر تنتهي.كيف هذا يا شيخ؟ كيف! ألم يسم الله كتابه روحاً؟ أما سماه نوراً؟ فالذي حيي وأنار الله الطريق أمامه تقول: كيف يسعد أو كيف يكمل؟! ما هو معقول هذا أبداً! أيمكن أن تقول في الذي يأكل: كيف يشبع؟! وفي الذي يشرب الماء: كيف يرتوي؟! تعطل سنن الله أنت؟وهذا فقط ما استطاع المسلمون يفعلونه، ولعل هذه الدعوى ما بلغتهم، أنا أعرف أنها ما بلغت، فهذا الصوت جديد، كتاب (المسجد وبيت المسلم) كم له عندهم؟ سنة وبعض الأشهر. ولو طبقنا هذا في قرية من قرانا في العالم الإسلامي لشاهدنا أنوار كتاب الله وهدي رسوله، وعرفنا كيف نتقاسم آلامنا وسعادتنا.إذاً: ما دمنا هكذا لم نلوم الحكام؟ لم ما طبقوا الشريعة؟ لم ما نفذوا كتاب الله؟ نلوم في الهواء، ما هم أهل مثلنا. هل عرفوا كما عرفت أنا وأعرضوا؟ هؤلاء يحرقون بالنار، لأنهم ما عرفوا. جلسوا بين يدي من؟أسألكم بالله: تعرفون زعيماً، رئيساً، وزيراً .. جلس مجلسكم هذا؟ سنتين، ثلاث يتعلم الهدى؟ هات، أتحداك. فلو جلس هذا لكان بصيص نور في تلك الوزارة، فلا يسمع عنه إلا الهدى، ولا يعرف عنه إلا الخير، وإن كان في حدود ضيقة؛ لأنه وحده.عوامنا ضلال، فجار، فاسدون أفسد من الحكام، ما السبب؟ الجهل، فما عرفوا الله حتى يحبوه، وما عرفوا الله حتى يخافوه، وما عرفوا محاب الله حتى يتملقوا بها إليه، وما عرفوا مكارهه يسمعون فقط كلاماً هنا وهناك، وما استقر في أذهانهم، ولا أنار قلوبهم، كيف تريد منهم ذلك؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] من هم السفهاء؟ أصحاب العقول الخفيفة التي ما تحسن التصرف ولا التدبير كالمرأة في المال والولد، قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] من هم؟ المرأة والولد. قالوا: اسكت، أعط المرأة، الآن ذوقوها، فالمرأة الآن تتحكم، وهي التي في يدها المال، وما يعاني أزواج الموظفات، عندنا بلاد النور والرحمة، أما البلاد الأخرى إذا ما تصفعه على خده هو في خير.. ولما رضي واحد منا أن يعلم ابنته لتتوظف، أعلمها لتعبد الله، تريد الوظيفة؟ لا، لا أحرق ابنتي أبداً، ولا أشقي زوجها ولا أقاربها.هذا الكلام تتذوقونه؟ والله إني لأقول على علم: لو يحضر هنا ألف خريج كليات السياسة والله ما استطاع أن يقف أمام الحق، هذا ليس كلاماً عادياً، وما نحن في حاجة إلى هذا، نحن في حاجة إلى ربانية، وإلى أن نكون أولياء الله، فإذا رفعنا أكفنا إلى الله لن يردها خائبة، ونريد أن نشعر بسعادة وطهر وصفاء، وتصبح الآخرة أحب إلينا من أوساخ الدنيا.قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] سبحان الله! وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] مع أنهم ساسة لهم اتصالات بقريش واتصالات بالكافرين حتى بالروم والشام، أليس كذلك؟ ومع هذا قال: لا يعلمون، ما عندهم علم حقيقي يقيني، فما عرفوا الله، وما عرفوا ما عند الله ولا آمنوا بلقاء الله، فمن أين يأتيهم العلم؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] لا الذين قالوا لهم: أنتم سفهاء أو نؤمن كما يؤمن السفهاء. وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13].قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] اللهم لا لا، لا يستوون. وقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]. قالوا: نعم. العلم علم الهندسية والفيزياء والتقنية وعلم وعلم.. تلك صناعات، ما نجمع الأمة كلها بنسائها وأطفالها على مواد كهذه، ولا ينجح منها إلا خمسة في المائة، نختار مائة شاب ونغمسه في مادة من هذه المواد يتخرج تقني، أما أن نجعل مواد الهدى والنور من الابتدائي إلى الجامعة كلها عن المادة، فأين الروح، وأين الإسلام؟ عرفتم أو لا.والله العظيم! إن المواد المادية التي تدرسونها أربع سنوات في روسيا أو بريطانيا، والله العظيم ليتعلمها المؤمنون أصحاب النور في أربعين يوماً. وقد مررت هذه الأيام وزوروني جزاهم الله خيراً مدننا الصناعية عندنا -زادها الله قوة- وتجولنا فيها، قالوا: انظر هذا الفريق، هذه المهنة في أيديهم، قال: قالوا لنا: يحتاج إلى أربع سنوات حتى يتعلمها أولادكم أو أفرادكم. قال: والله تعلموها في أربعة أشهر، وهم الذين أمامك، لتعرفوا أني أتكلم عن علم. التمريض، الطب، اجمع لك مائة بنت وأكثر ما يكون ثلاثة أشهر إلا وهي ممرضة، وتدرس الأخرى عشرين عاماً ممرضة وهي لا تطيع الله ولا رسوله، ولا تحسن العمل، أليس كذلك؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] فلان وفلان. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ .. [البقرة:13] لو علموا أنهم سفهاء: لا رشد، ولا بصيرة، ولا علم، ولا هدى ما وقفوا هذا الموقف، لكن ما علموا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال المؤلف: [شرح الكلمات: الفساد في الأرض: الكفر وارتكاب المعاصي فيها]. ما الفساد في الأرض يا شيخ؟ الكفر، وارتكاب المعاصي فيها بترك الواجبات وفعل المحرمات من الغش إلى الخدع إلى اللواط إلى الجرائم.قال: [الإصلاح في الأرض] ما هو؟ بالفئوس والحراثات، أما كيف الإصلاح؟ قال: [يكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح]، بالإيمان الصحيح الذي إن عرضناه على الكتاب وقع عليه: أنت مؤمن. الإيمان الصحيح والعمل الصالح، أي عمل صالح؟ كل ما شرع الله لنا أن نقوله وأن نعمله طول حياتنا فهو العمل الصالح، وما عداه فاسد. قال: [وترك الشرك والمعاصي]، لو نؤمن ونعمل صالحات ونحن نأتي الشرك ونأتي المعاصي، فهذا ليس بصلاح، ولا بد من التخلي أولاً عن هذه المصيبة وهي الشرك في عبادة الله والذنوب والمعاصي، وبعد الإيمان والعمل الصالح ينير الحياة.ما معنى: (لا يشعرون)؟ قال: [لا يدرون ولا يعلمون].ما معنى: (السفهاء)؟ قال: [جمع سفيه، خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير]، كالسفهاء الذين عندهم مال ولا يعرفون كيف يتصرفون، بعد عام أو عامين أنفق كل الذي عنده.
معنى الآيات
قال: [معنى الآيات: يخبر تعالى عن المنافقين]. من هم المنافقون يا أبناء الإسلام؟ الذين يبطنون ويخفون الكفر ويظهرون الإيمان. بلسانه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقلبه يقول: لا إله والحياة مادة.قال: [يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين: لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة لليهود والكافرين، ردوا عليه قائلين: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] في زعمهم، فأبطل الله تعالى هذا الزعم، وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون لا من عرَّضوا بهم من المؤمنين] كـعبد الله بن سلام وغيره، بل هم المفسدون، فدافع الله عن أوليائه، [إلا أنهم لا يعلمون ذلك، لاستيلاء الكفر على قلوبهم]، ما يعلمون أنهم مفسدون، ولا أن المؤمنين مصلحون بسبب أن الكفر استولى على قلوبهم، غشاها وغطاها ما أصبحوا يعلمون ولا يفهمون.قال: [كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين: اصدقوا في إيمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل عبد الله بن سلام ] تعرفون عن عبد الله بن سلام شيء؟ هذا حبر اليهود في المدينة، ورزقه الله كان يرتقب متى يأتي محمد المدينة، من يوم ما سمع به في مكة وهو ينتظر، وما إن جاء الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاءه وطرح عليه ثلاثة أسئلة فقط فآمن، ولما آمن وحسن إيمانه وإسلامه قال للرسول: تعال! نمتحن اليهود، أجلسني وراء الستارة واسألهم عني، فجاء كبار اليهود. ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، أعلمنا، أشرفنا. فقال لهم عبد الله بن سلام : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوا: هذا كلام ما يقال، ولهذا قال الرسول: ( إنهم قوم بهت ).وعبد الله بن سلام بشره الرسول بالجنة، فقد رأى رؤيا أن السلسلة نزلت من السماء فيها حلقة، فأخذ فيها وتمسك، فعبر له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنك على الإسلام وتموت عليه فأبشر بالجنة.قال: [ردوا قائلين: أنؤمن إيمان السفهاء] أي: الذين لا رشد لهم ولا بصيرة؟ [فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم، ونفاه عن المؤمنين الصادقين، ووصفهم بالجهل وعدم العلم]، وهو كذلك.
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: ذم الادعاء الكاذب، وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين]. فهذه الآيات تهدينا، تبصرنا، تعلمنا بأن الادعاء الكاذب الذي يدعي ما ليس عنده، هذا الادعاء الكاذب صاحبه يتصف بصفات المنافقين، فلهذا ما ندعي ادعاء الكاذب، نحن أهل الصدق، ولا نعرف إلا الصدق.تعرفون أنه لما هزمتنا إسرائيل كم من مرة كنا نقول: قواتنا الضاربة. كلام نتعجب منه، وإذا بجماعة اليهود في ليلة من الليالي سلبوهم كل شيء، أين قواتنا الضاربة في الأرض؟ هذا الادعاء الكاذب باطل، فاعرف منزلتك وقدرك، ما عندك قوة اتصل بذي العرش، بت راكعاً ساجداً يمدك بالقوة، أما أن تتنكر، وتغمض عينيك، وتظل في المعاصي والجرائم وتقول: قوانا الضاربة في الأرض. نفعت؟ ما نفعت. والآن لولا الله ثم وجود مؤمنين ومؤمنات في العالم الإسلامي لكانت الفرصة متاحة لليهود والنصارى أن يسودوننا أسوأ سيادة. انتبهتم؟ ولن نستطيع أن ندفعهم، لم؟ لأن الله غير راضٍ عنا، إذاً يسلطهم كما سلطهم أمس، سلطهم أو لا؟ أما حكمونا؟ أما سادونا؟ أين ممالك الهند؟ أين الممالك الإسلامية؟ ما هي ألف ومائة ألف، ملايين وضعتها بريطانيا تحت رجليها. أين ملايين المسلمين في إندونيسيا؟ هولندا العجوز وضعتها تحت رجليها. أين أبطال المغرب الإسلامي؟ أين هم؟ أذلوهم، وكسروهم، وحطموهم. أين أين أين؟ فعل الله ما فعل، هو الذي فعل، ما هي بريطانيا ولا فرنسا، والله لو كنا أولياءه فاجتمعوا كلهم ما نالوا منا منالاً. هل عرف الناس هذه السنة الإلهية؟ ما عرفوا.في أُحد ثلاثون مؤمناً جعلوا رماة في جبل، فعصوا رسول الله ونزلوا فضربهم الله ضربة ما ذاقوا مثلها، ونبيهم كسرت رباعيته، وشج وجهه، ونحن نعيش على الفسق والفجور وينصرنا الله، والله لولا لطف الله ورحمته ووجود مؤمنين ومؤمنات يبكون بين يديه لكانت الفرصة متاحة لليهود ولغيرهم، الهزيمة مرة.يا شيخ! لم تقول هذا؟ توبوا، أقبلوا على ربكم، وتجردوا له، وادخلوا بيوته، وتخلوا عن معاصيه، ستكونون أنتم سادة الدنيا، ويركع لكم العالم ويسجد. قال: [ثانياً: الإصلاح في الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله، والإفساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله.ثالثاً: العاملون بالفساد في الأرض يبررون دائماً إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد].وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (71)
الحلقة (78)
تفسير سورة البقرة (40)
اعتذر بعض اليهود عن الدخول في الإسلام ببغضهم لجبريل، وزعموا أنهم يحبون ميكائيل، وأنه لو كان هو من ينزل بالوحي على رسول الله لآمنوا، فقرعهم الله بأن من يعادي ملكاً فإنما يعادي الله سبحانه، وأن الوحي الذي ينزل به جبريل فيه الهدى والنور، والبشرى للمؤمنين، وفيه التصديق بالكتب السابقة، فما قاله هؤلاء فيه معاداة لله ومشيئته، ورسله وكتبه، ومن كان كذلك فإن الله عدو له.
القرآن كلام الله المعجز
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:97-100] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا الكلام الذي سمعناه هو كلام الله، وملايين الناس لا يؤمنون بالله.كلام الله .. أيعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟ والله ما كان، ولن يكون.لكن كيف ينكر وجود الله؟الجواب: المنكرون لوجود الله هم اثنان:أحدهما: ينكر بلسانه، ليستمر في غيه وضلاله .. في شهواته وأطماعه، حتى لا يقف عند حد.وآخر ما عرف .. ما بلغته الدعوة واضحة صريحة .. ما حملت إليه الدعوة المحمدية، فهو لا يعرف.ثم هذا الكلام الذي نسمع قد حواه كتابه، وليس مجرد كلمات تقال هنا وهناك، بل هو كتاب كريم.ومما يدلك على كرم هذا الكتاب: أن البكر تستطيع في خدر بيتها أن تقرأه أمام أبيها وبين إخوتها، ولا تشعر أبداً بأن هناك ما ينبغي أن تستحيي منه، فهو مثلاً يعبر عن الجماع بالمباشرة: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، ولن تجد في القرآن -وهو عشرات الآلاف- كلمة واحدة تسيء وتؤذي أبداً، فهذا كلام الله.وفيه آلاف الأخبار، وعشرات الآلاف، ولا يمكن أن لا يصدق في تلك الأخبار خبر واحد.وفيه من الحكم ما تعجز العقول البشرية حتى عن محاكاته، فهذا كلام الله.ثم كيف ينكر ويكذب برسالة الذي نزل عليه هذا القرآن .. هذا الكلام الإلهي، وهو أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يكذب برسالته، ويقول القائل: لست رسولاً، ولن نؤمن برسالتك ولا بنبوتك، ولكن الأطماع .. الشهوات .. الأغراض .. حب الحياة والدنيا، هي التي تحمله على هذا، وإلا لو نظرنا من حيث العقل، والمنطق، والذوق، والفطرة البشرية فهو أمي يقرأ كلام الله، ونحن نسمع ذلك الكلام الطاهر، الحكيم، العزيز، البين، فهل نستطيع أن نقول: أنت لست برسول الله، وهذا الكلام ممن؟!
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
ها هم اليهود -عليهم لعائن الله- تورطوا في حب الحياة .. وقعوا في فتنة حب الحياة الدنيا، وإن أحدهم يود أن يعيش ألف سنة، بل آلاف السنين، حتى لا يموت، ولنستمع إلى ما سبق أن قرأناه من كتاب ربنا في شأنهم.
دعوة اليهود إلى المباهلة وتمني الموت
قال تعالى في المباهلة العظيمة، تلك المباهلة التي أسكتتهم وقطعت ألسنتهم، فهم يتبجحون بأنهم أولياء الله .. أحباء الله .. الجنة لهم .. هم شعب الله المختار .. أبرّ الخليقة .. البشرية نجس، وهم.. وهم، فقيل لهم: تعالوا نتباهل، ونرفع أكفنا إلى الله، ونسأله: من كان منا على باطل فليهلكه الله على الفور. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة في مجمع بين الناس، فتمنوا بقلوبكم واسألوا الله تعالى الموت ينزل بكم الآن إن كنتم صادقين فيما تدعون وتقولون، وتهرفون، وتكذبون من الدعاوى الباطلة.نعم هم يدعون أن الجنة لهم، وأنهم شعب الله المختار، وأنهم أحباء الله، وأنهم أولياؤه، وأن البشرية كلها سافلة وهابطة لا قيمة لها عند الله، فإذا كنتم كما تزعمون فتمنوا الموت لتموتوا الآن، وتستريحوا من أعباء الدنيا، وتستريحوا من المعاش الضيق .. من الآلام والأمراض .. من الحروب والفتن، فالجنة خير من الدنيا بمليون مرة، بلا مناسبة: ( إن سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ).فلما أكثروا من التبجح بين العرب بأنهم.. وأنهم، أنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم، قل لهم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ [البقرة:94] وقطعاً هي الجنة، أما الدار الآخرة ففيها النار أيضاً .. عالمان: عالم الشقاء، وعالم السعادة.قال: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ [البقرة:94] فلا يدخل الجنة أبيض ولا أصفر، لا عرب ولا عجم إلا أنتم، فتعالوا: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]، وليحضروا بعلمائهم، وليرفعوا أكفهم، وليسألوا الله تعالى أن يميتهم ليدخلوا الجنة إن كانوا صادقين. فوالله ما استطاعوا .. فشلوا، وخافوا، وهربوا.
كراهية اليهود تمني الموت لسوء ما قدمت أيديهم
يقول الله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، ولن يتمنوه يا رسولنا، فاتركهم، ودعهم وحالهم، فلا يصلحون للمباهلة، فإنهم لن يتمنوا الموت أبداً إلى يوم القيامة، ولا يأتي يوم يتمنون فيه الموت، حتى ولو كان أحدهم في أعماق السجون والزنازن يقول: لا أريد الموت. ولو كان أحدهم قد قتله الفقر، والتعب، والذل، والمهانة، ولا يزال يقول: لا.. لا، ولا يتمنى الموت. لِم؟ لعلمهم بجرائمهم التي تدخلهم جهنم، وتصليهم نارها، وأنهم ليسوا بأهل للجنة، لقد قدموا من الجرائم ما لا يتفق أبداً مع دخول الجنة بحال من الأحوال.وقد عرفنا من كتاب ربنا أنهم قتلوا الأنبياء والرسل، أرأيتم من يقتل نبياً كيف يسعد؟!فقتلوا زكريا عليه السلام وقتلوا ولده يحيى عليه السلام، وحاولوا قتل عيسى، وصلبوا من شبه لهم وقتلوه، وحاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم، فمرة بإطعامه السم، ومرتين بالمؤامرة عليه ليقتلوه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في بعض الظروف كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم، وفي المساء كانت أسواقهم عامرة، طافحة بالبيع والشراء والضحك، كأن شيئاً ما وقع، وقد قتلوا سبعين نبياً.كما أنهم استباحوا ما حرم الله عليهم، ومن أعظم ما ندد القرآن بهم في أكلهم الحرام: الربا، فهم الذين استباحوه وأباحوه، وهم الذين ورطوا العالم فيه أيضاً، وقد قلت لكم: إن البنوك العالمية منشؤها أصابع اليهود، حتى لا تبقى رحمة، ولا صلة، ولا سلف، ولا قرض، ولا تعاون بين الناس؛ لأنهم عبدة الدينار والدرهم، ويكفي أنهم قد عبدوا العجل.قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لِم يا رب؟ بسبب ما .. قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، وقد قدمت أيديهم الجرائم: الفسوق، والفجور، والكفر، والباطل، والشر، وذنوب لا تعد ولا تحصى، وأصحابها مكتوب عليهم: أنهم في جهنم، فكيف يتمنون أن يدخلوا النار؟! ولو يبقى في الدنيا مليون سنة جائعاً مريضاً ولا يدخل جهنم، وهو كذلك: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] من الظلم، والشر، والخبث، والفساد. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] فسوف يجزيهم بظلمهم، قد أشركوا بالله .. كفروا بالله .. قتلوا الأنبياء .. حاربوا الأولياء، ما تركوا جريمة إلا ولغوا فيها، وانغمسوا في أوضارها، فكيف يتمنون الموت؟ لن يتمنوه أبداً؛ ولهذا يلاحظ خوفهم من الموت بصورة عجيبة، والذين يخالطونهم ويعايشونهم ويساكنونهم يشاهدون هذا، فما يريد أن يموت.
حرص اليهود والمشركين على أدنى حياة في الدنيا
قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] أدنى حياة .. أرخصها .. أقلها .. أدناها .. أسفلها يحرصون عليها، كما قلت لكم: أحدهم مريض، فقير، في السجن، ولديه آلام ولكن لا يقول: الموت خير أبداً، يريد أن يعيش على أية حال كان، فهو حريص على الحياة. وَلَتَجِدَنَّهُ مْ يا رسولنا! إن طلبت ذلك، وأردت الوقوف عليه لتجدنهم أَحْرَصَ النَّاسِ مطلقاً عَلَى حَيَاةٍ وإن كانت رخيصة، والنكرة هنا تدل على عموم فأدنى حياة المهم لا يموت؛ لأنه إذا مات انتقل إلى عالم الشقاء ليخلد فيه أبداً، ولا أمل في الخروج، فلا شفاعة تنفع ولا شافع يوجد؛ لأنهم كفروا.وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96]، فهذا الحب للحياة يشاركهم فيه الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولقائه، ولا يؤمنون بما عند الله، وما أعده لأوليائه من نعيم مقيم فوق السماوات السبع في دار السلام، وهؤلاء الكفار كذلك يود أحدهم لو يعمر ألف سنة.فأمثال هؤلاء لو قاتلهم المؤمنون ينتصرون عليهم، فالذي يحب الحياة مهزوم، ولا شجاعة له، ولا إقدام، ولا .. ولا، يقتله خوفه، بخلاف المؤمن بالدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، تجده يتمنى على الله متى يقرع باب دار السلام، فهذا يرقص عند قدومه على المعركة، وقد شوهد كثير من الصحابة يهتزون اهتزازاً فرحاً بلقاء الله.وهذا السياق وقفنا عليه ودرسناه في الدرس الماضي.
تفسير قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ...)
كراهية اليهود لجبريل عليه السلام
الآن مع قول ربنا جل ذكره: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة:97]، قل يا رسولنا، أيها المبلغ عنا، قل لـابن صوريا الأعور ومجموعة من علماء اليهود الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقالوا: يا محمد! ما من نبي نبأه الله، ولا رسول أرسله الله إلا أوحى إليه، وأعطاه من الآيات والمعجزات ما تسد به رسالته، وأنت من الذي يوحي إليك ويأتيك بالوحي، فعلمنا حتى نؤمن برسالتك، ونتبعك، ونمشي معك؟فقال لهم: أنا كذلك يأتيني رسول ربي؛ جبريل عليه السلام.قالوا: يأتيك جبريل؟قال: نعم.قالوا: إذاً: لن نتابعك، لو قلت: ميكائيل، نعم، أما جبريل فلا، هو عدونا، لا ينزل إلا بالحروب والدماء والقتال، فلهذا لا نستطيع أبداً أن نؤمن بك، ولا أن نتابعك.
التحذير من سلوك مسلك اليهود
هذه الأفكار يستنتجها، ويولدها، ويلقيها لليهود أحبارهم ورؤساؤهم الذين هم مسيطرون على العوام ليستغلوهم، فيستعبدوهم.وهذه الفتنة -أيضاً- كانت في النصارى، فرجال الكنيسة يشوهون الإسلام للعوام من النصارى حتى لا يدخلوا فيه، ويفعلون معهم الأفاعيل، وبلغنا أنهم يشترون منهم صكوك الغفران، فإذا عندك مليار .. ملياران من الدولارات، يستطيع رئيس الكنيسة يعطيك صكاً بأنه مغفور لك، وضع هذا المال للكنيسة -فقط- لنشر المسيحية.والرسو الكريم -اسمع ما يقول، واحفظ ما يقول- يقول لنا: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، فهو يخبر بالواقع، ويتلقى الوحي من الله، قال: لتتبعن أي: أيها المسلمون طرق من قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.وقد وجد -أيضاً- في المسلمين رؤساء أديان في المذاهب المختلفة يشوهون الإسلام ويصرفون عنه أهله بالأباطيل والتراهات من أجل أن يستغلوا أولئك العوام والجهال ليقدسوهم، ويكرموهم، ويعبدوهم، فيحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، ولو نفتح صفحة لهذه الأحداث لرأيتم العجب.إن وجود مذاهب في الإسلام، وطرق مختلفة لا يرضى به الإسلام، فالقرآن يقول: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103]، ولقد بلغ عدد المذاهب في العالم الإسلامي أكثر من سبعين مذهباً، وسببها أن الرؤساء يريدون أن يستغلوا أتباعهم، فهناك مذاهب قليلة -كما يقولون: حفنة من الناس- لِم لا يدخلون مع أهل السنة والجماعة، فهم جماعة تعدادهم خمسة إلى مائة بالنسبة إلى المسلمين، وقد رضوا بأن يعيشوا مستقلين يقولون: مذهبنا، قد سيطر عليهم رؤساء الدين، وأئمة المذهب العارفون به، حتى يبقى لهم مركزهم ومكانتهم بين إخوانهم، فلا يسمحون لهم أبداً أن يدخلوا في جماعة المسلمين، وإن شئتم حلفت لكم بالله.وهؤلاء لو كانوا مجردين من الهوى، والدنيا وأطماعها، وحب الرئاسة والسيطرة أو الملك والحكم، والله ما رضوا أبداً ولا أربعين يوماً أن يعيشوا منقسمين على المسلمين، بل لوجدتهم يتباحثون معهم يقولون لهم: بينوا لنا الطريق؟ هذا ما عندنا فسددونا وصوبونا، وأنتم أكثرية ونحن أقلية، وهل هذه الأقلية هي التي على الحق ونحن على الباطل؟ للأسف لا يسمح لهم بهذا أبداً، والكتب تؤلف في ذلك وتدرس، وكل كتاب يدعو إلى استقلال تلك الجماعة، وأن لا تتصل بالجماعات الأخرى، وأحياناً يكفرون بعضهم بعضاً، وينسبونهم إلى الكفر، والزيغ، والخروج من الإسلام.فهذا واقع قد أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد وأن يقع: ( لتتبعن سنن من قبلكم -أي: طرائق من قبلكم- شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ).وهنا أضحككم وأنفس عليكم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفس على أصحابه: يذكر أن أحد العلماء كان يخطب في مسجد، ففسر هذا جحر ضب بالبنطلون! أي: السراويل الطويلة، وهذه السراويل ما كان المسلم يلبسها قط، حتى الجيوش الإسلامية -والله- ما كانت تلبسها، وآخر جيش إسلامي في الخلافة العثمانية كان يلبسون السراويل الواسعة والعريضة، وقد شاهدناهم، ولا يمكن أن تكون السراويل -كما هي الآن- مضغوطة، فتظهر إلية الرجل، فقال هذا الخطيب: هذا البنطلون هو جحر الضب، فالكفار قد دخلوا فيه، ونحن دخلنا فيه بعدهم، وهو كذلك! لأن جحر الضب لا يمكن أن يدخل فيه إنسان، ولو دخلوا لدخلنا مثلهم، مع أن هذا البنطلون ضيق تبرز فيه إلية المؤمن، وقد كان الحياء يمنع المسلمين من هذا، لكن لما لبسه الغرب وتجملوا به تبعناهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) .فكان اليهود مُستغَلين لرؤسائهم، فقد كفروهم .. مسخوهم .. منعوهم من دار السلام.وجاء النصارى كذلك، فرجال الكنيسة -والله العظيم- إلى الآن يصرفون الناس عن الإسلام، مع علمهم أن الإسلام هو سبيل الله .. وأن فيه النجاة، ويدلك على هذا أنك تجد مع الوقت أن من رؤساء الكنائس من يؤمن، وإذا عرف الحق فإنه يبكي، ويشكو لك هذا، وما كان منا للأسف إلا أن اتبعناهم.أما في داخل أهل السنة والجماعة فتجد الطرق: هذا قادري، هذا رحماني، هذا عيساوي، هذا زيدوني .. هذا نقشبندي .. هذا عيدروسي، هذا كذا، وفي أيام الغفلة والجهل كل جماعة وطريقة كأنهم هم المسلمون، وغيرهم لا، فلا ولاء، ولا حب ولا .. إلا قولهم: هؤلاء من إخواننا.وجاءت أيضاً الأحزاب والجمعيات، وكل حزب يطعن في الحزب الثاني، من قبل رؤسائهم، حتى تبقى لهم المجموعة، وتحت أيديهم.لا إله إلا الله: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع )، وكان ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبب هذا حب الدنيا والشهوات والجري وراءها، من الفروج، والأموال، واللباس، والمنصب، وكل هذا يعمي الإنسان ويصمه، ويجعله لا يرى إلا شهوته، فيكذب، ويحلف بالباطل، ويخون ويفجر، حتى يحقق هذا الهدف الهابط؛ الساقط، وهذا شأن اليهود، ونحن مشينا وراءهم.
نزول جبريل عليه السلام بالقرآن مصدقاً للكتب السابقة
يقول تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [البقرة:97] أي: أن القرآن العظيم جاء به جبريل، ونزله على قلب سيد المرسلين. فالقرآن يلقى من طريق الوحي .. بواسطة الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيفهم، ويعي، ويحفظ، ويقول، وينطق.قال: نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:97]، لا أن جبريل باختياره استغل الموقف وجاء بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو بأمر الله عز وجل، فهو الذي أرسله، ونزل القرآن على قلبه.قال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97] من هو المصدق لما بين يديه؟ القرآن. وما الذي بين يديه؟ الكتب السابقة، فلو تأتي إلى التوراة أو الإنجيل أو الزبور فتحذف منها الأباطيل والتراهات، والزيادات، والشروح فسيبقى النور الإلهي، وهو أولاً نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته، فهي والله لموجودة إلى الآن، وهم يهمشون ويشرحون بأن هذا ما وجد بعد، وأنه سيوجد فيما بعد، وأن هذا وصفه يختلف مع هذا، ويؤولون ذلك للناس.وقوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: في أصول الدين من الإيمان بالله، والبعث الآخر .. دار السلام .. دار البوار والعذاب .. إحقاق الحق .. إهباط الباطل .. العدل .. فكل الكمالات التي في تلك الكتب يصدقها القرآن، ولا يرد منها شيئاً، ولا يكذبها، بل يقويها ويدعمها، فكيف لا يكون كلام الله ووحيه.ولو تنافى مع ما عندكم من التوراة والإنجيل لقلنا: هذه أباطيل أو خرافات، لكننا وجدناه يصدقها، ويوقع على ما فيها من أصول الدين: من التوحيد، وعبادة الرحمن، والإيمان بالله، ولقائه، وكتبه، ورسله.
القرآن كتاب هداية وبشرى للمؤمنين
ثم قال: وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، ومن يستطع أن يقول: لا يوجد هدى في القرآن؟ والله لا يقولها ذو عقل، ولا ذو دين ومروءة، والله ما أخذ عبد بالقرآن في عقيدته وآدابه وأخلاقه وعباداته وضل أبداً.ما من إنسي ولا جني يأخذ بما في هذا الكتاب كما هو إلا وكمل، وسعد، ونجا، ووصل إلى رضا الله عز وجل ورضوانه، على شرط أن يفهم كلام الله ومراده، وهنا يحتاج إلى رسول الله المبين .. المفسر .. الشارح، ولا تقل: أنا أستغني عن الرسول بالقرآن؛ لأن الله قال: (فيه هدى) فهذه غلطة منكرة وفاحشة، فهل يستطيع أي إنسان بدون أن يقرأ سنة الرسول وبيان الرسول أن يفهم عن الله كل كلامه؟!وهذا هو سر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلا بد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالهدى والله لفي هذا الكتاب، وما أخذ به عبد أبيض ولا أسود وضل أبداً، ومن لم يأخذ به لا يهتدي ولن يهتدي، إذ الهدى هو العلامات التي تصل بك إلى هدفك، فأنت مثلاً إذا كنت ذاهباً إلى بيت فلان، فالهداية تكون بالعلامات المؤدية إليه من الشارع الفلاني، والباب الفلاني، والطريق الفلاني.فالكتاب يحمل هداية، تهدي العبد السائر إلى رضوان الله حتى يدخل الجنة.قال تعالى: وَبُشْرَى [البقرة:97] هل البشرى للمغنين .. لأصحاب الأموال .. للكافرين؟ لا، لا! بل: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، بشرى بسعادة الدنيا والآخرة، وأعظمها الزحزحة عن النار، ودخول الجنة؛ دار الأبرار، كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .. [البقرة:25] إلى آخر الآيات. فبشرهم يا رسولنا.والقرآن يحمل البشرى بالسعادة والكمال للمؤمنين؛ لأن المؤمنين أحياء، والحي يسمع ويبصر، يعقل ويفهم، فلما نودوا إلى الله أجابوا، وسلكوا الطريقة، فرضيهم الله وأرضاهم، أما الكافر فميت، فكيف تكون له بشرى وهو لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يعتمر، ولا يرابط، ولا يجاهد، ولا يتقي سيئة من السيئات، ولا يتجنب باطلاً من الأباطيل.نعم القرآن هو بشرى للمؤمنين الكمّل في إيمانهم .. الصادقين فيه .. الموقنين: وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97].
تفسير قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ...)
قال تعالى الآن رداً على ابن صوريا الأعور وجماعته الذين قالوا: نعتذر، فما دام يأتيك جبريل نحن لا نستطيع، فهذا عدو بني إسرائيل، ولو كان ينزل عليك ميكائيل فنحن معك؛ لأنه يأتي بالمطر والرحمة .. وما إلى ذلك، أما هذا الذي يأتي بالدماء والحروب فلا، لا. والذي زين لهم هذا هو الشيطان.وهذه فرية؛ حتى يستطيعوا أن يردوا على الرسول، ويعتذروا أنهم ما قبلوا دينه لهذا الغرض. فقال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، فأسكتهم وقطع أنفاسهم.قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ هل يوجد عدو لله؟ وكيف هذه العداوة؟أصل العداوة مأخوذة من عدوة الوادي، فالوادي في الوسط، وهناك الطرف الآخر الذي يسمى عدوة، فالذي لا يلتقي مع الله والفاصل بينهما عدو لله، فالله يأمر بالخير، والرحمة، والهدى، والطهر، والصفاء، واليقين، وذاك يأمر بالشر والخبث، والفساد، فلا يلتقيان، كل عدو للآخر، فالله يأمر بالخير، وهو يأمر بالشر .. الله يأمر بالصدق، وهو يأمر بالكذب .. الله يأمر بالطهر، وهو يأمر بالخبث. فيصبح عدواً لله.قال: وَمَلائِكَتِهِ وما داموا يقولون: جبرائيل عدونا، فعدو الملائكة عدو لله، وهذا ملك ربنا، ينزله على من يشاء من عباده بالوحي الإلهي وأنت تقول: هذا عدو، ومن يقول: إن جبريل عدو لنا يكون قد كفر بالله.قال: وَرُسُلِهِ وهم كذلك، يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض، فعيسى رسول الله حاولوا قتله وصلبه، وقالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا فيه الأعاجيب، وكل هذا لأن عيسى جاء ليؤدبهم .. ليحل الحلال، ويحرم الحرام. واليهود هم أرباب الدنيا، والمال، والشهوات قالوا: هذا سينغص علينا حياتنا، ويفسد وجودنا، فلا تصدقوه، وقد قال عيسى: ( بعثت إلى خراف بني إسرائيل )، فلما تاهوا بعثه الله إليهم لهدايتهم وهو منهم، فأمه مريم الإسرائيلية، فحاولوا قتله وطاردوه، وطردوا أتباعه؛ لأنهم فقط ضد الشهوات والأهواء والأطماع وحب الدنيا.فكفروا برسل الله، ومن كفر برسول واحد فقد كفر بعامة الرسل، ومن كفر بكتاب واحد من كتب الله فإنه يعتبر كافراً بكل الكتب، ومن كفر بملك واحد من ملائكة الله فقد كفر بملائكته.وعندنا نحن أكثر من أربعين ألف آية، ومن كذب بآية واحدة فقد كفر، وليس بكتاب كامل كالتوراة أو الإنجيل، فمن قال: لا أومن بآية واحدة من القرآن، فوالله لقد أجمع المسلمون على كفره، وهو ليس بمؤمن. فكيف إذاً بالذي يكذّب بالكثير.فإن قيل: ولِم خص جبرائيل وميكائيل وأفردهما بالذكر، وهم يدخلان في الملائكة؟الجواب : لأن المحنة دارت عليهما.وجبريل فيه لغات أفصحها: جبريل وجبرائيل وجبرين بالنون، وكذلك في ميكائيل لغات أفصحها: ميكائيل وميكال وميكئل.وجبريل معناه: عبد الله، وميكائيل معناه: عبيد الله، وكل ما فيه إيل: إسرافيل .. عزرائيل فهو كعبد الله وعبد الرحمن وعبد العزيز، إذ الكل عباد الله، ولهذا (إيل) الأخيرة معناها: الله، كما نقول: عبد الله، عبد العزيز، عبد الرحيم، عبد الحكيم.قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] أي: فقد كفر، والله عدو للكافرين، فدخل ضمن من يعادي الله عز وجل، والعياذ بالله!وهل يوجد كافر ليس عدواً لله؟! هذا غير ممكن؛ لأن معنى العداوة أن الله يحب كذا، والكافر يحب غيره، والله يكره كذا وهو يحب غيره، فهذه هي العداوة، فصديقك هو الذي يوافقك فيما تحب وفيما تكره، فإن كنت أنت تحب كذا وهو يحب شيئاً آخر، فما يمضي عليكما يومان .. ثلاثة أيام حتى تتضاربا، ولا تتفقا أبداً.إذاً: فالكافر عدو الله؛ لأنه يحب ما يكره الله، فالله يكره الزنا، والكافر يحبه .. الله يكره الظلم، والبغي، والعدوان، والكافر يحب الظلم، والبغي، والعدوان، ويريده، إذاً: فقل ما شئت: إن الكافر عدو الله بلا خلاف.
كيف تكون ولياً لله
لكن من هو الذي يكون ولياً لله لا عدواً لله؟ هو الذي يوافق الله في محابه ومكارهه.وهذه الفائدة أعطيناها للسامعين -من فضل الله- من سنين، فمن منكم أيها المستمعون يرغب في أن يكون ولياً الله فيأخذها.إذاً من أراد أن يكون ولياً لله، راغباً في ولاية الله، فإليه الطريق إلى ولاية الله: إذا وافقت الله فيما يحب وفيما يكره فأنت وليه، فقط جاهد نفسك، وروضها، وأدبها حتى تحب ما يحبه الله، وتكره ما يكره الله، فقط وافقه تكن وليه، فإن عاكسته وخالفته كنت عدواً لله، فالموافقة هي الولاية.فإن قال قائل: يا شيخ! في ماذا نوافقه؟ في حب البقلاوة والدجاج المشوي أو في ماذا؟الجواب: يا بني! موافقة الله تكون في ما يحب وفي ما يكره، وأقسم بالله: إن الله ليحب أشياء ويكره أخرى، والقرآن شاهد، فكوني أريد أن أكون وليه فأوافقه على ما يحب وعلى ما يكره، يجب عليّ أن أسأل أهل العلم أو أقرأ القرآن لأعرف ما يحب الله وما يكره، فما عرفت أنه يحبه أحببته، وإن كان عدواً لي قد ذبح أبي، وما عرفت أنه يكرهه كرهته، ولو كان الدينار والدرهم.فلابد -إذاً- من أن نعرف يوماً بعد يوم جميع ما يحب الله، ونعرف كذلك جميع ما يكره الله، ونحن كلما علمنا أن الله يحب شيئاً أحببناه، وجاهدنا أنفسنا حتى نحبه، وكلما عرفنا أن الله يكره شيئاً كرهناه؛ لأننا نريد ولاية الله.وهنا: لابد من طلب العلم، فما هناك حيلة أبداً، لابد وأن نسأل ما يحب الله من الاعتقادات .. من الأقوال والكلمات .. من الأفعال والحركات .. من الصفات والذوات.على سبيل المثال: لو أن أباك ارتد وكفر، فإن هذا الرجل يكرهه الله، ويجب عليك أنت أن تكره أباك، فليس أبوك، وقد خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال آبائهم؛ لأنهم كانوا على الكفر فكرهوهم.فإذا عرفت أن الله يكره فلاناً فيجب أن تكرهه ولو كان ابنك، وإذا عرفت أن الله يحب فلاناً فيجب أن تحبه وتُكرِه نفسك على أن تحبه، ولو كان أعمش، أعمى، والدماء تسيل والقيوح، وقل ما شئت من العيوب الخلقية، فما دمت قد علمت أن الله يحبه فيجب أن تحبه، فبهذا تتحقق ولاية الله للعبد، وهي أن يوافقه في محابه ومساخطه، فنحب ما يحب، ونكره ما يكره في حدود ما نعلم.بلغنا أن الله يحب (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فنقولها في الليل والنهار؛ لأن ربنا يحبها.بلغنا أن الله يكره صوت المغنية، وصوت النائحة، فلا نجد أغنية أبداً تنشرح لها صدورنا، أو تميل إليها نفوسنا إلا ونبغضها؛ لأن الله يبغض هذا الصوت.وهكذا معاشر الأبناء والإخوان: ولاية الله تكون في موافقة الله؛ بدليل قوله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:63] من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فإذا آمنت فهنيئاً لك، وبقي أن نتقي أن نكره ما يحبه الله، أو أن نحب ما يكره الله، وبذلك تتم الولاية: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فيتقون ما يكره الله فلا يعتقدونه، ولا يقولون به، ولا يعملونه، ويتقون أن يسخطوا الله بترك ما يحب من الطاعات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أصحابه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (72)
الحلقة (79)
تفسير سورة البقرة (41)
الفسق، الكفر، نقض العهود، مخالفة الشرع.. وغيرها كثير من الصفات التي يتمتع بها اليهود، وبيّنها القرآن، فهم يرون الآيات واضحات جليات كالشمس، ثم يعمهون عنها، ويعاهدون ثم ينقضون، أما الكتب السماوية المنزلة فتراهم يضعونها وراء ظهورهم، معرضين عنها، مخالفين لها، وكأنهم لا يعلمون شيئاً.
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون)
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ .. [البقرة:99-102] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كتاب الله، وهذه كلمة الله جل جلاله وعظم سلطانه، والواسطة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عليه أنزل هذا الكتاب الكريم، ولنستمع إلى هذه الكلمات الإلهية.
المراد بالآيات البينات
يقول تعالى وهو يخاطب رسوله ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] حقاً حقاً، فالله هو الذي أنزل على رسوله آيات بينات، وهي آيات القرآن الكريم، إذ لفظ الآية قد يطلق ويراد به المعجزة الدالة على صدق النبي، والمقررة لنبوته ورسالته، وقد يكون بمعنى الآيات التي تحوي الهدى، وتحمل الشرائع والأحكام.والمرا من الآيات هنا آيات القرآن العظيم، وهي ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، وكل آية هي علامة على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فكل آية كأنما تصرخ: يا عباد الله! إنه لا إله إلا الله الذي أنزلني وأن محمداً عبده ورسوله إذ أنزلني عليه، والآية هي العلامة الهادية إلى الشيء، فالآية أنزلها الله، وهو موجود، عليم، حكيم، قوي، قدير، فلا يعبد إلا هو، فهي تقول: لا إله إلا الله. والذي أنزلت عليه لن يكون إلا رسول الله. فتقول: محمداً رسول الله.ولهذا كل الشرائع والأحكام والعبادات تدخل ضمن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن أراد أن يدخل في رحمة الله فليقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم يغتسل ويصلي، وهو مستعد لتحمل أعباء هذه الملة، فإن كانت جهاداً جاهد، وإن كانت صياماً صام، وإن كانت زكاة زكى .. وهكذا؛ لأنه عرف عن علم وشهد شهادة عالم أنه لا إله إلا الله، فلم يعبد إلا الله، وليعبد الله بما يريد الله أن يعبد به.إذاً: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [البقرة:99] واضحة فيما تدل عليه، فلا غموض، ولا خفاء، ولا لبس، ولا إشكال، ولا .. فهي بينة كالشمس، فالقرآن لا توجد فيه آية غامضة أبداً، بل آياته واضحة وضوح الليل والنهار.
معنى قوله تعالى: (وما يكفر بها إلا الفاسقون)
قال: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، أي: وما يجحد بتلك الآيات البينات ويغطيها، ويسترها، ويتجاهلها إلا القوم الفاسقون.فإن قيل: ما السر؟ ما العلة؟ ما الحكمة؟ أيها المناطقة! لِم لا يكفر بها إلا الفاسقون؟الجواب أيها الأحباب: لأن الفاسقين غرقوا في الأهواء، والشهوات، والأطماع، والأموال، والدنيا، فإذا جاءت الآية تريد أن تمنعهم من شرب الكأس يكفرون بها .. جاءت الآية تريد أن تصرفهم عن اللهو، والباطل، والعبث، لا يقبلون .. جاءت الآية تأمرهم بالعدل وهم ظلمة لا يقبلونها .. جاءت الآية تأمرهم بالاستقامة فلا يريدونها؛ لأنهم ألفوا الاعوجاج والحياة عليه.فقوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99] أي: وما يجحدها ويتنكر لها بعد أن عرفها، وعرف ما تدعو إليه، وتهدي إليه: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]. والفاسقون: جمع فاسق.فإن قيل: لِم ما قال: (والفاسقات)؟الحم د لله .. الحمد لله .. الحمد لله. أكرمنا الله، فعرف أننا ذوو غيرة، فلا نقبل أن يتحدث الناس عن نسائنا، أو يتكلم عن حلائلنا، أبداً، ومن إكرام الله لهذه الأمة أن لا يدخل النساء في كل كلام.وقد سمعنا ما جاء في تلك الورقة التي يقول فيها أحدهم: صوت النساء عورة! خرافة.فإن قيل له: لِم يا عم خرافة؟الجواب: لأنه يريد للمرأة أن تحاضر، وتخطب، وتتكلم في المذياع والتلفاز بصوتها الرفيع، وهي تلوي رأسها بعد أن تحسن حالها وشعرها، وتجعل الأحمر في خديها، فلهذا الغرض فقط!! فما قالوا: ليس بعورة إلا لهذا! فهم يريدونها أن تعهر وتفجر، وتخرج من دائرة كمالها وحشمتها واحترامها إلى أن تصبح صعلوكة من صعاليك النساء، تجادل وتخاصم، وتحاضر، فكشفهم الله، وعرفنا خباياهم.ونحن نقول: من منع المرأة أن تتكلم للضرورة .. تتكلم للحاجة الماسة التي لابد منها، وإذا تكلمت في حدود المصلحة، ولو تزيد كلمة فإنها تكون قد عصت ربها، وفسقت عن أمره.وكثيراً ما بينا هذا، وعرفه الصالحات، فإذا قرع أحد بابها فإنها تقول: من، ولا تقل: (مِـيِين) وهذه الإمالة لا وجود لها في لسان العرب، فهذا الحرف لا يمال، إنما يمال: موسى .. عيسى، أما أن تقول: (مِـيين) هكذا بالإمالة فلا، بل تقول: (مَنْ) قاسية هكذا. فإن قيل لها: أين زوجك؟ فإن كانت تعرف تقول: في البيت .. في السوق .. في المسجد. ولا تزيد على الجار والمجرور حرفاً واحداً أبداً، فإن زادت كلمة أخرى فهي آثمة، كأن تقول: عفواً قد يكون الآن في السوق .. مع الأسف في مثل هذا الوقت لا يكون في السوق.. إذاً ممكن الآن في طريقه إلى كذا. فهذا الكلام حرام.فإن قيل: من أين لك يا هذا يا شيخ؟ فإنك تدعي هذه الدعاوى الباطلة، فدلل وبرهن من قال الله .. وقال رسوله؟الجواب: نعم، أما قال الله تعالى للأميرات أزواج محمد وبناته: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:32-33]، ومعنى قوله: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا أي: ما فيه الحاجة، أما أن تسترسل في الكلام مع الأجنبي فقد فتحت له باب المحنة.ويغالطون ا ويقولون: ماذا هناك؟ ونحن نعرف أن الفحل إذا سمع صوت الأنثى فإنه يهتز وتتحرك أعطافه.ومع ذلك يقول: لا.. لا، هذا ليس بمعقول.نقول: هؤلاء يخادعون ويغالطون من؟! فهذه الغرائز غرزها الله .. هذه الطبائع طبعها الله، فمن يبدل خلقة الله، ويقول: ماذ هناك إذا تكلمت معها أو ضاحكتها أو صافحتها؟نعم، إذا كان هذا الفحل لا يرى طاعة لله .. لا يرى فسقاً عن دين الله، لا يرى غيرة .. فسيقول: ماذا هناك؟أما إذا كان يحافظ على زكاة نفسه حتى لا تتحول إلى خبث، وإلى زكاة نفس تلك المؤمنة حتى لا يحولها إلى خبث، فهو يحاول أن يقلل ما استطاع من كلمه وحديثه مع هذه المؤمنة.والشاهد غرقوا في الفسق.ومعنى الفاسق: خارج عن الطاعة. مأخوذ من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج من جحرها على أهل البيت، وتريد أن توقد عليهم النار، أو تأكل عجينهم.فمن فسق عن أمر الله أي: عدل عنه وخرج عنه فقد فسق، ولا يزال المرء يفسق يوماً بعد يوم حتى يطبع على قلبه، فلا يسمع نداء، ولا يعرف إجابة إلى هدى، فقد انتهى أمره لمغالاته في الفسق، وهذه الحقيقة واضحة.
الإسلام يحذر من الاستمرار في المعصية ويدعو إلى التوبة الفورية
الذي يألف شيئاً ويعتاده زمناً طويلاً يتعذر عليه أن يتركه، وقلّ من يستطيع أن يترك عادة تعودها وأشربها في دمه ولحمه، فلهذا الإسلام يحذر من الاستمرار على المعصية، ففرض التوبة وشرعها وأوجبها، وأوجب أيضاً الفورية فيها، لا تقل: سأتوب بعد يوم أو عام، أو بعد شهر أو كذا كذا، كل هذا باطل، فإذا زلت القدم وسقطت، وفعلت المعصية، فمن ثم وأنت تصرخ: لا إله إلا الله قل: أستغفر الله، وأتوب إليه، وكلك عزم على أن لا تعود إليها، ولو صلبت، وذبحت، وقتلت، وهذه هي التوبة على الفور.أما أن تقول: سأتوب فهذا حرام، فمن يحييك غداً حتى تتوب.وكلنا يعرف آية سورة النساء فهي محفوظة لدى المؤمنين والمؤمنات، وفيها بيان كافٍ شافٍ، إذ قال تعالى وقوله الحق: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] فالله هو الذي تكرم وامتن وأنعم، فجعل التوبة عليه واجبة، وأوجبها على نفسه، فهو يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وتعهد بذلك لأوليائه وعباده فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].ولنتأمل هذا الهدى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ فأثبتها وأوجبها على نفسه تفضلاً منه وامتناناً، ولا يوجب على الله مخلوق من المخلوقات شيئاً، بل هو الذي أوجب على نفسه بنفسه بهذه الصيغة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ والسوء هو ما يسيء إلى نفسك، كأن يقع عليها مثل الدخان، فتسود وتظلم، ثم تعفن وتنتن وأنت لا تشعر، لكن لما تتلطخ النفس وتخبث يظهر ذلك حتى في البهائم، ولا يبقى سراً مكتوماً، فيظهر أثر ذلك في سلوكك .. في منطقك .. في مشيتك .. في معاملاتك .. في حياتك كلها، كالمرض يظهر في سلوك المريض، فيصبح لا يقوى على الكلام .. لا يقدر على الأكل .. لا يستطيع النوم .. لا يقوى على المشي، فأعراض المرض قد ظهرت فيه، فإذا مرضت النفس والله ليظهرن ذلك في سلوك هذا المسكين، كما يظهر المرض في جسمه سواء بسواء.إذاً: ما يسيء هو السيئة وهو السوء.قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] أي: ما يسيء إلى نفسه.وعلى سبيل المثال: فإن الكذب.. السب والشتم .. الخيانة .. الغش .. السرقة .. الكبر .. العجب، كل هذه تسيء، وغيرها من سائر الذنوب والمعاصي وتحدث أثراً سيئاً على النفس البشرية التي هي السلطان في الجسم.ثم قال: بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، فهو يعمل المعصية وهو لا يريد أن يتحدى الله، أما الطغاة والجبابرة الذين يعلمون ويريدون أن يتحدوا الله قائلين: افعل ما تشاء فأنا ضدك، فهذا لن يتوب الله عليه، ولا توبة له.وإنما المقصود بأهل التوبة من يعملها مع نوع من الجهل، وقد فسرنا ذلك غير ما مرة، فتجده يقوله: ها هو الشيخ الفلاني يفعل كذا، وأنا مثله؟ وآخر يقول: لو كان هذا حراماً فكيف تأذن به الحكومة؟ وآخر يقول: إن شاء الله إذا تزوجنا نترك هذه المعصية، وآخر يقول: إذا توظفت إن شاء الله كذا، فهذه أنواع الجهالة، لا أنه يتحدى الله فيقول: أمرتني وأنا لا أفعل، وافعل ما تشاء. فذاك صاحبه لا توبة له، فلهذا تأمل هذا القيد: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]. وقد تجد من يقول: ممكن هذا غير حرام، فها هو فلان يفعله، فيسهل عليه أن يفعل هذا. هذا هو نوع الجهالة.ثم قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب نسبي، فمن الجائز أن المرء قد يقارف ذنباً عشر سنوات ويمكن أن يتوب منه، ومن الجائز أن يقارفه مرة ولن يتوب، ففي ليلة واحدة فقط يسهر في مخمرة ومزناة ثم يخرج لا يعرف الله.فما دامت أن القضية بهذه الصورة فلا ينفعك إلا الفورية في التوبة، والإسراع على الفور، فأنت لا تضمن أنك تعيش عشر سنوات أو عشرين سنة، ولا تضمن أنك تتوب أو لا تتوب، ولا تضمن شيئاً أبداً، لأنك في قبضة الله، ولست في قبضة نفسك، والله قد أرشدك إلى أن تتوب على الفور.ولهذا بالإجماع أن التوبة لا تؤجل حتى الحج .. حتى رمضان. فإذا زلت القدم، ووقعت على الأرض فقل: أستغفر الله وأتوب إليه.
المراد بقوله تعالى: (الفاسقون)
قول ربنا: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا [البقرة:99]، فما قال: إلا اليهود أو إلا النصارى .. إلا المشركون .. إلا الأغنياء .. إلا الفقراء. إنما قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، والسر في هذا أن الذي يتوغل ويمشي في طريق الضلال دهراً طويلاً يتعذر عليه أن يعود، فلا يستطيع؛ فلهذا الذي يفسق ويفسق في: الزنا .. الربا .. قتل النفس .. الخيانة .. الكذب .. ألـ .. ألـ، يصبح غير قابل للتوبة، فيكفر بالقرآن قائلاً: دعنا من هذا، أنا لا أؤمن بهذه الكلمات التي تمنعنا، وتحول دون رقينا وسعادتنا، وكل هذا نشاهده ونسمعه.أما الإنسان النقي الطاهر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فإنه إذا سمع آيات الله تتلى، وفهم ما تدل عليه، وتهدي إليه، فإنه يقبلها، ويرغب فيها ويحبها، وليس هناك موانع.أما من كانت لديه موانع كحال رؤساء الكنائس والبيع اليهودية، وحال رؤساء مشايخ الطرق، وكذلك هو حال رؤساء الشعوب، فهم لا يريدون أن تخرج الشعوب من أيديهم؛ لأنهم استغلوهم، وتحكموا فيهم، فلا يقبلون هدى الله لذلك.والمراد في قوله: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99] هم فساق اليهود، فما كل اليهود يرفضون آيات الله، ولكن فيهم أمثال ابن صوريا الأعور وفلان وفلان الذين لهم سلطة يتحكمون بها في الشعب اليهودي فيرفضون الآيات، ويكفرون بها؛ لأنها تحول بينهم وبين مرادهم، وهذا ما هو ببعيد أبداً، فإنك تجده بيننا، والذي توغل في أية معصية لا يستطيع أن يتخلى عن المعصية، ولا يؤمن بالآيات.
تفسير قوله تعالى: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ...)
سجية اليهود وطبيعتهم في نقض العهود
قال تعالى: أيفعلون .. أيقولون .. كذا.. كذا أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ [البقرة:100]، هذه شهادة الله على بني إسرائيل، فهم كلما عاهدوا عهداً جاءت جماعة أخرى ونقضته: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، سواء كان فريقاً كبيراً أو صغيراً. ومن هنا لا تثق في أي معاهدة يهودية أبداً، وإن اضطررت إلى أن تعقد معاهدة فعاهد، واكتب، وأشهد، لكن إياك أن تطمئن فتقول: بيننا وبينهم عهد، والله إن احتاجوا إليك وقدروا عليك ما تركوك لأجل العهد؛ لأنهم طبعوا على نقض العهد، ولقد كان الله يخاطبهم والجبل فوقهم، ومع ذلك نقضوا العهد، فكيف -إذاً- تطمئن إلى عهودهم.هذا الموضوع تكلمنا فيه بحمد لله، وقلنا للعرب: يا عرب! توبوا وأسلموا، وحدوا دولتكم، وحدوا قوانينكم، فأمتكم أمة واحدة، ودينكم دين واحد، فلا مذهبية، ولا فرقة، ولا وطنية، ولا نعرات خارجة عن دائرة الحق، بل أمة واحدة، وما عليكم إلا أن تجتمعوا، وسوف يهرب اليهود منكم، فوالله ما إن يسمعوا بوحدة المسلمين الحقة فلن يبقى يهودي يطالب بإسرائيل، ولا يبقون فيها، بل يرحلون.فإن قالوا: ما زلنا غير مستعدين للإسلام والوحدة و.. و.نقول: لا مانع من التدريج. وبإمكانكم أن تعاهدوا اليهود، وتعقدوا بينكم وبينهم معاهدات سلم وعدم اعتداء حتى يخف الألم على إخوانكم الفلسطينيين، وتزول همومهم، ومخاوفهم، فأمنوهم على الأقل، ولا تقولوا: إذا عاهدناهم لا نستطيع أن ننقض العهد، وهذا معناه أننا أعطيناهم فلسطين للأبد، نقول: هذا الكلام باطل؛ لأنهم هم الذين سينقضون العهد، وليس أنتم، فهذا طبعهم، وهذه غرائزهم، وهكذا عاش أسلافهم إلى اليوم.وقلنا: إن شككتم فانظروا إلى حال رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه لما نزل المدينة مهاجراً وتقدمه فحول هاجروا إليها قبله، وأصبح الإيمان في كل بيت، فعقد الاتفاقيات والمعاهدات على السلم وعدم الاعتداء، فهل أنتم أعلم من رسول الله الذي معه الله والملائكة، ولله جند السماوات والأرض، ومع هذا كان من الحكمة والرشد والعقل والمعرفة عقد اتفاقية مع اليهود من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريضة، ونصوصها موجودة، ولو تقرأها تجد فيها العجب، ولا تستطيع أمة الآن تقوم بهذا.
نقض يهود بني قينقاع للعهد
وأول من نقض العهد هم بنو قينقاع، فقد كان لديهم صائغ، نسميه قين أو حداد بلغتنا الدارجة، فهذا الصائغ وهو يصوغ جاءته امرأة مؤمنة تريد أن تشتري وتصنع، فكانت جالسة محتشمة، وعليها حجابها وملاءتها، فجاء هذا اليهودي الخبيث يضحك من خمارها على وجهها يقول: لِم أنت مغطية وجهك؟ لم أنت كذا؟وهذا الكلام يقوله الآن الذين ينتسبون إلى الله والإسلام.يقول اليهودي: لِم أنت هكذا؟ ما هذا التجمد والتحجر؟ كأنه يعيش اليوم؛ فاغتاظ كيف تحجب نفسها، وكيف تغطي جمالها ووجهها. فأبت أن تلتفت إليه أو تتكلم معه، فجاء من الوراء، وأخذ ملاءتها وربطها مع غطاء رأسها، فلما قامت انكشفت عورتها، وصعقت على الأرض تصرخ: واإسلاماه، فشعر بها أهل السوق من المؤمنين، فجاءوا فرفسوه على الأرض، ومن ثم جاء رجال بني قينقاع ودارت فتنة ما هدأها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن نقض يهود بني قينقاع للعهد، وأراد أن يقيم حكم الله فيهم، فشفع لهم أحد رجالات الأنصار، فأعطاه الرسول إياهم، فأجلاهم من المدينة لنقضهم العهد، فما قتل أحداً، ولا سلب مال أحد، فأخرجوا، ونزلوا بالشام بأرض تسمى أذرعات.
نقض يهود بني النضير للعهد
أما بنو النضير فقد دامت المعاهدة معهم أكثر من أربع سنوات، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم مع رجال له كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي يطالب بموجب الاتفاقية أن يعطوه مالاً ليسدد دية مقتول، والاتفاقية تقول: أننا نتعاون حتى على تسديد الديات، فإذا لزمت اليهود دية فالرسول يساهم فيها، وهم كذلك، فلما حصل أن مسلماً قتل شخصاً ظنه كافراً وهو مسلم من بني عامر، فجاء يطالب بالمساهمة في الدية.فقالوا: تفضل يا أبا القاسم اجلس، ففرشوا له الفراش وأجلسوه تحت جدار مع أصحابه، وأخذوا يتآمرون: هذه فرصة، وهذا اليوم يوم السعد، واليوم ننهي هذه المشكلة، فقالوا: ائتوا بمطحنة -رحى، معروفة عندنا- وألقوها على رأسه من السطح، فإن قيل لنا في ذلك قلنا: لقد سقطت. وما زالوا كذلك وهم يبحثون كيف يرفعون المطحنة كيف يرسلونها في داخل البيت، فنزل الوحي: قم يا رسول الله. وأخذ رداءه وخرج هو ورجاله؛ فوصل الرسول إلى المدينة، وأعلن الحرب عليهم، فقد نقضوا العهد، وهل هناك نقض أكثر من أن يريدوا أن يقتلوا رئيس الدولة؟!فأجلب الرسول على بني النضير برجاله، وطوق المنطقة واستسلموا وانقادوا، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الحشر: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:1-2].لكن أين أولو الأبصار؟؟يا رب! لا يوجد أحد، فما اعتبر العرب ولا المسلمون، وهذه الآيات ما تقرأ إلا على الموتى.نعم لقد نقضوا المعاهدة بأيديهم فطوقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلموا، وما قال: اقتلوهم ولا مرغوهم في التراب، ولا أذلوهم، لا، إنما هي عدالة السماء، ونور الله، وما كان منه إلا أن قال لهم: ( اخرجوا واحملوا معكم ما تستطيعون حمله )؛ فأخذوا كل شيء من الفرش والأسرة، والعيدان، وآلات الطبخ .. وحملوا كل ما يستطيعون، حتى إن بعضهم أخذ شباك النافذة فينزعه ويأخذه معه، وبعضهم لديه خشب ممتاز فيهدم البيت ويأخذ الخشب على البعير: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ .
نقض يهود بني قريظة للعهد
أما بنو قريظة في جنوب المدينة فقد استسلموا وانقادوا وعرفوا ما جرى لإخوانهم من بني قينقاع وبني النضير، فثبتوا يتحينون الفرصة لينتقموا ويشفوا صدورهم، ثم جاءت محنة الأحزاب المؤامرة الكبرى، التي ما بلغنا مؤامرة في التاريخ تشبهها إلا مؤامرة الخليج، وإن كان الناس لا يعرفون هذا، فلا نظير لتلك المؤامرة؛ لإنهاء الإسلام وإطفائه.فهذا الزعيم حيي بن أخطب النضري عليه لعائن الله، ما إن خرج مع بني عمه ونزلوا في خيبر في فدك في تبوك في الطريق إلى الشام، قال: والله لأبيتن لكم، ولأنهين هذا الدين وهذا الرسول، وأخذ يركض بين قبائل العرب في الشرق .. في الجنوب .. في الغرب .. في مكة: هيا بنا ننهي المشكلة، فحزب الأحزاب وجمع القوات من الشرق والغرب، وطوقوا المدينة تطويقاً كاملاً، وحشر الرسول ورجاله في جبل سلع خمسة وعشرين يوماً، فلما شاهد بنو قريظة الحصار انضموا إلى المؤامرة ودخلوا مع الأحزاب بوسائط معروفة، وأصبحوا ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشفوا النقاب عن وجوههم، وشاء الله عز وجل أن يطرد الأحزاب شر طردة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:9-10]، ليس معنى من فوق: من السماء، وليس معنى من أسفل: من تحت الماء، وإنما ذلك بالنسبة للمدينة من جهة الفوقية والسفلية. وهكذا: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، وما هي إلا خمسة وعشرون ليلة وإذا بريح الصبا لا الدبور، قال صلى الله عليه وسلم: ( هلكت عاد بالدبور، ونصرت بالصبا )، ريح شمالية شرقية، وهذه الريح لو شاهدتموها لا تسألوا، ففي أول الأيام والليالي برد لا حد له، كأنكم في أوروبا حيث الناس يرتعدون أيام الشتاء، وإذا بهذه الريح -والله- تقتلع الخيم وتضربها، وتقلب القدور التي فيها طعام الجيش، فما كان منهم إلا أن أعلن رئيس المؤامرة -رضي الله عنه الآن- أبو سفيان الرحيل، ونادى المنادي بالرحيل في الليل، فقال الرسول: ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا )، أي: من الآن نحن الذين نغزوهم، وليس هم الذين يغزوننا.أما بنو قريظة فلم يذهبوا مع الأحزاب، لأنهم مقيمون في المدينة، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم الظهر، وإذا بجبريل على فرس الحيزوم: ( يا رسول الله وضعت السلاح؟! أما نحن فما وضعنا السلاح، انطلق إلى بني قريظة، وأذن مؤذن في داخل المسجد: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة )، فلبسوا دروعهم وحملوا سلاحهم إلى بني قريظة، وحاصرهم رسول الله، وما سمعوا كلمة إلا واحدة: يا إخوان القردة والخنازير فقط، وفاوضهم وفاوضوه، واتفقوا على تحكيم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن يقتل الرجال، ويسبى النساء والأطفال؛ لأنهم رضوا بحكمه ووافقوا، فلما حكم سعد قال الرسول: ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات ).فجمع الرجال مكبلين، مسلسلين هنا في المناخة في طرف المسجد، وحفرت لهم حفرة، والسيف يقطع الرءوس، فلا إهانة، لا سب، لا شتم، لا.. لا.. تطهير فقط، وكانوا قرابة السبعمائة رجل، والنساء والأطفال وزعوا على المؤمنين، وما هي إلا أيام حتى دخلوا في رحمة الله وأصبحوا مسلمين.فهل عرف المسلمون هذا؟ ما عرفوه أبداً.إلى الآن في غضب: كيف تتم مفاوضات، وكيف يرضى بهذا؟ تفضلوا، لا نستطيع.عجائب التاريخ! قلنا لهم: يا هؤلاء! ليست القضية قضية تراب، وأرض، وفلسطين، القضية أن يدخل البشر في دين الله، ونحن مطالبون بأن نغزو أوروبا وأمريكا والصين واليابان، وندخل الناس في رحمة الله، وليست القضية قضية أرض لا نعطيها لليهود!! وأي قيمة للأرض والتراب والطين؟ولكن هذا الكلام لا يفهمونه، وما عرفوه بعد، فهل جلسوا هذا المجلس وتعلموا؟فهم لا يعرفون.الشاهد عندنا في قوله تعالى: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، فاحذر يا عبد الله الفسق، واحذري يا أمة الله الفسق، والفسق هو: الخروج عن طاعة الله ورسوله بترك الواجب وفعل الحرام، فمن أخذ يترك الواجبات، ويتخلى عنها واحداً بعد واحد، وأخذ ينغمس في المعاصي، ويرتكبها معصية معصية، فسيأتي يوم يكفر بالله ولقائه، لا بآياته فقط.وما قال: إلا اليهود .. إلا بنو فلان.. لا، قال: إِلَّا الْفَاسِقُونَ ليحذر من الفسق ويبين نتائجه، فإن الفاسق يوماً بعد يوم يعمى البصيرة، ولا يصبح يعرف شيئاً، ويكذب الله ورسوله وبآياته.ثم قال تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، فما يجمعون على نقضه، ولابد فريق ينقض ويسكتون، وهذا الذي يحصل.
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ...)
قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة:101]، أي: ولما جاءهم رسول عظيم الشأن .. رسول جليل القدر .. رسول فوق الرسل .. رسول إمام الرسل، ليس رسولاً عادياً قد لا يبالون به أو لا يصدقونه. وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وهذا التنكير في لغة العرب يدل على التعظيم.وهذا الرسول ليس يحيى، بل هو محمد صلى الله عليه وسلم.وقد جاءهم بالفعل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]؛ فهو إلى اليهود والنصارى، والبوذيين، والمشركين، والمجوس، وكل الملل والنحل، فهو رسول الله إليهم.وتريدون دليلاً أو برهنة؟من يوم أن توفي الرسول من قبل حوالي أربعة عشر قرناً، ما جاء رسول أو نبي في الأرض كلها؛ لأن الله أعلم أنه ختم النبوات بهذه النبوة، وختم الرسالات بهذه الرسالة، فلهذا ما جاء رسول، وهذه وحدها تجعل العاقل يشهد أن محمداً رسول الله، فما كانت البشرية تمضي عليها السنون وعشرات الأعوام وليس فيها نبي ولا رسول، فلابد من نبي ينبئها ويخبرها؛ لأنها خلقت لتعبد الله، وتذكره، وتشكره، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].قال: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:101] ما الذي حصل؟ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة:101]، وكتاب الله هنا التوراة .. الإنجيل، إذ فيهما نعوت الرسول وصفاته واضحة كالشمس، حتى المكان الذي يخرج منه: بين جبال فاران .. مدينة طيبة .. بلد تسمى يثرب .. أرض سبخة فيها كذا، ففيها نعوت كل من يفتح عينيه يرى الرسول. ومع هذا عموا عمى كاملاً، وأنكروا نكراناً كاملاً.ثم هذا الرسول مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فلو جاء بدين يتناقض مع دينهم لقالوا: لا نقبل هذا، هذا جاء يحرم علينا ما أحل الله، أو يحل لنا ما حرم الله، أو يأمرنا بما لا نطيق، فهذا ليس بدين الله، وقد يكونون معذورين، لكنه والله جاءهم بما عندهم، فكل الأديان قامت على لا إله إلا الله، وأن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وبين رسوله الذي أرسله، وكل الأديان مجمعة على هذا، وكل الأديان تعرف أنه لابد من لقاء لله عز وجل، وأنه لابد من الجزاء على الكسب الدنيوي، وأنه إما عالم شقاء أو عالم سعادة فلابد منهما، وأن الظلم حرام، والخبث حرام، والسرقة حرام، والربا حرام .. و.. و.. وكل المحرمات عندنا محرمة في الكتب؛ لأنها ضارة بالناس، فلا يحرم الله إلا ما يضر بالناس.إذاً: مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فليس هناك تناقض ولا منافاة ولا مضادة، فلم لا يقبلونه؟ قال: (نبذه) النبذ: الرمي، فلا تلتفت إلى ما يقوله هذا الرسول فارمه وراء ظهرك، (نبذه فريق) كبير منهم، وهذا الفريق هم الرؤساء المستغلون للشعب اليهودي، الذين يعيشون على حسابه فهم الذي يرفضون الحق.وبعض البهاليل يقولون لـأبي عبد الله وأبي سالم : كيف تجعلون القرآن وراء ظهوركم؟ فيأتون يشتكون إلي يقولون: الله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، فكيف يجعل هؤلاء القرآن وراء ظهرهم؟فقلنا لهم: معنى جعله وراء ظهره أي: ما عمل به؛ لأنهم وضعوه وراء ظهورهم، فما الفائدة أن يضعوه وراء ظهورهم، فلا يلتفتون إليه ولا يقبلون عليه، وإخواننا هؤلاء مضطرين لكبر سنهم يتكئون على العمود، والمصاحف خلفهم في الدولاب. لكنهم أصروا وقالوا: لا تعطه ظهرك، فالله يقول: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ !وهذا سوء فهم؛ فقوله: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ معناه: ما عملوا به، ولا قرءوه، ولا فتحوه، ولا ولا؛ لأنه جاء ضد أهدافهم وأغراضهم.ثم قال: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101]، أي: لا يعلمون شيئاً، لا صفة الرسول ولا نعته ولا صفة الإسلام ولا أمة الإسلام ولا.. ولا، فهذه النعوت حتى للأمة موجودة.وماذا فعلوا؟تركوا التوراة؛ لأنها تتفق مع القرآن وتمشي معه، ولجئوا إلى السحر والباطل، فالشياطين كتبت كتاباً؛ شياطين الإنس مع شياطين الجن على عهد سليمان، ودسوه تحت السرير بواسطة آصف ، فلما مات سليمان أخرجوا الكتاب وصاحوا في الأمة: انظروا لقد كان سليمان يحكمكم بهذا الكتاب الذي فيه السحر، فسليمان ليس بنبي ولا برسول بل هو ساحر، ولهذا استخدم الإنس والجن، وتحكم في العالمين بالسحر، وهذا الكلام سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (72)
الحلقة (79)
تفسير سورة البقرة (42)
عرف السحر منذ قديم الزمن، يوم أن تعلمه الناس على يد هاروت وماروت، ورغم أن هذين الملكين نصحا الناس بعدم تعلمه، وأنهما فتنة للناس، وأن السحر كفر بالله تعالى، إلا أن كثيرين أصروا على تعلمه وتعليمه وممارسته، فتعلموا كيف يفرقون بين الرجل وزوجه، وكيف يفسدون حياة الناس ومعايشهم، ولكن كل هذا ليس بمعزل عن قدرة الله ومشيئته، أما أولئك فقد خسروا جنة عرضها السموات والأرض.
تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين عل ملك سليمان...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.وقراءتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102-103].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قول ربنا جل ذكره: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، هذا كلام الله جل جلاله وعظم سلطانه .. هذا إخبار الله عز وجل عن بني إسرائيل .. عن اليهود، والسياق فيهم من قبل ومن بعد.
اتباع اليهود لما تتلوه الشياطين
يقول تعالى: وَاتَّبَعُوا أي: واتبع اليهود من بني إسرائيل ما تتلوا الشياطين، وقد سبق أن عرفنا أنهم لما وجدوا التوراة لا تتصادم مع القرآن، بل وجدوها متفقة معه في أصول الدين: في إثبات النبوة، والتوحيد، والبعث والجزاء، فلما وجدوها متفقة معه رموها وراء ظهورهم، أي: تخلوا عنها، وما أصبحوا يحتجون بها، ولا ينقلون منها؛ لأنهم وجدوها مثل القرآن، فهم كانوا يعتزون بها، ويجادلون ويتكلمون، ويقولون: نحن أولو كتاب وأولو علم، ولسنا في حاجة إلى هذا العلم، ولا إلى صاحبه، لكن لما وجدوا التوراة تتفق تمام الاتفاق مع القرآن الكريم في أصول الدين تركوها.ومعنى: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، خلوها وراءهم، ولا يقبلون عليها لا بالقراءة، ولا بالأخذ منها والاحتجاج بها؛ لأنها تمشي مع القرآن، إذ القرآن كلام الله، والتوراة كلام الله.فماذا يفعلون بعد؟ قال تعالى عنهم: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، لكن ما هذا الذي اتبعوه؟تقول الأخبار السليمة الصحيحة: أن سليمان عليه السلام لما حصل له ذلك الحادث، وترك قول: إن شاء الله، وغفل تلك الغفلة، ففي تلك الأثناء استغل شياطين الجن ومردتهم تلك الفرصة فاجتمعوا وكتبوا كتاباً يحمل أصول السحر ومبادئه وآثاره، وكان كاتب سليمان عليه السلام هو آصف بن بلخيا ، فاستطاعوا بواسطته أن يدسوه تحت كرسي سليمان، ولما توفي سليمان عليه السلام استخرجوا ذلك الكتاب، وأشاعوا في عالم الجن والإنس أن سليمان عليه السلام كان ساحراً، وكان يحكم الإنس والجن، ويتصرف ذلك التصرف العظيم بواسطة السحر، فأبعدوا عن الناس والجن أن سليمان كان نبياً رسولاً، وكان يسود الناس بقدرة الله وتوفيقه، وعونه، وتسخيره، حتى إن الله سخر له الجن، وسخر له الريح، وكلام الله شاهد: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ:10].. الآيات من سورة سبأ: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ [الأنبياء:82]. فهذا الكتاب وسعوه، وشرحوه، وأضافوا إليه، وأصبح اليهود سحرة العالم.قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: على عهد ملك سليمان، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن سليمان لم يكن نبياً، ولا رسولاً، فكيف تذكره مع المرسلين، وإنما كان ساحراً يحكم الإنس والجن بالسحر.. فأبطل الله هذه الدعوى بقوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ .
نفي الكفر عن سليمان عليه السلام
قال تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، نفى الله تعالى عن نبيه ورسوله سليمان الكفر، وهل يبقى لأحد أن يتكلم بعد ذلك؟ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بل هو أحد المرسلين الثلاثمائة والأربعة عشرة، ووالده كذلك: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15]. فانظر كيف كفر اليهود بتكفيرهم نبي الله ورسول الله.ونحن عندنا قاعدة عامة: من قال لأخيه المسلم: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان الذي قال صدق فيما قال والمقول فيه حقاً كافر نجا، أما إذا كفر مؤمناً غير كافر فقد كفر، فكيف بالذي يكفر أنبياء الله ورسله؟!وهذا الذي جاءت به السنة: ( من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ).إذاً: فكيف بالذين يكفرون أنبياء الله ورسله، وكيف بالذين يكفرون أولياء الله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله، ونبرأ إليه أن نكفر مؤمناً أو مؤمنة.والكفر يكون بإنكار وتكذيب الله .. بإنكار وتكذيب رسول الله .. بجحود ما شرع الله وما قنن لعباده، أما مجرد معصية، حتى ولو كانت قتل نفس فصاحبها لا يكفُر ولا يكفَّر، إذ الكفر لابد فيه من استباحة ما حرم الله، وعدم اعتقاد أن هذا حرمه الله.إذاً: قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، ولكن كفر اليهود الذين كفروا سليمان.
قصة الملكين هاروت وماروت
قال تعالى: (( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ )) أي: بالعراق (( هَارُوتَ وَمَارُوتَ )) وهذه القصة علماء هذه الأمة المعتبرون ما أنكروها، ولا داعي لإنكارها، ولا كذبوها، وقالوا بها، إلا أنها لم ترفع إلى الحضرة النبوية، ولم يثبت فيها كلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاعت بين الأصحاب كـابن عمر رضي الله عنهما وابن عباس وفلان وفلان، وأغلب الظن كما يقول أهل العلم أنهم رووها عن كعب الأحبار أحد علماء بني إسرائيل الأجلة، الذين أسلموا ودخلوا في الإسلام، فيكون هذا مأثوراً منقولاً عنهم ولا غرابة.لكن ما هذه الحادثة التاريخية؟تقول الرواية: إن الملائكة عليهم السلام تعجبوا من بني آدم كيف يفجرون؟ كيف يكذبون؟ كيف يقتل بعضهم بعضاً؟ كيف.. كيف؟ لما يشاهدون ما يجري بين الناس من السوء والشر والباطل، فتحدثوا فيما بينهم وتعجبوا، فقال لهم الرب تبارك وتعالى: أنتم تتعجبون من بني آدم كيف يخرجون عن طاعة ربهم، ويفسقون عن أمره؟! فهيا اختاروا اثنين منكم، ونغرز فيهم غرائز بني آدم، ونطبعهم بطابع البشرية، وننزلهم إلى الأرض، ويعيشون كما يعيش بنو آدم، وانظروا هل يعصون الله، ويخرجون عن أمره أو لا؟ قالوا: يا حبذا، فاختاروا ملكين هما: هاروت وماروت، ونزلا إلى الأرض، وما هي إلا أيام أو أعوام حتى انغمسوا، فهذا زنا، وهذا كذب، وهذا .. فارتكبوا كبائر الذنوب.فخيرهما الله عز وجل بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فإن شئتما أن تبقيا هنا هكذا في هذه الحياة ولا تعذبان في الدار الآخرة، وإن شئتما جازيتكما، فرضيا بالبقاء، وأخذا يعلمان السحر بأرض بابل من العراق، فيلهمان إلهاماً وليس بوحي من الله، فإذا جاءهم من يريد أن يتعلم السحر ينصحان له، فيقولون له: لا تكفر، فإن الذي يتعاطى السحر، ويعمل به يخرج من ملة الإسلام، ويكفر تماماً، ويصبح في عداد الكافرين، فإن أصر على أن يتعلم ليتخرج ساحراً، وليأكل بالسحر ويشرب علموه أو وكلوه إلى شيطان مارد يعلمه ما به ينمسخ، ولا يصبح في قلبه ذرة من إيمان، فيعلمه سيئات يرتكبها، يتقزز منها الإنسان، وبعدها يصبح ساحراً ماهراً.ولنستمع إلى الآية الكريمة إذ قال تعالى: (( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ )) بل كفر من كفروه، وهم اليهود، (( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ )) هم الذين ((كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ))، وما هناك حاجة إلى أن تقول: (ما) نافية، (( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ))، فالحادثة ثابتة، فما تنفى بـ(ما) أبداً، فهي موصولة: والذي أنزل على الملكين، لكن ليس إنزال وحي وإنما إلهام، فكما أوجد الله السم في العقرب والأفعى أوجد فيهم هذا الفهم، وأصبحوا يعلمونه الناس.(( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ )) الموجودين (( بِبَابِلَ ))، وبابل بلاد بأرض العراق، ودخلها أناس وعرفوها من أهل المجلس، وهي ديار الخليل وآبائه عليه السلام، لكنه هاجر منها إلى أرض الشام: (( بِبَابِلَ )) هكذا: (( هَارُوتَ وَمَارُوتَ )).
حكم الساحر
قال تعالى: (( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ )) ذكراً أو أنثى، إنسياً أو جنياً؛ لأن لفظ (أحد) نكرة في سياق النفي فتعم (( حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ )) فيقولان: انتبه يا هذا وتفطن لموقفك، فأنت مقدم على بلاء، ونحن لسنا برسل الله، أو معلمي الهدى والخير، لا: (( نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ )) ومن هنا أجمع أهل السنة والجماعة على أن الذين يتعاطى السحر يكفر، فمن أخذ يتعلم السحر ويعمل به ويسحر به قد كفر، ولعله لا يصل إلى مستوى يستطيع أن يفرق به بين المرء وزوجه، أو يستطيع أن يقتل به، أو يفقد الرجل عقله أو قلبه، فلن يصل إلى هذا إلا بعد أن يتعاطى من المكفرات ما يمسح الإيمان من قلبه.وإن كان هناك ساحر يأتي ويقول لنا: أنا مؤمن، أنا كذا، أقوم الليل، ولكنني أسحر، وأستطيع أن أفرق بين كذا وكذا؛ لا يستطيع لأن حد الساحر ضربة بالسيف، ولهذا مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، وإمامنا في مدينة الرسول، يرى أن الساحر حيث بان سحره، وظهر منه وعلم، فإنه يقتل، ولا يستتاب، ولا تقبل له توبة؛ لأن الحكم الشرعي أن الشخص إذا كفر وارتد يهودياً أو نصرانياً أو سب الله والرسول أو كذب الله أو الرسول فإنه لا يقتل على الفور، والحكم الشرعي أنه يستتاب ثلاثة أيام؛ فيدخل السجن أو الحبس، وتعرض عليه التوبة ثلاثة أيام، فإن تاب تاب الله عليه وخرج، وإن أصر على معتقده الباطل، وعلى إرادته الكافرة وارتد فإنه يقتل كفراً لا حداً، ومصيره مصير كل كافر وكافرة، إلا الساحر فإن الإمام مالك يقول: لا يستتاب؛ لأنه يعمل في الخفاء، فيقول: أنا تائب، وما رأينا رجلاً يسحر، فالسحر في الظلام والخفاء، فلهذا لا معنى لتوبته واستتابته لأنه قد يقول: تبت إلى الله ولن أعود إلى هذا الإثم أبداً، ثم يخرج من السجن، وإذا به يثير الفتن.وأكثر علماء الأمة على أن الساحر إذا قتل بسحره يقتل، فإذا أفسد عضواً؛ كأن يصيب إنساناً بالشلل أو بفقد بصره فإنه يقتل، فإذا لم يقتل ولم يصب ما هو كالقتل في الدية، فهذا يعزر ولا يقتل، وهذا الذي عليه جمهور أهل الملة الإسلامية.فقوله تعالى: (( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ )) أي: هاروت وماروت: (( حَتَّى يَقُولا )) ناصحين: لا تكفر يا عبد الله. ومن هنا: من شك في أن من يتعاطى السحر، ويعمل به، ويصنعه، وينشره بين الناس كاليهود فقد كذب الله وكفر، فالساحر كافر.
انتشار السحر في بلاد المسلمين وكيفية العلاج
العجيب أن السحر شائع الآن بين المسلمين في الشرق والغرب، ولا عجب! أما شاعت السرقة، والزنا، والربا، والكذب، والخيانة، وعقوق الوالدين، وبيع المحرمات، والسحر أيضاً من جملتها! وعلة ذلك كما علمتم أنها الجهل .. عدم البصيرة .. انطفاء نور الإيمان.وخذوا هذه الحقيقة: فالإيمان نور، فإذا ضعف يصبح المؤمن مريضاً، يرى ولا يرى، يحس أحياناً ولا يحس، يشعر ولا يشعر، وهنا في إمكانه ومن السهولة عليه أن يعصي الله ورسوله.أما مع العلم والبصيرة، فالناظر في الأحداث التي تقع في التاريخ، يمكن في مائة سنة أن عالماً يفجر أو يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، فالنور الإلهي الذي في قلبه لا يستطيع أن يفجر معه، والرجل الذي يمشي في الظلام ممكن أن يطأ على حية .. يمكن أن يطأ على شوك .. يمكن أن يجلس على عذرة؛ لأنه لا بصيرة له في الظلام، لكن صاحب النور، والذي بين يديه نور وهو ماش هل من الممكن أن يدوس حية تنهشه، أو أن يجلس على عذرة وقذر؟ الجواب: لا، لأنه على نور، فإذا خفت النور، وأصبح ساعة وساعة، فإنه ساعة ما يخفت يقع في المعصية ويرتكبها.ولهذا نعيد القول: كل الذي تشكوه البشرية هو الجهل بالله عز وجل، وبمحابه، ومساخطه، وبما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، والله لهذا هو العلة.فمن أراد أن يطهر المجتمع من الرذائل .. من الأوساخ والقاذورات .. من الشرك، والكفر، والمعاصي، والذنوب، فالطريق الوحيد أن يعلمهم الكتاب والحكمة، كما كان رسول الله في هذا المسجد يفعل: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فالرجل كالمرأة، والصغير كالكبير، فإذا عرف وانشرح صدره ولاحت الأنوار له لا يرتاح أبداً إلا إذا دخل في عبادة الله، وتضيق به الأرض إذا نسي الله.وأقسم بالله لا علاج لإنهاء هذه الخبائث، والشرور، والمفاسد في الأرض إلا أن يعرف الله، وتعرف محابه ومكارهه، وما عنده وما لديه، والطريق: قال الله وقال رسوله، فلا علم وراء الكتاب والسنة، وعلى شرط أن يقوم بذلك علماء ربانيون يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، فيعلمون الكتاب والحكمة ويزكون النفوس والأخلاق والآداب ويهذبونها.
افتتان الناس بهاروت وماروت
قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فتنة؟ نعم، فتن الله بهم البشرية كما فتنهم بالشياطين، و اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، فهو الذي خلق السموم في الحيات وهو خالق الأسباب والمسببات، وهذا الذي يقتضيه الابتلاء في دار الابتلاء، إذ ليست هذه دار الجزاء، فلابد من وجود خير وشر، وخبث وطهر، وصلاح وفساد؛ للامتحان.قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان، والباطل على الحق، والشر على الخير يتعلمون من هاروت وماروت علماً يفرقون به بين المرء وزوجه، ولم ما قال: بين المرء وزوجته؟ الجواب: لأن الرجل يصبح زوجاً إذا تزوج، والمرأة تصبح زوجاً إذا تزوجت، فإذا قرنت أحدهما مع الآخر قلت: زوجان.قال: فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا ماذا؟ مَا أي: شيئاً: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ألا إنه السحر.
توقف ضرر السحر على إذن الله ومشيئته
قال تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فرد الأمر له، نعم، الله هو الذي خلق السم فالعقرب تقتل والأفعى تقتل، وإذا شاء الله أن السم لا يقتل فلا يقتل، وكم من لديغ وملسوع ما مات، وكم ممن لدغ فمات، والله هو الذي خلق النار فتحرق بسنة الله، ولكنها -والله- ما حرقت إبراهيم، وبطل مفعولها؛ لأن الله قال لها: يَا نَارُ فقالت: لبيك وسعديك، قال: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فبردت، ولم تبرد بروداً قاتلاً كالثلج، بل بردت برداً سالماً وسليماً.وكذلك الحديد يقطع، فبه نذبح النعجة أو البقرة أو الإنسان، وكم من آلاف ذبحوا، ولما أخذ إبراهيم مدياه ووضعها على عنق ابنه إسماعيل ما قطعت، كالعصا: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].إذاً قوله: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ مطلق إلا بإذن الله ، فإذا كتب الله في كتاب المقادير: أن فلاناً يسحر ويتقلب قلبه عن زوجه، ويصبح يبغضها ولا يحبها، ويطلب البعد منها، فهذا كان بتدبير الله وقضائه وقدره، وقد يكتب كذلك أنه يأتي إلى فلان ويعلمه الرقية والتعوذات فيتعوذ بها ويشفى ويبرأ ويعود كما كان، فهو كالمريض يمرض، يُمرضه الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، ثم لما يتم وعد الله يشفيه بحبة أسبرين أو بكأس عسل، أو بكية من نار، فهذا تدبير الله في دار الابتلاء؛ لأن هذه الحياة ليست بخالدة وباقية، فقط دار ابتلاء، فمنهم من ينجو ويكمل ويسعد، ومنهم من يهبط ويُخفض. وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: إذا أذن الله كان الضرر، فإذا ما أذن تجده يسحر ويسحر ويعطيه ويسقيه فلا ينفع.ولا تتألموا فهذا نبي الله ورسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، وهذا شاهد للجمهور أن الرسول ما أمر بقتل لبيد ؛ لأنه ما قتل، ولا كسر عضواً، ولا أفسد من الرسول شيئاً، إلا أنه ظل يومين .. ثلاثة أيام يخيل إليه أشياء ما قالها أو قالها، وما هي إلا ثلاثة أيام أو أقل وإذا بسورة الفلق تنزل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5]، فتلاها ثلاث مرات، فزال كل ذاك الذي كان في ذهنه والحمد لله. فما تعوذ متعوذ بمثل سورة الفلق في هذا الباب، فـلبيد بن الأعصم اليهودي ما قتل، وبئر ذروان الذي ألقي فيه السحر كانت قبل ثلاثين سنة موجودة.
غلبة تعلم السحر على اليهود
قال تعالى: (( وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ )) الذين يذهبون إلى السحرة في تل أبيب، ليسوا في تل ألبيب هم موجودون في بلاد العرب أيضاً، واليهود موجودون في كثير من بلاد المسلمين، وما زالوا إلى الآن يعلمون السحر ويحرضون أيضاً على تعليمه، حتى قلت غير ما مرة: أخشى أن يكون كثير من المسئولين في العالم الإسلامي قد سحروهم، فلهذا تراهم يسوسون أمة الإسلام ولا يتكلمون عن الإسلام أبداً كالمسحوريين! وهو مسلم يحكم أمة مسلمة، ولا يتكلم معها بالإسلام، ولا يتداول الكلام معها، ولا يفعل شيئاً، كما يسحر الرجل عن امرأته، ولا يبعد هذا؛ لأننا مختلطون بهم، وإذا ما اختلطنا بهم في البلاد اختلطنا بهم في الخارج: في الفنادق والجمعيات والمنظمات، واليهود قد برزوا في هذا الباب، عليهم لعائن الله.ولقد عرفنا أن الساحر كافر خارج من الملة، فما يتعلمه قد يبدو أنه نفعه بريال أو بعشرة أو بمليون، لكن هذا ليس هو النفع الحقيقي، فكل الناس يأكلون ويشربون ويلبسون، فما امتاز عنهم، ولكن كما أخبر الحق عز وجل: يتعلمون الذي يضرهم لا الذي ينفعهم.
من تعلم السحر ليس له نصيب يوم القيامة
قال تعالى: (( وَلَقَدْ عَلِمُوا ))، أي: عرفوا وفهموا من طريق التوراة والقرآن والإنجيل، وهذا الخطاب لليهود: (( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ))، فالذي يشتري هذا العلم، ويسهر على تعلمه، وينتقل من كلية إلى كلية، أو من سرداب إلى سرداب؛ إذ ما يتعلمون هذا في الكليات علناً، بل يتعلمونه في الخفاء: (( لَمَنِ اشْتَرَاهُ )) وطلبه، ودفع الثمن له: (( مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ )) أي: من نصيب، فالخلاق بمعنى النصيب، فما له من حظ ولا نصيب يوم القيامة، آيس من رحمة الله.أسألكم بالله: لو أن أهل القرى عندنا والمدن في العالم الإسلامي درسوا هذه الآيات دراستنا هذه وسمعوا، هل يتعاطون السحر؟الجواب: والله لا يتعاطوه، لكنهم للأسف ما علموا وما عرفوا، بل وجدوا من يسهل لهم القضية ويخفف الآلام عنهم، فوقعوا في السحر الذي هو الكفر وهم لا يشعرون، وأكثرهم لا يفهم أنه كافر أبداً، ويصلي ويصوم.ولقد علم بنو إسرائيل وعلم اليهود وعلمنا نحن الآن: (( لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ))، فلا حظ له ولا نصيب في دار السلام؛ الجنة دار الأبرار؛ لأنه كافر شر الكفر.قال تعالى: (( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ )) قَبُحَ هذا الثمن الذي باعوا به أنفسهم، فشرى بمعنى باع: (( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ )) فباعوها رخيصة للشياطين؛ لتصبح في النار ومآل النار.
أهمية العلم للوقاية من السحر والضلال
قال: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ))، فمن هنا الذين يتعاطون السحر من اليهود وغير اليهود والله لو كانوا يعلمون ما وقعوا في هذه الفتنة، ولا تورطوا في هذه المحنة أبداً.ومن هنا نعود إلى ما قلناه: هيا نعلم، فبدون علم لا تطمئن إلى أن ابنك أو امرأتك أو أمك أو أباك يستقيم على منهج الله، فلا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا ظلم، ولا سحر، ولا باطل، فهو جاهل، وهيهات هيهات، فلا يمكن، ومن أراد أن يتأكد -كما نقول- يسأل المسئولين في أي بلد عن المجرمين بالقتل والجرائم و.. و.. هل تجد بينهم عالماً ربانياً؟ والله لا تجد، وإن وجدت في خمسين سنة فالشواذ لا حكم لهم، ولن تجد فاعلي الجرائم والموبقات والمهلكات إلا جهلة وإن صاموا وصلوا، وهذه الآية نص قطعي قال: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )).فهيا نتعلم.ولسان الحال: كيف نتعلم؟ وما الطريق يا شيخ؟ أليست المدارس والحمد لله فيها من العلم ما يكفي، فكيف تطالبنا بأن نتعلم؟!الجواب: نحن نقول: هذه المدارس ما أسست من أجل أن يعبد الله وحده .. ما أسست من أجل التهذيب للآداب والأخلاق .. ما أسست لأجل تطهير النفوس وتزكية الأرواح، إنما أسست للمادة، حتى ولو كان الذي اقترح المدرسة ربانياً صالحاً، فنحن لما جئنا بأولادنا ما جئنا بهم ليتعلموا كيف يعبدون الله؛ إنما جئنا بهم ليتعلموا كيف يتوظفون.هل هناك من يرد علي من الأبناء؟!الواحد منا يبعث ابنه ويقول له: تعلم .. تعلم حتى تصبح كذا وكذا.وتساهلنا وقلنا: إن كان هذا في الذكور فلا بأس، خلهم يطلبون الدنيا، لكن المصيبة وقعت كذلك في البنات؟! فيأتي بابنته ويبعث بها إلى المدرسة ويقول لها: تعلمي. هل لتتعلم الحياء، والآداب، والأخلاق، والاحتشام؟ لا.. لا.. لا.. تعلمي لتكوني كذا وكذا .. لتتوظفي في الوظيفة.أين آثار العلم: أما يوجد زنا، وفجور، وحشيشة، وخمور، وسفك الدماء، والجرائم ..؟ليس هناك من آثار للعلم؛ لأن العلم ما أريد به وجه الله، واعرفوا هذا وافهموه، وسوف تعلمون يوم القيامة.ومن احتج علينا بقول الفقيه المالكي، وهو أحد العلماء الفطاحلة الأجلاء من علماء الأندلس حيث قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا يتناقض مع ما قلته أنا الآن في الظاهر، وهو في الباطن -والله- لا تناقض؛ لأن الذي تعلم -حقاً- علماً عرف به الله عز وجل وجلاله، وكماله، ومحابه، ومساخطه، وأصبح عالماً حقاً، والله لن يكون علمه إلا لله.لكن هذه العلوم المادية التي نتعلمها لا تتجاوز معرفة كذا للحصول على الوظيفة، فيتخرج كل عام في العالم الإسلامي خمسة ملايين خريج، والله لن تجد فيهم إلا نسبة (1 أو 2%)، والباقون ما تخرجوا لله، بل من أجل الوظيفة؛ لأن هذا العلم ما هو واف كافٍ، والذي جعله لا يكفي ولا يفي حال الامتحانات والشهادات، فيدخل الأستاذ يعلّم، ويصرف جهده في المادة التي يدرسها فقط، والطلاب عقولهم منصبة على تلك المادة: كيف ينجحون فقط؟ وقلَّ من يريد أن يعبد الله أو يتخلق بالإسلام، وآداب الإسلام.إذاً: من طلب العلم لله لو طلبه لغير الله وعلم لأصبح العلم يدعوه إلى الله، لكن إذا كان العلم فتاتاً وجزئيات، والله لو يأتي عالم من أولئك الذين نعنيهم ما صح لي أن أجلس إليكم وأحدثكم، فلو يظهر عالم من أولئك العلماء لا يستطيع مثلي أن يجلس في مسجد رسول الله ويتكلم عن الله، وهذا يدلكم على أن العلم الآن علم سطحي، ما هو عميق في النفوس، وما أثر فيها، فلهذا الخريج همه الوظيفة والعمل الدنيوي، وليس همه أن يبيت يتململ ويبكي بين يدي الله.قال تعالى: (( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) لو علموا ما شروا بإيمانهم الكفر، ولما اشتروا جهنم وعذابها بأوساخ الدنيا وآثارها، لكن ما علموا، وإن كانوا يقرءون، ويكتبون، ويخطبون، فلا ينفع هذا.
تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون)
معنى الإيمان
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا [البقرة:103] قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا هذا عرض الله على عباده، فاليهود يقولون هم مؤمنون، والإيمان شيء آخر، فآمنوا معناها: صدقوا بوجود الله، وبعلمه، وحكمته، وقدرته، وعرفوا أنهم عبيده يتصرف فيهم كيف يشاء، ويسخرهم كما يشاء، فذلوا له، وانكسروا بين يديه، وأصبحوا لا ينظر أحدهم إلا بإذن ربه .. لا يتكلم كلمة إلا بإذن مولاه .. لا يأكل لقمة إلا بإذن مولاه .. لا يتحرك، ولا يذهب، ولا يجيء إلا في نطاق إذن ربه له؛ لأنه عبده، فهذا هو الإيمان.أما دعوى أنا مؤمن فلا تنفع هذه أبداً، بل مؤمنون بيوم القيامة، والبعث والجزاء، وبكتب الله، والله يقول: لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .. بالقرآن العظيم .. بما جاء به موسى وعيسى والأنبياء عليه السلام.
معنى التقوى
قال: وَاتَّقَوْا ومعنى وَاتَّقَوْا : اتقوا مساخط الله، واتقوا أي موقف يقفه العبد فيغضب الرب، ويبعده عنه، واتقوا أي: جعلوا بين مساخط الله وأنفسهم وقاية، بالسمع والطاعة، وبفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه.يا عباد الله! بم يتقى الجبار ذو الجلال والإكرام، الذي يقبض السماوات بيده، والأرض في يده، الذي يقول للشيء: كن فيكون، الذي خلق الموت وخلق الحياة، ورفع الكون وأوجده، كيف يتقى إذا غضب؟ هل نتقيه بالحصون والأسوار وبالجيوش الجرارة؟! إن هذا لا يقينا شيئاً أبداً، وإنما نتقيه بالإسلام له، فأعطه قلبك ووجهك، وأسلم له أعز ما تملك؛ ألا وهو القلب والوجه، فقلبك لا يتقلب دائماً إلا في مرضاته، ووجهك لا ينظر إلا إليه، ولا يلتفت إلى غيره: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125].يتقى الله -يا عباد الله- بالإسلام، أي: إسلام القلب والوجه، فلا تنظر إلا بإذنه، قال: لا تنظر، فغمض عينك، فلا تأكل إلا ما أذن لك أن تأكل، ولا تلبس إلا ما أذن أن تلبس.. وهكذا، وبهذا يتقى الله.
المقصود بالمثوبة
قال: لَمَثُوبَةٌ [البقرة:103]، المثوبة من الثواب، أي: عطية وجائزة يكرمه الله بها فهي مثوبة من عند الله، أما مثوبة فلان وفلان كمائة ألف ريال أو مليون فلا تكفي، ولا تنفع، والمثوبة والعطية إذا كانت من الله: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هي دار السلام؛ الجنة.يا عباد الرحمن! أين هذه الجنة؟الجنة قد ارتادها أبو القاسم، أعظم رائد عرفته الدنيا والبشرية، ارتادها ووطئ أرضها بقدميه، ورأى حورها، وقصورها، وأنهارها، وما يجري فيها من ذلك الكمال المعد لأولياء الله، فقط فوق السبع الطباق: السماء الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، وفوق السابعة دار السلام، والمسافة بسيطة، مسافة: سبعة آلاف وخمسمائة عام للطائرة حتى تصل إليها!الله أكبر، من بيت أم هانئ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وفي لحظات إلى الجنة دار السلام، وجاء يصفها كما وصفها خالقها جل جلاله وعظم سلطانه، فهذه هي المثوبة التي عند الله، وليست امرأة، ولا كرسي، ولا وظيفة، وهذا ابتلاء، فالمثوبة هي الجنة عند الله.قال: خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:103]، فهيا نتعلم، وإذا أردنا في الشرق أو الغرب فنلزم المواطنين والمواطنات كل ليلة في مسجد الحي أو القرية طول العام ننفض أيدينا، ونغسل ثيابنا نتوضأ، ونأتي بيت الرب، وكل ليلة لا يتخلف إلا مريض أو امرأة مريضة أو نفساء، والنساء وراء الرجال، ونتعلم الكتاب والحكمة بكل هدوء وسكينة واستقرار، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فلا يبقى جاهل ولا جاهلة في القرية أو في الحي، وينتهي الخبث، والشر، والفساد، والظلم، والطغيان و.. و.. ونصبح كالكواكب في السماء؛ يرهبنا الإنس والجن بسهولة.فإن قالوا: لا نستطيع هذا، نقول: إذاً: ابقوا على ما أنتم عليه، والحكم لله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (73)
الحلقة (80)
تفسير سورة البقرة (43)
كان اليهود يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: (راعنا) وكان المسلمون يقولون هذه الكلمة، فنهاهم الله عنها، وأبدلها بكلمة: (انظرنا) لما في تلك الكلمة من معنى الرعونة، وكان هذا خبثاً وسوء أدب من اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجب تعظيمه وتوقيره، ولهذا وجه القرآن الصحابة إلى جملة آداب في تعاملهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا السباقين في ذلك.
بعض طرق علاج السحر
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:104-106].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.أعود بالأبناء والإخوان إلى الدرس الماضي، إذ فاتني أن أذكر لهم فائدة يعالج بها السحر، نجانا الله وإياكم منه، فقد ذكر السلف أن من أصيب بالسحر يأتي بسبع ورقات خضر من شجر السدر، وهو موجود في بلاد العالم، ويدقها بين حجرين، ثم يضعها في ماء، ويقرأ عليه آية الكرسي، ومن الخير أن تكون القراءة ثلاث مرات أو سبع مرات كعهدنا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأحياناً ثلاثاً وأحياناً سبعاً، ثم يحسو منها ثلاث حسيات، وما بقي يغسل به جسمه، مع تعلق قلبه بالرب عز وجل، إذ لا يقع شيء في ملكه إلا بإذنه، فهو الذي خلق الداء والدواء، فلابد من تعلق القلب بالله، وما هذا العلاج إلا سبب عرفه السلف وأذنوا فيه، فيعمله المؤمن رجاء أن يشفيه الله من هذا الألم الطارئ عليه بواسطة السحرة عليهم لعائن الله.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ...)
واجب المسلم مع الآيات التي يتصدرها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)
هنا نداء إلهي جليل عظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104]، فالمفروض أن نقول بألسنتنا وبقلوبنا: لبيك اللهم لبيك، فقد نادانا بعنوان الإيمان، والمؤمن حي يسمع ويبصر، يعقل، ويفهم، ويقوى على العمل، ويقدر على الترك؛ لوجود الحياة الكاملة، وقد اكتسب هذه الحياة من الإيمان بالله، ومن معرفة الله، فأصبح حياً متهيئاً لأن تأمره فيأتمر، ولأن تنهاه فينتهي؛ لكمال حياته.أما الكافر فهو ميت، لا يسمع نداء المعروف والخير، ولا ينهض بعمل استحبه الله أو ندب إليه، أو أوجبه على عباده، ولا يتخلى أيضاً عن فعل كرهه الله وأبغضه وأبغض أهله، وذلك لفقدانه الحياة.ومن تساءل يريد برهنة أو تدليلاً، فالجواب: أن أهل الذمة الذين يعيشون في ديارنا الإسلامية من اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم لا نكلفهم بالصلاة، ولا نأمرهم بالصيام؛ لأنهم أموات، أفتكلف ميتاً؟! أفتأمر ميتاً وتنهاه؟! هذا من غير المعقول.لكن يوم أن تنفخ فيه الروح، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن تلك الساعة إذا قلت له: اغتسل، فإنه يغتسل من جناباته .. قلت له: طهر ثيابك فإنه يطهرها .. قلت له: اشهد صلاة ربك في بيته، فإنه يشهدها، فأصبح قادراً على أن يعمل، قلت له: غداً الصيام فيصبح صائماً؛ وذلك لدخول الحياة فيه، إذ الإيمان روح، فإذا سرت الروح في الجسم أصبحت العين تبصر، والأذن تسمع، واللسان ينطق إلى غير ذلك.
نهي المؤمنين عن قول: (راعنا) للرسول صلى الله عليه وسلم واستبدالها بـ(انظرنا)
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نادانا لأي شيء؟ هل ينادينا لغير شيء؟ تعالى الله عن اللهو واللعب، ينادينا إما ليأمرنا أو لينهانا أو ليبشرنا أو لينذرنا أو ليعلمنا .. فحاشاه أن ينادي أولياءه وعباده المؤمنين لا لغرض سامٍ وشريف.وبعد هذا النداء قال: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] وهذا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين رجاله، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم.ولم نهاهم عن هذه الكلمة وهي: رَاعِنَا واستبدلها بأخرى بمعناها وهي: انظُرْنَا ؟سبب هذا أن اليهود استغلوا فرصة سنحت لهم يتمكنون بواسطتها من أذية رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حسدة مكرة، وهذه الفرصة أنهم سمعوا بعض المؤمنين يقولون: راعنا يا رسول الله، فلما يكلمهم ويلقي الحكمة أو الحكم بينهم، كان بعضهم يسهو ويغفل، ثم يطالب الرسول أن يتمهل في إلقاء كلامه حتى يسمع ويفهم، فيقول: راعنا -يا رسول الله- في كلامك حتى نحفظ ونفهم. وراعنا باللغة العبرية فيها معنى الازدراء والتهكم والسخرية، إذ هي من الرعونة، فتراهم -عليهم لعائن الله- وهم في المجلس قد يتغامزون ويتضاحكون، ويقولون: راعنا يا رسول الله، وأنتم تعرفون، واعرفوا من الآن أن السخرية برسول الله كفرٌ بواح، ولا حظ في الإسلام لمن يسخر من رسول الله أو يستهزئ به، أو يقول له كلمة سوء؛ لأن مقام النبوة مقام سامٍ، وشريف، وعالٍ، وسنستعرض بإذن الله الآيات الآمرة لنا بالتأدب مع رسول الله.فلما كانت هذه الكلمة تدل في لغتهم وعرفهم وما هم عليه في بيوتهم على الاستهزاء والسخرية أصبحوا يتبجحون: راعنا يا محمد. فنادى الله عز وجل أولياءه من عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا لرسولنا لنبينا: رَاعِنَا وهذه الكلمة من الآن لا يقولها مؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقُولُوا انظُرْنَا ومعناها: أمهلنا وأنظرنا حتى نسمع: وَاسْمَعُوا لأن بعض الغافلين من أمثالنا قد يكون جالساً في حلقة العلم وإذا به يسرح بخاطره هنا وهناك، فلما تفوته الكلمة يقول: أنظرني، وهذا لا يحل أبداً، فيجب أن تسمع، ولا تنصرف بذهنك، ولا بقلبك، ولا بسمعك، وبعد ذلك تراجع وتقول: أنظرني أو أمهلني، فقوله: وَاسْمَعُوا أي: ما يقول لكم رسول الله؛ إذ لا يقول إلا حقاً، ولا يقول إلا آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر، أو ناشراً للآداب والأخلاق فيكم، فكل كلمة ينبغي أن لا تضيع؛ لأنها الحكمة.وإياك أن تفهم أنك تستطيع أن تأخذ كلمة من كلام الرسول لا فائدة فيها، والله ما كان، أليس هو الذي قال الله فيه: يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].وبالفعل ما بقي من أولئك الأصحاب من يقول: راعنا يا رسول الله، ولا من يقول: أنظرنا بعد أن يسرح بذهنه وقلبه، ويفوت الفرصة عليه، ثم يريد أن يراجع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بشر، وأكثرهم ما تعلموا، فهذا دخل في الإسلام من أسبوع، وهذا من ستة أشهر، ومن هنا كان الله عز وجل يؤدبهم ويعلمهم.والأصل في الإنسان الواعي البصير أن سؤالاً واحداً يلقى في حلقة علم يدل على حكمة .. أو على معنىً سامٍ فيكفيه أن يقول: أنا سأحفظ هذا السؤال وجوابه، وأعلمه، وأعمل به، ولا أريد أكثر من ذلك.لكن العلة أننا فارغون، ولسنا مستعدين لأن نعلم فنعمل ونعلِّم، ولو كنا نشعر بهذه المسئولية فالجدير بي أن أقول: لا تزدني كلمة أخرى، فأنا ما أقدر، وحسبي هذه القضية -الآن قد فهمتها- تبقى في نفسي أراجعها، وأخرج من المسجد ألقيها في أرض تنبت لنا البقل والزرع فألقيها إلى امرأتي .. إلى ابني .. إلى جاري حتى تستقر، وهكذا ننمو ننمو حتى نبلغ الكمال.
أدب المناجاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم
أولئك الصحابة أدبهم الله تعالى فاسمع إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12].فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي: إذا أردتم أن تخلوا به، وتتكلموا معه، ومن الطبيعي أن كل واحد يريد أن يخلو مع رسول الله، لكن هذا الرسول كم يكون؟ وكيف سيقسم الوقت؟نعم، أنتم تحبون رسول الله، وتريدون أن تدخلوه في أحشائكم وقلوبكم ولكنه إنسان؛ بشر، ولا يمكن أن يوجد في كل مكان، وأنتم تعرفون رغبة الطلاب مع علمائهم، كل واحد يريد خمس دقائق، فكيف بالصحابة مع رسول الله، فأدبهم الله تعالى وقال لهم: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12] أي: إذا عزمت على المناجاة فقدم بين يدي مناجاتك صدقة، فأولاً ألق ريالاً في يد الفقير وتعال، أو ضع عرجوناً في المسجد من التمر وتعال تكلم مع الرسول.فما إن بلغهم هذا الخبر حتى جفلوا، ولو استعملناها عندنا، لا يبقى أحد يسأل.إذاً: فلما تأدبوا وعرف الله عز وجل -وهو العليم الحكيم- أدبهم واستقامتهم نسخ هذا الحكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] أي: هذا العمل خير وأطهر فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12] لأنهم كَلَّوا وشحوا، فرفع الله عنهم ذلك القيد، ونسخه إلى غير شيء، وأصبحوا يشتاقون إلى رؤية من يأتي من البادية أو من مكان بعيد ليسأل حتى يستفيدوا.ومن ذلك أن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام وهم في حلقتهم في تلك الروضة النورانية، والرسول بين أيديهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإذا بهذا الرجل من طرف الحلقة يشق الصفوف، حتى ينتهى إلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجلس بين يدي رسول الله، ( وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه ) فأعطى كله للرسول .. قلبه .. مشاعره .. وجهه .. جسمه، وهكذا حتى ما يقوى على الالتفات، ووضع يديه على فخذيه صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم صورة مثالية لتعلم العلم وتلقيه، وأخذ يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله -أولاً- عن الإسلام، فأجابه، وقال: صدقت. وسأله عن الإيمان فأجابه وقال: صدقت. وسأله عن الإحسان فأجابه، وقال: صدقت، قالوا: ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ) فهذا معناه أنه عالم بما يقول، وهو كذلك، فلما سأله عن الساعة قال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ ) فالمسئول هو الرسول والسائل هو جبريل، فقال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) وما قال: ما أنا بأعلم منك يا رسول الله؛ لأنه كان متنكراً.ثم سأله جبريل فقال: ( أخبرني عن أماراتها وعلاماتها ) وأنتم تقولون: أنا سأذهب الآن إلى الأمارة، وهذا خطأ، والصواب: إلى الإمارة، وكذلك عندنا (الإمارات) البعض يسميها الأمارات، والأصح: الإمارات.وجبريل هنا قال: ( أخبرني عن أماراتها ) والأمارات: جمع أمارة، وهي العلامة، وبالفعل أخبره عن أمارة، والله لقد وقعت، وهي مشاهدة وموجودة في أوروبا، وفي الشرق، وفي الغرب، وفي المدينة.ما هذه الأمارة؟قال: ( أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ) فما كانوا قبل يعرفون التطاول في البنيان هذا، وكان أكبر طابق عندهم علوي وسفلي فقط، والمدن كلها كالفلل، ليس هناك بيت أعلى من الثاني، والآن العمارات تجد فيها عشرة طوابق، وأخرى عشرين طابقاً، وهذا هو التطاول في البنيان الذي قد وقع.فالحفاة، العراة، رعاء الإبل أو الشاء أو البقر في العالم أصبحوا يتطاولون في البنيان، وهذه علامة من علامات الساعة وقعت كالشمس من أكثر من مائة سنة تقريباً.فلما خرج السائل قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون من هذا؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ) فعلمهم كيف تكون الأسئلة، وكيف يكون الجلوس، وكيف يكون التلقي. هذا الأدب الأول.
أدب عدم التقديم بين يدي الله ورسوله
هنا أدب ثان كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] فهنا منعهم من أن يقدم أحدهم رأيه أو ما يراه والرسول موجود.فقوله: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] أي: لا تقدموا آراءكم وما تعلمون وما تفهمون، فإذا أمر الله فافعلوا، وإذا نهى الله فاتركوا، وإذا أمر رسول الله فافعلوا، وإذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتركوا، وهذا الأدب والحكم يستمر إلى يوم القيامة، فليس من حق إنسان مهما ارتفع أن يقدم على آي القرآن رأياً أو يقدم على أحاديث الرسول رأيه، بل هو دائماً وراءه، فإن عدمنا القرآن والسنة فحينئذ ننظر في أقوال أهل البصائر والنهى والعقول الذين يعملون على الإصلاح لا الإفساد .. يعملون على تزكية النفوس لا تخبيثها، ولهم أن يجتهدوا، ويوفقهم الله عز وجل.وهذا حديث معاذ إذ بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، فسأله: ( بم تحكم يا معاذ ؟ فقال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ -أي: في كتاب الله- قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ) فهو -أولاً- قد أحاط وألم بكتاب الله؛ القرآن، ثم أحاط وألم بالسنة، فأصبح ذا نور، فعرف مقاصد الشرع وأهداف الشريعة وما تدعو وتهدف إليه، وهو الإصلاح للفرد والجماعة .. للأبدان والأرواح، فما وجد ما يحقق هذا فهو مما أمر الله به أو أمر به رسوله، فإن وجد ما ينقض هذا فهو باطل، من وحي الشيطان.
أدب عدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم
هنا أدب ثالث أدب الله تعالى فيه صحابته فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] فمنعهم منعاً باتاً أن يتكلم أحدهم مع رسول الله، ويكون سؤاله أعلى من صوت رسول الله.فقوله: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ فأنت عندما تتكلم مع الرسول تسأله أو تريد أن تأخذ أو تعطي يجب أن يكون صوتك أخفض من صوت الرسول، مع أن صوت الرسول ما هو كصوت عامة الناس، بل كله أدب وخلق فاضل.ثم قال: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2] وأيضاً صوتك يجب أن يكون دون صوت الرسول، فلما تتكلم مع الرسول لا تتكلم معه كما تتكلم مع عمر أو خالد أو فلان، فتستطيع أن تتبجح، وتعلي صوتك، وتلتفت، أما مع الرسول فلا.اسمع ماذا قال بعد ذلك: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات:2] فتبطل كلها وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فخافوا هذا الموقف مخافة أن تحبط أعمالكم، وحبوط العمل بطلانه، فلا ثواب عليه ولا جزاء فيه.
أدب عدم مناداة الرسول كمناداة غيره
هنا أدب آخر أدبهم الله به، فقال عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] فإذا ناديت أخاك أو أباك فقل: يا عمر! يا خالد! يا عثمان! أما الرسول فتناديه بـ يا أحمد؟ فلا والله -واسمه أحمد ورد في سورة الصف وفي الإنجيل- لأنك تكون قد سويته بسائر الناس، ولا تقل: يا محمد، لا لا أبداً.ولما ناداه الله عدة نداءات، هل ناداه بـ يا محمد؟هذا القرآن بين أيديكم، ما ناداه إلا بعنواني: النبوة والرسالة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:59]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41]، والله ما ناداه إلا بعنوان النبوة والرسالة، وكان بعض الأعراب يأتي وينادي: يا محمد! وهذا معناه أنك سلبته النبوة، وإن سلبته النبوة كفرت، وإذا تنكرت للرسالة وما قلت: يا رسول الله، فمعنى هذا أنك كافر، إلا أنه لا يكفَّر؛ لأنه لا يدري.إذاً: نحن نهينا عن مناداة الرسول كمناداة لغيرنا من الناس، لأن معنى ذلك أنني ما اعترفت بنبوته فتقول: يا فلان: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63].وهذه الآداب يجب على المؤمن والمؤمنة أن يعرفها ويعيش عليها.
أدب السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره
الآن لو نقف أمام الحجرة الشريفة ونشاهد إخواننا كيف يسلمون على الرسول، لو كنا بصراء، عقلاء، لو كنا معلمين كيف يكون السلام؟وهنا أريكم صورة: الذين يدخلون على الملوك والرؤساء، كيف يأتي الزوار يسلمون عليهم، الملك أو الرئيس جالس والزوار كل واحد يقول: السلام عليكم ويمشي، السلام عليكم ويمشي، السلام عليكم ويمشي، فيسلم الألف في لحظات، وفي دقائق، مع احترام، وتبجيل، وإكبار.أما كيف يسلم الناس الآن على رسول الله؟ كتل متضاربة، فهذا يسلم، وهذا يقرأ، وهذا كذا، وهذا يدعو، وكل ذلك لأنهم ما عرفوا.أما كان أصحاب رسول الله يسلمون عليه؟ وهل بلغكم أن أحدهم لما كان يأتي من مكة بعد الفتح أو من مكان آخر يقول: السلام عليك يا رسول الله ويأخذ في الدعاء، والله ما حصل، فكيف يحصل الآن، ولا فرق بين حياة الرسول وموته؟ والأدب الذي يكون له أيام حياته يجب أن يكون له أيام موته، وهل هذا هو الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟المفروض كما قلنا: ليس هناك جماعات واقفة، بل الناس في صفوف تجيء المرأة، ويجيء الرجل يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا أبا بكر الصديق ، السلام عليك يا عمر الفاروق ويمشي إلى بيته أو إلى المسجد فيلف من جهة ثانية، ولا توجد هذه التكتلات، والتجمعات، والأدعية، والكتب و.. و.. لأن كل هذا من سوء الأدب مع رسول الله.قد يقول قائل: هذا حبي، وهذا كذا.نقول: لا ينفع، فقد سبقك من هم أحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مليون مرة، وما كانوا يفعلون.ولم يثبت في السنن -ومصادرها معروفة- وفي الصحاح أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون إلى الحجرة ويسلمون على الرسول، إلا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فكان إذا سافر وعاد يأتي الحجرة ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كنا نعرف ما السر في هذا؟ حتى فتح الله علينا أجمعين وعرفنا.وأحد المؤمنين يصلي كل صلاة صبح عند الباب، ويحمل سجادته بعد السلام، ويمشي ليسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم. وهذا ليس عنده علم، زادكم الله علماً.وقد فتح الله علينا وبينا للناس، فنحن نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاً لوجه، كفاحاً كلما نصلي ركعتين، وقد نسلم على الرسول خمسين مرة في اليوم، فأنت لما تصلي الركعتين في الفريضة تجلس بين كل ركعتين تقول: التحيات لله، فأنت بين يدي الله تعالى وتحييه في تلك الجلسة، والتحيات جمع تحية، ولا توجد تحية عرفتها البشرية إلا لله.وسبحان الله! الصلاة هذه لم يعطاها سواكم، وجميع أجزاء الصلاة تحيات، والواقع يشهد، فالقومة المعتدلة يقفها العسكري تحية أمام الجنرال، وإذا وقف بشكل غير صحيح أو تمايل صفعه الجنرال.وقال تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150] ولهذا لا يحصل لمن يقول: الله أكبر في الصلاة، وهو مطأطئ رأسه، فوجهك هكذا، وهذه تحية.ونحن نحيي ربنا بكلتي يدينا، إلا إذا كان مشلولاً أو مقطوع اليد، فترفع يديك استسلاماً، وخضوعاً، وانقياداً لربك عز وجل، وهي تشابه التحية الفرنسية.كذلك الركوع بامتداد الصلب، واستواء الظهر، وأنت بين يديه ممدود، هذه تحية، وحيا بها البشر عظماءهم.أما السجود فهو أفظعها وأعظمها، فيضع وجهه على التراب، وكفيه، وركبتيه خضوعاً لله عز وجل، وهذه تحية.وأما التشهد فهو رمز للوحدانية، فأنت تتشهد وأنت تقول هكذا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد المؤمنين اليمنيين جاء يطوف وهو يعمل هكذا بيديه الاثنتين، فقال الرسول: ( وحد وحد ) يعني: إصبع واحدة فقط؛ لأنها تشير إلى الوحدانية: لا إله إلا الله، فهذا في التشهد بمجرد ما تبدأ وأنت هكذا وتؤكد كلامك: ( التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي )، وكان يحركها يدعو بها أي: يؤكد بها دعاءه.إذاً: نحن حيينا ربنا.ونبدأ بعد ذلك برسول الله، إذ لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبعد التحيات والصلوات والطيبات نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فوالله العظيم إنها لتصله فوراً.فإن قال قائل: يا شيخ! لا يحتاج إلى الحلف.أقول: الآن وأنت في بيت الله تستطيع أن تتكلم مع اليابان والصين، فقبل هذه الصناعات نعم كان المؤمن فقط هو من يصدق، أما الآن فلا تشك في هذا، أليس عندك عقل؟ وأمواج الأثير من خلقها؟ ومن ينقلها؟ونحن عندنا في الأحاديث أنك إذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر فإنها تأخذ تتموج وتتموج حتى تملأ الجو كله، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، قلنا: كيف تملأ هذه؟ أنت تقولها: سبحان الله والحمد لله فتأخذ تتموج في الهواء حتى تملأ الفراغ ما بين السماء والأرض، وتعطى الأجر كاملاً.إذاً: عرفتم السر، وصار ليس هناك حاجة إلى أن تذهب إلى القبر وتسلم أبدا، فإذا جئت من بعيد، وأنت مشتاق تريد أن تقف أمام قبر رسول الله فنعم، لكن أن تكون في المسجد كل يوم، وكل ساعة فهذا قد كرهه مالك لأهل المدينة، فلا ينبغي هذا.لكن الآن عرفنا، لسنا نحن في حاجة، فقط كن واعياً، وكم من مصلٍ لا يشعر أبداً أنه تكلم مع الرسول، والله أحياناً أعيدها مرة ثانية، وقلت لكم لما أقول: السلام عليك أيها النبي وأنا غافل أرجع مرة ثانية وأقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وجهاً لوجه.وأقص عليكم رؤيا؛ لأن هذا الموقف للتعليم، فقد كنت أشعر في أيام مضت لماذا لما أسلم على الرسول في قبره كل يوم إلى أن أسافر فأشعر بألم نفسي، فرأيت الحجرة النبوية في بيتنا، وأنا أقول: سبحان الله! الحجرة بين يدي وأنا في هذا الشوق، كيف هذا؟! فعرفت أننا إذا سلمنا عليه في صلاتنا فنحن مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقط كن شاعراً، حاساً، واعياً، فاهماً أنك تسلم على رسول الله وهو يسمع كلامك، وقد قال: ( صلوا علي وسلموا حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) وهذه قالها في حياته، ولا فرق بين من هو في الصين أو في أمريكا أو في كندا، ولو وعى المؤمنون هذا لا يتزاحمون، لكن لا علم، وما تعلموا.وها نحن مع هذه الآداب النبوية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104] حتى لا يفوتكم الكلام وتقولوا: راعنا أو أنظرنا. وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104] هذا حكم الله، وللكافرين بالله ورسوله، وكتابه، وشرائعه لهم عذاب أليم، وهذه ضربة على رءوس اليهود الذين يمكرون ذلك المكر.
تفسير قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ...)
قال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] لما نزلت هذه الآية اغتاظ اليهود؛ لأنهم صفعوا صفعة عنيفة، فالله أخبرنا بواقع، أنه -والله- لا يود بريطاني، ولا فرنسي، ولا ياباني، ولا صيني، ولا روسي، ولا عربي، ولا أعجمي من غير المؤمنين، لا يودون أن ينزل علينا خير من ربنا، لا مطر، ولا وقرآن، ولا شيء اسمه خير.وإياك أن تفهم أن مجوسياً أو صابئاً أو يهودياً أو نصرانياً يحب لك الخير، وأن يحفك الله به، والله ما كان. والتجارب واقعة.إذاً: فلم نحبهم نحن؟!هذه آيات الله: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105] فالقرآن، والأحكام، والشرائع، والرحمات، والبركات، والخيرات تنزل من عند الله، وهي كلها خير، حتى الصحة والأمن لا يريدون، عيشوا مرضى فقراء حتى يستغلونا أو يستعبدونا. ثم قال: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105] فافزعوا إلى الله وارفعوا أكفكم إليه، وعلقوا قلوبكم به، ولا يضركم حسد اليهود، ولا النصارى، ولا المشركين، ولا البوذيين؛ فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ . وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة:105] والفضل ما زاد عن حاجتك وأصبحت لست في حاجة إليه، كثوب قديم أو ريال زائد، والله عز وجل لو يعطينا ما بين السماء والأرض ما هو إلا فضل، لأنه غني غنىً مطلقاً، وليس في حاجة إلى إبل ولا غنم ولا ذهب ولا فضة، فكل هذه المخلوقات هو في غنى عنها، وأصبحت كلها فضل: ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يؤتي من يشاء من فضله، وهو ذو الفضل العظيم.معاشر المستمعين! استفدنا شيئاً ممكن نعمل به، ونعلمه، ونصبح عظماء في السماء؟روى مالك في موطئه: أن من علم وعمل بما علم وعلَّمه -أي: الناس- دعي في السماء عظيماً. فمن هم عظماء الرجال والنساء؟!كنا نقول: إن أفلاطون ونابليون هؤلاء من عظماء الرجال الذين درسنا عنهم في الكليات.الله أكبر! مَن عظماء الرجال والنساء؟هم الذين يتعلمون العلم الإلهي، ويعملون به، ويعلمونه، فيدعون في الملكوت الأعلى بالعظماء.وهذه الكلمة ما فهمها الناس، ولا واحد من مليون مسلم، فلهذا قلَّ من يتعلم مسألة في مجلس كهذا، ويعمل بها فوراً، ويعلمها على الفور، مؤمناً بهذه التعاليم وهذه الآيات، ولا لوم؛ لأننا ما جلسنا في حجور الصالحين.والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (74)
الحلقة (81)
تفسير سورة البقرة (44)
يعتبر النسخ من القضايا المهمة التي بحثها علماء الإسلام، حيث نص القرآن على وجوده، ومن خلال هذا النص قسَّم العلماء النسخ إلى عدة أقسام منها: النسخ إلى بدل أثقل كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، ونسخ إلى بدل أخف كنسخ وجوب قتال المسلم لعشرة إلى قتال اثنين، ونسخ إلى بدل مساوٍ كنسخ استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، والأمر كله لله سبحانه.
تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.وهذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:106-108].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زالت الآيات في تقريع وتأديب بني عمنا بني إسرائيل؛ اليهود، وبنو عمنا هم أولاد إسحاق، ونحن أولاد إسماعيل، وما حسدونا إلا لأنهم بنو عمنا، وقالوا: كيف ينتقل الوحي والرسالة والنبوة إلى أولاد إسماعيل ويحرم منها بنو إسرائيل؟ومن تدبير الله عز وجل أن القرآن لما كان ينزل في هذه الديار كان اليهود موجودين بالمدينة وفي الحجاز، ليتم ما أراد الله من فضح وكشف سرائرهم، وبيان مكرهم وخداعهم.أرأيتم لو كانوا غير موجودين في المدينة والقرآن ينزل؟! فسبحان الله العظيم! والله إنه لتدبير العليم الحكيم.
الرد على اليهود الذين ينكرون وجود النسخ في شرائع الله
قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] نمحها من قلب رسولنا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]. وقالت اليهود: لا وجود للنسخ في شرائع الله، ومن أين يأتي هذا النبي بما يقول؟ولهم في ذلك مكر وخداع، فهم لا يريدون أن يكمل الله هذه الأمة، ويتدرج بها من حال إلى حال؛ لتسعد وتكمل، وهم في هذا -والله- لكاذبون وماكرون.وهم يقولون في افترائهم: كيف يشرع الله عز وجل حكماً وبعد ذلك ينسخه؟ أما كان يعلم صلاحه من فساده؟فقال لهم علماء هذه الملة المباركة:أولاً: كم سنة كان آدم عليه السلام وهو يزوج بناته بأولاده، وكيف تناسلنا؟ وكيف تواجدنا على سطح الأرض؟كان آدم يزوج بنته من هذا البطن مع ابنه من البطن الثاني فترة من الزمن، ثم نسخ الله ذلك، وحرم نكاح الأخوات بالإجماع، أليس هذا نسخاً واضحاً كالشمس.ثانياً: في عهد نوح عليه السلام حدث الطوفان على الأرض فما نجا منه إلا أصحاب السفينة، فكل من على سطح هذه الأرض من أبيض وأسود وأصفر غرقوا إلا أصحاب السفينة، وهم نيف وثمانون رجلاً وامرأة فقط، ولهذا يعتبر نوح أبا البشرية الثاني، فآدم تناسل مع حواء، وكان نوح مع تلك الزمرة المعدودة المحدودة في سفينة، فأذن الله تعالى له ولمن معه أن يأكلوا سائر الحيوانات، فلما رست السفينة، وانتهى الطوفان، وهبطوا إلى الأرض كانوا مضطرين أن يأكلوا كل ما يحصلون عليه، ونسخ الله عز وجل ما شاء من تلك الحيوانات، وأبقى ما شاء.ثالثاً: وكذلك إبراهيم عليه السلام نسخ الله أمره، إذ قال له وقوله الحق من سورة الصافات أو اليقطين: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فيقول إبراهيم الخليل عليه السلام لغلامه وطفله الصغير، وهو في الثامنة أو التاسعة من عمره: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102]، ورؤيا الأنبياء المنامية حكمها حكم الوحي سواءً بسواء، فيوحي الله إلى الرسول وهو يقظان، ويوحي إليه وهو نومان، ولا فرق، إذ الإلقاء يكون في القلب النقي الطاهر فيتلقى سواء كان صاحبه نائماً أو كان يقظاناً.قال: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] يا إسماعيل.فأجاب ذاك الطفل النوراني ابن هاجر القبطية المصرية: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] ما قال: افعل ما تريد .. افعل ما تحب، لا. قال: افعل ما تؤمر به، فإذا أمرك سيدك بذبحي فاذبحني، وإذا أمر سيدك بإبعادي فأبعدني: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] فهذا هو الغلام الذكي الطاهر النقي؛ لأنه من شجرة مباركة هي هاجر .وقد حفظنا لها كلمة، لو نجمع جامعيات نساء العالم -والله- ما وقفن هذا الموقف. فإن قال قائل: لم الشيخ ينكت على الجامعيات؟أقول: لأننا ذقنا المرارة، وما زلنا نتجرع الألم من خروج النساء وسفورهن في وظائفهن، واختلاطهن بالفحول، فخمت الدنيا، وتعفنت بالفجور.فإن قال قائل: ما هذه الكلمة؟أقول: لما أمر إبراهيم عليه السلام بأن ينقل هاجر وطفلها إسماعيل من القدس إلى مكة بأمر الله، والعلة في ذلك أن سارة عليها السلام امرأة إبراهيم وبنت عمه كانت لا تلد، فهي عاقر أو عقيم، فلما تسرى إبراهيم هاجر التي وهبته إياها، فـسارة كان لها هاجر وقد أعطاها إياها ملك مصر، وذلك لما شاهد الآيات الإلهية فما كان منه إلا أن أكرمها، ومن جملة ما أكرمها به أن أعطاها خادمة تخدمها، وكانت هاجر أم إسماعيل، فوهبتها له يتسراها.والتسري أن يكون للفحل جارية خادمة، رقيقة؛ مستعبدة، سواء أخذها من نصيبه في الغزو والفتح أو اشتراها أو ورثها، وهذه الجارية الخادمة من لطف الله .. من رحمة الله .. من إحسان الله إلى عباده أن أذن لمن يملكها أن يحسن فراشها وثيابها، ويقلل من خدمتها، ويطأها عسى أن تلد له ولداً، فتصبح أم ولد، ومن يعرف هذا الكمال وهذا التشريع سوى الله؟!فأهدتها إبراهيم فتسراها فأنجبت له إسماعيل، وبدأت الغَيرة في النساء فأخذت الغيرة سارة قالت: كيف هي الحرة .. هي امرأة النبي .. ما تلد؟ وقلبها متمزق على الولد، وهذه ابنة أمس تلد؟فما أطاقت أن ترى هذا الولد ولا أمه، فألهم إبراهيم أو أوحي إليه أن انقل هاجر إلى جبال فاران، إلى الوادي الأمين، فأخذها وطفلها، وكانت هاجر تعفي الأثر حتى لا تعرف سارة إلى أين ذهبوا، ودخل وادي مكة، وما به عريب ولا أنيس، جبال فقط، ووضعها وطفلها، ومعها زاد لا يكفي لأكثر من ثلاثة أيام: جراب فيه خبز، وآنية فيها ماء وتركهم.وتركهما في حجر إسماعيل، وقفل راجعاً، فلما تجاوز مسافة عشر خطوات .. عشرين نادته وقالت: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم، فتتركني وطفلي في هذا الوادي لا أنيس ولا عريب؟ قال: نعم. قالت: إذاً فاذهب، فإنه لا يضيعنا.أعطوني مؤمناً من هذا النوع يقول: اذهب فإنه لا يضيعنا، فهذه هي هاجر أم إسماعيل، فهل نملك هذا المعتقد، وهذا النور في قلوبنا؟إن أحدنا إذا أرشد إلى ترك معصية تجده يقول: مع الأسف إن الظروف والأحوال والعيش والحياة تغيرت فكيف نترك هذا؟أقول: أين التوكل على الله؟فإن قال قائل: يا شيخ! لا تلمنا إننا ما عرفنا الله، من حدثنا عنه؟ من عرفنا به؟ نجلس عشرين .. ثلاثين سنة في المقاهي، والملاهي، ومجالس الكلام لا نتحدث يوماً عن الله، فكيف نعرف الله؟أقول: إذاً أستغفر الله لي ولكم، هو هذا.ونعود إلى النسخ؛ إذ قال إبراهيم للغلام الصغير: يا إسماعيل! إني أرى في المنام أني أذبحك، فقال: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] سبحان الله! إبراهيم النبي الرسول يؤمر؟ فلا يستطيع أن يفعل برأيه أبداً، وهل يستطيع أحد منا لو كنا مسلمين أن يعمل شيئاً برأيه؟ والله لا يستطيع، فلا بد من أمر الله عز وجل في كتابه أو على لسان رسوله، في جل أفعالنا، فلا نقول، ولا نتكلم، ولا ننام، ولا نأكل، ولا نشرب، ولا نبيع، ولا نشتري، ولا نتزوج، ولا نطلق إلا بأوامر.لعلي واهم! والله كما تعلمون. هل تستطيع أن تأكل بدون إذن الله؟! فإن استطعت فكل الخنزير والجيفة.هل تستطيع أن تبني بدون ما تكون هناك حاجة إلى البناء؟ والله ما كان.وهكذا: هل تستطيع أن تتزوج بدون حاجة .. أن تطلق بدون ضرورة؟إذاً ما عندنا عمل يصدر عن غير تعليم من الله ورسوله.وشاء الله وخرج به من بيت هاجر يمشي معه وودع أمه: نستودعكم الله إلى منى حيث يراق الدم، وجملته وحسنته؛ هذا لله، وانتهى به إلى منى، واعترضه العدو الألد الخصم المبين إبليس في جمرة العقبة الجمرة الكبرى، وقال: أي إبراهيم! ماذا تفعل بهذا الغلام؟ تذبح فلذة كبدك؟ الله يأمر بهذا؟ ارجع بابنك خيراً لك. فعرفه ورماه بسبع حصيات، وبقيت لنا إلى اليوم، ثم مشى فاعترضه عند الجمرة الوسطى: أي إبراهيم! يا خليل الرحمن! ربك في غنى عن هذا الغلام فكيف تذبحه؟ فطرده حتى الجمرة الأخيرة ثلاث مرات، وإبراهيم ثابت موقن أن الله أمره وعرف العدو من هو، وانتهى إلى مكان الذبح عند مسجد الخيف وهناك: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] أي: صرعه على جبينه، والمدية في يده: باسم الله، فوضعها فوقفت وتحول الحديد إلى حطب.قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات:104] فالتفت وإذا بجبريل معه كبش سمين جميل ذبيح: خذ هذا، واترك هذا وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:107-110] لا المسيئين في أعمالهم وأقوالهم وحياتهم.وهذا نسخ، فقد أمره أن يذبح، وخرج لأداء أمر الله ثم شاء الله أن ينسخ لما امتحن؟ وبرز إبراهيم وظهر؛ لأنه يتهيأ للإمامة الكبرى قال: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].وهل ينسى هذا اليهود؟ كلا، والله إنهم ليعرفونه، إلا أنهم يتبجحون ويقولون: الذبيح إسحاق وليس إسماعيل، وهذا عناد ومكابرة، فإسحاق ما وجد بعد.إذاً: هذا نسخ فكيف يجهله اليهود؟لا يجهلون يا شيخ، إنهم يعاندون ويريدون إطفاء نور الله لزعزعة القلوب والإيمان فيها بين المؤمنين، وهذا لأنهم كانوا يتكلمون بلسان العرب ويعيشون معهم، والآن إذا لم تخالطهم وتتكلم بلسانهم قد لا تعرف عنهم شيئاً، لكن الصفات والنعوت التي نعتها الله موجودة فيهم بالحرف الواحد، ظاهرة لمن خالطهم ومارس الحياة معهم.إذاً: بطل ما ادعاه اليهود وافتروه وكذبوه، وثبت أن لله أن ينسخ ما يشاء، وهاهو ذا تعالى قد أنزل هذه الآيات في الرد عليهم، وقال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] أي: نمحها من قلب نبينا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] مصلحة وفائدة وكمال ورقي للأمة، أو بخير منها.
أقسام النسخ
عندنا في أقسام النسخ وأنواعه ما يلي:أولاً: هناك النسخ من أصعب إلى أسهل وأيسر؛ لأن الدين ما نزل في وعاء واحد وفي يوم واحد، فهو دين التربية والرقي بالإنسان والكمال، وشرع الله عز وجل في خلال ثلاثة وعشرين سنة وهو ينزل.ومن الأمثلة على ذلك ما شرعه الله للمؤمنين من الإذن لهم بالقتال بعد أن لم يأذن لهم سنوات، فلما تواجدوا وتكاملوا، وقويت شوكتهم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39] وكان القتال ممنوعاً.وكذلك نزل قول الله تعالى من سورة الأنفال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65] فانظر هذه النسبة: الواحد بعشرة، فيجب أن يثبت الواحد منا أمام عشرة، والمائة منا أيها المؤمنون لا يحل لهم أن يفروا أو ينهزموا أمام ألف من الكفار مهما كان شأوهم، وكل هذا لأن المسلمين كانوا أقلية، وكان الإيمان يغير مجرى الحياة، وكانوا أقوياء، ولكن الله علم أنه سيأتي بعد الصحابة وبعد أولادهم وأحفادهم من لا يقاتل اثنين بل يهرب؛ لأن هذا التشريع ليس شرعاً خاصاً بالصحابة، بل هو شرع عام للبشرية كلها في كل أزمنتها وديارها، فنسخ الله ذلك الحكم بأن نكتفي بواحد مع اثنين، وعشرة مع عشرين، ومائة مع مائتين، وألف مع ألفين، وعندك الآيات حيث قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال:65] ثم قال: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66]، وهذا نسخ من أصعب وشاق إلى أهون وأيسر، وهذه رحمة الله بالمؤمنين. وأنتم لا تشعرون بأن الذي ينهزم أمام يهودي أو نصراني أو مشرك معناه: أنه ذاب وتمزق وخسر حياته.وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:15] لبيك اللهم لبيك إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16]. وهذه الآية والله ليست بمنسوخة.فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أي: زاحفين وجهاً لوجه فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ أي: لا تعطوهم ظهوركم وتهربون، صورة بشعة، وسبحان الله! ما قال: فلا تعطوهم ظهوركم، إنما قال: أدباركم. وصاحب اللسان يذوق هذا المعنى، فما قال: فلا تولوهم ظهوركم، وإنما: فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ، ودبر الإنسان مؤخره، فلا تعطوهم أدباركم، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ ساعة الزحف دُبُرَهُ اللهم إلا في حالين:في حال أن يتحيز إلى جماعة من إخوانه يقاتلون لينضم إليهم؛ لأن من معه هلكوا واستشهدوا، فلا يبقى وحده، بل ينضم إليهم.أو في حال أن يتحيز إلى فئة وهي التي فيها القيادة كالرسول صلى الله عليه وسلم ومن ينوب منابه.وإذا لم يكن هكذا فالجزاء: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].وعندي صورة أحفظها قديماً ففي أيام إخواننا العثمانيين الأتراك، في بداية الخلافة عندما فتحوا شرق أوروبا وروعوا العالم، كان الجندي إذا كان في يده المدفع فإنه يربط نفسه بالسلسلة في المدفع ويقاتل، فيرمي، ويرمي، ويرمي حتى ينفد سلاحه من الرصاص والقنابل، ويبقى كالأسد حتى يصل إليه العدو ويقتله هكذا، ولا يولي الدبر؛ لأن الذي يعطي العدو دبره ويهرب حسبه ما حكم الله به عليه، فقد رجع بغضب إلى بيته الذي هرب إليه، ومأواه جهنم وبئس المصير.وهذه الشجاعة أعطيها المؤمنون بإيمانهم، وبعلمهم، ومعرفتهم، والله علمهم، ورباهم، وهداهم.ثانياً: ويكون النسخ أيضاً من السهل إلى الصعب، ولله أن يفعل ما يشاء، ولكنه العليم الحكيم. مثاله: في بداية الأمر فرض الله الصيام على المؤمنين أن يصوموا يوم عاشوراء فقط، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ دار الهجرة فوجد فيها اليهود يصومون يوم عاشوراء بنسائهم وأطفالهم، فسألهم فقالوا: ( هذا يوم نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق من البحر، فقال: نحن أولى بموسى منكم ). لأنهم كفروا بموسى، وعبثوا، وفسدوا، وفعلوا، فنحن أولى بهذا منكم، فصام وأمر المؤمنين بالصيام؛ النساء والرجال والأطفال.وبعد ذلك نسخ الله هذا بصيام شهر رمضان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] إلى أن قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا ... [البقرة:185] الآيات. فهذا نسخ من السهل إلى الصعب، وهو عكس الأول، فالأول نسخ من الصعب إلى السهل لحال المسلمين وضعفهم، وهنا صيام يوم فماذا يفعل هذا اليوم في صاحبه؟ أما صيام شهر كامل فهو يهذب النفس، ويزكي الروح، ويصحح الجسم، وتتفتت الشحوم التي في البطن، فهذا الشهر له قيمته، ولكنه أصعب من يوم واحد.فهذا نسخ عكس الأول، من السهل إلى الصعب.ثالثاً: نسخ لا صعوبة فيه ولا سهولة، لا في الأول ولا في الثاني، وهذا قضاء الله وتدبيره.مثاله: كانت قبلتنا التي نصلي إليها الصلوات الخمس في المدينة النبوية إلى بيت المقدس غرباً، وبالتحديد في الشمال الغربي كانت القبلة، وخلال سنة وخمسة أشهر كان المؤمنون يصلي بهم رسول الله، ويستقبلون بيت المقدس، فاغتاظ اليهود: آه! يدعي أن ديننا باطل ومنسوخ وهو يستقبل قبلتنا. فنسخ الله هذه وهو يصلي، ولا أذكر هل نسخ هذا في الروضة أو في مسجد بني سلمة.ومنهم من يقول: كان عليه الصلاة والسلام مدعواً في وليمة في ديار بني سلمة في مسجد القبلتين، وعندما كان في الصلاة شرع الله الاستقبال إلى البيت فدار ودار الصحابة معه إلى الكعبة، فلهذا سموه مسجد القبلتين.وأما أهل قباء فكانوا يصلون الصبح فأتاهم آت يقول: يرحمكم الله! لقد تحولت القبلة إلى الكعبة، فاستداروا كما هم عليه بإمامهم وصفوفهم.وهنا أقول: لو تمرن المسلمين بالعصا عشرين سنة فإنهم لا يستطيعون أن يستديروا هكذا وهم في صلاتهم، ووددنا لو تم هذا فقط في رمي الجمرات، فما وجد أن يصدم بعضنا بعضاً، ونحن هائجون كالجمال، وأحياناً نصرخ: يا جماعة! ليس اليهود هنا، ولا يوجد رشاشات.من يهذبنا؟! من يربينا؟! من يعلمنا؟!تلك الزمرة المؤمنة يأتيهم المخبر: إن القبلة قد تحولت، فيستديرون كلهم بصفوفهم وبنظام حتى يتحول من كان في الشمال إلى الغرب، وهم من وراء.أقول: أيها المسلم! درب جماعتك بالعصا، وخذ طلاب المدرسة فقط فإنك لا تستطيع، ولا تأخذ الشيوخ والكبار.المهم عندنا كلمة خالدة! نحن هابطون وهم طالعون، فهل يستوي الهابط مع الطالع؟!مثال على هذا: عندنا المرأة .. الشاب .. الرجل، يسمع الإمام يقرأ بالفاتحة جهراً، والله لا يحفظها، مع أنه يصلي مع الإمام عشرين سنة، ولا يستطيع أن يحفظها كما نزلت، بل يقرأ: يكا نعبد ويكا نستعين.وهذه أم الفضل امرأة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أم عبد الله تقول: ( صليت وراء رسول الله المغرب فقرأ بسورة المرسلات عرفاً فحفظتها ) فأعطني مسلماً الآن يسمعها لأول مرة يحفظها فنعطيه مليار دولار، مستحيل! وهذا واقع، وعرفنا شبيبة يسمع أغنية من عاهر في شريط أو في إذاعة فيحفظها باللحن، حتى بالصيغة.ما الفرق؟كانوا طالعين ونحن هابطون.تجد الرجل يصلي وراء الإمام أربعين عاماً لا يحفظ الفاتحة، وهو يسمعها في الصباح والمساء. والعلة أنهم جهلونا وأبعدونا عن الروح الإلهي فمتنا، وأصبح القرآن لا يقرأ إلا على الموتى، فإذا دخلت مدينة من المدن ومررت في أزقة ضيقة وسمعت القرآن فاعلم أن عندهم ميتاً، فلا يجتمعون إلا على القرآن للميت، ولن تجد من يقول لك: أي بني أو يا أُخيَّ! تعال أسمعني شيئاً من القرآن.أنا عشت سبعين سنة ما رأيت إلا واحداً فقط رحمة الله عليه، سمع هذا الكلام فصار يأتي يقول لي: يا أبا بكر! سمعني شيئاً من القرآن، فأقرأ عليه وهكذا.مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي سن هذا الطريق فقال لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! أسمعني شيئاً من القرآن ) وجلس وأصغى يسمع، فعجب عبد الله وقال: ( أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري ).هل عرفت رجلاً قال لك: تعال من فضلك اقرأ علي شيئاً من القرآن إلا إذا كان مريضاً يريد الشفاء، أما ليتعلم الهدى فلا .. لا. فكيف إذاً لا نهبط إلى الحضيض؟!إذاً: فنسخ الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وليس في هذا تفاضل أو عسر وصعوبة أبداً، فاستقبل هكذا أو هكذا، فليس فيه انتقال من صعب إلى يسير أو من يسير إلى صعب.رابعاً: هناك نسخ آخر، وهو أن ترفع الآيات نهائياً فلا تبقى في كتاب الله ويبقى حكمها معمول به.وقد ثبت بالإجماع قول الله تعالى: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ومن ثَمَّ نسخ اللفظ وبقي الحكم، فطبق هذا رسول الله وعمر وأصحابه، فالمحصن وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وغير المحصنين يجلدون مائة جلدة، ويغربون سنة، وهذه الآية لا يصلى بها أبداً، ولا توجد في المصحف، ولكن نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآناً ثم نسخها الله، أما قال: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]؟ بلى.خامساً: النسخ من حكم إلى حكم.وقد علمتم أن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يعيا ويتعب، ويأخذه النعاس، والجوع، والعطش، فليس بملك، وتعرفون ماذا يفعل حب رسول الله في النفوس، فكل مؤمن يريد أن يخلو بالرسول دقيقة، ومن هو الذي يظفر بدقيقة فقط.ولو ترك لهم الرسول الأمر فكيف سيأكل ويشرب .. وكيف سينام؟ لأن كل واحد يريد أن يجلس معه، فأدبهم الله عز وجل وأنزل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12] ففهموا أن القضية ليست قضية مال، وإنما قضية إيجاد وقت للرسول صلى الله عليه وسلم ينام فيه أو يأكل فيه أو يستريح، فلما فهموا عرفوا، وما أصبح من يقدم على أن يتكلم مع الرسول سراً.ويروى أن أول من فعل هذا وهو الأول والأخير هو علي رضي الله عنه، فتصدق بصدقة، وجاء يقرع باب رسول صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية تنسخ هذا؛ إذ قال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ... [المجادلة:13] الآية. فنسخ الله الحكم الأول بالثاني، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.هذه أمثلة وغيرها كثير.
مجمل تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ...)
قول ربنا تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] يُنسيها الرسول سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] نعم، وإذا أراد أن يُنسي ما قرأه يفعل الله ما يشاء.قال: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] وعلل لذلك بقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ يا رسولنا! أيها العاقل يا من يسمع! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106] بلى، مَن مِن المؤمنين لا يعرف هذا؟ ما يصعب على الله أبداً أو يعز عليه أن يستبدل حكماً بحكم أو سورة بسورة أو آية بآية، فهو يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير.ولكن اعلم أنه لا يشرع إلا من أجل إكمال الإنسان وإسعاده، فإن كانت واجبات فلتزكية نفسه وتطهيرها، وإن كان نهياً عن موبقات وآثام فمن أجل الإبقاء على ذلك الطهر والصفاء حتى لا يتلوث، فهذا الأصل.وفي نفس الوقت ما شرع الله أمراً أمر به إلا وفيه فائدة لجسم الإنسان .. لماله .. لعقله .. لحريمه .. لحياته.والله الذي لا إله غيره! ما شرع الله شرعاً لا أمر بأمر ولا نهى عن نهي إلا لصالح الآدمي المؤمن، وتتبع ذلك تجد الآثار واضحة كالشمس.
تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ..)
قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:107] بلى؟ فكل مملوك في السماء والأرض لله. فله أن يعطي .. يمنع .. يرفع .. يضع .. يعز .. يذل .. يقدم، فهو ملكه، أيجوز أن تعترض؟!وهذه صفعة لليهود، كيف تعترضون على الله؟وقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فما دام له ملك السماوات والأرض فأنت لما تطلب امرأة تريد أن تتزوج تقول: يا رسول الله! أنا في حماك .. أنا في بلدك .. أنا بين يديك، فادع الله لي، هذا لا يجوز لأن الرسول لا يملك، وآخر يقول: يا سيدي عبد القادر ! يا راعي الحمراء! أنا كذا.لا يطلب شيء من غير الله.فإن قال قائل: لم هذا يا شيخ؟قلنا: بلغنا أن كل مملوك لله، فكيف تطلب ممن ليس له ملك!وهذا يشبه من كان في أرض خربة ليس فيها أحد، وإذا به يدعو ويصيح: يا أهل الدار! أنا جائع، أنا ضمآن. وليس في الخربة واحد أبداً. فيمر به أخونا ينصحه: حرام عليك؛ طول الليل وأنت تصرخ، وليس في البيت أحد، اقصد بيتاً فيه ناس يسمعون.وهذا مثل حالتنا، تجد الرجل العالم يمر بأخيه يدعو عند الحسين أو فاطمة : يا سيدي! ويبكي، ويصرخ، ويطلب، وما يقول له: يا عبد الله! هذا لا ينفع، ولا يعطيك شيئاً أبداً، وهذا واقع من إندونيسيا إلى المغرب.فهذه الأمة هبطت؛ لأنها هجرت هذا الكتاب.وقالوا لها: القرآن الكريم إذا فسرته وأصبت فأنت مخطئ، وإذا أخطأت كفرت. فصوابه خطأ، وخطؤه كفر، فحجبوا أمة الإسلام عن النور، وأبعدوها عن الحياة فماتت، وذبحوها، وسلخوها.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟أقول ذلك؛ لأن خمسة ملايين يهودي قهروا ألف مليون مسلم، وأذلوهم إلى الآن .. وإلى هذه الساعة، فهذا واقع أو نحن نائمون؟لكن من فعل بنا هذا؟الجواب: الله، وإياك أن تعيش مع التائهين: أمريكا، بريطانيا، فرنسا، فهذا الكلام هراء، والله لا فاعل إلا هو، فهو مالك الملك، فلما تمردنا عليه وعصيناه، وخرجنا عن طاعته، وهبطنا عن كمالاتنا أدبنا الله بأعظم آية ما عرفت في التاريخ، فأذل الخلق وأجبنهم على الإطلاق يحكمون العالم الإسلامي، وهذه آية من الآيات.. وهي أعظم آية في هذا الكون.قال تعالى: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107] وللأسف أن هناك من يقول: لا لا، هناك أولياء لنا، وأنصار ينصروننا.وليس من المعقول أنك تجد من دون الله ولياً ونصيراً والله يقول: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: يتولاكم وَلا نَصِيرٍ [البقرة:107] ينصركم أبداً، فافزعوا إلى الله، ولوذوا بجنابه، واطرحوا بين يديه، واطلبوا رضاه، واسلكوا سبيله فتكملوا، وتسعدوا، وتنجوا.قالوا: لا لا لا، خلينا مع الخرافات.فإن قلت: إذاً أذلنا الله. قال قائلهم: يا شيخ! كيف تقول هذا؟أنا أقول: أسألكم بالله: ما بلغكم أن العالم الإسلامي استعمرته بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا .. فأذلوهم وقهروهم، وتم هذا لأننا هبطنا، وتخلينا عن الروح فمتنا، لا أقل ولا أكثر، تأديب الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ...)
يقول تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ [البقرة:108] بل تريدون، أم بمعنى بل تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة:108] وهذه لنا، تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل إذ قالوا له: أرنا الله جهرة، فهم يسمعون كلام الله بجبل الطور قالوا: لا، نريد أن نرى الله جهرة. فهل تريدون أنتم هكذا؟قال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108] أخطأ وسط الطريق المنجي، المزكي، المفلح، المسعد.فقوله: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ أي: يأخذ الكفر ويعطي الإيمان، ويترك شرع الله ويأخذ قوانين الشرق والغرب، كمبادئ الاشتراكية. فَقَدْ ضَلَّ وسط الطريق، فهلك وتمزق.وما زال العالم الإسلامي نائماً، فما عرفوا، ولو فتحوا أعينهم وعرفوا -والله- لاجتمعوا في الروضة أو في الكعبة وتعاهدوا: أنت إمام المسلمين، وكل البلاد الإسلامية ولايات، والحكم واحد، والشريعة واحدة، وفي أربعة وعشرين ساعة والدنيا كلها نور، وقد دعونا إلى هذا، وكتبنا رسائل من أربعين سنة، ولكن لا التفاتة.إذاً: لعلنا مسحورون، وأنا خائف أن يكون اليهود قد سحرونا، فأصبحنا لا نقبل على الله، ولا على دينه، والسحر هو هذا، الرجل يسحر عن امرأته فيصبح يكرهها، وجائز أن اليهود سحرونا.على كل حال! نترك الأمر لله، والذي يجب علينا أن نعرف أننا عبيد الله، فلنفزع إليه حتى تنتهي هذه الفتن والإحن، والمحن، والفوضى، وكل مؤمن يقول: أنا مسلم، ويلزم الصمت، ويعبد الله عز وجل، ويكف لسانه وفرجه.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (75)
الحلقة (82)
تفسير سورة البقرة (45)
كثيراً ما نغفل عن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا نحن المسلمين، وهي نعمة الإسلام، في حين عرف اليهود عظم هذه النعمة، فحسدونا عليها، وتمنوا لو نرجع مثلهم كفاراً، نصارى أو وثنيين أو أي شيء آخر، إلا أن نكون مسلمين، فتباً لهم كيف عرفوا الحق وأعرضوا عنه، ومع هذا أمرنا الله سبحانه بالعفو والصفح عنهم حتى يأتي أمره بشيء آخر، كما أمرنا بالثبات على الإسلام؛ لأن فيه الفلاح لنا، والغيظ لأولئك.
تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:109-110].
كيد كثير من أهل الكتاب للمؤمنين وإرادة كفرهم
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البقرة:109] هذا خبر، والمخبر هو الله جل جلاله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109] ونحن نصدق خبر الله.ومن الجائز أن يكذب غير الله والمرسلين والأنبياء، أما الله عز وجل؛ العليم الحكيم فهذا خبره، ومن شك فيه كفر.قوله: وَدَّ بمعنى: أحب ورغب فوق العادة كَثِيرٌ وهذا من الاحتراز المطلوب، ولم يقل: ود الذين كفروا من أهل الكتاب إنما قال: وَدَّ كَثِيرٌ وقد يوجد فرد وأفراد في المدينة .. في القرية .. في الإقليم .. في قرن من القرون لا يودون هذا الود الباطل الفاسد الناتج عن الحسد، لكن صيغة (كثير) دالة على أن كثيراً من أهل الكتاب -وهم اليهود والنصارى- يودون كفرنا، وأن نخرج من إسلامناً؛ لنتساوى معهم. لا يريدوننا أن نظفر، ونفوز، ونعلو، ونسمو، ونسود، ونقود، ونحكم، ونعلم، وهم جهلة .. فسقة .. فسدة بمعنى الكلمة، فما يرضون بهذا، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].أما جمعيات التنصير ورجالها فهم يعملون إلى هذه الدقيقة ليل نهار، والأموال تغدق عليهم من المنظمات والشركات والمؤسسات، ولا همّ لهم إلا أن يخرجوا المسلمين من دين الله، أما اليهود فلا تسأل، فهم أقلية وضعفة، ولكن مكرهم وكيدهم أمر عظيم، فيستطيعون أن يخرجوا المسلمين من دينهم بالابتسامة.إذاً: ماذا نفعل والواقع هو هذا؟إن الله عز وجل أراد بهذا أن يحذرنا لنحذر .. أن ينبهنا لننتبه، ولنعرف من هو العدو الذي يريد أن يسلبنا نور الله، وأن يرمي بنا في مزابل الحياة، إنهم الكثير من اليهود والنصارى.قوله: لَوْ وهذه للتمني لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ [البقرة:109] بالله ولقائه .. بالله وكتبه ورسله .. بالله وقضائه وقدره .. بالله ووعده ووعيده، إذ هذه هي الطاقات الدافعة.وكثيراً ما نقول: الإيمان الحق بمثابة الطاقة الدافعة، والقطار ذو العشرين عربة، تدفعه طاقة واحدة، والطائرة التي تحمل ستمائة نفس تدفعها الطاقة، فالإيمان بمثابة الطاقة الدافعة، فإذا قوي تحول الآدمي إلى أسد، وإذا ضعف أهان العبد، وأصبح كالهر أو دوناً من الهر، وإذا قويت هذه الطاقة في النفس صام الدهر .. خاض المعارك .. جاع .. صبر، واستطاع أن يصبر على الغريزة خمساً وعشرين سنة، وهو ينتقل من ثغر إلى آخر .. يجاهد، ولم يعرف النساء، ولم يفكر في الخروج.وصاحب هذه الطاقة إذا وضعت بين يديه أطنان الذهب والفضة، وهو يعرف أن هذا ليس له، وأنها محرمة عليه، فوالله لن يمد يده إليها، ولا التمس منها ريالاً واحداً.ونؤمن بما أمرنا الله أن نؤمن به من الغيب والشهادة، فلو أخبرنا تعالى أو أخبرنا رسوله بأن هذا الجدار سيتصدع وتخرج منه دابة، قلنا: آمنا بالله، ولا نقول كيف؟ أو متى؟ أو لم؟ أو مستحيل، أو هذا غير معقول، والله ما نقول هذا، وهذا الإيمان صاحبه كأنه يشاهد الله .. كأنه يعيش مع الله، وهو كذلك، والله إننا لمع الله، ولكننا غافلون ومخدرون؛ ما نشعر، أما قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]؟ بلى. فكيف -إذاً- نجرؤ على أن نقول الباطل، أو نرتكب المنكر، أو نفحش في قول أو عمل، وأنت مع الله، والله ينظر إليك؟ولا يفهمن عاقل أن هذه دعوة إلى الحلولية، معاذ الله، فالله فوق عرشه بائن من خلقه، وإنما نحن بين يديه، فهذا القمر؛ الكوكب المنير، الآن يطلع وحيثما كنت هو معك، وليس بلاصق بك أو جالس معك، إنما هو معك، والله الذي يقول عن نفسه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].فهل تريد أن تفهم أنك لست مع الله؟حركاتك .. سكناتك .. خواطر قلبك ونفسك، والكل بين يدي الله.الله الله لو تغلغل هذا الإيمان في قلوب البشر، وأصبحوا يعيشون مع الله، فمن يجرؤ أن يسب مؤمناً أو أخاك؟من يقدر على أن ينظر نظرة حرمها الله، فتأمن البلاد والعباد، فلا سرقة .. ولا زنا .. ولا كذب .. ولا غش .. ولا خداع .. ولا شح .. ولا بخل .. ولا باطل .. ولا زور، سبحان الله! فأصبحنا في جنة الدنيا، وكأننا في الملكوت الأعلى، وهذا الذي من أجله أنزل الله الكتاب وبعث الرسول.إذاً: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109]، والكفار: جمع كافر.والكفر لغة هو: التغطية، حتى إن الفلاح الذي يبذر البذر في الأرض ويكفره بالتراب؛ حتى لا تلتقطه الطيور، يقال فيه: كافر، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20]، كمثل مطر نزل فأعجب الفلاحين نباته.فالكفر: التغطية والدس.فكيف يكفر الله يا عبد؟! هل هناك من يقدر على أن يستر الله ويغطيه؟نعم، يكفر الله فيقول: لا وجود له. يقال له: أين الله؟ يقول: غير معلوم، ولا معروف، ولا موجود، ولا ظاهر، فهذا قد كفر الله بالنسبة إليه، ولمن يعلمهم الكفر. فالكفر هو الجحود والتغطية.ويريد أعداء الإسلام من أهل الكتاب في الزمان الماضي والحالي والمقبل والمستقبل، يريدون ألا نقول: لا إله إلا الله. يريدون أن نقول: الآلهة ثلاثة أقانيم: الروح القدس، والأب، والابن.والعجب من هذه الخرافة كيف تستقر في عقول الحكماء .. الأطباء .. الطيارين .. الخبراء، وتستقر في أذهانهم: أن الله مكون من ثلاثة أقانيم، وهذا هو الإله.ولنترك هذا إذ عافانا الله منه ونجانا، ولكن فقط نذكر أعداءنا؛ لنحترس منهم، ونتحفظ منهم، ونعرف ما يحملون لنا من مكر وكيد لإطفاء هذا النور علينا ونصبح أمثالهم.فأندية اللواط الآن في أوروبا تفتح علانية، أما الإجرام، والتلصص، والخيانة، والكذب فحدث ولا حرج، أما المروءة والفحولة فقد انتهيتا، أما أما.. ومع هذا ما شعروا بالنقص أبداً، فما زالوا منتفخين؛ منتفشين؛ ولعل السر في ذلك أنهم يريدون أن يجذبونا إليهم، وأن ينقلونا إلى ساحاتهم؛ لنصبح مثلهم، إذ هذا الذي أخبر تعالى به: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].
حسد اليهود هو سبب عدائهم للمؤمنين
قال تعالى بعد ذلك: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109]، فذكر العلة والسبب التي من أجلها يودون كفرنا، وإخراجنا من ملة الإسلام، ألا وهو الحسد.ما هو الحسد؟الحسد معاشر المستمعين والمستمعات: داء الأمم من قبلنا، وهو داء خطير، أخطر من أدواء الجسم، من الإيدز إلى الملاريا، وهذا الداء هو الذي يتسبب في كل فتنة تقع.
أنواع الحسد
والحسد عندنا ثلاثة أنواع:النوع الأول: أن يتمنى -وأعيذك بالله يا سامعي- المرء زوال النعمة عن فلان، فلو كان فلان غنياً فإن الحاسد يود في قلبه .. في نفسه، وقد ينطق بلسانه فيقول: لو سلب الله هذا المال، وأصبح فقيراً مثلنا. هذا نوع.وأخطر منه: أن يتمنى زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له هو.ومثال النوع الأول أيضاً أن ترى رجلاً جميلاً سليماً صحيحاً فتقول: آه لو كنت مثله، وتحب من كل قلبك أن تكون هذه النعمة لك أنت دونه، وهذا النوع أخف من النوع الثاني الذي يتمنى فيه صاحبه زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له، فالمهم أن يراه فقيراً أو أعمى أو ذليلاً، ولو لم يحصل له ذلك النعيم الذي حسده من أجله.فهيا نطهر قلوبنا، فلا يبيتن أحدنا ليلة إلا وقلبه خال من هذه الأمنيات الكاذبة الفاسدة.فإذا أعطى الله فلاناً! فهذا ربه الذي أعطاه وليس أنت، فوهبه علماً .. مالاً .. شرفاً .. صحة بدنية، ووهبه ما شاء، فاسأل الله أن يعطيك مثله، فأنت عبده وهو عبده، أما أن تعترض على الله وتقول: لم أعطاه وأنا ما أعطاني، فهذا الموقف لا يقفه ذو إيمان؛ لأنه سفَّه الله عز وجل، وادعى أنه ظلم ولم يعدل، فكيف يعطي فلاناً ولا يعطيني؟ وهذا الموقف لا يقفه مؤمن بحق.أما النوع الثاني: فيتمنى زوال هذه النعمة ولو لم تحصل له، فالمهم ألا يراه يركب هذه السيارة أو هذه البغلة أو الدابة.وهناك نوع ثالث أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الحسد، وهو في الحقيقة غبطة وليس بحسد، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين )، الأولى: أن ترى رجلاً ذا علم يعمل بعلمه ويعلمه، فتتمنى على الله أن لو تكون مثله، فأنت تعلم وتعمل بعلمك وتعلمه الليل والنهار، قال: ( رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ليل نهاراً )، فهذا الاغتباط محمود.أو ترى رجلاً غنياً؛ ثرياً؛ كثير المال، ينفقه ليل نهار، ويده سحاء الليل والنهار، فتسأل الله أن لو يكون لك مال فتفعل مثلما يفعل هذا الرجل السخي الكريم، الذي يطعم الفقراء والمساكين، وهذا التمني محمود، وإن سماه الرسول حسداً؛ لأن فيه معنى الحسد؛ لنظره إلى نعمة الغير، لكن ما نظر إليها ليسلبها صاحبها أو يتمنى سلبها، وإنما ود أن لو كان مثله ليفعل ما يفعل، فذاك أعطاه الله القرآن، والعلم، والحكمة، فهو يعلم، ويعمل، ويهدي الناس، وطبعاً كل ذي رغبة في الكمال يود لو كان مثله. والثاني: يرى ثرياً من أثرياء الناس، وهو ينفق ماله الليل والنهار، فيود لو كان له مثل هذا المال، ليفعل مثلما فعل هذا المؤمن، فهذا الحسد المحمود.
ظهور الحق لليهود وإعراضهم عنه
قال تعالى بعد ذلك ذاكراً علة أخرى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، وقد عرفتم أن اليهود كانوا يتطلعون إلى النبوة المحمدية، فنزحوا من الشام إلى المدينة من أجلها، إذ بشارات عيسى وموسى عليهما السلام موجودة في الإنجيل والتوراة، فنزحوا إلى هذه البلاد، وسكنوا المدينة مهاجر النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انتظاراً للبعثة المحمدية، ليؤمنوا به، ويقاتلوا العرب والعجم دونه، ويستردوا ملكهم، وشرفهم، وكمالهم.وكانوا يتطلعون لاسيما لما بعث الرسول، فقضى ثلاث عشرة سنة في مكة وهم بالمدينة يتحسسون الأخبار، ويترصدون الأنباء بصورة عجيبة، وينتظرون، فما إن نزل المدينة في السنة الأولى من الهجرة، وشاء الله أن تتم وقعة بدر، وينتصر فيها، فاسودت وجوههم، وتغيرت قلوبهم، وانتكسوا، وأعلنوا عن عدائهم، فالأمل الذي كانوا يأملونه ضاع، وعرفوا أنه ليس لهم، فتواصوا ألا يدخل أحد في دينه، ونافق من نافق، ودخل نفاقاً فقط لإفساد الملة، وإحباطاً لهذه الدعوة، وكان خيارهم .. أفاضلهم -بالنسبة إليهم- في الصباح يأتون إلى المسجد ويشهدون شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويظلون مع الرسول، وفي الليل يكفرون للفتنة، آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، فيوجدون الفتنة والبلبلة في نفوس الناس: فلان دخل الإسلام فكيف خرج؟ هل وجده لا شيء؟ فينشرون مجموعة من الخرافات أو الضلالات فقط، وهذا هو الطابور الخامس للفتنة أو الشائعات الباطلة، إلى هذا الحد.ولا عجب في قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ [البقرة:109]، أنه أي: الإسلام ورسوله وكتابه هو الحق، الذي ما وراءه إلا الباطل، فهذا الذي حملهم وجمع قلوبهم على العداء للإسلام والمسلمين: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، أما قبل أن يعرفوه فكانوا مترددين أو متحفظين، لكن بعدما ظهر أنه هو الذي يرفع، ويعز، ويكرم، ويعلي شأن العبد عرفوا هذا، فناصبوه العداء، وأعلنوا الحرب عليه.
معنى قوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)
قال تعالى في خطابنا أيها المؤمنون: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، والعفو معناه: عدم المؤاخذة، والصفح معناه: الإعراض، أي: أن تعطي عدوك صفحة وجهك، فتعرض عنه، لا تسب، ولا تشتم، ولا تعير، ولا تقبح.قوله: فَاعْفُوا أي: أيها المؤمنون! لأن ساعة الجهاد ما حلت .. ما دقت، ولا سب، ولا شتم، ولا كذب، ولا تصفعه، ولا ترفع يديك عليه، بل أعرض عنه، وأعطه صفحة وجهك، وامش.قوله: وَاصْفَحُوا أي: عمن يؤذيكم، ويريد إلقاءكم في الفتنة، وإيقاد النار بينكم، ففي هذا الظرف بالذات ليس لكم قدرة على القتال، ولا عدة ولا عتاد، فما عليكم إلا العفو والصفح.وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى متى؟ قال حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ متى؟ الله أعلم، أي: حتى تتحد الكلمة، وتكون لكم عدة وعتاد، فحينئذٍ بسم الله.وأمر الله آت لا يعجزه شيء، وهذا الأمر هو أن يؤهلكم لحمل السلاح والقتال وإعلان الحرب، وما دمتم ضعفة .. عجزة .. مشتتين، فخمسة هنا وعشرة هناك، لا يشكلون مدينة واحدة، فما أذن ربكم في القتال؛ لأنه لا يريد إهلاككم وتدميركم.قال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .دعونا ندخل في السياسة قليلاً، فالآن قلوب المؤمنين تقطر دماً مما يصيب إخواننا في فلسطين، فأنواع العذاب تصب عليهم، ونحن نبكي فقط، ولو كنا صادقين لأقبلنا على الله عز وجل فتبنا إليه، وأقبلنا في صدق عليه، فحرمنا ما حرم، وأحللنا ما أحل، وعمرنا بيوته بالبكاء والدموع، وتآخينا، وتواددنا، وتحاببنا، وتقوينا، وأصبحنا ذوي قدرة وقوة، فيأذن الله لنا بالقتال، وينصرنا؛ لأنه وعد.والذي آلمنا وأحزننا وأكربنا أننا نجد إخواننا يعذبون، ونحن نشجعهم، ونسمي تلك الحال الانتفاضة، الانتفاضة! ونحن مطوقون إسرائيل تطويقاً كاملاً: من الجنوب .. من الشمال .. من الشرق.. من الغرب، ونحن نملك من العتاد والسلاح ما لا تملكه، ونقول للعزل المساكين الذين هم تحت الحصار ووراء الأسوار: قاتلوا بالسب، والشتم، والحجارة والبطاطس و.. و.. وهذا المظهر كم من مرة نحلف ونقول: والله لو كان رسول الله بيننا ما سمح لهم بهذا أبداً، ولا يطلب إليهم أن يعلنوا عداهم لليهود أعداءهم حتى يفرج الله ما بهم، ونأخذ هذا من قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109].فالمسلمون الآن مع الضعف والعجز، المفروض أن يسلكوا هذا المسلك الرباني، إذ قال لهم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقد كنت أود من إذاعاتنا الإسلامية وكتابنا أن يقولوا لإخواننا: اصبروا، املئوا بيوت الله بالبكاء، والصلاة، والدعاء، وتحابوا، وتوادوا، وأظهروا الإسلام حتى يفرج الله عز وجل، ولا نقول لهم: اثبتوا على السب، والشتم، والتعيير، والاغتيالات، كأننا ما عرفنا كتاب الله، ولا عرفنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول كان أصحابه يعذبون في مكة بأبشع أنواع العذاب، ويغمسون في الماء حتى الموت، ويسحبون على الرمضاء والأرض الحارة، وما قال لواحد: سب ولا اشتم، بل قال: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، ويشكون فيقول: اصبروا اصبروا!وجاء المدينة، فحصل الذي حصل بمكة، واسمع ما يقول لهم: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، إلى متى؟ إلى ساعة، وهي أن توجد لنا القدرة على القتال، والطاقة على الدفع، وحينئذٍ القتال كما سيأتي.لماذا لا يفهم المسلمون هذا؟لأنهم بعدوا عن القرآن، فالقرآن يقرأ على الموتى فقط، ولا يقرأ على الأحياء، وهذا الذي نقوله: دلوني على رجل يمر بأخيه يقول له: من فضلك اجلس اقرأ علي من القرآن، فأتدبر، وأتأمل فيه. هاتوا؟ لا أحد.إذاً: هذه عبر الكتاب الكريم.قال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، بعدما تبين لنا، وعلمنا أن أعداءنا اليهود والنصارى، وأنهم لا يودون أن نفتقر فقط أو نذل، بل يودون أن نكفر، وما بعد مصيبة الكفر من مصيبة، ومع هذا يقول: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة:109]، لأنكم أقلية وضعفة لا تقدرون على خوض المعركة والحرب، فاصبروا حتى يتم عددكم وعتادكم، وحينئذٍ يأتي الإذن من مولى الجميع .. من رب العالمين.
استقلال المسلمين عن الاستعمار وتنكرهم للإسلام
أذن الله تعالى بالقتال كما في سورة الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:39-40] وعزة الله لينصرن الله من ينصره، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40-41].ولقد استقل المسلمون استقلالاً كاملاً من سلطة الاستعمار الغربي، من أسبانيا إلى هولندا، فما استطاع إقليم واحد أو مملكة أو سلطنة أو جمهورية أن يطيعوا الله في أربع كلمات، أمسحورون أو ماذا؟!الحمد لله أننا في بعض الخير.الله عز وجل أذن لنا في القتال لما تقوينا وقدرنا، وعلمنا أن هذا القتال ضروري وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ثق بالله العظيم ما تخلف وعد الله، فما من أحد نصر الله إلا نصره الله.لكن كيف أنصر ربي؟أنصره في دينه .. في رسوله .. في أوليائه .. في شرعه. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ [الحج:40]، هل هناك قوة خرجت عن هبة الله؟ ما من قوة إلا والله واهبها، فهو على كل شيء قدير، عزيز لا يمانع في شيء، كيف -إذاً- يعد ويخلف؟ والله ما أخلف: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40].اسمع.. اسمع! تكونت تلك المملكة الإسلامية من وراء نهر السند إلى وراء الأسبان في خمس وعشرين سنة فقط بأيامها ولياليها، فهذا وعد الله: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:40-41] ماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].أعود فأقول وابكوا إن شئتم أو اضحكوا: استقلت ثلاثة وأربعون دولة من إندونيسيا إلى موريتانيا فما أقيمت الصلاة في بلد، فقط من شاء أن يصلي ومن شاء أن يغني، وما جبيت زكاة ووزعت على فقراء المؤمنين في تلك الديار وخارجها أبداً.وما وجد من يأمر بالمعروف وينهى عن منكر.ولو أن منظمة تكون في كل قرية من ثلاثة أنصار، من رجال العلم وكبار السن: أنتم مسئولون عن القرية، فإذا شاهدتم منكراً أطفئوه وأحبطوه، وغيروه وأزيلوه، وإذا شاهدتم معروفاً ترك بين إخوانكم فمروا به، وألزموا به حتى يفعله الناس.يحار العقل كيف نستقل من سلطة بريطانيا من أجل أن نقيم شرع الله ودين الله؛ لنعبد الله، ثم ننتكس ونتغير ونتنكر لدين الله، وما زالت غضبة الله ما هي ببعيدة، فلا يفرحن الغافلون.سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].وآية هذا أن الله أذلنا لليهود، وليس اليهود هم الذين أذلونا، فهم حفنة عددها خمسة ملايين، فوالله لا أذلنا إلا الله، وهو الذي سلب معارفنا، وعقولنا، وطاقاتنا، وتركنا كالبهائم.وفعل بنا هذا؛ لأنه مكننا فطردنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا من ديارنا، وأصبحنا نحن السادة الحاكمون، وما علينا إلا أن نأمر الناس بعبادة الله، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لكن كان قولنا: لا لا.هل فهم السامعون والسامعات أو لا؟فإن قال قائل: يا شيخ! دعنا من الماضي.
مقومات النصر والتمكين
أقول: ما المانع لأي بلد إسلامي أن يجبر المؤمنين على أن يغشوا بيوت الله، ويشهدوا الصلوات الخمس، ولا يتخلف أحد أبداً؟ما المانع أن تجبى الزكاة باسم الزكاة فريضة الله، وقاعدة الإسلام الخامسة؟ما المانع أن يوجد في كل قرية وفي كل حي مجموعة موظفون براتب، ومهمتهم أن يشاهدوا أحوال الناس، فإذا شاهدوا منكراً غيروه، فإن الرسول ألزمنا بهذا: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه )، وإذا رأوا معروفاً متروكاً أمروا الناس به ليفعلوه.فاحفظوا لنا هذه النعمة؛ حتى يبقى أمننا، ورخاؤنا، وطهرنا، وصفاؤنا، ونخشى أن نسلب هذا النعيم إذا ما سلكنا هذا السبيل؛ سبيل الله عز وجل.هل وجد هذا؟ نعم وجد من يقول: هذا تأخر ورجعية، ولكن الله أرانا آية من آياتها.وهذه الديار ديار الإيمان قبل وجود دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كيف كانت هذه البلاد؟ ما حدثكم آباؤكم؟آه، كان الحاج يسقونه الماء الحار حتى يخرج الدينار من بطنه.كانت القبور تعبد أكثر مما تعبد في دياركم، وكانت الأشجار تعبد، وكانت جاهلية عمياء.كيف تحولت؟ والله ما تستطيع أمريكا ولا روسيا الحمراء ولا أي بلد أن يفعل هذا، فيتحقق أمن تمشي من طرف المملكة إلى آخرها لا تخاف إلا الله، والله إن بيوتاً تبيت بلا أبواب، والله إن باعة الذهب لا يضعون إلا خرقة على دكاكينهم.كيف تم كل هذا؟ هل تم بالسحر .. بالمال؟أين المسلمون؟ ما لهم عموا؟ ألا يشاهدون هذا؟فقط؛ لأن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود غفر الله له ورحمه، لما حاول أن يوجد الدولة الإسلامية عزم أن يقيمها على هذه الدعائم الأربعة التي لا تقوم دولة أبداً إلا عليها، وإلا فهي دولة هاوية السلك، وسلطانها -وإن طال الزمان- إلى هلاك، فأوجد الأمر بالصلاة كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وهذا وقتكم يا عباد الله قبل أن تعلن الحرب؛ لأن إقام الصلاة بالمعنى الذي يريد الله إذا قال: حي على الصلاة لم يبق باب مفتوحاً، والله لقد كان أحدهم في يده المطرقة يرفعها ليضرب الحديد فإذا سمع حي على الصلاة وضعها جانباً، وكان أحدهم الإبرة في يده يخيط بها، فإذا سمع: حي على الصلاة ما يدخلها في الكتان ويأتي الصلاة.أما نحن فما عرفنا إقامة الصلاة، وإنها -والله- لخير من كل قوى الأمن الموجودة في بلاد العالم؛ من بوليس ونظام ودقة، ومع كل ذلك فإن هناك السرقة، والتلصص، والجرائم، فما نفع البوليس، ووالله لو أقيمت الصلاة في قرية أو بلد أو عالم كما يريد الله ما احتجنا إلى شيء اسمه بوليس، وما وجدت سرقة إلا في الدهر مرة، في شاذ من الشواذ.وللأسف أن المسلمين عمي، لا يبصرون أبداً.وإلى الآن ما بلغنا أن حاكماً استفاق وقال: لم لا نؤسس دولتنا من جديد على هذه الدعائم الأربع التي شاهدنا آثارها في هذه الديار، وهل يكلف هذا شيئاً؟ والله لا يكلف شيء.وإنما هو قانون يبتدئ بقضية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي كل قرية وكل حي مجموعة من خمسة أشخاص أو ستة يقال لهم: أنتم الرقباء .. أنتم الحماة .. أنتم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فلا يتخلف عن الصلاة أحد، وتدخل الأمة في بيوت الله تبكي، وينتهي كل شر وفساد.وقد قلت من أربعين سنة: تعالوا بنا نذهب إلى المحافظة .. إلى مدير الشرطة ونقول له: أعطنا بياناً بجرائم هذا الأسبوع من سرق، ومن سب أباه، ومن فعل كذا، وفعل كذا، ونقول له: والله إن وجدنا من المقيمين للصلاة أسماء مسجلة تزيد على (5%) اذبحوني، و(95%) من تاركي الصلاة ومن المصلين اللاهين، وإلى الآن ما استطاع واحد يرد، في أي بلد إسلام، حتى في المدينة، فإن وجدنا نسبة أكثر من (5%) افعلوا ما شئتم، وذلكم لأن ربي يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وليست قوى الأمن هي التي تنهى، إنما الصلاة هي التي تنهى، ومع هذا إلى الآن ما بلغنا في بلد الأمر بالصلاة أبداً.
تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ...)
قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110]، هذه هي التربية الربانية الإلهية، فأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعطف على ذلك فعل الخيرات؛ إذ الزكاة قد لا تكفي للسلاح، والعتاد، والجهاد، والفقراء، والأغنياء. إذاً: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:110] مطلق خير تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110]، وهذا ترغيب.
إحاطة علم الله بكل شيء
وأخيراً يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110]، وهل نحن مؤمنون بأن الله بصير بأعمالنا، مطلع عليها؟ وهل نذكر هذا؟والله ما ذكره أحد واستطاع أن يغش أو يخدع، بل بلغ بنا الحد أن الخياط يخيط ثوبين: هذا للسوق، وهذا للذمة، وثوب السوق لا يحسن خياطته، وهذا لا، موصى به أو مطالب منه، هذا مثال.ومظاهر الغش والخداع بين المسلمين يعجز القلب عن تصورها، والسر أنهم لا يراقبون الله، والمراقبة ذات أثر، وكما في الحديث: ( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).وأسألكم بالله: الذي يفعل فعلاً وهو يرى أن الله يراه هل يسيء عمله ويفسده؟ لا، ولو يذكر أن الله يراه لا يستطيع أن يواصل عمله.وقد بشرنا الرسول وبين لنا هذا، فذاك الإسرائيلي الذي راود ابنة عمه عاماً كاملاً عن نفسها، وهي تتمنع لإيمانها، ولما اضطرتها الحاجة، وألجأها الفقر والخصاصة، وسلمت نفسها مكرهة لجوعها، فما إن جلس منها مجلس الرجل من امرأته وقالت له: أما تخاف الله؟ وبأي حق تفتض هذا الخاتم؟ فقام الشاب يرتعد، وترك المال، وهو يصرخ ويبكي، فهذا ذكرته فذكر؛ لأن قلبه حي، وإنما غشيته غفلة وضلالة، فما إن فطن صرخ.وإن قلنا: هذا في بني إسرائيل والعهد بينهم بعيد، فعندنا في المدينة في سوق التمار على عهد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، كانت هناك امرأة مؤمنة، وزوجها خرج في غزوة في الجهاد، فاضطرت إلى أن تخرج إلى السوق لتشتري تمراً لأطفالها، وقد كان أغلب قوتهم من التمر، فلما اشترت منه وهي محتجبة لا يرى منها شيئاً، وأرادت أن تخرج يدها وفيها النقود، شاهد كفها يلوح كالقمر فغشيه الشيطان وغطه، وقبّل تلك اليد، فانتزعت يدها منه، فاستفاق، والله إلى جبل أحد وهو يصرخ في الشوارع، يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينتف شعره، حتى دخل إلى المسجد النبوي وشكا إلى الرسول ما أصابه، وسلَّاه الرسول وصبره، وقال: ( صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] ).
مقومات المسلم الرباني
إذاً: ولو أخذنا بهدي القرآن، وعدنا للهداية القرآنية، آية من سورة العنكبوت، يقول الله في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته تابعة له، يقول له مربياً؛ معلماً؛ حتى يتخرج ربانياً، يقول له: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فهذه خطوة، اقرأ يا رسولنا ما أوحاه الله إليك من الكتاب، والله إن قراءة القرآن ليست على الموتى، ولا من أجل أن يقال: حافظ، إنما قراءة القرآن تكون للتدبر، والتفكر واجتلاء العبر، وأخذ المعاني، والهدى، والنور، فهذه القراءة لا يعادلها شيء إلا ما ذكر معها، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، فيقوى إيمانك .. تتم قدرتك .. ويحسن ما شئت من آدابك، وأخلاقك، وكمالاتك؛ لأنها طاقة كاملة من النور.قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، يا معاشر المستمعين! سلوا الفقهاء لا يقال: أقامها وهي معوجة أو ناقصة إلا إذا أداها الأداء المشروع، بكامل شروطها، وأركانها، وسننها وآدابها حتى تتولد منها تلك الطاقة النورانية المسماة بالحسنات.قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا الله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فهذان اثنان، والثالث: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].أرني مؤمناً يذكر الله بقلبه ولسانه، هل يستطيع أن يسب أو يشتم وهو يذكر؟!أرني مؤمناً يذكر الله تقرباً إليه، وتزلفاً وتملقاً إليه بذكر اسمه، وهو ينظر إلى امرأة يتلذذ بالنظر إليها!أرني ذاكراً لله في قلبه ويطفف في كيله أو وزنه! يعد وهو عازم على أن يخلف! يستدين وهو عازم على ألا يقضي ولا يرد! والله ما كان، فكل الجرائم التي ترتكب سببها النسيان، فما ذكروا الله، ولا سألوا عنه، وكل الذي يحدث من الفساد والشر ناتج عن الغفلة عن الله، إما ما عرفوه أو ما عرفوه معرفة كاملة، فنسوه وتركوه، فحصل الذي حصل.والرابعة والأخيرة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وهي كقوله: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110] فحركاتك، وسكناتك، وعملك داخل البيت وخارجه هو تحت نظر الله، فانتبه إلى أنك مراقب في سلوكك، وهذا الذي يشعر بأنه مراقب لا يستطيع أن يغش أو يفسد.وأنا أود أن تدلوني على رجل رباني عرف الله وأحبه، واستقام على طاعته أنه يفسد بينكم، وكل الفساد والشر من الغافلين والجاهلين، والذين لا بصيرة لهم.
طريق الرجوع إلى الله
إذاً: كيف نرجع؟ ما الحل يا عباد الله! ننتظر حتى يأتي عمر بن الخطاب ؟ والله لا يأتي، وإذا جاء عمر يبدأ كما قلنا لكم.عندنا الآن زوار من الشرق والغرب نقول لهم: جربوا، أما عندكم قرى؟فكل قرية فيها ثلاثمائة ساكن إلى ألف، فيتعاهد أهل القرية في صدق ألا يتخلف رجل أو امرأة إلا ذو عذر، فيشهدون كلهم صلاة المغرب والعشاء في مسجد الله .. في بيت الله، فيجتمعون، ولا يبقى في البيت أحد، ولا مقهى ولا دكان، أهل القرية كلهم في المسجد، والنساء وراء حجاب أو ستار، والفحول أمامهن، والمعلم بين أيدي الجميع، ليلة آية وأخرى حديثاً طول العام، فيتعلمون الكتاب والحكمة، وتزكى أنفسهم، وتطهر أخلاقهم، وتسمو آدابهم، وبعد سنة واحدة يتغير حال أهل الحي أو القرية، وتنتهي كل الإحن والمحن، والأباطيل والترهات، والخرافات والضلالات لأنها نور الله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، هذا الكتاب الكريم.أقول: لم لا نعمل هذا؟كذلك كتاب: (المسجد وبيت المسلم) موجود، فأهل البيت في بيتهم يجتمعون: الأطفال وأمهم يجتمعون بين يدي أبيهم، فيقرءون آية من كتاب الله ويتغنون بها بأنغام نبيلة طيبة؛ حتى يحفظوها، ويبين لهم مراد الله منها، والمطلوب ما هو، فإن كان عقيدة عقدوها، فلا تنحل من قلوبهم، وإن كان أدباً فمن تلك الساعة يلتزمون به ويتأدبون، وإن كان خلقاً تخلقوا به، وإن كان واجباً عرفوه، وإن كان منكراً تركوه.لم ما نفعل؟!والله لو جاء عمر لا يفعل إلا هذا، أما السيف فلا ينفع فينا، ما هو إلا أن نعود إلى الله؛ لأننا قادرون والحمد لله.الرسول صلى الله عليه وسلم في خمسة أيام بنى مسجد قباء، وفي أقل من شهر بنى هذا المسجد، فما نحتاج إلى عناء ولا مشقة، فالخشب والحطب موجود، نظلل به الناس عن الشمس والمطر، ونجتمع في بيوت الله.فإن قالوا: لا نستطيع.أقول: إذاً: ماذا تستطيعون؟ كيف تطلعون إلى السماء؟ بالسحر؟ أو ما عندكم أمل بأن تخترقوا السموات السبع؟فإن قال قائل: ما عرفنا يا شيخ!أقول: ما عرفتم؟! كيف أنتم مسلمون ولا تعرفون؟! أما قرأتم حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهل قام رجل في القرية وقال: يا شيخ! أنا أريد أن أزكي نفسي، فما هي أدوات التزكية؟ ما قام أحد أبداً، ولا يسأل أحد.إذاً: كيف نعرج إلى الملكوت الأعلى ونواكب النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؟!هل بالأحلام والآمال الكاذبة أو بالأنساب الفارغة؟!إن حكم الله قد صدر: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، والفتن تنتقل من بلد إلى بلد، وهي عارمة، ولا يطفؤها إلا أن نعود إلى الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (76)
الحلقة (83)
تفسير سورة البقرة (46)
كان المجتمع الإنساني -ولا زال- يعج بالأديان والعقائد المختلفة، والتي منها اليهودية والنصرانية، وكان أتباع كل ديانة يدعون أن الجنة حكر عليهم دون دليل أو برهان، فردّ الله عليهم قولهم بأن الأجر الكامل والأمن والفرح إنما هو لمن أسلم وجهه لله سبحانه، محسناً في نيته وقوله وعمله، أما جدال اليهود والنصارى وغيرهم، فالله يحكم فيه بينهم يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:111-113]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
معنى قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، القائلون هم اليهود والنصارى.فاليهو قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً. والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان صليبياً؛ نصرانياً؛ مسيحياً.ونحن نقول: لن يدخل الجنة -والله- إلا من كان مسلماً؛ حنيفياً.والآن هاتوا البرهان، فالدعاوى إذا لم تدعمها بينات دعواها باطلة، فهاتوا البرهنة على أن اليهود هم أهل الجنة وحدهم، آلله أخبر بذلك؟ وهذا كتابه.وكذلك النصارى! آلله أخبر بأنهم أهل الجنة، وسواهم محرومين منها فليتفضلوا، أين الأدلة والبراهين؟إذاً: دعوى باطلة، ولا تعدو كونها أماني كاذبة: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] فقط، والأماني لا قيمة لها، بل تذهب أدراج الرياح.نعم! إذا تمنيت على الله فاسأله، وادعه، وتضرع إليه، واعمل بمقتضيات النجاح والفوز، لا مجرد أن تتمنى، ولهذا يقول: الأماني بضائع النوكى، أي: الحمقى، فالأحمق بضاعته التمني، تجده جالساً تحت الشجرة أو في ظل الجدار ويتمنى أن تأتيه القصعة مملوءة بالرز واللحم.ونحن أيضاً نتمنى على الله كذا .. فكيف تتمنى أنت؟!إذاً: ادع، وتضرع، وابك، واعمل بالأسباب التي تصل بك إلى مرادك، أما أن تعصي الله في ذلك، ولا تلتفت إلى ما قنن أو شرع أو سن من قوانين وسنن بها يصل العبد إلى أهدافه وأغراضه وتقول: أتمنى على الله. فلا.هؤلاء اليهود والنصارى أصحاب الديانة البارزة العالية في العالم، قص الله علينا خبرهم فقال: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، ليس معناه: أن النصارى واليهود هم الذين يدخلون الجنة، ولكن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، فما عليك إلا أن تتهود وادخل، ومع هذا لحسدهم لا يسمحون لأحد أن يتهود، ومن عرض عليهم أن لديه رغبة في أن يكون -والعياذ بالله- يهودياً فلن يقبلوا، وهذا فيه نوع احتكار للجنة، فلا يدخلها إلا يهودي الأصل والنسب من أولاد إسحاق وإسرائيل، فكيف يدخل الجنة من عداهم.وكذلك النصارى يرغبون في تنصير غيرهم؛ لأنهم يعرفون أنهم إلى الهاوية .. إلى جهنم، فهذا مصير لا حد له، ولهذا بودهم أن البشرية كلها تتنصر، ويبذلون الرخيص والغالي، والنفيس والخسيس من أجل أن ينصروا البشرية، وخاصة المسلمين، وأما البوذا، والهنادك، والمجوس وغيرهم من المشركين فلا يهمهم أن يتنصروا أو لا يتنصروا، لكن المسلمون أهل الجنة، الوارثون لدار السلام، هؤلاء فازوا بها، فنصرفهم عن الإسلام.والله إن عند القسس ومن يسمون برجال الدين، خططاً لتدمير الإسلام الأمر العجب.وقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ [البقرة:111]، فهم يؤمنون بالآخرة والقيامة والحساب والجزاء، ويؤمنون كذلك بالجنة، لكن النصارى معتقدهم في الجنة أن فيها الأرواح البشرية فقط، فلا أجسام ولا أبدان ولا ذوات، نعيم روحاني فقط، كالنائم روحه في نعيم أو في جحيم، ولا جسم في ذلك ولا بدن، وهذا كفر صراح وبواح، وصاحبه كافر؛ لأنه كذب الله، وكذب رسله، وكذب العقل وكذب وكذب .. من أجل اتباعه لمشايخ الباطل ورؤساء الضلال.والنصارى إلى الآن لا يعرفون الجنة كما نعرفها، وأن ساكنها يسكنها ببدنه، وأن الأجسام ستكمل وستتحد، وتصبح على جسم واحد، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكون أبناء ثلاث وثلاثين سنة، متساويين في هذه السن، وطول الواحد منا ستون ذراعاً، أي: ثلاثون متراً في الهواء، وهذا الذي كان لأبي البشرية آدم، فلما خلق الله آدم وصوره، ونفخ فيه من روحه كان طوله الجسماني ستون ذراعاً.قال الله تعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، أي: هذا الذي يعيشون عليه، وقد قدمنا أن الأمنية والتمني إذا لم يعمل العبد على تحقيق أمنيته من طريق الوسائل المشروعة، والسنن المشروعة للوصول لهذه الأمنية، فهو أحمق، لا قيمة له، ولذا قالوا: الأماني بضائع النوكى. فالأحمق هو الذي يجلس في بيته ويتمنى أن يمتلئ حجره دراهم ودنانير.
معنى قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم ...)
قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [البقرة:111]، حكى قولهم ومعتقدهم وما يتبجحون به، وأخبر أن هذه مجرد أماني لا تتحقق بحال من الأحوال.ونحن قد عرفنا حكم الله الصادر على البشرية كلها أبيضها وأصفرها فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وقلنا غير ما مرة: هنا تقرير المصير إلى يوم القيامة أبداً، فالآدمي هو الذي يقرر مصيره بنفسه اليوم قبل أن تتغرغر، وأن تبلغ الروح إلى الحنجرة، فإن هو آمن، وعمل صالحاً حسب ما شرع الشارع الحكيم، فلا قدّم ولا أخّر، ولا زاد ولا نقص، وراعى الزمان والآن، فإن ذلك العلم ينتج زكاة روحه، وطهارة نفسه، وأصبح شبيهاً بأهل الملكوت الأعلى، الملائكة النورانيين الروحانيين، وبذلك أصبح أهلاً للجنة.أما أن يلوثها، ويخبثها، ويدرنها بأوضار الذنوب والمعاصي، ومن أقبحها الشرك والكفر، ويرجو، ويحلم، ويتمنى أن يدخل دار السلام، فوالله ما دخلها، وما هو لها بأهل أبداً.ولقد مضى حكم الله في العالمين: إِنَّ الأَبْرَارَ [الانفطار:13] ما لهم؟ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، والله لفي نعيم وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:14]، من هم الأبرار؟ ومن هم الفجار؟كل الناس يعرفون البار المطيع الصادق في طاعته لله ورسوله، فبذلك زكت نفسه، وطابت، وطهرت.والفاجر هو الذي فجر عن القانون، وخرج عن النظام، وفسق عن طاعة الله، وأقبل على معاصيه، فسودت نفسه وخبثت، وتعفنت، وما أصبح إلا كالشياطين، والشياطين لا يدخلون الجنة دار السلام، وقد طرد منها إبليس، وأبلس!إذاً: النصارى يتبجحون بأنه لن يدخل الجنة إلا من كان مسيحياً، ولو تحضر خطب القسس ومواعظهم فإنك تسمع مثل هذا الكلام، واليهود -كذلك أيضاً- في بيعهم يقولون مثل ذلك: بأن الجنة ممنوعة ومحرمة إلا على اليهود.والحمد لله نحن عندنا حكم الله فلا نقول: قال آباؤنا أو أجدادنا أو أسلافنا، بل هذا كتاب الله بين أيدينا.قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فالتقليد الأعمى لا قيمة له، فهو مذموم، وإذا قلدت غيرك لابد وأن يكون عندك دليل وبرهان تثبت به ما قلدته فيه، وهم أجيال وأمم يتبع بعضهم بعضاً على التقليد الأعمى، قالوا: الجنة لنا؛ قلنا بعدهم: الجنة لنا.قلنا لهم: ما الدليل؟ هل عندهم صك من الله عز وجل أو كتاب فيه يدرسون؟ من أين؟قال تعالى: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فهل يستطيعون أن يأتوا ببرهان أي: بحجة، ببيان، بدليل؟والله الذي لا إله غيره ما كان، ولو قدروا عليه لحاجوا به رسول الله، وطرحوه بين يديه، ولكن يطأطئون رءوسهم فيقولون: وجدنا آباءنا، وهكذا قال علماؤنا، وهذه عقيدتنا.ونحن نقول لهم: هاتوا البرهان.
تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ...)
قال تعالى: بَلَى [البقرة:112]، أي: ليس الأمر كما تزعمون وتدّعون أيها المغفلون، المغرر بهم، المخدوعون، بل القضية: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، فمن أسلم وجهه لله وهو محسن فهو صاحب الجنة ومولاها وساكنها، ومن لم يسلم وجهه لله، ولم يحسن في أمر الله فهيهات هيهات أن يكون في جوار الله، وأن ينزل دار الأبرار والسلام.
معنى قوله تعالى: (أسلم وجهه لله)
ما معنى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112]؟الإسلام عرفتموه، تقول: فلان أسلمك النقود .. أسلمته البضاعة أي: أعطيته، ومنه بيع السلم.إذاً: أسلم بمعنى: أعطى، والإسلام مصدر، تقول: أسلم يسلم إسلاماً، وفلان أسلم، قد نقول: دخل في الإسلام، ولكن حقيقته أنه أعطى قلبه ووجهه لله، فأسلم وجهه لله وأعطاه لله، فأصبح لا ينظر إلا إلى الله، ولا يحب، ولا يكره ولا يعطي، ولا يأخذ، ولا يبني، ولا يهدم، ولا يزوج، ولا يطلق، ولا ولا .. إلا وهو مع الله، فهذا هو الإسلام.
إحسان العمل وأهميته
قال تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال: أنه وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وهذه الحقيقة لا تنسوها، فقد تصلي ولا تنتج لك صلاتك جراماً أو أوقية، وقد تصوم وتخرج من صيامك بلا شيء، وقد تخوض المعارك والدماء وتخرج بلا شيء، إذ لابد من الإحسان: وهو إتقان العمل وتجويده وتحسينه، حتى ينتج الطاقة التي من شأنه أن يولدها.وهذا جبريل عليه السلام لما سأل أبا القاسم صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان، سأله كذلك عن الإحسان، فمبنى هذا الدين على ثلاث دعائم: إيمان، إسلام، إحسان. وعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف أن هذا الدين يدور على هذه الحقائق الثلاث: إيمان، إسلام، إحسان.لكن ما هو الإحسان؟قلنا: الإحسان هو إتقان العمل، وتجويده، وتحسينه حتى ينتج.وكيف تستطيع أن تحسن عملك وتجوده حتى ينتج؟الجواب: لن تستطيع إلا إذا كنت أثناء العمل كأنك تنظر إلى الله، أو على الأقل تعلم أن الله ينظر إليك.ولا تنخدع فتقول: أنا أحسن عملي، وأتقنه، وأجوده حتى ينتج الطاقة وأنت لا تراقب الله، فلن يكون هذا.فالإحسان كما في الحديث: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه -لضعفك- فإنه يراك )، فأنت بين الحالين، فإذا أخذت تتوضأ، تغتسل، تصلي، تجاهد، تقول، تقرأ، فإن كنت مع الله أحسنت عملك، وأديته على الوجه المطلوب، وبذلك ينتج لك الحسنات، وإن أنت أديتها غافلاً فإنها لا تنتج، وهذه محنتنا عامة، وهذه محنة الكل، إلا من أخذ الله بيديه.فإن سأل سائل: ماذا نصنع؟قلنا: هيا نربي أنفسنا، فنعودها ونروضها حتى نصبح دائماً مع الله، فقلوبنا ذاكرة، وألسنتنا ذاكرة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، فإذا دخلنا في الصلاة وما شعرنا أننا مع الله، ولا كنا مع الله أبداً، فكيف تنتج هذه العبادة؟!وقد ذكر أهل العلم أن بعض المصلين ليس له من صلاته إلا عُشر، ومنهم من ليس له إلا رُبع .. إلا نصف .. إلا ثلث .. إلا ثلثان، وأكملُنا من تكتب له صلاته كلها؛ لأنه من ساعة ما قال: الله أكبر هو مع الله، فيتكلم معه ويناجيه، ويسأله، ويعظمه، فهو معه لا يلتفت إلى غيره أبداً، فهذا قد صلى، وأنتجت له صلاته النور الذي به يعرف الطريق، ويسلك سبيل الرشاد.إذاً: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال أنه: وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وإسلام الوجه هو إعطاء القلب والوجه لله، أي: يعطي كله لربه، وكما قلنا دائماً: إن المسلم الحق لا يبني بناية بدون إذن الله، ولا يهدمها بدون إذن الله، ولا يسافر أو يقيم بدون إذن الله، ولا يتزوج أو يطلق بدون إذن الله؛ إذ هو لله، كما قال تعالى: إِنَّا لِلَّهِ [البقرة:156] أي: كلنا آباؤنا وأمهاتنا، فمن خلقنا؟ من رزقنا؟ من أوجدنا؟ أليس هو؟ فكيف نحن لغيره، بل نحن لله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].فمن كان لله -إذاً- عندما يأخذ في الطاعة لابد أن يحسنها حتى تثمر .. أن يجودها .. أن يتقنها؛ لأن المقصود ليس ركوعك وسجودك، إنما المقصود أنك تقضي عشر دقائق مع الله، فتتكلم معه وتناجيه، وتعرض حاجتك، وتبكي بين يديه، وتستأنس لحظة وساعة وأنت بين يدي الله، غافل معرض عن العالم بكل ما فيه، فهذا هو الإحسان، أما الدخول في العبادة بدون إحسان فلا تنتج.والشاهد: أن بعضنا يصلي ويخرج من المسجد يقول الباطل والفجر، والآخر يقول: السلام عليكم، قد فرغنا من الصلاة فيخرج يضحك، ويسب، ويشتم، فأين صلاته؟!
ضرورة استيفاء العمل لشروطه وأركانه
إذاً قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ [البقرة:112]، واو الحال، والحال أنه وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، فأيما حج أو عمرة أو صدقة أو صلاة أو أي عبادة تعبدها ولم تحسنها فاعلم أنها ذهبت أدراج الرياح، ولن تنتفع بشيء منها، إلا إذا أحسنتها، وأتقنتها، وجودتها.وهذا الإحسان غير ما مرة يتمثل في أن تكون العبادة تؤدى كما شرعها الله، فلا تزد ولا تنقص منها، ولا تقدم ولا تؤخر، فإذا شرع الله لها مكاناً تؤدى فيه فلا يمكن أن تنتج إلا فيه، وإذا عين لها زماناً ووقتاً معيناً فلا يمكن أن تنتج إذا فعلت في غير وقتها، وهذه كلها مقتضيات الإحسان.إذاً: معشر السامعين والسامعات من المؤمنين والمؤمنات! ادعى اليهود أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وادعى النصارى أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وممكن أن الذين من قبلهم من المشركين وأنواع الأمم الأخرى يكونون قد ادعوا مثلهم، والحكم الفصل في هذه القضية في قوله تعالى: بَلَى [البقرة:112]، أي: ليس الأمر كما يدعون أو كما أدعي أنا أو أنت، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] والحال أنه: وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، أي: أطاع الله طاعة سليمة، ثابتة، مستوفاة الشروط والأركان، أي: من أجل أن تولد النور، والقضية تدور حول هذا.والحمد لله أنك ترى مثل ذلك في هذه المخترعات، فتجد أن هناك (مكينة) تدور وتولد الكهرباء، ولو اختل هذا الجهاز لا يولد إلا الدخان فقط، قد أصابه الخراب في قطعة من قطعه: إما سقطت أو تغيرت، وهذه العبادات الشرعية كالصوم مثلاً نقول: يا أيها الصائمون! إن لم تحتسب صومك لله، وتلتزم بالشروط التي مشروطة للصيام، فما أنتج لك شيئاً، بل ظللت جائعاً، ظمآن ولا أجر لك.إذاً: الصائم نقول له: صم، وقبل المغرب إن رغبت أن تشرب كأس ليمون فشربت، فإنك لا تعطى أجر الصائم، والله ولا حسنة، فإن قلت: أنا عشر ساعات صائم؟! الجواب: أن القضية ليست قضية جزاء، فإن صمت لله يعطيك أجراً، وتولد الحسنات، لكن هذه العملية فسدت عليك، وأنت الذي أفسدتها، فما تثبت لك ولا حسنة واحدة، وانطفأ ذلك النور.كذلك الصلاة، أنت تصلي أربع ركعات، فإذا قلت: نزيد ركعة، أنا في صحة وعافية، هيا نصلِّ العشاء خمس ركعات، ليس هناك من يقول: صلاتك صحيحة؟ ولم لا تصح؟ هل لأني عصيت الله؟ أنا زدت فقط؟ الجواب: يقول الفقيه: إن العملية بطل مفعولها، فما تنتج لك النور الذي تطلبه، والحسنات تعطلت، فأعد صلاتك.
ثبوت الأجر على الطاعات
قوله تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، بشراكم أيها المؤمنون. مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة:112]، وماذا فعل حتى يكون له أجر؟ وماذا فعل حتى يعطى الأجر؟ فالأجر مقابل عمل؟يا عبد الله! إنه صام، ورابط، وجاهد، وأنفق ماله وجهده وصلى و.. و.. وهذه كلها أعمال لا تذهب سدى: فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة:112] على ما عبد الله به من الطاعات، فقد أسلم وجهه وحياته كلها لله. إذاً: فيكون له أجر: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [البقرة:112] والله هو الذي يتولى جزاءه.
نعمة الأمن
قوله تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، فهنا أمن وفرح، وماذا بقي بعد ذلك؟وإذا كان العبد فرحاً مسروراً وفي نفس الوقت آمناً من كل خوف، فما بعد هذا النعيم من نعيم؟!ونظير هذه الآية قوله تعالى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، إلا أن مدلول هذه مادية، والأخرى دنيوية.ودائماً نقول: سبحان الله العظيم! أكبر دولتين في العالم كانتا أمريكا وروسيا، والآن اليابان والصين، تعمل كل واحدة منهما الليل والنهار بأجهزة لا حد لها، من أجل أن تحقق لذلك الشعب التي تحكمه وتسوده أمناً، وطعاماً، وغذاء، ووالله ما أفلحت واحدة، فإن وجد الطعام ما وجد الأمن، بل يوجد في البلد الواحد الجائعون، والمجرمون، والظالمون، والخائفون.سبحان الله العظيم! لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:1-2]، وقد دمر قوى الشر، وهزم أصحاب الفيل من أجلهم، إذاً: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، وتحقق لأهل الحرم من الطعام والشراب ما لم يتحقق لأمة، وخاصة في تلك الأيام، فالأمن فقط أربعة أشهر ويعلن عن هدنة، لا يرفع فيها السلاح، وهكذا جبل الله قلوبهم وفطرها، فتتجول في أربعة أشهر حيث شئت لا تخاف، وقريش يرحلون رحلة في الصيف إلى الشام، ورحلة في الشتاء إلى اليمن، فيعودون بأرزاق وخيرات لا حد لها، فيبقون في الحرم يشربون الخمر، ويلعبون القمار، ويأكلون ويشربون، وهم آمنون مطمئنون، وهذا إفضال الله وإنعامه عليهم، لأنهم سكان حمى وحماة حرمه.ولما غزا أبرهة عميل النجاشي الكعبة، وأراد تحطيمها والقضاء على ذلك المجد، سلط الله عليهم نوعاً من الطير، طَيْرًا أَبَابِيلَ [الفيل:3]، كهذه القاذفات التي تحملها النفاثات، ودمرهم فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5]، لأجل ماذا؟ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، حتى تألف قريش رحلتيها في الشتاء والصيف، ولا تخاف إلا الله. إذاً: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، وكلما نقرأ هذه الآية ونفكر نقول: سبحان الله! الدول تعمل ليل نهار بأجهزة مختلفة، ووزارات متعددة من أجل فقط أن يؤمنوا الشعب، فلا سرقة، ولا سلب، ولا تلصص عليه، ولا أذية في عرض، ولا مال، ولا دم، فوالله ما حققوا، ومن أجل أن يحققوا الخبز للجميع ما استطاعوا.
ولاية الله سبب للأمن
لو أقبل أي شعب أو أمة على الله إقبالاً صادقاً لحقق لهم ذلك، فوالله لأطعمهم وما جاعوا، ولأمنهم وما خافوا.لكن العرب أنفسهم والمسلمون يعانون إلى الآن من الجوع والخوف، وإلى الآن ما عرفوا الطريق، وعندما لاحت لهم الاشتراكية ظنوا أنهم وصلوا، فجربوها ووجدوها سماً زعافاً.فقلنا لهم: هيا إلى الإسلام. قالوا: ما استطعنا. قلنا: لعلهم مسحورون.ما المانع أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله ونحن مسلمون؟ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112].والله لقد تحقق في هذه البلاد أمن على يد عبد العزيز والله ما تحقق في الأرض إلا أيام السلف الصالح في القرون الثلاثة، فلا سلاح، ولا طائرات، ولا قنابل، ولا ولا .. فقط قالوا: لا إله إلا الله وأقاموا دولتهم على دعائم أرادها الله، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، أقول هذا حتى تعرفوا أن الله لا يخلف وعده، فباب الله مفتوح، فأيما إقليم .. أيما شعب .. أيما جبل عليه ناس أقبلوا على الله في صدق إلا وتحقق لهم هذا الموعود: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]؛ لأنهم أصبحوا أولياءه. وليس أولياء الله: سيدي عبد القادر .. مبروك .. البدوي .. عيدروس ، إنما أولياء الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].واسمع هذا البيان: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، والقائل هو الله مالك كل شيء، والذي بيده كل شيء، وهذا الإعلان ممكن لا يكون صحيحاً: لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، فكيف إذاً لا يصدق فيما يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة، في الحيوات الثلاث: في الدنيا لا يخافون، في القبر إلى يوم القيامة لا يحزنون، ولا يخافون، في الآخرة لا يخافون ولا يحزنون.
أولياء الله موجودون في كل زمان
الآن تفتَّح العالم بعض الشيء لأسباب معروفة، منها: الاتصالات العالمية بوسائط متعددة.والله قبل فترة من الزمن عندما تدخل على أهل قرية أو مدينة، وتلقى أول رجل وتقول له: يا سيد! أنا غريب الدار، جئت الآن من بلادي وأريد أن تدلني على ولي من أولياء الله في هذه البلاد أزوره، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، فهو لا يفهم أن هناك ولياً بين الناس، وحتى لو ذهبت إلى القاهرة أو دمشق أو بغداد أو مكة فقلت: يا سيد! أنا غريب جئت إلى البلد، فدلني على ولي من أولياء الله أزوره، فوالله ما يقول إلا: امشِ ورائي حتى يصل بك إلى ضريح سيدي فلان، فهذا الولي عنده، أما أن يكون هناك ولي حي يمشي فما هناك أبداً؛ لأنهم عرفوا أن الله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فمن آذى أو عادى ولي الله فقد أعلن الله الحرب عليه، ومن أعلن الله الحرب عليه ينتصر؟! والله ما هو إلا ينكسر.ومن هنا، أهل المسجد الآن هم أولياء الله، فلا يجوز لك أن تسب أحدنا أو تشتمته أو تؤذيه أو تدفعه، أو تنظر إليه بنظرة شزرة، أو تدس يدك في جيبه تخرج ماله. فهم أولياء الله، وهل تريد أن تعلن الحرب عليك.إذاً: لما يعرف المؤمنون هذا لا تبقى سرقة، ولا خداع، ولا غش، ولا لصوص، ولا جريمة، ولا .. ولا؛ لأنهم أولياء الله، ونحن نعرف أن العامي أمام الولي يرتعد، فإذا دخل الضريح ذاب من الخشوع، فكيف -إذاً- يجد ولياً في الشارع يسبه أو يشتمه ليس بمعقول أبداً.وللأسف أن أعداء الإسلام هم الذين مسخونا، فحولوا القرآن إلى القبور، وأعوذ بالله! أن يكون القرآن يقرأ على القبور، وكيف يقرئ القرآن على ميت: هل سيتحرك .. هل سيقوم ويغتسل من الجنابة .. هل سيرد حقوق الناس، فكيف تعظه وهو ميت، لا إله إلا الله.والمسلمون لهم أكثر من ثمانمائة سنة وهم يقرءون القرآن على الموتى، وهل القرآن نزل ليقرئ على الموتى!ومثل القرآن الأولياء، فلكي يبيحوا أن ينكح الرجل امرأة جاره، ويفسد عليه زوجته ويسلب ماله، قالوا: ما هناك أولياء، فالولي سيدي فلان الذي على قبره قبة خضراء أو بيضاء، أما الشعب كله فما هناك ولي.أرأيتم كيف هبطنا، فهذا أمر عظيم، فمن ادعى أنه ولي يخشى أن يموت على سوء الخاتمة، إذاً: قل: أنا عدو الله أحسن!! أعوذ بالله.إذاً: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:112]، لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا يوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112] في الحيوات الثلاث: الدنيا، والبرزخ، والقيامة، ومن نفى عنهم الخوف والحزن؟ إنه القدير القوي.
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء...)
ذكر مباهلة وفد نجران للرسول وجدال اليهود والنصارى فيما بينهم
قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، هنا اذكروا أن نجران التي في جنوب المملكة كان فيها نصارى كثيرون، والنصرانية تحولت من الشام إليهم بالوسائط، أما اليهودية فقد كانت موجودة في الجنوب وما هناك عجب.جاء وفد مؤلف من ستين فارساً يركبون الخيول جاءوا من نجران إلى المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أخذ الإسلام ينتشر، وأنواره تطّرد في الجزيرة، جاءوا أيضاً ليجادلوا بالباطل لعلهم ينتصرون، ونزلوا ضيوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك فندق، لا شيراتون، ولا القصر الأحمر، فوزعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة ضيوفاً.إذاً نزلوا في المسجد، وقد كان جلهم علماء؛ قسس ورهبان، فجادلوا في شأن عيسى، وقد عرفتم أن الله أنزل فيهم نيفاً وثمانين آية في آل عمران، وكان الرسول محمد عربياً، لا يعرف عن عيسى ولا عن أمه شيئاً، فظنوا أنهم سيغلبونه، فإذا به يقص عليهم تاريخ جدة عيسى غير تاريخ أمه، فانبهروا، ثم طالبهم بالمباهلة، فما زالوا مصرين أنهم على الحق، فترفع الأيدي إلى الله قائلة: اللهم من كان على الحق فأبقه، ومن كان على الباطلة فأفنه. فاستعدوا! فخرج أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وخرجت فاطمة وراءه، وكان الحسن والحسين عن يمينه وشماله، وكان معهم أيضاً علي ، فما إن شاهدوا تلك الوجوه المشرقة حتى انهاروا انهياراً كاملاً، وقالوا: ويلكم! إن باهلتموه لم تبقَ فيكم عين تطرف، فاستسلموا، ورضوا بالجزية، وأن يعفوا عنهم ويتركهم.وفي خلال هذه الأيام كان اليهود الموجودون متألمين أيضاً من هذا الوفد المسيحي؛ لأنهم أعداء كعداوة الشيطان للإنسان، وهذه الحقيقة -إلى الآن- يجهلها العرب والمسلمون، فاليهودي عدوه الحق هو المسيحي، والمسيحي عدوه الحق اليهودي، أما هذه الظروف فإن السياسة لها سلطانها، وقد استطاع اليهود أن يسيطروا على العالم بالريال والدينار، فأخضعوا أوروبا في سلطانهم، وما أخضعوها بالمال فقط بل أخضعوها بأن كفروهم، فالنصارى ما بقي فيهم من يؤمن بالله، ولقائه، والدار الآخرة نسبة أكثر من (10%) وما عدا ذلك فهم ملاحدة بلاشفة، والذي فعل بهم هذا هم اليهود، بواسطة المذهب الماركسي الشيوعي، القائم على: (لا إله والحياة مادة!) ودرسوا هذا في الكليات والجامعات و.. و.. ما مضت خمسون سنة إلا وجلهم ملاحدة، وما أصبحوا يغضبون لليهود ولا لغيرهم.أما قبل هذا فلئن ينظر النصراني إلى كلب أهون ولا ينظر إلى يهودي، وحسبك أن تعرف أنهم يرون اليهود قتلة إلههم، فهم الذين صلبوا عيسى وقتلوه حسب ما زعموا.
جدال اليهود والنصارى
إذاً لما حضر وفد نجران حضر كذلك اليهود وأخذوا يتجادلون، وهاكم جدالهم في كلمة أنزلها الله في كتابه، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، فلا دين عندهم، ولا عقيدة، ولا مبدأ، ولا .. ولا شيء من الدين، وهو والله لكذلك. وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]، فاليهود قالوا: النصارى ليسوا على شيء، والنصارى قالوا: اليهود كذلك أنتم لستم على شيء.قال تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، والحال أنهم يقرءون التوراة والإنجيل، وكفر بعضهم، إذاً: فكانوا بذلك صادقين، ولو تقرأ التوراة والله ما تثبت ديانة لليهود، لأنهم قد انمحوا وخرجوا منها، ولو تقرأ الإنجيل ما يبقى أمامك نصراني، فكلهم كذبة دجالين.ولو أنك تفتح التوراة وتحصل على نسخة قليلة التحريف، وتطبق التوراة على اليهود تقول: والله ما آمنوا، وما هم بالمؤمنين؛ لأنهم يتناقضون مع كلام الله.ولو أنك تأخذ إنجيل لوقا، وتقرأ بتأني، وتنظر إلى النصارى لقلت: ما هم بمؤمنين، وما فيهم مؤمنون، وهو كذلك، ويكفي أنهم كفروا بعضهم بعضاً، وشهد الله على ذلك وأقرهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] من الدين أو الحق والصحة وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، بمعنى: أن الدعوة التي ادعاها اليهود وهي أن النصارى ليسوا على شيء ليست عن جهل، بل عن علم؛ لأنهم يقرءون التوراة، وأولئك يقرءون الإنجيل، فالكل شهد بالواقع، وبذلك أعلمنا الله أن اليهود كالنصارى ليسوا على شيء من دين الله، فإن أرادوا دين الله فليسلموا، فهذا كتاب الله بين أيديهم.
معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)
قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:113]، ليسوا وحدهم، فالذين لا يعلمون كالمجوس والصابئة .. وأمم، والمشركين يقولون هذه الدعوة.فالمجوس يقولون: لا دين إلا ديننا، وأنت إذا مشيت إلى الهند وعايشت البوذا، تجدهم لا يعترفون بدين صحيح أبداً، يقولون: الدين هذا هو الذي عندنا.أين البراهين؟ أين الحجج؟من بيده كتاب الله لم يزغ حرفاً واحداً، وكذلك من بين أيديهم رسول الله، تحلف بالله .. بالحرام مليون مرة -وإن كان لا يصح- على أنه رسول الله، والله ما حنثت ولا أخطأت، ولا يوجد نبي على الإطلاق تحلف عليه أنه موجود في هذا المكان؟هذا هو الدين الحق، لكن صرفهم عنه شهواتهم، وأطماعهم، وأهواءهم، وذنوبهم، ومساوئهم، ولو بقيت لهم عقول يفكرون بها لاهتدوا، ولكانوا يرحلون يطلبون الحق، ورضي الله عن سلمان الفارسي فكم تنقل من بلد إلى بلد، حتى وصل إلى هذه المدينة، وفي أكثر من ثلاثين سنة يبحث عن دين صحيح، وهم يرشدونه هنا وهنا وهنا.وأخيراً قالوا: إن الدين الحق سيظهر مع نبي في هذه الآونة، فنزل المدينة رقيقاً؛ عبداً، فما إن سمع بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في طوبى حتى هاج وكاد يطير.ولكن الآن من يبحث؟نعم يوجد بعض النصارى يبحثون ويجدون الإسلام، لكنهم نسبة لا تذكر.
معنى قوله تعالى: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)
وأخيراً يقول تعالى وقوله الحق: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:113]، اتركوهم لله، هو الذي يحكم بينهم فيما هم يختلفون فيه، ويجزي صاحب الحق بالحق، والباطل بالباطل، ولا حق إلا في الإسلام والمسلمين.وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (77)
الحلقة (84)
تفسير سورة البقرة (47)
كثيرة هي دعاوى الكفار والمشركين، فتراهم يزعمون أن لله ولداً، ثم يختلفون: فمنهم من يقول: لله بنات هم الملائكة، وهم مشركو العرب، واليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، وترى اليهود يفترون على النبي صلى الله عليه وسلم حين توجه إلى الكعبة بدلاً من بيت المقدس، ويدعون بطلان الإسلام بهذا التشريع، وترى المشركين يدعون أحقيتهم في البيت الحرام، ويمنعون المسلمين منه، ولكن كل هذه الدعاوى الزائفة تتلاشى أمام براهين الإيمان الساطعة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:114-117].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قد عرفنا -بما عرفنا الله تعالى من فضله في كتابه العزيز- أن اليهود كفَّروا النصارى، والنصارى كفَّروا اليهود، إذ قالت اليهود للنصارى: لستم على شيء، وقالت النصارى لليهود: لستم على شيء. وبعد هذا لا يبقى مجال لأن يشك عاقل في بطلان تلك الديانة اليهودية أو النصرانية، وقد شهد أهلها بالبطلان.ثم الله تعالى يقول: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، فشهادتهم هذه والله شهادة حق؛ لأن اليهود كفَّروا النصارى لعلمهم بما في التوراة والإنجيل، والنصارى كفَّروا اليهود أيضاً لعلمهم لا من باب العناد أو من باب الضدية: إن كفرونا نكفرهم، لا، إنما كما قال تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، إذاً: فلا يهودية ولا نصرانية.وقد تنازع هنا في هذا المسجد اليهود مع وفد نجران: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111] قال تعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، والأماني: أحلام ضائعة.إذاً: الجنة لا يدخلها العبد بكونه يهودياً أو نصرانياً، وإنما يدخلها إذا كانت نفسه طاهرة زكية، فتصبح أهلاً لمجاورة أهل الملكوت الأعلى، ولا قضية نسب وشرف، ولا نسبة إلى ملة، وإنما القضية أن عبد الله من البشر أو أمة الله منهم إن زكى نفسه فطيبها .. طهرها .. صفاها أصبحت شبيهة بأنفس وأرواح الملكوت الأعلى، أي: الملائكة. وبهذا يدخل الجنة.أما إذا كانت النفس خبيثة، منتنة، مظلمة كأنفس الشياطين فهي ليست بأهل لأن تدخل الجنة، ومن هنا كن ابن من شئت، فلو كنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أباه أو أخاه أو عمه، والله لن يغني ذلك عنك شيئاً، فانزعوا من أذهانكم فكرة النسب.والقرآن الكريم وضح هذه القضية أيما توضيح، فقد قضى على امرأتي نبيين .. رسولين: لوط ونوح بالدخول في النار، وقضى على كنعان بن نوح النبي الرسول بأنه في النار، وقضى على آزر والد إبراهيم؛ أبي الخليل حكم الله عليه أنه في النار، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن سأله عن أبيه فأخبر أنه في النار كأنما تململ وما استراح، قال: ( أبي وأبوك في النار ) فليس أبوك أنت وحدك.وأوضح من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا فاطمة! إني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار ).ونعود إلى القضية لننهيها، فلا تفهمن أبداً أن نسبتك إلى ولي أو نبي أو عبد صالح تشفع لك، وتدخل الجنة إذا كانت النفس خبيثة، وحكم الله الذي ليس فيه تردد: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].ثم لِم الناس لا يطلبون تزكية أنفسهم؟! إذاً: هم الظالمون، فيسمع أحدهم هذا الحكم، ويقرع طبلة أذنه عشرين .. ثلاثين سنة، وهو يعلم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، ولا يسأل يوماً: بِم تزكَّى النفس؟ كيف نزكيها؟فإن قيل له: المسئول عن هذا في أقصى البلاد، في شرقها وغربها، ليركبن مركوبه ويمشي إليه؛ ما دام المصير متوقف على تزكية نفسه.والأصل أن الواحد منا يسأل نفسه: أنا كيف أزكيها، وما هي الأدوات التي أزكيها بها، وكيف أستعملها يا شيخ؟لكن مع الأسف -وهذا واقع البشرية كلها إلا من رحم الله- لا يسألون، يكفي أنه مسلم .. يكفي أنه يهودي .. يكفي أنه بوذي .. يكفي أنه مجوسي .. يكفي أنه كذا، وهذه كلها أوهام وضلالات.إذا لم تزكِ نفسك يا بشري حتى تصبح كأرواح أهل السماء فلن تدخل الجنة، وهذه الحقيقة مضت بنا يوماً فلا ننساها، وقد عرفنا كيف فصل الله الحكم وبينه.لما تنازع اليهود والنصارى قال تعالى: بَلَى [البقرة:112] ليس الأمر كما يزعمون: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، لا تعطي قلبك ولا وجهك لله وتعرض عن الله ولا تستعمل أدوات التزكية التي شرعها الله، ونفسك منتنة خبيثة، وتقول: ندخل الجنة، والله إنها لحماقة، وجهل وضلال!!
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ...)
التشنيع على من يسعى في خراب المساجد ويمنع ذكر الله فيها
الآن مع هذه الآية الكريمة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ [البقرة:114]، هذا حكم عام، فلا يوجد على وجه البسيطة من هو أشد ظلماً أو أقبح ظلماً وأسوأه من شخص يمنع مساجد الله: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114].والمساجد: جمع مسجد، أي: مكان السجود لله تعالى، وأيما بناية بنيت على بسم الله، وأطلق عليها اسم مسجد يسجد فيها لله فهي مسجد، وليس هناك أظلم من إنسان يمنع الناس من الصلاة فيها، وذكر الله فيها، وتعلم الهدى والكتاب فيها.ثم لا يكتفي بالمنع، بل يسعى في خرابها، ويعمل ليل نهار على تدميرها أو إسقاطها أو إغلاق أبوابها، أو طرد الناس منها.فإن قال قائل: وهل حصل مثل هذا في التاريخ؟نقول: نعم، حصل في التاريخ القديم من قبل بختنصر عندما دمر المسجد الأقصى كاملاً، وكذلك من قبل قريش عندما منعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من دخول المسجد الحرام في السنة السادسة عام صلح الحديبية.إذاً: هذا الحكم عام؛ فأيما بشري يسعى في إفساد بيت من بيوت الله بأي نوع من الفساد، إما بمنع الناس من الصلاة فيها أو بإفسادها وهدمها أو تغيير أحوالها فيعتبر من أعظم الناس ظلماً بهذا النص الإلهي الكريم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]، والخراب والتدمير بمعنى واحد.
حكم دخول المشركين والكفار إلى المساجد
ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:114] البعداء مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114]، فقضى الله تعالى على هذه الأمة بأن تمنع كل من يريد أن يدخل بيت الله من المشركين والكافرين، وإن أرادت أن يدخل فتأذن له، فلا يدخلها قاهراً مذلاً للمؤمنين، إنما يدخلها بإذنهم لحاجة اقتضت ذلك، أما أن يدخلوا بقوة وعنف، غير مبالين بسلطان المسلمين، فهذا حرام علينا أن نذل لهم، وأن نسكن ونتركهم يدخلون بيوت الله وهم نجس، هذا في عامة المساجد.أما المسجد الحرام فلا يحل لمشرك أن يدخله، ولا يحل للمسلمين أن يأذنوا في دخول هذا المشرك إلى المسجد الحرام، إذ قال تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، والمسجد النبوي كذلك مسجد فيه حرم، وحمى حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة، فالمدينة حرام من عير إلى ثور ).إذاً: فهذان المسجدان لهما ميزتهما، فلا يسمح لكافر مشرك يهودي أو نصراني أن يدخلهما، وأما باقي المساجد فإن دخلوا بإذننا فلا حرج، أما إن يدخلوا قاهرين أو متسلطين، فلا، بل يجب أن نجاهد.إذاً قوله: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114] معناه: إن دخلوا بأمرنا وإذننا وهم أذلاء خائفون فليدخلوا، أما أن يدخلوا قاهرين فلا؛ لأنهم إذا دخلوها قاهرين فقد يبولون فيها ويدمرونها، ولكن إذا دخلوا تحت إشرافنا وبإذننا وهم في ذلك مطأطئو الرءوس منكسرون، فلا حرج، وهذا هو حكم الله: مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114].
سوء عاقبة من منع الذكر في بيوت الله وسعى في خرابها
قال تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، من هؤلاء الذين توعدهم الجبار -جل جلاله، وعظم سلطانه- بالخزي في الدنيا وعذاب الآخرة؟ إنهم -باستثناء أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله- اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئة، والبوذا، والهنادك، وكل الملل: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، لِم؟ لأنهم أعرضوا عن الله، وحاربوا مولاهم، وعادوه، وعادوا أولياءه، وحاربوه، وحاربوا أولياءه فكيف ينعم عليهم بأن يسكنهم في دار السلام؟!ولا تقولن: من الجائز أن يكونوا ما بلغتهم الدعوة.أقول: لقد بلغت هذه الدعوة الآن الشرق والغرب، فلا يوجد بلد في العالم ما بلغ أهله أن هناك ديناً إسلامياً، لا يقبل الله ديناً سواه، وهذا في كل أنحاء المعمورة.وهذا سر أن الله تعالى ختم النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه أن العالم سيكون في يوم من الأيام كمدينة واحدة، فالآن من طلوع الشمس إلى غروبها هذا العالم المسكون كأنه بلد واحد، والأنباء تتوارد، والأخبار تتساقط عليهم من العلو، والمراكب والطائرات كأنهم في بلد واحد، فلا يحتاجون إلى تعدد الرسالات.أعود فأقول: لعل بعض السامعين ما عرفوا هذه الحقيقة، وهي لِم ختم الله النبوات بنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والعالم عالم؟الجواب: علماً منه تعالى بأن العالم سيتصل ببعضه البعض، وستصبح هذه الدعوة تبلغهم من أي جانب، والآن الإذاعات من خمسين سنة وهي تذيع، والعالم كامل يسمع، والمسافة التي تمشيها في شهر وشهرين وثلاثة تمشيها الآن في ساعة، فاتصل العالم ببعضه البعض، فمن هنا نبوة واحدة ونبي واحد يكفي، بخلاف ما قبل النبوة المحمدية فالأقاليم متباعدة، فالإقليم هذا لا يعرف عن ذلك الإقليم الآخر حتى يموتوا إلا من ندر، فكان الله يبعث في كل أمة رسولاً، فيبعثه وينبؤه ويعلمها، لكن لعلمه الأزلي القديم أن العالم سيتصل ببعضه البعض، وستبلغ هذه الدعوة الشرق والغرب ختم الرسالات بهذه الرسالة، فلا يقولن قائل: ممكن البلد الفلاني ما بلغته الدعوة، فإنه لا يوجد بلد ما بلغته الدعوة في هذه الأعصر.
تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ...)
قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، ذكرنا فيما سبق أن اليهود شنعوا، وقبحوا، وأنكروا على الرسول: لم يترك بيت المقدس بعدما استقبلها سبعة عشر شهراً، والآن يستقبل بلده، ويترك بيت المقدس.وهذه المسألة دار فيها صراع ونزاع كبير في المدينة، وسيأتي بيان ذلك في الآيات الآتية.والشاهد أنهم لما تكلموا قال الله لهم: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فلا تثيروا زوبعة وفتنة في قضية القبلة، فالمشارق والمغارب كلها لله، وحيثما اتجهتم فثم وجه الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة:115] أي: وجوهكم: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].إذاً: بيان هذه القضية، اذكروا ما سمعتموه من أن العوالم هذه يقبضها الجبار في قبضته كما قال تعالى: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، والأرض يضعها في يده، ويقلبها كحبة خردل، واقرءوا قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فهذا الذي الملك كله في قبضته.فكيف نقول: لا يوجد؟نقول: أينما اتجهت فثم الله، شرّق أو غرّب، تشاءم أو تيامن، فالله عز وجل فوق الكل، فهو في كل مكان بقدرته، وعلمه مع علوه.والمثل البسيط: الشمس، لما تكون أنت تحتها حيثما اتجهت، فهي ليست معك بل بينك وبينها ما لا يعد ولا يحصى من الأميال، ولكن بكبرها وعظم جسمها -وهي أكبر من الأرض مليون ونصف المليون مرة- هي معك، فهذا المثال يقرب المعنى، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، فهل تضامون في رؤيته )، تتزاحمون حتى تشاهدوه، فحيثما وقفت رأيته.إذاً: فهذه الثورة أو الدعوى التي أقامها اليهود في قضية القبلة دعوى باطلة، فالله عز وجل ليس في بيت المقدس، ولا في مكان آخر، فالله عز وجل فوق خلقه، والخلق كله في قبضته وتحت سلطانه حيثما اتجه عبد الله هو اتجه نحو القبلة: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115] خلقاً، وملكاً، وتدبيراً فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا [البقرة:115] أيها الناس فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
حكم استقبال القبلة للصلاة
هنا القاعدة والقضية الفقهية هذا موطنها، نقول: استقبال الكعبة .. استقبال البيت لمن قدر عليه واجب، ولا تصح صلاتك إن لم تستقبل بيت الله، لكن إذا عجزت عن استقبالها، كالمريض على السرير لا يستطيع أن يستقبل البيت، ولا يجد من يوجهه، فتصح صلاته إلى غير القبلة، لقوله: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فهو أراد الله ليناجيه لكنه ما استطاع أن يستقبل، فلم يكن استقبال الكعبة شرطاً.كذلك الإنسان الخائف الذي لا يستطيع أن يستدبر المكان الذي فيه العدو، فأصبح عاجزاً عن القبلة فإنه يصلي وهو خائف، وإن كان بعيداً، منحرفاً عن القبلة، مطارداً يجري العدو وراءه فإنه يصلي حيث أمكن، وصلاته صحيحة، لأن الله قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].كذلك الجاهل الذي لا يعرف القبلة وقد اجتهد فقال: ممكن أن هنا القبلة، وقام فصلى سنة كاملة، وجاء من قال: إن هذه القبلة ليست بسليمة، والقبلة التي تركتها جهتها كذا، فصلاة هذا الجاهل صحيحة، ولا شيء عليه، واقرأ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115].
التفريق بين الفريضة والنافلة في استقبال القبلة
أما النافلة فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يركب دابته أو بغلته أو بعيره إلى غير القبلة، وكل من يركب سيارة أو بعيراً أو بغلاً يتنفل حيث اتجهت دابته، ولا يبالي؛ لأن الله قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي على راحلته، والآن نحن نصلي النافلة على السيارة، ولا حرج، لكن الفريضة لا.فالفريضة على القطار والطائرة والسيارة فيها هذا البيان: فإذا كنت سألت ربانها وقائدها فأجابك أن الطائرة سوف تنزل في المطار الفلاني قبل غروب الشمس بنصف ساعة أو بساعة، ففي هذه الحال لا تصل الظهر والعصر على الطائرة، وأخرهما جامعاً لهما جمع تأخير حتى تنزل في المطار، وتتوضأ وتصلي أو تتيمم وتصلي إن لم تجد ماء.كذلك صلاتي المغرب والعشاء؛ فإذا كنت تعلم أن الطائرة ستنزل بعد نصف الليل أو قبله، والمهم قبل الفجر، فأخر المغرب والعشاء إلى أن تنزل من على الطائرة وتصليهما على الأرض مستقبل القبلة.والصبح هو الوقت الضيق، فكذلك إن عرفت أن الطائرة تنزل في المطار قبل طلوع الشمس أخّر، وإن كنت تعرف أنها لا تنزل إلا بعد طلوع الشمس فصلّ.وهكذا الفريضة لا تصلى إلا على الأرض ما دمت مستطيعاً، والقطار كالسيارة؛ لأن بعض السائقين في غير بلادنا هذه لا يوقف سيارته، بل تجده يصرخ ولا يلتفت إليك، ولا يقف، فأنت انظر إذا خفت أن لا تصل السيارة إلى مكان إلا بعد غروب الشمس فصلّ على السيارة، فإن علمت أنك ستنزل قبل الغروب فصلّ الظهر والعصر على الأرض جمع تأخير، وهكذا المغرب والعشاء، هذا في الفريضة.أما النافلة: فتنفل كما شئت على السيارة .. على الدابة .. على البعير، واستقبل القبلة أو لا تستقبل، كيفما كانت؛ لأنها ذكر وتسبيح، والله حيثما كنت فوجهه هناك، أخذاً من قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، أي: واسع الفضل، والكرم، والإحسان .. واسع الذات جل جلاله وعظم سلطانه، عليم بخلقه، وحاجاتهم، واضطرارهم، وقدراتهم، وضعفهم، وهو الذي أذن لك.وإذا صليت إلى غير القبلة ركعة .. ركعتين، وناداك منادي أن اتجه كذا، إلى يمينك مثلاً، فيجب أن تطيعه بلا تردد.
حكم من صلى إلى غير القبلة
يبقى دقيقة أخرى فقهية: إذا صليت إلى غير القبلة وما زال الوقت، وجاء من علّمك أن القبلة هنا وليست هناك، فيستحب لك أن تعيد صلاتك، هذا إذا لم يخرج الوقت.أما إن صليت وخرج الوقت فلا إعادة إجماعاً على شرط -أيضاً- أن تجتهد، لا أنك تصلي بدون مبالاة أصبت القبلة أو أخطأت، لابد وأن تجتهد في معرفتها في حدود طاقتك، إما بالسؤال، إما بالنظر إلى الكواكب، وإما وإما .. فإن اجتهدت وصليت فصحت صلاتك، وإن أخطأت القبلة وكان الوقت ما زال، فيستحب لك أن تعيد استحباباً كالنافلة، وإن لم تعد فلا حرج.أما إذا دخل المغرب، أو طلع الفجر على المغرب والعشاء، أو طلعت الشمس فلا إعادة.
حكم صلاة النافلة والفريضة على وسائل النقل
بالنسبة إلى المراكب: على السيارة .. على البهيمة .. على أي مركوب تصلى النافلة بلا خلاف.والخلاف فقط في الفريضة، هل تصلى على الطائرة أو فوق السيارة أو القطار أو الحمار؟الجواب: لا تصلي إلا إذا خفت -موقناً- أن الوقت يخرج، أما إذا كان الوقت لا يخرج، وأنك تصل إلى الأرض قبل غروب الشمس فلا تصل الظهر ولا العصر، وأخرهما واجمعهما حتى تصليهما على الأرض، وكذا المغرب والعشاء.والنافل المطلقة صلها على أي مركوب، ونحن الآن نصلي النافلة على السيارة في شوارع المدينة خشية أن تفوتنا هذه النافلة فنصليها، ولا حرج.
حكم صلاة النافلة في الأوقات المكروهة
السؤال: هل نصلي النافلة قبل غروب الشمس .. قبل طلوعها .. بعد الطلوع . بعد الغروب؟الجواب: نقول: هناك خمسة أوقات لا نافلة فيها، وقد نهينا أن نصلي النافلة فيها، لكن ما هذه الأوقات الخمسة؟ أولاً: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، هذا وقت.ثانياً: عندما تبزغ الشمس ويطلع رأسها، فلا نافلة حتى ترتفع من الأرض مقدار متر أو أكثر، هذان وقتان.والوقت الثالث: إذا وقفت الشمس في كبد السماء، فالشمس عندما تراها، تراها طالعة في ارتفاع، ثم تصل إلى مستوى فتقف، حتى تدحض وتميل، فإذا وقفت عبدها عبادها، فلا يحل حينئذ أن تصلي النافلة؛ لأنك تشبهت بعبدة الشمس، فإذا دحضت ومالت إلى الغروب صل، ويستمر الجواز إلى أن يؤذن العصر وتميل الشمس وتصفر.رابعاً: وبعد صلاة العصر لا نافلة حتى تصفر الشمس، هذا وقت.خامساً: ومن اصفرار الشمس إلى غروبها وقت ثاني، فهذه بالتفصيل خمسة أوقات.ولا يستثنى إلا تحية المسجد، أو ركعتي الطواف فقط، فصلاة تحية المسجد إذا كانت الشمس بيضاء نقية لا تتردد، ولا تجلس حتى تصلي ركعتين في بيت الله، وفي أي مسجد دخلته إذا أردت الجلوس.أما عند الغروب والطلوع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها بصلاة )، فإذا أنت دخلت المسجد، والشمس تكاد تغمض عينها فأنت مخير، إن خفت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) وما استطعت مخالفة الحديث تصلي ولا حرج، وإن خفت أيضاً من أن الرسول نهى عن الصلاة في هذا الوقت، فهذا تشبه بعباد الشمس الذين -الآن- وقفوا يعبدون، وقلت: أنا لا أقف، فإن جلست فوالله لا شيء عليك، وأنت مأجور، عرفتم، هذا مع الطلوع والغروب.
حكم تحية المسجد والإمام يخطب الجمعة
مسألة أخرى: وهي تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة.للعلماء في هذا بحث طويل، ونحن فتح الله علينا، ووفقنا للجمع؛ حتى لا نفرق بين مالكي وحنبلي وشافعي وحنفي، فنقول: إذا دخلت يوم الجمعة والإمام على المنبر يخطب الناس فصلّ ركعتين خفيفتين، وأنت لما تأخذ تصلي ليس من حق أخيك أن يجذبك من ردائك ويقول لك: اجلس، لا حق له والله، وكذلك إذا جاء أخوك وجلس فليس من حقك أن تدفعه وتقول له: قم فصلّ؛ لأن القضية قضية علم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال للذي دخل المسجد: ( اجلس فقد آذيت )، فمن هنا لا يبقى خلاف؛ لأن الذي قرأ الفقه الحنفي أو المالكي وعرف أنه إذا كان الإمام يخطب ما يصلي، وبشواهد وأدلة يجلس فقط، فما هو آثم والله، فأنت كونك تقول له: قم، وتدفعه، لا، هو على علم، والذي جاء فصلى عملاً بما صح من سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم بدون حاجة إلى تأويله، قال: قم فصل، والرسول يخطب، وأصحاب الرأي الآخر يقولون: لأمر ما، وهي قضية بعينها.فنحن نقول: الحمد لله، يجمع الله بيننا ولا نفترق، فمن صلى إياك أن تجذبه وتقول له: حرام عليك. فقد صلى بدليل كالشمس، ومن جلس ولم يقم يصلي فلا تدفعه، ولا تقل: صلّ؛ لأنه جلس على علم أيضاً، وبهذا أصبحنا جماعة واحدة.إذا قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، هذا هو الذي به عرفنا أن الأمر واسع، وأنه لا شرط أبداً أن تستقبل القبلة إذا كنت لا تعرفها، أو إذا كنت خائفاً أو هارباً فصلّ حيثما أمكن، أما إذا كنت قادراً فلابد أن تستقبل القبلة وإلا فصلاتك لا تصح؛ لأن استقبال القبلة شرط في صحتها، لكن مع العجز وعدم العلم فلا حرج.
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون)
ادعاء الكافرين الولد لله سبحانه وتعالى
قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، هذه فرية أخرى وكذبة من الكذب، وقد تورط فيها العرب والعجم: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116] أنى يكون له ولد.والقائلون هم قبائل بني لحيان من العرب الجهلة قبل الإسلام، كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فيؤمنون بوجود الملائكة، ويعرفون هذا، لكن ينسبونهم إلى الله، فيقولون: بنات الله، والله عز وجل رد عليهم: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الصافات:153-155]. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158]، قالوا: إن الله تعالى وحاشا أصهر إلى الجن، فأنجب الملائكة: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:158] في جهنم.إذاً: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57].والشاهد عندنا أن هذا مقرر في كتاب الله، وقد انمحى أثره نهائياً من جزيرة العرب، وانتهى من يقول: الملائكة بنات الله.وبقي اليهود يقولون: عزير ابن الله، وما هي الحالة التي دعتهم إلى مثل هذه المقولة الباطلة؟تقول الأخبار: إن عزيراً عليه السلام وهو نبي من الأنبياء لما غزاهم بختنصر -عليه لعائن الله- ودمر البلاد والعباد، ومزقهم، وأخذ التوراة إلى بلاده بابل بالعراق، ففقد اليهود التوراة، والتوراة فيها ألف سورة لا تحفظ، وحفظها غير متأتي للإنسان، فأملاها عليهم عزير، فيكتبون وهو يملي، حتى فرغ منها فقالوا: هذا ابن الله، ولن يكون إلا ابن الله، كيف يحفظها، وشاعت الإشاعة، ونشرها الشيطان، ونفخ فيها، وأيدها العلماء الماديون وقالوا: عزير ابن الله، وأصبحوا يتوسلون به إلى الله، ويعبدونه مع الله.وأما النصارى فمحنتهم واضحة، ما دام عيسى عليه السلام ما له أب، فقد كان بكلمة التكوين الإلهية إذاً: من أبوه؟ قيل لهم: الله، الله هو أبوه، إذاً: عيسى ابن الله، مع أن هذه أضحوكة، فبدلاً أن يعرفوا أن عيسى كان آية من آيات الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، وحملته في ساعة فقط، نفخ جبريل عليه السلام في كم الدرع، فسرت النفخة وما هي إلا ساعة وتخلق عيسى، وجاءها المخاض إلى النخلة، وولدت: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-23].ثم أعظم من هذا أن عيسى كلمهم يوم ولادته، فهل البشري يتكلم في أسبوع الولادة أو في يومها، إنه يحتاج إلى سنتين حتى يتكلم، وهو في يدها كلموه، فقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33]، فهذا الكلام قاله يوم الولادة، وأخبر بما يؤول أمره إليه، وما كتبه الله له عليه، أبعد هذا يقال: هذا ابن الله، فهو يصرح: إني عبد الله، ولكن رؤساء الفتنة، والشياطين من الإنس والجن، والعوام، والبلهاء، والمغرور والأمم الهابطة إلى الآن، مئات الملايين يعتقدون أن عيسى ابن الله، فأية أضحوكة أعظم من هذه؟!والآن يقول بعض الخواص: لما تضغط على القس يقول: نحن لا نقول: إن الله والده ولكن من باب التشريف والتكريم فقط نقول فيه: ابن الله، أما اعتقادنا فهو يتنافى مع ما نقول، وهذه مجرد حيلة فقط، وكونك تقول: عيسى ابن الله، فإذا قلتها وكنت كاذباً فأنت كافر، ولو قال شخص: عيسى ابن الله، يقول: أنا لست مؤمناً بهذا، ونطق بها، فهذا والله خرج من الملة وكفر، والعياذ بالله، وكذب على الله.
تنزيه الله عن اتخاذ الولد
هذه الطوائف الذين سمعتم عنهم، يقول تعالى -يا للعجب-: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، أي: تقدس وتنزه أن يكون له ولد، فالذي له ملك السماوات والأرض يحتاج إلى ولد؟! أيعقل هذا؟! حدث عقلك ومنطقك عن الذي له كل الخلق من الملائكة والإنس والجن، وكلهم عبيده يستخدمهم، ويتصرف فيهم كيفما يشاء، هل يحتاج إلى ولد؟ وكيف يمكن هذا الكلام؟!قال: سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ هذه البرهنة، فلا يوجد كائن إلا والله مالكه، لا في العوالم العلوية، ولا في السفلية، أمثل هذا الغني يحتاج إلى ولد؟ وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة؟ أيعقل أن يوجد ولد بدون زوجة؟ دلونا عليه!ورضي الله عن إخواننا من الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا [الجن:1-3]، والمراد من الصاحبة: الزوجة؛ لأنها تصحبه طول حياته: مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [الجن:3-4]، فسفهاؤنا كانوا يقولون هذا الكذب الفظيع على الله عز وجل، وهذا الظلم الفاحش.إذاً هؤلاء الجن يقررون هذه الحقيقة، وأما النصارى فيطيرون في السماء، ويغوصون في الماء، ويدعون صناعة الكمبيوتر والعقل الإلكتروني، ونحن هابطون إلى هذا الهبوط، وما صحنا في النصارى يوماً من الأيام: يا نصارى! أين يذهب بعقولكم، ادخلوا في الإسلام وأبناءكم وأطفالكم ورحمة الله معكم، ويؤدبون القسس ورجال الكنائس المضللين الذين يحرفون على البشرية دين الله؛ لأنهم كالبهائم: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21].ثم قال: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116]، أي: خاضعون ذليلون، فما هناك من يرفع رأسه على الله أبداً، فالكل قانت خاضع، فيجري الله أحكامه عليهم بالموت .. بالحياة .. بالكبر .. بالصغر .. كما يشاء، وليس هناك من يقف في وجه الله، فالكل مطأطئ رأسه.
تفسير قوله تعالى: (بديع السموات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)
قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]، وهل الذي ابتدع هذا الكون وخلقه يحتاج إلى الولد، ألا يستحون .. ألا يخجلون، وهذا كشخص -مثلاً- يملك إقليماً كاملاً، وتقول: هذا الجدي له، وهو يحافظ عليه، أيحتاج إلى الجدي وهو يملك الإقليم بكامله! عيب هذا الكلام، ولكن الشياطين هي التي تفسد على البشر عقولهم وقلوبهم، وعلى الذي يسمع لها ويستجيب لها.إذاً: هذه براهين وحجج كالشمس.قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وأيضاً وَإِذَا قَضَى أَمْرًا وحكم بوجوده فقط فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، فما يحتاج إلى وسائط ولا أسباب، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وشواهد هذا لا حد لها، ولا حصر.فقوله: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا [البقرة:117] فإن قضاه أزلاً وأراد أن يكون فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (78)
الحلقة (85)
تفسير سورة البقرة (48)
الجهل سبب كل الرزايا، بما في ذلك رزية الكفر، فهاهم كفار قريش يشترطون لإيمانهم أن يكلمهم الله كفاحاً، أو تأتيهم آية، رغم أنه قد جاءتهم آيات، ولأن داء مشركي قريش والمشركين السابقين واحد، فقلوبهم واحدة، إذ كان طلب قوم موسى منه أن يروا الله جهرة حتى يؤمنوا! ولأن هذا الموقف يحزن النبي صلى الله عليه وسلم فقد بين سبحانه أن مهمة الأنبياء ومثلهم الدعاة هو البيان، وتبشير المؤمنين، وإنذار الكافرين.
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ...)
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ * وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ .. [البقرة:118-120] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
معنى قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون)
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!إليكم هذا الخبر الإلهي ومن أصدق من الله قولاً أو حديثاً، يخبر تعالى يقول: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118]، حتى يؤمنوا.أولاً: تأملوا قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118].ومن هنا نعود نذكر أنفسنا وإخواننا وكل من يقبل التذكير فنقول: إن الخبث، والشر، والظلم، والفساد هذه التي تعاني منها البشرية في العالم مردها إلى الجهل، وعلتها عدم العلم.وهذا شاهد قرآني، وخبر من أخبار الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118]، فلو كانوا يعلمون ما قالوا هذه القولة الرديئة الهابطة، لكن الجهل هو السبب، فمن هنا -وهذه القضية قررناها وتحدثنا فيها ما شاء الله- الشر، والظلم، والفساد، والخبث مبغوض مكروه لكل ذي عقل، وعلة وجود ذلك كله هو الجهل.وقد سبق أن قلنا مرات: لو انعقد مؤتمر لعلماء النفس والاجتماع والسياسة والأدب والفلك والعلوم الكونية على اختلافها، وطرحنا عليهم هذا السؤال: ما سبب الظلم الذي انتشر في العالم، والسرقات، والتلصص، والجرائم، والقتل، والاعتداء، والحروب؟ وما سبب الخبث من اللواط إلى الزنا .. إلى أفظع ما يكون، وقد خمت الدنيا بهذا الشر والفساد؟ وما سبب وجود شر عام في كل مجالات الحياة؟هل ترون أنهم يستطيعون أن يعللوا لهذا؟أما أنا فأقول: والله لا يقدرون على هذا، وما هم له بأهل، وأنتم الآن أصبحتم قادرين على التعليم، وإليكم الدليل والبرهنة، فهل بلغكم أن الأنبياء والرسل يزنون ويفجرون أو يعبثون ويأخذون الباطل ويعملون به؟أبداً، والله ما كان.هل بلغكم أن العلماء الربانيين في العالم الإسلامي يفجرون، ويسرقون، ويكذبون، ويخونون؟ والله ما كان.فهذه برهنة واضحة.أزيد إخواننا فأقول: في أي بيت، الذي يكون أعلمنا بالله وأعرفنا بما عنده هو أتقانا فيه، وأجهلنا هو الذي يكون أظلمنا وأشرنا، والله لا نتردد في هذا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وضرب الله الأمثال فقال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال لرسوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].إذاً: هذه فائدة عظيمة جليلة استفدناها من هذه الآية.ثم يجب أن نعلم أنفسنا وإخواننا، فيا من يريدون أن يصلحوا البلاد والعباد! علموا النساء والرجال والأطفال حتى يعرفوا ربهم معرفة يقينية، ويعرفوا ما يحب وما يكره، فيصبحوا أهلاً لأن يستقيموا على منهج الله، وإلا فإن الخبط، والخلط، والاضطراب، والقلق، والفتن لا تنتهي. وإياك أن تفهم أنها تنتهي بالحديد والنار، لا تنتهي إلا بالعلم، ومن أجل هذا أرسل الله الرسل.
معنى قوله تعالى: (لولا يكلمنا الله)
قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:118] ماذا قالوا؟ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [البقرة:118]، فإذا كلمنا وسمعنا كلامه آمنا بكتابه، ورسوله، وشرعه.وهذا لا يقوله عالم.ولو كلم الله الناس وخاطبهم وسمعوا كلامه ما بقي معنى للتكليف ولا للحياة كلها، إذ لو أراد الله أن يخلق البشر كالملائكة فلا يفسقون، ولا يفجرون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون لفعل، لكن الله أراد أن يمتحن البشرية والجن فيأمرهم بالإيمان بالغيب، ويكلفهم، فمن أطاعه وطلب رضاه وهداه اهتدى، ورضي عنه، وأكرمه وأنزله في جواره، ومن رغب عن ذلك وأعرض وانصرف هيأ له داراً تناسبه، وهي النار؛ عالم الشقاء.فكون الله يكلمهم كلاماً حتى يؤمنوا هذا يتنافى مع الحكمة من خلق البشر وإرسال الرسل.
معنى قوله تعالى: (أو تأتينا آية)
قوله: أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] كالتي كانت لموسى عليه السلام، فالعصا انقلبت ثعباناً تهتز كأنها جان، ويده يدخلها في جيبه ويخرجها بيضاء نقية كأنها فلقة قمر.وفي العرض الذي تم مع السحرة الذين ملئوا الوادي بالحيات والثعابين، ثغرت عصا موسى فاها، ودخل فيها كل ذلك الباطل.أو يريدون آيات كآيات عيسى في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص.فهذا الكلام طلبه من طلبه من الجهال، فقالوا: لا نؤمن بك يا محمد رسولاً، ولا بما جئت به ديناً وشرعاً حتى تأتينا آية أو يكلمنا الله، وهذا عناد ومكابرة، ولا تصح من ذي عقل فضلاً عن ذي علم.
معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين من قبلهم)
قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:118] أي: فليسوا أول من طالب بهذه المطالب التي لا تقبل ولا تعقل في دار الامتحان والابتلاء والاختبار، بل تقدم لنا أن السبعين رجلاً الذين اختارهم موسى لكلام الله، فلما سمعوا كلام الله قالوا: أرنا وجه الله؟ وبعد أن سمعوا الكلام ما اقتنعوا، فهؤلاء الذين يقولون: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ والله لو كلمهم ما آمنوا، ولا قبلوا، بل يزدادون عناداً.وسبق أن هؤلاء السبعين الممتازين اختارهم موسى إلى جبل الطور، وسمعوا كلام الله: فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، فالهداية بيد الله، فمن طلبها من الله في صدق هداه الله، ومن استنكف، وتكبر، وأعرض أضله الله.وقوله: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أي: كما يقولون.
معنى قوله تعالى: (تشابهت قلوبهم)
قال تعالى: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118]، أي: تشابهت قلوب الأولين والآخرين .. قلوب المعاندين والمكابرين.لكن ما سبب تشابه القلوب؟ فالقلوب من حيث هذا العضو الصنوبري متساوية، لكن مختلفة في الفهم والإدراك، والعلم، والمعرفة. فما سر هذا التشابه بين قلوبهم؟إنه الشيطان الذي أغوى آدم حتى أخرجه من الجنة، فالشيطان الذي أغوى من أغوى من البشر والجن واحد، فمن هنا القلوب متشابهة، فالباطل الذي يقوله أحد الناس اليوم يقوله من يأتي بعد قرن، والقول الذي يقوله المبطل اليوم قد قيل من قبله بمئات بل بآلاف السنين؛ لأن الدافع أو المحرك أو المزين أو الباعث واحد، فالصنعة -إذاً- واحدة، والبضاعة واحدة؛ ولأن مروّجها واحد هو الشيطان.قال: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فيمَ تشابهت؟تشابهت في الجهل، والكفر، والظلم، والعناد؛ لأن الباعث على هذا الفساد والشر هو إبليس -عليه لعائن الله-، وقد قال وهو بين يدي الله: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]، فمن هنا تشابهت القلوب، فثقوا وافهموا واعلموا أن ما يقوله الضال اليوم فقد سبق أن قاله الضلال منذ ألف سنة، وعشرة آلاف سنة؛ لأن الدافع واحد، والمحرك واحد، وليس هناك اختلاف.
معنى قوله تعالى: (قد بينا الآيات لقوم يوقنون)
قال تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118]، الذين أيقنوا بعد أن علموا أنها تنزيل العزيز الحكيم، فآيات القرآن المبينة المفصلة، المظهرة للحق، المميزة له من الباطل، هذه الآيات قد بينت بالأدلة القطعية، والبراهين الساطعة والحجج التي لا ترد ما كذب به هؤلاء المكذبون، وكفر به هؤلاء الكافرون؛ وذلك من وجود الله الحي القيوم، السميع البصير، العليم الخبير، وأنه لا إله إلا هو، وأن سائر الآلهة المدعاة المعبودة باطلة، وأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه ذو قدرة لا يعجزها شيء، وعلم أحاط بكل شيء، وحكمة ما خلا منها شيء، أكثر من أن يشاهدوا آية فجأة وتنتهي، كأن يكلمهم ساعة ويسمعون كلامه، ثم يقولون: ما سمعنا، أو يحيي لهم ميت أو أمواتاً ثم يقولون: سحركم، وكيف يحيا الميت!وهذا أخبر تعالى عنه من سورة الحجر: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14]، وهل هناك أعظم من هذا؟ إنها رحلة إلى الملكوت الأعلى، فتعالوا أنتم وأبناءكم ونساءكم، واصعدوا إلى السماء السابعة، ثم انزلوا، فهل يقولون حقاً: ما رأيناه آمنا به، لا إله إلا الله محمد رسول الله. والله ما قالوا إلا: سحر أعينكم، أنتم مجانين! هل هناك من يصعد إلى السماء؟ لأن الذين يصعدون مجموعة: عشرة .. عشرون .. ثلاثون، فيظلون في الملكوت الأعلى، وفي المساء يقولون: صعدنا. فيقال لهم: أنتم مجانين. وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ [الحجر:14] طول النهار يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15]، لِم هذا؟ لأن أناساً كتب الله شقاءهم في كتاب المقادير، وهم أهل العذاب الدائم الثابت المقيم، وأمثال هؤلاء لن يهتدوا، ولا يقبلون الهداية بأي نوع، ومهما عرضت عليهم.يا من تطالبون بالآيات الكونية! كنزول الشمس أو القمر أو الملائكة أو إحياء الميت، هناك آيات أعظم من هذه، ألا وهي هذا الكلام الإلهي الخالد الباقي، فلو أن الله عز وجل أيد رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بآيات مادية، وشاهدها أهل مكة وقريش فسوف يأتي الجيل الذي بعد هذا فيقول: خرافة وكذب، ما رأينا نحن هذا.فلهذا ما أعطى ما طالبوا به من الآيات الكونية الحادثة؛ لأن هذا لا يجدي ولا ينفع، أولاً: المصرون على الجاهلية والعناد والظلم لا يؤمنون.ثانياً: ينقلب من شاهد المعجزة والذي جاء بعد ذلك يقول: نحن ما شاهدنا، من أين لنا أن هذا وقع؟فالقرآن -إذاً- هو آية محمد صلى الله عليه وسلم، و( ما من نبي من الأنبياء إلا وأعطاه الله ما آمن عليه مثله البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ؛ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وتحقق رجاؤه؛ فهذه الأمة المحمدية يوم القيامة أعظم أمة وأكبر أمة عدداً.وسر ذلك في هذا القرآن، فلو كانت المعجزات فقط، والله في القرن الأول ينتهي الإسلام، وحارب الإسلام الإنس والجن والأبيض والأسود، وما استطاعوا أن ينهوه أو يطووا صفحته أو يقضوا على أهله؛ لأن القرآن بينهم، ولولا القرآن لانتهى الإسلام.لا تعجب!تقدم أن عرفنا أن الدين المسيحي الإلهي ما عاش أكثر من سبعين سنة، ثم تحول إلى تثليث، وإلى شرك، وإلى باطل، لكن الإسلام حفظه الله بما حفظ كتابه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فلهذا الآن ألف وأربعمائة سنة وزيادة والإسلام موجود، ما تغير ولا تبدل أبداً، محفوظ، وكون الناس تبدلوا وتغيروا فهذا شأنهم، أنهم استجابوا للشيطان وأعوانه وخلصائه، لكن من طلب الإسلام فهو موجود كالذهب، لا زيادة ولا نقص، بحفظ الله تعالى.إذاً: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118] إنها آيات القرآن، من يشاهد أنوارها؟ من يشاهد عجائبها؟ من يشاهد آثارها؟ إنهم الموقنون بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدين الإسلامي هو دين الله ولا يقبل ديناً سواه .. فهؤلاء الموقنون هم الذين يشاهدون هذه الآيات. أما الموسوسون، والشاكون، والمرتابون فلا ينتفعون بهذا، وهو كذلك.إذاً: من هم الذين ينتفعون بالقرآن الآن من المسلمين؟الجواب : إنهم المؤمنون، الموقنون بما يحمله هذا القرآن من نور وهداية، وهم الذين يدرسونه، ويتعلمونه، ويطلبونه، ويعملون به، أما الذين لا يقين لهم فيقرءونه على الموتى.
تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ...)
معنى قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً)
قال تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له مخففاً عنه الحمل: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119]، وهذا خبر من أخبار الله يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أي: رب العزة والجلال أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بالحق لا بالباطل، فالإسلام هو الدين الحق، والقرآن الكريم هو كلام الله الحق، وكل ما جاء به رسول الله من هداية، وتعاليم، وقوانين، وشرائع .. الحق، ولا باطل في جزء منها قط. أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ حال كونك مبشراً ونذيراً .ما المراد بالمبشر؟المبشر: الذي يبشر صاحب الخير بالخير، فيقول له كلمات ينشرح لها صدره، وتتهلل له بشرته بالبشر والطلاقة، فهو يبشر المؤمنين المستقيمين على منهج الله بما وعدهم الله به من إعزاز وإكرام في الدنيا، ونعيم دائم خالد في الآخرة.وهذه مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين المتقين .. المؤمنين العاملين للصالحات .. المؤمنين المستقيمين على منهج الله، فلا التواء، ولا خروج، ولا انحراف، فهؤلاء يبشرهم بما يثلج صدورهم وبما يطيب خواطرهم، وبما يظهر في وجوههم من البشر والطلاقة، وهذا هو التبشير.وهو نذير ومنذر لمن أصر على الشرك، والكفر، والشر، والفساد، والفسق، والفجور .. ينذره ويخوفه عواقب هذه الحياة التي يحياها، وينذره بعذاب الله الذي قد يعجل له في الدنيا، أما عذاب الآخرة فهو ثابت لازم لا يتخلف ولا يتأخر.وهذه هي مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست مهمته أن يهدي الناس، ويدخل الإيمان في قلوبهم، أو يغير طباعهم ويحول سجاياهم وفطرهم؛ فهذا لا يقدر عليه، وليس موكولاً إليه، فهذا لله.فهذه الآيات تعزي رسول الله، وتخفف عنه الآلام التي يتلقاها من الطغاة المتكبرين الذين قالوا له الآن: لولا تأتينا بآية، أو يكلمنا الله حتى نؤمن، والذين قالوا له هذا في مكة من أبي جهل إلى عقبة بن أبي معيط إلى العشرات.ماذا يصنع رسول الله فهو لا يملك هداية القلوب؟يخفف الله تعالى عنه، ويسري عنه آلامه، ويقول له: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119] فما كلفناك بهداية الناس، وأنت لا تقدر على ذلك، ولو كان يقدر لهدى عمه أبا طالب ، فما استطاع مع أنه وقف معه طيلة حياته مواقف لا تنسى، وعند وفاته وهو على سرير الموت يعرض عليه كلمة التوحيد فما قبلها، والله كأنكم تسمعون: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، يا عم! قل: لا إله إلا الله ) فما استطاع؛ لأن الله كتب شقاء أبي طالب وأنه من أهل النار.وكان -مع الأسف- يريد أن يقولها، فينظر إلى الزائرين من رجالات قريش الذين جاءوا يعودونه في مرضه فيخجل وقال له أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب . ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لأستغفرن لك يا أبا طالب ما لم أنه عن ذلك )، وهَمَّ بالاستغفار فنزل قول الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] ومن احتج بإبراهيم قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].وإبراهيم واعد أباه فقال: لَأَسْتَغْفِرَن َّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4] فمضت الأيام، وازداد في العناد، والكفر، والباطل، وعرف أن الله قد حكم عليه بالخلود في النار، فتبرأ منه، فلا تحتج باستغفار إبراهيم.وحتى آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آتياً من مكة إلى المدينة أو ذاهباً من المدينة إلى مكة، فمر بالأبواء التي دفنت فيها أمه، فاستأذن من الله أن يزورها فأذن له، ولما وقف على القبر ظل يبكي ويبكي، فسألوه: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: ( لقد استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ).
علّة الفلاح والخسران
والعلة كما عرفنا من قبل في قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فـأبو طالب أو عبد الله أو آمنة هل قالوا يوماً: ربنا اغفر لنا ذنوبنا؟ هل قالوا يوماً: لا إله إلا الله؟ هل .. هل .. إذاً على أي شيء تزكو نفوسهم وتطيب وتطهر؟!فمن هنا من زكى نفسه، وطيبها، وطهرها قُبِل في الملكوت الأعلى، ومن دساها، وخبثها، وأفرغ عليها أطنان الذنوب والآثام لم يشفع له شافع قط ولن يرى دار السلام، وهذا قضاء الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].والرسول نادى ابنته فقال: ( يا فاطمة ! أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئاً ).ومع هذا العالم كله نائم، يطمعون في الجنة دار السلام، فأين عواملها وأسبابها؟
وظيفة الداعية
قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [البقرة:119] توضيح لمهمة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي مهمة كل داع .. كل واعظ .. كل مذكر .. كل معلم في القرية والجبل والسهل والوادي والبيت والمسجد، وليست المهمة هداية الخلق، فالهداية بيد الله، ومن أراد هداية أبيه أو أخيه فليسأل الله ذلك، وليبين له ما هو المطلوب، أما أن تحوله أنت فلن تستطيع، ورسول الله ما أسند إليه هذا.
معنى قوله تعالى: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)
قال تعالى: وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] وقراءة نافع قراءة أهل المدينة: ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم .يقول ابن عباس فيما روي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا ليت شعري ما فعل أبواي؟ ) فنزلت هذه الآية ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم ، أي: فلا تسأل يا رسولنا عن أصحاب الجحيم، اتركهم، واترك أمك وأباك، فما هم أهل دار السلام الآن.وقرأ حفص : وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] أي: لا يسألك الله يوم القيامة: لم ما آمن أبو جهل وأنت رسول الله وما هديته؟ والله ما كان، ولم دخل أبو طالب النار، وهو عمك، وأنت رسول الله، كيف هذا يا محمد؟ الجواب: لا.. لا؛ لأن الله ما بعثه ليهدي البشر ويقلب قلوبها، وإنما ليبشر من استجاب فآمن وعمل صالحاً، وتخلى عن الشرك والفساد، ومنذر من أعرض عن الإيمان والعمل الصالح، وانغمس في أودية الباطل والخبث والشر والفساد، فهذه رسالتك ومهمتك، أما أن تهدي فلا تملك.وحقاً هل هناك من يملك هداية أحد؟الجواب: لو كان هناك من يملك أو يقدر مع بذل أقصى الجهد بالحجج والبراهين لكان إبراهيم أولى بهذا مع والده، لكن هل استجاب آزر وأسلم؟ لا.إذاً: ادع يا عبد الله عباد الله وبشر المستقيمين، وأنذر المعوجين المنحرفين، فهذه هي مهمتك، أما أن تحزن وتبكي وتقول: آه، ما أسلموا .. ما اهتدوا، أو ترمي بالقلم وتقول: تركناكم، لستم من أهل الجنة، فقد دعوناكم وما استجبتم، فعيشوا على الباطل، والخبث، والشر، والفساد..! لا، هذا لا يصح أن تقوله، بل وأنت مطمئن النفس، طاهر القلب ادع الناس بالابتسامة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] والحكمة أن تضع الشيء في موضعه، فالشخص الكيس، الأديب، الراقي الذي عنده تقبل للهداية، لم تتعنتر عليه وتسب وتشتم وتنتفخ أمامه، ادعه بالتي هي أحسن.وكذلك شخص من أقاربك شديد غليظ، فلا بأس أن تغلظ عليه، لكن الليّن شيء، والغليظ شيء ثان، فضع كل شيء في موضعه، وهذه هي الحكمة.والشاهد عندنا في قول ربنا: وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] فهذا يتمم الكلام الأول، فما أنت إلا بشير ونذير، وما أنت بمسئول عن أصحاب الجحيم، والله لا يسأله ربه: لم لم يؤمن فلان وأنت رسولنا، والقرآن أنزلناه إليك، وأيدناك بكذا وكذا، كيف يدخلون النار، أين كنت؟هذا لا وجود له.وشأن رسول الله شأن أمته، فالعالم في القرية .. في البيت .. في السوق يبلغ دعوة الله بالتي هي أحسن، فمن استجاب بشره بحسن العاقبة والمستقبل السعيد، ومن أعرض واستنكف واستكبر أنذره قائلاً: انتبه! مصيرك معروف الخلود في عذاب الله، فانته يا عبد الله، هذه المهمة.
تفسير قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ...)
ثم قال تعالى وقوله الحق: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] الملة: الدين والنحلة.وهل اليهود والنصارى لهم ملة واحدة؟الجواب: لا. اليهودية ملة، والنصرانية ملة، والمجوسية ملة، والصابئة ملة .. فهم ملل.
حكم توارث أصحاب الملل الكفرية فيما بينهم
هنا مسألة فقهية: ذهب مالك رحمه الله وأحمد في بعض الروايات إلى أن اليهود ملة والنصارى ملة، والصابئة والمجوس ملل، واحتجوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يتوارث أهل ملتين ) أي: لا يرث اليهودي النصراني، ولا النصراني اليهودي، ولا الصابئي المجوسي، ولا المجوسي الصابئي.. بل كل ذي ملة يرثه أهله من ملته، وهذا الحديث صحيح.ويبقى قول الجمهور: إن الكفر ملة واحدة، وليس معنى هذا أن اليهودية هي النصرانية أبداً، ولا المجوسية هي البوذية ..! لا، هي ملل ولكن ليس هناك تفاضل فالكفر ملة واحدة، فالكل ضال وإلى النار.إذاً الكفر ملة واحدة، فلا فاضل ولا مفضول، أما من حيث القضاء الشرعي والحكم فاليهودي لا يرث النصراني لخلاف بينهما في معتقدهم وملتهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
معنى قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى)
أي: لن ترضى عنك يا رسولنا، ولن ترضى عنك يا عبدنا، وأمته هي تابعة له، فانتبه .. كل من لبس لباس محمد صلى الله عليه وسلم، وتقمص قميصه، فنهج نهجه، وقام على ما قام عليه رسول الله قبله من العقيدة والتوحيد والطهر والصفاء، وكل من كان هكذا فلن يرضى عنه اليهود ولا النصارى إلى الآن، وممكن يرضى عنك يهودي أو نصراني إذا أنت تخليت عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وأصبحت تشارك في الباطل، والخبث، والشر، والفساد، نعم، أما أن يبقى موقفك موقف لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم ترجو أن يحبك يهودي أو نصراني فهذا لن يكون.الشاهد: أن هذا الخبر من الله يستحيل أن ينقضه أحد، فلن ترضى عنك يا رسولنا اليهود والنصارى إلى غاية أن تتبع ملتهم، فإذا اعتنقت اليهودية رضي عنك اليهود ورحبوا بك، وإذا اعتنقت المسيحية أو الصليبية فرح بك النصارى وقبلوك، أما وأنت على نور الله وهدايته وإسلامه فلا رضا.والآن الكثيرون يتملقون لليهود والنصارى، حتى في المساهمة في أعيادهم، لكن هل يرضون عنهم؟والله لا يرضون، فما دمت تقول: لا إله إلا اله محمد رسول الله ما هناك رضا، وما دمت تقول: الزنا حرام، والربا حرام، وقتل النفس حرام، والخبث ليس يليق بنا، ولا نحن من أهله، فما يرضون عنك أبداً حتى تتقمص قميصهم، فتقول بقولهم، وترقص رقصهم، وتعتقد اعتقادهم، نعم، سواء كنت أبيض أو أسود، ولا معنى لكلمة أوروبي ولا أفريقي فهم إخوان. فيعانقون السود، ويدخلونهم في قلوبهم؛ لأنهم اعتنقوا دينهم، وأصبحوا على ملتهم.هل عرفتم هذا الخبر الإلهي أو لا؟لا أقول: من أراد منا أن يحبه اليهود والنصارى فليكفر، نقول: فقط استقم على منهج الله، ولا يضرك عداؤهم ولا بغضهم لك، ولا عدم حبهم لك؛ لأن هذه فطرتهم، وما دمت على غير دينهم فإنهم لا يحبونك.ومن ردَّ علي يتفضل، يقول: أنا مستقيم على منهج محمد صلى الله عليه وسلم في لباسه .. في أكله .. في طعامه .. في نكاحه .. في تجارته .. في أعماله، وعندي يهود ونصارى يحبوننا، نعم قد يتملقونك بلسانهم، أما أن يكون قلباً وواقعاً فوالله ما كان؛ لأن الله خالق القلوب، وطابع الطبائع، وغارز الغرائز، هو الذي أخبر، وهل تراه لا يصدق؟ أعوذ بالله.ومعنى هذا: لا تطلبوا مودة اليهود والنصارى فإنها مستحيلة، ولن تتم، ولن تحصل، إلا إذا أنت انسلخت من دينك الإسلامي وعايشتهم على الشرك والباطل، نعم هم يريدون هذا، ويبذلون الأموال في سبيل القضاء على الإسلام؛ لأنه الدين الحق، وأكثر رجال الكنائس والبيع يعرفون هذه الجملة، وقد يوجد تلاميذ ضللوهم وغرروا بهم، لكن هناك رؤساء يعرفون أنهم على باطل، وأن الدين الإلهي الحق هو الإسلام، معرفة أكثر منا، لكن لا يستطيعون أن يتخلوا عن مناصبهم، وإن تركوها يقتلون، ولو قامت الكنيسة وقالت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، تهتز أركان الدنيا، وتشتعل النيران، فلهذا هم مصرون على الباطل، وقَلَّ من ينجيه الله عز وجل، ونعم يوجد كثيرون من رجال العلم عندهم تركوا الكفر ودخلوا في الإسلام، وآمنوا بالله ولقائه ورسوله.هكذا يخبر تعالى عباده في شخصية رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول أولاً: بلام الزمخشري وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى [البقرة:120] إلى غاية وهي: إلى أن تتبع ملتهم.
معنى قوله تعالى: (قل إن هدى الله هو الهدى)
ماذا تفعل يا رسولنا؟قال له الله تعالى: قُلْ [البقرة:120] في صراحة ووضوح: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120] فإذا عرض عليك مسيحي المسيحية .. أو يهودي اليهودية .. أو بوذي البوذية .. أو مجوسي المجوسية.. فماذا تجيب أنت يا رسولنا؟ قال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120].لكن ما هو هدى الله؟هدى الله هو الإسلام الهادي إلى العزة والكرامة، والأمن والرخاء، والطهر والصفاء في الدنيا، والهادي إلى حب الله ورضوانه، ومواكبة النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين بعد الموت.وإياكم أن تفهموا أو يخطر ببالكم أو تصدقوا مفترياً كاذباً أن الإسلام إذا طبق في قرية -لا أقول: في أمة- تطبيقاً كما أراد الله ولم يعز أهل القرية، ولم يصفوا، ولم يطهروا، فوالله لا يتخلف وعد الله.أعيد فأقول: إياك -يا عبد الله- أن تفهم أن الإسلام لو طبق في إقليم .. في قرية .. في مدينة التطبيق الذي يريده الله أن أهل القرية يضامون أو يهانون أو يذلون! والله ما كان، والله إلا أعزهم الله وطهرهم وكملهم في الدنيا، وفتح لهم باب دار السلام في الآخرة.وهل هناك أقليم أو بلد كان على طهر وصفا وإيمان، فأذلهم الله؟!والله لا وجود لهذا، لا في أوروبا الشرقية، ولا الغربية، ولا أفريقيا، ولا في جزيرة العرب، فمستحيل أن يخذل الله أولياءه، أو يسلط عليهم أعداءه، وإنما سلط أعداءه على من فسق عن أمره، وخرج عن طاعته كحال العرب والمسلمين في قرون عديدة إلى هذه الساعة.إذاً: من طلب منك أن تدخل في نصرانية أو يهودية أو ملة من الملل فقل لهم: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120] فقط، هدى الله هو: الإسلام وكتابه .. الإسلام ورسوله، فهذا هو الهدى يا من يريد الهدى والهداية إلى العز، والكرامة، والطهر، والصفا في الدنيا، وإلى جوار الله في الملكوت الأعلى؛ في مواكب النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في الدار الآخرة، بل بعد الموت فقط، لا ننتظر يوم القيامة، والله إن هؤلاء وهم على أسرة الموت، وقد أيس الأطباء من دوائهم، وعلاجهم، وودعوهم، ثم الملائكة تحتفل بهم، وتتنزل عليهم أفواجها تبشرهم وتريهم كرامة الله لهم، ما نحتاج إلى هذه: يوم القيامة، واقرءوا لذلك قول الله جل جلاله وعظم سلطانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] كلمتان فقط، لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم استقام على منهج رسول الله عقيدة، وقولاً، وعملاً، فاستقام وما انحرف يميناً، ولا شمالاً، ولا اعوج، فأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله، ونهض بما أوجب الله، وتخلى وابتعد عما نهى وحرم الله، ومشى في طريقه إلى ساعة الموت.. فهذا العبد تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] تتنزل فوجاً بعد فوج احتفاء بهذه الروح الطاهرة، لترفع إلى الملكوت الأعلى .. إلى سدرة المنتهى أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. فمن كان منا ولياً لله ما إن يودعه مودعه، وييأس من علاجه الأطباء في تلك اللحظات فليستعد بهذه البشريات العظيمة: لا تخافوا، ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدونها في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله، وعلى لسان عباد الله من الدعاة المبلغين عن الله نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31] كانوا معهم في الدنيا فصرفوهم عن الباطل والخبث والشر، وحموهم حماية كاملة، فأولياء الله يحميهم الملائكة من أن يقعوا فيما يغضب الله ويسخط الله طول الحياة، وإلا كيف يعيش خمسين .. سبعين سنة لا يزني، ولا يسرق، ولا يكذب، ولا يقتل، ولا يظلم .. لولا حماية الله كيف يتم هذا؟ وإخوانه بالملايين يتخبطون في أودية الخبث، والضلال، والشر، والفساد، وليس ذلك قدرة منه بل حماية: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31] ادع فقط، اطلب نُزُلًا [فصلت:32] النزل هو الضيافة والقِرى، ولهذا سموا الفندق نزلاً وضيافة، ففيه السكن، والطعام، والشراب والفراش و.. و.. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].أيها المستمعون والمستمعات! من منكم يهيأ لهذا؟ قولوا: كلنا إن شاء الله، أو ما تموتون؟ لا بد.إذاً نسأل الله أن نكون منهم إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت:30] ولو سخط العالم كله، وغضبت الدنيا بما فيها: ربنا الله، لا رب لنا سواه ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] والاستقامة ليست هينة، ومثل الاستقامة كالذي يمشي على سطح البحر برجليه، فالمستقيم اليوم في بلاد وقرى وعالم خم بالخبث والشر والفساد، ثم استقام ومشى فذلك أصعب ممن يمشي على سطح الماء، ولهذا قالت العلماء: استقامة خير من ألف كرامة، وخاصة لما يخبث الجو كاملاً، ويتعفن، فكيف تسلم؟!لكن لولايتك لله يحميك الله بملائكته، ويعصمك، ويتلوث غيرك، وأنت لا تتلوث.
معنى قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ...)
قال تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120] هذه حالكم أيها المسلمون تنطبق تمام المطابقة، فقوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ كل البلاد التي لا تطبق شرع الله والله قد اتبعت أهواء اليهود والنصارى أحببنا أم كرهنا، وكل البلاد التي تبيح ما حرم الله، وتأذن فيه، وتسكت عنه اتبعوا أهواءهم؛ لأن أعداء الإسلام يريدون هذا.إذاً قال تعالى بعد ذلك: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة:120] والآن هذا حق أو باطل؟!بكينا، وصرخنا، واستغثنا: أنقذونا، ففلسطين -مثلاً- إلى الآن أكثر من خمسة وأربعين سنة وهي محتلة، فما وجدنا ولياً أو نصيراً، وها نحن نصرخ أيضاً على البوسنة والهرسك فما وجدنا من نصير، وغداً نستصرخ لأي مكان آخر فما نجد أبداً، حتى نعرف الله عز وجل.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (79)
الحلقة (86)
تفسير سورة البقرة (49)
أنزل الله الكتب لتكون منار هداية للناس، وكان خاتمة هذه الكتب هو القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا وجب على المسلم أن يتلوه حق تلاوته، وذلك بأن يقيم حروفه، وكلماته، وأحكامه التجويدية، وأن يتدبره ويتأمل ما فيه من معانٍ، وأن يسعى جاهداً للعمل بما فيه، ليبقى دائماً على ذكر بأن هذا الكتاب من أعظم نعم الله عليه، وأنه من مظاهر تفضيل هذه الأمة، وأن الكفر به هو الخسران المبين.
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ... )
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بنا سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:121-123] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إليكم هذا الخبر، فإنه خبر عظيم الشأن، فالمخبر هو الله، والمخبرين هم نحن، والحمد لله رب العالمين، فنحن أهل لأن يحدثنا الله ويكلمنا ويخبرنا، فإنها والله لنعمة.وسبب هذا الإفضال والإنعام هو الإيمان، فآمنا وأصبحنا أهلاً لأن يحدثنا الله ويكلمنا ويخبرنا.وقد قال الضالون: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118] وها نحن يكلمنا بواسطة وحيه الذي ينزله على رسوله، وقد وصل إلينا من طريق الوحي الإلهي على رسول الله، ونحن أهل لذلك بإيماننا، ولو كنا غير مؤمنين -والعياذ بالله- ما يخاطبنا الله ولا يكلمنا، لأننا أموات، والميت لا يخاطب ولا يخبر؛ لأنه لا يسمع ولا يبصر، ولا ينهض بما يكلف ولا يقدر عليه.
المراد بالكتاب في قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب)
قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] قد يكون المراد من الكتاب التوراة، وقد يكون المراد من الكتاب الإنجيل، ولكن المراد هنا القرآن العظيم.فقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ أي: أعطيناهم الْكِتَابَ [البقرة:121] وقد أعطانا ربنا الكتاب، وهو في صدورنا، ومكتوب في سطورنا، ويوجد في بيوتنا، وهذا فضل الله علينا، فالحمد لله.
من حقوق تلاوة القرآن إقامة حروفه وتجويده
قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] ما لهم؟ أخبر عنهم يا رب! يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] يتلونه بمعنى يقرءونه حق القراءة، فيجودون قراءته، وينطقون بالحروف، ويخرجونها من مخارجها، فلا يقدمون ولا يؤخرون، ولا يزيدون ولا ينقصون، فينطقون بتلك الحروف كما هي في لسان العرب، ولو أن شخصاً يقرأ (عصى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) فالله يعصي! هذا كفر، وتعالى الله، وكل هذا لأنه ما فرق بين حرفين في مخرجيهما: بين السين والصاد، فعصى بمعنى: ما أطاع، وعسى بمعنى: رجا، ومن هنا إخراج الحروف من مخارجها ضروري، وتستلزم هذه الآية الإلهية أن يتلوه حق تلاوته.كذلك يتدبرونه عندما يتلونه، ويقرءون الآية وينتهون منها ويعيدونها مرة أخرى؛ لأنهم يستدرون لبنها، ويستخرجون حلواها وعسلها .. وهل هذا ممكن؟ إي نعم.ولقد صح يقيناً أن أحد السلف الصالح من الصحابة والتابعين قام يتلو كتاب الله بالليل، فلما انتهى إلى قول الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] فهذه الآية ما استطاع أن يتجاوزها، وما زال يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.ولعل السامعين يفهمون معنى هذه الكلمة الإلهية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا أي: فعلوا بجوارحهم السَّيِّئَاتِ أي: المحرمات والمنهيات من كبائر الذنوب والآثام أَنْ نَجْعَلَهُمْ أي: في قضائنا، وحكمنا، ومجازاتنا كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية:21] لا والله ما كان هذا، ولهذا قال: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ أي: قبُح قُبحاً وحكماً يحكمون به، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].إذاً: الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، هم الذين:أولاً: يجودون النطق ويحسنونه.ثانياً: يتدبرونه عند تلاوته.ثالثاً: إذا مروا بآية رحمة سألوا الله إياها، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا بالله من النار والعذاب. وهذا مأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا قام يتهجد ليصلي إذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله تلك الرحمة، وإذا جاءت آية عذاب وقف واستعاذ بالله من العذاب وهو رسول الله الذي لا يدخل الجنة أحد قبله قط، وقد أعطي بذلك المواثيق، وحسبكم أن تقرءوا قول الله عز وجل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] ألا وهو مقام الشفاعة العظمى، فهو الذي يخر ساجداً بين يدي الله تحت العرش، ويلهم تسابيح، وأذكاراً، ومحامداً ما عرفها إلا تلك الساعة، وهو واضع جبهته على الأرض حتى يقول له الرب تعالى: ( محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع )، ومع هذا كان إذا مر بآية رحمة سأل الله متضرعاً إليه أن يرحمه، وإذا مر بآية عذاب وقف واستعاذ بالله تعالى من العذاب.وهذه أمنا الصديقة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( افتقدت ليلة رسول الله من فراشه ) إذ كان يقسم الليالي بين نسائه أمهات المؤمنين، فليلة عند عائشة ، وأخرى عند صفية ، وأخرى عند حفصة ، وأخرى عند ميمونة .. ومن يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت: ( فالتمسته ) فما عندهم كهرباء، ولا فوانيس، لا بالزيت، ولا بالغاز، والله ما عندهم، وفي الظلام، في تلك الحجرة التمسته فما وجدته، فقامت تطلبه، فوجدته قد اغتسل بالماء البارد، وما أشد برد الماء في مدينتنا المنورة أيام الشتاء، فاغتسل بالماء البارد، وإذا هو قائم يصلي؛ يركع ويسجد، والدموع قد عملت خطوطاً هكذا على حصيره، فتعجبت منه وسألته: ( يا رسول الله! أهذا منك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ) فأجابها بقوله الخالد: ( أفلا أكون عبداً شكوراً )، فما دام قد غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ينبغي أن أشكره، وبم يُشكر الله إن لم يُشكر بذكره وعبادته وطاعته؟
من حقوق تلاوة القرآن تدبره
قالت العلماء: تلاوة القرآن حق تلاوته أن تحل ما أحل القرآن، وتحرم ما حرم القرآن، أما الذي يستبيح ما أحل الله وهو يتلو الآيات التي تحرم، ويحرم ما أباح الله وهو يتلو آيات الإباحة فهذا خارج عن طاعة الله، وما تلا القرآن حق تلاوته، والذي لا يقيم حدوده، ويتعداها، ويتجاوزها، وهو يتلوها ويقرؤها والله ما تلا كتاب الله حق تلاوته، فلا بد أن يقيم حدوده كما يقيم حروفه، ولا بد أن يحل ما أحل، ويحرم ما حرم، ولا بد أن يتدبر ويتأمل ويتفكر، لا أن يتلوه كلغة أجنبية لا يدري ما يقرأ ولا ما يقول؛ لأن الله أثنى عليهم فقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121] أي: أولئك السامون، الشرفاء الأعلون فأشار إليهم بلام البعد لبعد مكانتهم، وعلو درجتهم، وعظم شأنهم أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121] أي: يؤمنون بهذا القرآن.
استحباب سماع القرآن من الغير
هذا ابن أم عبد وهو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان كالظل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفارقه إلا إذا دخل بيته وأغلق بابه، يقول عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه وأرضاه: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي يوماً: يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن. فقلت: أعليك أنزل وعليك أقرأ؟! ) متعجباً، مستفهماً كيف ينزل عليك وأقرأ عليك، فأنت أحق به وأولى، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إني أحب أن أسمعه من غيري ).وكم نادينا وقلنا للسائلين غير ما مرة، في أي مجتمع كهذا: دلوني على أحد من إخواننا المؤمنين قال يوماً لأخيه: تعال من فضلك يا بني إن كان صغيراً، أو يا أبتاه إن كان كبيراً، أو يا أخاه إن كان مثله ومساوياً له في السن، من فضلك: اقرأ علي شيئاً من القرآن؟هل حصل هذا؟!من الشرق إلى الغرب وعبر القرون، من هو الذي يقول: أي فلان! اقرأ علي شيئاً من القرآن؟وقد حصل هذا مرة كما أخبرتكم، وذلك أن مؤمناً شغالاً -كما يقولون: حمال- دخل في رحمة الله في درس من دروس العلم الحق في تفسير كتاب الله، فسمع هذه الكلمة من شيخ رحمة الله عليه، فكان يأتيني ويقول: أي أبا بكر! اقرأ علي شيئاً من القرآن، وهو عامي لا يقرأ ولا يكتب، ولكن فتح الله عليه فأصبح عالماً ربانياً بالسماع.فهذا هو الوحيد الذي رأيناه في حياتنا يأتي، ويتربع، ويطأطئ رأسه ويقول: اقرأ علي شيئاً من القرآن، وأنا أقرأ وأنا طفل وهو يبكي.إن القرآن الآن يقرأ على الموتى! يقال لقارئ القرآن: تعال خذ ألف ريال، وأقرأ ختمة على أمي؛ فإنها ماتت. أو يجمع الطلبة ويقال لهم: اقرءوا القرآن على والدي فقد توفي، ويضع بين أيديهم أو في جيوبهم ريالات، وهذا موجود من إندونيسيا إلى المغرب، أما أن أقول: اقرأ علي آيات الله؛ أتدبرها، وأخشع عند سماعها، وأبكي، فهذا نادر، ونسينا ونستغفر الله.وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كثيراً لما يجلس يقول: من منكم يسمعنا شيئاً من القرآن؟هذا موجود وما ننساه.
استحباب الخشوع عند تلاوة القرآن
إذاً الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] أي: كما ينبغي أن يتلى، وكما يجب أن يقرأ، وهو تصحيح الألفاظ، والكلمات، والنطق بها سليمة كما نزلت.ثانياً: يتدبرونه، فلا يقرءون قراءة الغافلين والجاهلين، فيقفون عند الآية، ويعرفون ما تدل عليه، وما ترشد إليه، ويحلون ما أحل، ويحرمون ما حرم، ويقيمون حدوده فلا يتعدونها .. وهؤلاء هم المؤمنون.عبد الله بن مسعود لما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أسمعني يا ابن أم عبد )، فكناه بأمه .. ( يا ابن أم عبد ! أسمعني شيئاً من القرآن ) أي: اقرأ علي حتى أسمع، فتعجب عبد الله وقال: ( أعليك أنزل وعليك أقرأ؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري )؛ لأن الذي يصغي يذكر أكثر ممن يتلو، والتالي قد يشغله حفظ الآيات وتتبعها حتى ما يجهل أو يقف، أما السامع متفرغ، وخاصة إذا أصغى واستمع.قال: ( فقرأت بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] حتى انتهيت في حدود الثلاثين آية، إلى قول الله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]. قال: لما انتهيت هنا، فإذا برسول الله عيناه تذرفان الدموع؛ يبكي، ويقول: حسبك .. حسبك .. حسبك )، يعني: يكفي يكفي، فرسول الله يطلب من يقرأ عليه القرآن، ونحن لا نطلب؛ لأننا ما ذقنا حلاوة الإيمان، فإننا مخدرون، تجدنا نبصر ونتحرك، ولكن لا نشعر.وفتح الله علينا في ضرب مثل لعلكم تذكرونه، وأنا أتكلم عن نفسي: أرأيتم قبة زجاجية -والآن يصنعونها كمكان لبيع الدخان وبيع المشروبات- ونحن داخل تلك القبة نشاهد من يمرض، فنراه كما هو يضحك ويبكي ولكن لا نحس بشيء، ولا نسمع صوتاً، ولا نحس بحركة.فهذا الشخص في القبة الزجاجية يشاهد كل شيء، لكن لا يحس، ولا يسمع، ولا يشم رائحة، فهو محجوب بالزجاج، ونحن أشبه بهذا، نعم مؤمنون مسلمون، ونقرأ كتاب الله، ولكننا لا نحس ولا نشعر، ولا نبكي ولا نتألم، ولا نفرح عند آية، ولا نحزن، صح هذا أو لا؟فهذا هو الواقع ولا نخفيه، إلا من فتح الله عليه نافذة، وقد قلت لكم غير ما مرة: أحياناً في العام .. في العامين ينفتح ذلك الزجاج لحظة، تجد أحداً يبكي، يرتعد، لا يشعر بما حوله أبداً، وينتفض، ولا يشعر بمن حوله، يصلي أو يقرأ أو يتلو، كأن العالم كاملاً انفصل عنه، وهذه نادرة.والمفروض فينا أن تكون هذه حالنا دائماً، فإذا تلونا كتاب الله أو وقفنا بين يدي الله نناجيه، ونتكلم معه ونطرح حوائجنا بين يديه مستغفرين سائلين، ينبغي أن نكون هكذا، كأننا لا نشعر بالوجود حولنا، وهؤلاء في صلاتهم خاشعون، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]. ونحن نتكلم مع الله ونناجيه في الصلاة وبالنا مشغول: القدر ماذا فيه؟ والسوق ماذا فيه؟يقول المصلي: الله أكبر.. بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2] فنقرأ والقلوب هناك. فكيف تتكلم مع الله وتعرض عنه ويبقى وجهك أمامه؟!ولو تحدثت مع ذي قدرة ومال عن قضاء حوائجك، تريد أن تسأله ما تريد، فتسلم عليه: السلام عليكم فلان. ثم تبدأ الحديث معه وأنت ذاهل عنه، مشغول ببيتك وسوقك أو كذا، لاندهش قائلاً: ماذا هناك؟ ما له؟ انتبه!فيخاطبك ما لك؟ أين أنت غائب؟فهل نطلب هذا الهدى إن شاء الله؟وأعظم باب جربناه هو أن تعلم وتُعلم نفسك أنك بين يدي الله، والله إنك لبين يديه، وإنه لنصب وجهه لك، ويسمع منك كلماتك، ويرى موقفك.. فإذا ذكرت هذا استحيت أن تتركه، أو تلتفت أو تعبث، لكن كونك لا تذكر هذا فهذا هو البلاء.وقد سأل جبريل عليه السلام رسولنا صلى الله عليه وسلم: ما الإحسان؟ فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فأنت بين حالين: إما أن تشعر أنك بين يدي الله كأنك تنظر إليه، فلا تستطيع أن تلتفت ولا أن تغفل، ولا أن تعرض عن كلامه أبداً، وأقل شيء أن تعلم أنك بين يديه، وهو يراك، ويرى حركاتك وسكناتك، ويسمع كلماتك، ويعرف دقات قلبك، وما يجري في نفسك.فإذا علمت نفسك هذا لا تستطيع أن تعرض عن الله حتى تفرغ من عبادتك وتقول: السلام عليكم. ثم بع واشتر.آه لو ربينا على هذا.إذاً قول ربنا جل جلاله وعظم سلطانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:121] أعطيناهم التوراة أو القرآن، الذين يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121]، فحق التلاوة تعني التجويد والتغني، ولا بد كذلك من تدبره وتفهم معانيه، وتوطين النفس على العمل بما فيه، فإن كان أمراً نهضت به، وإن كان نهياً تركت وتخليت عما نهاك عنه.
خسران من يكفر بالقرآن الكريم
قال: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ [البقرة:121] أي: بالقرآن .. بالكتاب فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] هذا خبر عظيم، والله لا يعجز أن يعاقب، أن يخسر الشيء تخسيراً كاملاً، فالذين لا يؤمنون بالقرآن أنه كلام الله ووحيه، وحامل شرائعه، وأن فيه الهدى والنور، ولم يعمل بما فيه.. والله لهو الخاسر خسراناً كاملاً.ودائماً نقول: لا تفهم من الخسران أنه خسران الدنيا: فقد وظيفته أو خسر البضاعة كلها أو ضاع ما كان عنده أو خسر امرأته وماتت أو خسر ولده ومات! فهذا الخسران: خسران الدينار، والدرهم، والشاة، والبعير، لا يعتبر خسراناً عند الله.لكن ما هو الخسران الحق؟اسمع الله يبين من سورتي الزمر وحم، يقول تعالى: قُلْ [الزمر:15] يا رسولنا، قل أيها المبلغ عنا، قل إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] من هم؟ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] أَلا [الزمر:15] انتبهوا، اسمعوا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] فتجد نفسك في عالم كله بلاء، وعذاب، وشقاء، ولا تجد امرأة، ولا ولداً، ولا أخاً قريباً، ولا بعيداً، فأنت وحدك في وحشتك .. في غربتك .. في بعدك، تتلقى العذاب في كل لحظة وساعة، فلا يُفتّر أبداً وتشتكي، وتطالب التخفيف، فلا يأتي الجواب إلا بعد ألف عام.وهناك سورة أخرى فيها أنه يوضع أحدهم في صندوق من حديد، ويغلق عليه، ويسمر بالمسامير، ويلقى في ذلك العالم آلاف السنين، والله لا يأكل، والجوع يمزقه، والله لا يشرب، والظمأ يقتله، والله لا يتكلم، ولا يسمع كلاماً في ذلك الصندوق آلاف السنين، لا إله إلا الله، صم، بكم، عمي.. هكذا. فقالوا للرسول: كيف يمشون على وجوههم ويسحبون في النار على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم يستطيع أن يمشيهم على وجوههم.أما رأيتم الأفعى تزحف على وجهها؟ والله إنهم ليمشون على وجوههم، والآية من سورة بني إسرائيل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97].فقوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على أرجلهم؟ لا عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] فلا يبصرون، ولا ينطقون، ولا يسمعون، وهم على وجوههم، قالوا: يا رسول الله! كيف يمشون على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم يمشيهم على وجوههم، والله لكما تسمعون.هؤلاء الذين لا يؤمنون .. الكفار بالقرآن، وما جاء به بالرسول، وما يدعو إليه، فما اغتسلوا من جنابة، ولا صاموا يوماً لله، ولا صلوا ركعة، ولا قالوا معروفاً، وماتوا على فسقهم وضلالهم .. والله لهذا جزاؤهم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء:97] لا ينطقون، ولا يبصرون، ولا يسمعون.إذاً: هذا خبر عظيم الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ما الخبر؟ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121] يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)
مناداة الله لبني إسرائيل
قال تعالى وقوله الحق: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:122] يا أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم!واليهود وقت نزل هذا القرآن هم الذين كانوا مع رسول الله في المدينة من القبائل أو الطوائف الثلاث: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، لكن قال: بني إسرائيل؛ لأنهم -والله- أولاد إسرائيل وأحفاده إلى اليوم.وسبحان الله! فقد علمتم أنهم لا يسمحون لأحد أن يدخل في دينهم، ولا يزوجون نساءهم إلا لأبنائهم وإخوانهم، وإذا حصل أن زوجوا مسيحياً أو بوذياً فلغرض محدود، ثم يحتالون ويطلقون أو يقتلونها أو يقتلوه فاحتفظوا بأصالتهم .. بعرقهم، ويكفيك أن الله يناديهم بهذا الاسم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فلولا علمه بأنهم من أولاد إسرائيل ما ناداهم بهذا.واليهود في اليمن .. في الشام .. في مصر .. في فلسطين .. في المغرب ما كانوا يزوجون بناتهم للمسلمين، ولا يزوجونهن للنصارى ولا يعطونهم، وذلك للحفاظ على هذه الأصالة؛ لأنهم يحلمون بأن يعيدوا مملكة إسرائيل من النيل إلى الفرات، وقد مشوا خطوات شاسعة في هذا الشأن، وقد رأيتم كيف أذلنا الله لهم، وأصبحوا فوقنا يعتزون، ويصولون، ويجولون، مع أنهم عرق مصاب بمرض الذل والمسكنة، إلا أن الله عز وجل ليؤدب المسلمين علهم يفيقون .. علهم يصحون .. علهم يرجعون، فأراهم أعظم آية لم تعرف الدنيا آية أعظم منها، فألف مليون مسلم من أهل لا إله إلا الله يذلهم خمسة ملايين يهودي، ولو تتحدث بهذا مع من يأتي من أجيال سيقول: هذا مستحيل! كيف يمكن أن ألف مليون يقهرهم ويذلهم خمسة ملايين، كالذي يقول: خمسة آلاف رجل فحل أذلهم خمسة رجال، أهناك من يصدق هذا!ولكن أراد الله آية أخرى، فثلاثة آلاف مؤمن رباني هزموا واستطاعوا أن يتخلصوا من مائتي ألف مقاتل، وذلك في غزوة مؤتة، فقد كان عدد المؤمنين ثلاثة آلاف، وكان عدد الروم مائتا ألف.فهيا يا مسلمون نتوب إلى الله.قالوا: لا نستطيع.أقول: أما تستطيعون أن تتوبوا؟ وهل إذا تركتم الربا، والزنا، والغش، والخداع، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة تصابون بالمرض .. بالفقر؟ بأي شيء يصيبكم؟ لا أدري.هيا نحاول أن نقبل -فقط- على الله، فنجتمع ونبكي بين يديه من المغرب إلى العشاء في كل بيوت الله، ولا يتخلف مؤمن ولا مؤمنة إلا ذو عذر لا يتمكن من الحضور، ونجرب عاماً .. عامين .. ثلاثة فقط، وننظر كيف أن الله سيذل لنا الجبابرة، ويرغم أنوفهم، فلا يمكن أن توالي الله ثم يخزيك ويذلك ويهينك! حاشا لله وكلا.والشاهد عندنا في بني إسرائيل أنهم أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل، ومعنى إسرائيل عبد الله أو عبد الرحمن.
تذكير بني إسرائيل بنعمة الله عليهم
يقول الله تعالى لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا [البقرة:122] فلا تنسوا اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122] والله هذه الآية الآن لا تليق باليهود، إنما تليق بنا نحن فقط، وذكر النعمة يدفع إلى شكرها، فهو ما أمرهم بالشكر، وما قال: يا بني إسرائيل اشكروا، إنما قال: اذكروا أولاً. فاذكروا أول نعمة أنعم الله بها عليكم، فإذا ذكرتموها دمتم بين يدي الله تشكرونه بالركوع والسجود، والصبر والصلاة، والجهاد والإنفاق، فتلطفوا في هذه وتأملوها.
الفائدة من ذكر النعمة
قوله: (( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ )) ما الفائدة من ذكر النعمة؟من أجل أن نشكر؛ لأن الذي ينكر النعمة ولا يذكر -والله- لا يشكرها، لكن لما تذكر طبق التمر بين يديك والخبز اللين وأنت تأكل ستقول: الحمد لله.لكن إذا كنت لا تذكر من أين هذا الخبز؟ من أين هذا الرطب؟ كيف هذا الماء؟ كيف أنا جالس؟ فإنك والله لا تعرف الحمد والشكر لله أبداً.كذلك لما ترى قوتك البدنية تظهر، فتنتشل -مثلاً- القنطار، وتحمل الأشد، وتذكر حينئذ أن الذي أعطاك هذه القوة هو الله، وهو يريد منك فقط أن تشكره وتحمده.وهذه المعاني والتأملات لو نقف عندها عشرة أيام، فهذه بيت القصيد.
المسلمون أولى بالخطاب من بني إسرائيل في التذكير بالنعم
أنا قلت الآن: هذا لا يليق مع بني إسرائيل فقد انتهى أمرهم، فهذا الخطاب لنا نحن؛ لأن هذا الكتاب كتاب هداية وإصلاح إلى يوم القيامة، والبشرية كلها خلق الله وعبيده، فأمة الإسلام لو ذكرت ما أنعم الله به عليها من نعمة الإيمان والإسلام، وكيف أن الأمم الكافرة هائجة مائجة، تعيش في الظلام والخبث، ونحن أهل النور والهداية الإلهية، ولو نذكر هذا ما فرطنا في فريضة، ولا قصرنا في أداء واجب، ولا غشينا محرماً أو مكروهاً إلا إذا استغفلنا العدو ورمى الشيطان بنا في ساعة، ثم نستفيق ونصرخ مستغفرين تائبين إلى الله.وهناك نعمة قريبة على المسلمين، فقد كانوا مستعمرين مستذلين، يتحكم فيهم الشرق والغرب؛ من بريطانيا إلى هولندا .. إلى إيطاليا .. إلى فرنسا.أما كنتم كذلك أيها المسلمون فحرركم الله! وكان عليكم أن تشكروه، ومن ذلك أن تقيموا الصلاة فقط ليرى الله عز وجل شكركم، فلا يتركها عسكري، ولا شرطي، ولا مسئول، ولا غني، ولا فقير، فإذا قيل: حي على الصلاة، أقبلت الأمة زرافات ووحداناً إلى بيوت الرب؛ تشكره عشر دقائق أو ربع ساعة ثم تنطلق إلى عملها.لكنهم قالوا: لا نستطيع.أسألكم بالله، أنا أريد أن أعرف: هل أقيمت الصلاة إجبارية في أي بلد غير هذا البلد، في سوريا .. في العراق .. في مصر .. في المغرب .. في باكستان؟ والله ما كان، وأنا أسأل وحيران، أما خلقنا لها؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].والله لو أقيمت الصلاة في أي إقليم إسلامي لتجلت أنوار الرحمة، ومحاسن الكمال الإسلامي، وقل الخبث والظلم والشر والفساد، ولا آلمهم فقر ولا جوع -أبداً- وهم مع الله.لكن ما أقيمت الصلاة، وكأنهم تعمدوا ألا تقام، ولعل هناك سحراً يهودياً، فما يدرينا.
ثمرات إقامة الصلاة
نحن إذا أقمنا الصلاة فإن كثيراً من الأمور ستحصل:أولاً: كل خبث وظلم وشر وفساد ينتهي، وإياك أن تفهم أن عبداً يقف بين يدي الله زاكياً، واعياً، بصيراً، يناجي ربه، ويتكلم معه، ويطرح حاجته بين يديه، ثم يخرج يفسق! والله ما كان، فكل ما تشكوه في العالم الإسلامي من الخبث، والسرقة، والجرائم، وشهادة الزور، والكذب، والخيانة، وعدم الرحمة مرده إلى أنهم ما أقاموا الصلاة؛ لأن الله العليم الحكيم يقول: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] أي: أيها المسلمون! اقرءوا القرآن في بيوتكم، وفي بيوت ربكم، فيزداد إيمانكم، ومعارفكم، وعلومكم، وتسمون، وترتفعون، ثم قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فلن يستطيع بوليس، ولا شرطة، ولا ساحر، ولا غشاش، ولا .. أن يقوم اعوجاج الشعب أو الأمة في القرية أو المدينة كما تقوم الصلاة.ودائماً نقول: تفضلوا وادخلوا أي مكتب من مكاتب الشرط والمسئولين من المحافظات و.. و.. واسألوهم عن عدد الجرائم في هذا الأسبوع؟ قالوا: والله سجلنا مائة جريمة، بعضها سرقة، وبعضها سب وشتم، وبعضها كذا، وبعضها كذا .. نقول: اسمعوا، إن وجدتم من بين المائة أكثر من خمسة من مقيمي الصلاة اذبحوني، وأنا أقول هذا دائماً، وهناك (95) من تاركي الصلاة، والمصلون العابدون بصدق ما عرفوا إقامة الصلاة، تجده يقف بين يدي الله وهو مشغول عن الله، وصارت الصلاة كالعادة فإذا قال: السلام عليكم خرج يدخن عند باب المسجد.وكم صحنا وبكينا أكثر من أربعين سنة، فهل تحرك إقليم واحد وقال: نقيم الصلاة؟ والله ما كان؛ وفقط إقليم واحد.وهذه الدولة المباركة يعمل ليل نهار على إحباطها وإفسادها وتخريبها متعاونون عليها والعياذ بالله، حتى مع الكفار، والله لولا أنهم بنوها على إقام الصلاة ما شاهدوا فيها نوراً ولا كان فيها خير، لكن رحمة الله على مؤسسها عبد العزيز فقد أقامها على ما أراد الله أن تقام عليه الدولة الإسلامية، وذلك من خلال بعض آية فقط: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] فهذه أربع دعامات.فإقام الصلاة أن لا يبقى عسكري، ولا مدني، ولا رجل، ولا امرأة يعيش في ديار الإسلام وهو لا يصلي، فإن شاهدت قريبك أو جارك لا يصلي، فاتصل بالهيئة يأخذوه ويؤدبوه أو يحبسوه حتى يصلي.أما إيتاء الزكاة فهي فريضة الله، ولا بد من رجال مهمتهم أن يجبوا هذه الصدقة من أجل إقامة الدولة.أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتقام هيئات في كل قرية .. في كل مدينة .. في كل حي يأمرون بالخير وينهون عن الشر.لكن ما المانع من إقامة كل هذا؟! فما استطاع إقليم واحد من المسلمين أن يفعل هذا، كأنهم ضد الله، ولا يؤمنون بكلام الله، وهم ليسوا في حاجة إلى القرآن.ثم ماذا جنى المسلمون من استقلالاتهم؟ فازوا؟ كملوا؟ سعدوا؟ نموا؟ تربوا؟سلوهم، وسلوني أخبركم، إنها -والله- محن وبلايا ورزايا، أمرّ مما كانوا عليه أيام الاستعمار.وما أفقنا إلى الآن، ومتى نفيق؟ابدءوا فقط بإقامة الصلاة، وما قلنا لكم افعلوا شيئاً آخر، وإنما أقيموا الصلاة ينفتح باب الهبة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (80)
الحلقة (87)
تفسير سورة البقرة (5)
أخبر الله تعالى أن من صفات المنافقين أنهم إذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا ما ذهبوا إلى رفقائهم وأسيادهم ولاموهم كان جواب المنافقين أنهم ما يزالون باقين على كفرهم، وأنهم ما قالوا ذلك إلا استهزاء بالمؤمنين، وسخرية بالمسلمين، فكان أن جازاهم الله بالمثل، فالله يستهزئ بهم ويزيدهم حسب سنته أن السيئة تلد سيئة، فهؤلاء قد استبدلوا الكفر بالإيمان، فما ربحوا دنيا ولا أخرى.
القرآن نور ومنهج حياة
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن ليلتنا هذه ليلة القرآن العظيم، ليلة الروح الإلهي والنور الرباني، وذلكم أن القرآن روح، ولا حياة بدون روح، وأن القرآن نور، ولا هداية بدون نور، والله كما تسمعون.قال تعالى في كون القرآن روحاً به تتم الحياة: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8].وها نحن نشاهد الواقع، فالبشرية في الشرق أو الغرب إذا لم تقبل على هذا الإسلام، وتأخذ كتابه وتقرؤه وتفهم ما يحمله، وتعمل بما فيه، والله ما سعدت ولا كملت، وحياتها حياة البهائم، ولا فرق بينها وبين البهائم، بل هي شر، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] والبرية الخليقة، بمعنى: المخلوقة. من شر الخليقة؟ القردة، الخنازير، الكلاب، الذئاب، السباع، القطط؟ لا لا، هم الذين كفروا بربهم، وأعرضوا عن ذكره وكتابه.ومن أراد أن يستقصي الخبر: أيخلقك، ويرزقك، ويهبك حياتك ثم تنكره وتكفر به، وتتعمد الفسق والفجور والعصيان عن أمره؟ هذا ينبغي أن يطحن طحناً، فأولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15].فمن هنا وهب الله تعالى هذه الأمة القرآن الكريم الروح؛ الإلهي والنور الرباني، واحتال عليها خصومها وأعداؤها من أهل الشرك والكفر فزحزحوها وأبعدوها وتركوها تعيش في أغلب أحوالها كما يعيشون، بل بلغ بنا السحر والكيد والمكر حتى أصبحنا نتعشق حياة الكافرين، ونتسابق إليها، وأرقانا من تشبه وأصبح مثلهم.أليس هذا واقعاً يا بني الإسلام؟ فكيف المخرج من هذه الفتنة؟ كيف نعود؟
المخرج من الفتنة
ليس هناك سحر، ولا طاقات، ولا قدرات، ولا ولا.. ليس هناك إلا أن نحقق إيماننا، أنت مؤمن؟ إي نعم مؤمن. صادق الإيمان؟ قال: نعم. إذاً فهيا بنا إلى مصدر قوتنا، وهيا بنا إلى الروح وإلى النور لنحيا ونهتدي إلى الكمال والإسعاد، فنأتي إلى بيت ربنا سواء كنا في رءوس الجبال أو في السفوح والوهاد، كنا في المدن أو القرى، في البادية أو الحاضرة، أردنا أن نقبل على الله ليقبل علينا فيكرمنا ويسعدنا، نجتمع بنسائنا وأطفالنا ومسئولينا في بيت ربنا كل ليلة من المغرب إلى العشاء، طول الحياة. الكفار، المشركون، المجوس، الدنيويون، إذا فرغوا من العمل ذهبوا إلى المراقص والمقاصف والملاهي والملاعب ودور الباطل يروحون عن أنفسهم كما يزعمون، ويخففون آلام النفس والتعب، وأين يذهب المسلمون؟ يجب أن يذهبوا إلى بيت ربهم، فيجتمعون ويتلقون الكتاب والحكمة؛ قال الله وقال رسوله، وما تمضي سنة ولا سنتان أو ثلاث إلا وقد تغير وضع المسلمين، وتغيرت نفسياتهم وآمالهم وأطماعهم واتجاهاتهم، وعادت كلها إلى اتجاه واحد: أن يرضى الله عز وجل ويكرمنا ويسعدنا، فلم يبق زنا، ولا خمر، ولا حشيشة، ولا كذب، ولا كبر، ولا رياء، ولا عجب، ولا نفاق، ولا تلصص، ولا خيانة، ولا ظلم، ولا اعتداء، فلا يبقى من هذا شيء، لأن العلاج قوي، فهو روح الله ونوره، وحينئذ تدين الدنيا كلها لنا، وتخضع بين أيدينا؛ لسمونا وارتفاعنا.والله! لو أن أهل إقليم أو بلد حققوا هذا المبدأ لكان يأتي الكفار ويشاهدون الأنوار ويسلمون بالمشاهدة، وخاصة في هذا الظرف العالمي الذي أصبح الصوت يسمعه كل إنسان، والمنظر يشاهده كل إنسان، وتطير من الشرق إلى الغرب، في يومك وقد طفت بالعالم، فلو يدخلون فقط على أهل قرية وهم زي واحد، سمت واحد، نظام واحد، طهر كامل، صفاء، إخاء، محبة، نظام وعمل لبهرتهم هذه الأفعال.يا شيخ! ما الدليل؟الدليل أنه في خمس وعشرين سنة فقط اتسعت رقعة العالم الإسلامي من وراء نهر السند إلى الأندلس، فهل أجبروا الناس بالحديد على الإسلام؟ لا والله، لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] ولا يوجد مسلم أسلم بالعصا والضرب والتجويع، والله ما كان.دخلوا في الإسلام لأنهم شاهدوا الربانية، وشاهدوا الأنوار تتلألأ، وشاهدوا الصفاء، الرحمة والإخاء، العدل والصدق، فانبهروا ودخلوا في الإسلام. وقد صح هذا، ولا يرده إلا مكابر معاند، نعم كانوا يتلصصون، يجرمون، يسرقون، يكذبون، يتكبرون و.. لكنهم شاهدوا العدل، الرحمة، الإخاء، الطهر، الصفاء، ومن يرفض هذا؟
الدعوة في البلاد غير الإسلامية
بالمناسبة دعنا نقل: بكينا مرات، ومسحنا دموعنا وسكتنا وقلنا: لا تبك، أمة هابطة، من يرفعها سوى الله. وقلنا: هذه الجاليات الموجودة في قارة أمريكا، قارة أوروبا، في اليابان، في الصين، في كل مكان. هذه الجاليات لو نظمت لهم لجنة عليا عالمية إسلامية، وجمعت لهم الدينار والدرهم من المسلمين، ضريبة الإسلام علي وعليك، كل يوم ريال، وكانت ميزانية، ثم وضعت خارطة لتلك الجاليات: هنا مسجد، هنا مدرسة، هنا جماعة من المسلمين، هنا كذا.. ثم قدم لهم أئمة هدى ودعاة نور على حساب اللجنة، وأعطوا كتاباً واحداً لا مذهبية، ولا طرقية، ولا انتظام في حال من الأحوال، مسلم فقط، وأخذت تلك الجاليات تلتئم وتتجمع، والنور يغمرها، فلم يبق هرج ولا مرج، ولا شر ولا فساد ولا باطل، فما تمضي عليهم خمس وعشرون سنة وهم في تلك الأنوار إلا وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وجماعات.ما المانع من هذا؟ من الذي يمكن أن يقوم بهذا؟رابطة العالم الإسلامي تصدق وتزور العالم الإسلامي، وتكون هذه الجماعة، وتوحد الإمام الداعي والكتاب الذي يدرس، وما تمضي فترة إلا والنصارى بالذات يدخلون في دين الله.ومن قال: كيف؟ نقول: الآن دخل من النصارى مئات الآلاف، مع أن الدعوة ليست بشيء، وإذا شاهدونا يضحكون: مسلم يسرق، مسلم يشرب الخمر، مسلم يفجر ويزني، مسلم معلق صليب، كيف هذا الإسلام؟!وقد فتح الله تلك البلاد فبدل ما نغزو وترسوا بواخرنا الحربية في الموانئ وندخل قال: لا .. لا، البلاد مفتوحة، ادخلوا. لكن كتب الله هذا الهبوط، لم ما يكون هذا؟ أليس واجباً على المسلمين أن يدخلوا الكفار في دين الله؟! من ينقذهم؟ من يهديهم؟ من المسئول؟ المسلمون، القرآن في أيديهم أو لا؟ إذاً هم المسئولون.لو كان لا بد من سلاح وقتال نقول: حتى نتجمع، وحتى نقوى، وحتى.. أما الآن لا، بالمال فقط، والكلمة الطيبة وتحكيم الكتاب والسنة، وإذا بالإسلام ينمو، ومع هذا فيه نماء، من كان يحلم أن فرنسا يوجد فيها ثلاثمائة مسجد؟! من كان يحلم أن بريطانيا عدوة الإسلام الأولى يوجد فيها مئات المساجد؟! وعلى هذا فقس. سمعتم هذه؟ بلغوها، قالوا: لا نستطيع.إذاً نعود إلى النواة الأولى كتاب (المسجد وبيت المسلم) فهيا يا علماء، ويا بصراء، ويا طلاب العلم، كل واحد يجمع كل أهل قرية في جامعها ومسجدها ويأخذ في تربيتها وتطهيرها، غاضاً الطرف عن الخلافات والصراعات والحزبية والجماعات، بل إخوة مؤمنون مسلمون في بيت الله، فتستنير تلك القرية ويستنير ذلك البلد، شيئاً فشيئاً وإذا النور يغمرها، أو ننتظر ماذا؟ عيسى عليه السلام! إذا نزل ابن مريم انتهى الإسلام وغير الإسلام، المسلم مسلم، والكافر كافر، فهو آية من آيات قرب الساعة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
باسم الله! ما زال السياق الكريم في بيان عورات المنافقين، والصواب: في علاج مرض المنافقين، رجاء أن يشفوا ويبرءوا من سقمهم، ويدخلوا في رحمة ربهم.
صنف المؤمنين المتقين
أشير إلى ما سبق وهو: أن الآيات التي ندرسها صنفت البشرية ثلاثة أصناف: مؤمنون متقون، وهم المفلحون، وانظر إليهم وهم متمكنون من هداية الله، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5]. وهل الذي متمكن من هداية الله يسرق، يحسد، يبغض، يغتاب وينمم، يفجر ويقتل؟! كيف الهداية هذه؟ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ، هؤلاء هم المفلحون، سواء كانوا من البيض أو الصفر أو الحمر، العجم أو العرب، بل حتى من الجن. الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى [البقرة:1-2] لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] من هم؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:3-4] فدخل اليهود والنصارى أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] هؤلاء أسلموا لله القلوب والوجوه، منهم الكافر واليهودي، والنصراني، والعرب، والعجم. هذا صنف السعداء.
صنف الكفار
هناك صنف آخر قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لم؟ لأنهم توغلوا في الكفر، وضربوا في الفساد والشر، فطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ولا يفقهون، وبين تعالى العلة فقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] فلا يدخلها إيمان ولا نور القرآن ولا حكمة محمد صلى الله عليه وسلم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فما يسمعون أبداً، يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا الأذان. وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] غطاء أسود فما يشاهدون آية من آيات الله، وهؤلاء لا يؤمنون، وهم أصحاب النار، وأهل الجحيم والخسران.أما الكافرون الذين ما انتهوا إلى هذا المستوى فهم الذين يدخلون في رحمة الله، ويسلمون قبل أن يأتي الطبع والختم.
صنف المنافقين
الصنف الثالث: هم المنافقون، قال تعالى فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] ناس عرفهم الله، ناس من أسوأ الناس يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، وقد عرفتم أن ركيزة الإيمان التي بها يقوى العبد على أن يفعل ويترك هو تحقيق الإيمان بالله وبلقاء الله. أما الإيمان بالرسالة، بالقدر، بالكتب، فأمرها أهون. لكن الإيمان بالله رباً وإلهاً لا إله غيره، يعلم ظاهرك وباطنك، بيده أمرك، حياتك .. مماتك، سعادتك .. شقاؤك، إن شاء أخذ أنفاسك وأماتك، وإن شاء أبقاك وأحياك، والذي لا يملك معه كائن ذرة بالكون. هذا الإيمان بالله، ثم الإيمان بلقائه وجهاً لوجه في ساحة فصل القضاء. ويؤمن بالدار الآخرة، وما يتم ويجري فيها من حساب دقيق وجزاء عظيم، إما نعيم مقيم، وإما جحيم وعذاب أليم. وهذا الإيمان إذا ضعف في النفس ما يستطيع صاحبه حتى يبصق في المزبلة.وهنا نذكر هذه الحقيقة: قوِ يا عبد الله إيمانك بربك، وتعرف إليه، واسأل عنه، وتصفح كتابه، واسمع ما يقول القرآن في صفاته، حتى تكتسب نوراً عظيماً يتولد منه حبك لله وخوفك من الله، فمتى أصبح الآدمي يحب الله أكثر من حبه لنفسه وماله وولده والناس أجمعين، وأصبح يرهبه ويخافه، أصبح يستطيع أن يغض بصره، ويستطيع أن ينطق بالكلمة الطيبة دون الخبيثة، يستطيع أن يموت جوعاً ولا يمد يده، يستطيع أن يعيش أربعين سنة عزباً، ولا يفكر في زنا ولا باطل.قوة الإيمان: حب الله والخوف منه.والإيمان بيوم القيامة وما يجري فيه إذا نماه العبد، وزاده بالنظر في الملكوت، بالنظر في الكتاب، بسماع كلام الله، صير صاحبه وجعله لا يدخل إلى بيته قشة أو إبره وهي حرام أبداً، وما يستطيع أن يسب مؤمناً أو يشتمه فضلاً على أن يذبحه ويمزق بطونه.فالإيمان بالله وباليوم الآخر هو الركن الركين في أركان الإيمان الستة.قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فما استقر هذا الإيمان في قلوبهم، ولا صدقوا الرسول، ولا كتابه، ولا آمنوا. إذاً: كيف؟ قال: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] هؤلاء هم المنافقون.كان المنافقون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، أما مكة فلم يكن فيها نفاق، والمدينة كان فيها يهود، وفيها عرب مشركون قلوبهم ميتة، وضمائرهم ممزقة، يحبون الدنيا، ويحبون المال والسلطان، فلما وجدوا نور الإسلام غشى البلاد وغطاها أظهروا الإيمان فقط بألسنتهم، أما قلوبهم فليس فيها ذرة من إيمان، فينافقون ويقولون: نحن مؤمنون.كان عبد الله بن أبي يدخل الروضة ويعلن: والله إنك لرسول الله. حتى يزيل التهم عن نفسه، والله يقول: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون:1-2] أي: وقاية فقط، وهؤلاء عالجهم القرآن فأذهب تلك الأمراض من نفوسهم من يوم إلى آخر، ومن عام إلى آخر، وما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة منافق، فانتهوا. هذا علاج أو لا؟ هذا هو القرآن، هذا هو الشفاء: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].اسمع ما يقول عنهم؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:8-10] يعني: سرطان؟! مرض القلب هذا هو مرض حب الدنيا والشهوات والأطماع الكاذبة، مرض الشرك والكفر، وحب الباطل، وهذا أخطر من الأمراض العادية. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] نعم، سنة الله أنه إذا استشرى الداء ينتشر بالجسم، وما دام وجد المرض فكل يوم يزدادون مرضاً جديداً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] وفي قراءة: (يكذِّبون)، عرفتم العلة؟ بما كانوا يكذبون على الله ورسوله والمؤمنين بدعوى أنهم مؤمنون، وبما كانوا يكذبون في باطنهم لله ورسوله، فمنهم من يكذِّب ومنهم من يكذِب، والقرآن جمَّاع المعاني.
الادعاء الكاذب من صفات المنافقين
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] من يقول لهم: لا تفسدوا في الأرض؟ أي: لا ترتكبوا المعاصي. مؤمن وتشرب الخمر سراً؟! مؤمن وتغتاب أبا بكر وفلاناً وفلاناً؟! مؤمن وتؤخر الصلاة؟! ما لك! لا تفسد في الأرض، قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] لسنا بمفسدين، وفعلنا كذا وكذا من أجل الإصلاح، لأنهم يبيتون مع الزملاء، فيتآمرون على الحق ودعوته، وإذا قيل: لم هذا؟ يقول: نحن مصلحون، هذا من أجل الإصلاح. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] هذا البيان ممن؟ من الله. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12] من هم المفسدون اليوم وغداً؟ هم الذين يعملون بمعاصي الله، والله العظيم لهم المفسدون، وما من نعمة تزول إلا بعصيانهم وفسقهم وفجورهم.فهمتم هذه أو لا؟!ولهذا نقول للمسلمين: يا عباد الله! لا ينجيكم من نقم الله وعذابه وسلب نعمه إلا أن تعتصموا بحبله، ما ترضى أبداً أن يكون في بيتك فاسق، ولا أن يكون جارك فاسق ولا مع فاسق، اعمل على تطهير القرية والحي والبلاد، وبهذا تستطيع أن تفرح بنعمة الله ولا تزول.فالذين يعملون بالمعاصي دعوني مع واحد منهم: أنا في حيرة، ما فهمت، هنا مقابل المسجد النبوي بيت متهشم، ما هو عمارة، فيه دش عرض وطول كذا، فما استسغنا أن يكون هذا أمام الرسول، أمام مسجده، في طريق المؤمنين، لم هو عامل ذلك الدش؟ ما بلغه أنه حرام! صدرت الفتيا من كبار العلماء، من أعلم أهل الأرض ولا فخر سماحة الشيخ عبد العزيز وقرأتموها أن الدش حرام، لم؟ لأنه يورث مفاسد عظاماً. فكتبنا له رسالة، وكلما مررنا الدش منصوب، قلنا له: أنت تتحدى رسول الله، كأنك تقول: رغم أنفك يا محمد! أنت كنت تغضب للصورة، أنا آتي بصور الكفار والعواهر في بيتي أمامك، فهل هذا يبقى له إيمان أو وجود؟ أنت يا محمد! تضطرب لما تشاهد الصورة لأن المصور يغاضب ربك عز وجل، وتقول لـعائشة : ( أخرجي، أبعدي عني هذه؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، وأنت تتحدى رسول الله؛ لأنه ميت. تصورتم هذا أو لا؟إذا كان يستفيد ريالاً واحداً في اليوم نقول: معذور، فقير يأكل بالريال، والله ما يفيده ريال، لو كان يهذب أخلاقه وأخلاق بناته وامرأته وأولاده فيسمون ويرتقون، ويصبحون أصفياء نقول: نعم، ولكن -والله- ما يزيدهم إلا دماراً فقط.لعل الشيخ واهم! إن النظرة فقط تدخل على النفس أو على القلب ظلمة قد يهلك معها.إذاً: ما ندري لم؟ إلا إذا أراد الله أن يزيل هذه النعمة وأسبابها، فننتحر بأيدينا، فهم ما يحضرون الدروس، وما يطلبون العلم، ما يسألون، بهائم أو ماذا؟ نحن عشنا على مبدأ: لا يحل لمؤمن أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. هل سأل أهل العلم؟ يقولون: لا بأس، كيف يقولون: لا بأس؟ ما هي النتيجة إلا أنه يترك الصلاة؟ ما هي النتيجة إلا أنه يحب الزنا والفجور؟ ما هي النتيجة إلا أن تصاب بيته بالخراب والدمار؟ كيف؟ إلا أنه يتحدى رسول الله، هذا الواقع.ما هي العلة؟ النفاق، إيمان صوري فقط، مؤمن .. مسلم، تعال نستعرض إيمانك على ضوء ونور الكتاب والسنة، وانظر أنت مؤمن أو لا؟إذاً: هذه الآية ما هي خاصة بتلك الجماعة على عهد الرسول، هذه آيات هداية للبشر إلى يوم القيامة، نماذج حية وباقية. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ [البقرة:11-13] فلان وفلان، أنت مؤمن؟ لم فلان ما يفعل كذا وكذا؟ آمن إيمانه. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] هؤلاء رجعيون، متخلفون، متأخرون. منهم هذا الشيخ الذي يتمنطق ويتمشدق في المسجد النبوي، ويسمع له البهاليل، الأمم رقت وطارت في السماء وحلقت في كذا وهو يرجع بنا إلى الوراء، يقول: الصور حرام وكذا. والله لهذا منطقهم: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] ما السفيه؟ خفيف الإرادة، قليل العلم، الذي يتخبط في أودية الشر والفساد، ويظن أنه مترقي، ناجح، خفة العقل والحلم، وقلة العلم هي عناصر السفه.
تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ...)
ثم يقول الله تعالى عن المنافقين: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فقط، هذه الحلقة موجودة الآن أيضاً ولا تنقطع، يبقى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] إذا جمعهم مجلس فيه مؤمنون قالوا: نحن مؤمنون، آمنا. وَإِذَا خَلَوْا إِلَى [البقرة:14] من؟ شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] من هؤلاء الشياطين؟ الشيطان إنسي أو جني، من بعد عن الخير وساحاته كلها، وانغمس في الشر بكله، سواء كان من الآدميين أو من الجن، مأخوذ من شطن الحبل في البئر إذا بعد، فكل من بعد عن الخير، وأصبح لا يميل إلى الخير، ولا يدعو إليه، ولا يفكر فيه، وأصبح همه الشر، والشر هو الذنوب والمعاصي والجرائم، فالذي يغتاب مؤمناً ويمزق عرضه هذا خير؟! الذي يفجر بامرأة أخيه وإلا بنته فيفسد عليها هذا خير؟!إذاً: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الذين لا خير فيهم، ولا يفكرون في الخير، ولا يعملون على إيجاده، ولا على العيش فيه بل يكرهون رؤيته، هؤلاء إذا اجتمعوا معهم قالوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]. أنت كنت مع الجماعة الفلانيين؟ قال: نعم ولكن الظروف فقط، الظروف فقط وإلا نحن كما عهدتمونا على المبدأ ملتزمون، وإنما للظروف جلسنا معهم، قلنا مثل ما يقولون ونحن نسخر منهم، هل يقع هذا اليوم؟ والله ليقعن، لم؟ لأن القضية قضية إيمان وكفر فقط، فإذا ذهب الإيمان واضمحل أو ما آمن من أول ما عرف الإيمان، هل سأل عن الله أو عن لقائه؟ إذاً فالوضع هو هو. وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] أي: من الإنس لا من الجن، هل هناك شياطين الجن يعقدون اجتماعات؟ لا، هؤلاء إخوانهم في بيوتهم، وفي مجالسهم الخاصة، وفي البساتين، إذا خلوا إليهم أي: أفضوا إليهم، وما قال: خلوا بهم، بل ذهبوا إليهم فعدى بـ(إلى) قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)
ثم ماذا قال تعالى لهم؟ قال: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] يا ويلهم! يستهزئون بأولياء الله فيتركهم الله! وهو القائل: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) يستهزئون بأوليائه فيسكت؟ بل يعاملهم بالمثل، إلا أن استهزاء الله كما هي ذاته وصفاته، فلا نشبهه بصفات المحدثين وأخلاق الهابطين.قوله: وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15] أي: يغمسهم ويدفعهم في بحر الضلال والظلام. فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] العمه يكون للقلوب، والعمى يكون للعيون، وعمى القلب أخطر من عمى العين. وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ [البقرة:15] والطغيان هذا هو العصيان، وعدم الطاعة لله والرسول وللمؤمنين، هذا هو الطغيان، أي: مجاوزة حدهم، فبدل أن يؤمنوا ويستقيموا وينهجوا منهج الله كسائر المؤمنين يحتالون ويفكرون، ويعدون العدد، ويتصلون باليهود والنصارى في الشرق والغرب، فيدبرون المؤامرات.
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)
ثم يقول تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:16] البعداء من ساحة الإيمان والمؤمنين أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أعطوا الهدى، وتسلموا الضلالة. والهدى هو الإيمان بالله ولقائه، والاستقامة على منهجه، نهوضاً بالتكاليف، وابتعاداً عن المحرمات والمنهيات، هذا هو الهدى، لكنهم باعوه بالكفر -والعياذ بالله- وبغض الإيمان والمؤمنين، وحرب الإيمان والمؤمنين في الخلوات والجلوات. هل هذا البيع يصلح؟! هذه هي التجارة: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أعوذ بالله! كالذي يشتري الموت بالحياة؛ يعطي الحياة ويأخذ الموت.قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] هذا التعقيب فمن عقب؟ الله العليم الخبير، خالق كل شيء، ما ننطق حتى يأذن لي فأنطق، هذا الذي أخبر بهذا الخبر، هذا هو التوقيع الأخير.قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] أو ربحت؟ والله لقد عاشوا على عهد الرسول في ذل وكرب، وهم وغم حتى أسلموا، والذين ماتوا على همهم ومصائبهم إلى جهنم، فلا يعرفون السعادة أبداً، لكن الآن الذي نأسف له أنه ما عندنا دعوة في قرانا ومجتمعاتنا تعالج أمراض المنافقين، أمراض العلمانيين، أمراض الشهوانيين. لا يوجد علاج! هذه هي المحنة.أيام كان الرسول موجوداً، والقرآن ينزل، والمؤمنون ينقلون هذا، تنزل آية ما تبيت إلا في كل بيت، عجب! ينزل خبر تجده في كل بيوت المدينة.فلهذا قلنا: ما في إلا كتاب (المسجد وبيت المسلم) سيقال: لعل الشيخ مصاب بشيء من الجنون؟! والله إني لعلى عقل كامل والحمد لله، ووالله لن يرتفع لهذه الأمة راية ولا شأن إلا إذا عادت من جديد إلى العلم بمعرفة الله، ومعرفة ما يحب، وما يكره، ونهضت بذلك. ما الطريق؟ المدارس والكليات! دلوني على بلد إسلامي ليس فيه مدارس وكليات، هل أجدت شيئاً؟ هل نفعت؟! فقط كل ما تقول: هي خير من لا شيء، لكن إذا أردنا أن يحبنا الله، وأن نكون أولياء الله وأن يرهب أعداءنا ويفزعهم بنا فهذا عندما نرجع الرجعة الحقة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.أهل القرية في المسجد بانتظام لا يتخلف أحد إلا إنسان مريض أو امرأة حائض أو نفساء، من المغرب إلى العشاء يتلقون الكتاب والحكمة؛ أنوار الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، عاماً أو عامين إلا والدنيا كلها أنوار، وينتهي الفقر والبلاء والمحائن والجرائم، وتنمحي، هذه سنة الله، القرآن روح أو لا؟ أحيوا. القرآن نور أو لا؟ اهتدوا. مَن مِن العلماء من يفكر هذا التفكير؟ وكلنا الأمر إليكم يا علماء، يا طلاب العلم! دلونا على قرية جمعتم أهلها فنزورها لله تعالى، ودلونا على بلد نسافر لنشاهد هذا النور، ونأتي بالكفار ليشاهدوه: انظروا إلى الإسلام كيف تتلألأ أنواره، انظروا إلى العدل، والصفاء، والرحمة، والطهور، والإخاء. قلتم: ما استطعنا. إيه، تكليف عظيم هذا! بدل أن تلهوا وتلعبوا بين المغرب والعشاء اجتمعوا في بيت الله، ابكوا فقط ولا تقرءوا، فقط البكاء والنحيب بين يدي الله حتى يرفع هذا البلاء. قالوا: ما نستطيع. إذاً ما الذي نستطيع؟ نرد الأمر إلى الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال: [شرح الكلمات: لَقُوا [البقرة:14] اللقاء والملاقاة المواجهة وجهاً لوجه. آمَنُوا [البقرة:14] الإيمان الشرعي: التصديق بالله وبكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، وأهله هم المؤمنون بحق. خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الخلو بالشيء الانفراد به. شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] الشيطان: كل بعيد عن الخير قريب من الشر، يفسد ولا يصلح من إنسان أو جان، والمراد بهم هنا: رؤساؤهم في الشر والفساد.(مستهزئو ن) الاستهزاء: الاستخفاف والاستسخار بالمرء.(الطغيان): مجاوزة الحد في الأمر والإسراف فيه.(العمه): للقلب كالعمى للبصر، عدم الرؤية، وما ينتج عنه من الحيرة والضلال. اشْتَرَوُا [البقرة:16]: استبدلوا بالهدى الضلالة، أي: تركوا الإيمان وأخذوا الكفر. تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] التجارة: دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه. والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزاً وغنىً في الدنيا فخسروا ولم يربحوا، إذ ذلوا وعذبوا وافتقروا بكفرهم.(المهتدي): السالك سبيلاً قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبلا عناء، والضال خلاف المهتدي وهو السالك سبيلاً غير قاصدة، فلا تصل به إلى مراده حتى يهلك قبل الوصول والعياذ بالله].
معنى الآيات
قال: [معنى الآيات: ما زالت الآيات تخبر عن المنافقين وتصف أحوالهم، إذ أخبر تعالى عنهم في الآية الأولى (14) أنهم لنفاقهم وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بالله والرسول وما جاء به من الدين، وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضلالة فلاموهم عما ادعوه من الإيمان قالوا لهم: إنا معكم على دينكم وما آمنا أبداً، وإنما أظهرنا الإيمان استهزاءً وسخرية بمحمد وأصحابه.كما أخبر في الآية الثانية (15) أنه تعالى يستهزئ بهم معاملة لهم بالمثل جزاءً وفاقاً، ويزيدهم حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم؛ لتزداد حيرتهم، واضطراب نفوسهم، وضلال عقولهم.كما أخبر في الآية (16) أن أولئك البعداء في الضلال قد استبدلوا الإيمان بالكفر، والإخلاص بالنفاق، فلذلك لا تربح تجارتهم، ولا يهتدون إلى سبيل ربح أو نجح بحال من الأحوال ].
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: التنديد بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في ملاقاتهم هذا بوجه وهذا بوجه، وفي الحديث الشريف: ( شراركم ذو الوجهين ) ] يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، وإن شاء الله لا يكون بيننا واحد من هذا النوع.[ ثانياً: إن من الناس شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف ].موجودون هؤلاء. أعيد فأقول: من هداية الآية: إنها تخبر أن من الناس شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ينهون عن الصلاة، أبداً: كيف تغلق دكانك أنت وتصلي؟ أليس هذا نهياً عن المعروف؟ الذين يهربون الحشيش والمسكرات ويبيعونها في مدينة الرسول أليسوا هم؟ الذين يوردون الصور الخليعة ويبيعونها أليسوا هم؟قال: [ ثالثاً: بيان نقم الله وإنزالها بأعدائه عز وجل ] طال الزمان أو قصر.والله أسأل أن يعافينا، ويحفظ ديارنا من هذه المحنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (81)
الحلقة (88)
تفسير سورة البقرة (50)
هناك يوم كثير منا لا يحسب حسابه، ولا يُعدّ له جوابه، إنه يوم الدين، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يوم تجدب فيه عاطفة الأبوة والبنوة، ويغدو الذهب والفضة حطاماً بعد أن كان سوقاً رائجة، يوم يهرع فيه الناس يمنة ويسرة باحثين عن شفيع لهم، عن منقذ لهم من عذاب لم يكن يدور بخلدهم؛ لأنهم كانوا في حلم عميق، اسمه الدنيا، فمتى سنفيق؟!
تابع تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:122-123].
نعمة القرآن الكريم والعمل به
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!من قال: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122]؟ والله إنه الله، فهذا كلامه، وهذا كتابه، وذاك رسوله، ونحن شهداء له على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فالحمد لله أن عندنا كلام الله، وقد حرمه الأبيض والأصفر، ونحن أكرمنا الله فأعطانا كلامه، فها نحن نتلو ونسمع، والحمد لله.وهذه نعمة الله، لنا سببها الإيمان، ولو أننا ما آمنا لكنا مبعدين .. ملعونين .. مطرودين .. محرومين، فلا نعرف الله ولا نعرف عنه شيئاً، كما هو مشاهد في (99%) من العالم أبيضه وأسوده، أما نحن فالحمد لله.ربنا .. خالقنا .. رازقنا .. خالق الكون .. مدبر حياتنا .. الذي رزقنا أسماعنا، وأبصارنا، وعقولنا، ينزل كتابه إلينا، وها نحن نتلوه، ونتدبره، ونفهم ما فيه، ونعمل بما فيه، فأي نعمة أجل وأعظم من هذه؟ لا نعمة.فهيا بنا ندرس هذه الآيات الثلاث.
نسب بني إسرائيل
يقول تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:122] من هم بنو إسرائيل؟ إنهم اليهود، وقال فيهم: بنو إسرائيل؛ لأنهم قطعاً من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويعقوب عليه السلام يلقب بإسرائيل، كعبد الله وعبد الرحمن.وإسرائيل مضى عليه آلاف السنين، وهكذا أولاده، وأحفاده، وأحفاد أحفاد أحفاد أحفاد .. فهم سلسلة، وقد ماتوا، والذين بقوا أحياء على عهد نزول هذا الكتاب كانوا يسكنون هذه المدينة، فهو يخاطبهم تعالى بوصفهم سلسلة ما انقطعت من إسرائيل عليه السلام.وقد علمتم أنهم يحتفظون بأنسابهم، ويحتفظون بيهوديتهم البدعة الباطلة، فلا يفتحون باباً للتهويد كما فعل النصارى الذين فتحوا أبواباً للتنصير، ولا يريدون أن يدخل الناس في دينهم، وهم يعتقدون تلك الفرية الباطلة؛ أنهم شعب الله المختار، في حين أننا علمنا علماً يقينياً أن الله قد غضب عليهم ولعنهم، وما من مؤمن منا ولا مؤمنة إلا ويقرأ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، فصراط غير المغضوب عليهم هم والله اليهود، فغضب الله عليهم.
أسباب غضب الله على بني إسرائيل
فإن قال قائل: هل لك -يا شيخ- أن تبين لنا أسباب غضب الله عليهم حتى نتقيها؛ لأننا نخشى أن يغضب الله علينا ويطردنا من رحمته؟ فبين لنا -يا شيخ- شيئاً مما استوجب غضب الله على اليهود حتى لعنهم وغضب عليهم؛ خشية أن نقع نحن في ذلك الإثم، وتلك المعاصي، فيغضب الجبار علينا ويلعننا؟الجواب: مما استوجب غضب الله تعالى على اليهود -بني عمنا- يا أولاد إسماعيل عليكم السلام، أنهم قتلوا الأنبياء والعلماء، ونحن ما قلتنا الأنبياء؛ لأنهم غير موجودين، ولو كانوا موجودين من يضمن أننا لا نقتلهم، وقد قتلنا العلماء؟!ثانياً: استوجبوا غضب الله؛ لأنهم أكلوا الربا، واستباحوه، وأشاعوه بينهم، ونشروه في العالم اليوم، فغضب الله عليهم؛ لأنهم تحدوه، وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، فاستباحوا الربا، وتعاملوا به، وأكلوه.وهل المسلمون اليوم سلموا من هذه؟الجواب: كلكم يعلم، وما يدرينا أن الله قد غضب، فما هناك وحي جديد أبداً، لكن الرسول والكتاب بيَّنا لنا موجبات الغضب، فالذي يتحدى الجبار، ويخرج عن أمره، ويفسق عن طاعته يغضب عليه.ومن موجبات غضب الله وسخطه أنهم يستبيحون المحرمات بفتاوى يفتونها، ويلصقونها بكتاب الله.وهل فعل المسلمون هذا؟نعم ألفوا كتباً بالقناطير .. بالأطنان، وحشوها كلها باطلاً ونسبوها إلى الله وإلى الإسلام، ففعلوا مثلما فعل اليهود.وعطل المسلمون شرائع الله، واستبدلوها بأهوائهم، وشهواتهم، وأطماعهم، فاستوجبوا غضب الله.وكذلك فعل المسلمون في الجملة فعطلوا شرع الله، وأوقفوه، وأبعدوه من ساحة القضاء والحكم، واستباحوا ما حرم الله، ومن يضمن أننا غير مغضوب علينا؟!
مظاهر غضب الله على بني إسرائيل
غضب الله على بني إسرائيل فسلط الله عليهم ضربتين قاسيتين:الأولى: على يد البابليين، فشردوهم ومزقوهم ونكلوا بهم، وبعد مرور القرون تراجع من تراجع، وتابوا إلى الله وأنابوا، فعادوا وقالوا لأحد أنبيائهم: عين لنا ملكاً نقاتل تحت رايته، ونسترد مجدنا، ونظامنا، ودولتنا، فاستجاب الله، وانتصر داود عليه السلام في تلك المعركة الخالدة، وما إن مات ذلك الحاكم حتى أصبح داود الحاكم والنبي المرسل، وتكونت دولة اتسع نطاقها على يد ولي عهده سليمان عليه السلام، فساد بنو إسرائيل العالم؛ الشرق والغرب، وكانت أنوار الإله، والأنبياء، والحكمة، والحكم، والكتاب تغمر الدنيا.ثم لما شبعوا وسكنت نفوسهم واطمئنوا ومات سليمان تمردوا على الله، وفسقوا عن أمره، ولبس نساؤهم الكعب العالي.فإن قال قائل: يا شيخ! لكن الكعب العالي وجد عندنا نحن أيضاً؟!هذا صحيح ولست أنا القائل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدثنا عنهم.ولبست المرأة الإسرائيلية الكعب العالي؛ لأنها قصيرة القامة فتريد أن تطول وترتفع، فيصنع لها حذاء كعبه طويل.وقد قال لي أحد الأبناء: يا شيخ! ليست القضية أن الكعب عال ومرتفع حتى تظهر للرجال، لا؛ ولكن القضية أنها إذا لبسته تتغنج، وتتكسر، وتتمايل لتفتن القلوب، وقد فعل نساء المؤمنين اليوم ما هو أفضع وأبشع، فانتهى الحياء إلا من رحم الله.ثم أصبح نساء بني إسرائيل يبعن ويشترين في البيع، فصدر الأمر بطردهن.قالت عائشة رضي الله عنها: قد يطرد نساء اليوم كما طرد نساء بني إسرائيل.فما إن فسق بنو إسرائيل -وفسق هذه الأمة اليوم ليس بأقل- حتى سلط الله عليهم الرومان، فأذاقوهم مر العذاب، وشتتوهم، ومزقوهم، ويدلك على تشتيتهم أنهم نزلوا بهذه الصحراء القفراء .. بهذه المدينة السبخة، هاربين من سطوة وسلطان الروم في الشمال.وفعل الله هذا ببني إسرائيل؛ لأنهم فسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، ولا أحسبهم أنهم كانوا أسوأ منا وأهبط منا أبداً. ومن هنا غضب الله عز وجل فسلط الكافرين على المسلمين.فإن قال قائل: أحقيقة هذا يا شيخ؟ هل الكفار أعداء الله وأولياء الشيطان يسلطهم الرحمن على المؤمنين؟!الجوا : إي والله، ولقد حكمونا في الشرق والغرب، في ممالك الهند العظيمة، وفي جزر جاوة، وفي الشرق الأوسط، وما نجا إلا هذه البقعة، وهذه آية من آيات الله فقط.إذاً: فعل الله بنا كما فعل ببني إسرائيل، فلسنا أفضل منهم، وأين يذهب بعقولنا؟!إن أولاد الأنبياء يناديهم الله بهذا النداء الثالث: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ يريد أن يسترجعهم .. يريد أن يردهم من تيهانهم ليكملوا ويسعدوا: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:122].إذاً: ما هناك فرق أبداً بيننا وبينهم إلا فرق واحد، وهو أنه يوجد بيننا مؤمنون ومؤمنات، أطهار، أصفياء، هم أهل الله وأولياؤه، وهؤلاء هم أهل دار السلام، وهم بقيت فيهم بقايا، لكن قليلة؛ لأن عددهم قليل، فهذا الفرق بيننا وبينهم اليوم.
المسلمون أولى بالموعظة من بني إسرائيل
قدمت هذه المقدمة؛ لأني سبق أن قلت لكم: نحن أولى بهذه الموعظة من بني إسرائيل، فإن بني إسرائيل لا وجود لهم معنا، ولو كانوا معنا لوجهنا إليهم هذا النداء الإلهي، لكن الله نجانا منهم، وطردهم من الحجاز والمملكة، ولو كنا قادرين على أن نبلغهم لبلغناهم، وذهبنا إلى ديارهم، لكننا عاجزون، فنحن الآن أحق بهذا النداء؛ لأن حالنا كحالهم.فيا أمة الإسلام! يا أهل القرآن! يا أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم! اذكروا نعمة الله عليكم، أن كنتم مشركين؛ وثنيين، يهوداً، نصارى، بوذا، صابئة، لا تعرفون الله ولا لقاءه، ولا تعرفون نوراً ولا هداية، فأنعم عليكم بأعظم نعمة؛ أن أنزل كتابه وبعث رسوله، وجمعكم على الإيمان والتقوى.
المراد من ذكر النعم
فإن قال قائل: هل المراد من الذكر أن نقول: إن الله أنعم علينا.. إن الله أنعم علينا .. إن الله أنعم علينا؟ هل هذا المقصود؟الجواب: المقصود: اذكروها بقلوبكم؛ لتشكروها بألسنتكم وجوارحكم.واذكرو النعمة من أجل أن تشكروا المنعم جل جلاله وعظم سلطانه، وهذا هو الطلب.واذكر النعمة لتشكر المنعم، فيزيدك، ولا يغضب عليك، ولا يسلبك ما أعطاك.ونحن أية نعمة نشكرها؟أخبرنا الله أن نعمه علينا لو أردنا إحصاءها والله ما قدرنا، ولا بالآلات العصرية، إذ قال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].ومن هذه النعم التي أنعم الله بها علينا نعمة الإسلام بشرائعه، وقوانينه، وآدابه، لكننا تخلينا عنه، وتحللنا، وبعدنا، وما أصبح لنا هيكل ولا ذات، ولا شخصية، وعلى الأقل يقال: هؤلاء مسلمون، إلا من رحم الله، فكأننا ذبنا ذوباناً، فما أصبح للعالم الإسلامي ذات ولا شخصية.
نعم الله تستلزم الشكر
إذاً: المطالبة بذكر النعمة المقصود منها الشكر.لكن ما هو الشكر يا شيخ؟الشكر هو الاعتراف بالقلب، وفي قرارة نفسك، أن لا تنسى أن ما بك من نعمة فهي من الله، وابدأ بسمعك .. ببصرك .. بمنطقك .. بلسانك .. بيديك .. برجليك .. ببطنك.. بذاتك كلها، هو منعم بها عليك، فهل أنت خلقت نفسك؟ وهل أنت أوجدت سمعك وبصرك؟ وهل أنت أوجدت عقلك، وفهمك، وذوقك؟إذاً: هذه الحياة نعمة كاملة أهديتها، فاذكر هذا بقلبك، ثم احمد واشكر المنعم، ولا تنس قولك: الحمد لله في صباحك ومسائك .. في ليلك ونهارك .. في مرضك وصحتك .. في جوعك وشبعك .. وفي كل أحوالك .. فدائماً تقول: الحمد لله.ومن معاني الشكر أن تصرف النعمة فيما من أجلها أنعم الله بها عليك. وهيا بنا نبدأ بنعمة البصر، فهل أذن الله لك -يا عبد الله- أن تفتح عينيك وتبصر ما لا يحل لك؟أما بلغك قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30].أما قال للمؤمنات بلغ يا رسولنا: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ َ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ [النور:31].. هذا الكلام جديد أم قديم؟ فيا رسولنا بلغ، فاللهم اشهد فإنه قد بلغ، وهذا كتاب الله بين أيدينا.وهل شكرنا نعمة البصر فغضضنا أبصارنا، وغض نساؤنا أبصارهن؟ قلنا: لا نطيع.أما نعمة اللسان، ولو تصفي حالنا، وتغربل وضعنا، وتستخرج أضغاننا، وأمراضنا، وأحقادنا، وباطلنا، وتشاهد ذلك يغمى عليك، في حين -اسمع وبلغ- يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، وهل طبقنا هذا الأمر؟أقول: لو تسجل أقاويلنا، وأحاديثنا، وهراؤنا سيملأ الكون، وإن شئتم انظروا إلى النقد، والطعن، والشتم، والسب، والانتقاد، والسخرية و.. و.. كأننا لسنا بالمؤمنين، أليس هذا الواقع؟ إنه لهو الواقع.واسمع إلى غيرك في المجالس واذكر شخصاً، فإذا الجالسون ينهالون عليه، وقل من يغلق أذنيه ويقول: لا تغتابوا، لا تذكروا كذا.فأين نعمة اللسان وهي من أجل النعم.لقد أعطيت هذا اللسان لتفصح عما أنت في حاجة إلى بيانه فيقول: أمي أعطني الماء .. أبي ناولني كذا .. فلان اربط كذا، وكل ذلك من أجل أن تخدم نفسك بلسانك، لا أنك تكفر به نعم الله.لعلي واهم؟ولو كنت واهماً لأشرت إلى وحدة المسلمين، وتحابهم، وتعانقهم، وتلاقيهم كأنهم جسم واحد، لكن انظروا إلى بلداننا: حكومات، أحزاب، منظمات، جمعيات، قبائل، طوائف، فهي تأكل بعضها بعضاً، فأين آثار طاعة الله عز وجل؟
نعمة الدين ووحدة المسلمين
قد قال تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، وقال: ( المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يكذبه، ولا يقتله، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، عرضه، ماله ).وتبلغني عجائب عنا كمسلمين، فأقول: والله إن عذاباً يجري في بلاد العرب لا يوجد يوم القيامة .. إن عذاباً يجري في بلاد العرب -فضلاً عن العجم- في سفنهم لا يوجد في النار.إذاً نحن أولى بهذا النداء من اليهود.يا بني الإسلام! اذكروا نعمة الله عليكم. ماذا كنتم؟كنتم بهائم في الغابات ورءوس الجبال، لا تعرفون الله ولا الدار الآخرة، ولا إيمان، ولا إحسان، ولا إسلام، فأنعم الله عليكم بنعمة أعزكم على البشر، ورفعكم إلى مستوى لا يصل إليه إلا مثلكم، فلِمَ ننتكس، ونرجع إلى الوراء، ونغير مجرى حياتنا، ونصبح عرضة لغضب الله علينا؟!وقد أرانا الله آية، فاستعمار الشرق والغرب لنا آية، ونحن الآن تحت النظارة، والله العظيم، فالله بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].والآن لا وجود لكلمة صحوة، بل سكارى، وكل يوم والعالم الإسلامي هابط، فإذا دقت الساعة وغضب الجبار فسوف ينزل بالموجودين بلاء أعظم مما سبق، فما صحوا، ولا استفاقوا، ولا رجعوا، والأيام تمضي، والخطايا والذنوب والخبث تعفن الجو والكون منه.
معنى قوله تعالى: (وأني فضلتكم على العالمين)
قال تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:122]، والمراد من العالمين: عالَم زمانهم، والله لكانوا أفضل من العالم وسكان العالم.ونحن أعطينا هذا الخير، فيقول الله لنا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، هذا الخبر إلهي: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ نكرة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، بسبب إيماننا واستقامتنا على منهج الله، فلما فجرنا عن أمر الله وفسقنا عن طاعته اختلط أمرنا، وتحللنا، وتمزقنا، وفقدنا تلك الروحانيات، وأصبحنا عرضة لسخط الله.ولا تقولوا: هذا الشيخ يؤيسنا ويقنطنا.أقول: هذا كلام باطل فلا تذكروه، فما أيَّسنا أحداً ولا قنطناه.فيا عبد الله! ويا أمة الله! الزم باب الله، وأقم الصلاة، واذكر الله، وكف لسانك وبصرك، واذكر ربك، فلم يبق بينك وبين الجنة إلا أن تموت.وقوله: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ونحن فضلنا فقال: خير أمة أخرجت للناس ، وهي أفضل من قوله: فضلناكم على العالمين، أي: فضلناهم بالمآكل .. بالأنبياء .. بكذا، لكن نحن جعلنا خير الناس: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].أسألكم: باستثناء هذه المملكة التي نحاربها ليل نهار والعياذ بالله، وأعوذ بالله منا، هل وجدت هيئة تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر في غير المملكة؟أجيبوا. لم؟ من منعنا؟فإن قال قائل: يا شيخ! نحن مستعمرون.أقول: لا، أيام الاستعمار ما قلنا هذا، ولكن قلنا هذا أيام الاستقلال والسيادة الوطنية، والحكومات ذات الوزارات المتعددة، فلم لا توجد هيئات في القرى والأحياء تأمر الغافل، وتذكر الناسي، وتعلم الجاهل.الجواب: لا نريد هذه، فهذه صفة الرجعيين!
تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ...)
معنى قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)
قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:123]، يا أمة الإسلام! اتقي يوماً عظيماً، صفه لنا: يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ، فلو يأتي أبوك، وهو رجل رباني صالح فيقول: أي رب! هذا ولدي، لا تدخله النار، فأنا قد عبدتك ثمانين سنة. فوالله لا يجزي عنك أبداً.ولو تأتي الأم فتقول: أي رب! عبدتك سبعين سنة وهذا ولدي أو هذه ابنتي تقاد إلى جهنم! فشفعني فيها يا رب، فوالله لا تقبل لها شفاعة.واسمع ما يقصه أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في استعراض قد شاهده بأم عينيه: ( لما يحشر الله الخليقة لساحة فصل القضاء يقول إبراهيم عليه السلام: يا رب! لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا في هذا اليوم؟ فيقول له الجبار جل جلاله وعظم سلطانه: أي إبراهيم! انظر تحت قدميك -وفي الأصل أنه يبكي- فينظر فإذا والده آزر البابلي في صورة ضبع، بل في صورة ذكر الضباع، أقبح صورة وأبشعها، وهو ملطخ بالدماء والقيوح، فما إن يراه إبراهيم حتى يقول: سحقاً سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون الجحيم، فتطيب نفس إبراهيم )، فهذا أبو الأنبياء .. هذا خليل الله .. هذا إبراهيم ما شفع في والده، ونحن نطمع.وأخبرنا أيضاً أبو القاسم صلى الله عليه وسلم عندما يوضع الميزان، فتوضع حسنات الأب فلا ترجح، وتبقى السيئات أرجح منها، فيأتي إلى بعض أولاده إن كان له أولاد: أي ولدي! إني .. وإني .. وأنا الآن في حاجة إلى حسنة ترجح بها كفة ميزاني، فيقول الولد: إيه يا أبتاه! أعلم أنك كنت خير الآباء لي، ولكن نفسي نفسي، وتأتي الأم تقول لولدها كذلك، ولا يستطيع أحد أن يعطي حسنة من حسناته؛ لما يعرف أنه إذا رجحت كفة السيئات هلك.
معنى قوله تعالى: (ولا يقبل منها عدل)
قال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:123]، وهل يوجد العدل المقابل قنطار من الذهب والفضة وبنوك العالم بأسره ما يُقبل، وأنى لها ذلك، لو قلت: أي رب! هذا ولدي أدخله النار بدلاً عني -والله- لا يقبل.
معنى الشفاعة
قال تعالى: وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:123].يعيش المسلمون في قرون الظلام ألف سنة معولين على الشفاعة، والشفاعة هي الوساطة، أي: ضم جاه إلى جاه ليقبل الطالب للشفاعة.وهذا وقت بيان ومعرفة الشفاعة. وينبغي أن نعرف هذا، ولا يحل لنا أن نقوم من مجلسنا هذا وما عرفنا الشفاعة التي جاء بها الكتاب وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا نغش أنفسنا، ونخدع بعضنا بعضاً.
لا شفاعة للكافرين
لا شفاعة لمن مات على الشرك والكفر، فالذي مات على الكفر والشرك لا شفاعة له أبداً يرجوها، ولا تتحقق له، وليست شفاعة أن يخرج من النار، بل شفاعة أن لا يخلد في النار؟ والله لا تقبل منه، وقد قضى بهذا العليم الحكيم فمن يرد على الله قوله: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، وهذا كلام الله، فشر الخليقة هم من يكفرون بالرحمن .. وشر الخليقة مطلقاً من يكفر بالله، ولقائه، ورسوله، وكتابه.واسمع قول الله تعالى في خاتمة سورة النبأ: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، هذه الأمنية الغالية أو الرخيصة؛ والكافر: هو من مات على الكفر والشرك والعياذ بالله وإن كان ابناً لنبي أو أباً لرسول، ولا تفكر أن هناك نسباً يغني: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].والكافر لا شفاعة له ترجى، ولا يخرج بها من النار قط، وقد رأيتم آزر وما قال فيه الرسول.
الشفاعة العظمى
يبقى المؤمن الموحد، لا مؤمن مشرك، فهذا له شفاعة، وإليكم بيان الشفاعة العظمى.أولاً: الشفاعة العظمى الكبرى التي لا تسمو إليها شفاعة ولا تدانيها، وهذه اختص الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، الرسول إلى البشرية كلها؛ أبيضها وأسودها، بل إلى الإنس والجن معاً، وما حصل على هذه الشفاعة إلا ببذل الجهد والطاقة، ولو رأيته عندما يصلي ويبكي، والدموع تسيل، وتعمل خطوطاً على الحصير، ولو عرفت كيف يلبس درعه، ويخرج لسبعة عشر معركة يخوضها في خلال عشر سنوات، ولو عرفت أنه ما شبع من خبز شعير في يوم واحد مرتين حتى لقي الله، ولو رأيته وهو يضع الحجر على بطنه، ويشدها بالحزام، حتى يتماسك ويقوى على المشي والصلاة.ولما أعلمه الله بهذا المقام المحمود قال له: (( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ))[الإسراء:79].وقالت عائشة : ( كنت ألتمسه في الليالي الباردة في الشتاء، فلا أجده، فأطلبه، فأجده قد اغتسل بالماء البارد من الجنابة وهو يصلي ويبكي والدموع تسيل على حصيره )، وهل تستطيع أن تفهم أنه ما قال كلمة سوء طيل حياته، فكله نور وأدب.وهذه الشفاعة أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها بنفسه، وأنه يأتي إلى العرش فيخر ساجداً تحت عرش الرحمن، قال: ( فيلهمني ربي محامد، ألفاظ حمد وثناء وشكر ما كنت أعرفها ، فلا أبرح أحمد الله، وأثني عليه، وأمجده بها -لا أدري مقدار الزمن- حتى يقول لي: أي محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع )، يشفع في من؟ في أبويه أن يدخلا الجنة؟ لا والله، يشفع في أعمامه وأخواله؟ لا والله، فقد ماتوا على الكفر مشركين كافرين.هذه الشفاعة ليقول لله: اقض بين عبادك، فقد طال موقفهم، وامتد النهار، وسال العرق، وألجم من ألجم، فاقض بينهم، وكيف جاء لهذا، فالبشرية كلها جاءت إليه: أنت الذي يمكنك أن تكلم الله، والله لقد ذهبوا إلى آدم ونحن معهم: ( يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عنده ليقض بيننا ) وهم حفاة عراة، واليوم يوم مقداره خمسين ألف سنة من أيامكم هذه، ( فيعتذر آدم عليه السلام ويقول: أنى لي وقد غضب اليوم ربي غضباً لم يغضب قلبه ولا بعده أبداً )، ويذكر آدم خطيئة، ومن منكم يقول: أنا عندي عشر خطايا فقط، وفي العمر سبعون سنة؟ وآدم خطيئة واحدة فقط هي تلك التي أكل فيها من الشجرة المنهي عنها، وغررته امرأته، وزين الشيطان لها وله ذلك، فقال آدم لهم: ما أستطيع. عليكم بنوح، فهو أبو البشر الثاني.فيأتون نوحاً -والله العظيم- مائجين هائجين: يا نوح أنت.. أنت .. أنت، اشفع لنا عند ربك يقض بيننا، فيدخل الجنة من يدخل، ويدخل النار من يدخل، لقد طال وقوفنا، فوالله ليعتذر نوح، ويذكر خطيئة واحدة، وقد عاش ألفاً ومائة سنة وزيادة، منها تسعمائة وخمسين عاماً وهو قائم بدعوة الله، وقالوا فيه ما لا تقدر أنت على عشره ولو على (1%) من السخرية، والاستهزاء، والضحك، والكلام الباطل و.. و.. ومن العجائب.فيذكر نوح كلمة فقط: (( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ))[نوح:26]، فلم تدع بهذه الدعوة العامة يا نوح؟! أما ترحم البشرية؟ فيذكر هذه الدعوة ولا يستطيع أن يقف أمام الله فيسأله ويطلب منه، فيحولهم إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم أبا الأنبياء؛ خليل الرحمن، فيقول: أنا كذبت ثلاث كذبات، فكيف أواجه ربي وأخاطبه؟والله لكذبات إبراهيم خير من صدقنا نحن؛ لأنها كانت لله، ونحن نكذب لشهواتنا، وأطماعنا، وأهوائنا.فيقول: عليكم بموسى، فيأتون موسى فيقول: كيف أكلمه وقد قتلت نفساً.وهل قتله عمداً؟ والله ما هو بعمد، إنما قتله خطأ، فقد أراد أن يفصل بين اثنين متضاربين، فلما رأى شدة القبطي لكمه في صدره، وكان الأجل، فمات.يقول: عليكم بعيسى، ويخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيقول: ( فلم يذكر عيسى خطيئة قط )، فعاش ثلاثاً وثلاثين سنة لم يقارف خطيئة قط، وسينزل ويعيش بقية العمر والغالب أنها ثلاثين سنة، ولم يذكر خطيئة قط، لا كلمة ولا نظرة.وسر هذه العصمة هي في دعوة جدته يوحنا امرأة عمران عليه السلام عندما سألت ربها وقالت: (( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ))[آل عمران:35-36]، فأُغلق الباب على الشيطان، فلم يصل إلى قلب عيسى، ونفعته دعوة الجدة؛ لأنها جدة تساوي الملايين من جداتنا.وأخبر بهذا أبو القاسم، فإذا هز المرأة الطلق، وجاءها المخاض، جاء الإسعاف من الشيطان وأعوانه، فينتظرون متى يسقط هذا الجنين، ليطبعه أنه من أتباعه، فما إن يخرج من فرج المرأة حتى ينغز في خاصرته فيصرخ.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (82)
الحلقة (89)
تفسير سورة البقرة (51)
في بلدة بعيدة جثم فيها الشيطان وفرّخ، وأصبح الإنسان فيها يعبد حجراً، لم يكن الوضع سليماً، فقام نبي الله إبراهيم مبيناً الحق، رافعاً به صوته، ثم ما لبث أن اتخذ خطة أخرى، فغافل قومه وحطم الأصنام، جاء القوم فرحين، متبركين، فإذا بهم يصعقون لهول ما رأوا، وعرفوا الفاعل، وعزموا على عقوبته، لكن الله نجاه وحفظه وجعله إماماً للعالمين.
تفسير قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها، وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
إبراهيم هو الأب الرحيم بالسريانية
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!من هذا إبراهيم الذي ابتلاه الله واختبره وامتحنه فنجح حتى أصبح إماماً؟ألا إنه إبراهيم الخليل؛ الذي فاز بالخلة بينه وبين الله عز وجل.وهو الأب الرحيم؛ لأن كلمة إبراهيم باللغة السريانية هي الأب الرحيم، وقد تجلت رحمته في مواقف شتى، فحقاً كان أباً رحيماً.ومن مظاهر تلك الرحمة أنه لما سأل الله عز وجل قائلاً: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، فتتجلى حقائق الرحمة في هذا الكلام، وقبلها يقول من سورة إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، يا رب! إن هذه الأصنام التي عبدها البشر الجهال أضللن كثيراً من الناس، حيث عبدوها وتركوا الخالق المعبود الحق، ثم يقول: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وأنا منه: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فلم يقل: فاضربه .. فانتقم منه .. فأنت العزيز الجبار .. أنت العزيز الحكيم وهو كذلك، ولكن قال: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، كأنما قال: فاغفر له وارحمه.أما عيسى عليه السلام فقال ما سجل القرآن له في تلك الوقفة العجيبة في عرصات القيامة .. في ساحة فصل القضاء والله يقول له: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118]، فانظر ما بين الموقفين، فهنا ما قال: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ بل أنت العزيز القوي، القادر، الذي لا يعجزه شيء، الحكيم فتضع الشيء في موضعه؛ فالكافر الخبيث، المنتن، المجرم لا يضعه الحكيم بين أولياء الرحمن في دار السلام، بل يضعه في أتون الجحيم.والخلاصة أن الأمة التي سمت إبراهيم أباً رحيماً وفقت في ذلك الاسم، حقاً هو أب رحيم.
إبراهيم هو أبو الضيفان
هذا إبراهيم يكنى بأبي الضيفان، وهو ما ولد ضيفاً، ولكن كني بأبي الضيفان، والضيفان: جمع ضيف، يقال: ضيوف وضيفان.وإليكم سورة شاهدوا فيها كرم إبراهيم، فبعد هجرته واستقراره بدار القدس وأرض الطهر، شاء الله عز وجل أن يضرب المؤتفكات وبها قوم لوط عليه السلام؛ لأن لوطاً هو ابن أخي إبراهيم، وهاجر معه أيام هجرته، فلم يخرج من أرض بابل سوى إبراهيم وزوجه الكريمة سارة وابن أخيه لوط.ونبأ الله لوطاً، وأرسله رسولاً إلى المؤتفكات: سدوم وعمورة، وهي مدن البحر الميت المنتن، فلما دعاهم إبراهيم إلى أن يعبدوا الله وحده، وأن يتخلوا عن الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين؛ وهي إتيان الذكور من العالمين، وتم وعد الله، وبذل لوط صلى الله عليه وسلم أقصى جهده، ولم يستجب له، فلم يسلم أحد ما عدا أهل بيت فقط .. أهل بيت لا غير، واقرءوا لذلك: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [الذاريات:31-34].. الشاهد: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36].وقد كانت هناك مدن في ذلك العالم لكن: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، ولا حرج، فنوح قبله دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وحصيلة الدعوة كانت نيفاً وثمانين رجلاً وامرأة لا أقل ولا أكثر، وتخيلوا في تسعمائة وخمسين عاماً وهو يدعو الليل والنهار، في السر والعلن، فلم يتابعه على ملة الإسلام إلا نيف وثمانون رجلاً وامرأة، فيا عجب!وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن النبي يبعث يوم القيامة ومعه النفر والنفران، ويبعث وليس معه أحد )، لأنهم ما استجابوا.فلما أراد الله إنهاء ذلك الوجود العفن الخبيث المنتن؛ أرسل جبريل وميكائيل وإسرافيل؛ فنزلوا ضيوفاً على إبراهيم؛ لأن فلسطين والأردن متصلتان، فلما نزلوا بإبراهيم أهلّ وسهّل ورحّب: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] فهم ثلاثة أنفار، فقام إبراهيم بذبح عجل سمين وقدمه مشوياً أيضاً، ثم قال: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27]، فتأدب معهم، فما قال: كلوا، كأنه أعلاهم يأمرهم، بل قال: أَلا تَأْكُلُونَ فأبوا أن يأكلوا: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات:28] لم لا يأكلون!وهذه إن شئتم قولوا: عادة بشرية، حتى في الإسلام، فإذا أراد الشخص بالآخر سوءاً لا يسلم عليه؛ لأنه لو قال: السلام عليكم أمنه، ولو أراد به خيراً لسلم عليه وأكل طعامه، فإذا رفض أن يأكل فهذا معناه أنه ما جاء للأكل، بل جاء ليذبحه أو يسلبه ماله، فإبراهيم أوجس في نفسه خيفة، لم؟ أَلا تَأْكُلُونَ .وكانوا في صورة رجال، كرام، حسان الوجوه؛ لأن الملك يتشكل كما أراد الله، فقال جبريل: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه.وهل تأكلون طعاماً بدون حقه؟ وهل تدخل المطبخ فتأكل وتشبع ثم تخرج؟ هذا من غير المعقول.قال جبريل: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه، فقال إبراهيم عليه السلام: كلوه بحقه. فقالوا له: وما حقه؟ قال: أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره.أيها المستمعون والمستمعات! هل بلغكم إنه لا حق لك في طعام الله ولا شرابه إلا بأن تذكر اسمه أولاً وتحمده أخيراً، وإلا فأنت آكل ما لا يحل لك.هل يفهم الواعون هذه؟هذا الطعام من خلقه .. من أوجده .. من وضعه بين يديك، أفتأكل بدون إذنه، وهل يحل لك أن تأكل طعاماً بدون إذن صاحبه، أسارق أنت أم لص؟فمن هنا لابد إذا أراد عبد الله أو أمته أن يأكل أن يقول: بسم الله، أي: باسمه إذ هو الذي أذن لي فيه، ولو لم يأذن لي فيه والله ما أكلته، كأنك تأكل ميتة أو خنزيراً أو مغصوباً محرماً؟إذاً: لا تأكل؛ لأنه ما أذن لك فيه، ولهذا أيأكل المؤمن ما حرم الله؟ لا يقدر، أما إذا أذن له فيه فإنه يقول: بسم الله، ويأكل.كذلك إذا فرغ من الأكل يحمد المنعم فيقول: الحمد لله.ومن الأسف أن ملايين المؤمنين لا يعرفون هذا، ومن عرفه عرفه تقليداً أعمى فقط، لا عن علم وبصيرة، فلهذا لا يبالي أسمى الله أم لم يسم، حمد أو لم يحمد.وهل يجوز لعبد من عباد الله أن يتناول كأس الخمر ويقول: بسم الله ويشرب؟والله لا يجوز، كَذِب، كَذَبَ على الله وزَوّر، آلله أذن له بذلك، كيف يكذب على الله ويقول: بسم الله؟ ومن أذن لك حتى تقول: بسم الله، فتكون قد كذبت على الله مرتين: الأولى حين تشرب ما حرم أو تأكل ما حرم والثانية حين تقول: بسم الله.والرسول صلى الله عليه وسلم كان بين يديه غلام صغير يأكل الطعام فقال له: ( يا غلام! سم الله )، فيعلم هذا الطفل وهو في السادسة من عمره أو أقل: ( يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك )، فهل علمنا أطفالنا هذا؟ آه.وا حر قلباه! هل علم المسلمون غلمانهم أن يبتدئوا طعامهم: بسم الله، وأن يتناولوه بأيديهم اليمنى لا اليسرى، وإذا فرغوا أن يحمدوا الله.أي فلانة! أي بني! أي بنيتي! فرغت من الأكل؟ قالت: نعم أبتاه، قال لها: قولي: الحمد لله.ومن قص هذه القصة؟ وهل عاصر النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم ولوطاً وبينهما أربعة آلاف سنة؟إنه الوحي الإلهي.فلما قالا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه، قال: كلوا بحقه، قالوا: فما حقه؟ قال: أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوه في آخره، فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقالا: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً. فمن ثم عرفنا أن إبراهيم كان خليلاً للرحمن.والشاهد عندنا في أبي الضيفان فهو حقاً أبو الضيفان.
إبراهيم هو أبو الأنبياء
ويكنى إبراهيم أيضاً بأبي الأنبياء، فإذا سئلت: من أبو الأنبياء؟ فقل: إبراهيم، لأنه ما من نبي ولا رسول نبئ وأرسل بعده إلا من ذرية إبراهيم، وما من نبي نبأه الله بعد إبراهيم إلا من ولد إبراهيم.إذاً إبراهيم هو أبو الأنبياء .. أبو الضيفان .. خليل الرحمن.
استجابة الله لدعاء إبراهيم
إبراهيم عليه السلام دعا الله عز وجل دعوة مباركة واستجابها الرحمن، ولو تذكرونها من سورة الشعراء؛ حيث قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:78-89].. عجب هذه الكلمات! دعوه إلى أن يعبد الأصنام والأوثان والأوهام، فرفض وقال: أعبد الذي خلقني فهو يهديني، والذي هو يطعمني ويسقيني.يطمعني ويسقيني؟ وأنتم الآن من يطعمكم ويسقيكم؟ أمهاتكم وآباؤكم!أيها الغافلون! من الذي يطعم ويسقي سوى الله خالق المادة، ومسخر أسبابها.وإياك أن تفهم أنك تطعم نفسك، وتسقي نفسك، فمن خلق الماء، ومن عرفك أنه يرويك، ومن خلق الطعام وهداك إلى أكله، وعلمك كيف تأكله؛ لتعرفوا أننا لاصقون بالأرض.من منا يعرف هذه الحقيقة: أنا آكل .. أنا أشرب .. أنا أطعم .. أنا كذا!! أنت أنت؟! وأنت ما كنت شيئاً يذكر.عجب هذا الكلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَِ [الشعراء:78-79] لا غيره يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:79-84] واستجاب الله، فاليهود والنصارى والمجوس .. وكل أهل العالم يعترفون لإبراهيم بالمقام الأسمى، والمنزلة العليا، وأنه أبو الأنبياء؛ استجابة الله له.وفي السياق الكريم تقدم لنا ما قال اليهود، وما قال النصارى، وما قال المشركون، وهم يتشبثون بالنسبة إلى إبراهيم، فكلهم يقول: إبراهيم منا، وإبراهيم بريء منهم؛ وإبراهيم يقول تعالى عنه من آخر سورة آل عمران: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] ويقول عنه من سورة النحل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، فتمزقت تلك الخيوط الباطلة التي يتشبث بها المشركون في مكة، ويدعون أنهم أتباع إبراهيم وما هم في حاجة إلى محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]، ومن سورة آل عمران قالت اليهود: إن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى ادعت نفس الدعوى: إن إبراهيم كان نصرانياً، فأبطلها الله، ورد هذا وأبطلهم.إذاً: إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً، مائلاً عن كل الباطل وضروبه، وأنواعه، وعباداته، وآلهته إلى الحق مسلماً قلبه ووجهه لله رب العالمين، فأبطل دعواهم، وهم ثلاث طوائف: اليهود، والنصارى، والمشركون من العرب.
وفاء إبراهيم
وهاهو ذا تعالى يريهم صورة حقيقية لإبراهيم، فقال: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، ابتلاه: امتحنه واختبره، (بكلمات) جمع كلمة، وهي كما يقولون: أوامر ونواهي؛ لأن الأمر يكون بالكلمة: افعل، والنهي يكون بالكلمة: لا تفعل.إذاً: فإبراهيم امتحن ونجح.قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:124] أي: واذكر يا رسولنا لهؤلاء الطوائف الضالة من اليهود والنصارى والمشركين اذكر لهم ليسمعوا ويعوا ويشاهدوا: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] وفاهن: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] تمام التوفية في كل ما أسند إليه، وأمر به، ودعي إليه، ولم يثبت من أتم ما عهد إليه ووفاه سوى إبراهيم، ولهذا أثنى الله عليه بقوله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى .
إبراهيم يحطم الأصنام
من الكلمات الشاقة الصعبة التي لا ينهض بها إلا مثل إبراهيم ذلك الموقف الذي وقفه في بابل العراق، يوم هاجم الأصنام والأوثان بمعول .. بفأس، فحطمها وكسرها وتركها شذراً مذراً، ومن يقوى على هذا؟فإبراهيم عرف أن قومه سيخرجون في الربيع إلى عيد الفصح كما يسميه النصارى اليوم، فعرضوا عليه الخروج معهم فاعتذر وقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89].قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:83-89]، فأوهمهم أنه ينظر إلى النجوم؛ لأنهم يعبدون الكواكب، وقال: إني سقيم، لا أستطيع الخروج معكم.نعم عرضوا عليه الخروج للفصح؛ للأكل، والشرب، والقصائد الماجنة، فلما تركوه جاء بمعول أعده من قبل، ودخل بهو الآلهة وصالونها الفخم وكسرها وحطمها، وعلق المعول في عنق أكبرها وانصرف.فإبراهيم خرج عن نظام الدولة بكامله، فحارب الأمة وسلطانها، وهو وحده.عشنا وما زال العرب في جاهليتهم في بعض البلاد، هناك في يوم من الأيام وخاصة أيام الخريف عندما توجد الحمى الفصلية ينادي المنادي في القرية: إن إخواننا من الجن قد عسكروا عندنا فكيف نتقيهم؟يقولون: بالنشرة.لكن ما هذه النشرة؟يقولون: اذبحوا، واطبخوا الطعام واللحم، وضعوه في البيوت، وأغلقوا الأبواب حتى يأكل إخواننا من الجن ويرحلون، وبذلك نسلم نحن وأولادنا ونساءنا من أذاهم.والله العظيم!فإذا وضعت السيدة طعامها وأغلقت باب الغرفة، وبعد ساعة يأخذون الطعام ويأكلونه بما فيه من البركة، وهذا موروث عن البابليين من ستة آلاف سنة.فإن سأل سائل: كيف نقل إلينا؟الجواب: مضى في الدرس الماضي أن قلوب الكافرين متشابهة عرباً وعجماً؛ لأن الداعي إلى الباطل واحد، وهو إبليس. وإبراهيم بيننا وبينه أربعة آلاف سنة أو ستة آلاف فقط، وعندنا في قرية من قرانا الإسلامية يعبد يعوق ونسر من عهد نوح، أما قال نوح لما أمرهم بعبادة الله: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، جبلان رأيناهما: هذا يعوق وهذا نسر، وإذا انقطع المطر وأجدبت الأرض خرج أهل البلاد بالنساء والرجال، فيذبحون ليعوق ونسر، ويأكلون الزاد والطعام حتى يسقوا.كيف نتخطى أكثر من ثلاثة آلاف سنة؟ كيف يتم هذا؟!لأن الداعي إلى الشرك والباطل هو إبليس، فلا عجب ولا غرابة أن ينتقل هذا إلى العالم الإسلامي من عهد البابليين؛ إذ يخرجون ويتركون أطباق الطعام والحلويات بين يدي الآلهة لتباركها، فإذا رجعوا من عيد الفصح أخذوها.وأظن أن النصارى يعملون هذا إلى اليوم، فيضعون أطباق الحلويات عند الآلهة.فإبراهيم استغل الفرصة وحطم الأصنام والآلهة الباطلة، وعاد إلى بيته، فجاء المغرورون؛ المخدوعون ليتناولوا الأطعمة المباركة، فوجدوا الآلهة متناثرة: قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:59-60]، (سمعنا فتى) أي: شاباً (يذكرهم) أي: بالسوء، وعدم الرضا، والغضب، فما هو راضٍ عنه: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61]، هناك نوع من الحق أو العدالة ما هم هابطين تماماً: فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أن هذا الذي فعل هذه الفعلة، وجيء به، واستنطقوه: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:62-63]، وهذه كذبة من الكذبات الثلاث، فهو قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] يشير إلى يده، وهم ظنوا أنه يشير إلى الإله الذي ما حطم: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63] فبكتهم، فَاسْأَلُوهُمْ إله لا يجيب؟ كيف ترجو أن يرحمك وأن يدفع العذاب عنك، وهو ما ينطق؟ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:64-67]؟!
توكل إبراهيم
فهذا الغلام الشاب هو إبراهيم، قالوا: إذاً حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68]، فلما عجزوا عن البيان والحجة والبرهان رفعوا الهراوة عليه، وهذا واقع البشر، تجده يجادل يحاج بالمنطق، فإذا فشل: آه اقتلوه، فهذا النوع من البشرية هي هي، وإياك أن تفهم أننا في القرن العشرين، والله إن الأخلاق والأفكار والسياسة التي منذ سبعة آلاف سنة هي الموجودة الآن، فما تغير الآدمي، فالبشر ما تغيروا، وما صار هناك مخ جديد أو عقل آخر.إذاً: إبراهيم الخليل وقف هذا الموقف فألقوا القبض عليه وسلسلوه وغللوه ودعوه وتركوه في السجن أكثر من أربعين يوماً وهم يجمعون الحطب ويؤججون النار، وهذا الأسلوب معروف من أجل إرهاب الشعب حتى لا يقلد إبراهيم أو يمشي وراءه أو يرحمه، انتبه.وبلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الوزغ الملعونة كانت والله تنفخ في النار لتتقد وتشتعل، فهي تكره التوحيد والموحدين.وكانت المرأة تنذر النذر للآلهة بحزمة حطب إذا نجح ولدها أو حصل له كذا حتى تساعد على إشعال النار، فأججوها كذا يوماً وأصبح الطير لا يستطيع أن يطير فوقها للهبها؛ وكل ذلك من باب الإرهاب والتخويف لعل إبراهيم يتراجع، فأبى.لكن كيف يلقون إبراهيم في هذا الجحيم؟ ومن يقوى على الوصول إليه؟فما كان منهم إلا أن وضعوه في منجنيق، ورموا به بالآلة؛ لأنهم ما يستطيعون أن يصلوا إلى النار.واسمع كأنك حاضر تشاهد كلام الرب؛ رب العالمين، فيبينه رسول رب العالمين، فلما وضعوه في المنجنيق أو في العقال ورموه وفي الطريق قبل أن يصل وصلت برقية عاجلة، فقد اتصل به جبريل عليه السلام وقال: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ وبالمصري: عاوز خدمة يا إبراهيم؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. يكفيني الله، ما أنا في حاجة إلى غيره، ونعم وكيلي هو الله.وهذه الكلمة أول من قالها إبراهيم، وقالها الطيبون الطاهرون، من صفوة هذه الأمة، من الأنصار والمهاجرين قالوها هنا، في هذا البلد، فإنهم لما عادوا من أحد وكانت هزيمة مُرَّة، فقد سقط فيها سبعون قتيلاً، واستشهد حمزة ، وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه، ولصق المغفر برأسه، وسببها لا أقول ذنب، بل ذنيب، وهو بالنسبة إلى ذنوبنا ليس بشيء، ولا واحد إلى مليون، وهذا الذنب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رماة! الزموا الجبل، ولا تهبطوا، وإن رأيتم ما رأيتم. فلما أن شاهدوا الهزيمة تمت للمشركين وفر نساؤهم ورجالهم، واندفع المسلمون يجمعون الغنائم هبطوا من على الجبل، فرآهم خالد قائد القوات الكافرة يومئذ -وهو آية من آيات الله في قيادة الحروب- فاحتل الجبل وصب البلاء على المسلمين، وكانت هزيمة، وانتهت المعركة، فما عادوا إلى المدينة إلا جرحى، دماؤهم، ودموعهم، وآلامهم تسيل، ومن يضحك، ومن يأكل والرسول جريح؟وفجأة جاء خبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان عزم على أن يعود إليهم ليصفي حسابهم، وينهي وجودهم بالمرة، وقد عسكر على نحو ثلاثين كيلو متر خارج المدينة. فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أعلن التعبئة والخروج وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، واقرءوا ذلك في قوله: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:171-173] فقال الرسول: ( قالها من قبل إبراهيم ).أيها المسلمون! يا أبطال الدنيا! تريدون أن تنتصروا على إسرائيل؟ كم ذنباً عندنا؟إن أصحاب رسول الله كان معهم ذنب واحد .. مخالفة واحدة، ونحن خالفنا الله، ورسوله، وشرع الله، وما أبقينا شيئاً إلا وعكسناه، ونريد في الأخير أن ننتصر؟! كيف يمكن هذا؟ نغالط أنفسنا، هذه فكرة عابرة فقط.والشاهد: في البرقية أن جبريل اتصل بإبراهيم باللاسلكي: ( هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل ) ويصدر أمر الله إلى النار المتأججة: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] وهذه آية من سورة الأنبياء، ولولا أنه ألحق الأمر بكلمة (سلاماً) لتحولت تلك النار إلى كتلة من الثلج، ومات إبراهيم من شدة البرد، لكن لما قال: وَسَلامًا والله ما أتت النار إلا على رجليه ويديه، ولم تمس النار جسمه.وقد ذكرت لكم كرامة أخرى: أن أحد الصالحين الربانيين داهمه الدرك الفرنسي وهو على كرسي الدرس، وأدخل يديه في الحديد، وأخذ يضغط عليه، فقال الشيخ رحمة الله عليه: لقد وسعه الله، ولن تستطيع أن تضيقه، ويحلف ما مس يده.فهذا ولي من أولياء الله، وعالم رباني، وخريج هذا المسجد، قد تربى وتنشأ في هذا المكان الطاهر، وما عرف قومه وأهله حقه ولا قيمته، كصالح في ثمود.إذاً: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70] خسروا ونزلوا. وهذا الموقف امتحن فيه إبراهيم فنجح، وأتم الأمر كما أراد الله.
ابتلاء إبراهيم بالهجرة
هنا أمر آخر: إلى أين يذهب إبراهيم؟ فلا مواصلات ولا ولا ولا، ولا عرف البلاد، إلى أين يذهب؟وكانت أول هجرة عرفتها البشرية، فأول من هاجر في سبيل الله إبراهيم بشهادة أبي القاسم الحفيد الكريم، فأول هجرة كانت لله في العالم هجرة إبراهيم، وهاجر من أرض بابل في العراق ومعه زوجه الطاهرة سارة بنت عمه، ومعه ابن أخيه لوط عليه السلام فقط، فترك الأهل، والمال، والآباء والإخوان، والدنيا وخرج، لا يملك شيئاً. وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] وهذه كلمة من الكلمات، أو الهجرة لا تعدونها شيئاً؟المهاجرون الأولون أثنى الله تعالى عليهم، فيخرج الرجل ويترك أهله، وماله، ومعارفه، ويخرج لا يملك شيئاً، إلى أين يذهب؟ كيف يعيش وهو لا يعرف أحداً؟ ولكن لوجه الله .. طلباً لمرضاة الله .. فراراً بدينه، حتى لا يعبد غير الله.وعندما تقدم المسلمون نحو جنوب أوروبا حصلت معركة فاستشهد فيها من استشهد، فجيء بهم إلى مدينة دخلت في الإسلام على ساحل البحر، فخرج أهل البلاد مع المجاهد، ولم يخرج مع المهاجر إلا عدد قليل في الجنازة، فقام أحد المؤمنين وقال: أما أنا فو الله! لا أبالي أن أقبر في قبر مجاهد أو قبر مهاجر، إذ لا فرق بين المهاجر والمجاهد، وقرأ هذه الآية من سورة الحج: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُ مُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج:58] أي: في الجنة، فما هناك فرق بين المهاجر والمجاهد.فقوله: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [الحج:58] قتلوا مجاهدين أو ماتوا على فرشهم كما مات هذا، ثم قال: لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59] فليرزقنهم وليدخلنهم الجنة.فالهجرة ليست لأن العيش ضاق، وما وجدنا شغلاً، الهجرة في الله هي أنك تحرم من أن تعبد الله، فأنت خلقت لهذه العبادة، فإذا عرض عارِض ومنعك أن تعبد الله فيجب أن تهاجر، ولتترك كل شيء؛ لأنك لم تخلق إلا لأن تعبد الله، فإذا منع مانع من العبادة وجبت الهجرة، وقد هاجر أصحاب الرسول من مكة، وتركوا أهليهم وذريتهم وأولادهم، وخرجوا بأيديهم ونزلوا على أهل المدينة، فآووهم ونصروهم، واقرءوا القرآن، فالهجرة لها شأنها لو كنا نفقه ذلك.واسمع يا عبد الله! واسمعي يا أمة الله! لو نزلت في عمارة ووجدت نفسك لا تستطيع أن تستقيم في هذا المنزل، وقد تصاب بارتكاب معصية فيجب أن تهاجر.وإن نزلت منزلاً وعرفت أنك ستنظر بعينيك إلى ما لا يحل لك، وأنك ستسمع ما لا يجوز لك أن تسمعه، وأنك سترتكب معصية من المعاصي، وما هناك سبيل إلا أن تغشى هذا الذنب فيجب أن تهاجر من هذا المنزل إلى آخر.وجدت نفسك في بلد لا تستطيع أن تقيم به دهراً، أياماً أو ليالي إلا وقد تركت واجبات أو فعلت محرمات، فيجب أن تهاجر إلى بلد آخر، ولو خمسين كيلو، وليس بشرط أن يكون إقليماً آخر أو من بلد إلى بلد، أما هاجروا من مكة إلى المدينة؟ هما بلد واحد، ولا تقل الهجرة: الانتقال من بلد إلى بلد أو من دولة إلى دولة أو من إقليم إلى إقليم. فالهجرة أن تترك مكاناً وجدت نفسك لا تعبد الله فيه، ولا تستطيع أن تقيم على منهجه، فارحل.وهذه الهجرة -كما علمتم- كالجهاد، فلا فرق بين المهاجر والجهاد: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُ مُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:58-59].والسر هل خلقنا لأن نأكل ونشرب وننكح؟! لا، إنما خلقنا لأن نعبد الله، فإذا منعت من عبادة الله يجوز أن تبقى في ذلك المكان؟والعلة التي خلقت من أجلها تعطلت فيجب أن تهاجر.إذاً: إبراهيم هاجر مع سارة ومع لوط من أرض العراق إلى أرض الشام. فهذه كلمة ابتلاه الله بها وهي أعظم ابتلاء.
ابتلاء إبراهيم بأمره بذبح ابنه إسماعيل
يأتي ابتلاء آخر، وهذا الابتلاء جاء بحكم رقة قلب إبراهيم، وفيضان رحمته على حواسه ومشاعره وأحاسيسه، فيبتليه الله تعالى بأن يذبح ولده، وأي امتحان أعظم من هذا؟ فلو كان قاسي القلب، شريراً من أهل الشر لذبح أمه وأخاه ولا يبالي، ما هناك شيء أن يذبح طفلاً ويرفسه، لكن قلب إبراهيم المفعم بالرحمة، يوحي إليه تعالى امتحاناً له أن اذبح ولدك، وفعلاً يقول لـهاجر: أعديه، وطيبيه، وطهريه، ونظفيه ويخرج به من حجره ملاصقاً للبيت إلى منى ليريق دمه هناك: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] فقال الغلام: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] افعل ما تؤمر يا أبتاه، وخرج به، وتله للجبين على الأرض، والمدية في يده، ووضعها، فلم تقطع، ووقف الحديد، وبطلت سنة الله، وهذه آية من آيات الله، فناداه مناد: أن اترك هذا وخذ هذا يا إبراهيم وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] وهذه أصعب من الأولى.
ابتلاء إبراهيم وابنه إسماعيل بأمرهما ببناء البيت
وأخرى: لما أخذ إسماعيل يقوى على العمل في الثامنة أو التاسعة من عمره أمره الله أن يبني له بيتاً.وكيف أن الدولة تكلف فرداً يبني بيتاً؟ فأين الأموال، وأين الرجال، وأين وأين؟وأيضاً في صحراء، وفي وادٍ خال: ابن لنا بيتاً.فينهض إبراهيم، والله كأنكم تشاهدونه وهو يضع اللبن، حجرة فوق الأخرى، وهو يتقاول مع ولده: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:127-129] فهما يتقاولان هذا الكلام وهما يبنيان البيت، فإبراهيم يأخذ الحجر من إسماعيل ويبني.
معنى قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماما)
هنا لم يبق إلا الجائزة العظمى، فقد نجح إبراهيم، قال تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] لما نجح أعطاه جائزة لم تحلم الدنيا بمثلها: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا أي: قدوة يقتدي بك الأبيض والأسود طول الحياة.ثم قال تعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أيضاً قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] فما نعطيك عهداً مطلقاً، فيأتي من أولادك المشرك، والكافر والظالم، والفاسق، ويصبحون -إذاً- أئمة، لا، قال: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]. قالت العلماء: من هذه الآية أخذ ما يعرف بولاية العهد.وغداً إن شاء الله نواصل الحديث. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (83)
الحلقة (90)
تفسير سورة البقرة (52)
قال بعض السلف: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فهذان هما ركنا الإمامة، وقد حصلا لنبي الله إبراهيم، حيث صبر على معاداة قومه له، وصبر على طاعة ربه، وصبر على الابتلاءات التي ابتلاه الله بها، وكان في كل تلك الحالات موقناً بصدق وعد الله، فكان حقاً إماماً، وكان حقاً من أولي العزم.
تابع تفسير قوله تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
القرآن الكريم هو كلام الله المعجز
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات تشهد شهادة الحق أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إذ هذه كلمات الله عز وجل.أيوجد كلام بدون متكلم؟ لا، مستحيل.هل هناك من ادعى أن هذه الكلمات من كلامه؟ لا أحد.والبشرية كلها طأطأت رأسها لهذا الكلام الإلهي، الحاوي للعلوم والمعارف التي تعجز البشرية عن محاكاتها، فضلاً عن الإتيان بمثلها.وهذا الكلام الإلهي على من نزل؟الذي نزل عليه لن يكون إلا رسول الله، وآي القرآن ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، ومن هنا كل آية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ النبي صلى الله عليه وسلم رجل أمِّي؛ لم يقرأ ولم يكتب، حتى بلغ أربعين سنة من عمره، فأوحى الله إليه هذا الكتاب، وتم وحيه في خلال ثلاث وعشرين سنة.
تحدي الله للإنس والجن بالإتيان بمثل القرآن
هذا الكتاب العظيم اذكروا أن الله تعالى قد تحدى به الإنس والجن، وطلب إليهم أن يتظاهروا، ويتعاونوا على أن يأتوا بمثله، فعجزوا، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] والزمان يمضي والقرون تتوالى فما استطاعت البشرية مستعينة بالجن على أن يأتوا بكتاب مثل هذا الكتاب.وتحدى الجبار جل جلاله وعظم سلطانه العرب، وهم أهل هذا اللسان، وبلسانهم نزل هذا القرآن، فقال لهم: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] سورة فقط، وتحداهم بعشر فعجزوا.وآخر ما نزل في هذا الشأن بالمدينة النبوية في هذه السورة المدنية: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] قالت العلماء .. قال البصراء .. قال أرباب هذا الدين وأهله: هذه الجملة (ولن تفعلوا) يستحيل أن تكون من غير كلام الله.يا معشر العقلاء والبصراء والمفكرين! لم؟قالوا: كلمة: وَلَنْ تَفْعَلُوا لن يقولها إلا الله، إذ ليس هناك من يملك السيطرة على القلوب والعقول البشرية اليوم بعد اليوم، والعام بعد الآخر، والقرن بعد القرن حتى يقول: ولن تفعلوا، ولن يكون هذا إلا الله.سبحان الله! هذه الجملة: وَلَنْ تَفْعَلُوا تصرخ بأعلى صوتها أن هذا من كلام الله، ويستحيل أن يكون من كلام غيره.والأمثلة القريبة التي نوردها أحياناً: هل تستطيع دولة صناعية كاليابان في هذه الأيام أن تنتج آلة من الآلات وتقول: أتحدى البشرية لمدة سبعين سنة إن استطاعت أن تنتج مثل هذه؟ وهل تستطيع أمريكا وقد سيطرت على مصانع القدرة الصناعية أن تنتج أي نتاج وتقول: أتحدى العالم لمدة ثمانين سنة أو مائة سنة أن ينتجوا مثل هذا المصل أو مثل هذه القطعة من الحديد؟ أيكون هذا؟ لن يكون.إذاً القائل: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] لن يكون إلا الله.وهل فعل العرب فأتوا بسورة من رجل أمِّي مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ومضى القرن الأول والثاني والثالث والعاشر وأيسوا، فمستحيل أن يأتوا بمثل هذه السورة؛ لأن القلوب بين يديه يقلبهم في ليلة واحدة، ويصبحون وهم مجانين، وهل يقدرون على أن يحفظوا عقولهم؟ فليحفظوا أرواحهم إذا أراد إماتتهم. آمنا بالله، آمنا بالله.وهذه كلمة عظيمة سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على كرسي التدريس أو على منبر الخطابة يحدثهم ويقول: ( آمنت بالله، آمنت بالله، آمنت بالله ) لم؟قال: ( كان في من كان قبلنا رجل يركب على بقرة، فرفعت البقرة إليه رأسها ملتفتة إليه: ما لهذا خلقت ) أي: ما خلقني الله لتركبني، إنما خلقني للسني والحراثة، وخلق الخيل، والبغال، والحمير للركوب، فلم تخرج عن الفطرة؟! ( فيمسك الرسول صلى الله عليه وسلم بلحيته ويقول: آمنت به، وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) وهما غائبان.فهذه الثقة في هذين الشيخين الجليلين: أبي بكر وعمر ، وقد كانا غائبين في المجلس وقال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) وهذا من الغيب الذي لا يقبله إلا من شرح الله صدره ووسعه وأناره، وكيف تصدقني إذا قلت لك: إن بقرة قالت: ( ما لهذا خلقت ) بلسان عربي وأفهمتني؟ من يصدق؟ ولكن لما كان غيباً بادر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعلان عن الإيمان به وقال: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به ).
معنى (ربّ)
قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] أتدرون ما معنى ربه؟إنه سيده .. مولاه .. خالقه .. مالك أمره .. إلهه الحق، ومعبوده بصدق.وما ألطف هذه الإضافة، وما أحسنها، وما أجملها! ناداه ربه، فابتلاه .. امتحنه .. اختبره، من؟ إنه ربه.والحمد لله رب العالمين. هل تفرحون بأن لكم رباً خلقكم .. رزقكم .. وهبكم عقولكم وأسماعكم وأبصاركم، وخلق كل شيء من أجلكم.آمنتم بالله؟ الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.وخلق كل شيء في العالم العلوي والسفلي من أجلكم.واسمعوا هذا الحديث القدسي: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي ).ولو عرفت البشرية التائهة في أودية الضلال هذه الجملة فقط: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ).وإن قلت: هذا الحديث قد لا يصح، فاسمع الله تعالى يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] من هذه السورة المباركة الميمونة، فخلق لكم يا بني آدم ما في الأرض جميعاً، ومن سورة أخرى يقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].إذاً: عرفتم قدر هذا الإنسان وقيمته متى ما عرف ربه، وأناب إليه، وأقبل عليه، فصفي، وطاب، وطهر، وأصبح يسامي أهل الملكوت الأعلى في طهارة روحه، وصفاء نفسه، وزكاتها.فهذا الآدمي الذي هو أكرم المخلوقات على الله، إذا كفر الله، وجحده، وغطاه، وتنكر لإنعامه وإفضاله وإحسانه إليه، وعبد فرجه أو شهوته أو عبد هواه سواء تمثل في حجر أو صنم أو إنسان، أتدري كيف تهبط قيمته حتى يصبح شر الخلق على الإطلاق؟ واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ [البينة:6] وقد اشتملت الآية على أصناف البشرية باستثناء أهل الإيمان وصالحي الأعمال إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريئة [البينة:6] والبريئة بمعنى الخليقة، وبريئة بمعنى مبروءة، والله هو البارئ الخالق المصور، ومن قرأ البرية فقد حول الهمزة إلى ياء وأدغمها في أختها، فقال: برية.فمن شر الخليقة على الإطلاق؟ الكفار.وما مصيرهم؟ الخلود في النار.وأين النار؟ تسألني أين النار! وهذا الجزء الذي تتعاطاه مع إخوانك، وتوقده، وتنتفع به، أأنت خلقته؟ آباؤك وأجدادك هم الذين خلقوه؟!إذاً: يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك.الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، فلولاكم أيها المستمعون ما كانت شمس ولا قمر، ولا كان حر ولا برد، ولا كان عنب ولا تمر، ولا كان ولا كان، إي نعم، بله ما كانت جنة، ولا كانت نار من أجلكم يا بني آدم.
سر الحياة في خلق الإنس والجن
السؤال الذي يطرح الآن: ونحن من أجل من خلقنا؟علة الوجود وسر الحياة أنه خلقه لنا، لكن نحن لم خلقنا؟ لنرقص .. لنلهو .. لنلعب .. لنفرفش ونفرح؟ لم؟الجواب: يقول تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ) ماذا يبغي الله منا؟ ماذا يريد منا؟يا معشر المستمعين! من يحمل هذه الأمانة؟ من يستطيع أن يرفع رأسه في وسط العالم بأسره؟لن يستطيع ذو عقل بشري أن يرد هذا أو ينقضه بأي واسطة إلا بالمكابرة والعناد.أتدري لماذا خلق الله كل شيء.. كل العوالم؟ من أجلنا.المطلب هو: أن الله تعالى أراد أن يذكر ويشكر، فأعد هذه الفنادق والنزل وهيأها، سماواتها وأرضونها، وأوجد كل شيء، ثم أتى بابن آدم ليعيش، ليحيا هنا من أجل أن يسمع ذكره، ويرى شكره.وفكروا! أراد الله تعالى أن يذكر ويشكر، فأوجد الكون كله، وأوجد من يقوى على الذكر والشكر، وأنزل الكتاب، وبعث الرسل من أجل أن يذكر في هذا الكون ويشكر، فمن أعرض عن ذكر الله وتخلى عن شكره أصبح شر الخلق على الإطلاق.وتأملوا! كثيراً ما يخطر ببال أحدنا ويقول: قد يعيش الإنسان ألف سنة إلى ألف ومائتي سنة ثم يعذب بليارات السنين، فيلقى في عالم لا ينتهي عذابه أبداً، فكيف هذا؟ والجواب: هذا العبد الذي لم يذكر الله ولم يشكره، فعصاه وتمرد عليه، وخرج عن طاعته، وفسق عن أمره، هذا ليس معناه أن ذنبه أنه ما ذكر الله ولا شكر فقط، هذا جريمته أنه نسف الجنة؛ دار السلام، وحولها إلى بخار، ونسف النار وعالم الشقاء ودمره، وحوله إلى سديم، ومسخ الأرض وحولها، وأفسد الكون كله.وهذا الفعل لو فعله إنسان كم تحكمون عليه من سنة بتعذيبه؟ أجيبوا.هذا ما أحرق قرية، ولا دمر إقليماً، ولا أفسد سماء من السماوات، بل هذه العوالم كلها نسفها، إذ هذه العوالم كلها خلقت من أجله، من أجل أن يَذكر ويَشكر، فلما كفر وترك الذكر والشكر كانت جريمته أنه أفسد الكون كله.لكن يا قضاة! احكموا عليه بالسجن .. بالعذاب، كم؟ لا يمكن مليارات السنين.هل عرفتم معنى الخلود في عذاب الشقاء للكافر أو لا؟وهو ما قتل إنساناً أو أهل قرية أو دمر إقليماً أو أفسد الأرض، لكن خرب العوالم كلها، إذ العوالم كلها خلقت من أجله هو؛ ليذكر الله ويشكره، فلما كفر الله وترك ذكره وشكره بكم تعذبونه من قرن؟وهذا معنى الخلود عندما تقرءون: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا .لكن هل نحن من الذاكرين الشاكرين؟أتدرون كيف كان يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعرفوا معنى الذكر، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( كنا نعد -أي: نحسب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلسة الواحدة، نعد له قوله: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، في الجلسة الواحدة مائة مرة ) من ساعة أن يستيقظ من فراشه ونومه وهو يذكر الله إلى أن يعود إلى فراشه فيضع جنبه الأيمن على الأرض، كله ذكر.وهذا هو معنى الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فإذا قام .. إذا قعد .. إذا مشى .. إذا ركب .. إذا أعطى .. إذا أخذ .. إذا قرأ .. إذا علم، فكل ساعاته مملوءة بالذكر.أما اللهو، والباطل، والفراغ فهذا يتنافى مع سر الوجود، وعلة هذه الحياة، إنها الذكر والشكر.وقد عرفتم أن إبراهيم وفّى ونجح: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124].
بعض مواقف الذكر والشكر من كتاب الله
هيا معنا نستعرض مواقف الذكر والشكر من كتاب الله.اسمعوا هذا الخبر العظيم الجليل، فالمخبر هو الله، والخبر مدون ومسجل في كتابه، وشاهدوا أنفسكم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] تأكد يا عبد الله! تأكديِ يا أمة الله! أتمت هذه البيعة؟ أتمت هذه الصفقة أو لا؟ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] بقي وراء نفسك ومالك شيء؟ ما بقي شيء.قال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] هذا هو الثمن، والبضاعة هي النفس والمال، والبائع أنت يا عبد الله، والمشتري هو الله، وما أعظم كرمه وأوفاه، يهبك حياتك ومالك ويشتريهما منك.وقد حدث هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما اشترى من جابر بن عبد الله بعيره لما كلّ وانحصر وما قدر على المشي، واشتراه منه في السفر، ثم اشترط جابر على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصل به إلى المدينة. وعاد الجمل كما كان آية من آيات النبوة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إلى المدينة قال: أعطنا البعير، فهذا بعيرنا. فوهبه البعير والثمن، والله عز وجل هكذا عاملنا، أعطانا أموالنا وأنفسنا واشتراها منا، وبأي ثمن؟ اسمع يا عبد الله! بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].قال: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [التوبة:111] ثلاثة سجلات .. فدُوِّنت هذه الصفقة في ثلاثة كتب إلهية: التوراة والإنجيل والقرآن.ثم قال: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] أيوجد؟ لا والله. إذاً: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].من هؤلاء الرابحون، أصحاب الصفقة العظيمة؟اسمع الآن -وهو محل الشاهد- لننظر هل نحن بينهم؟ هل نحن منهم؟ هل نحن معهم؟ ومتى نصل إليهم؟اسمع: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112] هذه مما وفاه إبراهيم لله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، وهل نحن وفينا؟الحمد لله، وبشراكم أيها المؤمنون، هذه ثمان صفات.ولعل بعض السامعين والسامعات يقولون: ما السياحة؟ إلى أين؟ إلى هولندا .. إلى كندا؟!السياحة هي هنا: الصيام، فسياحة الروح البشرية للصائم، لما يترفع عن الشهوة واللذة من الطعام والشراب والجماع، فتسيح روحه في عالم الطهر والصفاء.معاشر المستمعين والمستمعات هل نحن معهم؟فإن قيل: يا شيخ! نحن ما نأمر بمعروف، ولا ننهى عن منكر.أقول: لم؟ أما عندك امرأتك وأولادك فتأمر بينهم بالمعروف وتنهى عن المنكر.أما عندك أصدقاؤك وأقاربك يحترمونك وتحترمهم، فإن رأيتهم تركوا معروفاً فامرهم حتى يفعلوه، وإن رأيتهم فعلوا منكراً فانههم حتى ينتهوا ويتركوه، وليس شرطاً أن تكون موظفاً حكومياً، وليس شرطاً أن تأمر عامة الناس وتنهاهم لقصورك عن ذلك، ولكن لو كان المجتمع ربانياً من هذا النوع لأمرت ونهيت في أي مكان وجدت من شعب آمن بالله ولقائه، ولكن إذا حصل الذي حصل فعلى الأقل تؤدي هذا الواجب، وتثبت أنك من الوارثين لدار السلام، فأمر بالمعروف في بيتك والمحيط الذي تعيش فيه، وتقدر فيه على أن تأمر وتنهى.وأنت تستطيع أن تأمر وتنهى في دار الكفر فضلاً عن دار الإيمان؛ لأنك عندما تبتسم وتقول: يا مسيو! يا سيد! هذا لا ينبغي لك وأنت من أنت في كمالك وبشريتك، فإنه لا يغضب.وأنت تستطيع أن تقول: يا سيد! أنا أحبك .. أنا أخوك، لو تفعل كذا لكان خيراً لك، فلا يغضب؛ لأن الكلمة الطيبة ينفتح لها الصدر، وتقبلها الجوارح.أما قوله تعالى: التَّائِبُونَ [التوبة:112] فيا من يزاولون المعصية الكبيرة توبوا، ومن الآن بالعزم والنية والتصميم.إذاً: قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112] وإبراهيم قد وفى في هذه.وموقف آخر: اسمع قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] من هم؟ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:2-10] الوارثون للدينار والدرهم! لا إنهم الوارثون للجنة دار السلام أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11] وقد وفى إبراهيم في هذه، فهل وفينا؟ قولوا: إن شاء الله وفينا ونوفي.وموقف آخر: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].كيف أنتم أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات؟ حتى المؤمنات ذكرن هنا؛ لأن المطلوب أن يوفين لله كما وفى إبراهيم.وآخر عرض وكل هذا نسب إلى إبراهيم حتى قيل فيه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37].قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا [المعارج:19-22] هذا النوع الجديد إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم ْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:22-35].كيف حالكم معاشر المستمعين والمستمعات؟ أنتم هم؟
كيفية الوصول إلى الإمامة في الدين
وهنا سؤال: هل تريدون الإمامة؟ هل أعطيكم صكاً بالإمامة؟ هل تريدون أن تكونوا أئمة؟أما سمعتم عباد الرحمن وهم يقولون: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]؟ أي: يقتدون بنا، ويأتسون بحالنا، ويمشون وراءنا، ونقودهم إلى ساحات العز، والكمال، والسيادة، وبلوغ الآمال.أتريدون أن تكونوا أئمة؟اسمعوا الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً [السجدة:24] أي: قادة يقتدى بهم، ويمشى وراءهم، وهم يقودون، لم؟ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فلذا يقول بعض الحكماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.فإن قيل: ما الصبر يا شيخ؟ كيف نصبر؟أقول: الصبر حبس النفس وهي تصرخ كارهة غير راضية في ثلاثة مواطن، فلا يسمح لها أن تهرب .. أن تشرد .. أن تفر وتتخلى عن موقفها:الموطن الأول: أن تحبسها على ما أوجب الله، وما فرض الله من الطاعات والعبادات، فلا تسمح لها أن تتخلى عن كلمة مما فرض الله أن تقوله، أو عن التفاتة مما أمر الله تعالى أن تلتفت، فاحبسها وهي كارهة على طاعة الله. هذا موطن.الموطن الثاني: أن تحبسها دون معصية الله، فلا تسمح لها أن تنطلق فتفجر أو تفسق أو ترتكب ما يغضب الله مما نهى عنه وحرمه أبداً وطول العمر، فهو صبر متوالي، وأنت حابس لها، وغاصب لها حتى لا تتجاوز ما حد الله، وما أذن الله فيه.الموطن الثالث: أن تصبر على ما تجري به الأقضية والأقدار، إذ قد تمتحن من قبل سيدك ليظهر باطنك، وينصع طيبك، ثم تنتقل إلى درجة الإمامة.إذاً: صبر على ما تجري به الأقدار الإلهية فقد تمرض .. تجوع .. تضرب .. تسجن .. تبتلى، لكنك مع الله، فلم يتغير فيك شيء عن الله، فلسانك ذاكر، وقلبك شاكر، وبعد فترة من الزمن ينزل القبول من السماء.فهذه هي مواطن الصبر مع اليقين، فلا تتردد، ولا تشك، ولا يخطر ببالك سوء، فأنت عبد الله ووليه، وبعدها تتخرج إماماً يقتدى بك ويؤتسى بك بين الناس.
إبراهيم إماماً للبشرية
وإبراهيم عليه السلام قد ظفر بهذا المقام، بسبب الابتلاء وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ من ابتلاه؟ رَبُّهُ [البقرة:124] فامتحنه واختبره، فلما فاز نزل من عند الله صك القبول: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] فكان -والله- إماماً للبشرية، فما اكتحلت عين الوجود بمثلك يا إبراهيم.وإبراهي قد وفى في هذا كله لله، وأعظم من ذلك موقفه الصلب الثابت القوي في تلك الأمة المشركة التي تعبد غير الله، وتؤله سوى الله، وهو وحده يعلنها مدوية: لا إله إلا الله.ولو نستعرض مواقفه في القرآن، فاقرءوا قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:52-57] ونفذ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58] ومن يقف هذا الموقف؟فهو كأنما وقف في بهو موسكو أيام الشيوعية، وهم مجتمعون يدبرون لتحطيم العالم، وتخريب الدنيا، وتخريب البشرية، فقال: اسمعوا! لا إله إلا الله.أو وقف في عاصمة الصليبية: الفاتيكان، وفي قاعة الفاتيكان وقال: اسمعوا! لا إله إلا الله.وهل يستطيع البشر لو اجتمعوا أن ينقضوا هذه الجملة بالمنطق والعقل؟ والله ما استطاعوا، ولن يستطيعوا أبداً.يستطيعون أن يقولوا: لا إله بالمرة؟ هذه أضحوكة وسخرية.من يقول: لا إله وهو مخلوق أو لا؟فإن قال: أنا غير مخلوق .. غير موجود. قلنا: هذا مجنون أخرجوه، ما أنت بمخلوق ولا موجود، فمع من نتكلم.فإن قال: نعم مخلوق، موجود. قلنا له: من أوجدك؟ من خلقك؟فإن قالوا: الطبيعة. قلنا: هذه هي اللعبة الأخيرة، فهل الطبيعة ذات إرادة .. ذات علم .. ذات قدرة، إنها تفاعلات كيماوية، هل هي التي خلقت الكون؟ وانفضحوا.قالوا: إذا لم نقل الطبيعة وقلنا: الله، قلتم: صلوا، ونحن لا نريد هذا. فانفضحوا في آخر ساعة.إذاً: لا إله إلا الله فقط.وإذا قال الفاتيكان: الآلهة ثلاثة، فهذه سخرية أكبر من الأولى.فلم ما تحاربوا وتنازعوا إلى هذا الوقت؟ فهم ثلاثة سلاطين في الكون، أما يحدث بينهم خلاف؟! قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] وهذا ليس في عام، ولا قرن، ولا ألف سنة، بل آلاف السنين فلو كان الآلهة ثلاثة لتحاربوا، وانتهت الهزيمة بمن ليس بإله، وثبت الحق للإله الأعظم الله لا إله إلا هو.ثم ما هذه الآلهة؟قالوا: عيسى، أمه، الأقنوم الأول، ابنه، الروح القدس. وهذه شعوذة، وخرافات، وأباطيل حافظ عليها رجال الكنيسة ليستعبدوا البهائم، ويقودوا البشرية إلى أهوائهم وشهواتهم.ولا إله إلا الله لا تنقض أبداً على مدى الحياة، إذ لا يوجد إله مع الله قط، ولا يقال: لا إله كما قال الشيوعيون، وانتهت فتنتهم وهبطوا إلى الحضيض. وقد دامت الشيوعية خمساً وسبعين سنة فقط، وقد بينا من عشرات السنين أنها لعبة يهودية حتى يخففوا ضغط النصارى عليهم، فأوجدوا فتنة الإلحاد في ديارهم فخف الضغط على اليهود، بل واستفادوا وسادوا، وبالفعل تم الصلح بين الفاتيكان واليهود، واعترف النصارى باليهود. يا جماعة! القرآن من ألف وأربعمائة سنة يقول: إن اليهود ما قتلوا عيسى أبداً، ولا صلبوه، وأنتم النصارى كالبهائم، ألف وأربعمائة سنة تقولون: اليهود قتلوا عيسى؟ أيقتلون الله؟! كيف هذا الإله الذي يقتل ويصلب؟لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والقرآن يصرخ بأعلى صوته: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [النساء:157] ومنذ خمس عشرة سنة قال بولس الثامن : اليهود برآء من دم السيد المسيح، إيه، الآن أفقتم فقط، وهذا هو السحر اليهودي.ونحن نأسف أنه انتقل أيضاً إلينا، وحطمنا، وفرقنا، ومزقنا، وما صحونا بعد.وسنصحو في اليوم الذي نجتمع اجتماعنا هذا في صدق على كتاب الله، وهدي رسول الله، في كل قرية، وفي كل مكان، من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، فأهل البلد أجمعون بنسائهم وأطفالهم في بيوت ربهم، وذلك كل ليلة، وطول العمر، وطول الحياة، ويومها حقاً نصحو ونفيق، ونعرف الحياة على حقيقتها؛ لأننا أصبحنا مبصرين؛ نسمع ونعي.فإن قيل: يا شيخ! لم تقول هذا الكلام؟أقول: والله الذي لا إله غيره لا ترتفع لنا راية حق، ولا يسمع لنا صوت، ولا نري الكون والحياة إلا إذا عدنا إلى كتاب الله وسنة الرسول، ومستحيل أن نرتفع على وجه الأرض بدون هذا النور الإلهي.
ابتلاء إبراهيم بالختان
وأخيراً مما فادى به إبراهيم: الختان، فلما بلغ إبراهيم من العمر ثمانين سنة قال له الله: اختتن يا إبراهيم.لكن كيف يعمل؟ أين الأطباء، وأين الإسعاف؟ وكيف يقطع غلفة ذكره؟ كيف وعمره ثمانون سنة؟الجواب: بواسطة القدوم، فوضع غلفة ذكره على حجر وضرب.من يقوى على هذا؟هذا الامتحان فاز به إبراهيم. فهو أول من اختتن في الأرض، وأولاده هم المختتنون، ونحن والحمد لله منهم، وإن كان اليهود يختتنون لكن لا تنفع عبادة بعد ما أضاعوا ألف عبادة، لكن نعترف أنهم يختتنون، ونحن أمة الختان.وممن ولد مختوناً نبينا صلى الله عليه وسلم، وجمع من الأنبياء قد مضوا وما لنا بهم تاريخ، لكن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم والله لقد ولد مختوناً.والختان واجب، ومن أهمله وأضاعه فهذا معناه أنه هدم الدين.والختان يبتدئ من يوم السابع، فيختن للذكر بقطع تلك الغلفة، ويذبح له شاتان، وإذا كان المولود أنثى فتذبح لها شاة واحدة، وهذه هي العقيقة، وهي شكر الله على الولد، فمن رزق ولداً ذكراً يوم سبعة من ميلاده يذبح عنه شاتين، ويحلق شعر رأسه، ويجمع ويزنه في ميزان الصيدليات الدقيق، ويتصدق بوزنه ذهباً، وكل هذا شكراً لله أن أحيا منهما ولداً، فمن أنتما؟ لو اجتمعت الدنيا على أن يخلقوا ولداً ما قدروا عليه، ولا استطاعوا، وأنت وامرأتك تنتجان هذا الولد.إذاً: السنة في يوم السابع أن يحلق الرأس، ويوزن الشعر، وممكن يكون وزنه ربع جرام .. نصف جرام، والجرام سعره أربعين ريالاً اليوم، والشاة والشاتان إن أمكن، فإن لم يستطع لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.أما البنت فقط شاة واحدة، لم هذا؟ لأن الله يعلم ما في قلوبكم، كيف وهو خالقها، وخالق دقاتها، فهو يعرف أن ميلك إلى الذكر أولى فضاعف الشكر بذبح شاتين، والأنثى بذبح شاة واحدة.هل عرف المسلمون هذا؟ لا يعرفون، لم؟هل يجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله كل عام، طول الحياة هكذا، حتى يصبحوا علماء ربانيين رجالاً ونساءً؟ لا، كانوا لا يجتمعون على القرآن إلا لسماعه؛ لأنه ليلة الميت.وإخواننا يعرفون هذا، والله لا يجتمعون على القرآن ليدرسوه، ولكن فقط ليسمعوا ليلة الميت فقط، متنا وأماتونا.
معنى قوله تعالى: (قال ومن ذريتي ...)
قوله تعالى: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] هذه سياسية وأنتم لا تقبلون السياسة.فقد سأل إبراهيم ربه ولاية العهد، فقال: أنت إمام. قال: واجعل من ذريتي أيضاً أئمة.ومن هذه الآية استنبط أهل العلم أن للحاكم الرباني المؤمن الصالح إذا خاف الوفاة أو الموت فعليه أن يوصي بمن هو أهل لحمل الأمانة، فيكون ولي عهده، يساعده وهو حي، وإذا مرض يقوم مقامه، وإذا مات تولى أمر المسلمين بعده، وهذا من باب الرعاية، والعناية، وحفظ العهد؛ لأنه لو مات وما ترك شيئاً فإنهم يتقاتلون في ظروف معينة، ومن الجائز في يوم من الأيام أنهم لا يقتتلون، لكن هذه الأمة تمر بها القرون والعصور والدهور ومن الممكن أنهم يقتتلون.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (84)
الحلقة (91)
تفسير سورة البقرة (53)
بأمر من الله خرج إبراهيم بهاجر وإسماعيل إلى مكة، وهناك حيث لا ماء، ولا زرع، ولا ضرع تركهما، تركهما في حفظ الله ورعايته، ومرّت السنون ويعود إلى مكة ليجد ابنه يافعاً، ويأتيه الأمر الإلهي ببناء البيت الحرام برفقة ابنه إسماعيل، فوفيا بالمهمة، وكان البيت الذي غدا مثاباً ومرجعاً للناس، يؤدون فيه صلواتهم، ويستيغيثون حوله بربهم.
تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:125-126] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
معنى قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت)
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] هذا خبر، وكأن الله تعالى يقول لرسوله: اذكر لهم إذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً.وقد سبق أن عرفنا دعوى اليهود، والنصارى، والمشركين أنهم حنفاء، وأنهم أتباع إبراهيم، وإبراهيم مقدس عندهم مطهر، مبجل، مرجل، وكل طائفة تنتسب إليه، وتدعي أنها من أتباع إبراهيم، وهم كاذبون، فأزاح الله الستار عنهم، وكشف عورتهم، وليس لهم بإبراهيم إلا النسبة الفارغة، وإبراهيم كان موحداً وهم مشركون، وما بقي بعد هذا شيء.فها هو تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ [البقرة:125] أيُّ بيت هذا يرحمكم الله؟ إنه الكعبة المشرفة .. إنه البيت العتيق، فـ(أل) للعهد، فهو المبيت المعروف، إذ حج هذا البيت آدم، ونوح، وهود، وصالح، وموسى، ومن بعده من الأنبياء.وهذا البيت أول بيت بني في الأرض، وذلكم أن آدم عليه السلام لما نزل من سماء الكمال إلى الأرض استوحش، فقد كان في أنس، ثم أصبح غريباً في هذه الديار مع زوجه حواء، وقيل: إنهما تلاقيا في عرفة، وكل عرف الآخر، فبنى الله تعالى بواسطة ملائكته أو من شاء من خلقه هذا البيت، فكان آدم إذا استوحش يأتي إلى ربيت ربه يسأله حاجته، ويطلب من الله مراده، فكان ملاذاً، ونِعْمَ الملاذ لآدم وحواء ولذريتهما من بعدهما.وسبب كون إبراهيم عليه السلام بناه؛ لأن السيول والأودية هدمته، وبقي زمناً طويلاً وهو عبارة عن كوم من التراب، فهذا هو البيت.
معنى قوله تعالى: (مثابة للناس)
يقول تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي: اذكر يا رسولنا، والمبلغ عنا! إذ جعلنا البيت مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] ما معنى مثابة؟المثابة: مصدر ثاب إليه يثوب إذا جاء ورجع إليه، والمثابة مصدر زيدت فيه التاء.ومعنى: مَثَابَةً لِلنَّاسِ أي: مرجعاً، يروحون ويعودون، فيذهبون ويجيئون الدهر كله. أي: للطواف به، ولسؤال ربهم حاجاتهم، فهم عبيده، وهذا بيت مولاهم، وإلى الآن إذا عظمت عليك مسألة ولم تجد لها حلاً فافزع إلى الله واغتسل، وتطهر، وتجرد، ولبِ وامشِ، وبين المقام والحجر اسأل الله، فلن تخيب.وقوله: مَثَابَةً لِلنَّاسِ أولهم وآخرهم، أبيضهم وأسودهم، فليس للعرب ولا للعجم فقط، فلفظ الناس يعني لكل إنسان، فهذا بيت ربه.
معنى قوله تعالى: (وأمناً)
قال تعالى: مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] البيت هو الأمن .. الحرم هو الأمن، وهذه لا يقدر عليها إلا الله، فالرجل يمر بقاتل أبيه أو قاتل أخيه أو سالبه ماله وحياته، ويمر به في الحرم يطأطئ رأسه، ولا ينظر إليه.والذي غرز هذه الغريزة في قلوب الجهلة في الجاهلية هو الله!قال تعالى من سورة المائدة: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97] أي: معايشهم قائمة عليها، فالتجارة الفخمة العظيمة هي تجارة الحج، فيأتي العرب من أنحاء ديارهم يسوقون أموالهم وتجاراتهم، ويبيعون، ويشترون، ويتزوجون لمدة سنة، فيقطعون المسافات ولا يعترضهم أحد، ولا تشن عليهم غارة، ولا ينصب لهم كمين أبداً، وذلك في الأشهر الحرم: القعدة، والحجة، ومحرم، ثلاثة أشهر يوضع فيها السلاح، وشهر رجب وإن كان بعيداً لكن تدبير الله أن جعله في الوسط، فقد يحتاجون إلى رحلات في الشرق والغرب، فهذا الشهر -أيضاً- شهر الأمان، فاركب ناقتك، واحمل ذهبك، ولا يصدك صاد.قال: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97]، فكانوا يهدون الإبل، والغنم، والأموال إلى الحرم .. إلى سكان بيت الله وحرمه .. إلى جيرة الكعبة، وقد سمعتم أن رجلاً واحداً كان ينحر كل موسم ألف بعير! وليس بصاحب بنك كأنتم، ولا صاحب مصانع، ولا بصاحب تجارة مع أوروبا، لا، إنما عبد جاهل هو الآن في النار، فيذبح ألف بعير للحجيج؛ نساء ورجالاً! ويكسو ويوزع كل سنة ألف حلة للفقراء والمساكين، والحلة: ثوبان من نوع واحد.وها هو عبد الله بن جدعان الذي انعقد في بيته حلف الفضول التاريخي الذي ما عرفت الدنيا نظيره، وشهده الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، تقول عنه أم المؤمنين رضي الله عنها للرسول: ( أرأيت يا رسول الله عبد الله بن جدعان فقد كان يفعل ويفعل هل هو في الجنة؟ قال: لا، إنه في النار ) لم؟ ( لأنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) فما كان مؤمناً، بل كان كافراً لا يؤمن بالبعث والجزاء، ولا بالنبوة، والرسالة، والوحي الإلهي.إذاً: معاشر المستمعين والمستمعات! من القائل: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]؟ الله.نسمع كلام الله؟ إي والله! هذا كلامه.الحمد لله! الحمد لله أن عرفنا ربنا، ونسمع كلامه، ونحن -والله- جالسون في بيته! وملايين البشر تائهون في أودية الضلال كالبهائم، لا بصيرة، ولا نور، ولا هداية، ولا معرفة، فهم أشبه بالحيوانات، والحيوانات أطهر منهم! فهم يعملون الليل والنهار من أجل -فقط- قضاء شهوة البطن والفرج.وأية نعمة أكبر من نعمة الإيمان؟! واقرءوا قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] هذه نزلت في عرفات.وقوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125] ما معنى الأمن؟ الأمن بكامله، فمن دخل الحرم أو دخل في الأشهر الحرم فهو آمن، وهذا كان في الجاهلية، حيث لا قانون، ولا شريعة، ولا نبي، ولا رسول! فلما جاء الإسلام، وساد الأرض، وظهرت أعلام العدل فيه كان المسلمون هم المسئولون عن تحقيق الأمن في ذلك البلد الآمن.نعم، الآن يوجد سراق، فيأتي حجاج لهذه المهمة، يسرقون، ويأخذون أموال الحجاج وهم يطوفون بالبيت! والله العظيم.فلم ما فعل الله بهم كما فعل بالأولين؟الجواب : لأن الأولين لا شرع لهم، ولا قانون، ولا رسالة، ولا دولة، ولا حكومة، فلا بد وأن يرحمهم، فيلقي في قلوبهم مخافة الله والهيبة من الله؛ حتى لا يعتدوا على حاج أو معتمر.
معنى قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)
ثم قال تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] هذه قراءة سبعية، وقرأ نافع بصيغة الماضي واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى .يقول عمر رضي الله عنه: ( وافقت ربي في ثلاث )، وزاد: وافق في خمس!ومما وافق فيه الله تعالى أو وافقه الله تعالى فيما قال، ونزل القرآن به، أنه الذي اقترح وقال: ( يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟! فنزلت هذه الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] )، والمصلى مكان للصلاة، وها نحن -والحمد لله- نصلي خلف المقام، فأيما طائف أو طائفة بالبيت إذا فرغ من الأشواط السبعة، ولا يكون الطواف إلا سبعة أشواط، فلا يصح ستة ولا ثمانية، ومن زاد أو نقص بطل مفعول هذه العبادة، ومعنى بطل مفعولها: لم تولد الطاقة المطلوبة، فهي تعب فقط؛ لأن العبادة إذا قننها الحكيم، واختل أداؤها بالزيادة، أو النقص، أو التقديم، أو التأخير؛ فإنها لا تولد الحسنات!وليس معنى لا تولد الحسنات أن الله لا يعطي حسنات، أو أن الملائكة لا يكتبون، إنما المعنى أن هذه العبادة توجد نوراً وطهراً في قلب العبد؛ فلهذا كم من مصل، وكم من صائم، وكم من متصدق، وكم من طالب علم، وكم من مجاهد، وكم من مرابط، وكم من ذاكر، وكم من راكع وساجد؛ يخرجون كما يقال: أصفار اليدين لا شيء!وإن قلت: كيف؟أقول: لأن هذه العبادات مقننة تقنيناً أعظم من تقنين الكيمياويات وتراكيبها، ومتى حصل فيها خلل فإنها لا تنتج أبداً.ولو عرف المسلمون هذا ما بقي مسلم لا يطلب العلم أبداً، نعم، وفي القرون الذهبية كان النساء كالرجال، فكل مؤمن يعرف كيف يعبد ربه! لكن لما صرفنا، واستجبنا للصرفة، وصرفونا، ما وجد من يعرف.فإذا سألت الفقيه: يا شيخ! أنا صليت المغرب وزدت ركعة متعمداً؟ فيقول: صلاتك باطلة، أعد صلاتك، وهذا الذي يملكه الفقيه!وآخر يقول: أنا تكاسلت فصليت العصر ثلاث ركعات فقط؟ فيقول الفقيه: صلاتك باطلة.أما نحن ففهمنا من قوله: باطلة أنها ما أنتجت، وما ولدت، فأعد الصلاة!فقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] وافق فيها عمر ربه.
من موافقات عمر لربه
كذلك لما نزلت آية من سورة المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12] إلى آخر الآية، قال عمر : الله أحسن الخالقين، وما زال كذلك حتى نزلت: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].الثالثة: كانت غزوة بدر هي أول معركة إسلامية ظهر فيها أبطال بدر، ورجالات الجهاد، فلما انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر وبعض الصحابة، فرأوا أنهم يفادون الأسرى، لقلة ذات اليد، فلا ميزانية، ولا دولة، ولا مال، والبلاد محاصرة؛ فالأحسن أن يفادوا، فالأسير بكذا ألف وبكذا وكذا، فقال عمر : لا، لا نفاديهم، إنما نقيم عليهم القتل! فما هناك أنفع من قتلهم.فلما كان المستشارون الأولون جماعة ما استطاع أن يفعل شيئاً، فسكت! فنزل القرآن يؤيد عمر في القتل، فقال تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا [الأنفال:67]، أي: ما كان لنبي من الأنبياء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، ويفتح الشرق والغرب، أما الواجب في أول معركة هو قتلهم حتى يرهب العدو في الشرق والغرب، أما إذا بعتموهم بالمال فسيقولون: هؤلاء ماديون! لا نبالي بهم، فوافق عمر ربه في هذه أيضاً.ورابعاً: قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! نساؤك يدخل عليهن البار والفاجر، لو أمرتهن بالحجاب؟ ) فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ [الأحزاب:53] ونزل قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] سواء ستارة أو باب أو جدار، المهم الحجاب الحجاب!إذاً: ولا تعجبوا من عمر !تريدون أن تكونوا عمريين؟فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه ) فما يطيق الشيطان أن يمشي معه في شارع واحد، ولو كان عرضه ستين متراً، فما يقوى بل يهرب وله ضراط!ويقول صلى الله عليه وسلم: ( لو كان في أمتي محدثون -أي: من تحدثهم الملائكة- لكان منهم عمر ، ولكن لا نبي بعدي )، لم؟ لصفاء روحه، وهو كتلة من نور لزكاة نفسه!فهذه النفس ما زكت بالصابون إنما زكت بصدق الإيمان وصالح الأعمال، والبعد كل البعد عما يدسيها أو يلوثها أو يصيبها بظلمة أو عفن أو نتن، إذ كل الذنوب هذا شأنها.وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ما قال أبي في شيء: أظنه كذا إلا كان كما قال.فإذا نظر إلى الحادثة وقال كذا فإنه لا يخطئ! وكم من آت ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطي لسلاحه فيقول له عمر : أخرج سلاحك. وهذه هي كما قال الرسول: ( اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله )، فهذا نور القلب الذي طاب وزكا وطهر! وما تلوث بالقاذورات والأوساخ الهابطة.
تقوى عمر
وأخيراً لما ولي أمر المسلمين دعاه أحد الولاة إلى طعام، فوضع له مائدة فيها كذا نوع من الطعام، وطعامنا الآن أوسع منها، فنظر إلى تنوع الطعام فاضطرب وقام كالأسد، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ما لك لا تطعم؟! قال: إني خشيت أن أكون ممن قال الله فيهم من سورة الأحقاف: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].وهذه الآية تزن الدنيا وما فيها، فالزبانية في جهنم تقول لهذا النوع: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا أي: أكلتموها في الدنيا، فما تركتم حلاوة، ولا طعاماً، ولا شراباً، ولا لباساً إلا أخذتموه، فماذا بقي؟! وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا والاستمتاع معلوم فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أي: العذاب الذي فيه الإهانة، وكسر المروءة، وتحطيم الشرف بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ والاستكبار في الأرض بمعنى العلو والارتفاع، وكيف يستكبر مَن أصله نطفة قذرة، ويحمل في بطنه العذرة المذرة، ونهايته جيفة قذرة منتنة؟! كيف يستكبر هذا؟!والاستكبار هو: غمص الناس وبطر الحق، فالمستكبر لا يذعن .. لا ينحني .. لا ينتصح، فهو دائماً مع هواه!والاستكبار في الأرض من أعظم الذنوب؛ لأنه تعدٍّ على الله عز وجل، فالكبر لله، والذي يريد أن يكون كبيراً متكبراً فقد نازع الله عز وجل في صفته؛ ولهذا يأتي الوعيد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، ولا تعجب! فإن هذا المثقال من الكبر يجعل صاحبه لو حضره الموت وقيل له: أي فلان! قل: لا إله إلا الله، فسيقول: لا أقول. ويموت كافراً.ولا تعجب فإن مثقال ذرة من كبر يفعل العجب، فيحمله على ألا يركع ولا يسجد، ويحمله على ألا يعترف بحقوق الناس، ويأكلها ويظلمهم.وأي حق لك أن تتكبر وأنت عرفت أصلك، ومادة خلقك، وعرفت مصيرك؟! من أين لك يا ابن آدم أن تتكبر؟! فالكبرياء لله، ومن نازع الله في كبريائه قصمه ولا يبالي.فإذا حصل نزاع بينك وبين أخيك، وعرفت أن الحق له لكنك تتكبر، وتمنعه حقه، فأنت متكبر!ونعود إلى السياق الكريم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] هذه مما وافق فيها عمر ربه تعالى، قال: ( أرأيت يا رسول الله! لو نتخذ من مقام إبراهيم مصلى -مكاناً نصلي فيه- فنزلت الآية )، فالطواف بالبيت سبعة أشواط كالسلام من الصلاة، فإذا صليت ركعتين أو أربع تخرج من الصلاة بقولك: السلام عليكم. أما الطواف فإنك لما تطوف فإنك تخرج من الطواف بصلاة ركعتين، ومن استطاع أن يصلي عند المقام فذاك، وإن عجز أو كانت امرأة فما دام في الحرم متجهاً إلى الكعبة يصلي؛ للزحام والضرورة، أما خارج الحرم فقد سئل عمر عن ذلك فقال: لا يصلي، ولا ينفع ذلك.
معنى مقام إبراهيم
قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] أي: تصلون فيه، والمقام: مكان قيام، فهذا الحجر .. هذا المقام سببه أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت بأمر الله، وهذه واحدة من الأوامر التي نجح فيها وفاز بالإمامة، وكان إسماعيل الغلام، الزكي، النقي يساعده، فيأتي بالحجارة من جبل أبي قبيس ومن المروة، والجبال قريبة، وإبراهيم يبني، فلما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر يقف فوقه ليواصل البناء، وليس بشرط، له أن يبنيه كما هو الآن مبني، كقامة الإنسان وبقدر ما يستطيع، فكان كلما بنى قطعة دعس الحجر أمامه وعلا فوقه، وواصل البناء، فلما انتهى كان الحجر بين الركن الشامي والحجر الأسود، عند الباب، وبقي الحجر إلى أن جاءت السيول وزحزحته؛ فوجد في مكانه الآن.وهذا المقام بلغتنا العصرية (قدم خدمة لله)، فجزاه الله بأعظم وسام؛ لأن الله لا يضيع المعروف عنده.انتبه! والله لا يضيع المعروف عند الله! وما من عبد يعمل شيئاً لله إلا ويأخذ جزاءه وثوابه.فهذا الحجر قدم خدمة وهي أن بني البيت بواسطته في علوه وارتفاعه، فشرفه الله بأن جعل أعظم عبادة تؤدى دونه.ولعل بعض السامعين أو السامعات ما فهموا.
لا يضيع المعروف عند الله
أقول: ثقوا في أن الله لا يضيع المعروف عنده، فمن فعل معروفاً لله وبالله فلن يحرمه الله مثوبته أبداً وجزاءه، فتعاملوا مع ربكم بما شئتم.فهذا الحجر لما بنى إبراهيم البيت بواسطته ارتفع البناء، وتركه حيث انتهى البناء، ما بين الركن الشامي والحجر الأسود، فجاءت السيول وأخرته إلى المقام الذي فيه هو الآن، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتركوه هناك، فكل طائف أو طائفة بالبيت يصلي ركعتين خلفه؛ امتثالاً لأمر الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].وأشرف عبادة على الإطلاق هي الصلاة، فما فوقها عبادة؛ لأن فيها ركوعاً وسجوداً في الأرض بين يدي الله، ومن الغريب أن أحد الأبناء أو الإخوان أراني الآن مجلة فيها صورة زعيم عربي كان راكعاً ومنحنياً أمام يهودي يصافحه!وكل هذا بسبب الجهل، فما عرف أنه لا انحناء ولا ركوع إلا للجبار .. إلا لخالق الليل والنهار .. إلا لرب السماوات والأرض وما بينهما.ومع الأسف هناك الكثيرون يركعون، فلم شرفت الصلاة وعظم شأنها، وأصبحت العبادة الوحيدة التي تولد أعظم طاقة؟الجواب: لأن فيها الانكسار، والذل، والانحناء، وتعفير الوجه في التراب لله عز وجل!وأنت عندما تصافح شخصاً تصافحه ورأسك مرفوعة، ولا تركع.ثم هذا الزعيم -حقنا كما يقول العامة- كان مع يهودي! ونحن نقول: لا يجوز، لا مع اليهودي، ولا مع علي بن أبي طالب . فما نقول: لو كان مع مسلم لا بأس، بل المصيبة أعظم حينئذ، لأن هذا المسلم الذي ركع له وسكت فهو أيضاً دخل في جهنم! أما هذا اليهودي فشأنه، هو من أهل النار، لكن المؤمن لا يركع لغير الله عز وجل.وهذه الظاهرة أيضاً موجودة عند لاعبي الكرة، وعند الملاكمين، وعند لاعبي الكاراتيه، فإذا فرغوا يركعون، وقد أخذوها من المجوس الذين لا دين لهم، وللأسف أنهم لا يسألون، ولا يستفتون، ولا يبحثون، فإذا فرغوا سألوا: أيجوز هذا؟والمعلوم أن المسلم يقتل ويصلب ولا يسجد ولا يركع لغير الله.فإن قيل: لكن ما العلة يا شيخ؟!الجواب: الجهل، فمن رباهم؟ وفي حجور من جلسوا، وتعلموا، وتربوا؟وسيجيب بعض الناس: نحن كالبهائم نعيش في الصحارى، فلا تلمنا يا شيخ!والشاهد عندنا أن في هذا المقام تؤدى أشرف عبادة وهي الصلاة! إكراماً من الله له؛ لأنه قدم (خدمة جليلة لله عز وجل)، فما ضاع المعروف عند الله.إذاً: فائدة: يا عبد الله! يا أمة الله! إذا قدمت لله شيئاً من قلبك، ورغبة في ما عند الله، وفي حب الله؛ فاعلم أنه لن يضيع معروفك، ولن يضيع المعروف عند الله، وهذا هو الشاهد، ونحن الآن كلنا نصلي الركعتين خلف المقام؛ حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا المقام من آيات الله فإن إبراهيم لما كان عليه غاصت قدماه فيه وهو صخرة؛ لتبقى آية إلى يوم القيامة، واقرءوا قول الله عز وجل: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] (فيه) أي: في الحرم (آيات) علامات كالشمس (بينات) دلائل، وبراهين ساطعة، ومنها: أن قدم وأصابع إبراهيم كانت على هذا الحجر، وبكثرة تمسح الناس وتقبيلها في الجاهلية انطمست. وإلا كيف تغوص قدما إبراهيم في الصخر. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا أي: الحرم. وإذا كان الفعل بالماضي فهذا إخبار بما هو مفروغ منه وسيكون، وقد كان.
قصة تسري إبراهيم عليه السلام بهاجر
ثم قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] أي: أوصيناهما.وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وإسماعيل هو ابن إبراهيم، وأمه هي هاجر ، وهي قبطية مصرية، كانت أمة.لكن كيف حصل عليها إبراهيم؟لما كان إبراهيم عليه السلام مع سارة يمشيان في الأرض، وقد تركا ديارهما، فساحا مهاجرين؛ وانتهت بهم السياحة إلى مصر، من طريق غزة وسيناء، فلما وصل إبراهيم الديار المصرية في ذلك الزمن، ولا تنظروا إلى القاهرة والاسكندرية، وشى به بعض المرضى إلى السلطان، وقال: إن غريباً بالدار نزل عندنا، ومعه امرأة حسناء لا تصلح إلا لك.والعامة في المغرب يسمون هذا قواداً، أي: يقود إلى الفاحشة، ويسمى عندنا الجرار، وأيهما أعظم: القواد أم الجرار؟ القواد أخف، لأنه يقوده، والجرار يسحبه، ويجره جراً حتى يوصله، وأعوذ بالله أن يكون في ديار الإيمان والإسلام القوادون والجرارون، موقدو نار الشهوات، والفتن، والأهواء.وتلك الأمة كافرة فلا عتاب ولا لوم، وإنما كيف يوجد هذا بين المسلمين، ونظيره الذي يفتح ماخور للدعارة.إذاً: لما وشى هذا الجرار بعث إلى إبراهيم بعسكري، وقال لإبراهيم: هات المرأة، فقال: يا سارة ! إنه لا يوجد على الأرض اليوم مؤمن إلا أنا وأنت -وهو كذلك- فإذا سألك عني فقولي: أخي، ولا تقولي: زوجي، لأنها إذا قالت: زوجي إبراهيم سيقتله، وكيف يستحل امرأة بزوج، فهذا لا بد من إعدامه، لكن قولي: أخي، ولا يوجد يومئذ على الأرض مؤمن إلا هو وهي.ورفعوها إلى المقام السامي، وجلست إلى جوار السلطان، وأخذ يداعبها ويراودها، وكلما وضع يده عليها سواء كتفها أو فخذها أو رأسها يصاب بالشلل الفوري، والله العظيم! وتيبس يده! وفي المرة الأولى ماذا فعلت؟ تدعو الله فتعود يده، وهكذا في المرة الثانية والثالثة، ثم نادى في العسكر: أخرجوا هذه عني، واصنعوا لها من اللباس والكرامة والمأكل، وأكرمها بأن أعطاها هاجر خادمة مصرية تخدمها؛ لأنه شاهد آيات الله.فسألها إبراهيم: ما فعل الطاغية؟ قالت: كذا وكذا، وهذه هي هاجر أهدانيها.وتبرعت سارة لإبراهيم ابن عمها وزوجها، قالت له: خذ هذه وتسراها.قلب رحيم! أتوجد هذه المرأة الآن؟! امرأة اليوم إذا سمعت به يخطب فقط فيا ويله، ويا ويلها!فقالت سارة : خذها وتسراها يا إبراهيم! لأن سارة لا تنجب، وتسراها إبراهيم، فأنجبت إسماعيل في أرض القدس، ولما أنجبت إسماعيل تضايقت سارة عليها السلام وحزنت: كيف أن هذه الجارية تلد، وأنا كيف أعيش هكذا؟ فأوحي إلى إبراهيم أن يبعد هاجر مع طفلها؛ إكراماً لسارة حتى لا تتألم وتعيش في حزن صباح مساء، وعاشت سارة كذا سنة ما ولدت، وبعد سنين أنجبت لما جاء الملائكة لتدمير المؤتفكات، فنزلوا ضيوفاً وبشروها، وهي تسمع؛ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ [الذاريات:29-30]، أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73]. وذلك بعدما تجاوز إبراهيم مائة وعشرين أو مائة وثلاثين سنة.فرحمة بهذه المؤمنة قال: أبعدها عنها؛ حتى لا تشاهد الطفل، وذهب بها إلى جبال فاران .. إلى الوادي الأمين .. إلى بكة، فركب براقاً، والله لقد ركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وربطه في حلقة باب المسجد الأقصى! يخلق الله ما يشاء.والعجب أن الذي حدثنا بهذا الحديث هو أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.
قصة ماء زمزم
لما دخل إبراهيم مكة مع هاجر والطفل الصغير رضيع، جلس معهما والبيت لا وجود له، عبارة عن كوم من التراب، ولكن تحت شجرة من السدر، وشجر السدر ينبت في الصحراء، وأراد أن يعود فقفل راجعاً؛ فنظرت إليه هاجر وقالت له هذه الكلمة: آالله أمرك بهذا يا إبراهيم! أن تتركني وطفلي في هذه الصحراء؟! لا أنيس، ولا ماء، ولا طعام، آالله أمرك بهذا؟ فالتفت إليها وقال: نعم يا هاجر ! قالت: إذاً: اذهب، فإنه لن يضيعنا.يا من يتذوق طعم التوكل على الله! انظر إلى قولها: اذهب فإنه لن يضيعنا، فما دام أنه قد أمرك بأن تتركني وطفلي في واد ليس فيه أنيس، ولا طعام، ولا شراب، فالله لا يضيعنا إذاً.وعندما نعود إلى نماذج من مجتمعنا! فتقول مثلاً: يا فلان! أنت مؤمن .. أنت مسلم في المدينة، ما يجوز لك أن تبيع في دكانك مجلات فيها صور الخلاعة .. أو تبيع الدخان، خفف عن المسلمين، فيقول: إذا ما بعت المجلة والدخان من يشتري؟ الزبناء يطلبون غيرنا، هذا توكل على من؟!وإذا قلت: يا فلان! الربا حرام، واخرج من هذه الفتنة، وأغلق هذا الباب، وحول هذا الربا إلى إسلام صحيح، يقول: كيف نصنع مع الظروف والأزمنة ؟!وإذا قلت لصاحب صالون حلاقة يحلق وجوه الرجال: يا عبد الله! أنت فحل، لا تحلق وجوه الفحول، أصلح اللحية وحسنها، واحلق شعر الرأس، أما تحلق وجوه الرجال فلا، يقول: وهذا الصالون والعمال كيف نعيش؟ لا بد! هذا ما توكل على الله، إنما توكل على صالون الحلاقة.ومظاهر هذا كثيرة، فما سر هذا؟الجواب: ما آمنا حق الإيمان، ولا عرفنا الرحمن، ولا امتلأت قلوبنا بخشيته، ولا بحبه، ولا رغبة لنا في لقائه، فلا تلمنا إذاً، أما تلك المؤمنة فقد عاشت أياماً في حجر إبراهيم، وعلى فراش إبراهيم، وقد انتقلت أنواره إليها، ولازمته سنة أو أكثر، فعرفت أن الله ما دام قد أمره فلن يضيعنا!وما هي إلا أربع وعشرون ساعة ونفد الماء الذي كان في القربة أو الشن، ونفد الخبز الذي كان في المزود، وبقي -والله العظيم- إسماعيل يتلوى في الأرض من شدة العطش! وليس في تلك الديار أحد، فلما شاهدت إسماعيل في تلك الحال نظرت إلى أقرب جبل منها وهو الصفا، ولهذا لما نسعى الآن تعبداً نبدأ بالصفا، إذ بدأت به هاجر . فطلعت فنظرت يميناً وشمالاً ولم تر شيئاً في ذلك الوادي، فهبطت فرأت جبل المروة أمامها على قرابة كيلو متر أو نصف كيلو، وما هناك من الجبال إلا هو، فذهبت إلى الجهة الشمالية علها تشاهد شيئاً، وكان ما بين الجبلين واد، والآن الوادي مضبوط بالمليمتر، ما بين الميلين الأخضرين، وقبل وجود الكهرباء كانوا يصبغون العمود بالصبغة الخضراء؛ الميلين الأخضرين، والآن بالكهرباء خضراء، بينهما هذا الوادي، فلما تصل إليه تسرع لهفة، تسرع حتى تخرج من المنخفض إلى المرتفع؛ لعلها تشاهد أو ترى.ومن ثم خلد الله ذكر هاجر ، فما من فحل منا قادر على أن يخب في ذلك الوادي إلا وخب! أو هجر السنة وتركها.أرأيتم كيف يحيي الله ذكرى الصالحين وصنعتهم؟فلما صعدت المروة ما شاهدت شيئاً حتى اكتملت سبع مرات، وإذا بهاتف يهتف، وتقول: أسمعت، أسمعت، هل من مغيث، نظرت وإذا برجل على رأس إسماعيل واقف، على أحسن ما يكون الرجال ثياباً وجمالاً، وكان جبريل عليه السلام، كما كان يدخل أمام الصحابة.فلما دنت من جبريل قال بعقبه هكذا في الأرض، فصار زمزم، والله الذي لا إله غيره، بعقبه هكذا فقط سال وخرج الماء، فأخذت تزمه حتى لا يسيح في الأرض، وشفقة على الماء؛ خافت أنه ينقطع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً إلى يوم الدين ) يسيل دائماً، أما الآن فلا بد من الحبال والدلاء، وبعدها الآلات أيضاً لسحب الماء، ولو تركته يسيل دائماً، وقوله: ( رحم الله أم إسماعيل ) هذه كلمة تساوي الكثير، وهل يستطيع أحدنا أن يقولها؟ ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً إلى يوم الدين ) هذا زمزم.وزمزم مما سجله القرآن وأذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن من طاف بالبيت وصلى خلف المقام من السنة أن يشرب ماء زمزم، وإن كان رياناً؛ تخليداً للذكريات، فإذا طاف المرء منا بالبيت وصلى خلف المقام من السنة أن يشرب من ماء زمزم، ويكثر منه في حدود طاقته، ولقد رأيت حاجاً انقطع من حجاجنا قديماً أيام كان الدلو فيشرب الدلو بكامله، ويوسع بطنه بيديه، ولو يشرب هذا الماء من النيل أو الفرات أو من ماء كذا لا يبيت إلا في المستشفى! ولكن ( زمزم لما شرب له )، ( زمزم شفاء سقم وطعام طعم ).وهذا كله كان ببركة الصابرة المتوكلة اليقينية هاجر أم إسماعيل عليه السلام، جدة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.إذاً: هذه تابعة للسعي: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].ثم قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] بم؟ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [البقرة:125] إلى غد إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (85)
الحلقة (92)
تفسير سورة البقرة (54)
كما أن الله يصطفي من الملائكة رسلاً، فهو كذلك يصطفي من الناس رسلاً، وهو أيضاً يخص ما شاء من البقاع والأماكن والأزمان بما شاء من تشريف وتكريم، وقد اصطفى الله إبراهيم وابنه إسماعيل ليكونا نبيين، وليطهرا بيته -الكعبة- للطائفين والعابدين، وجعل الله بلدة بيته آمنة مطمئنة، ورزق أهلها من الثمرات والله ذو الفضل العظيم.
تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها, سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.والآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:125-126] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!ها أنتم تدرسون كتاب الله، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجائزة إنها والله لعظيمة، واسمعوا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ). ولو بذلنا ملء الأرض ذهباً على أن يذكرنا الله في الملكوت الأعلى ما حققنا ذلك.وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).ها نحن مع كتاب الله عز وجل إذ قال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] أن افعلا كذا وكذا.والقائل: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هو الله جل جلاله.من هو الله؟هو خالقنا .. رازقنا .. خالق العوالم كلها .. رب السماوات والأرض وما بينهما .. ولي المؤمنين، ومتولي الصالحين، ومرسل المرسلين، ومنبئ الأنبياء، فهذا الله الذي لولاه ما كنا.يقول: (وعهدنا) أي: نحن رب العزة، والجلال، والكمال.عهدنا إلى من؟ إلى إبراهيم وابنه إسماعيل.وعهدنا بمعنى: أوصينا، لأنه عدي بـ (إلى)، فأمرنا موصين مؤكدين، مَن؟ إبراهيم.
معنى إبراهيم
من هذا إبراهيم؟هذا أبو الأنبياء، هذا أبو الضيفان، هذا خليل الرحمن.وهذه الكلمة (إبراهيم) حقيقتها بالعبرية: أب رحيم، وحقاً والله إنه لأب رحيم، ويدلك على رحمته أن ابتلاه سيده ومولاه بأن يذبح فلذة كبده ويقدمها قرباناً لله رب العالمين!ولعل الغافلين ما يتنبهون، ولو كان قلبه قاسياً -مثلي- ما هناك حاجة إذا قال له: اذبح، فإنه يذبحه وهو يغني! لكن من له قلب رحيم، رقيق، وعواطف جياشة كيف يقوى على أن يذبح ولده؟!وهذا شأن الاختبار والامتحان، فإذا نجح صاحبه وفاز انتهى إلى أسمى قمة في الكمال البشري.أما سمعتم الله تعالى يقول على لسان إبراهيم: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:102-103] أسلما ماذا؟ أعطيا ماذا؟ أمرهما وقلباهما ووجهاهما لله وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:103-105].هذا هو إبراهيم، أبو الأنبياء، وما من نبي بعده إلا من ذريته.إذاً: عهد إليه الله جل جلاله، رب العزة والجلال.
معنى إسماعيل
أما إسماعيل فهو ابن إبراهيم, كان ما زال صغيراً، لكنه ناهز البلوغ، وأصبح يناول أباه الحجارة وهو يبني البيت.قالت العلماء: ومعنى إسماعيل بالسريانية لا العبرية: سمع الله دعاءك يا إبراهيم وأعطاك ولداً، فهو إسماعيل؛ لأن إيل معناها: الله, ويدلك لذلك: جبريل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل، كما نقول: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الرحيم.
معنى قوله تعالى: (أن طهرا بيتي)
عهد إليهما بماذا؟ كلفهما بماذا؟قال: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125].إذاً: أخطأت وغلطت في أن إسماعيل هنا ليس غلاماً مناهزاً للبلوغ، بل أصبح رجلاً في هذا السياق أن ينهض بهذا التكليف بعد والده ومع والده. أن طهرا أي: يا إبراهيم وإسماعيل! أيها النبيان والرسولان! طهرا بيتي. وذلك بعدما بني البيت ممكن بسنين أو بأيام، أما أثناء بناء البيت فكان إسماعيل مناهزاً للبلوغ فقط، وما شب، ولا ترعرع.وإبراهيم هو الذي كان يبني، أما إسماعيل فكان يناوله الحجارة، فلما ارتفع البناء، وما أصبح يقوى على أن يصل بالحجرة إلى الجدار؛ جاء الله بهذا الحجر -مقام إبراهيم- بما شاء من وسائل، فأصبح يعلو فوقه، ويواصل البناء، حتى أكمل البناء.إذاً: في هذا السياق كان إبراهيم وإسماعيل نبيين رسولين.قوله: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125] لمن يطهرانها؟ قال: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125].والتطهير معروف عندنا، يكون بالماء والصابون، فتطهر ثوبك وبدنك من النجاسة كالبول، والعذرة، والدم، والقيح وما إلى ذلك.إذاً: يا إبراهيم ويا إسماعيل! طهرا بيتي، ونظفاه، ونقياه من كل ما هو نجاسة معنوية كالشرك، والكفر، والتلصص، والخيانة، والزنا، والفجور، ومن كل ما هو نجاسة حسية كالجيف والنجاسات من بول وما إلى ذلك.فالتطهير هنا تنقية كاملة لما هو مكروه لله، ومبغوض لرب العالمين من النجاسات الحسيات والمعنويات.
معنى قوله تعالى: (للطائفين والعاكفين)
قوله: (للطائفين) أي: إذا جاء الطائف لا يخاف أن أحداً ينهشه أو أن يزلق في مستنقع ماء أو بول أو كذا أو كذا؛ لأنه جاء يطوف ببيت ربه.وقوله: (والعاكفين) جمع عاكف، والعُكوف لم يبق له أثر في العالم الإسلامي إلا أيام رمضان، والسنة أنه في رمضان، ويصح في كل السنة، فمن قال: لله علي أن أعكف شهراً في المسجد الحرام؛ فيجب أن ينفذ.والعكوف معناه: انقطاع كامل إلى الله عز وجل، فلا يخرج من المسجد إلا لقضاء الحاجة البشرية، أو إذا لم يكن له ولي أو مولى يتولاه؛ فيخرج إلى السوق يأخذ قرص الخبز أو عنقود العنب ويأتي إلى المسجد, وطول الليل والنهار وهو مع الله: ذاكراً، مسبحاً، مكبراً، راكعاً، ساجداً، فإذا غلبه النوم نام، وإذا ذهب قام.وانظر قيمة هذا العكوف -أي: انقطاع كامل إلى الله- فقد لا يتخرج إلا وهو نوراني، فقلبه كله نور، ولم تبق عليه خطيئة ولا سيئة مدونة عليه، فتمحى، ولا سيما في المسجد الحرام والمسجد النبوي مُعتكَف الحبيب صلى الله عليه وسلم.
معنى قوله تعالى: (والركع السجود)
قوله: وَالرُّكَّعِ [البقرة:125] جمع راكع، و السُّجُودِ [البقرة:125] جمع ساجد، كقاعد وقعود.ولم خص الركوع والسجود؟إنها الصلاة، فالصلاة معراج الوصول إلى الملكوت الأعلى، ومن أراد منكم أيها السامعون! أيتها السامعات! أن يتصل بذي العرش جل جلاله في أي ساعة من ليل أو نهار باستثناء الأوقات التي لا مقابلة ولا مناجاة فيها؛ فليتطهر ولينظف ثيابه وبدنه، وليغسل جسمه، والطهارة معروفة بالوضوء أو بالغسل، ويستقبل بيته، ويقول: الله أكبر! فقد انفتح الباب، فأنت مع الله حتى تستأذن وتقول: السلام عليكم.لكن من منا يشعر بهذا الشعور؟وقد يقول قائل: لا تلمنا يا شيخ! ما جلسنا في حجور الصالحين.أليس كذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقرر هذه المعاني السامية ويقول: ( المصلي يناجي ربه ) فإذا قلت: لا لا، فإنك تكفر.فقوله: ( المصلي يناجي ربه )، كيف يناجيه؟ يتكلم معه سراً، والمناجاة عندنا معروفة، ومن أحكامها: لا يتناجى اثنان دون الثالث، ولا ثلاثة دون الرابع، ولا أربعة دون الخامس؛ لأنهم يتكلمون سراً فيما بينهم، فيخشى أن يكونوا قد تآمروا عليه أو أرادوا به سوءاً، ومعنى هذا أننا آذيناه، وأذية المؤمن حرام، ولا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمناً ولو بحال كهذه، فإذا كنتم ثلاثة ولويت رأسك إلى أخيك وتحدثت معه سراً، فإن أخوك يقول: أخشى أن هذان يتآمرن علي.فأوجدوا في نفسه ألماً أم لا؟وكيف يؤذى المؤمن؟!فإن قال قائل: يا شيخ! إنهم يذبحون المؤمنين، فماذا نصنع؟ هل نصرخ؟!أقول: يبلغنا -اللهم بلغ عنا- أن سجون العرب تجري فيها ألوان من العذاب، والله ما توجد في النار يوم القيامة.وما نلوم يا أبنائي! فنحن ما علمناهم وما ربيناهم, أين جلسوا؟ في حجور من؟ قولوا لي!فكيف يصبحون ربانيين، حلماء، كرماء؟!وكيف يتم هذا؟ بالتربية أو بدون تربية؟والله ما كان، ولن يكون إلا بالتربية.أمامنا آية كريمة في إبراهيم حيث قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] تزكية النفوس .. تطهير الأرواح .. تهذيب الأخلاق .. السمو بالآداب، وهذا ما يتم أبداً إلا أن تجلس بين يدي المربي جلسة كجبريل عليه السلام، وأنت تستقي المعاني والمعارف، وتمتزج بلحمك ودمك، ويمتلئ بها قلبك، وما تخرج من المسجد إلا وأنت تمثلها، وهي ظاهرة في سلوكك!آه! وا حسرتاه! وا أسفاه! ما الطريق يا عباد الله؟!العالم الإسلامي هبط من علياء الكمال فلصق بالأرض، منذ قرون ومئات السنين، ومن يوم أن كاد له الثالوث فصرفوهم عن هذه المجالس، وعوضوهم بالمقاهي، والملاهي، والملاعب، وبغضوا إليهم كلام الله، وكلام رسوله، فقالوا في القرآن: صوابه خطأ، وخطؤه كفر!فأصبح الرجل إذا سمع العبد يقول: قال الله؛ يغلق أذنيه!فهل من عودة؟ عائدون إن شاء الله.ما الطريق يرحمكم الله؟! ما الطريق؟
طريق العودة إلى الله
الطريق فتح الله لنا به بابه، وهو كتاب: (المسجد وبيت المسلم).لعل أبا مرة يلقي في نفس أحد السامعين والسامعات فيقول: هذا الشيخ قائم بدعاية لكتابه ليحصل على الريالات, أسألكم بالله: هل بِيع هذا الكتاب؟ أما طبع منه سبعون ألفا؟! وننادي في العالم: اطبعوه، ووزعوه.كتاب: (المسجد وبيت المسلم) حيلة مما فتح الله تعالى به علينا.كيف أجمع أهل البيت؟ لو تعطّى الملايين ما تنتفع!كيف تعهد إلى أهل بيت إذا صلوا المغرب أو العشاء يجلس الفحل وامرأته إلى جنبه، وأمه إلى يمينه، وأطفاله من بنين وبنات بين يديه، ويتغنون بآية، فيقرءونها .. يرددونها .. يتلذذون بها، وأنوارها تغمر قلوبهم، وخلال نصف ساعة حفظوها؟! فيقول الأب: حفظت يا بنيتي! فتقول: إيه يا أبتاه! اسمع، فتقرؤها. ويقول: حفظت يا أماه! فتقول العجوز: نعم، اسمع يا بني! فحفظوا الآية.هذه الآية من الملكوت الأعلى، هذا من كلام الله رب العالمين.وماذا في هذه الآية؟أولاً: ما سميت آية بمعنى: علامة إلا لأنها تدل دلالة قطعية على وجود الرب تعالى، وعلى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.ولن يستطيع أحد تحت الأرض أن ينقض هذا الكلام! فهذا كلام عالٍ سامٍ.أيتصور وجود كلام بدون متكلم؟! مستحيل! فهذا الكلام كلام الله، وهل هناك من ادعى وقال: كلامي؟! والدنيا تصرخ ألفاً وأبعمائة سنة: هذا كلام الله.إذاً: كلام الله آية على وجود الله وعلمه، وقدرته ورحمته، وولايته لأوليائه، وقل ما شئت من الكمال الإلهي.وهل الذي نزلت عليه هذه الآية يكون غير رسول؟! مستحيل! فلولا أنه هيأه وهو في أصلاب وأرحام أمهاته وآبائه لذلك، وأوحى إليه، كيف يوحي إليه كلامه؟ فهو رسول!إذاً: كل آية في كتاب الله الذي تقرءونه على الموتى، كل آية تصرخ بأنه: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.وكل آية تحمل الهدى .. تحمل النور، فلما تحفظها الأسرة حفظاً جيداً، ويشرحها لهم الأب: أبنائي! أمي! يا أم فلان! هذه الآية لها معانٍ ودلالات؛ لأن الله أنزلها بالعلم والبيان، فهذه الآية تأمرنا أن نعتقد الحق، ونكفر بالباطل! وهذه الآية تدعونا إلى حسن الخلق، وهذه الآية تدعونا إلى أن نقيم الصلاة، وهذه الآية تدعونا إلى أن نرحم إخواننا المؤمنين والمؤمنات.وهكذا يعطيهم ما تدعو إليه الآية، وما نزلت له من أجله، وإن شاء الله تتمسكوا بهذا النور، وبهذه الهداية الإلهية.ومن الغد أيضاً يجلسون في البيت الطاهر، والملائكة تعمره وتحفه، فيقرءون حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي متوفرة بعشرات الآلاف كأنه نطق بها الآن، إذ لا تنقض أبداً، مهما طال الزمان، فيقرءون الحديث، اسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمع ما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، فيتغنون بذلك الحديث؛ لتنشرح صدورهم، وتطمئن نفوسهم، ويجدون روحانية في نفوسهم، فيحفظونه بعد بربع ساعة.يقول: أعيدي يا فلانة الحديث، فتعيده. ويقول: وأنت يا غلام حفظت؟! قال: نعم، أسمعني، حفظتم؟ حفظنا.احفظوا فلن يضيع هذا بعد اليوم، احفظوا فلا ينسى: ماذا يريد الرسول من قوله هذا وهو المعلم المربي، والسائس الحكيم؟ يريد منا كذا وكذا، ويريد منا أن نفعل كذا، وأن نتجنب كذا، فيحفظون الحديث ومعناه، وقد وطنوا أنفسهم، وأشرقت أرواحهم بأن يعملوا بما علموا على الفور بلا تأجيل.ويوماً بعد يوم، يوماً آية ويوماً حديثاً، وسنة .. سنتين .. ثلاث سنوات .. كيف يصبحون؟أسألكم بالله: أهل هذا البيت كيف يصبحون؟ أليسوا علماء .. ربانيين .. صلحاء .. أولياء لله تعالى؟ فهل مثل هؤلاء يذلهم الله أو يهينهم الله؟ والله ما كان وهو ناصر أوليائه.آه! بيوت المسلمين احتلتها الشياطين.
غلبة المعاصي على بيوت المسلمين
أبشركم أو أنذركم: نعم بيوت المسلمين حتى في مدينة الرسول في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرم رب العالمين في مكة احتلتها الشياطين، وخرجت الملائكة.فإن قال قائل: كيف هذا يا شيخ؟! أصحيح هذا؟أقول: والله الذي لا إله غيره إنه لصح، وكما سمعتم! فالبيت الذي يجلس الرجل وامرأته وبناته، والعاهرة ترقص أمامهم، وتتغنج وتتكسر، وتغني وهم جالسون، والله لا يبقى المَلك.واقرءوا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم واحفظوا، فقد دخل يوماً حجرة الصديقة عائشة رضي الله عنها، الحبيبة بنت الحبيب، أم المؤمنين، فيجد في حجرتها سهوة نافذة، غير نافذة للخارج، تضع فيها بعض أمتعتها، وما عندها خزائن كما عندكم، ولا دواليب، وسترتها بخرقة كتان فيها صورة، وما هي التي رسمتها بل النساجة هي التي نسجتها، فدخل وتمعر وجهه! وظهر الغضب عليه، وقال: ( أزيلي عني قرامك يا عائشة! فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ).وكان جبريل عند الباب فأبى أن يدخل! وقال: طهر البيت يا رسول الله! هناك جرو كلاب تحت السرير لابن فاطمة الطفل الصغير، ولن أدخل حتى تخرجوا ذلك الجرو. ثم دخل جبريل.وهذه يقينيات كأننا موجودون.كيف بيوتكم أيها المؤمنون؟! كيف هي؟رحلت الملائكة، إلا من رحم الله.أنا لا أنكر أن يوجد مؤمنون ومؤمنات يكرهون كل ما يكرهه الله ورسول الله، ويحبون كل ما يحب الله ورسول الله، ولكن هذا هو العالم الإسلامي، فطردوا الملائكة من بيوتهم، وحلت الشياطين.إذاً: كيف تتحقق لهم ولاية الله؟! كيف ينصرهم الله؟ كيف يهدي قلوبهم؟ كيف يأخذ بأيديهم من وحلتهم؟الجواب: غير ممكن.إذاً: وهذا الصحن الهوائي في بلادنا له سنة، وفي بلاد العرب صار له أربع سنوات .. خمس سنوات، وقد أحدث فتنة.وقد قلت لكم: إن الذي يستمر على هذا الوضع سوف يموت على سوء الخاتمة!والذي يجلس مع امرأته وأولاده من صلاة العشاء إلى نصف الليل .. إلى قبل الفجر وهم يشاهدون الأفلام الخليعة الدمارة المدمرة للعالم كاملاً، ففي ليلة واحدة تنطبع تلك الأخلاق في قلوبهم، فكيف إذا كان كل ليلة وطول العام؟! وشيئاً فشيئاً حتى ينكروا وجود الله, وإن لم ينطقوا, ما يقولون: لا إله، إنما لا يوجد في قلوبهم إيمان بالله، ولو وجد الإيمان بالله لبكوا، وخروا ساجدين.وترتفع مستويات الفساد في قلوبهم حتى يصبحوا مؤمنين بالاسم، ويأتي الأجل وهو ينكر وجود الله، فيموت على سوء الخاتمة.وهذا الكلام بلغناه، وسمعه الناس أم لا؟نعم يسمعه بهذه الأذن، ويخرج من هذه. لا إله إلا الله.
حين يكون البيت مدرسة إسلامية
نحن نقول: كتاب: (المسجد وبيت المسلم)، اشغل بيتك بهذا الكتاب، واجمع أهلك، واقرأ معهم ليلة آية وليلة حديثاً، فترتفع أنت وإياهم، ويصبح البيت كتلة من النور، ووالله جل جلاله لينتهي السرف والعبث في المأكل والمشرب والملبس، ويتوفر لكم مالكم ويزيد، مع البركة التي تحل!ثم أهل المدن والقرى في العالم الإسلامي، فإذا التزم أهل قرية من القرى بأن يجتمعوا كل ليلة في بيت ربهم، وإن كان ضيقاً وسعوه بالخشب لا بالحديد والاسمنت، كمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجلسون فيه بنسائهم وأطفالهم من المغرب إلى العشاء كل ليلة، فإذا مالت الشمس إلى الغروب قلنا لهم: هيا! اتركوا العمل، فارم المسحاة يا فلاح! وارم المرزبة يا حداد! وارم القلم يا كاتب، وأغلق الباب يا تاجر!فإذا قيل: إلى أين؟ إنها دعوة ربانية! فنحن ذاهبون إلى الرب جل جلاله في بيته.وإن قيل: ماذا نصنع؟ نقول: نتلقى الكتاب والحكمة ونستمطر رحمات الله، فيصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون جلوسنا هذا، والمربي أمامهم، وآية يرددونها حتى تحفظ، ويشرح لهم معناها، وتوضع أيديهم على المطلوب منها: فهمتم أبنائي! إخوتي! أبائي! أمهاتي! قالوا: فهمنا، فمن الليلة نطبق هذا الواجب، ونجتنب هذا المكروه لله ورسوله والمؤمنين. وهكذا الغد وبعده، وعام بعد عام.لكن كيف تصبح تلك القرية؟!سلوني أخبركم: تصبح كتلة من نور ككوكب في السماء، لم يبق فيها من يشرب حراماً، ولا من يأكل حراماً، ولا من يستبيح حراماً، ولا حسد، ولا غل، ولا غش، ولا خداع، ولا كبر، ولا رياء، ولا سمعة، ولا شح، ولا بخل، ولا خبث، فيصبحون كأسرة واحدة وأطهر!فإن قال قائل: كيف يتحقق هذا يا شيخ؟!أقول: تريد كيف؟هل إذا أكلت تشبع أم لا؟ تشبع, فهذه السنة ما تبدلت.وإذا شربت ترتوي أم لا؟ ترتوي.وإذا أدخلت إصبعك في النار أحرقته أم لا؟ تحرقه.وإذا قطعت بالحديد شيئاً انقطع أم لا؟ ينقطع.فهذه سنن لا تتبدل، كيف تتبدل هذه السنة؟ لن تتبدل! فبمجرد ما يجتمعون في صدق على تعلم الهدى الكتاب والحكمة وتزكية النفس؛ إلا ويصبحون كتلة من النور، وما تبقى جريمة في تلك القرية.ولو تريد أن تلزم الناس بالحديد والنار على أن يستقيموا؛ والله ما استطعت! ولن يستطيع إلا على منهج الله.هذا الله تعالى يقول: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] اسمعوا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يبنيان البيت، وهذا التقاول موجود عند العمال عندنا الذين يبنون أو يشتغلون شغلاً واحداً، فيسلون أنفسهم بالأغاني، لكن الصالحين يسلون أنفسهم بذكر الله وسؤال الله.اسمع إبراهيم وإسماعيل يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129] وهما يبنيان البيت!هل استجاب الله دعوتهما؟إيه، بعث في أولاد إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم.وهل فعل الرسول هذا؟ والله كأنكم تشاهدونه، يجلس في ذاك المجلس وحوله الناس، فالنساء من وراء، والرجال أمامه، وهو يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فتخرج من حجره .. من مسجده رجال لم تحلم الدنيا بمثلهم قط! وإن شوه المبطلون ذلك الجمال وذلك النور وأرادوا أن يطفئوه، ولكن والله ما اكتحلت عين الوجود برجال تخرجوا من حجور الصالحين كما عرفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.واستدام ذلك الكمال مع الكيد والمكر لهم من كل جهة، ثلاثة قرون، وثلاثة أجيال: الصحابة، وأبناؤهم، وأبناء أبنائهم، فلم تعرف الدنيا أمثال أولئك.كيف تعلموا؟ وكيف تخرجوا؟ ماذا درسوا؟درسوا الكتاب والسنة، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] يطهرهم أخلاقاً وأرواحاً.
الجهل بالقرآن والسنة موقع في الفساد
والآن؟ آه! من ينقل هذا الكلام إلى العالم الإسلامي؟ ما هناك أحد، لو كان هناك من ينقل كلامنا؛ لغيروا سلوكهم في سجونهم، في بلادهم.فإن قيل: ولم تعيد هذا الكلام؟أقول: يأتيني واحد من بعيد يظل أمامي ويبكي ويبكي. فأقول له: ما لك؟يقول: فعلوا بي الفاحشة في السجن.إذاً: كيف لا تتمزق قلوبنا؟!وجاءني أحدهم من سنوات فقلت له: أين فمك؟ قال: قلعوا أسناني سناً بعد سن.هؤلاء مؤمنون، مسلمون؟ أيصدر هذا عن مؤمنين بالله .. عن مسلمين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله؟!ولا نلومهم فمن علمهم؟ ومن رباهم؟ لقد جلسوا في حجور البلاشفة، واليهود، والنصارى، وتعلموا وتخرجوا على أيديهم هنا وهناك، فكيف ترجو منهم الخير، وإليكم بيان الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يقول: لا، فهو مجنون، فهذا خبر الله أو لا؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا من هم؟ المختصون في علم النفس، والقانون، والسياسة إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ، أنا لا أستطيع أن أقتنع بأن شخصاً يأخذ مواطنه ويكسر وجهه، ويسلب لحيته، ويفعل، ويفعل. هذا حيوان .. هل هذا إنسان مسلم؟ هذا كافر، هذا لا يوجد في قلبه بصيص من إيمان، والرسول يقول: ( وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته )، حتى في الشاة لا يعذبها، وهؤلاء يدعون أنهم مواطنون، ويفعل بالمواطنين هذا، وكلما جاء واحد من الخارج يقص علينا هذا البلاء.سمعتم هذا البيان؟أعيده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، حق أو لا؟ثم يقول تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، من غير المعقول أن نرتد ما دمنا نجلس هذا المجلس طول العام نتلقى الكتاب والحكمة.هل فهم السامعون والسامعات؟أين توجد الحصانة؟ في كتاب المسجد وبيت المسلم.الجماعة التي تجلس كل ليلة منذ طفولتها إلى شيخوختها في بيت ربها ساعة أو ساعة ونصف تتعلم الكتاب والحكمة، هذه الجماعة لا يستطيع واحد تكفيرها، والله لا بالسحر، وهل يستطيع قوم أو أمة أن يردوها على أعقابها فتخرج من دينها وإسلامها؟ والله ما كان ولن يكون، لكنهم عرفوا نور الكتاب وهداية السنة فصرفوهما عنا، فعشنا قروناً كالبهائم.إذاً: عرفتم قيمة كتاب: (المسجد وبيت المسلم)؟وليس بشرط أن يكون هذا الكتاب، الشرط: ليلة آية وليلة حديثاً من البخاري .. من الموطأ .. من مسلم أو من أي كتاب، وكل ما في الأمر أن الأحاديث موجودة ومتوفرة، وهذا أحسن من أن تبحث عنها من جديد، وهي مشروحة ومبينة، لا أقل ولا أكثر.وقد قلت غير ما مرة: لو أن أهل قرية في العالم الإسلامي التزموا بهذا، وأخبرونا عن نورهم، والله لنحجنّ ونذهب إليهم لنشاهد أنوارهم، وكيف أصبحت تلك القرية، وإن كان سكانها أقل من ألف نسمة، فنشاهد النور، إذ لا يتخلف وعد الله بحال من الأحوال.وإلى الآن ما بلغنا؛ فآه على الهبوط قروناً، وهذا كتاب الله بين أيدينا.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال رب اجعل هذا بلداً آمناً ...)
دعوة إبراهيم لمكة وأهلها
نعود إلى السياق: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ [البقرة:126] يا رب اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة:126]، أي بلد هذا؟ مكة. بلد أو لا؟ بلد، وقد أقسم الله به فقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، أي: الآمن المحقق للأمن لمن دخله، وقال: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1-2] إنها مكة بلد الله.دعوة الخليل: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]، ولما قال إبراهيم هذا كانت مكة ليس فيها نخلة، ولا تين، ولا عنب، ولا زرع: لا بر، ولا شعير، وهذا هو حال جبال فاران والوادي بينها، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ وشاء الله أن يتحقق ذلك، فقد شهدت مكة أمناً لم تشهده بلدة أخرى في العالم، ففي أيام الجاهلية، حيث لا إسلام، ولا شرع، ولا قانون، ألقى الله في قلوبهم الرعب والخوف، فيمر الرجل بقاتل أبيه لا يفتح عينيه فيه أبداً، أمنهم، والله على كل شيء قدير. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ فأصبحت تأتيهم الأموال والثمار من أنحاء العالم وإلى الآن.ثم قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، هذا احتراز احترزه إبراهيم، لأنه في السابق لما قال تعالى له .. لما توجه بتاج الملك، وأصبح إماماً للعالم، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124] أوامر فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، وهذه الشهادة لو تدرسونها مليون سنة -والله- ما تحصلون عليها في مدارس الدنيا كلها، كلمات وأوامر معدودة، وقد استعرضناها، ومنها أن يذبح ولده فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، يقتدى بك، وحقق الله هذا فلا يهودي ولا نصراني ولا أحد على الأرض إلا ويقدس إبراهيم ويود الانتساب إليه على الإطلاق.ثم قال: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] طمع، والطمع في الله لا بأس به، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أيضاً اجعل منهم أئمة. فقال تعالى: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، إذا أولادك ظلموا، وأشركوا، وكفروا، وأحلوا ما حرم الله، واستباحوا ما حرم الله، فما لهم حق.وهنا تكلمنا على ولاية العهد، وقلنا: لا بأس للحاكم والسلطان والملك عندما تحضره الوفاة أو يخاف الفتنة أن يعين أحسن واحد في البلاد من أقاربه أو من غيرهم، فهذه أمانة حتى لا تضيع الأمة.ورد الله تعالى عليه بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، أي: ما نعطيك عهداً يناله الظالمون، أما من كان مؤمناً، حنيفاً، موحداً، مستقيماً فهو معك، مثلك، أما من كان مشركاً؛ كافراً فاسقاً فلا يعطى هذا.أرأيتم هذا الرد؟فإبراهيم الآن خاف، فتذكر هذه الآداب، فقال: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، أما الكافر فلا تعطه ولا شربة ماء، ولا أكل، ولا خبز.
معنى قوله تعالى: (ومن كفر فأمتعه قليلاً)
بناءً على ما سبق قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة:126]، بالطعام والشراب حتى يموت ثم إلى جهنم، فكفره لا يمنع من أن يأكل، ويشرب، ويلبس، ويركب أبداً، وإنما إذا أعلن الحرب وحارب فإنه يقتل، وأما إذا سالم فإنه يأكل ويشرب حتى الموت، ولا نقول: لأنه كافر لن يأكل ولن يشرب.ولولا هذا لكان من حق المسلمين ألا يطعموا كافراً ولا يسقوه حتى يموت، لأن هذا الكافر مخلوق للعبادة فعطلها وقال: أنا ما أعبد الله، إذاً يجب أن يموت، فلماذا يعيش؟هذا سر آخر.أتعرفون لم نأكل ونشرب؟من أجل أن نذكر الله ونشكره، فإذا عطلنا الذكر والشكر تعطلت الحياة، ولا قيمة لوجودنا، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فلهذا يهان الكافر، ولا يكرم، ولا يعز، ولا يبجل، ولا يعظم، لم؟ لأنه ترك علة الحياة وسر الوجود، فقط لا يقتل، وما يدريك أنه ينجب ولداً يعبد الله؟ وما يدريك أنه يدخل في رحمة الله؟ فما تملك هذا، إذاً دعهم يأكلون ويشربون حتى نهاية آجالهم، والمصير معروف.أرأيتم كيف رد الله على إبراهيم؟ إبراهيم تحفَّظ؛ لأنه سمع في الآية الأولى: لا ولاية إلا لمؤمن، طاهر، صالح، فهنا لما تحفظ قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ [البقرة:126]، تعرفون التمتع؟ بالأكل والشرب واللباس إلى أن ينتهي الأجل، فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة:126] قليلاً فقط، هذا شيء آخر، أما أهل الإيمان، والصلاح، والاستقامة فيمتعهم كثيراً؛ لأننا نجد اللذة في الطعام بسم الله ومن أجل الله، فهؤلاء الكفار يأكلون كما تأكل الأنعام، ولا يعرفون لم يأكلون، ولا لم يشربون، ولا يعرفون لم وجدوا، وإلى أين يصيرون، فمتاعهم ولو ألف سنة ما هو إلا قليل.
معنى قوله تعالى: (ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير)
قوله: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ [البقرة:126]، أي نار هذه؟ ما تعرفون النار يرحمكم الله. أما تشعلونها في بيوتكم؟ والفحم موجود.ومن قال: أي نار هذه تجمع البشرية؟قلنا له: ارفع رأسك إن شاء الله في وقت الضحى للشمس، وانظر وتأمل والحرارة نازلة، واسأل الخبراء يقولون: هذا الكوكب أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، ولو جمعنا البشرية ورميناها في الشمس ما سدت زاوية ولا كملتها، فكيف بالعالم الآخر، وراء هذه الأكوان؟ آه.ثم قال: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126]، مصير يصل إليه عبد الله أو أمة الله إذ يلقى في عالم الشقاء يخسر كل شيء.وعندنا أيضاً بعض المعلومات فإنه يؤتى بالرجل من أمثالنا، ضرسه كجبل أحد، وعرضه -والله- كما بين مكة وقديد، أي: مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، فتأكله النار مليارات السنين.وقد أخبر بهذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فقال: ( ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، وقد كنا نعجب كيف هذا الضرس؟ وكيف هذا الجسم؟ حتى قال: ( وما بين كتفيه كما بين مكة وقديد )، أي: مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً تقريباً، فيؤخذ هذا الرجل ويوضع في صندوق وتابوت من حديد، ويغلق عليه، ويرمى في زاوية من زوايا الشمس في ذلك العالم، والله لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتكلم، ولا يموت، وهو معذب، ملايين السنين في هذا العذاب.انظر البشرية مقبلة على ماذا، انظر المؤمنين الضائعين جهلوهم، وكفروهم، وأنسوهم لقاء ربهم، وأصبحت حياتهم كحياة غيرهم، لا هم لهم إلا الفرج والبطن.فهيا نعود، والله لا عودة ولو جاء عمر بن الخطاب والله لا يردهم، ولا يقوى عليهم في أي بلد.لا نرجع إلا إذا أردنا الله والدار الآخرة، فقط عرفنا الحياة ونجتمع في بيوت ربنا، فنبكي كل ليلة بنسائنا وأطفالنا، ونتعلم الكتاب والحكمة، وما يمضي زمان إلا ونحن ربانيون.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (86)
الحلقة (93)
تفسير سورة البقرة (55)
إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء الذي خرج بأهله مهاجراً في سبيل الله، حتى استقر بهم بواد غير ذي زرع وتركهم فيه بأمر الله عز وجل، فلما كبر ابنه إسماعيل وصار غلاماً جاءه الأمر من ربه بذبحه، فأذعن الأب وامتثل الابن فأثابهما الله عز وجل بأن فدى الابن وأكرم الأب فكان خليل الرحمن، ثم أمرهما الله ببناء بيته الحرام، والنداء في الناس ليحجوا إليه، فجعل الله عز وجل هذا البيت مثابة للناس وأمناً، وجعل هذه الأرض المباركة مبعثاً للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، فمع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:127-129] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
معنى اسم إبراهيم وكنيته
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127]، عرفنا من هو إبراهيم، إنه الأب الرحيم، وهو مركب من كلمة: أب، ورحيم، إبراهيم باللغة السريانية: أب رحيم، (أب راهيم)، وقد عرفتم أنه خليل الرحمن، وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً )، فالخلة نهاية الحب، فإذا تخلل الحب القلب وتعمق فيه كان المحبوب خليلاً.إبراهيم عليه السلام عرفتم أنه يكنى بأبي الأنبياء؛ لأن الأنبياء من بعده إلى خاتمهم نبينا صلى الله عليه وسلم من ذريته، فهو -إذاً- أبو الأنبياء. وله كنية أخرى أيضاً فاز بها، وهي أنه: أبو الضيفان، والضيفان والضيوف بمعنى واحد، وقد عرفنا لم كني بهذه من قصة جاءت مبينة في كتاب الله، إذ نزل عليه جبريل وميكائيل وإسرافيل ضيوفاً، وهو لا يدري؛ إذ كانوا في صورة رجال حسان، فماذا فعل؟ ما كان منه إلا أن مال إلى عجل فذبحه وشواه، وقدمه مصلياً، وقال: أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91]، فمن ثم كني بأبي الضيفان.
ذكر خبر إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار
إبراهيم عليه السلام عرفتم أنه من ديار العراق من أرض بابل، وأنه قام بدعوة الله وحده، كانت الديار كلها تفيض بالشرك والكفر، يعبدون الكواكب، ووضعوا لها تماثيل وصوراً في الأرض، فقام بدعوة التوحيد، وكان من جراء ما دعا إليه وواجه به الظلم والظالمين أن حكم عليه بالإعدام، اتخذت الحكومة الكافرة البابلية حكماً بإعدام إبراهيم، ليس بالسيف ولا بالعصا، وإنما بإحراقه في النار، فقد أججوا النار وأوقدوها مدة من الزمان، حتى إن الطير لا يمر فوقها إلا احترق؛ لشدة اللهب المتصاعد منها، وتم لهم ما أرادوا، وجعلوه في معلاق كالمنجنيق؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقربوا من النار حتى يدفعوه، فوضعوه في هذه الآلة ورموا به من مسافة بعيدة، واعترضه جبريل عليه السلام قائلاً: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. وقبل أن يصل إلى بؤرة الجحيم صدر أمر الله جل جلاله وعظم سلطانه بالكلمة الآتية المسجلة في كتاب الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوالله! ما أتت النار إلى على كتافه في رجليه ويديه. وقالت العلماء: لولا قول الله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لكان البرد يقتله، والبرد كالحر، كلاهما إذا تجاوز مستواه قتل.
خروجه عليه السلام بهاجر وإسماعيل إلى مكة
وخرج من الفتنة، وودع الديار والأذى فهاجر في سبيل الله، فكانت هذه أول هجرة في الأرض لله عز وجل، وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، وخرج معه زوجه الطاهرة سارة بنت عمه المؤمنة الصالحة، وابن أخيه لوط بن هاران، ودخلوا أرض الشام.وبإيجاز: لما أنجبت هاجر إسماعيل -ومعناه: سمع الله، أو: اسمع يا الله- أخذت الغيرة سارة وما أطاقت، وهي عاقر عقيم لا تلد، والجارية القبطية المصرية أنجبت ولداً، فبتدبير الله وقضائه أمر إبراهيم أن يرحل بهاجر إلى وادي مكة؛ ليضع هاجر وطفلها هناك، وما هي الواسطة التي ركباها؟ نترك هذا لله، وحسبنا أن نقول: الله أعلم، والله يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير، فالذي رفع خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في لحظات، ومن المسجد الأقصى إلى دار السلام في لحظات أو دقائق معدودات لا يسأل كيف يفعل، إن الله على كل شيء قدير.إذاً: فتركها وإسماعيل وليس معهما سوى قليل من الخبز وإداوة فيها ماء أو شن فيه ماء قليل قليل، وقفل راجعاً، فنظرت إليه وهي وطفلها في واد خال ما به إنس ولا جن، قالت: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا!وكم وقفنا هذا الموقف، ولكن ما استفدنا، ما عندنا ذاك التوكل الذي هو سلم النجاة وجسر الخلاص من هذه الفتن في هذه الحياة، من فقد التوكل على الله هام وتاه في الحياة، أصبح يخاف كل شيء، ويرهب كل شيء، لكن كيف نحصل على هذا التوكل؟ لا بد أن تمتلئ قلوبنا بذكر الله ومراقبة الله، ومعرفة أسماء وصفات الله، منها أنه على كل شيء قدير، منها أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، منها أنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، هذه المراقبة تجعل العبد يفوض أمره إليه ويتوكل عليه.ونحن لسنا مطالبين بأن نترك العمل، نعمل من أجل توفير الغذاء والكساء، من أجل أن نذكر الله ونشكره، لكن إذا تعارض هذا المطلوب مع معصية الله جب أن نتركه ولنطلب رضا الله عز وجل، فكم من مؤمن لا يسهل عليه أن يتوكل على الله فيغشى المعصية ويرتكب الكبيرة ويغضب الله ويسخطه، بحجة أنها الظروف أو الحال أو كذا أو كذا، وكل هذا ضعف في عقيدة التوكل، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].إبراهيم قالت له هاجر : إلى من تتركنا؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا. وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: ( من ترك شيئاً لله -أي: من أجل الله- عوضه الله خيراً منه )، ما من عبد مؤمن يترك شيئاً لوجه الله إلا عوضه الله تعالى خيراً منه، فـهاجر حسبنا أن نذكر من شأنها أن جبريل هو الذي ضرب الأرض بعقبه ففاضت زمزم.وأما قبيلة جرهم فما إن رأت الماء في المنطقة حتى جاءت، وطلبت النزول في جوارها، وهذه أيضاً نذكر بها الغافلين، قبيلة جرهم جاءت من اليمن فلما رأوا الماء في المنطقة نزلوا واستأذنوا هاجر الغريبة، الوحيدة، الأنثى، التي ليس معها إلا الله ثم ذاك الطفل الصغير، استأذنوها: هل تسمحين لنا أن ننزل بجوارك من أجل هذا الماء؟ قالت عليها السلام: على شرط: ألا حق لكم في الماء، قالوا: نعم! أمة برجالها ونسائها وعتادها وعدتها يستأذنون من امرأة، وتقول: على شرط: ألا حق لكم في الماء، الماء مائي والبئر بئري، قالوا: نعم. فلو كان أولئك كهذا النوع فوالله ليلوُنَّ رأسها.أما بلغناكم عن سجون العرب والمسلمين ماذا يفعلون؟ إذاً: فسبحان الله! كلما نتأخر في الزمان تغلظ أكبادنا، ويشتد -والعياذ بالله- طغياننا، فالأولون كانوا أحسن حالاً، أما سمعتم محاكمة إبراهيم؟ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:60-63]، ودار حوار كامل، ولو كانوا من جماعة البلاشفة لقالوا: اركلوه في الأرض.إذاً: هذا الذي وجدنا أنفسنا فيه، والحمد لله أننا مؤمنون مسلمون، فهذه النعمة لا تعادلها أخرى، وإنما الجهل هو الذي هبط بنا ففقدنا نور الإيمان وبراهينه ودلائله في الحياة.
الوحي إلى إبراهيم بذبح إسماعيل
ولما كبر إسماعيل وأصبح غلاماً يدخل بيت أمه ويخرج أوحى الله تعالى إلى والده إبراهيم بأن يذبحه، بأن يتقرب به إلى الله، وما كان من إبراهيم إلا أن عرض الأمر على طفله الصغير: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وبالفعل أخذه إلى منى حيث تراق الدماء، وأضجعه على الأرض، ومديته في يده، ووضعها على عنقه وقال: باسم الله، فأصبحت كعود الخشب لا تقطع، وبالأمس أما تحولت النار إلى برد وسلام؟ إذاً: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].
بناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام
وكبر إسماعيل، وجاء إبراهيم بأمر الله ليبني البيت، وهذه من الكلمات التي ابتلاه الله بها، وها نحن معه في هذه الساعة وهو يبني البيت، واسمعوا قول الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ [البقرة:127]، أي: الأسس التي بني عليها البيت.وهذه البيت بناه الله عز وجل بواسطة من شاء، والذي عليه أكثر أهل العلم والبصيرة أن الملائكة هم الذين بنوا هذا البيت، فآدم استوحش، وحق له أن يستوحش، بعد أن كان في أنس في الملكوت الأعلى نزل إلى هذا العالم المظلم، ليس فيه أحد، ما هناك إلا هو وزوجه حواء، فهذه الوحشة كيف تزول؟ فبنى الله تعالى له بيتاً، فإذا استوحش أو احتاج إلى شيء أو رغب في مطلوب فليأت بيت ربه وليسأل مولاه ليعطيه ما أراد وطلب، وأنجب آدم وحواء البنين والبنات، وأصبح البيت من تلك الأيام يحج ويقصد لطلب الحاجات، هذا بيت الرب جل جلاله، وكلما انهدم بسبب عواصف أو بسبب أمطار أو أودية يجدد في تلك الأحقاب من السنين، فإبراهيم عليه السلام نزل بمكان البيت، كان البيت عبارة عن تل من تراب، السيول عن يمينه وشماله قد هدمته، فأمره الله تعالى أن يجدد بناءه، واقرءوا هذه الآية: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127]، القواعد التي بني عليها أولاً من كذا ألف سنة، وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، أيضاً يساعده ويعاونه، اثنان فقط: إبراهيم وإسماعيل، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، يا ربنا! تقبل منها هذا الجهد، هذه الطاقة التي نبذلها في بناء بيتك، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ [البقرة:127] لأقوالنا وأدعيتنا، الْعَلِيمُ [البقرة:127] بحالنا، بضعفنا وقوتنا وقدرتنا، هكذا قالا توسلا إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته.والمسلمو من عهود وعصور ما يعرفون التوسل بأسماء الله وصفاته أبداً، لا يتوسلون إلا بحق فلان وجاه فلان، علماؤهم كجهالهم في أغلب ديارهم، لا يحفظون من أنواع الوسيلة إلا: اللهم إنا نسألك بحق فلان أو بجاه فلان، وهي وسيلة باطلة باطلة باطلة لا تنفع صاحبها قط، بل تورطه في الإعراض عن الله والإقبال على غيره عز وجل. إبراهيم وإسماعيل يبنيان البيت وهما في حاجة إلى عون وإلى مدد وإلى مساعدة، فتوسلا إلى الله بماذا؟ هل بحق نوح وأولاده؟ لقد قالا: أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، توسلا إلى الله باسمه وبصفته. فلهذا بعد هذه الأنوار التي لاحت في أفق العالم الإسلامي لوجود عوامل، منها: انتشار الكتاب، وانتشار العلماء، وإلا فما كان آباؤنا وأمهاتنا يعرفون وسيلة إلا: بحق فلان وجاه فلان، يدعون الليل والنهار ولا يستجاب لهم. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127] يقولان: رَبَّنَا [البقرة:127]، أي: يا ربنا، تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، فلكونه يسمع ويعلم يستجيب ويتقبل.
مراحل وأحداث بناء البيت الحرام
وهنا لنذكر أن البيت العتيق بناه الملائكة لآدم، وتوالى البناء بحسب القرون والعصور، وإبراهيم جدده، ثم بنته قريش بعد هذه الفترة الطويلة، ثم جاء الإسلام والبيت كما هو منذ بناء قريش له.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لـعائشة الحبيبة الزكية رضي الله عنها: ( لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت البيت وجعلته على قواعد إبراهيم )، أي: لجعلت له بابين وأضفت إليه ستة أذرع من الحِجر؛ لأن قريشاً لما بنت البيت بنته بشرط: ألا تبنيه بمال حرام، سبحان الله! يعرفون الحرام والحلال في الجاهلية، فلقلة ما جمعت من مال اقتصرت على الموجود، واختزلت البيت فتركت ستة أذرع مضافة إلى حجر إسماعيل.وكان صلى الله عليه وسلم سيجعل له بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، يدخل الزائر مع الباب الشرقي ويخرج مع الغربي، لكن كون المؤمنين حديثاً إيمانهم وإسلامهم فقد يثورون ويغضبون، فرحمة بهم وشفقة عليهم ترك ذلك، وهذا من سياسية الرشد والوعي والبصيرة، اترك الحال كما هي.وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى الأمر أبو بكر فـعمر فـعثمان فـعلي ، وحصل أن الخلافة انتقلت إلى معاوية رضي الله عنه، وتوفي وتولى ولده يزيد، وجاء بعده مروان بن الحكم، ثم جاء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه وحكم، ما رضي أن يتولى الخلافة من ليس هو بأهل لها، وقام معه رجال في الحجاز وحكم، وحقق ما تمناه رسول الله أو أراده لولا المانع الذي منع، وبالفعل هدم البيت، وبناه وأضاف إليه ستة أذرع من الشمال التي كانت في الحجر وجعل له بابين شرقياً وغربياً، واستمر كذلك مدة من الزمن.وشاء الله أن يستمر الزحف على مكة، واستشهد عبد الله بن الزبير ووقعت البلاد في حكم الأمويين رحمهم الله أجمعين، ثم لما حكموا هدموا البناء من جديد وردوه كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما ينبغي أن يتركه الرسول هكذا ونحن نجدده ونغير، فرد البيت على النحو الذي هو عليه الآن.ولما ولي هارون الرشيد استشار مالكاً إمام هذا المسجد: أرأيت لو نجدد البناء، لنحقق رغبة نبينا صلى الله عليه وسلم التي حققها ابن الزبير ثم ما دامت؟ فقال مالك : أخشى أن يصبح البيت يتلاعب به الحكام والملوك، فاتركه كما كان. فاستجاب الخليفة، ومن ثم استمر البيت كما هو، على حاله الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وبابه مرفوع؛ لأن العرب أذكياء، فكانوا لا يسمحون لمن أراد أن يدخل الكعبة إلا بإذن الحاجب، وحجابة البيت لها أسرة تتناقلها وتتوارثها، فإذا أراد أحد أن يدخل وضع له سلم حتى يدخل البيت، ولو جعلوه في الأرض لكان كل من أراد دخل، لكن ما دام أنه لا بد من سلم وعمل فلا يتمكن من ذلك إلا منع، وبقي البيت إلى الآن بابه مرفوع، هذا هو السر.ومن الخير أن نتركه كما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن ابن الزبير ، حقق رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم لما بدا له أنه ما بقي من ينازع، ولكن بقي من ينازع، فهذه نبذة عن بناء البيت.يقول تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، وانظروا إلى التواضع كيف يتجلى في كون إبراهيم وإسماعيل يبنيان بيتاً في الصحراء في ديار خالية، ومع هذا يسألان الله تعالى القبول؛ ليثيبهما على العمل، ولا يضيع عملهما بدون ثواب ولا جزاء، إعلاناً عن رغبتهما في فضل الله، وتوسلاً إلى الله ليقبل عملهما ويثيبهما عليه: أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].
تفسير قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ...)
ثم قالا: رَبَّنَا [البقرة:128]، أي: يا ربنا! وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، فهل هما غير مسلمين؟ الجواب: كيف وهما نبيان ورسولان؟ ولكن معنى هذا: اللهم أدم إسلامنا، وثبت قلوبنا عليه، واربطه معنا واشددنا عليه حتى نلقاك مسلمين؛ لأن الإنسان ما يملك، قد يكون اليوم مسلماً وغداً البرنيطة على رأسه كافراً.فيا جماعة! إياكم ولبس البرانيط، انتبهوا! لا تتشبهوا باليهود والنصارى، لقد كان آباؤكم وأجدادكم مستعمرين مستذلين لبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وما كان واحد يضع برنيطة على رأسه، والآن في المدينة يسوق السيارة خادم والبرنيطة على رأسه، وزوار جاءوا للزيارة وكأنهم اليهود في أشكالهم، أهذا يحبه الله؟ أما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)؟ أما يجب أن تكون لنا الصورة الخاصة بنا؟ إذا وقف أحدنا في العالم في زيه فيقال: من هذا؟ فيقال: مسلم، فبزيه يدعو إلى الله عز وجل، أما أن نصبح كاليهود والنصارى، تركنا رسالتنا، تركنا إمامتنا، أهملنا قيادتنا، ما أصبحنا دعاة ولا هداة ولا قادة، أصبحنا أذلاء نجري وراء الغرب ونمثل حياته، أهذا هو الإسلام؟ والله ما هو بالإسلام.فإبراه م عليه السلام يسأل الله أن يثبته وابنه على الإسلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، حتى الموت، نسلم ماذا؟ قلوبنا ووجوهنا لك، والمسلم من هو؟ المسلم عبد أسلم، بمعنى: أعطى قلبه ووجهه لله، الإسلام مصدر أسلم، يقال: أسلم فلان لفلان ناقته، أي: أعطاه، فلو تسأل أحدًا: ماذا أسلمت لله؟ فقال: لا شيء، إذاً: فلا إسلام بدون عطاء، القلب ينبغي ألا يتقلب طول الحياة إلا في رضا الله، لا هم لك إلا الله، والاتجاه دائماً نحو الله، وتتمثل هذه في الطاعة الصادقة والإخلاص فيها لله، صلاته، صيامه، بناؤه، هدمه، سفره، زواجه طلاقه، كل حياته في دائرة طلب رضا الله، هذا هو المسلم الحق.
مشابهة المسلمين لإبراهيم وإسماعيل في سؤال الثبات على الإسلام
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، أقول في سؤال الله تعالى أن يجعلهما مسلمين -بمعنى: أن يثبتهما على الإسلام ويديمهما عليه حتى الموت-، أقول: وعندنا نحن: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، في كل ركعة نصليها نتوسل إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، نحمده ونثني عليه، ونمجده: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، أليس هذا هو الحمد والثناء والتمجيد؟ ثم نقول متملقين له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين بغيرك، لم هذا التملق؟ لأننا لنا حاجة سامية قل من يظفر به ويحوزها، حمدنا الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أثنينا عليه: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، مجدناه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، من علمنا هذا؟ الله، يقول لنا: يا من يريدون أن يدعوني ويسألوني قضاء حوائجهم! هذا هو الطريق، احمدوه، اثنوا عليه خيراً، مجدوه، ثم اسألوه حاجتكم.وهذا بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية البيان، فقد قام رجل فرفع يديه يدعو: رب! أعطني، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع، ولكمال أدبه وسمو أخلاقه ما واجهه، فقال لأصحابه: ( لقد عجل هذا -بمعنى: استعجل- إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئاً فليحمد الله وليثن عليه وليصل على نبيه ثم ليسأل حاجته )، هل عرف السامعون هذا؟ هذه هي الوسيلة، ما هي بحق فلان وجاه فلان والأباطيل، ومن قال: ما عرفنا هذا يا شيخ! قلنا: إي والله، ما جلسنا هذا المجالس ولا تعلمنا. يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئاً فليحمده وليثن عليه وليمجده وليطلب حاجته )، أما (ارب أعطني) مباشرة فهل أنت تأمره؟ هل موقفك موقف السلطان الآمر، كأنك تقول: (رب اغفر لي وارحمني) بالقوة؟! لا بد أن تظهر في مظهر المسكنة والحاجة والفقر إليه.وقد قلت كثيراً: العوام يحسنون هذا، العامي إذا أراد أن يسألك شيئاً يقول: يا سيد، أنت كذا، أنت معروف عند الناس أنك من أهل الخير، أنت شريف، ما شاء الله، ثم يقول: أعطني، وهذا عرفناه منهم وعايشناهم، ما يأتيك من أول مرة فيقول: أعطني أبداً، لا بد أن يذكر كمالك وخيرك ونسبك وشرفك ثم يسألك، فالله عز وجل أحق بهذا التملق والتزلف، ثم هو علمنا هذا، فمن أنزل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]؟ من فرضها في كل ركعة، أليس الله؟ ومع هذا لا نعرف، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5].فهل لاحظتم التملق؟ لا نعبد إلا أنت ولا نستعين بغيرك، لم نقول له هذا؟ لأنا نريد أن نطلب شيئاً غالياً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وكيف نسأل الهداية ونحن نصلي؟ معنى هذا: أتم هدايتنا وثبت أقدامنا عليها حتى نلقاك مؤمنين صالحين مستقيمين. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، ألا وهو الإسلام الذي سأله إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، فالصراط المستقيم الذي نطلب الله في كل ركعة هو الإسلام، أن نحيا مسلمين، ونموت مسلمين، وقد أمرنا إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فمن أسلم ومات على غير الإسلام ما كسب شيئاً ولا استفاد آخر، فلا بد من مواصلة إسلام القلب والوجه لله حتى الموت.
معنى قوله تعالى: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)
إذاً: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، سبحان الله! ما اكتفى بدعوته له ولابنه، قال: واجعل من ذريتنا أمة مسلمة، قالت العلماء: ما دعا بهذه الدعوة سوى إبراهيم؛ لأنه طلب أن يوجد من أولاده أمة ذات البلايين، وقد كانت، إنكم أيها المسلمون دعوة إبراهيم، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، وقد استجاب الله.وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقد سئل عن أمره أو حاله أو شأنه فقال: ( أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى )، وهذه الأمة المحمدية الإسلامية من عهد نبيها إلى يوم القيامة دعوة إبراهيم، سبحان الله! وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، مسلمة له في ماذا؟ مسلمة قلوبها ووجوهها، وكيف يسلم المرء قلبه ووجهه؟ قلنا: ذلك أن نقول له: لم تبني هذا البيت؟ فيقول: من أجل أن أستر عورتي، وأن أقي نفسي وأهلي من الحر والبرد لنذكر الله ونشكره، مررنا به يوماً يهدم: لم تهدم؟ قال: خشيت أن يسقط علينا فيؤذينا ونحن نعبد الله، أو يؤذي مؤمناً يعبد الله عز وجل، لم طلقت؟ لم تزوجت؟ لم سافرت؟ لم قمت؟ لم قعدت؟ فيقول: نحن ندور في فلك عبادة الله، يا فلان! لم قصرت ثوبك، الشبان ثيابهم طويلة تسحب في الأرض يتباهون وأنت قصرته إلى نصف ساقك لم؟ قال: لله، أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أهمية الاستسلام في لزوم السنة في المظهر
جاءني اليوم رجل من الصالحين، شيخ كبير مثلي، قال لي: يا شيخ! أنت تذكر الناس فذكرهم بأمرين عظيمين. قلت: ما هما؟ قال: ثياب طويلة تسحب في الأرض، ووجوه حليقة ما فيها شعر، قلت له أبشر.وأنا لست بمفت، الإفتاء له لجنة خاصة وأنا لا أفتي، أنا أبلغ دعوة الله فقط، فأقول: أيها الفحول! استعينوا بالله، توكلوا على الله، خافوه، أسلموا له قلوبكم ووجوهكم، وأعف وجهك من حلقه حتى لا تصبح كالمرأة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال )، فكما لا يسوغ ولا يعقل أن المرأة تلصق لحية جميلة على وجهها، فكذلك الرجل، فتاة في العشرين من عمرها تجعل لحية جميلة عطرة أو حمراء أو حمراء أو سوداء، هل تقبلون؟إذاً: وهن لم يقبلنكم؟ حتى هن غير راضيات، كيف تكون مثل امرأتك؟! ومع هذا فنحن أتباع النبي فقط، لولا أنه قال: ( خالفوا المشركين: احفوا الشوارب واعفوا اللحى )، لما كنا نتكلم، ثم المؤمن يقوى -على الأقل- على أن يترك نصف اللحية، على الأقل يكون شاربه أسود، هذا فحل، ما هو امرأة، ويترقى حتى يصبح رجلاً.أما الثوب فلم تطيله؟ قل لي بربك: لم ثوبك يمس الأرض والطين والتراب، أهذا في صالحك؟ تريد أن تتكبر على الناس؟ أعوذ بالله! أمؤمن يتكبر؟ الجواب: لا، لم؟ تقليد أعمى فقط، حلق اللحية، وطول الثياب وغير الثياب ما هو إلا تقليد فقط، فلان فعل فسنفعل، ما هو عن علم ولا عن بصيرة، فإذا جاهد العبد نفسه، وأراد أن يخلص حياته لربه فما يبالي، أنا أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نتبع العالم الفلاني، ولا الشيخ الفلاني، هذا هو المسلك.
أهمية الاستسلام لقضاء الله تعالى وقدره
وأعود إلى معنى الإسلام فأقول: جاءني رجل أمه مات ولدها وما زالت في الحزن، فقال: كيف نفعل معها؟ قلت له: إذا كانت تسمع بينت لها، فأقول: يا معاشر المؤمنين والمؤمنات! هل نحن لله أم لا؟ وهل نرجع إليه أم لا؟ سنرجع أحببنا أم كرهنا؟ وهل على عندكم على هذا قرآن يشهد بهذا؟الجواب: نعم، قال الله تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، ما أصابت أحدنا مصيبة وقال فيها: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] إلا صلت عليه الملائكة، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، فنحن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( العين تدمع، والقلب يحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضي الرب تعالى ).إذاً: لم تبقى المؤمنة في حزن دائم؟ أليست تعرف أن ولدها هو عند الله وهو لله؟ أيودعك الله وديعة ثم يأتي يوم فيقول: رد علينا وديعتنا فتقول: لا؟فلهذا المؤمن والمؤمنة لا يزيد ألمهما ولا حزنهما على أكثر من ثلاثة أيام، إلا أن المرأة تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام لعلل وأحكام أخرى، أما الحزن في القلب فينبغي أن يزول في ثلاثة أيام، وتعود إلى لباسها، وإلى عبادتها، وإلى حالها؛ والعلة هي عدم البصيرة، لو عرفت أنها أصيبت بمصيبة وأن هذا المصيبة عظيمة وأن الله يعوضها أعظم منها للجأت إلى كلمة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، فيكفيها ذلك، فما دامت تعرف أنها لله هي وولدها إذاً: دعاه الله فليجب، هي أمانة موضوعة عندك، ثم أنت وإياه راجعان إلى الله، فلنعمل على رضا الله بحبه وذكره وعبادته وطاعته.وعلى كل حال: لابد من الذكرى فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، لو كانت هذه المؤمنة عند من يذكرها بالله عز وجل وما عنده وما لديه فلن يستمر حزنها.فهذه أم سليم عندما مات طفلها، غسلته وكفنته وغطته، ثم جاء والده يسأل؟ فقالت: إنه في عافية، في راحة؛ حتى لا تزعج والده أو تحزنه، فأين لنا أن نكون كـأم سليم ، المهم: ألا نسخط الله علينا في حكمه وقضائه فينا، نسترجع الله عز وجل ونصبر ونواصل ذكره وتقواه.ونعود إلى السياق الكريم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، هذا الدعاء حصل، ونحن منها، والحمد لله، أعظم أمة على وجه الأرض، والله! ما وجدت أمة أعظم من هذه الأمة، ويوم القيامة يبعث النبي ومعه الفرد والفردان والعشرة والمائة، وأعظم أمة هي أمة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن ليست أمة موسى شيئاً بالنسبة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفي أنه مضى على بعثته ألف وأربعمائة وزيادة، إذاً: استجاب الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل فكانت هذه الأمة.
معنى قوله تعالى: (وأرنا مناسكنا)
ثم قال الخليل عليه السلام: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من البيت قال إبراهيم عليه السلام: يا ربّ! لقد فرغنا من بناء البيت فكيف نعبد الله فيه؟ فأنزل الله جبريل عليه السلام، وعلمه مناسك الحج من الطواف إلى السعي، إلى الذبح في منى، إلى الوقوف بعرفة، إلى النزول بمزدلفة، وحدد له حتى حدود الحرم، استجابة لقول إبراهيم: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، فأراه الله تعالى المناسك.ولم سميت العبادة منسكاً؟ الأصل في المنسك الغسل، يقال: نسك ثوبه: إذا غسله ونظفه، فكل عبادة تسمى نسكاً لأنها تغسل القلب وتزكي النفس وتطهرها، فالمناسك جمع منسك، كل عبادة نعبد الله بها فهي نسك، وسمي الذبح أيضاً نسكاً: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، لأن الذبح لله من أعظم القربات التي تزكي النفس، ذبح شاة أو بعيراً أو بقرة لله، هذه العبادة تعمل العجب في تزكية النفس، حتى أطلق عليها: النسك، فكل ذبح لله هو نسك، وكل مشاعر الحج وتلك العبادات من رمي الجمار إلى الوقوف بعرفة هي نسك، أي: عبادة تزكي أنفسنا وتطهرها. وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، وها نحن -والحمد لله- نحج ونعتمر على نحو ما بين الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام، والحمد لله.
معنى قوله تعالى: (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)
وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، سأل الله أن يتوب عليه، أن يديم التوبة. واعلموا أننا لو عبدنا الله لم نفتر لحظة ما أدينا حق الله بعبادته، فغفلة فقط نغفلها نحتاج إلى أن يتوب الله علينا، فلا تفهم أبداً أنك أديت ما عليك، وأنك ما أنت في حاجة إلى توبة، اسأل التوبة في كل ساعة؛ لأن الرجوع إلى الحق أن تذوب في ذات الله، ولو ذبت ذوبان الثلج ما عظمت الله حق عظمته، ولا رهبته حق رهبته، فلهذا دائماً نسأل الله تعالى أن يتوب علينا أو يديم توبتنا ورجوعنا إليه عز وجل.وقوله: إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128] وسيلة كالأولى، إذا سأل العبد ربه شيئاً يتوسل إليه بأسمائه وصفاته: رب اغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، رب يسر لي كذا إنك أنت القوي المتين، رب افعل بي كذا لأنك كذا وكذا، هذا هو التوسل بأسماء الله وصفاته، أو أن تقول من أول مرة: يا رحمن يا رحيم، يا علي يا كبير، يا كريم! وتسأل حاجتك، سواء قدمت أسماء الله أو أخرتها، هذا التوسل الذي جاء به القرآن الكريم وبينه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، أما التوسل بغير هذه فهو من أباطيل الشياطين، وخاصة: بحق فلان وجاه فلان، وما زال هذا التوسل شائعاً في عوام المسلمين، ولا معنى له أبداً، فحين تقول: أسألك بحق فلان؛ فمن هذا الذي له حق على الله؟
تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ...)
ثم قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، واستجاب الله، وبعث من أولاد إسماعيل عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] من أنفسهم، ولهذا ما كان النبي الكريم من الصقالب البيض، ولا من السود ولا من غيرهم، بل من ذرية إسماعيل، واسمه: محمد بن عبد الله في سلسلة ذهبية إلى عدنان ، ونهى عن الزيادة في النسب فوق عدنان. وقد حفظ الله رسولنا وهو في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ما حصلت في أرحامه زنية ولا اختلط ماء الفحل بماء آخر، ما فاز بهذا الشرف أحد، من عبد الله إلى عدنان ، فحفظ الله نسبه في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، دعوة إبراهيم. وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، مهمة هذا الرسول ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، والسنة هي: الحكمة، وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، هذه وسيلة ثالثة أم لا؟ وهل استجاب الله؟ نعم، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الكتاب والحكمة ويزكيهم؟ إي والله العظيم، وقد بينا أن تلك التربية في حجور الصالحين، في حجر النبي وأصحابه والتابعين ما عرفت الدنيا مثلها أبداً، ولا نظير لها.وقررنا غير ما مرة أنه إن أردنا صادقين أن نعود إلى أن نكمل ونسود ونعز ونطهر فلنرجع إلى الكتاب والسنة، نجلس هذا الجلوس كل ليلة طول العمر، في قرانا وفي جبالنا وسهولنا؛ فالأمم غيرنا إذا فرغت من العمل وغابت الشمس انتشروا في الأباطيل والترهات والخرافات أو في المناكير والخبث، وهذه الأمة إذا غسلت يدها من العمل عادت إلى بيوت الله، تتعلم الكتاب والحكمة، وتزكي نفسها بما تسمع وما تعمل، فلا تزال كذلك حتى تصبح نوراً، وهذا النور لا بد أن ينير الله به الحياة كما كانت.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (87)
الحلقة (94)
تفسير سورة البقرة (56)
إن من فضل الله على هذه الأمة أن بعث فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه القرآن الكريم، فكان صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، فأتى عباد الله عز وجل يتلو عليهم آياته، ويعلمهم معاني الكتاب وهي الحكمة المحمدية، ليعرفوا الحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، وهذا هو ما دعت إليه ملة إبراهيم عليه السلام، ولا يرغب عنها إلا من جهل ما تحتاج إليه نفسه من الطهر والصفاء، الذي يقود إلى الفوز والفلاح.
تابع تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياتك ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:129-132]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، اذكروا أن هذه دعوة إبراهيم الخليل مع ولده إسماعيل عليهما السلام، سألا وطلبا ربهما وهما يبنيان البيت العتيق، الذي هو سرة هذا الكون، يسألان الله عز وجل أن يبعث في ذريتهما رسولاً يبعثه من ذريتهما لا من غيرهما: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، أي: من جنسهم، ومهمة هذا الرسول ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، أي: يقرؤها، وهي آيات القرآن الكريم.
أثر تلاوة الآيات القرآنية على المؤمنين
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فلنتأمل هذا المطلب الغالي السامي الرفيع، وهو طلب إبراهيم وإسماعيل أن يكون هذا الرسول الذي يبعث في ذريتهما مهمته أن يتلو عليهم آياتك يا رب، ومعنى هذا: أن تلاوة القرآن على المؤمنين والمؤمنات تزيد في نورهم، وطاقة إيمانهم، تعلمهم وتعرفهم وترفع مستواهم إلى أن يصبحوا أولياء لله ربانيين، ومعنى هذا: أن المؤمنين إذا لم يتل عليهم كلام ربهم، ولم يسمعوا، ولم يصغوا إليه طول حياتهم؛ معنى هذا أنهم يجفون، ييبسون، قد يحترقون، فلهذه التلاوة آثارها، وإلا لما سألا ربهما هذا. ومما يدل على هذه الحقيقة، وهي أن المؤمنين والمؤمنات إذا كان يتلى عليهم كتاب الله ويصغون إليه ويستمعون ويتفكرون ويتدبرون، فهذه الحال تجعل إيمانهم ينمو ويزيد، وعلومهم ومعارفهم أيضاً تقوى وتزيد، وإذا حرموا من هذا تعرضوا للهلاك والموت، مما يدل على هذه الحقيقة قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وصدق الله العظيم، إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وقد تجلت هذه الحقيقة، والمطلوب هو: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101]، قد يتعثر المؤمن، ولكن يستحيل أن يرتد مؤمن عن دين والله وينتكس ويرتمي في أحضان الكفر والشرك والباطل وهو يسمع آيات الله تقرأ عليه طول حياته. فمتى ما أصبحت آيات الله تتلى على المؤمن والمؤمنة فسوف يترتب على ذلك قساوة القلب والجمود، والبعد عن نور الله، ومن ثم يصبح أهلاً لأن ينتكس ويعود إلى الوراء.
زيادة الإيمان وتحصيل المعرفة والمناعة بتلاوة القرآن الكريم
أعيد إلى السامعين والسامعات قول الخليلين: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، ما المراد من هذا؟ هل أن يقرأ عليهم القرآن كما يقرأ على الموتى؟ مع أن تلاوة القرآن على المؤمنين والمؤمنات تحفظ عليهم إيمانهم، تزيد في طاقة إيمانهم، ترفع مستوياتهم العقلية، يزدادون فهما وعلماً، تطهر نفوسهم، على الأقل يحتفظون بكمالهم لا يفقدونه، والبرهنة القطعية والدليل القاطع هو قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]، من أين يأتي الكفر؟ كيف يحصل لكم الردة، كيف تنتكسون وأنتم تتلى عليكم آيات الله؟ ومن يوم أن فقد المؤمنون تلاوة آيات الله عليهم، ومنذ أكثر من ثمانمائة سنة وهم هابطون إلى الحضيض، إذ ما أصبح المؤمنون من قرون تتلى عليهم آيات الله صباحاً ومساء، أي: يجتمعون في بيوت ربهم أو بيوتهم ويتلى عليهم كتاب الله وهم مصغون متدبرون متأملون، الذي عرفناه -وهو الواقع- أنهم لا يجتمعون إلا على قراءة القرآن على الميت، سواء في المقبرة أو في بيت الهالك. أما أن يجتمع اثنان وثلاثة وأربعة تحت ظل شجرة، تحت ظل جدار، في منزل، في بيت الله ويقول أحدهم: اقرأ علينا كتاب الله، أسمعونا آيات الله، فتطأطأ رءوسهم وهو يبكون ويتأملون؛ فهل هذا واقع؟ فمن هنا أتينا. وسبحان الله! إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في ضراعتهما ودعائهما يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة:129] لِم؟ ما مهمته؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، يقرأ عليهم القرآن، أما كانا عليهما السلام واعيين بصيرين عالمين، ما المقصود من أن يقرأ عليهم القرآن؟ هل على الموتى حتى يثابوا على ذلك وينقذوا من النار كما نفهم نحن؟ لِمَ يتلو عليهم آيات الله؟أولاً: لزيادة الإيمان.ثانياً: للعلم والمعرفة.ثالثاً: للحصانة والمناعة حتى لا يتسرب إليهم دخان وظلمة الكفر من حولهم؛ لأن تلاوة القرآن مانع من أعظم الموانع عن الفسق والفجور والردة والكفر، والدليل القاطع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وصدق الله العظيم، والله! ما أطاع مؤمن كافراً من هذا النوع، من هذه الطائفة التي تريد محو الإسلام وإزالة آثاره واستجاب لها وأطاعها إلا ارتد؛ لأن الذي يخبر بهذا هو خالق الغرائز وطابعها، هو العالم بالنفوس، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، أحببتم أم أبيتم.وقوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101]، من أين يأتيكم الكفر؟ سبحان الله! كيف ترتدون والحال أن آيات الله تتلى عليكم وفيكم رسوله؟ والجواب: يا رب! ما تليت علينا آيات الله قروناً، ما رأينا من يقول: تعالوا أسمعكم كلام الله، لا في البيت ولا في السوق ولا في المصنع، وإنما القرآن يتلى على الموتى لا على الأحياء، وسبحان الله! متى نفيق؟ ما زلنا وإلى الآن نقول: هل فرغ أحد من عمل في مصنع أو في متجر أو في مكان وقال: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن حتى نخشع ونبكي ونتدبر، هل أهل بيت من بيوتكم بعد الفراغ من الطعام أو كذا يقول أحدهم: من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا فيقرأ عليهم؟ هل جماعة يعملون في دائرة من الدوائر الحكومية، وفي ساعة الاستراحة يقول أحدهم: يا جماعة! من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ هل هذا واقع؟ لا وجود له، إذاً: هل يحصل المخوف أم لا؟ ممكن أن تفسد القلوب، وقد فسدت، وهل نحن في خير؟ إن الحسد والبغض والكبر والنفاق وأمراض القلوب من الغش والخداع كلها أكلت قلوبنا، ما هناك أبداً ما يدفعها أو يصرفها، لِم؟ لأننا لا نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، حتى يفهموا لغته ولسانه، ويعرفوا طبيعته وما هو عليه: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، لم يتلو عليهم الآيات؟ يقرأ عليهم القرآن لأي شيء؟ لأن المناعة كل المناعة في سماع كلام الله، أيسمع كلام الله طول عمره وينفذ الشيطان إلى قلبه ويرتد ويكفر ويخرج من دينه؟ والله! ما كان.
دور المساجد في تعليم الكتاب والحكمة بعد التلاوة القرآنية
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ [البقرة:129] بعد ذلك الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، أولاً: التلاوة الدائمة؛ لأنها الغذاء أو الطاقة التي لا بد منها، تزداد يومياً، ثم يعلمهم ما يحمله الكتاب من بيان أحكام وشرائع وقوانين وآداب وأخلاق، ويزيد بعد ذلك الحكمة التي هي بيان رسول الله، تفسير رسول الله؛ لأن الرسول هو الذي يبين ويفسر ويعلم، فيحفظون إيمانهم، ويزدادون علماً بمعرفة الكتاب والسنة. أيها المؤمنون! هل نستطيع أن نأخذ في هذا المسلك من الليلة؟ أم أننا مكبلون؟ حين تجلس مع إخوانك في البيت، مع أخيك مع أبيك قل: اسمع يا أبي، سأقرأ عليك شيئاً من القرآن. أو يقول هو: يا بني! أسمعني شيئاً من القرآن، أو جلست مجلساً ما في مكان ما، استرحتم، فتقول: من يسمعنا شيئاً من القرآن؟ لِم؟ لأن هذا السماع يقوي إيماننا، يحفظ ما عندنا، إن لم يزد الإيمان فإنه يحفظه.ثم بعد ذلك هذه المجالس الضرورية في بيوت الله، بين المغرب والعشاء على الأقل، وقت -والله- مناسب وملائم، وصالح وينفع ولا يضر، إذ كل الناس إذا تركوا العمل وفرغوا منه وغسلوا أيديهم وغيروا ملابسهم يذهبون إلى الراحة، اليهود والنصارى والمشركون يذهبون إلى اللهو إلى الباطل إلى اللعب ونحن إلى أين نذهب؟ يجب أن نذهب إلى بيوت ربنا، وهي موجودة في قرانا، في مدننا، في أحيائنا والحمد لله متوافرة، لِم لا نحمل نساءنا وأطفالنا ونذهب إلى بيوت ربنا نبكي بين يديه، نستمطر رحماته، نتعلم هداه؟ كيف تكون حالنا يومئذٍ، إذا أصبحنا كل ليلة طول العام نتعلم الكتاب والحكمة؟ كيف لا نصبح علماء ربانيين حكماء لا نضع شيئاً إلا في موضعه؟ هكذا الآيات تتلو هذه المعاني وتكررها والمسلمون في غفلة كاملة، هل بلغكم في بلد ما في الشرق في الغرب في الوسط في الشمال أو الجنوب أن أهل البلد أخذوا على أنفسهم العمل بهذا الهدي الإلهي والهدى الرباني، وأصبحوا يجتمعون بنسائهم وأطفالهم في بيوت الله يتلقون الكتاب والحكمة كل يوم؟ هل بلغنا الكمال في معارفنا وآدابنا وأخلاقنا؟ الجواب: لا، ضاع كل شيء، لو تطلع على عوراتنا وتنكشف أمامك سوآتنا فشاهدت بغضنا وحسدنا وأمراضنا لقلت: هؤلاء ما هم بمؤمنين! هذا هو الواقع، كيف نستقيم، كيف نصفو، كيف نطهر ونحن لا نتعلم؟ نطالب بالمحال.
دور المربي في التعليم والتزكية
قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، أولاً: يتلو علينا آيات الله.ثانياً: يعلمنا المعلم الكتاب ومعاني الكتاب وهي الحكمة المحمدية، وبذلك نعرف الحلال والحرام والحق والباطل، والخير والشر، وما يسمو بالعبد وما يهبط به. وزيادة: أن هذا المربي يزكينا، وما معنى أنه يزكينا؟ هل يعطينا شهادات تزكية أننا ربانيون، فيشهد بالباطل؟ ما معنى أنه (يزكينا)؟ اقرءوا قول الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، خذ من أموال المؤمنين صدقة من شأنها: أنها تطهرهم وتزكيهم، فالتزكية هي: تطهير النفس، وهل النفس فيها نجاسات قاذورات؟ إي والله لهي أفظع من الخرء والبول والقيء والدم، والله! لأفظع وأشد ضرراً. إذاً: (يزكيهم): يطهر تلك النفوس مما يلي:أولاً: من أوضار وأوساخ الشرك والعياذ بالله، والشرك ما هو؟ الالتفات إلى غير الله، النظر إلى غير الله، الغفلة والإعراض عن الله، ووضع الرأس والنفس والهم على هذه الحياة، من يزيل هذا الأذى أو القذر إن لم يكن المربي بالكتاب والحكمة؟الغفلة عن الله تودي بحياة العبد، ومن يزكيك هو الذي يزيل تلك الأوساخ والقاذورات، من أعظمها الالتفات إلى غير الله، وهو الشرك بمظاهره الخفيفة والجلية.ثانياً: يطهرها من أمراض أخرى، كالنفاق في النفس، كيف يزال وبِم يعالج؟ يعالجه هذا الحكيم الذي نجلس بين يديه يزكينا.الأمراض التي نشكو منها: الحسد، البغض، الغيرة، العداء، حب الذات، حب النفس، الكبر، هذه الأمراض كيف تعالج؟ والله! ما تعالج ولا يشفى منها العبد إلا بالمربي الحكيم الذي يتلو آيات الله ويعلم الكتاب والحكمة، هذا الذي يقوى ويقدر على تزكية النفوس.وهذا -يا معشر المستمعين- لا يتم في اجتماع كهذا، بل أهل كل حي في مسجدهم طول العام، بنسائهم وأطفالهم، بذلك تزكو النفوس وتطيب الأرواح وتطهر وتتأهل للكمال الأخروي والدنيوي.
الحاجة إلى التربية في بلاط الصالحين
وشيء آخر أكرره: ألسنا نشكو من المقاطعات والعداء والتباعد عن بعضها، وقلة الرحمة وانعدام الأخوة، والكل يعمل لنفسه غير مبالٍ بجاره ولا بأخيه، لا بقريب ولا ببعيد، هذه كيف تزال؟ كيف نصبح كأننا نفس واحدة؟ وهذا هوا لمطلوب، وهذا هو المفروض فينا: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ( المسلم أخو المسلم ). هل يوجد بين المسلمين زنا أم لا؟ أنا محتار وأنا في كرب، وأنا في هم: كيف يزني المؤمن بامرأة أخيه المؤمن أو بابنته أو أخته؟ كيف يحطم كرامته ويقضي على شرفه ويدوس وجوده بيديه ورجليه؟ أهذا موجود أم لا؟ أتوجد سرقات وتلصص وخيانة وإجرام؟ والله! لقد وخمت الدنيا بهذا بين المؤمنين، وسلوا المسئولين عن السجون في العالم وما يجري بين المسلمين، ما سبب هذا؟ سببه أننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما تعلمنا الكتاب والحكمة، ولا تليت علينا آيات القرآن ليل نهار، وطول عمرنا وامتداد حياتنا نعيش كما تعيش الحيوانات، ورثنا كلمة مؤمن ومسلم أو الصلاة فقط، مع وجود إيمان هزيل ما هو بالقوي، ما هو بالقادر على أن يرفعنا ويطهرنا، ماذا ننتظر وكل يوم نتأخر مسيرة جديدة؟ فما الطريق، ما السر؟ ماذا نفعل؟ قد يقول القائل: يوم توجد الخلافة، وأنا قلت غير ما مرة: لو يسود عمر رضي الله عنه ويحكم فلن يستطيع أن يفعل شيئاً إلا من طريق واحد، وهو أن نسلم لله قلوبنا ووجوهنا، ونحقق أننا مسلمون حقاً وصدقاً. فعدنا من حيث بدأ إبراهيم وإسماعيل، لا بد أن نصغي ونسمع لكلام الله طول عمرنا، الليل والنهار والآيات تتلى علينا، فلم يبق ملهى ولا ملعب ولا ممسخ، فهذه أمة تريد السماء، إذاً: لتعش في بيوت الله، تقضي ساعاتها في المزارع والمصانع والمتاجر، تعمل بجد وصدق، ولكن لا بد من ساعات تتلقى فيها نور الله ورحمة الله، لتخرج من ورطة الجهل الذي يحمل على الحسد والبغض والعداوة وسائر المفاسد والشرور.فنساؤنا كأطفالنا كرجالنا، الكل تتلى عليهم آيات الله ويعلمون الكتاب وما يحويه من هدى، والحكمة وما تفصل وما تبين من المعارف التي تضمنها كتاب الله، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولادهم وأتباعهم في ثلاثة قرون.
تحصيل الطهارة بتلاوة القرآن وتعليم الكتاب والحكمة
ماذا نفهم من هذه الآية العظيمة؟ إبراهيم وإسماعيل يبنيان البيت ويسألان الله تعالى أن يجعل في ذريتهما نبياً رسولاً منهم مهمته: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] أولاً، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] ثانياً، وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] يطهرهم، ترتفع هممهم ومروءاتهم وكمالاتهم الآدمية البشرية، فيصبحون ككواكب في السماء ينيرون الأرض، وهل تحقق هذا؟ والله! تحقق طيلة ثلاثمائة سنة، ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أعدل ولا أرحم، ولا أشد إخاء ولا صفاء من تلك الأمة، ومن يوم أن أبعدوا القرآن عنهم وحولوه إلى الموتى، وأصبح ما يسمع به المرء ولا يتلى عليه من حينها أخذنا الظلام حتى لصقنا بالأرض. هل تذكرون أن القرآن في العالم ما يقرأ إلا على الموتى؟ من يتحداني؟ أروني من جلس مع أخيه وقال لوجه الله: أسمعني شيئاً من كلام ربي؟ وإن وجد واحد أو عشرة فهل يكفي في إصلاح ألف مليون؟ ماذا نصنع بهذه الآية: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]؟ معناها: إذا لم نسمع آيات الله ولم تتل علينا ولم تقرأ فإنه يجف إيماننا وييبس، ما نستطيع أن ننمو، بل يتسلط علينا الشياطين فنهبط؛ لأن المناعة كل المناعة في تلاوة القرآن عليكم، وفي سماع كلام نبيكم.
أهمية إرسال المعلم المربي مع الطلاب المبتعثين إلى الغرب
هيا نعيد الآية مرة أخرى، اسمعوا هذا البلاغ الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100]، لبيك اللهم لبيك، مر نسمع ونطع. إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100]، من هذا الفريق؟ الأساتذة الذين جلسنا بين أيديهم في الشرق والغرب نتعلم العلم والمعرفة، وتخرجنا نحمل الشهادات وتولينا المناصب والكراسي، أهذا هو واقع هذه الأمة أم لا؟ والله! إنه لهو، ونشكو ونتألم: كيف لا نرجع إلى ديننا، كيف لا نعود إلى كتاب ربنا؟ لِم لا نحكم شرع الله؟ لم نبعد هذه الشريعة ونعتاض عنها بالقوانين؟ ونسينا العلة ما هي. لقد أتينا من قبل قوله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100]، أولاً: من أهل الكتاب، ما هم بجهال، بل علماء اليهود والنصارى المتخصصون في إفساد قلوب المؤمنين وإبطال نور الإيمان بينهم، جلسنا بين أيديهم وبعثنا أولادنا، قرءوا وتعلموا وتخرجوا من أكثر من خمسين سنة، أليس ذلك هو الواقع. فالله ماذا يقول؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يقول: لا يستطيعون؟ ثم ماذا قال بعد ذلك؟ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، وهذا تعجب، فمن لم تتل عليه آيات الله صباح مساء طول عمره، وابتعد عنها لا يسمعها فوالله! ليرتدن. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، لو كنا بصراء وعرفنا هذه الآية من خمسين سنة فهل كنا سنبتعث أولادنا هكذا؟ أولادنا حين نبعث بهم إلى روسيا إلى بلغاريا إلى يوغسلافيا، إلى أيطاليا، أسبانيا، أمريكا؛ لأننا وجدنا أنفسنا غير متعلمين، نحتاج إلى العلم الصناعي لننهض به، حين نبعث البعثة من خمسين طالباً إلى ألمانيا، فألمانيا قالت: تفضلوا فنحن نقبل أبناءكم ليتعلموا الطب أو الكيمياء أو الهندسة أو الطيران، حين نبعث هذه البعثة نبعث معها إماماً من أئمة الهدى والقرآن والبصيرة، ونتخذ لهم سكناً خاصاً، ومن ذلك السكن غرفة لأداء الصلوات الخمس، والإمام يصلي بهم، ويتلو عليهم القرآن الكريم صباح مساء.فيدخلون فيجلسون بين يدي الكافر، قد يلوك بلسانه فيرمي كلمات ولكن المناعة موجودة، يسمعون وقلوبهم لا تثق فيما يقول، ويتعلمون المادية التي يتعلمونها ولا دخل أبداً لذلك في القلوب، فيذهبون ويعودون علماء صناعة، وفي نفس الوقت أنوارهم تغمرهم. أما كيف فعل المسلمون ذلك في الواقع؟ كيف بعثوا أولادهم؟ فالجواب: من ساعة أن يدخل ينغمس في أوضار الباطل والشر والخبث والفساد، يأكلون الحرام، يشربون الحرام، يشاهدون الحرام، ما تمضي عليهم سنوات إلا وقد عموا، وفقدوا إيمانهم، حتى إذا عادوا يعودون منافقين، إذا وجدوا الأمة أو الدولة مسلمة يراوغون وينافقون وقلوبهم مظلمة، فكيف بهؤلاء يسوسون ويسودون؟ هل عرف السامعون هذه الحقيقة؟ والله! لكما تسمعون، هذا كلام الله، هذا نور الله وهدايته، وإلى الآن هل تفطنوا؟ ما تفطنوا، العمال الذين يعملون في بلاد الكفر الآن جاءهم جماعات من الدعاة عوام، واستطاعوا أن يردوهم إلى الإسلام، أصبحوا يصلون ويتركون الخمر والفجور على الأقل.يقول تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، كيف يتلو عليهم؟ يقرأ عليهم، هل مرة واحدة تكفي؟ بل دائماً، فهذا النور إذا انقطع متنا. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، يشرح لهم القرآن ويبين لهم السنة حتى يصبحوا علماء رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، وفوق ذلك يزكيهم، لا بد من عالم رباني في مسجد الحي، أو مسجد القرية، عالم ذي بصيرة يعالج ما في القلوب، لا يوصل المعاني فقط، يوجهها إلى النفوس، يزكي هذا من بخله، هذا من حسده، هذا من كبريائه، هذا من مرض كذا وكذا، يوماً بعد يوم حتى تصفو النفوس وتطيب، أما أن نعيش هكذا فالواقع شاهد ما يحتاج إلى برهنة.
معنى قوله تعالى: (إنك أنت العزيز الحكيم)
ثم قال الله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، هذه وسيلة، كما توسلا بالأمس فقالا: أنت السميع العليم، فحقق طلبنا. والعزيز: الغالب الذي لا يغلب، العزيز الذي لا يمانع في شيء أراده أبداً، القاهر الذي لا يعجزه شيء، والحكيم: الذي يضع الشيء في موضعه، والعوام قديماً يسمون الطبيب: الحكيم، لِم؟ لأنه يضع الدواء موضع الداء، وإذا كانت الدمامل في يده ويضع الدواء في رأسه أو في رجله فهل هذا حكيم؟ هذا أحمق.إذاً: الحكيم منا هو الذي يضع الشيء في موضعه، مثلاً: الآن في مجلس الذكر والعلم لو يدخل أحدهم إصبعيه في أذنيه ويقوم يؤذن فهذا أحمق أم حكيم؟ أو وقف يغني، فهل هذا وضع الأمر في موضعه؟ هذا حكيم أم أحمق؟ وعلى هذا فقيسوا، من كان يضع الشيء في موضعه هو الحكيم، يضع الطهارة في موضع الطهارة، والصدق في موضع الصدق، والوفاء في موضع الوفاء، والصدقة في موضع الصدقة أيضاً، ذاك هو الحكيم. فهما يقولان: فبما أنك عزيز حكيم لا يعجزك شيء، وتضع الشيء في موضعه، إذاً: فابعث فيهم رسولاً من أنفسهم مهمته كذا وكذا؛ لأنك القادر على كل شيء، فتوسلا إلى الله بصفتين عظيمتين تدلان على المطلوب وتحققانه، وهذا من حكمتهما في دعائهما، ما قالا: (إنك أنت الغفور الرحيم)، فهنا لا يتلاءم هذا، قالا: (العزيز) القادر على كل شيء، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه.فهذه الحصيلة لا بد أن تبقى -إن شاء الله- في أذهانكم، فإذا جلستم بعد الأكل تقولون: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن لنسمع ونبكي، ثم نقول: من يفسر لنا هذه الجملة من كلام ربنا، ما المقصود منها؟ ما المراد منا؟ ما المطلوب؟ فيقال: المطلوب كذا وكذا، كيف عرفت هذا؟ لأنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فجمعنا الكتاب والحكمة.سبق لي أن قلت وكتبت: إنه لما فقدنا المربين هبطنا، وقلت: من الجائز أن اثنين يقول أحدهما للآخر: يا فلان! أنا أخوك في الله، أسألك بالله العظيم أن تلاحظ سلوكي ..مشيتي.. كلامي.. منطقي.. أكلي.. حركاتي، ولا ترى خللاً أو ضعفاً يتنافى مع هدي الله ورسوله إلا نبهتني إليه وذكرته لي. والآخر يقول: وأنا أسألك بالله أن تكون مثلي، إذا رأيت في خللاً في عقيدتي، في خلقي، في سلوكي، في حركتي إلا نبهتني لذلك. ثم يسيران على هذا المنوال شهرين، أو عامين، فكيف سيكونان؟ والله! لطهرا تمام الطهر، وتهذبا، وصفت قلوبهما بهذه المناعة والرعاية، هذا إذا لم نجد، فكيف إذا وجدنا من يجلس بين أيدينا كل ليلة طول حياتنا، ويزكينا، ويطهرنا، من أين يأتي الخبث أو النجس أو الضعف والعجز؟ هل يمكن طهر وصفاء بدون هذا الطريق؟ والله! ما كان ولن يكون، لو كان لذكر إبراهيم هذا، ما هناك إلا هذا فقط: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، يقول المربي: أنت يا بني أما حفظت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه )؟ لماذا إذاً لا تحب لأخيك كذا، لماذا غضبت أو كرهت وحسدته؟ وهكذا.
تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130] لا أحد، هل فيكم من يرغب عن ملة إبراهيم؟ أعوذ بالله! إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، اللهم إلا من سفه نفسه، أرأيتم ملاءمة الآيات؟ ملة إبراهيم شرحت لنا وبينت، وهي في تلاوة آيات الله، فإبراهيم كان يتلوها، وفي تعليم أبنائه الكتاب والحكمة، في تزكية أبنائه وأسرته، هذه هي طريقة إبراهيم، فمن يرغب عنها؟ الجواب: لا أحد، اللهم إلا من سفه نفسه. وما معنى (سفه نفسه)؟ جهل نفسه وما عرف نفسه، أما من عرف نفسه وأنها في حاجة إلى الطهر والصفاء، إلى السعادة والكمال، هذه النفس البشرية الزكية الطاهرة إذا جهلها يبحث عن عوامل تزكيتها، تطهيرهاً، تربيتها، تنميتها، متى تحل المكان الأعلى والمقام الأسمى، فهو معني بها، أما الذي هو جاهل نفسه ما عرفها فيصب عليها أطنان الذنوب في كل يوم ولا يبالي، يقول الباطل، يفعل الباطل، يعتقد الباطل؛ لأنه ما عرف نفسه؛ لأنه ما سمع حكم الله في هذه النفس، ونحن قد عرفناه ولكنها العوائق والمعطلات. أما سمعت حكم الله أنه قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من دسى نفسه؟اسمع إلى هذا الحكم الإلهي: أقسم الله عليه بأحد عشر قسماً، ما رأينا لله في كتابه أقساماً أعظم من هذه وأكثر، وجواب القسم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] ما هي هذه؟ النفس؛ لأنه سبق في الكلام: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، متهيئة للفجور وللتقوى مستعدة، زكها تزك، وأخبثها تخبث، هذه سنة الله فيها، ما هي معصومة كأرواح الملائكة، ولا خبيثة كأرواح الشياطين لا يدخلها هدى ولا نور، هذه قابلة للتزكية والتطهير وللتلويث وللتخبيث. إذاً: قد أفلح من زكى نفسه، فكيف نزكيها، بم نزكيها؟ ارحل إلى العالم الفلاني واجلس بين يديه حتى تتعلم كيف تزكي نفسك، فأدوات التزكية كثيرة، فكيف تستعملها؟ ما هي أوقاتها ما هي ظروفها؟ لا بد من هذا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، معنى (أفلح): فاز بالمناصب العالية، الآن يقال: فلان أفلح، فاز، نجح، حصل له ماجستير أو دكتوراه في كذا، ونتبادل التهاني، يا فلان! أنا نجحت، وفلانة نجحت والحمد لله، فهي في فرح كبير، كيف؟! لأنها حصلت على شهادة فغداً ستصبح موظفة. وهذا في الذكور لا بأس به، لكن في الإناث هل نترك الديار والمنازل والبيوت ونعمرها بالشياطين، ونترك البنات والنساء يشتغلن كاليهوديات والنصرانيات مع الفحول؟ هذه وحدها ضربة من الضربات القاسية بأيدي الذين تعلمنا على أيديهم وأطعناهم.
حقيقة ملة إبراهيم ودعامتها
فمن يرغب عن ملة إبراهيم القائمة على لا إله إلا الله؟ وهل تعرفون دعامة هذه الملة؟ لا يرهب، لا يخاف، لا يحب، لا يكره إلا ما يرضي الله، كل شيء تحت هذا النظام، أنت مؤمن تحب ما أحب ربك، وتكره ما كره ربك من كل أسباب وألوان الحياة، هذا معنى لا إله إلا الله، أما أن يحب ربك شيئاً وتكرهه، أو يكره الشيء وتحبه؛ فقد عاديت الله، خرجت من طاعته، أعلنت الحرب عليه، ومن يفلح من هذا النوع؟ لا أحد.فملة إبراهيم: هي أن يعبد الله بما شرع، ما هي ملة إبراهيم التي كان يعيش عليها ودعا البشرية إليها؟ أن تعبد الله وحده بما شرع، فإن أنت قسمت قلبك ووزعت نفسك تعبد مع الله فلاناً وفلاناً انهار البناء وسقط كل شيء، تعبد الله بهواك وبما تمليه الشياطين وتقول: أنا راكع ساجد عابد فذلك لا ينفع، لا بد أن تعبده بما أحب أن يعبد به من الكلمة إلى الحركة. فما هي ملة إبراهيم؟ هي معنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود يعبد بحق إلا الله، ويعبد من طريق رسول الله، فهو الذي يبين لنا كيف نستعمل العبادات، كيف نغتسل، كيف نصلي، كيف نحج، كيف نصف في الصلاة والجهاد، كيف نتصدق، كيف نمنع، كيف نحب، كيف نكره، لا بد من رسول الله، فلاحظ أن الملة كاملة تحت: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وبالعقل إذا قلت لكافر: أتشهد أن لا إله إلا الله، فيقول: كيف أشهد؟ فإنك تقول: من خلقك؟ من خلق أمك وأباك؟ من رفع السماء؟ من أنار الحياة؟ من أوجد هذه الأغذية؟ فإنه يقول: ما أدري! فتقول له: الله. وهل هناك من يستحق أن يعبد مع الله؟ الجواب: لا؛ إذ هو وحده الخالق الرازق المدبر، إذاً: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، إذاً: هيا اعبده. ما دمت علمت أنه لا معبود إلا هو فاعبده، يقول لك: دلني كيف نعبده، لا بد أن تعلمني كيف أعبده، وبِم أعبده؟ فحينئذ تضطر إلى أن تأتي بكلمة: (وأن محمداً رسول الله)، إذ هو الذي يعلمك كيف تعبد الله، وبم تعبده، وهذه هي ملة إبراهيم: أن نعبد الله وحده بما شرع لنا من أنواع العبادات، وهي قلبية وجارحية كما علمتم، وبذلك نكمل ونسعد. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، ما معنى (سفه)؟ جهلها، ما أعطى لها قيمة، ما عرف نفسه، ككل الكافرين والظالمين يعيشون بدون نفوس، لو عرف نفسه لأعزها وأكرمها، لا يهينها ويمزقها.
معنى قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)
وقوله تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، بشراك يا إبراهيم، أولاد المؤمنين من بنين وبنات من الأطفال الصغار كلهم الآن حول إبراهيم، هو راعيهم، يحفظهم إلى يوم القيامة، له منزلة في دار السلام، كل أولاد المؤمنين والمؤمنات يؤتى بأرواحهم عند إبراهيم الخليل، وكيف شكل هذه الأرواح؟ هل في أشكال في صور في هياكل؟ الله يعلمها. أما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في ولده إبراهيم: إن له مرضعاً خاصة عند إبراهيم؟ وفي دعائنا للأطفال نقول: (اللهم وألحقهم بسلف الصالحين في كفالة أبيهم إبراهيم)، هذا إبراهيم الأب الرحيم، ماذا يقول تعالى عنه: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ [البقرة:130] ما معنى اصطفيناه؟ اصطفى الشيء: أخذ صفوته، كما تصطفي العسل أو الطعام الصالح، اختيار الشيء وأخذ وسطه، اصطفاه الله عز وجل من ملايين البشر على عهده من أهل الشرك والباطل والكفر، اختاره هو وحمله أمانته، وهذا الاصطفاء عظيم؛ حيث اختاره من البشرية كلها في ضلالها: اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، فأصبح أفضل كائن على وجه الأرض، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] منهم فقط.ومن هم الصالحون؟ هل كلنا منهم؟ اسمع آية المواكب في دار السلام: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من أبيض أو أحمر أو أسود، وعربي وعجمي، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، إبراهيم مع الصالحين. ومن هم الصالحون؟ هل سيدي عبد القادر، مولاي إدريس، سيدي عيدروس؟ ما كنا نعرف الصالحين -والله- إلا الذين ماتوا ودفنوهم وبنوا عليهم القباب الخضراء والبيضاء ووضعوا الستائر، هؤلاء هم الصالحون، أما أهل البلاد فكلهم فاسدون! وهنا لطيفة كررناها، قلنا: قبل أربعين أو خمسين سنة، قبل أن تنتشر هذه الدعوة، والله العظيم! لو دخلت القاهرة المعزية ذات الملايين ولقيت أول مصري قاهري فقلت: أنا غريب عن هذه الدار وجئت من بلاد بعيدة، فدلني على ولي من أولياء هذه البلاد، فوالله! ما يأتي بك إلا إلى قبر! فلا إله إلا الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (88)
الحلقة (95)
تفسير سورة البقرة (57)
ملة إبراهيم عليه السلام هي ملة الإسلام، وهي إسلام القلب والوجه لله، والانقياد له ظاهراً وباطناً، فمن فعل ذلك فهو المسلم الحق، المستحق لاصطفاء الله ومحبته ورضوانه، ومن رغب عن هذه الملة فقد جهل نفسه وظلمها، وتنكب بها طريق الصالحين، وحاد بها عن سبيل المؤمنين، فصارت مظلمة بظلامات الكفر والجحود، منجسة بنجاسات المعاصي والذنوب، فأنى لها أن ترى النور أو تدرك السرور.
تابع تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:131-133].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
انتفاء تحقق التزكية والتطهير بغير ملة الإسلام
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130]، أتدرون ما هي ملة إبراهيم؟ إن ملة إبراهيم الإسلام الذي أكرمنا الله به، وأسبغ علينا نعمه به، وأصبحنا أحياء نسمع ونبصر، نعقل ونفهم، نأخذ ونعطي، لكمال حياتنا بالإسلام، يقول تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل ما لم يكن الإسلام فهو دين باطل، لا يزكي النفس البشرية ولا يطهرها، وسعادة الآخرة متوقفة على زكاة النفس وطهارتها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كل ما كان غير الإسلام من الملل والنحل والأديان فهو باطل، ومعنى ذلك أولاً: أن تلك الملل لا تزكي النفس، والله الذي لا إله غيره! لو تعبد الله باليهودية بكل ما فيها من عقائد، وآداب، وأخلاق، وشرائع، فوالله! ما تفعل في نفسك شيئاً من النور والطهر والصفاء، لو تطبق المسيحية أو النصرانية بكل قواعدها وأهدافها ومبادئها فوالله! لا تفعل شيئاً، إذاً: فما دون اليهودية والنصرانية من أي ملة أخرى هل ستزكي النفس وتطهرها؟ لم يبقَ إلا الإسلام، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ما السر في هذا؟ السر في هذا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- أن الله تعالى الذي جعل الماء يروي الظمآن، والطعام يشبع الجائع، والحديد يقطع؛ هو الذي إذا شرع كلمة لعبده ليقولها فلا يقولها ذلك العبد إلا وانطبع أثرها وانعكست على نفسه، لو شرع تعالى أغنية -وحاشاه- فتغنينا بها إيماناً به وطاعة له وانقياداً لأمره لأوجدت تلك الأغنية أثرها في نفوسنا بالتزكية والتطهير، هذا مثال.فما لم يشرعه الله من اعتقاد أو قول أو عمل فهيهات هيهات أن يحدث في النفس زكاة وطهراً! هذا من باب المحال، إذاً: فإذا عبد الناس اللهَ بعبادة ما شرعها فما هي النتيجة؟ التعب فقط، أما أنها تزكي نفوسهم فوالله! لا تزكيها، فالنفس من الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، هو الذي إذا شرع لها كلمة، أو جرياً بين الصفا والمروة أحدث ذلك أثره فيها.وإليكم مثلاً محسوساً: أليس هذا المسجد النبوي بيت الله؟ الجواب: بلى. فلو أن أحدنا قال: لأطوفن لله بالمسجد النبوي سبعة أشواط، وأخذ يتردد من غربه إلى شرقه مع العرق والتعب، ويقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، سبحان الله، هل يحدث هذا الطواف في نفسه شيئاً من الزكاة أو الطهر؟ والله! لا، ولا جراماً واحداً.فإن قيل: بذل جهده وطاقته؟ فالجواب: هل الله شرع هذا وقال: (وليطوفوا بمسجد رسولنا)؟ونعود إلى واقع الحياة، شرع الله جل جلاله وعظم سلطانه في دينه الذي أوجده لعباده أبيضهم وأصفرهم، شرع قطع يد السارق، إذا سرق العاقل البالغ المكلف، أما طفل صغير أو مجنون فلا شأن لهما في القصاص، سرق السارق فتقطع يده، هل تنتج هذه العملية شيئاً؟ الجواب: تؤمن أموال المؤمنين والمؤمنات، ما إن يسرق السارق ويقام عليه حد الله فتقطع يده وتعلق عند باب المسجد حتى يكف كل من في قلبه رغبة في أن يسرق مال الناس، ويتحقق أمن، ووالله! لا يتحقق بغير ذلك حتى ولو جعلت عند باب كل بيت عسكرياً في يده الرشاش، لو استعملت ما استعملت من الوسائل لتأمين أموال الناس فوالله! ما تحقق ذلك، ولن يتحقق إلا بهذا الذي وضع الله من قانون حد السرقة، هذا مثال. فكيف -إذاً- بشأن الروح وهي خفية، من يستطيع أن يطهرها أو يزكيها بما يوجد لها من أذكار، من تسابيح، من حركات؟ لن يستطيع أحد، فمن رغب في تزكية نفسه فليتعلم عن الله ورسوله الأعمال التي تزكيها، بشرط أن يكون مؤمناً موقناً بها، وأن يؤديها كما وضعها الشارع، فإن زاد فيها بطل مفعولها، وإن نقص منها بطل مفعولها، قدم جزءاً وأخر آخر بطل مفعولها، لا بد أن تؤدى أداءً صحيحاً سليماً كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.معاشر المستمعين والمستمعات! هل فهمتم هذه المسألة في أذهانكم؟ لو يجتمع علماء الملة على أن يبتدعوا لنا عبادة جديدة، وأخذنا نأتي ونفعلها، فهل يمكن أن تزكي هذه العبادة أنفسنا؟ والله! ما زكتها أبداً، فلهذا اسمع أبا القاسم -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، ويقول: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، ويقول: ( كل بدعة ضلالة )، ما معنى (ضلالة)؟ تضل صاحبها وتسوقه في متاهات، ولا تنتج له عملاً يزكي نفسه.
الإسلام ملة إبراهيم التي أوصى بها بنيه
ونعود -معاشر الأبناء- إلى قول ربنا: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130]، عرفنا هذه الملة؟ إنها -والله- للإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله، انقياد في الظاهر والباطن لله، استسلام كامل، قال: صم فصمت، قال: أفطر فأفطرت، قال: حج فحججت، قال: أعطِ فأعطيت، قال: اسكت فسكت، هذا هو الانقياد، هذا هو الإسلام، بحيث لم يبقَ لك حق في الاختيار فإن شئت فعلت وإن شئت لا، هذا -والله- ما هو بالإسلام.فمن أسلم قلبه لله، فأصبح قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، هذا همه، وأسلم وجهه فلا يرى إلا الله؛ حيث وجهه يتجه، إن قال: نم نام، إن قال: قم قام، أليس هذا شأن المؤمن المسلم؟ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، فمن يرغب عن ملة إبراهيم؟ لا أحد، اللهم إلا من جهل قدر نفسه، ما عرف لنفسه قيمة ولا قدراً، هذا يرغب عن ملة إبراهيم ويطلب ملة الشيطان.ما زلت أقول للسامعين والسامعات: إن ملة إبراهيم هي الإسلام وهو دين الله في الأولين والآخرين: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132]، وصاهم بماذا؟ بالإسلام، ويعقوب جمع أولاده قبل سكرات الموت: إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، ويوسف قال: فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، وسائر الأنبياء من نوح عليه السلام، والله! ما وجد نبي ولا ولي ولا عبد صالح إلا ويسأل الله الوفاة على الإسلام. إذاً: رغب اليهود والنصارى حيث ابتدعوا اليهودية والنصرانية، ورغبوا بذلك عن ملة إبراهيم، فكيف ترونهم: سفهاء أم رشداء؟ والله! إنهم لسفهاء، يرغبون عن ملة إبراهيم وهم يعتقدون كماله واصطفاءه ورسالته ونبوته، ويرغبون عنها ويحدثون بدعة اسمها اليهودية، والله يقول من سورة آل عمران: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، إذاً: هل بينكم من يرغب عن ملة إبراهيم؟! أعوذ بالله! لو نعطى الدنيا بما فيها فوالله! ما رغبنا عن ملة إبراهيم، ما هذه الملة؟ إنها الحنيفية المسلمة الطاهرة، هي معنى: لا إله إلا الله، لا عيسى ولا مريم، ولا العزير، ليس هناك إلا الله الواحد الأحد، وهكذا ندخل في رحمة الله بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله على علم، والله! إنا لعلى علم أنه لا يوجد في العالمين من يستحق أن يركع له ويسجد أبداً إلا الله.وإن وجدتم في العالم من يخلق ويرزق ومن يدبر حياة المخلوقين، إن وجدتم من هذا وصفه فاعبدوه، وهل نجد؟ كل الخليقة مخلوقة مربوبة، والله خلقها، فكيف يعبد مخلوق مع خالق، مربوب مع الرب؟ إذاً: كيف وجد الكفر؟ لأن الشياطين تدعو إلى ذلك، الشياطين هي التي تدعو إلى الكفر بالله ولقائه، إذاً: فلنحمد لله على أننا -والله- لا نرغب عن ملة إبراهيم، لا نرضى بملة من الملل، ولا بنحلة من النحل.
اصطفاء الله تعالى واجتباؤه لإبراهيم عليه السلام
إذاً: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، ثم قال تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، من هو هذا الذي اصطفى إبراهيم؟ الله جل جلاله، هو المخبر عن نفسه.ما معنى (اصطفاه)؟ اجتباه، اختباره، كان العالم يفيض بالشرك والباطل، يعبدون الكواكب، يعبدون النجوم، يعبدون التماثيل التي نحتوها وصوروها، فاصطفى الله تعالى إبراهيم من تلك الأمة العريقة في الشر والباطل، واجتباه واختاره، وأصبح وليه بالحق، وأوحى إليه شرعه، وبعثه إلى الخليقة يدعوها إلى (لا إله إلا الله، إبراهيم رسول الله).من اصطفى إبراهيم؟ الله جل جلاله: اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، وفي الآخرة كيف حاله؟ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، ما معنى الآخرة؟ الحياة الآخرة، وهل هناك حياة أولى؟ نعم. هي هذه التي نعيشها وتحياها الخليقة، هذه حياة فيها سمع وبصر، وطعام، وشراب، ونكاح، ولباس، وتنتهي، هذه الحياة الأولى، ثم الحياة الآخرة، وحذف لفظ (الحياة) واكتفي بالآخرة، لأنها معروفة.
مواكب المنعم عليهم
وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، من هم الصالحون؟ اسمع حكم الله في هذه البشرية، يقول تعالى من سورة النساء من كتاب الله القرآن العظيم الذي نسخ به كل الكتب السابقة، يقول تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، من منكم يحفظ هذه الجملة؟ والله! لهي خير له من مليون ريال إذا حفظها وفهمها وارتفع مستواه فوق هذه البشرية الهابطة. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من الرسول؟ هو هنا -والله- محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن (أل) هنا للتعريف وللعهد. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون؛ لأن (من) من ألفاظ العموم، أبيض، أسود عربي، عجمي، من أي جنس كان. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، لم يخرج منهم أبداً، بل في زمرتهم، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، هل أنعم عليهم بالذرية والأولاد، بالأموال، بالجاه العريض الطويل، أنعم عليهم بالشرف، أنعم عليهم بالبترول، بالصناعة، أنعم عليهم بماذا؟ أنعم عليهم بنعمة الإسلام، أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، تلك هي النعمة، ونحن نقول في كل ركعة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:5-7]، هل هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام؟ البشرية تعبد الشياطين والأهواء والفروج والدنيا، وأنت تعبد الرحمن الذي لا إله إلا هو، أية نعمة أعظم من هذه؟ البشرية تعيش في الخبث والنجس، وأنت طاهر نقي صاف ظاهرك كباطنك، أية نعمة أكبر من هذه؟ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] بالإسلام، وهو إيمان وإحسان، ثم بين لنا مواكب هؤلاء المنعم عليهم، فقال: مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] هذا موكب، وَالصِّدِّيقِين َ [النساء:69] موكب ثان، وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69] موكب ثالث، وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، موكب رابع، سبحان الله! من حيث الظاهر أفضلهم النبيون، ويليهم الصديقون، وفي المرتبة الثالثة الشهداء، وفي الرابعة الصالحون، والله! ما كان نبي إلا كان صالحاً، ولا كان صديق إلا كان صالحاً، ولا كان شهيد إلا كان صالحاً، إذاً: فالبيت الجامع هو الصلاح، فمن منا يرغب أن يكون صالحاً؟ لك أن تكون صديقاً، لك أن تكون شهيداً، لك أن تكون صالحاً، إلا أن تكون نبياً فلا، لا تطمع ولا تسل الله، لو وجدنا شخصاً يقول: يا ربي! اجعلني نبياً، وطول الليل يبكي، فنقول: أنت تكلفت ما ليس لك، لو تدعو الله مليون سنة فوالله! ما نبأك، ختم النبوات وانتهت، والنبوة ما تأتي بالطلب، الله يصطفي، ينظر إلى من هو أهل ويؤهله حتى يصبح أهلاً فيتلقى المعارف الإلهية بقلبه.
سبيل الدخول في موكب الصديقين
إذاً: فمن منا يرغب أن يكون صديقاً؟ كلنا ذاك، إذاً: فإليكم تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، من الليلة فقط اعزم وصمم، وتوكل على الله، ما يمضي عليك زمن إلا وأنت مسجل في ديوان الصديقين، ونشاهد ذلك فيك أيضاً، اسمع الرسول الكريم يقول صلى الله عليه وسلم يخاطب أمة الإسلام، الأمة الحية التي تسمع وتبصر، لا الكافرة الميتة المشركة. يقول: ( عليكم بالصدق ) أي: الزموه وحافظوا عليه، والصدق يكون في القول والعمل والاعتقاد، لا في القول فقط، وإن كان هو الظاهر، صدق فلان في قوله، وصدق في عمله.( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر )، يقود، يسوق إلى البر، والبر: الخير كله، كلمة جامعة، لا يوجد خير يخرج عن كلمة (بر)؛ لقول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ( عليكم بالصدق ) الزموه، حافظوا عليه، تحروه، ( فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة )، هل تفهمون معنى (يهدي)؟ حين أقول لك: أين بيت فلان؟ تقول: تعال أوصلك إليه، فهذا هداني أم لا؟ هذا معنى الهداية. ( ولا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، لا شك أن فيكم من بدءوا منذ زمن، ومنا من بدأ أمس، أو سيبدأ غداً، فالموكب ماش لا يرد أحداً.( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال المرء -ذكراً أو أنثى- يصدق ويتحرى الصدق -يطلبه ويبحث عنه- حتى يكتب عند الله صديقاً )، أصبح في الموكب الثاني بعد النبيين.
سبيل الدخول في موكب الشهداء
من يريد منا أن يكون شهيداً في الشهداء؟ هذا المقام مقام سام، ولكن باب الله مفتوح.أولاً: انوِ في قلبك -وكن صادق النية- أنه إذا قام جهاد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، تحت بيعة مؤمن رباني، يقود الأمة إلى صفاء الحياة وطهارتها، فإنك سترمي بنفسك، هذه النية أكدها، ما إن ينادى مناد أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن جاهدوا عباد الله لإنقاذ البشرية وتطهيرها وتصفيتها إلا وأنت معه.ثانياً: اسأل الله تعالى الشهادة في صدق، كلما دعوت الله قل: اللهم اجعلني شهيداً، اللهم اكتب لي الشهادة في سبيلك، اللهم اجعلني من الشهداء، اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، ومن عجيب فعل عمر أنه كان يقول: ( اللهم إني أسألك موتةً في بلد رسولك وشهادة في سبيلك )، فتعجب بنيته حفصة بنت عمر : كيف يا أبتاه تسأل الله الشهادة وتموت في المدينة! المدينة الآن مدينة إسلام، فكيف تحصل على شهادة فيها؟ فيقول: يا بنيتي! فضل الله عظيم واسع. واستجاب الله لـعمر، وطعن وهو في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالمؤمنين بين يدي الله، أية شهادة أعظم من هذه؟ من طعنه؟ مجوسي من عبدة النار، أبو لؤلؤة كان مملوكاً عبداً للمغيرة بن شعبة كسائر العبيد الذين يحصلون عليهم، ولكنه من الحزب الوطني الذي ما إن رأى الإسلام يغمر تلك الديار حتى تكون لينتقم من الإسلام الذي كسر عرش كسرى، وأطفأ نار المجوس، وظهرت أول طلقة وهي هذه، وما زال ذلك الحزب يعمل إلى الآن.إذاً: سبحان الله! عمر يقول: ربّ أسألك شهادة في سبيلك وموتة في بلد رسولك، كيف يتحقق هذا؟ هل تحقق أم لا؟ تحقق لـعمر رضي الله عنه وأرضاه.إذاً: فمن سأل الله في صدق الشهادة يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ). فالنية أولاً، إذا نادى منادي إمام المسلمين أن: حي على الجهاد فارتم معهم، وإذا ما نادى مناد وما جاء جهاد حق كما هو واقع اليوم، فأنت ابقَ على نيتك، واسأل الله أن يكتبك في عداد الشهداء، ومع هذه النية وهذا العزم أنت من الشهداء ولو مت على فراشك. إذاً: هذه -إن شاء الله- نحصل عليها كالأولى.
سبيل الدخول في موكب الصالحين
الثالثة والأخيرة: نريد أن نكون من الصالحين الذين نسلم عليهم كلما نصلي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين طول الحياة، وهذا اللفظ يشمل كل صالح في الأرض والسماء، ولا يشمل الفاسدين والمفسدين في الأرض أو في السماء، وهل في السماء مفسدون؟ إنهم الشياطين. فإن قلت: كيف نكون صالحين يا شيخ فهذه مسألة صعبة؟ فالجواب: كلا أبداً، هذه أسهل، وهي: أنك تؤدي حقوق الله وافية، ما تبخس الله ولا تنقصه حقاً من حقوقه، وأن تعبده وحده لا شريك له، هذا حق الله، أن يعبد الله وحده بما شرع من أنواع العبادات.ثانياً: حق عباد الله، فلا تبخس امرأتك حقها ولا ابنك ولا أباك ولا قريبك ولا البعيد، ولا أي إنسان أبيض أو أسود، كافر أو مؤمن، لا تنقصه حقه، تؤدي حقوق العباد وافية، لا تنقص منها شيئاً، بذلك تكون في ديوان الصالحين، أصبحت دون النبي ولكنك صديق وشهيد وصالح، مع أن الكل يعود إلى زمرة الصالحين.وهذا إبراهيم ماذا يقول تعالى عنه؟ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130].
تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)
ثم قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة:131] رب من؟ رب إبراهيم، هو الذي قال له أسلم، ولعلكم تذكرون تلك التربية الربانية، ففي سورة الأنعام يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، اذكر يا رسولنا، اذكر أيها المؤمن هذه الحادثة الجليلة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، والعجيب أنه يوجد من المفسرين من يقولون: عمه، ويستسيغونه نقلاً عن أهل الكتاب، يقولون: هو عمه. الله يقول: أبوه، وأنت تقول: عمه! أما يستحي العبد أن يقول هذا؟ حتى لو عرفت أنه عمه، ما دام أن الله تعالى قال: هو أبوه فلم تخالف قول الله؟! أعوذ بالله. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74]، يعتب عليه، يوبخه، يؤدبه، ينكر عليه: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74] تعبدها! إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، هذه كلمة إبراهيم بعد اصطفاء الله له: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74].قال تعالى -وهو الشاهد-: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، الله هو الذي رباه، هو الذي نماه، هو الذي رقاه من حال إلى حال، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:75-76]، قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76] غطاه بظلامه، قال: رأى كوكباً، سواء الزهراء أو المريخ أو كوكب مشرق، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ أي: غاب الكوكب قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، كيف يغيب ربي؟ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا [الأنعام:77] طلع القمر، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:77-79]، هكذا رباه ربه ورقاه حتى انتهى إلى الحقيقة.
معنى الإسلام لله
وهنا يقول تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] أسلم ماذا؟ شاة أم بعيراً، أم دراهم ودنانير؟ أسلم قلبه ووجهه لله، فكل أعماله لله، وهذا أيضاً نحن عليه، هل فينا من يتزوج لغير الله، أو يطلق لغير الله، أو يبني لغير الله، أو يهدم بناء لغير الله، أو يسافر لغير الله، أو يقيم لغير الله؟ والله! لا يوجد، إذ نحن المسلمون لا نأتي ولا نذر إلا لله؛ لأننا وقف على الله، مضى هذا فينا يوم نزل قول ربنا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]. أنت لماذا أعفيت لحيتك؟ لله، وأنت لم حلقت؟ هل لله؟ لا والله، فهذه فضيحة، لا يقول: لله، أنت لماذا تشرب هذا الكأس من الماء؟ لله؛ لأحفظ حياتي، وأنت لم تشرب كأس الخمر؟ هل يقول: لله؟ إذاً: الحمد لله، فنحن من المسلمين، حياتنا وقف على الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].هيا بنا إلى مزرعة لنجد فلاحاً في يده المسحاة وهو يضرب باسم الله في الأرض، لم يا عم؟ قال: لله، كيف يكون لله؟ هل الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، أنا أفلح هذه الأرض من أجل أن أحصل على قوتي وقوت أهل بيتي لنعبد الله؛ لأننا إذا ما اقتتنا متنا، فلا نعبد الله، فلا بد أن نعمل لله، وهكذا ذو الصناعة في صناعته، وكل مؤمن عرف، فإن حياته كلها وقف على الله عز وجل.
تجهيل المسلمين وإبعادهم عن إسلام الوجوه والقلوب لله تعالى
والذي أبعد المؤمنين والمؤمنات عن هذا الطريق أنهم ما عرفوا، والله! ما عرفوا، أما من عرف أخذ بطريق الهداية، فما أحوجنا إلى العلم، فعدنا من حيث بدأنا، وهذه دعوة إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، يفعل معهم ماذا؟ هل يأتي لهم بالخبز واللحم والمرق؟ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] ماذا يصنع؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]. سلوا الدنيا تخبركم عن أصحاب رسول الله وأبنائهم وأحفادهم طيلة ثلاثمائة سنة أو ثلاثة قرون، والله! ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم ولا أتقى من تلك الأمة، كيف وصلت إلى هذا؟ ما هي الجامعات التي درسوا فيها والكليات والمعارف؟ أين هي؟ إنها هنا، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم فقط، فتفوقوا ونجحوا، ومن يوم أن أبعدوا المسلمين عن كتاب ربهم وحولوه إلى المقابر وإلى دور الموتى، وصارت السنة مهجورة؛ من ذلك اليوم ونحن نهبط حتى فقدنا كل شيء.أما فقدنا الأندلس؟ أما فقدنا الجمهوريات الإسلامية في شرق أوروبا؟ أما استعمرتنا إيطاليا وفرنسا وأسبانيا وبريطانيا؟ سبحان الله! المسلم يحكم من قبل الكافر؟ نعم هذا حاصل؛ لأنه ما هو بمسلم، ما أعطى لله شيئاً، هو مسلم بالاسم، لو أعطاه قلبه ونفسه وماله ما استطاع الكافر أن يسوده ويحكمه، فما هي العلة؟الجهل، جهلونا فسادونا، والآن نحن نصرخ: العلم .. العلم، فما استجابوا. وقد تقول: اسكت يا شيخ، فما هناك بلد إسلامي إلا فيه وزارات المعارف والمدارس والكليات والمعاهد، فما لك يا هذا؟فنقول: أين آثار ذلك؟ ما هو السر في ذلك؟ السر أنهم ما طلبوا العلم لله، أي: ما طلبوه من أجل أن يعرفوا الله ويعرفوا محابه ومساخطه، وكيف يجاهدون أنفسهم لتستقيم على منهج العلم والحق، فطلبنا العلم للدنيا، حتى بناتنا، يبعث بابنته تدرس، هل من أجل أن تعبد الله؟ لا، لو أرادت أن تعبد الله فستعبده في البيت، تتعلم من جدتها.. من أمها.. من زوجها، تقول: كيف أذكر الله؟ كيف أصلي؟ تتعلم وتعبد الله، ولكن من أجل الوظيفة، وقد بوب البخاري في الصحيح بـ(باب: العلم قبل القول والعمل).
طريق العودة إلى الله تعالى
وقد يقول قائل: الآن يا شيخ كم صحت هذا الصياح، فماذا ينفع؟ دلنا على الطريق.فأقول: الطريق -والحمد لله- واضح سهل لا عقبات ولا أحجار ولا حيات ولا بوليس ولا شرط، فقط أهل القرية المسلمة يتعاهدون لله فيما بينهم أنهم يفزعون إلى ربهم كل ليلة من صلاة المغرب إلى العشاء في بيت الرب، هذه أول خطوة، وهذا لا يوقف حياتهم أبداً ولا يعطلها، الفلاح يشتغل، التاجر يشتغل، الصانع يشتغل، الكل عندما تميل الشمس للغروب يتوضئون ويلبسون ملابسهم ويأتون بنسائهم وأطفالهم إلى بيت الرب تعالى، من يلومهم؟ من يسخر منهم؟ من يضحك؟ يجتمعون في بيت الرب وسيهيئ الله لهم من يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، والله! ليهيئن لهم من يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، كيف يصبح أهل تلك القرية؟ أنا أعرف كيف سيصبحون، كالملائكة، لا خيانة، لا غش، لا حسد، لا كبر، لا إسراف، لا بذخ، لا حب دنيا، لا تكالب على الشهوات، أم أنك تقول: هذا لا يمكن، محال! فأقول: أنسيت سنن الله؟ الطعام يشبع والماء يروي والنار تحرق والحديد يقطع، سنن لا تتبدل، إذاً: فتعلم الكتاب والحكمة لا بد أن ينتج الطهارة والصفاء، والأمثلة قائمة والحياة شاهدة وما هو بأمر خفي.كم حياً في المدينة؟ قالوا: سبعة عشر حياً، وفي بعض المدن عشرون، أهل كل حي يتعاهدون لله أنهم إذا مالت الشمس للغروب يفرغون من أعمالهم، الحلاق يرمي الموسى ويغلق الدكان، التاجر يغلق الباب، الصانع كذا، ويأتون إلى الجامع الذي في حيهم، لا يوجد حي ليس فيه جامع أبداً في العالم الإسلامي من عرب وعجم، يجتمعون في بيت ربهم يستمطرون رحمته، يبكون بين يديه، يذكرون اسمه، ويهيأ لهم أيضاً مرب حليم، يجلس لهم جلوسنا هذا ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم العام بعد العام، أسألكم بالله: هل يبقى في الحي لص مجرم، أو مسرف؟ والله! ما يبقى، فماذا يصنعون بالمال؟ هل يبقى بينهم جائع؟ والله! ما يبقى، هل يبقى بينهم عار؟ والله! ما يبقى أبداً، هل يبقى بينهم جاهل؟ كيف يبقى الجاهل؟ كيف يوجد الجاهل؟ويتم لهم من الكمال ما تم لأصحاب رسول الله وأبنائهم وأحفادهم في العصور الذهبية، لا سيما في وقت كهذا.فما المانع أن يفعل المسلمون هذا؟ إلى الآن ما عرفنا. هل سحرنا اليهود؟ لا ندري. ما هي الموانع؟ ما عرفنا. فهل عرفتم سر هذا البكاء كم نبكي؟وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
إن عقيدة التوحيد هي وصية الأولين والآخرين، وصية الآباء للأبناء، وصية الأنبياء للأتباع، فلا حياة بلا توحيد، ولا دنيا ولا أخرى بدون عقيدة صحيحة، وقد وصى إبراهيم الخليل بنيه بالتوحيد، أن يعيشوا عليه ويموتوا عليه، ووصى به يعقوب بنيه، فلم يمت حتى استوثق منهم لأنفسهم، وعلم حقيقة عقيدتهم، واطمأن إلى سلامة توحيدهم، وهذا من بر الآباء بالأبناء.
تفسير قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:132-134] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم تلك البشرى النبوية التي أكرمنا الله بأن أصبحنا من أهلها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فأبشروا بما بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرى أيضاً هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).إذاً: بعدما تلونا آيات الكتاب هيا نتدارس تلك الآيات:
وصية إبراهيم ويعقوب بالملة الحنيفية
ما معنى قوله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132]؟ ما هذه التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب؟ ألستم ترغبون فيها؟ أما تريدون أن توصوا بها نساءكم وأولادكم وإخوانكم؟إنها لا إله إلا الله، إنها الملة الحنيفية، الملة الإبراهيمية، وهي: أن نعبد الله وحده ولا نعبد معه غيره، هذه هي التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب أيضاً، ويعقوب هو حفيد إبراهيم، إذ إبراهيم عليه السلام ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب.وإسحاق ويعقوب بشرى الرحمن الرحيم لـسارة وإبراهيم، في قصة ضيوف إبراهيم لما دخلوا عليه وقام بإكرامهم: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:26-27]، وامرأته قائمة ورأوها تعمل وتقدم الطعام فبشروها، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29]، كيف ألد وهذا بعلي شيخاً؟ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].التبشير بإسحاق من باب المألوف، المرأة موجودة والفحل موجود وإن كان شيخاً كبيراً وكانت المرأة عجوزاً لا تحيض ولا تحمل، فالله على كل شيء قدير، لكن البشرى أن هذا المولود الذي يولد لكما سيكبر ويتزوج ويلد مولوداً واسمه يعقوب، هذا ما يقدر عليه إلا الله، فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، إذاً: هذا يعقوب الذي يلقب بإسرائيل. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132] وهي: الموت على لا إله إلا الله، لا تعترفوا بألوهية كائن من كان إلا الله، ولا تعبدوا كائناً من كان إلا الله، فوصوا بها أولادكم وبناتكم ونساءكم كما وصى بها إبراهيم.وها هو ذا يعقوب عليه السلام وقد حضره الموت، والصالحون قد يرون في المنام أنهم يموتون ولا حرج، الرؤيا الصالحة جزء من النبوة. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يناديهم: يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132].ومعنى: (اصطفى): اختاره لكم واجتباه وانتقاه من بين الأديان الهابطة الباطلة التي هي بدع وضلالات وخرافات، اصطفى لكم الدين الحق، إذاً بناء على هذا: الزموا هذا الدين ولا تتخلوا عنه أبداً، حتى يوافيكم الموت وأنتم مسلمون؛ لأن من عبد ثم انقطع كان كمن لم يعبد، لو عاش دهراً يعبد الله وقبل موته انقطع ضاع ذلك كله ولم يثب عليه ولم يؤجر أبداً؛ فلهذا لا بد من مواصلة العبادة الحقة القائمة على أساس التوحيد وعلى أساس ما شرع الله وبين من تلك العبادات حتى الوفاة.
موافقة وصية النبيين لأمر الله تعالى المؤمنين بالديمومة على الإسلام
وهذا الذي طالب به يعقوب بنيه طالبنا الله نحن به، أما قال تعالى من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، لا يقولن قائل: أنا عبدت ربي سبعين سنة أو ثمانين قضيتها رباطاً وجهاداً وإنفاقاً وصلاة وصياماً، والآن أستريح، فهل هذا ممكن؟ لو يترك فريضة واحدة متعمداً محي ذلك كله وبطل، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، مجرد شرك، ليس تركاً للعبادة بالكلية، فقط التفت بقلبه إلى غير ربه فسأل غير الله أو تضرع إليه أو ذل له أو ركع له وسجد، فبطل كل ذلك.وللعلماء في هذا مثل معقول جداً، وهو: إذا توضأ أحدنا وأحسن الوضوء، وقبل أن يدخل الصلاة فسا أو ضرط فانتقض وضوؤه، هل ينفعه ذلك الوضوء؟ والله! ما ينفعه، انتهى، فكذلك العبادة إذا داخلها الشرك وهو الالتفات إلى غير الله رغبة فيه أو طمعاً أو خوفاً أو رهبة، فناداه أو استغاث به أو تملقه وتقرب إليه بشيء بطل ذلك الدين كله وما أثيب على شيء.
معنى الدين وشروط كونه حقاً
هذه الدعوة دعوة أبينا إبراهيم: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132]، ويعقوب كذلك وصى بها بنيه، واسمع ماذا قال؟ يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] الحق، ما معنى الدين؟الدين العمل الذي تثاب عليه وتعطى الجزاء، وفيه معنى الذلة والخضوع لله، هذه العبادة أقوال وأفعال شرعها الله لنا وأمرنا بها، بل وألزمنا بها ووعدنا خيراً عليها أو شراً إن تركناها، هذه العبادات هي الدين، نعبده ويجزينا عليها ويثيبنا بها كالدَين بين الناس في هذا المعنى.إذاً: اصطفى لكم الدين الحق، والدين الحق يعتمد على أمرين:الأول: أن يكون الله هو شارعه ومقننه وواضعه.والأمر الثاني: أن تؤديه على النحو الذي بين الله عز وجل، فإن زدت أو نقصت، قدمت أو أخرت بطل، ما أصبح صالحاً لتزكية النفس وتطهيرها.آهٍ لو عرف المسلمون هذا، الدين الذي هو عبادة الله لن ينتج لنا نتاجاً طيباً ولن نسعد به في الدنيا ولا في الأخرى إلا إذا كان الله شارعه، الله منزله، والرسول صلى الله عليه وسلم مبينه ومفصله، فنأتيه كما أتاه الرسول ونؤديه كما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم.وهذا يتوقف على العلم والمعرفة، يتوقف على أن ندرس السنة والكتاب حتى نعرف الدين الصحيح من الباطل، حتى نعرف كيف نؤدي هذا الدين تأدية من شأنها أن تزكي أنفسنا وتطيبها وتطهرها، لا بد من العلم.
أهمية الوصية بالحقوق ووصية الأولاد بالثبات على الدين
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ [البقرة:132] أيها الأبناء إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] أي: والحال أنكم مسلمون قلوبكم ووجوهكم وحياتكم لله عز وجل.هذه وصية يعقوب، وقبلها وصية إبراهيم، ونحن نوصي أو لا نوصي؟ نحن ما من مؤمن ولا مؤمنة له أو عليه حق يبيت ليلة إلا ووصيته عند رأسه، هذه الوصية المتعلقة بالحقوق، إذا كان لك حقوق على آخرين أو كان عليك حقوق لآخرين ينبغي أن تكتبها، وهذا لا خلاف فيه، وأعظم من هذا إذا مرض الفحل واجتمع عليه بنوه وأهله فيوصيهم بوصية يعقوب لبنيه: (يا أبنائي) إن كانوا ذكوراً، (يا بناتي) إن كن إناثاً، (يا أولادي) إن كانوا ذكوراً وإناثاً، يقول لهم: إن الله أكرمكم بالإسلام واختاره لكم ديناً ووفقكم له فحافظوا عليه، فلا يمت أحدكم إلا وهو مسلم، ونكون قد ائتسينا بالصالحين من قبلنا، أما أن يوصي أولاده بكذا وكذا وكذا ويترك هذه الوصية فقد حاف وانحاز ولم يسلك سبيل الرشاد.أقول: كلنا مهيأ للوفاة، فمن كان له بنون أو بنات أو أولاد واجتمعوا عليه وهو في سياقات الموت فليذكر هذه الوصية ويوصيهم: أوصيكم يا أبنائي أو يا أولادي أو يا بناتي أن تواصلوا دينكم وعبادة ربكم وإسلامكم لله حتى الموت، فإن الله أمرنا بذلك فقال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].ونحن مأمورون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، لا سيما عند سياقات الموت: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].
وجوب النصح للناس
وقد ذكرنا الصالحين وقلنا: الصالحون هم الذين يؤدون حقوق الله كاملة لا ينقصها شيء أبداً، ويؤدون حقوق العباد كذلك، وفاتني أن أقول لكم: إن من حق أخيك عليك أن تأمره بمعروف إذا تركه وإلا قصرت في هذا الواجب، وأن تنهاه عن منكر إذا فعله أو ارتكبه أو قاله من باب حقه عليك أن تنهاه، فإن لم تأمره ولم تنهه فما أديت هذا الحق. وقد تكلمنا على الحق العام: لا تؤذه لا بسب، ولا شتم، ولا بضرب، لا تأكل ماله، لا تغتبه، أد له الحقوق الواجبة له، وفاتنا أن نذكر: أن من أوجب الواجبات الحقوقية ألا ترى أخاك تاركاً لمعروف وهو قادر على فعله وتسكت عنه ولا تعلمه، فما أديت حقه، أو تراه يغشى ويرتكب ويفعل باطلاً منكراً وتتركه ولا تنصح له ولا تبين له أن هذا باطل وأنه يضره ولا ينفعه؛ لأننا طمعنا في أن نكون من الصالحين، وقد ذكرنا أننا إذا أردنا ذلك ما آذينا مؤمناً ولا بخسناه حقه وأدينا حق كل صاحب حق، وبقيت هذه وهي أعظم، كونك تعيش مع أخيك وتراه تاركاً لمعروف ولا تأمره به، أو مرتكباً لمنكر ولا تنهاه، هل أديت حقه؟ والله! ما أديت، فكيف تصبح من الصالحين؟لأن الصالح هو الذي أدى حقوق الله كاملة ما بخسها ولا نقصها ولا ترك ركعة أو سجدة، كل حقوق الله، سواء كانت صياماً أو زكاة أو صلاة أو جهاداً، كل حقوق الله أداها وافية. وأدى حقوق العباد كذلك، سواء كانوا كافرين أو مؤمنين، والكافر أيضاً تعيش معه أو هو جارك أو تعمل معه ثم لا تنصح له بأن هذا الذي هو عليه يقوده إلى عذاب أبدي خالد في النار، تقول: يا عبد الله! أنقذ نفسك، أنا ناصح لك، هذا حقك علي، هذا إذا كان كافراً؛ فكيف بالمؤمن وأنت تراه تاركاً للمعروف أو مرتكباً للمنكر؟ ما أديت حقه وافياً حتى تصبح في عداد الصالحين، لا بد من هذا.وبعض الناس إذا قلت له: صل غضب، فدعه ينتفض ويغض، فغضبه وعدم رضاه لا يمنعك من أن تؤدي حقه عليك، هذا من حقه عليك، قل له: يا عبد الله! والله إن من حقك علي أن أبين لك وأن أنصح لك، ولتغضب أو لا تغضب، أنا مسئول، أنت عبد من عباد الله، نعيش مع بعضنا في هذه الحياة، واجبك علي أن أبين لك وأنصح لك، لم؟ قل: أريد أن أسجل في ديوان الصالحين، فإذا لم آمرك وأنهك فما أستطيع أن أسجل في ديوان الصالحين، فلا بد من هذا.وإذا رفع العصا عليك فممكن أن نقول: إلا من أكره، لكن كونه يغضب أو ينتفض هذا ليس بضار أبداً، لو تبتسم وتقول له: هذا واجبك علي، أنا ملزم بهذا لأنك أخي، فوالله! ليعودن يبكي أو يضحك، ولا يغضب ولا يسخط.وهكذا وصى بها إبراهيم بنيه ووصى بها يعقوب بنيه فقال: يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] الحق الإسلام الملة الحنيفية، فبناء على هذا يا أبنائي واصلوا العبادة، واصلوا الإيمان، واصلوا الطاعة؛ حتى لا تموتوا إلا وأنتم مسلمون.وقد بينت لكم أن من عبد الله دهراً طويلاً ثم في آخر أيامه ترك العبادة هلك، اللهم إلا عبد ما زال يعبد الله وفجأة أصيب بشلل أو شيء منعه من العبادة، فهذا لا بأس عليه، أما أن يموت على ترك الملة والعبادة والطاعة فلن يستفيد مما مضى كله، وقد أمر الله تعالى المؤمنين المسلمين بما كان يأمر به إبراهيم أولاده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
تفسير قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ...)
ثم قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] كذا وكذا، هذا الكلام موجه إلى اليهود والنصارى الذين تعصبوا للبدعة، فاليهودية بدعة والنصرانية بدعة، كالطرق عندنا: القادرية والتجانية والرحمانية، بدع ابتدعوها، الإسلام ليس فيه قادري ولا رحماني ولا تجاني ولا عيساوي أبداً، مسلمون فقط، ابتدعوا البدع، فهل اليهودية كانت موجودة على عهد موسى؟ والله! ما كانت، هي بدعة، هل النصرانية كانت موجودة على عهد عيسى تسمى النصرانية؟ والله! لا وجود لها، ابتدعوها، كما نقول: هل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الروافض والزيدية والباطنية والمعتزلة؟ ما كان هذا موجوداً، فضلاً عن القادرية والرحمانية والتجانية، هذه بدع ابتدعها الناس واخترعوها وأوجدوها لأغراض ليست شريفة في الغالب.قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133]، فهل وصى باليهودية بنيه، أم هل وصى عيسى بالنصرانية؟ وهذا استفهام تقريع لهم وتوبيخ. أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] هذا يعقوب عليه السلام وحوله اثنا عشر رجلاً نبياً وهم الأسباط: يوسف ومن معه، اثنا عشر ولداً، وكل ولد تحته أولاد؛ فلذا يسمون بالأسباط، أصبحوا قبائل.إذاً: يا من يدعون اليهودية ديناً وهي بدعة منتنة، يا من يدعون النصرانية ديناً وهي بدعة باطلة! هل كنتم حاضرين مع يعقوب لما حضرته الوفاة وهو يوصي أبناءه، هل وصاهم بيهودية أو بنصرانية؟ ما عرفوها ولا ذكروها، فمن أين جاءت هذه؟ ابتدعتموها بعد غياب ذاك النور الإلهي.يقول تعالى لليهود والنصارى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ [البقرة:133] أي: حاضرين، الشاهد الحاضر، والشهيد كذلك، مأخوذ من المشاهدة. إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133] وليس شرطاً أنهم رأوا ملك الموت معه، ولكن علامة الموت معروفة تظهر على المريض، وهو يشعر بها. إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] الاثني عشر فحلاً، منهم يوسف عليه السلام، ولعل أحفادهم وأولادهم بينهم أيضاً إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] أنا إذا مت الآن فمن تعبدون أنتم بعدي؟ استفهام.
معنى قوله تعالى: (قالوا نبعد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً)
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] ما نعبد غيره، نعبد. أيها الإخوة! ما معنى (نعبد) سلمكم الله؟معناه: نطيعه في ذلة وخضوع، إذا أمرنا بالصيام صمنا، وإذا أمرنا بالإفطار أفطرنا، إذا قال: جاهدوا جاهدنا، وإذا قال: اقعدوا قعدنا، العبادة: الطاعة مع غاية الذل والتعظيم، أما طاعة بدون تعظيم للمطاع فما هي عبادة، طاعة مع العنترية وعدم الاستكانة والذلة ما هي بعبادة أبداً، هي مجرد طاعة لا نسميها عبادة، طاعة مع عدم تعظيم المطاع وإجلاله وإكباره وتعظيمه ما تسمى عبادة، العبادة: هي الطاعة مع غاية الذل والتعظيم.فيعقوب عليه السلام يقول لهم: يا أبنائي! ما تعبدون من بعدي إذا رحلت عنكم وتركتكم؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ [البقرة:133] أي: معبودك، ومعبود يعقوب هو الله تعالى، لا يشك في هذا عاقل. نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] أي: ومعبود آبائك. وسموهم: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، وهل إسماعيل أبوه؟ إسحاق أبوه، لكن العم إذا ذكر مع الآباء يقال له: أب، نحن الآن إذا مررنا برجل كبير نقول: يا أبت! وليس في هذا عيب أبداً، ونقول للصغير: يا بني، والموازي لي في سني أقول له: يا أخي، هذه هي آداب البشرية، فكل من كان أكبر منك هو بمنزلة أبيك، ومن كان دونك هو بمنزلة ابنك، ارحمه كما ترحم ابنك، ومن كان مساوياً لك هو بمنزلة أخيك، عامله معاملة الأخ.إذاً: فهذا يعقوب عليه السلام، ومن هو يعقوب؟ هذا من أنبياء الله ورسله، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ [البقرة:133] أي: معبودك الذي تعبده أنت وهو الله الذي لا إله إلا هو. وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] من هم؟ قال: إِبْرَاهِيمَ [البقرة:133] أولاً، وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:133] ثانياً، وَإِسْحَاقَ [البقرة:133].
إشارة الآية الكريمة إلى ولادة إسماعيل قبل إسحاق
وهنا إشارة إلى أن إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاق، والغريب أن هناك من علماء المسلمين من يرون أن إسحاق ولد لإبراهيم قبل إسماعيل، ويذكرون هذا في التفسير، مع أن هذه كذبة يهودية، اليهود يكرهون العرب ودينهم وإسماعيل، فقالوا: إسحاق هو الأول! مع أن القصة واضحة كالشمس، لما هاجر إبراهيم من العراق من أرض بابل هاجر معه سارة ، وهل كان معها ولد؟ والله! ما كان معها ولد، وكان معه لوط بن هاران ابن أخيه، فخرج هو وزوجته وابن أخيه، هؤلاء الذين أسلموا ووحدوا الله، فلما ساح إبراهيم في الأرض وانتهى إلى الديار المصرية كما علمتم أعطى الملك لامرأته سارة هاجر ، فـهاجر تسراها إبراهيم لأن سارة أعطتها له، فأنجبت إسماعيل، فغارت سارة وما أطاقت أن تراها تلد وهي ما ولدت، فمن هذه الغيرة أُمر إبراهيم بأن يبعد إسماعيل وأمه حتى لا تتأذى وتتألم رحمة بها، وهي من هي، هي سارة امرأة الخليل، فجاء بها إبراهيم إلى مكة وكانت وادياً ما بها أحد، فكيف نقول: إسحاق قبل إسماعيل؟ والله يقول: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، بشرها بالولد؛ لأنها كانت لا تلد.ثم إنا نقول: هذا الأمر العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر، فلهذا ما نتعرض له، كون إسحاق أولاً أو إسماعيل أولاً، لا فرق بين هذا وذاك، وإنما لما قالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] فمعناه: أن إسماعيل كان قبل إسحاق حسب الترتيب اللفظي. قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133] لا ثاني له، أي: معبوداً واحداً.
معنى قوله تعالى: (ونحن له مسلمون)
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133] منقادون خاضعون مستكينون، يأمرنا فنطيع، ينهانا فنطيع، يخبرنا فنصدق، هذا معنى الإسلام.أين اليهودية؟ قل لليهود والنصارى: هذا جدكم، هذا إسرائيل عليه ألف سلام يوصي أولاده ويسألهم ويستنطقهم، فهل قالوا: إنهم يهود أو نصارى؟ قالوا: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، فكيف أصبح الدين -إذاً- ثالوثاً؟ على كل حال القرآن بكَّتهم وأخزاهم وأذلهم، ولكن لا يريدون أن يعترفوا بهذه الحقيقة؛ ليعيشوا على باطل اليهودية والنصرانية لتأكلهم جهنم، وإلا فوالله! ما عندهم ما يعتمدون عليه أبداً في صحة بدعتهم، لا يهودية ولا نصرانية، قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وهم مشركون.
تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ...)
ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134] ما هناك حاجة إلى النزاع والصراع، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134] مضت وما بقي شيء، إذاً: لم نبقى نتشبث بالماضي، نحن أمام واقع جديد، أكرم الله البشرية بالإسلام وأنزل كتاباً عظيماً هو القرآن الكريم، وحمَّله رسولاً عظيماً شريفاً كريماً عاش على بلاغه وتبليغه ودعوة البشرية إليه، فلم نتشاغل بالماضي؟ سبحان الله العظيم! تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:134] من خير أو شر، وتجزى بالخير كما تجزى بالشر. وَلَكُمْ [البقرة:134] أنتم أيضاً مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، معنى هذا: ما هناك حاجة إلى أن يتشبث اليهود بدين سموه يهودية، ولا أن يتشبث النصارى بدين سموه المسيحية أو النصرانية، الرب واحد لا إله غيره ولا رب سواه، الذي أرسل موسى وهارون وأرسل عيسى، ونبأ إبراهيم ويعقوب وإسحاق هو الله، ها هو ذا تعالى قد أنزل كتابه وبعث رسوله، أي عذر لكم أن تتركوا الإسلام؟ بأي منطق أو حجة أو عقل؟ أنتم تعبدون الله أم لا؟ عبدتموه دهراً، فأنزل كتابه وبعث رسولاً وأوقف تلك العبادة كاملة ووضع شرعاً جديداً وقانوناً جديداً، فهل من العقل أن نقول: لا ونتشبث بالماضي؟من الأمثلة القريبة المعقولة -لو يفهمونها- أنا نقول: الدولة سنت قانون كذا وألزمت الشعب به، لا فرق بين الغني والفقير والكبير والصغير لا بد من تنفيذ هذا القانون لصالح الشعب والأمة، بعد عشر سنين أو عشرين سنة نسخته وأبطلته ووضعت غيره، هل يستطيع مواطن أن يقول: أنا أعمل بذلك القانون الماضي؟ أسألكم بالله: لو يتشبث مواطن ويقول: لا، هذا كان قانوناً شرعته الدولة، وهو يعلم أنه نسخ وأبطل العمل به ولم يصح أبداً أن يعمل به مواطن، فالذي يعمل به هل يقال له: عاقل؟الدولة سنت قانوناً في المال أو في غيره، وعمل به الشعب سنة أو سنتين أو عشر سنوات، ثم بدا لها أن من المصلحة إيقاف هذا القانون واستبداله بقانون آخر أنفع للشعب، وعرف المواطنون هذا وأخذوا يطبقون الجديد، لو قال قائل: أنا أعمل بهذا القديم وأصر على ذلك فكيف ينظرون إليه؟ يرونه أحمق، ويؤدبونه ويقهرونه ويذلونه حتى يخضع للقانون الجديد، ولا يسمح له أن يقول: لا، ذلك قانون شرعه الحاكم، فهذه الصورة واضحة.ولذلك نقول: يا يهودي أو يا نصراني أو يا بوذي! ما دمت تؤمن بالله وتشريعه وتقنينه وإرسال رسله؛ فها هو ذا تعالى الذي أرسل موسى وأرسل عيسى أرسل محمداً وأبطل ما كان، وجاء بقانون جديد وكتاب جديد، فكيف تؤمن بالكتب وبالرسل ولا تؤمن بهذا؟ هذه مهزلة؛ ولهذا فكفرهم عفن، ما له أبداً قيمة، نعم لو كانوا ملاحدة لا يؤمنون بالله فهذا أمر آخر، لكن أنت تؤمن بالله وبرسله وتعتقد أنك على دينه وسميته باليهودية أو النصرانية، وجاء الكتاب العظيم والرسول الكريم فبين أخطاءكم ومفاسدكم وما أنتم عليه من البدع والضلالات ونسخها بما هو النور والهداية، فبأي منطق أو ذوق تقول: نتمسك بديننا؟ إذاً: ما تريدون الله ولا الدار الآخرة، أصبحت المسألة قبليات وعصبيات، يقال: نتمسك بديننا، فهذا دين من؟ أليس هذا دين البشرية كلها؟ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، والرسول يقول له ربه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] هل استثنى الله شعباً أو أمة، أبيض أو أسود؟ كلمة (الناس) تشمل البشرية كلها، ما بعث للعرب فقط ولا للعجم فقط ولا لأهل إقليم، كانت الرسل تبعث في أممها بحسب الأحوال والظروف، والله العليم الحكيم، وقد علم الله أن يوماً سيأتي تصبح البشرية فيه كلها كأنها إقليم واحد، والآن ارفع صوتك في آلة من الآلات والعالم يسمع، إذاً: ما هناك حاجة إلى أن يبعث في كل إقليم رسول ما دامت الدعوة تصل في يومها.فنقول: آمنا بالله .. آمنا بالله .. آمنا بالله، سبحان الله العظيم! أرسل محمداً إلى الأبيض والأسود وإلى الناس كافة لعلمه بما سيقع وما يوجد في الكون من هذه الآلات والاتصالات، حتى يصبح العالم وكأنه إقليم واحد، وأما القرون الماضية فأهل كل إقليم منقطعون في إقليمهم، حتى إن فيهم من يعيش ثمانين سنة أو مائة سنة ما يخرج من ذلك المكان، ولا يشاهد رجلاً من إقليم آخر؛ لانعدام الاتصالات. فعلم الله عز وجل ما سيكون فبعث رسولاً واحداً للبشرية كلها، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، ما استثنى أحداً، وتحقق هذا، ومن أراد نجاته من عذاب الخلد بعد نهاية هذه الحياة فهذا هو سبيل النجاة، يؤمن بمحمد رسولاً وبالقرآن كتاباً ويعبد الله بما جاء به الكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
هذه الآيات -كما قلت لكم- كانت خطاباً لليهود والنصارى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] ماذا؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133]، فماذا قالوا؟ هل قالوا: نعبد عيسى؟ قالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133]، من هم؟ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133] أيضاً، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، آمنا بالله وأسلمنا لله.ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ [البقرة:134] فما سبق من باب البيان والتوضيح وإيقاع الحق في موقعه، وإلا فدعنا منهم فقد مضوا، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134]، وهانحن أمام وحي جديد وتنزيل وكتاب ورسول وقانون وشريعة، فلم نتشاغل بالماضي؟ أما نريد أن نسعد ونكمل في حياتنا في الدنيا والآخرة؟ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] لها ما كسبت تجزى به، أم أن هناك من لا يجزى بكسبه؟ لا يوجد إلا مجنون، وإلا فكل ذي عقل سيجزى بكسبه خيراً أو شراً. لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، هل يسأل اليهودي أو النصراني عما كان يعمل الماضون؟ ما يسأل عنه أبداً، ما هو بمسئول، قد يسأل المرء عن عمل عمله هو، من نشر بدعة وعلم الناس باطلاً فكل الذين عملوا به هو يسأل عنه؛ لأنه كسبه، من دعا إلى ضلالة، من دعا إلى فتنة، من دعا إلى باطل واستجاب الناس له، فكل كسبهم هو يجزى به، وهم كذلك يجزون به، ولكن بما أنه هو الذي نشر هذا الباطل فسوف يحاسب ويجزى به.وقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] كقوله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، الوازرة: الحاملة للوزر، والوزر هو حمل الذنوب والآثام، وقد بين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدق صورة، حين توضع الموازين في ساحة فصل القضاء للحكم بين الخلائق، ويجيء الرب تبارك وتعالى ليحكم بين عباده، يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأم توضع حسناتها في كفة الميزان وسيئاتها في الكفة المقابلة، ويستوي الوزن، فتأتي لابنها وتقول: أي بني! لقد علمت أني كنت لك خير الأمهات، فيقول: نعم يا أماه. فتقول: أريد حسنة فقط من حسناتك ترجح بها كفة حسناتي، فيجيبها الولد بقوله: أي أماه! أعلم أنك كنت خير الأمهات لي ولكن نفسي نفسي، إذا أعطيتك حسنة فرجحت كفتك سأدخل النار، ويأتي أيضاً الابن إلى أبيه والأب إلى ابنه: يا أبي! يا بني! يطلب حسنة واحدة فما يتحقق ذلك أبداً، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18]، ولو كان أماً أو أباً، ما تجد أبداً من يساعدك، ومن يحمل معك.إذاً: فمن الجد ومن النصح للنفس أن نترك ما كان عليه الأولون من ضلالة أو هداية، ولنعمل على هداية أنفسنا وإصلاحها وإسعادها، لا نشتغل بالماضي ونعتز بما ليس بعز، هذه هداية الله عز وجل لعباده. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، وهذا الذي ينبغي أن نعيش عليه ونذكره، نحن نعتز بآبائنا وأجدادنا وقبائلنا ومذاهبنا وطرقنا، فينبغي أن نعمل على هداية أنفسنا وإنقاذها، لا ننظر إلى الماضي كما كان، فهل أخذنا بهذه الهداية الإلهية؟نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لسلوك سبيل الرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
لما جاء وفد نصارى نجران اجتمعوا مع اليهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يتجادلون في مجلسه، وقام بعضهم بتسفيه بعض، وكفر بعضهم بعضاً، فقالت يهود للنصارى: كونوا على اليهودية لتهتدوا، وقالت النصارى لليهود: كونوا على النصرانية تهتدوا، فجاء خطاب الله عز وجل لهم بأن من أراد الهداية الحقة والاستقامة على الدين القويم فعليه أن يؤمن بالله، وبما أنزل على النبيين والمرسلين دون تفريق بينهم ولا انتقاص من قدرهم.
مكانة المدينة النبوية وخصوصيتها
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:135-136]. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اذكروا أن هذه السورة مدنية، ومرحباً بالمدنيات والمكيات، والمدنية: هي التي نزلت في المدينة النبوية، وأين توجد المدينة النبوية؟ والله! إنها هذه لهي، فالحمد لله، لو كنتم في كندا أو في الصين أو اليابان وذكرت لكم المدينة النبوية فكيف يكون شعوركم وانفعالكم؟ ستتمنون لو كنتم فيها، ها أنتم الآن فيها، فهل أحسنتم قيامكم فيها؟ هل عرفتم أنها حرم؟ ( المدينة حرام من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ). هل تعلمون أنكم مطالبون بآداب خاصة في هذه الديار؟ قد تقولون: نعم يا شيخ، ولكن غلبتنا الدنيا، غلبتنا الأهواء، غلبتنا الشهوات. فأقول: إذاً: انهزمتم، مشيتم وراء عدوكم، وقد حذركم الرحمن فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فاحذري يا أمة الله احذر يا عبد الله أن ترتكب معصية في هذه البلاد، إنها قدس وطهر، ومن لم يعرف ما هي المعصية فليسأل أهل العلم، فإن هذا السؤال واجب؛ لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].ومن هنا لم يبق بين المسلمين الجديرين بهذا الاسم جاهل من امرأة ولا رجل، ولا يحتاجون إلى قرطاس ولا قلم، وإنما قبل أن يقدم على الشيء يسأل أهل العلم، فإن قالوا: نعم هو مما أحب الله؛ فباسم الله يقدم عليه، وإن قالوا: هذا مما كره الله تركه، ولا نزال نسأل ونعمل حتى نصبح علماء رجالاً ونساء، لكن صرفونا، فماذا نصنع؟ هل من عودة؟ نحن عائدون إن شاء الله تعالى.
سبب هجرة اليهود من الشام إلى المدينة
هذه المدينة عند نزول هذه الآيات كان فيها وفد نجران، واليهود مقيمون يعيشون في المدينة، ووفد نجران نصارى صليبيون مسيحيون والعياذ بالله، كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة، واليهود يسكنون بالمدينة، فمن أين جاءوا؟ هل تعرفون من أين جاء اليهود؟ جاءوا من الشام، من القدس، فلم جاءوا إلى هذه المدينة وما فيها إلا السبخة وحبات التمر والعنب؟الجواب: لأنهم لاقوا الأمَرَّين من النصارى، النصارى هم الذين أسقطوا دولة بني إسرائيل، وهم الذين شردوا بني إسرائيل، ولم سلطهم الله عليهم؟ لأنهم فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته، وهل لذلك صورة ينظر إليها؟الجواب: انظر إلى العالم الإسلامي اليوم ومنذ قرون وقد فسق عن أمر الله وخرج عن طاعته، فاستوجب النقمة، فسلط الله عليهم بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا، وما زالوا تحت النظارة أيضاً، مزقوهم وشتتوهم، أين الدولة الإسلامية التي أصبحت ثلاثاً وأربعين دولة؟ أين المذهب الإسلامي؟ سبعون مذهباً، أين الأمة؟ انتهت، بسبب ماذا؟ بسبب الفسق، ما معنى الفسق هذا؟ إنه الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة أولي الأمر حكاماً وعلماء هداة مبينين.فبنو إسرائيل كانوا أعز منا وأكرم، هم أبناء الأنبياء، فلما فسقوا عن أمر الله فشاع فيهم الزنا، وأصبحت المرأة تتبرج، تلبس الكعب الطويل هذا الذي يلبسه نساؤكم وبناتكم، هذا أخبرنا رسول الله به من بداية أمرهم، أكلوا الربا، هجروا كتاب الله، أعرضوا عن ذكر الله كحالنا، فاستوجبوا نقمة الله، فسلط عليهم الرومان، فشتتوهم ومزقوهم وعذبوهم، لم؟ لأنهم أعداؤهم قتلوا إلههم، من قتل عيسى في اعتقاد النصارى؟ اليهود هم الذين قتلوه، والذي يقتل إلهك تنظر إليه؟ أين إيمانك؟ الذي تعتقد أنه قتل ربك هل تحبه وترضى عنه؟ كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت؛ لأنهم قتلوا إلههم، ووالله! ما قتلوه، أخبرنا العلام الحكيم بقوله من سورة النساء: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].إلا أن الجريمة جزاؤها حاصل، لأنهم قتلوا من شبه وصلبوه وعلقوه، فكأنما قتلوا عيسى، أما عيسى روح الله فما قتلوه أبداً ولا صلبوه، إنه في الملكوت الأعلى، رفعه الله من روزنة البيت والبيت مطوق بالشرطة.إذاً: فهاجروا إلى هذه الديار لوجود الأمن فيها، فهنا أمة جاهلة أمية لا تعرف شيئاً وهم أهل كتاب وعلم يسودون بين الجهال، وإلى الآن العالم يسود بين الجاهلين أحبوا أم كرهوا، هذا من جهة.ومن جهة أخرى: أنهم يتطلعون إلى النبوة المحمدية، عندهم من الأدلة القطعية في التوراة والإنجيل أن نبي آخر الزمان قد أظل زمانه، إنه يخرج من بين جبال فاران، جبال مكة، فقالوا: هذا الذي نعز به ونسود، متى ظهر في تلك الديار احتضنا دعوته ومشينا وراءه وأعدنا من جديد مملكة إسرائيل، فنزلوا المدينة وقبلها ديار متصلة كتبوك وخيبر وتيماء.. وما إلى ذلك.وشاهد ذلك يا أهل القرآن من سورة البقرة التي ندرسها، إذ قال تعالى عنهم: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] ما معنى: يستفتحون عليهم؟ يقولون لهم: إن نبي آخر الزمن قد أظل زمانه وسوف نؤمن به ونمشي وراءه ونقاتلكم وننتصر عليكم، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ [البقرة:89] أي: من قبل ظهور الرسالة المحمدية والأنوار المحمدية يستفتحون على المشركين، يقولون: سوف نفعل ونفعل ونفعل، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].وكان بالمدينة ثلاث قبائل كبرى: بنو قينقاع في الوسط، بنو قريظة في الجنوب، بنو النضير في الشمال، وكانوا مسيطرين، فلما هاجر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ارتجت المدينة تحت أقدامهم، ما إن كانت وقعة بدر في السنة الثانية وشاهدوا انتصار رسول الله والمؤمنين حتى تغيرت قلوبهم ووجوههم وعرفوا، وأخذوا يجادلون ويخاصمون ويدعون العلم فوق ما نتصور، ولو تتبعنا القرآن لوقفنا على ذلك.
تفسير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ...)
الآن جاء وفد نجران من النصارى وتلاعنوا، فكفَّر اليهود النصارى وكفَّر النصارى اليهود أمام الرسول والمؤمنين: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، كفَّر بعضهم بعضاً في مجالس العلم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن دون هذا وسجله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] لا شيء من الدين الحق، وصدقوا في تكفير بعضهم بعضاً؛ إذ -والله- ما هم على شيء لا اليهود ولا النصارى، اليهود مشبهة، وقالوا: عزير ابن الله، وفسقوا عن أمر الله في كل مجالات الحياة، والنصارى ماذا فعلوا؟ قالوا: عيسى ابن الله وأمه مريم إله وروح القدس إله، وتاهوا، فهل هم على شيء؟ والله! لا شيء، سبحان الله! انتصر الإسلام وهم يشاهدون وكفر بعضهم بعضاً، وسجل الله هذا.وواصلوا الحجاج والجدال ومشينا معهم في هذه الآيات الكريمات، وانتهينا الآن إلى قوله تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135].قال اليهود للنصارى: كونوا يهوداً تهتدوا، وقالت النصارى لليهود: كونوا نصارى تهتدوا، قالوا للمسلمين: كونوا يهوداً أو نصارى تهتدوا، هكذا يعرضون بضاعتهم الفاسدة، بعضهم ماكر خادع، وبعضهم مقلد جاهل تابع. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135] أي: يهوداً أو نصارى؛ تهتدوا إلى سبيل الرشاد وطريق السلامة، إلى منهج الحق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
معنى قوله تعالى: (قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)
والله تعالى مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فماذا قال تعالى ليفصل هذا النزاع؟ قُلْ [البقرة:135] يا رسولنا، أيها المبلغ عنا، يا محمد صلى الله عليه وسلم، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وأنتم تزعمون أنكم إبراهيميون وأنكم على ملة إبراهيم، وتحبونه وتعتزون به، وتقولون: نحن على ملة إبراهيم، وقد عرفتم من إبراهيم. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، ما معنى: حنيفاً؟ أي: كان موحداً، ما كان والله مشركاً، كان حنيفاً إذ أوجده الله في عالم ليس فيه من يوحد الله عز وجل، العالم يفيض بالشرك والكفر، فمال إبراهيم عن آلهتهم ودياناتهم ومعتقداتهم وأصبح وحده، فقالوا: هذا حنيف؛ لأنه مأخوذ من الحنف وهو التواء الرجلين وميلهما إلى بعضهما، نعم هو حنيف مائل عن ديانات الباطل واعتقادات الشر والفساد إلى الحنيفية ملته، وهي أن لا إله إلا الله.وقال بعضهم: حنيف من باب التفاؤل، لأن الجنف ضد الحنف، الجنف هو الميل، فمن باب التفاؤل قالوا: حنيف، ما قالوا: جنيف، ولسنا في حاجة إلى قول الناس في هذا الباب، حسبنا أن نعرف أنه كان موحداً ومن حوله من العالم كانوا مشركين، فالموحد منا هو الحنيف؛ لأنه على نهج إبراهيم وعلى طريقته وملته.فما كان إبراهيم -والله*- من المشركين أبداً، وها أنتم أيها اليهود والنصارى مشركون، فكيف تنتسبون إلى إبراهيم؟ إذاً: اتركوا الشرك وتخلوا عنه وابتعدوا من ساحته لتكونوا حنفاء على ملة إبراهيم، أما وأنتم مشركون بالله عز وجل تعبدون معه غيره وتقولون: نحن على نهج إبراهيم، نحن على ملة إبراهيم؛ فهذه الدعوى باطلة وكذب ولا تصح، ادعاها العرب المشركون وقالوا: نحن على ملة أبينا إبراهيم، فهل كان إبراهيم يعبد الأصنام والأحجار والأهواء والشهوات؟ كان موحداً، فوحدوا الله تكونوا مؤمنين وتكونوا إبراهيميين على ملة إبراهيم.فهذا كلام قليل، ولكن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجادلهم ويحاجهم فوق ما نتصور، لكن القرآن يذكر المسائل بإيجاز؛ لأنه كتاب يحفظ في الصدور.إذاً: لما قال اليهود للمسلمين: كونوا يهوداً، وقال النصارى: كونوا نصارى، وقال اليهود للنصارى: كونوا نصارى، قال تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:135] هي التي نكون عليها، هي التي ندين لله بها، هي التي ننضم إليها، أما تلك البدع من اليهودية والنصرانية والشرك فلا حاجة لنا فيها، باطل هذا كله، بل نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفاً مائلاً عن كل الأديان الباطلة إلى دين الحق، حتى قالوا فيه: حنيف أو جنيف.
عظم منة الله تعالى على العبد بالإيمان
إذاً: وجههم رسول الله باسم الله، فمن أمر الرسول أن يقول هذا؟ الله عز وجل، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، هذا الذي نلتزم به، هذا الذي نتبعه، هذا الذي نعيش عليه، فلا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية ولا شرك ولا باطل، هذا هو الحق، من هداهم لهذا؟ الله جل جلاله، هيا نحمد الله لنا ولهم، الحمد لله .. الحمد لله، لولا الله ما كنا في هذا المجلس، ولا نعرف لله كلاماً، ولا نعرف لله ديناً ولا ملة، فالحمد لله.أتظنون أن هذا رخيص وتفضلون عليه شيكاً فيه مليار دولار؟ أقسم لكم بالله جل جلاله على أن مؤمناً كهذا الشاب بيننا لو وضع في كفة ميزان ووضع العالم كله من أهل الشرك والباطل والكفر في كفة لرجح بهم، أما تعطون قيمة للإسلام والمسلمين؟إليكم هذا العرض السريع لنتأكد من صحة القضية: كان أبو القاسم صلى الله عليه وسلم جالساً مع بعض أصحابه في ظل جدار، فمر رجل من الفقراء المؤمنين دميم الخلقة، والله يخلق ما يشاء، فمر وسلم ومضى، فلما غاب عنهم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقالوا: هذا حري -جدير- بأن إذا خطب لا يزوج، وإذا قال لم يسمع له، وإذا أمر لا يطاع، لم؟ لضعفه وعدم حاجة الناس إليه، فسكت أبو القاسم، وأخذ في تعليمهم وتزكية نفوسهم، حتى مر منافق من أعيان المنافقين في الأبهة والمنظر واللباس والصحة البدنية، فلما غاب عنهم قال: وما تقولون في هذا؟ وهذا من باب التعليم بواسطة السؤال والجواب، فقالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا أمر أن يطاع، وإذا قال أن يسمع له.فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: والله! إن ملء الأرض من مثل هذا لا يعدل ذاك الذي قلتم فيه كذا وكذا. ملء الأرض من هذا المنافق لا يزن أبداً ذاك المؤمن الضعيف القصير الدميم الخلقة، فمن هنا عرفنا أن مؤمناً يزن ما على الأرض من الكفار من اليهود والنصارى والبوذيين والمجوس والمشركين.أزيدك برهاناً: لم إذا قتل المؤمن كافراً لا يقتص منه بالقتل؟ وإن قال أبو حنيفة غير ذلك فدعنا من قوله؛ فقول المذاهب الصحيحة وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة: أن المؤمن لا يقتل بكافر، وهو حق، لا يقتل بكافر، لم؟ من يفسر هذه الظاهرة؟ هل لأن المؤمن أبيض، جميل، غني؟ لا، قد يكون أرمش أعمش أسود مثلي، وما يقتل بكافر، أتدرون ما هو السر؟ لأن هذا الكافر كيف يقتل بمؤمن وهو ما يساوي ظفره أبداً؟ مادام أن ملء الأرض من الكافرين لا يزنون مؤمناً واحداً فكيف يقتل كافر بمؤمن، كيف يصح هذا؟ وسر ذلك أن هذا المؤمن يذكر الله ويعيش على ذكره وشكره، وهذا لا يذكر الله ولا يشكره، هذا لا حق له في الحياة؛ لأنه خلق وأطعم وسقي وحفظ من أجل أن يعبد الله، فلما رفض فلا حق له في الحياة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فمن كفر بالله وترك عبادته لا حق له في الحياة، فلهذا ندعوه إلى الله، فإما أن يجيب وإما أن يقتل.وعمر رضي الله عنه على عهد ولايته تآمر سبعة أنفار على مؤمن فقتلوه، حادثة نادرة وقعت، فاختلفوا كيف نقتص: هل نقتل السبعة أو نقتل واحداً مقابل المقتول؟ فقال: اقتلوهم سبعتهم، والله! لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. لأن هذا كان يعبد الله ويذكره، فهل عرفتم سر الحياة أو لا؟
شرك اليهود والنصارى
إذاً: نعود إلى الحادثة: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]، وأنتم أيها اليهود والنصارى -والله- مشركون، هل الذي يقول: الآلهة ثلاثة موحد؟ الذي يقول: عزير ابن الله ويعبده موحد؟ فاليهود ما هم بموحدين أبداً، بل مشركون، وإن لم يكن لهم صلبان أو أصنام، ولكن في نفوسهم آلهة يعبدونها: الدينار والدرهم، ( تعس عبد الدينار )، من قال هذا الكلام؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: هناك عبد للدينار، من هو هذا؟ الذي يبيع دينه وعرضه وشرفه وكرامته من أجل الدينار ويعبده، فقد ذل له وخضع.
تفسير قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ...)
ثم قال تعالى: قُولُوا [البقرة:136] أيها اليهود والنصارى، ونحن أيضاً نقول معهم وسبقناهم، قولوا ماذا؟ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] بالله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، الله خالق السماوات والأرض وما بينهما، الله ذو الجلال والكمال، ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، الله رب إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والعالمين، هذا الذي نؤمن به، لا نؤمن بعيسى إلهاً ولا بجبريل إلهاً ولا بأن العزير ابن الله. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وإن لم تعرفوا فسلونا نعرفكم به، حتى تعرفوا معرفة يقينية.
إعجاز القرآن الكريم وسعة علومه
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، ما الذي أنزل إلينا؟ القرآن الكريم، القرآن العظيم، أنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم من أجلنا، فهو أنزل إلينا، هذا الكتاب العظيم القرآن الكريم ماذا تعرفون عنه؟ اعلموا أنه اشتمل على علوم ومعارف تعجز العقول البشرية حتى عن إدراكها على حقيقتها، ما ترك شيئاً تحتاج إليه البشرية في الحياتين في الدنيا والآخرة إلا ذكره وبينه، حوى علوم الأولين والآخرين، يحدثكم عن الملكوت الأعلى كأنكم حاضرون فيه، يحدثكم عن الماضي، عن القرون ذات الآلاف من السنين كأنها شاهدة، يتحدث عن المستقبل فيزيل الغشاء عنه ويظهره كأنه بين يديك، فلهذا كان هذا الكتاب القرآن الكريم هو الكتاب المعجز، ما أعجزت التوراة أحداً ولا الإنجيل ولا الزبور، هذا القرآن الكريم هو المعجز، أعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، بل بسورة من مثله، واقرءوا تلك الآية الكريمة، إذ يقول تعالى من هذه السورة البقرة المدنية؛ يقول: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، أي: إن كان فيكم شك وعندكم شك في القرآن الذي أنزلناه على عبدنا بأحكامه وشرائعه وقوانينه وآدابه وعلومه ومعارفه؛ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، من مثل القرآن ومن مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أميته، وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23] أن لكم شهداء ينصرونكم ويقفون إلى جنبكم من الإنس والجن.ثم قال لهم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، أي: إن لم تستطيعوا أن تأتوا بسورة فقط من مثل هذا القرآن، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هل أدركتم معنى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]؟ هذه (لن) الزمخشرية التي تفيد التأبيد في نظر هذا المعتزلي، لن تفعلوا، ويمضي العام والأعوام والقرن والقرون فهل فعلوا؟كلا؛ لأن الله قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24].قالت العلماء: هل في إمكان اليابان الصناعية التي تفوقت الآن في الصناعة، هل في إمكانها أن تصنع آلة أو توجد مصلاً من الأمصال ودواء من الأدوية من تحليلها للكون، وتقول: أتحدى العالم مدة سبعين سنة إذا أنتجوا مثل هذه القطعة أو مثل هذا الدواء، هل يمكن؟ أو أمريكا التي هيمنت على العالم، هل تستطيع أمريكا أن تصنع قطعة أو آلة أو سيارة أو كذا، وتقول: أتحدى العالم لمدة خمسين سنة إذا كان في إمكانهم أن يوجدوا مثل هذه؟ هل يمكن أن تقول أمريكا ذلك؟ ما يستطيعون، أما الله تعالى فقد قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، فهل فعلوا؟ قالت العلماء: جملة (ولن تفعلوا) هذه تدل على أنه كلام الله، إذ لا يقول هذا إنسان أبداً، فهي دالة دلالة قطعية أن هذا الكلام كلام الله، هل فهم السامعون هذه؟إذاً: هذا الكتاب العظيم تحدى الله به الإنس والجن، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] معيناً وناصراً، وتحداهم بعشر سور في سورة هود، إذ قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [هود:13]، يعني: اختلقه وكذبه؟ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، تفضلوا، ما دمتم تقولون: محمد افترى هذا القرآن واختلقه وكذبه فتفضلوا أنتم هاتوا عشر سور. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود:14]، وتحداهم بسورة، فهذا هو الكتاب الذي يجب أن نؤمن به.
معنى قوله تعالى: (وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136]، عرفتم أن إبراهيم أبو الأنبياء، أبو الضيفان، إبراهيم: الأب الرحيم، هل أنزل عليه كتاب؟ نعم، أنزل عليه عشر صحف، والدليل على أن إبراهيم نزل عليه صحف تحمل الشريعة قوله تعالى من سورة الأعلى: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:19]، لا بد أن ينزل الله عليه شرعاً وقانوناً، فهو أسلم ودخل الناس في الإسلام وراءه، فكيف يسوسهم، كيف يحكمهم؟ لا بد من هداية، فهذه مسألة ضرورية.وصحف: جمع صحيفة، وليس معناه ورقة فقط، بل ما كان عندهم ورق، كانوا يكتبون في الجلود والعظام، المهم أنها وحي إلهي يحمل القوانين والشرائع ليسوس بها إبراهيم المؤمنين. وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:136]، من إسماعيل هذا يرحمكم الله؟ معنى إسماعيل بالعبرية: سمع الله، دعا إبراهيم فأعطاه الله تعالى إسماعيل.إذاً: إسماعيل أنزل عليه وحي ونبئ وأرسل في بلاد العرب، ولا بد من وحي ولا بد من إنزال كلام الله عليه.وهنا لم قدم إسماعيل على إسحاق؟ أما قال: وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:136]، لم قدم إسماعيل؟ لأن إسماعيل ولد -والله- قبل إسحاق، وقد مر بنا وبينا خطأ وغلط من يقول: إسحاق كان قبل إسماعيل، واليهود مصرون على أن الذبيح هو إسحاق، وأن إسحاق قبل إسماعيل، وإنهم -والله- لكاذبون، والذي يؤسف له أن بعض علماء التفسير تورطوا في هذا، ويقلد بعضهم بعضاً، ويقولون: الذبيح إسحاق! والله! ما هو بإسحاق، إسحاق أين ذبح: في مكة أو في الشام؟ أما إسماعيل فخرج به إبراهيم من حجره حول الكعبة إلى منى، ومن ثم شرع الله لنا النحر والذبح في منى، فكيف يكون إسحاق؟ ثم إن إسحاق عرفنا أنه دعوة الله لما نزل الضيوف على إبراهيم فبشروه وهو في فلسطين وبشروا زوجته بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب؛ لأنه كبرت سنه وما ولد إلا إسماعيل، وامرأته سارة عقيم عاقر أيضاً، أما دفعتها الغيرة حتى غارت من هاجر ؟ والحمد لله؛ فالسياق هنا يثبت أن إسماعيل كان قبل إسحاق، أما قال تعالى: وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [البقرة:136]، أتدرون من إسحاق هذا؟ هذا ابن إبراهيم ابن سارة عليه السلام، وولد لإبراهيم أيضاً من غير سارة ، لما ماتت تزوج غيرها؛ فولِد له مدين.قال تعالى: وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136]، الأسباط جمع سبط، الأسباط في اليهود كالقبائل في العرب؛ لأن أولاد يعقوب عليه السلام الاثني عشر ولداً على رأسهم يوسف وبنيامين ويهوذا، أولئك الاثني عشر رجلاً، كل واحد تزوج وأنجب وتناسلت ذرية منهم، فأصبحوا قبائل يعرفون بالأسباط، والعرب عندهم قبائل، واليهود عندهم أسباط، إذ كل نبي كان يوحى إليه وينزل الله تعالى عليه وحيه لهداية الخلق وتربيتهم.
معنى قوله تعالى: (وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم)
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى [البقرة:136]، من موسى هذا؟ كلمة موسى أصلها: موشي، ونحن نعرف موشي ديان الذي مات عليه لعائن الله؛ وسر هذه التسمية أنه لما صدر أمر ملكي على عهد فرعون بأن المرأة من بني إسرائيل إذا حملت يجب أن تبلغ أقرب مركز في المدينة بأنها حملت وإلا فستعاقب، ثم بعد ذلك إذا قرب وضعها لا بد أن تعلم المسئولين، وتأتي القوابل ورجال فرعون ينتظرون، فإذا خرج من بطن المرأة ذكر ذبحوه، أو دفنوه في التراب، وإذا كانت أنثى تركوها، لم؟ لأن الساسة أوعزوا إلى فرعون أن سلطانك ودولتك وملكك يزول على يد بني إسرائيل، لم؟ قالوا: هذا شعب كريم له أصالة وله شرف، فما يمكن أن تبقى مسوداً تحكمهم، لا بد أن يطالبوا يوماً ما بالملك والحكم ويسودون. فقال: إذاً: ماذا نصنع أيها الساسة؟ قالوا: الطريق أنك تذبح الذكران، وتترك الإناث للخدمة؛ لأنا في حاجة إليهن، أما الذكور فيذبحون، فمضى عام وعامان وثلاثة وأربعة فقالوا: قلت اليد العاملة، ماذا نصنع الآن؟ قال: إذاً: سنة تذبحون وسنة تعفون عن مواليد بني إسرائيل، شاء الله أن السنة التي فيها العفو ولد فيها هارون، والسنة التي فيها الذبح ولد فيها موسى، والله الحكيم العليم يدبر ما يشاء كيف يشاء: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، بشراك يا أم موسى: وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، لا ينجو من فرعون فقط، وقد تحققت البشرى، إذاً: أوحى الله إلى أم موسى أنها إذا وضعته تجعله في صندوق، فهيأت تابوتاً من خشب وجعلته في التابوت وقالت لأختيه: ارميه في النيل، فجاءوا فما وجدوا شيئاً، وأخذ الماء يلعب به ويعبث حتى وصل إلى القصر، وحول القصر أشجار كما تعرفون، فقالوا: (موشي) أي: بين الماء والشجر، هذا موشي، وجد بين الماء والشجر، فالـ(مو) بالعبرية: بمعنى ماء، و(شي) شجر، واليهود الآن يسمون موشي، لكن في العربية وفي كتاب الله: موسى. فموسى ماذا آتاه الله؟ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى [البقرة:136]، ما قال: وما أنزل على موسى، أوتي من المعجزات الخارقات، ويكفي التسع الآيات، من أعطاه هذه الآيات التسع؟ تسع آيات تعجز البشرية عن أن تأتي بواحدة منها. وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [البقرة:136] أيضاً ما قال: وما أنزل على عيسى، أوتي عيسى زيادة على الإنجيل كزيادة موسى على التوراة، أعطاه الله الآيات فكان ينادي الميت فيقول: لبيك يا روح الله ويخرج حياً. وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ [البقرة:136] وما أكثرهم، هؤلاء هم الذين نؤمن بهم وبما أنزل عليهم، لا نفرق بين هذا وذاك، ولا نقول: هذا نؤمن به وهذا لا نؤمن به، فذلك الكفر بعينه، وهذا تسجيل على اليهود والنصارى أنهم كافرون، ما آمنوا، دعوا إلى أن يؤمنوا، فهل آمنوا بهذا؟ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] من المعجزات الخارقة للعادة، ومن الوحي الإلهي والكلام الرباني.
معنى قوله تعالى: (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة:136]، اليهود ما آمنوا بعيسى، بل ما آمنوا حتى بسليمان، وقالوا: هو ساحر وما هو بنبي، والنصارى فرقوا أيضاً، آمنوا بموسى وعيسى، وما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.والحقيقة هي أن الإيمان لا يتجزأ، لا يقبل التجزئة أبداً، الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، لو قلت: فلان لا أؤمن بنبوته خرجت من الإسلام، والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، لو قلت: أنا مؤمن بكل أولئك، إلا أن هذا الرسول نفسي ما اطمأنت إليه، ولا أستطيع أن أؤمن به؛ فوالله! ما بقيت في الإسلام، وكذلك ما أوحاه الله وأنزله من صحف وكتب، لو قلت: صحف فلان فيها كذا وما نؤمن بها، فوالله! ما أنت بالمسلم، لا بد من الإيمان بكل ما أنزل الله وبكل من أرسله الله ونبأه الله، ومن فرق فما آمن ولا أسلم، وهذه الآية تعليم إلهي: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] قولوا: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، ونحن له، لمن؟ لله، مسلمون قلوبنا ووجوهنا وكل ما طلب منا قدمناه وطرحناه بين يديه، إذ هذا معنى الإسلام.اللهم اجعلنا مسلمين، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (91)
الحلقة (98)
تفسير سورة البقرة (6)
بيّن القرآن جملة من صفات المنافقين وأحوالهم، ومن ذلك أنه ضرب مثلين يبينان تخبطهم وضياعهم في الدنيا ومصيرهم البائس في الآخرة، حيث لا يجدون مفراً ولا مهرباً؛ والسبب في ذلك أنهم فقدوا كل استعداد للاهتداء، فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون، فلذا هم لا يرجعون عن غيهم وكفرهم، فكانت عاقبتهم ماحقة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن ليلتنا هذه كسابقتها ليلة القرآن الكريم، وها نحن مع قول ربنا عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:17-20].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا السياق الكريم نراجع فيه ما سبق أن درسناه ووقفنا عليه وفهمناه إن شاء الله ربنا.
أصناف الناس
عرفنا أن هناك ثلاث فرق: فريق المؤمنين الصادقين في إيمانهم، والذين بشرهم الله بالفلاح والفوز. أي: بالنجاة من النار ودخول الجنة؛ دار الأبرار.والفريق الثاني هم الكفار، وهم صنفان: صنف توغلوا في الكفر والظلم والشر والفساد، فطبع على قلوبهم وعلى سمعهم، وجاءت الغشاوة على أبصارهم، فهم -والعياذ بالله- آيسون من رحمة الله، ولهم عذاب عظيم.وصنف آخر لم يتوغلوا في الكفر والشر والفساد، فهم مستعدون لقبول الإيمان والاستقامة على منهج الرحمن، وبذلك يفوزون مع الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة.ولم قلنا هذا؟ لأن الآية الكريمة تقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] والعلة خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] فهذا نوع من الكافرين توغلوا في الكفر، وضربوا فيه حتى ختم على قلوبهم فمن أين يدخل الإيمان؟! أنذرهم أو لا تنذرهم، خوف أو لا تخوف، أغلق الباب؛ بسببهم هم، أما الله تعالى فحاشاه.والفريق الثالث: هم المنافقون، والمنافقون هم الذين يبطنون الكفر ويخفونه في قلوبهم وفي صدورهم، وينطقون بالإسلام والإيمان بألسنتهم وجوارحهم، وهؤلاء هم شر الخلق؛ فأذاهم وضررهم على الإسلام والمسلمين أكثر من ضرر الكافرين الصرحاء البين كفرهم.
من صفات المنافقين
هنا نتلو الآيات التي نزلت في المنافقين، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:8-11] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12].وقفة: بمَ كان فسادهم أيها المستمعون؟ بارتكاب معاصي الله ورسله.خذوا هذه قاعدة ثابتة: المفسد في الأرض هو الذي يعصي الله تعالى فيها بترك ما أوجب الله وارتكاب ما حرم الله. والمصلح في الأرض والصالح هو الذي يعبد الله تعالى فيها بما شرع.فالإصلاح والصلاح يبقيان على النعمة، والفساد والإفساد هما سبب زوالها. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11] أي: بارتكاب الذنوب والمعاصي قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] لأنهم يبررون تلك الذنوب، فقد تكون اتصالاً بالكافرين وباليهود، فيقول: من أجل الدفع عن البلاد والعباد، قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:12-13] ومعنى هذا أنهم يدعون المعرفة، ويدعون العلم، فإذا قال لهم مؤمن من أقاربهم أو ممن شاهدهم يتخبطون في ضلالهم: آمنوا كما آمن فلان وفلان، والمؤمن ما يرتكب هذه الذنوب، ولا يغشى هذه الكبائر، يقولون: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ؟! إيمان الرجعيين والمتخلفين و.. و.. كما سمعنا؛ لأن هذه الآيات وإن نزلت في المدينة لعلاج المنافقين من اليهود والعرب، إلا أنها عامة خالدة ببقاء هذه البشرية، فتطبق على كل منافق ومنافقة في أي زمان وجد أو في أي مكان كان؛ لأنها آيات الهداية الإلهية، فإذا قرئت على الناس وفهموها ينتفع بها الكثيرون ممن في قلوبهم مرض، فهي خالدة بخلود هذه البشرية إلى أن تنتهي، فلهذا تتنوع الأساليب والعبارات والمعنى واحد. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:13-14] في مجلس من المجالس وفي خلوة من الخلوات وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] من الإنس لا من الجن، من هو الشيطان؟ الذي لا خير فيه، وكله شر، وكل سلوكه وكل قوله وعمله يدعو إلى الشر، هذا هو الشيطان؛ لأن إبليس لعن وأُبلس من الخير كله، وذريته لا خير فيهم البتة، فأيما إنسي أو جني ينسلخ من الخير ويصبح همه .. تفكيره .. قوله .. عمله .. سلوكه .. كله في أودية الشر، فقد أصبح شيطاناً وإن كان اسمه خالداً أو إبراهيم، فالخلو إلى شياطينهم هو أن يتصلوا بأصحاب المؤامرات والباطل، قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فقط بأولئك المغفلين؛ الرجعيين من المؤمنين.قال تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] يعاملهم بالمثل، يستهزئون بالمؤمنين والله عز وجل يستهزئ بهم وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] فلا يفيقون ولا يستفيقون إلى أن يدخلوا جهنم.ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:16] أي: البعداء، فأشار إليهم بلام البعد هنا لبعدهم عن ساحات الخير والفضيلة والكمال والنعيم في دار السلام، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أي: أعطوا الهدى الذي هو الإيمان والاستقامة على دين الله، واستعاضوا عنها الكفر والشرك والعياذ بالله، إذاً: فكيف تكون تجارتهم هذه رابحة؟ قال: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]. فالذي يعطى الإيمان والاستقامة على منهج الحق، ويستبدل بذلك الشرك والنفاق والكفر، يصبح شر البرية والخليقة، فهذا ما ربحت تجارته بل خسرت خسراناً أبدياً، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] في سلوكهم أو في بيعهم وشرائهم، وما اهتدوا إلى سبيل نجاتهم وفوزهم.
تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً...)
ضرب الله تعالى للمنافقين مثلين: مثلاً نارياً ومثلاً مائياً، والمثل في الحقيقة صفة من الصفات، وهو يضرب من أجل تقريب المعاني إلى أذهان المستمعين والذين يتلى عليهم كلام الله.فالمثل الأول يقول تعالى: مَثَلُهُمْ [البقرة:17] في ماذا؟ في خسرانهم، في ضلالهم، في حيرتهم، في تخبطهم، في مصيرهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] جاء بالحطب وأشعل النار من أجل أن ينتفع بها، فيرى الحية إذا جاءته واللص إذا هاجمه، فيرى ما هو في حاجة إلى رؤيته؛ لأن الظلام صعب، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] فلما اتقدت واشتعلت وأضاءت ما حولهم جاءت ريح عاصفة أطفأتها، ومطر غزير أطفأها، وبقوا في الظلام.فهذا مثل المنافقين الذين يؤمنون ثم ينتكسون ويعودون إلى الكفر، فهم يظهرون الإيمان كأنهم مؤمنون، وهم في ظلام الكفر والشرك والعياذ بالله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]. هذه مصيبة عظيمة، فتصور أن أناساً في خلاء والظلام دامس، فلا يعرفون كيف يتحركون، فجاءوا بحطب وأوقدوا نارهم فاتقدت، واستنارت المنطقة، وفجأة يذهب الله بنورهم، ويبقون في ذلك المكان.
تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)
قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] (صم) ما يسمعون، لو ناداهم مناد: أن تعالوا هنا، النجاة هنا، الطريق من هنا! لا يسمعون.(بُكْمٌ) لو أرادوا أن ينادوا من بعيد: ألا من ينقذنا؟ ألا من يدلنا على الطريق؟ لا يتكلمون.(عُمْيٌ) لو كان لهم أبصار فيمكن أن يشاهدوا حركة فينادوا أو يصرخوا.إذاً: خذلوا تمام الخذلان، فلهذا لا يرجعون إلى سبيل النجاة وطريق السلامة والسعادة.وهذا مثل لبعضهم يتناسب مع كل فريق، مَثَلُهُمْ في نفاقهم وكفرهم وترددهم ورجوعهم إلى الباطل بعد مشاهدة الحق، أي: المثل الذي يتلاءم مع واقعهم هو هذا كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] لأجل الانتفاع بها فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] لو بقيت لهم أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم ينطقون، فيمكن أن يخرجوا من الفتنة، لكن فقدوا كل ذلك، وهذا معناه أنهم كفروا وتوغلوا في الكفر كأولئك الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وهذا النوع لا يرجعون فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18].
تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ... )
أما المثل المائي فجاء في قول الله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] الصيب: المطر الذي يصب، ويقال فيه: الصيب، ويقال فيه: المطر، كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19] مطر مصحوب بالظلام، ظلام السحاب وظلام الليل، وفيه رعد قاصف وبرق يخطف الأبصار، حالة من أصعب الأحوال أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] أصوات الصواعق تفزعهم، وتكاد تقتلع قلوبهم، فلهذا يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا صوت الرعد، لم؟ قال: حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:19] خوفاً من الموت، فيحاولون ألا يموتوا بالصواعق التي تنزل، وأنتم تعرفون الصاعقة -أعاذنا الله وإياكم منها- قطعة من النار تسقط على منزل تهدمه، وعلى جماعة تبيدهم وتحرقهم حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] لا مهرب، من أين ينجون والله قد أحاط بهم؟!إذاً هذا المنظر لا يطاق.الخلاصة قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ أي مثلهم كصيب أي: مطر مِنَ السَّمَاءِ من فوق فِيهِ ذلك الصيب أو ذلك المطر ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] محيط بالكافرين اليوم وقبل اليوم، ما قال: والله محيط بهم، سجل عليهم الكفر، وليكن اللفظ عاماً إلى يوم القيامة، والله محيط بكل شيء، فالملكوت كله في يده، وإذا كانت الأرض يجعلها في كف والسماوات مطويات في آخر، إذاً ما بقي من هو خارج عن قدرة الله وإحاطته بالخلق! وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20] والله محيط بكل شيء.إذاً: فمن أين تأتيهم النجاة والمهرب؟!
تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم ...)
قال تعالى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] يكاد ويقرب البرق أن يخطف أبصارهم، وهذا تشاهدونه عند البرق كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] لما يضيء البرق يمشون خطوات، ولما ينتهي يقفون كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] وقفوا، فلاحظ هنا: القرآن الكريم آياته تنزل صباح مساء ويوماً بعد يوم وكل يوم، وتلك الآيات تتلاءم مع هذا المثل.إذا نزلت الآيات تندد بالمنافقين والكافرين، وتنذر وتخوف يكادون يصعقون، وإذا نزلت الآيات فيها انفتاح وانفراج وما تعرضت لهم مشوا في إيمانهم وواصلوا يوماً أو يومين، فإذا ما نزلت الآيات ترعبهم يقفون، وهذا مثل الآيات القرآنية النازلة من السماء مع أنوار الله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19-20] آمنا بالله، إن الله على كل شيء قدير.ما فعلت هذه الآيات في ذلك المجتمع؟ طهرته، نقته، صفته، ومن مات على النفاق كانوا أفراداً معدودين، ومن عداهم دخلوا في رحمة الله، وأسلموا وهم في دار السلام مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ لأنهم عولجوا بهذا النور الإلهي، فلهذا أيما مجتمع قلَّ عدده أو كثر، عرب أو عجم مصاب بهذه الأمراض، فإن علاجه بهذا القرآن الكريم، ولو أن أهل القرية أو الحي اجتمعوا طول السنة والآيات تتلى كأنها تنزل يوماً بعد يوم، فلا بد وأن تطهر قلوبهم، وأن تزكوا نفوسهم، وأن تتغير طباعهم، وتتبدل مفاهيمهم وأذواقهم؛ لأنها سنة الله، فما أنزل هذا الكتاب إلا للشفاء والدواء والعلاج، وتطهير القلوب والنفوس، ولكن إذا ترك المؤمنون أو المسلمون الاجتماع على كتاب الله فما أصبحوا يسمعون آية، ولا يتلى عليهم هذا الكلام الإلهي، وتزداد ظلمات نفوسهم، ويصبح حالهم كالمثل الأخير، فإذا فرج الله عنهم غماً أو كرباً فرحوا وحمدوا الله، وإن جاء الظلام والكرب -والعياذ بالله- انتكسوا!
ضرب الأمثال للمنافقين
هنا نعيد المثلين السابقين متأملين ومتدبرين، فهذان المثالان المائي والناري ضربهما الله للمنافقين الذين توغلوا في الكفر والشرك والنفاق، والذين بين بين، يترددون فيمشون خطوة ويقفون، ولم لا يواصلون المشي؟ لأنهم مرتبطون بنياتهم وأفكارهم وعقائدهم وصلاتهم برؤسائهم من الشياطين.
المثل الأول: المثل الناري
قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] وهذا ينطبق تمام الانطباق على من أصيب بالإلحاد، وعلى من أصيب -والعياذ بالله تعالى- بالشرك والكفر، فزين له الشيطان ذلك، وأغواه دعاة الباطل والشر ففقد نوره من قلبه وبصيرته من نفسه، فينطبق عليه هذا المثل تمام الانطباق: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17] وهل الكفار والمنافقون والمشركون اليوم يبصرون حقيقة؟ نعم هم يبصرون ما تبصر البهائم، فلا هم لهم إلا بطونهم وفروجهم، وهل هذا حقيقة الإبصار؟! فلا يشاهدون شيئاً فيعيشون في الظلام ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]. صُمٌّ [البقرة:18] لا يسمعون، اقرأ عليهم القرآن لا يسمعون، حي على الصلاة لا يسمعون، أن اتقوا الله لا يسمعون .. فالأصم لا يسمع. بُكْمٌ [البقرة:18] لا ينطقون بالمعروف، ولا بالخير، ولا بالفضيلة، ولا بالهدى أبداً، بل لا ينطقون إلا بالخبث، والعبث، والشر، والفساد. عُمْيٌ [البقرة:18] هل شاهدوا آيات الله في الكون؟ فهل نظر أحدهم فقط إلى القمر وقال: سبحان الله؟! من علَّق هذا الكوكب في السماء؟! من سخره ليضيء لنا، ولنعرف أعداد أيامنا وأعوامنا؟! هل نظر أحدهم إلى الشمس وفكر في طاقتها الملتهبة؟ ومن أوجد هذه الشمس؟ لم وجدت؟ لم تطلع وتغيب؟ لم.. لم؟ ما يبصرون.وقد يتناول عنقود العنب فلا ينظر كيف كان، ولم كان، ومن كونه، ولم.. لا سؤال أبداً، لا ينظر إلى نفسه فقط، ما أنت يا عبد الله، ومن أنت، ومن أين أتيت؟ وإلى أين تذهب؟ كيف وكيف وكيف..؟ لا يبصرون، وهذا شأن من على بصره غشاوة من بياض فما يبصر شيئاً. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] ومن أصيب بالصمم أصبح لا يسمع، بالبكم أصبح لا ينطق ولا يسأل، بالعمى أصبح لا يبصر.. كيف يرجع؟ قولوا: كيف يعود إلى بيته أو إلى عمله؟ مثل عجب!
المثل الثاني: المثل المائي
قال تعالى: أَوْ مثل آخر مائي كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ مطر، لكن مصحوب بالرعد والبرق الخاطف والرعد القاصف كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19]، أهله كيف يتحركون؟ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] خوف الموت. الآيات القرآنية تمثل هذا المنظر لما كانت تنزل، وكذلك لو أنها تتلى بحق، ويسمعها البشر وتبلغهم فإنهم يصابون بمثل ما أصيب به المنافقون، والله يخافون وترتعد فرائصهم، ويعودون إلى الحق فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] أينما كانوا، وحيثما وجدوا، وفي كل زمان ومكان الله محيط بهم، فإما أن يطهروا ويكملوا، وإما أن تنزل بهم نقم الله عز وجل، ولا تظن أن أمريكا وأوروبا واليابان والصين سوف يبقون هكذا، والله إن يوماً لا بد منه، ويريهم الله عجائب قدرته.أما من ينتسبون إلى الإسلام فقد يعجل الله لهم العقوبات؛ ليريهم آياته؛ لعلهم يرجعون كما قال تعالى من سورة السجدة: وَلَنُذِيقَنَّه ُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] فإذا أذاقهم العذاب وما رجعوا استحقوا حينئذ الإبادة الشاملة.أما الكفار فيبقيهم، ويملي لهم، ويزيد في أعمارهم، في أولادهم، .. إلى ساعة ما، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31] .قال تعالى: ... وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [البقرة:19-20] هؤلاء يرجى لهم العودة، وعادوا بخلاف النوع الأول، فلهذا دخلوا في الإسلام، وقلَّ من مات من المنافقين على النفاق والكفر؛ لأن هذه الآيات تنزل أنواراً من السماء، وهم عرب يفهمون لغة القرآن، فدخلوا في رحمة الله نساء ورجالاً وأطفالاً، وإنما اليهود قلَّ من دخل منهم في رحمة الله؛ لعلة عرفناها وهي الشعور بأنهم أكمل الناس، وأنهم أبناء الأنبياء، وأن لهم شأناً ومنزلة عند الله، فغرر بهم رؤساؤهم فرفضوا الإسلام؛ خشية ألا يبقى لهم أمل في مملكة بني إسرائيل وإعادة مجدهم كما كانوا أيام الاستقامة على منهج الله على عهد داود وسليمان ومن بعدهم.وهنا قد يسأل السائل عن الرعد: جاء في التفاسير منهم من يقول: الرعد هذا صوت ملك، والبرق شرر يتطاير من فمه؟ والله ما ذكر هذا، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم فسر بهذا التفسير، وهذا منقول ومأثور عن بني إسرائيل، فالرعد صوت إذا سمعناه ينبغي أن نقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وبهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.أيها المؤمن! أيتها المؤمنة! إذا سمعت صوت الرعد فقل: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، الرعد يسبح، والنمل يسبح، وليس الرعد فقط! وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] ليس التسبيح خاصاً بالرعد، وإنما لما نسمع هذا الصوت المدوي، المتكون من السحب المتراكمة هنا نقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة يسبحون من الخوف منه يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] فكيف إذاً بالبشرية، لم لا تسبح ربها؟ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته!فهذا الصوت ليس صوت الملك، والملك ما هو ذات كذواتنا حتى يكون له صوت هو هذا الرعد، نعم لو نطق ملك من الملائكة، قد يكون له صوت إذا أراد الله أن يسمعنا أسمعنا، وجبريل كان ينزل في صورة إنسان ويسمعون كلامه، والرسول يفتيه ويجيبه، لكن ما دام على هيئته الملكية الخاصة لا يمكن أن نسمع له صوتاً. الآن الملائكة معنا ويكتبون هل نسمعهم؟ فلم نسمع صوت الرعد فقط ونقول: ملك؟! هذا الدوي نتيجة الاحتكاك بين السحب المتراكمة.وأما البرق قد عرف أخيراً بالسالب والموجب من الكهرباء، فالاحتكاك بين تلك الجزيئات يحدث هذا، الآن احتكاك بالسلكين، هذا سالب وموجب يوجد النور.نعم. يجب أن نؤمن إيماناً يقينياً أن الرعد والبرق من فعل الله عز وجل، كما كل الكون والمخلوقات من فعل الله وخلقه وتدبيره، وإذا سمعنا الرعد وصوته نخاف ونخشى أن تنزل بنا صاعقة.الآن أوجدوا للبلاد التي يكثر فيها الرعد والصواعق آلة يجعلونها في أعلى مكان تبعد الكهرباء وتسلبها، فما تنزل الصاعقة.وكل ما في الأمر أننا نقول: صوت الرعد ليس بصوت ملك، ونكذب على الله وعلى الملائكة لو قلنا ذلك؛ إذ لو كان صوت ملك ما سكت الرسول صلى الله عليه وسلم ولبينه ولقال لنا، وضرب المثل، فما دام النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر هذا فما نلتفت إلى روايات يذكرها الناس أو فلان في التفاسير محكية عن بني إسرائيل كـابن منبه وغيره.إذاً: والبرق هذا فعل الله عز وجل، ونحن الآن نشعل النار في السعف أو لا، في الحطب؟ نحك الصخر على الصخر فتشتعل النار، وحجرين تحكهما على بعضهما البعض فتشتعل النار، فهذا الاحتكاك في تلك الأجرام يوجد هذا النور أو النار.والواجب الذي نحن أهله إذا سمعنا صوت الرعد أن نخاف، ولا بأس من الله عز وجل أن يعاقبنا بذنب من ذنوبنا، فتنزل صاعقة علينا، فنفزع إلى الله ماذا نقول؟ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته .. سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وتبقى قلوبنا معلقة بربنا، فهو الذي يدفع المكروه عنا، وهو الذي يقينا العذاب ويحفظنا مما يؤذينا؛ إذ هو مفزعنا وملاذنا بخلاف الكافرين، إلى من يفزعون؟ إلى من يلجئون؟ خسران كبير، فما عندهم مفزع، ولا ملجأ، ولا ملاذ، فانظر الفرق بيننا وبينهم، نحن أحياء وهم أموات.
علامات المؤمن والمنافق والكافر والفاسق
معاشر المستمعين! انتهى الحديث عن الفرق الثلاث، وقد ذكرت لكم قاعدة حاولوا أن تحفظوها، وخاصة طلبة العلم، ما هي؟
علامات المؤمن
لو قلنا: ما هو الإيمان الصحيح لنكون من الفرقة الأولى؟ قالت العلماء: الإيمان الصحيح هو اعتقاد الحق في القلب، والعربنة عليه بالنطق: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والبرهنة عليه والتدليل بالعمل. فهذا هو المؤمن المبشر بالجنة، والمبشر بالفوز والنجاة في الدنيا والآخرة.اعتقد الحق لا الباطل، وما أكثر المعتقدين للباطل، ويظنون أو يعتقدون أنه حق، فنحن نعتقد الحق الذي علمناه الله ورسوله، وهو أولاً: أنه لا إله إلا الله، لا عيسى ولا البتول، ولا جبريل، ولا عبد القادر ، ولا الملائكة، ولا كائن يستحق أن يؤله بالعبادة إلا الله، لم؟ لأنه هو الخالق، الرازق، المدبر، هل من خالق غير الله؟ والله لا يوجد، ودلونا على من خلق بعوضة .. ريشة في طير .. شعرة في آدمي أو حيوان؟ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فما دام لا خالق، ولا رازق، ولا مدبر الحياة إلا هو، إذاً قل: لا إله إلا الله، واعتقد هذا الحق، هذا اعتقاد حق أو باطل؟! اعتقاد حق. أشهد أن محمداً رسول الله.. هذا الاعتقاد حق أو باطل؟ حق، كيف؟ هذا كتاب الله أين يُذهب بعقول البشر، ولولا أن الله تعالى أرسله ونبأه كيف يوحي إليه كتابه؟ وهذا الكتاب ليس رسالة أو صفحة، هذا الكتاب قل الآن للإنس والجن: يتلاءمون ويجتمعون على أن ياتوا بسورة من مثله، فما هو مجرد كتاب حوى علوم الكون كله، الدنيا والآخرة، ومن ارتاب أو شك فما زال التحدي قائماً: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] هل فعلوا بعد ألف وأربعمائة سنة وزيادة ما فعلوا، ولن يفعلوا، حتى لو أرادوا واستطاعوا يختم الله على قلوبهم، يختم الله على ألسنتهم، يفقدهم عقولهم ونطقهم ولن يأتوا، وَلَنْ تَفْعَلُوا.إذاً هذا الكتاب العظيم؛ القرآن الكريم حفظه النساء والرجال في صدورهم أربعة عشر قرناً، يحمل الهدى والخير والنور والإصلاح، ولم تعرف الدنيا قط كتاباً أسمى ولا أعز من هذا الكتاب، ومن أين جاء هذا الكتاب؟ أنبتته الشجرة، أو رمى به البحر، أو وجد في جبل! كيف هذا الكتاب؟!والبشري جيلاً بعد جيل تشهد أن هذا القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يكون رسول الله؟ أين يذهب بالعقل البشري؟ نعم عرفوا وأنكروا حتى لا يدخلوا في رحمة الله.إذاً: أشهد أن محمداً رسول الله، هذا هو اعتقاد الحق، وأنك تؤمن وتصدق بكل ما أمرك الله أن تؤمن به وتصدق بالكتب، والرسل، والملائكة، والقضاء والقدر، وكل ما أخبر الله تعالى به، صراط على ظهر جهنم تجتازه البشرية، آمنا، عالم الشقاء تحتنا، عالم السعادة فوقنا، أخبر الله، أخبر رسوله! آمنا، اعتقدنا الحق فقلنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.ثم برهنا البرهنة القوية أننا نعبد الله الذي شهدنا له بأنه لا إله إلا هو، ونتبع رسوله، ونقوم بسنته وشرعه؛ لأنه رسول الله فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وصمنا رمضان، وحججنا البيت الحرام، وجاهدنا ساعة الجهاد، وأمرنا بمعروف ونهينا عن منكر، وحرمنا ما حرم الله من الكلمة والنظرة، وأحللنا ما أحل الله من ذلك، فهذا تدليل واضح على صدق اعتقادنا الحق، هذا هو المؤمن.
علامات المنافق
ثانياً: الذي لا يعتقد الحق الذي عرفتموه، لكنه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويؤتي الزكاة ويفعل ما يفعل المؤمنين، وهو لا يعتقد الحق، فهذا هو المنافق الذي أبطن الكفر وأخفاه في نفسه فاعتقد الباطل قطعاً، وعربن بلسانه فينطق بالشهادتين ويصلي مع المسلمين، ويصوم معهم من أجل الحفاظ على حياته، وعلى ماله ووجوده، هذا إيمان المنافقين، هذا المنافق.
علامات الكافر
أما الذي يعتقد الحق ولا ينطق به كاليهود وبعض النصارى فعرفوا أنه لا إله إلا لله محمد رسول الله يقيناً، ولكن ما ينطقون؛ إذ لو نطقوا لدخلوا في الإسلام، فهذا الذي يعتقد الحق ولا يعربن عليه، ولا يعرب عنه، ولا يبينه .. هذا كافر؛ إذ الدخول في الإسلام يكون بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله على علم.إذاً الذي يعتقد الحق ويعرف الدار الآخرة، ويعرف الصراط، والميزان، والجنة، والنار، كاليهود والنصارى يعرف أن محمداً رسول الله، وأن الله الإله الحق ولا ينطق؛ لأنه إذا نطق فمعناه أنه خرج من دينه وملته وأهله؛ لأنهم سيبعدون عنه، فيؤثر الدنيا على الآخرة، هذا هو الكافر، فإن كان لا يعتقد الحق، ولا ينطق به، ولا يعمل فهذا أسوأ كافر.
علامات الفاسق
يبقى من يعتقد الحق ويعرب عنه بالشهادتين، ولا يدلل عليه بالأعمال الصالحة، وهذا نسميه الفاسق.إذاً: عندنا مؤمن، وكافر، وفاسق. فالكافر ميئوس من رحمته، والمؤمن مرجو سعادته وكماله، والفاسق بين بين، فلا نحكم عليه بخلود في النار ولا بدخول الجنة، نتركه إلى الله عز وجل، ولكن إذا مات على اعتقاد الحق والإعراب عنه -انتبهتم- نرجو أن ينجو من عذاب الله، على الأقل من الخلود في النار.
المبادرة بالتوبة
الاستمرار والمتابعة في الذنوب والآثام قد يصل بالعبد أن يموت على غير الإسلام.انتبهوا! السيئة تلد سيئة، والحية لا تلد إلا حية، فالذي يواصل الآثام والذنوب يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، من الجائز أن يختم على قلبه، ويموت على سوء الخاتمة.فلهذا واجب كل مؤمن ومؤمنة ألا يبيت على ذنب، وإذا أحدث الذنب تاب على الفور، وهذه قاعدة عامة: التوبة تجب على الفور، ولا يحل أن تقول: إذا جاء الحج أو جاء عمي أتوب، أو إذا تزوجت أتوب، أو إذا توظفت أتوب، أو إذا تخرجت من الجامعة أتوب.. إياك من هذا، فإذا أذنبت ووقعت في الذنب على الفور: أستغفر الله وأتوب إليه، فإن هذا الإرجاء والتسويف والتأخير قد تكون عاقبته سيئة، والذنب على الذنب يصيب العبد بالظلمة فينكر حتى وجود الله والإسلام.ولنقرأ هذه القاعدة التي سبق أن عرفناها؛ إذ يقول تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] لا من بعيد، لم هذا الحذر؟ لما علمتم، يوالي المعصية ويكررها حتى تصبح تلك المعصية هي مبتغاه ومطلبه.وعلى سبيل المثال الذين يدخنون، ونترك الآن التدخين فقد انتهينا منه، وما بقي من يدخن إلا نادراً أو لا؟ الحمد لله نجتمع في مجلس ضيافة فيه ستون رجلاً ما واحد يدخن، الحمد لله.لكن نضرب مثلاً بالذين يتعاطون المخدرات: الأفيون، الكوكاين، الحشيشة .. بلغنا أنه إذا أدمن عليها أياماً أو أشهراً أو عاماً فإنه لا يستطيع أن يتركها، ولا يقدر أبداً، وكذلك الذي يواصل اللواط أو الزنا أو السرقة، أو كذا من هذه الكبائر أيضاً يخشى عليه ألا يتوب إذا واصل فترة من الزمن. فالحذر الحذر، كلنا خطاء وخير الخطائين التوابون، ونحن ضعفة لسنا بمعصومين كالأنبياء والرسل، لكن واجبنا إذا فعلت سيئة على الفور امحها بكلمة: أستغفر الله، مع دموعك وعزمك ألا تعود إليها يمح أثرها، وهذه سنة الله عز وجل إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] ما هو السوء؟ الذي يسيء إلى نفوسهم بالظلمة، والراحة الكريهة، والعفن وهو السيئة. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17] عليماً بخلقه، حكيماً في قضائه وشرعه، هذا أهل لأن يتوب الله عليه، بخلاف الذي واصل الذنب واصل .. واصل.. فأصبح طبعاً من طباعه، وخلقاً من أخلاقه.ثم يقول تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18] لا توبة، إذا شاهدت ملك الموت يقرب منك وأعوانه انتهت التوبة، فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الإخبار بالواقع: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) ما لم تحشرج في الحلق، فإذا حشرجت في الصدر، وشاهد ملك الموت لم يبق له توبة تقبل منه ولا تصح، وليس معنى هذا أنك تملك أن تؤخر الذنب إلى ساعة الموت بيوم أو بساعة، من يملك هذا؟ لا أحد تحت السماء يقول: في استطاعتي أن أتوب قبل موتي بأسبوع أو بيوم، هو يعرف متى يموت؟! فهذا الباب مغلق، وما يبقى إلا باب الله فكلما أذنب أحدنا ذنباً على الفور وقع على الأرض يبكي بين يدي الله، وقام يصلي.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال: [شرح الكلمات:مثلهم: صفتهم وحالهم.استوقد: أوقد ناراً.صمٌ بكم عميٌ: لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون.الصيّب: المطر.الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر.الرعد: الصوت القاصف يسمع حال تراكم السحاب ونزول المطر.البرق: ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر.الصواعق: جمع صاعقة: نار هائلة تنزل أثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء.حذر الموت: أي: توقياً للموت]، لما يجعل أصابعه في أذنيه خوف.قال: [محيط: المحيط المكتنف للشيء من جميع جهاته.يكاد: يقرب.يخطف: يأخذ بسرعة. أبصارهم: جمع بصر وهو العين المبصرة].
معنى الآيات
قال: [معنى الآيات: مثل هؤلاء المنافقين فما يظهرون من الإيمان مع ما هم مبطنون من الكفر مثلهم كمثل من أوقد ناراً للاستضاءة بها، فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون؛ لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي، وبما يضمرون من الكفر إذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل شيء حتى أنفسهم، هذا المثل تمضنته الآية الأولى (17).وأما الآية الثانية (18) فهي إخبار عن أولئك المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به ولا أعينهم تبصر آثاره؛ وذلك لتوغلهم في الفساد، فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان بحال من الأحوال.وأما الآية الثالثة والرابعة (19) (20) فهما تتضمنان مثلاً آخر لهؤلاء المنافقين، وصورة المثل العجيبة والمنطبقة على حالهم هي مطر غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف، وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا، ولم يجدوا مفراً ولا مهرباً؛ لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه، وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم؛ لأنه تعالى على كل شيء قدير. هذه حال أولئك المنافقين، والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات، وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد، وبالحجج والبينات وهي كالبرق في قوة الإضاءة، وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وإزاحة الستار عنهم فيؤخذوا، فإذا نزل بآية لا تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا في إيمانهم الظاهر، وإذا نزل بآيات فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه، وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولو شاء الله أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل؛ لأنهم لذلك أهل، وهو على كل شيء قدير].
هداية الآيات
قال: [ من هداية هذه الآيات ما يلي:أولاً: استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان]. فيستحسن أن يمثل الإنسان لأخيه حتى يفهم، فيضرب له مثلاً.قال: [ثانياً: خيبة سعي أهل الباطل وسوء عاقبة أمرهم.ثالثاً: القرآن تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر.رابعاً: شر الكفار المنافقون]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (92)
الحلقة (99)
تفسير سورة البقرة (60)
إن جدال اليهود والنصارى ليس مبنياً على حجة، وتفاخرهم فيما بينهم ليس له شاهد من واقع، إنما هو محض افتراء على الله وتألٍ عليه سبحانه، فلا اليهودية مقبولة عنده سبحانه، ولا النصرانية مرضية عنده عز وجل، فلا بد لهم من أجل نيل رضا الله من الدخول فيما دخل فيه المؤمنون، من إيمان بعقيدة التوحيد، ودخول تحت راية الإسلام الصافي، حتى يتجنبوا ما أعده الله للمؤمنين من الوعيد.
حكم التمسح والتبرك بمنبر المسجد النبوي
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:137-139].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! وقف إلى جانبي شيخ كبير يقول: إن منكراً شاهده بالمسجد النبوي، فلم لا يغير هذا المنكر، فما هو؟ قال: إن المنبر الذي يخطب عليه إمام المسجد يوجد به حلق أو كذا يرى الناس يتمسحون بذلك ويضعون أعينهم عليه متبركين.فالجواب: هؤلاء عجم، وليسوا بعرب، لو كانوا يعرفون لساننا لجلسوا إلينا ولبينا لهم الطريق، وعلمناهم الهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن علماءهم غشوهم وما نصحوا لهم، فما عندنا حَجَر في العالم ولا حلقة باب ولا عتبة ولا جدار نتمسح به ونتبرك سوى الحجر الأسود، وكل تمسح وكل تبرك بالجدران بالقباب بالحجارة هو من عمل أهل الجاهلية وليس من الإسلام في شيء، ما عندنا إلا الحجر الأسود، والركن اليماني نضع أكفنا هكذا عليه فقط، اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحجر الأسود يقبل، من استطاع أن يقبله بفيه فليفعل، وإذا ما استطاع فليضع يده عليه ويقبلها، فإن عجز فإنه يشير إعلاناً بأنه عجز، وما عدا ذلك فما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء نقبله أو نتمسح به أو نتبرك قط، لكن الجهل الذي غشينا وغطانا، وأصبح كالليل المظلم فوقنا منذ قرون ليس منذ قرن واحد، تركنا في هذا التخبط والحيرة، ولو قلت لهذا المسلم: هذا لا يجوز فإنه يغضب، وإن قلت: هذا ممنوع حرام فلن يفهم، فماذا تصنع؟ أتتقاتل معه؟ لا يحل ذلك عندنا؛ لأنه يريد الخير، ولكن ما عرفه، ويأثم لأنه ما سأل أهل العلم.
وجوب العلم بحكم العمل قبل الإقدام عليه
وأعيد ما سبق أن ذكرت، واحفظوا وبلغوا إن كنتم تريدون الملكوت الأعلى، إن كنتم تؤمنون بالجنة دار السلام والانتقال إليها بعد الموت، اعلموا أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، فلا يعتقدن عقيدة في نفسه حتى يسأل أهل القرآن والسنة: هل هذه العقيدة مما شرع الله ورسوله أم لا؟ فإن قالوا: نعم، قال: إذاً: أعتقد. وأصر عليه حتى الموت، وإن قالوا: هذا المعتقد باطل لا وجود له في كتاب الله ولا في هدي رسوله صلى الله عليه وسلم فيجب عليه أن يغسل قلبه منه، وأن ينحيه من نفسه بالمرة؛ لأنه يريد الملكوت الأعلى، ولا يقول قولاً ولا يتكلم بكلمة حتى يعرف هل أذن الله فيها أو لم يأذن، أتعبدنا الله بهذه الكلمة أو لم يتعبدنا، فإن عرف أنها من دين الله وأن الله شرعها في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم قال الكلمة وحافظ عليها، فإن قيل له: هذه ليست بدين ولا بعبادة شرعها الله فإنه لا يقولها أبداً، ولو هدد ولو توعد بالسجن والضرب فإنه لا يقول الباطل، ولا يأكل لقمة حتى يعرف هل أذن الله في هذا الطعام أو لم يأذن، ولا يشرب شراباً حتى يعلم آلله أذن فيه أو لم يأذن، بل ولا يمشي مشية حتى يعلم آلله أذن في هذا النوع من المشي أو لم يأذن. ولو أخذ المسلمون بهذا المبدأ في قرية من القرى فقط فلن يحول الحول عليهم إلا وهم علماء، ولكن ما نبالي أوقعنا في الحلال أو الحرام، أصبنا أم أخطأنا، نأتي ما تمليه نفوسنا، وما تزينه شياطيننا، فغرقنا في ظلمات الجهل والإثم، فمن ينقذنا، من يمد يده إلينا؟ أما الله فقد بين، وحسبنا أن أنزل كتابه وبعث رسوله ودعا رسوله ثلاثاً وعشرين سنة، ما مات وترك شيئاً تحتاجه الأمة إلا بينه، ونحن الذين أعرضنا، فماذا نصنع؟
وقت انغلاق باب التوبة
والآن ما زال الحجاج مع اليهود والنصارى، ما زال الصراع والنزاع والجدال والخصومة مع اليهود والنصارى إلى أن تطلع الشمس من مغربها، ومن ثم ينتهي كل شيء، وهل ستطلع الشمس من المغرب؟ إي ورب الكعبة، يختل فلكها ويضعف، فترجع إلى الوراء، ونراها قد طلعت من المغرب، ومعنى ذلك أن المؤمن مؤمن والكافر كافر، والبر بر والفاجر فاجر، والمتقي متق، والفاسد فاسد، أغلق باب التوبة، باب التوبة مفتوح لا يغلق إلا عند ما تغرغر النفس في حال نزعها، إذا غرغرت أغلق باب التوبة على هذا المريض، ثم طلوع الشمس من مغربها، إذا لاحت في الأفق من الغرب علمنا أن باب التوبة أغلق، واقرءوا لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، والله! لهذا الحديث خير من ملء الأرض ذهباً، فأوساخ الدنيا لا قيمة لها، فلم نسمعه ولا نحفظه، ما المانع فيه؟ هل ندفع غرامة؟ نؤخذ به في الشارع فيقال: هذا حفظ حديث الرسول فاضربوه؟ والله ما كان، وإنما ليس عندنا استعداد كما لم يكن لآبائنا ولا لأمهاتنا ولا لأجدادنا، ما عندنا استعداد أن نعلم لنصل إلى دار السلام، وإلا فهذا الحديث كرره، هو حديث صحيح، فبلغه أهلك إخوانك، ما هو؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، والغرغرة: صوت متغير، إذا بلغت الروح الحلقوم تغير الصوت؛ لأنها ارتفعت من الرجلين ومن الصدر ووصلت إلى الحلقوم ولن تعود، آن أوان الفراق.وفي الآية الكريمة من سورة الأنعام يقول تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام:158] فيؤمنوا، من هؤلاء؟ المتباطئون، المترددون، ما منعهم من الإيمان؟ ماذا ينتظرون؟ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158]، إذا جاء الله آمنوا، فهل ينفع الإيمان في ذلك الوقت؟ لا ينفع، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، بعضها فقط لا كلها، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158] الدالة على قرب الساعة ونهاية هذه الحياة الدنيا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فاسق، فاجر، ضائع، مؤمن رأى الشمس تطلع، وأراد أن يكتسب خيراً فلا يقبل منه، لا صدقة ولا صيام ولا صلاة ولا طهر ولا صفاء. فقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، هذا في حياة الفرد، وفي حياة الجميع: إذا طلعت الشمس من مغربها، فالمؤمن مؤمن، والكافر كافر، والبر بر، والفاجر فاجر، والمستقيم مستقيم، والمعوج معوج، ما السر؟ لأن هذه العبادة تنتج الطاقة وتولدها عندما كان العبد يؤمن بالغيب، أما وقد انتهى الغيب وأصبحنا في عالم الواقع والشهادة فتلك العبادة ما تزكي نفسك ولا تطهرها.
الرد على اليهود والنصارى في الدعوة إلى اليهودية والنصرانية
معاشر المستمعين والمستمعات! مع السياق الكريم، يقول تعالى: فَإِنْ آمَنُوا [البقرة:137]، من هؤلاء؟ اليهود والنصارى، إذ قال في السياق قبل ذلك: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، هذا نقوله نحن لأنفسنا ونقوله لهم وهم يخاصموننا، إذ قالوا: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، قالوا لنا هذا ويقولونه إلى الآن، ففي حضرة النبي صلى الله عليه وسلم قال وفد نجران واليهود: كونوا يهوداً أو نصارى تهتدوا! وكأن الهداية محصورة في اليهودية والنصرانية، والله ما فيهما هداية، ومن قال: لم؟ قلنا: أرنا هداية في النصارى؛ بل الزنا والعهر والفجور والربا وسفك الدماء والتلصص والخنا والدعارة، فأين الهداية، فهل توجد هداية عند النصارى؟ وأين الهداية عند اليهود؟ أفظع الجرائم يرتكبونها، فأين الهداية، أين القوانين التي تسود البشرية وتقودها تتجلى فيها الرحمة والعدل والإحسان والخير والطهر والصفاء؟ هذا لن يوجد إلا في الإسلام دين البشرية العام. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، نهتدي إلى ماذا؟! والله يقول لنا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ [البقرة:136]، لمن؟ لله، مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، هل أسلم اليهود اليوم وقبل اليوم قلوبهم لله، هل أسلموا لله وجوههم، هل أسلم النصارى لله قلوبهم ووجوههم؟ إنهم ما عرفوا الله، إنهم يعبدون الشيطان الذي وضع لهم الثالوث، أين هم من الإسلام وإسلام القلوب لله؟ مخدوعون مغرر بهم مضللون، تائهون في صحاري الباطل وأودية الضلال.
وجوب القيام بدعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام
ولكن نحن أيضاً مسئولون عنهم، نحن خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم، متى نحمل رايته ونقود المؤمنين إلى أن يصلحوا العالم وينقذوا البشرية من ضلالها؟ لقد فعلنا ذلك ثلاثة قرون، وانتشر النور في العالم، وبلغ أقصى الشرق والغرب، ولكن هم تآمروا علينا وتكاتفوا ضدنا، وكونوا ثالوثاً أسود من المجوس واليهود والنصارى، وضربونا تلك الضربة فهبطنا، فهم المسئولون عن شقاوتهم، فرقوا كلمتنا، مزقوا دولتنا، شتتوا جماعتنا، نفخوا فينا روح الباطل والشر والتحزب والتكتل والإقليمية والعصبية والمذهبية، فتركونا كالجثث الهامدة، فهل نستطيع أن ننقذهم؟ لا نستطيع، فقد قتلونا. ولكن أما نحيا؟ إن الروح موجودة، ولو ضاعت لكان لنا عذر، فالروح -والله- ما زالت، فهل تدرون ما الروح أيها المستمعون والمستمعات؟ إنه القرآن الكريم، كتاب الله رب العالمين، واقرءوا لذلك قول الله تعالى وقوله الحق: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فوالله الذي لا إله غيره! لا حياة بدون روح، ولا هداية بدون نور، هل يوجد تحت السماء من ينقض هذه الحقيقة، فيقول: نعم توجد حياة بدون روح؟ فليثبت ذلك ولو في البعوضة، فوالله! ما كان. وهل توجد هداية بدون نور؟ الماشي في الظلام هل يهتدي إلى حاجته، هل يصل إلى منزله، إلى بغيته؟ لا والله، والقرآن هو الروح، وهو النور، أخبر بذلك منزله الذي تكلم به، وأوحاه إلى رسوله، القرآن روح ونور، فلا حياة بدون روح، ولا هداية بدون نور، وهل لذلك مثل؟ الجواب: نعم، فالعرب ذرية إسماعيل وإخوانهم القحطانيون كانوا أمواتاً، كانوا في ضلال عظيم، لا تسأل عما كانوا فيه وعليه، يعبدون الأصنام والأحجار، يعبد الرجل حجرة من الحجارة ثم يستبدل بها أخرى، كانوا أمواتاً فبم أحياهم الله؟ بالقرآن حيوا، أصبحوا مضرب المثل في الكمال البشري، ووالله! ما اكتحلت عيون الوجود بأمة أطهر ولا أصفى ولا أرحم ولا أعدل من تلك الأمة في قرونها الذهبية: الصحابة وأبناؤهم وأبناء أبنائهم، ما عرفت الدنيا أبداً أكمل ولا أشرف من أولئك، وإن ضلل المضللون تاريخهم وغطوه بالأباطيل والترهات، ولكن الواقع واقع، والله! ما عرفت الدنيا أمة أكمل ولا أعز ولا أطهر ولا أصفى من تلك الأمة، بم؟ بالبلشفية الحمراء؟ بالديمقراطية الهابطة؟ باليهودية المبتدعة؟ بالنصرانية الهالكة؟ بالمجوسية الممزقة؟ بم؟ بالقرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة للقرآن؛ إذ عهد إليه ربه بأن يبين: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلا غنى عن رسول الله أبداً، ولا تفهمن دين الله بدون رسول الله، فهو المبين المفسر.إذاً: هم الذين فعلوا بنا ما فعلوا، فهل من عودة؟ نحتاج إلى تربية ربع قرن، خمس وعشرين سنة، لو نأخذ في تربية أنفسنا خمساً وعشرين سنة فإنه يهلك من يهلك وينشأ النشأ المبارك، وفي استطاعتهم بإذن الله أن يحولوا العالم إلى كتلة من نور، وسيأتي هذا أحببتم أم كرهتم، أحب الخصوم أو كرهوا، حلف رسول الله أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، فلا يبقى يبت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل، والآن العالم يتخبط يبحث عن المخرج، وخمت الدنيا وتعفنت بالخبث والباطل والشر والفساد، فمن يطهرها؟ بأي وسيلة، بأي منهج أو مبدأ؟ لا وسيلة إلا الإسلام.
طريق العودة إلى الله تعالى لهداية العالم وسيادته
وقد قلنا غير ما مرة: هيا بنا نراجع الطريق، وبسهولة وبيسر، لا كلفة، لا مشقة أبداً، فما الطريق؟ الجواب: أهل القرية المسلمة -سواء كانت في رءوس الجبال أو في السهول- يتعهد أهلها وهم مسلمون ولو صورياً، يتعهدون بأن ينزلوا بيت ربهم كل ليلة، من غروب الشمس إلى أن يصلوا العشاء وهم في المسجد بيت ربهم مع نسائهم وأطفالهم ورجالهم.أعيد فأقول: العودة هي أننا نلتزم في صدق، في جد وحزم أن لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن بيت الرب في القرية، ذلك الجامع الذي يجمعنا، وكل ليلة نتلقى فيه الهدى من الكتاب والحكمة، وكذلك المدن ذات المناطق أو الأحياء المتعددة، ويقال لشيخ الحارة أو عمدة الحي: يا صاحب المكانة! قل لأهل حيك هذا: لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن المسجد إلا مريض أو ممرض للضرورة، الكل في بيت الرب، ومن المغرب إلى العشاء يتلقون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.معاشر المستمعين -وفيكم العلماء والفحول والبصراء والساسة-! هل هذا العمل يوقف دولاب الحياة؟ هل تكسد التجارة، تتعطل الزراعة، تنتهي الصناعة؟ ما الذي يصيب الأمة من كونها تتفرغ من المغرب إلى العشاء لتتلقى الكتاب والحكمة، ما الذي يحدث، ما الذي يحدثه هذا التفرغ بين المغرب والعشاء؟ والله! أنه لتنمو معه التجارة، ويبارك الله في الصناعة، ويبارك في الزراعة، وما ينقص شيء، والله! لتتضاعف النتائج. ولما نجتمع في بيت الرب اجتماعنا هذا سنة واحدة كيف تصبح قلوبنا وأرواحنا، هل تطهر أو لا؟ هل تزكو أو لا؟ وإذا زكت الأرواح وطابت النفوس هل يبقى شح بيننا، هل يبقى بخل فينا، هل يبقى خبث عندنا، هل يكون هناك من يفكر أن يفجر بامرأة أخيه، أو من يتسلط على أخيه يضره ويؤذيه؟ والله! ما يكون. وينتهي السرف وحب الدنيا والشهوات، ووالله! ليتوافرن المال فماذا يصنعون به؟ وأقول: والله العظيم! لن ترتفع لنا راية ولن نسود العالم إلا بالعودة إلى هذا المنهج المحمدي، هذه مسألة سهلة أو صعبة؟ ما المانع إذاً حتى نصبح علماء ربانيين؟
مقترح بتكوين لجنة إسلامية ممولة لمتابعة أحوال المسلمين
وأخرى أعلنها أيضاً لعلكم تنقلونها، وما عندنا من ينقل، وإن نقل فإنه ينقل الخطأ، إذا أخطأ الشيخ فيا ويحه، لا يبيت الخطأ إلا في الشرق والغرب، كأننا لا نرصد إلا الخطأ، فلا تعجب؛ فمن ربانا، وفي حجور من تعلمنا؟أقول: الآن الفرصة ذهبية، لو تكونت لجنة عليا للإسلام يساهم فيها كل بلد إسلامي، هذه اللجنة العليا تضرب ضريبة على كل مؤمن يدفعها، سواء شهرية أو سنوية، فتوجد ميزانية للإسلام هي أكبر ميزانية في العالم، لم؟ لأنه يسهم فيها ألف مليون مسلم، ثم بعد ذلك تكون لجنة أخرى تطوف العالم، تزور اليابان والصين وأمريكا وأوروبا، وتتعاهد الجمعيات الإسلامية، وتعرف موطن كل جماعة وما هي فيه وما هي عليه، مع سرية كاملة، لا تبجح ولا إعلانات، ثم تتولى إنفاقاً حقيقياً على تلك الجمعيات الموجودة في العالم الكافر، تقدم الكتاب الذي يجب أن يجمع القلوب ولا يفرقها، وتبعث بالإمام والمربي الرباني الذي يربي ويزكي النفوس ويعلم الكتاب والحكمة، وهكذا، فما هي إلا فترة وإذا بتلك الجاليات عبارة عن كواكب من النور، عبارة عن كواكب نورانية، إذ ما يبقى بينهم من يسرق أو يفجر أو يكذب أو يجهل أو يقلد الباطل أو يمشي في ركاب الظالمين، ويوم يتم هذا فسوف تشاهدون الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. والفرصة متاحة، فقد بلغنا اليوم أن بفرنسا ألف مسجد، فلو أن هذه اللجنة الإسلامية العليا التي يجب أن تكون نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخذ في نشر الإسلام بالتي هي أحسن والدعوة الربانية، وقد وجد من يحملها، لا يوجد في أمريكا ولا اليابان ولا الصين مكان خالٍ من مسلم ومسلمة، فقط يحتاجون إلى أن يصبحوا نورانيين لينيروا الحياة أمام الناس. فهاتان الخطوتان ما المانع أن نقوم بهما في بلاد المسلمين؟ فقط نتعلم الكتاب والحكمة، ونجتمع في بيت ربنا، فما يبقى فينا من يخرف، ما يبقى فينا من يقول بالبدعة ولا بالخرافة ولا بالضلالة، ما يبقى فينا إيمان ضعيف هزيل ما يقوى صاحبه على أن يقول كلمة الحق أو ينهض بواجب، وينتهي ما نشاهد من ألوان الباطل والشر والفساد في العالم الإسلامي، وفي العالم الآخر، فتلك الجمعيات التي توجد بالفعل تنمى في خمس وعشرين سنة، فيدخل الناس في رحمة الله، فما المانع؟ فبلغوا، بلغوا رابطة العالم الإسلامي، وقد كتبنا هذا في الكتب، ولكن:لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تنادي
تفسير قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ...)
ونعود إلى السياق الكريم، قال تعالى: فَإِنْ آمَنُوا [البقرة:137] أي: اليهود والنصارى، بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] أيها المسلمون، آمنا بماذا؟ أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق وأن النار حق، آمنا بأن الله لا يعبد إلا بما شرع وبين رسوله صلى الله عليه وسلم. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137]، وهو أن الأنبياء والرسل كلهم أنبياء الله ورسله، لا نفرق بين أحد منهم، لا فرق بين موسى وهارون ولا عيسى ومحمد، ولا إبراهيم وإسحاق، آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإن آمن اليهود والنصارى المتبجحون الذين يقولون لنا: كونوا هوداً أو نصارى؛ إن آمنوا بمثل ما آمنتم به فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، فقد اهتدوا إلى ماذا؟ إلى سلم الكمال، وسلم الرقي والسعادة في الدنيا والآخرة، اهتدوا إلى معرفة الحق من الباطل والخير من الشر والكمال من النقصان، عرفوا الطريق إلى الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (وإن تولوا فإنما هم في شقاق)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، يا لله هذا الشقاق! فـ(شقاق) هنا نكرة تفيد التهويل، أي: في شقاق عظيم، وصدق الله العظيم، فقد تولوا وأعرضوا وما قبلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت اليهودية والنصرانية وبقي أهلها، إذاً: هم في شقاق عظيم بعيد طويل معنا. ومعنى الشقاق: من الشق، فهناك شق وهنا آخر، هذا الشقاق، ما هناك اتصال، أنتم وإياهم في شقاق بعيد كبير، شخص يقول: لا إله إلا الله وآخر يقول: الآلهة ثلاثة، فكيف يتفقان؟ شخص يقول: الربا والزنا حرام، وآخر يقول: الحياة متوقفة عليه، كيف نلتقي معهم؟ شخص يقول: الصدق والوفاء والحب والطهر، وآخر يقول: على الخيانة والكذب والزندقة تعيش الحياة، فكيف نتفق؟ سبحان الله العظيم! اسمعوا كلام الله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] أيها المسلمون فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، إلى أي شيء اهتدوا؟ إلى طريق كمالهم وسبيل سعادتهم ونجاتهم، اهتدوا إلى الحق وتركوا الباطل وراءهم. وَإِنْ تَوَلَّوْا [البقرة:137]، ما معنى: تولوا؟ رفضوا الإسلام، رفضوا لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، تولوا عنه ورجعوا إلى الوراء بعدما جادلوا ووقفوا أمامكم، فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، أقول: في شقاق بينهم، بين اليهود والنصارى إلى الآن، وإن كان اليهود نجحوا فيما علمتموه وقررناه وكررناه مرات، اليهود نجحوا في إيجاد البلشفة الماركسية العلمانية، استطاعوا أن يجهلوا النصارى ويبعدوهم عن دينهم ويجعلوهم حرباً على الإسلام، الآن تستطيع أن تجد 1% ما زال يعتقد النصرانية ويعيش لها، و99% لا يؤمنون، فمن فعل بهم هذا؟ اليهود بنو عمنا، أتدري لم؟ كان النصراني الصليبي إذا نظر إلى اليهودي فكأنما نظر إلى قاتل إلهه، ما يستطيع أن يفتح عينيه فيه أبداً، ولا أن يرضى عنه ولا يحبه أبداً، كيف وهو قاتل إلهه؟ فمن صلب عيسى في نظر النصارى، من صلبه وقتله، أليس اليهود؟ كيف تحب الذي يقتل إلهك؟ عاشوا قروناً وهم أشد بغضاً لليهود حتى من الإسلام، فكيف تحولوا؟ إنه صنع اليهود، استطاعوا أن يذوبوا معتقدهم تذويباً كاملاً وهم لائكيون لادينيون، وبقيت جماعات التنصير والذين يعيشون عليها يدافعون عنها وينشرونها بين المسلمين، أحقيقة هذا أو دعوى باطلة، هل هناك من يرد علي؟ هذا هو الواقع، فخف الضغط على اليهود. بل عندنا دليل قاطع: منذ كذا سنة أعلن بولس الثامن قبل موته بأن اليهود برآء من دم السيد المسيح! ونشر في الصحف وأذيع في الإذاعات، قالوا: اليهود برآء من دم السيد المسيح، أي: ما قتلوه، إذاً: فلم تبغضونهم وتحاربونهم؟ وقلنا: صدق الله العظيم الله، أكبر.. الله أكبر، نحن نقرأ قول الله تعالى من سورة النساء: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وهم الذين يقولون: قتلوه، منذ ما يقرب من ألفي سنة وأنتم تكذبون وبعد ذلك ترجعون؟! ارجعوا إلى الإسلام وقولوا: آمنا بالله.إذاً: فهم في شقاق فيما بينهم، ولولا هذا السحر اليهودي لكان النصارى ضد اليهود واليهود ضد النصارى أعداء ألداء، يكفيك أنه يعتقد أنه قتل إلهه، هل هناك أكثر من هذا؟ وأما بيننا وبينهم فالشقاق دائم حتى يدخلوا في رحمة الله، أو حتى نتنصر أو نتهود والعياذ بالله وتنتهي المعركة، ولن يكون هذا أبداً، سيبقى هذا النور مهما طالت الأيام.
معنى قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)
ثم يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ [البقرة:137]، فسيكفيك يا رسول الله الله، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] فلا تخفهم، وهل صدق الله في وعده لرسوله أم لا؟ قال: فسيكفيكهم، فقد تآمروا على قتله ثلاث مرات ونجاه الله، وهل يعرف المؤمنون أن اليهود تآمروا على قتل نبيهم أو لا؟ فبنو النضير أرادوا أن يلقوا عليه رحى من السطح على رأسه، وهيئوها وتآمروا، وقبل أن يطلقوها نزل الوحي: قم يا رسول الله، فقام من عندهم، هذه واحدة وقبلها سحروه في بئر ذروان وأرادوا قتله، وبعدها أطعموه السم في خيبر، وكم أتى من يريد أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم. والأحزاب من حزبهم وجمعهم؟ من جمع العرب من الشرق والغرب والجنوب وجاء بهم إلى المدينة لقتل رسول الله وأصحابه؟ أليس هو حيي بن أخطب اليهودي؟ هو الذي حزب الأحزاب.إذاً: قولوا: صدق الله، فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] سميع لأقوال العباد عليم بحركاتهم، لا يحدث شيء في الكون إلا والله قد سمع حركته وعلمها، فلهذا إذا وعدك بكفاية فلا تخف، فهو قادر على أن يكفيك همك وكربك وأعداءك، لو قال تعالى: فسيكفيكموهم لقلنا: الله أكبر! لو كانت الآية: (فسيكفيكموهم أيها المؤمنون) لانتهينا، لكن الله علم أننا نتخلى عن دعوة الحق، وحينئذ نتعرض لذلك، ومع هذا فأيما جماعة مؤمنة في إقليم، في بلد، في دولة، في مملكة، في جمهورية يستمسكون بحبل الله حق الاستمساك؛ فإن الله تعالى يكفيهم الشرق والغرب والإنس والجن، أما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257]؟ أما قال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]؟ ويتجلى ذلك في الفرد، في الأسرة، في القرية، في الإقليم، أيما عبد آمن حق الإيمان واتقى الله وجاءت الولاية فوالله لو كاده أهل الأرض ما كانوا ليؤذوه، ولكن حالنا كحالهم.
تفسير قوله تعالى: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون)
ثم قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، تعرفون الصبغة والصباغين، فالثوب الأبيض يصبغونه فيصير أصفر، هذه الصبغة، نحن صبغنا الله بصبغة لا نظير لها أبداً، ألا وإنها الإسلام، ألا وإنها الحنيفية ملة إبراهيم، ما هي صبغة اليهود والنصارى، النصارى إذا ولد الولد ففي اليوم السابع يأتون بالماء والزعفران أو بماء ندي، ويغمسونه فيه ويقولون: صبغناه فلن يموت إلا نصرانياً، من الآن يفعل ما يشاء فهو نصراني، عرفتم هذه الخرافة أو لا؟ هكذا تكون النصرانية، واليهود يفعلون مثلهم، هذه هي صبغتهم. أما صبغة الله لنا فهي أننا أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أهل الإسلام، أسلمنا لله قلوبنا، فلا تفكر إلا فيه ولا تتحرك إلا من أجله، وجوارحنا مقبلة عليه لا نرى إلا الله، هذه هي الصبغة التي صبغنا الله بها، وهي ملة أبيكم إبراهيم، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، فمن صبغه الله بصبغة الإيمان والتوحيد هل يستطيع واحد أن يصبغ بمثلها؟ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138]، والله! إنا لك يا رب عابدون، ومعنى عابدين: مطيعون مستقيمون على منهجك خائفون منك، راغبون وطامعون فيك، لا نعبد غيرك، ولا نؤله سواك، ليس لنا إلا أنت يا رب، ونحن لك عابدون، إن شاء الله نصدق في هذا، فقولوا: آمين. لا نعبد دنيا ولا شهوة ولا هوى، ولا منصباً ولا رياسة، لا نعبد إلا الله جل جلاله وعظم سلطانه. أرأيتم كيف علم الله رسوله والمؤمنين كيف يقولون؟ قولوا: صبغة الله لا صبغة اليهودية والنصرانية، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].
تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ...)
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ [البقرة:139]، اليهود قالوا: كونوا يهوداً، والنصارى قالوا: كونوا نصارى، قل: أتحاجوننا في الله؟ تريدوننا أن نكفر به، أن نصفه بصفات العجز والنقص، ماذا تريدون من المحاجة في الله؟ أو المعنى: أتحاجوننا في دين الله. قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، نحن أعلم منكم بالله، أليس كذلك؟ أدنى مؤمن أعلم بالله من عامة اليهود والنصارى، فكيف يحاجوننا في ربنا، يريدون أن يجعلوه ثلاثة، يريدون أن يصفوه بصفات العجز كالإنسان كما يفعل اليهود، فهذا غير ممكن أبداً، قل لهم يا رسولنا: أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم أيضاً، أوليس بربهم؟ هل هناك من يقول: ليس بربنا؟ من خلقك أنت، من خلق أمك وأباك؟ من خلق الأرض تحتك والسماء فوقك، من أوجد هذا الكون، من خلقه؟ إنه الخالق، وهم يعترفون بهذا. وقوله: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139]، هذا فيه تهدئة للموقف، بعد الصراع أعلمهم أن أعمالنا لنا وأعمالكم لكم، من يجزي بها ويثيب عليها أو يعاقب؟ الله، أعمالكم إن كانت صالحة فأجرها لكم، وإن كانت فاسدة فجزاؤها عليكم، ونحن كذلك أعمالنا إن كانت مرضية لله وفق مراد الله أنتجت الطاقة النورانية وأثابنا عليها، وإن كانت مخالفة لرضا الله وما شرع فجزاؤها علينا: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139].
معنى قوله تعالى: (ونحن له مخلصون)
ولكن الختام الأخير: وَنَحْنُ لَهُ [البقرة:139]، لا لغيره، مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، كل أقوالنا، كل أعمالنا، كل حركاتنا، كل سكناتنا، كل دنيانا لله عز وجل، ما عندنا غير الله، لا نلتفت إلى سوى الله عز وجل. ومعنى إخلاص العمل لله بيناه غير ما مرة، لماذا أنتم جالسون هنا؟ لله، لماذا تنصرفون؟ لله، وتتناول الطعام باسم الله وعلى ذكر الله، وتنام لله، والذين يخرجون ويذهبون إلى الباطل والشر هل عملهم لله؟ معاذ الله. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أقوالنا، أعمالنا، نياتنا، حركاتنا، سكناتنا.. الكل خاص بالله، وهذا شأن المؤمن.وكثيراً ما نبين للسامعين أننا وقف على الله، والوقف كما يقال: هذا العمارة وقف على طلبة العلم، غلتها توزع عليهم، هذا البستان وقف على المسافرين، غلته تقسم عليهم ولا يأخذها واحد آخر، والمؤمن وقف على الله، إذا أكل يأكل من أجل الله، إذا شرب يشرب من أجل الله، إذا نام ينام من أجل الله، إذ استيقظ يستيقظ من أجل الله، إذا تزوج فوالله من أجل الله، وإذا طلق فوالله من أجل الله، وكيف يطلق من أجل الله؟ مؤمنة خاف أن يضر بحياتها، فلا بد أن يطلق حتى لا تشقى معه، أو خاف أن يلحقه ضرر هو، إذاً: يفارقها ليبقى عبداً لله معافى في دينه وبدنه، وكذلك يبني، يهدم، يبيع، يشتري، أعمالنا كلها لله. هل بلغكم قول الله تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، ما معنى (إنا لله)؟ فكيف تقول: أنا لله ولا تعطي الله منك شيئاً، فهذا كذب، من قال: إنا لله فمعناه: نقوم ونقعد، نبني، نهدم، نسافر، كل أعمالنا لوجه الله، أم نكذب فنقول: إنا لله ولا نعطي لله شيئاً! هذه خيانة، كيف يقال: هذا الوقف على فلان وما يعطيه ريالاً؟ هل يصح هذا الوقف؟ فنحن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلهذا لا نكرب ولا نحزن بوفاة أصدقائنا أو أبنائنا أو أهلينا؛ لأننا راجعون إلى الله، فكيف تكون راجعاً إليه وتكرب وتحزن؟ إذاً: إنا لله وإنا إليه راجعون.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (93)
الحلقة (100)
تفسير سورة البقرة (2)
القرآن الكريم هو النور الذي يهتدي به المتقون، لأنهم من يتدبر آياته ويعمل بها، ولهذا وصفوا في أوائل آيات سورة البقرة بجملة صفات يجب على كل مسلم أن يتحلى بها، وهي الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق في سبيل الله، والإيمان بالكتب المنزلة، والإيمان باليوم الآخر، وبيّن القرآن أن من تحلى بهذه الصفات كان على هدى من ربه، وحاز الفوز في الدنيا والآخرة.
تابع تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)
الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نراجع الآيات السابقة؛ إذ ما وفيناها حقها، ولا تدبرناها كما ينبغي، ولعل السر في ذلك اتباعنا للمكتوب، وهذا غير مجد؛ لأننا نريد أن نكتسب علماً ونوراً، ونريد أن نقف على تخلفنا وتأخرنا عن مسابقة السابقين؛ عل الله يدفع بنا فنسبق، والله يقول: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11].
القرآن الكريم في واقع المسلمين
قال ربنا تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:2] هذا تعظيم وتضخيم لشأن القرآن العظيم، فهل عظمناه وأعلينا من شأنه، ورفعنا من قدره، أو ما زلنا نقرأه على الموتى، ونكتبه في حروز يعلقها المرضى على أنفسهم؟ وهل دخل هذا الكتاب المحاكم وأصبح مصدر التشريع وإصدار الأحكام الإلهية؟ سلوني أجبكم: لقد هجر الكتاب من عشرات بله من قرون عديدة إلا ما رحم الله، فلا يتحاكم إليه اثنان، ولا يجتمع على تلاوته وتدبره اثنان، فهو مهجور، ومن يوم أن هجر الكتاب انقطعت صلة هذه الأمة بربها، وهي تتخبط تخبط المجنون، فما عرفت الطريق بعد؛ لأن القرآن هو الروح وهو النور، وهل تتم حياة بدون روح؟ لا والله. وهل تتم هداية إلى خير .. إلى سعادة .. إلى كمال بدون نور؟ لا والله.وهذا الكتاب فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] يهدي إلى أين؟ بأوجز العبارة: يهدي إلى العز والكمال .. إلى السعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة، فهل سعد المؤمنون والمؤمنات؟ نعم سعدوا وكملوا يوم ما تمسكوا به، والتاريخ شاهد، ولا ينكر هذا إلا جاحد ومكابر.والله ما عرفت البشرية منذ أن كانت أمة أكمل، ولا أطهر، ولا أرحم، ولا أعدل، ولا أصفى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قرونها الثلاثة الأولى: عهد الصحابة، وعهد أبنائهم، وعهد أحفادهم.فما سبب عزهم وسعادتهم وكمالهم حتى سادوا العالم وأضاءوا المعمورة وأنقذوها من وهدة لا تتصورونها؟هل كان ذلك بعلوم الكون والذرة، والهيدروجين، والفلسفة، والمنطق، وعلوم التقنية والصناعة؟!الجوا : والله ما هو إلا الوحي الإلهي: قال الله .. قال رسوله، الكتاب والحكمة، وإن جهل المسلمون هذا فقد عرفه أعداؤهم. نعم عرفوا أن هذه الأمة سعدت وارتقت وفازت بالقرآن والسنة، فصرفوا الأمة عنهما إلى الآن صرفاً كاملاً إلا من رحم الله، وما زال المسلمون ما أفاقوا، والقائلون بالصحوة نقول لهم: نحن ما رأينا آثارها، نعم توفرت عوامل وأسباب كانت غير موجودة ومعدومة، ومن ذلك أن الاتصال المباشر بالطائرات والإذاعات وما يبث عبر الأثير حوَّل العالم كله إلى بلد واحد، وأما الصحف والكتب فقد صارت في يد كل من هب ودب، وصار لها تأثير وأوجدت نوعاً من الإفاقة، وكذلك الدعوة التي نهض بها رجال كان لها أثرها، لكن وضع المسلمين ما زال كما هو، فما السبب؟ لا سبب إلا الإعراض عن الكتاب والسنة فقط .. عن الروح والنور، والله يقول: فِيهِ هُدًى لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ. ثلاً: لو كان هناك إناء فيه لبن عذب ومغذي، لكن الشارب لم يشربه، فهل ينتقل إليه الغذاء والري والشبع لمجرد أن في الإناء لبناً؟ الجواب: لا. ولو أن قصعة من الثريد بين يدي آكل ولم يأكل فهل يشبع ويتغذى؟ الجواب: لا.وكذلك القرآن، والله إنه لهدى، وفيه هدى، وإذا لم يؤمن به الإنسان، ويقرأه، ويتعرف إلى ما فيه، ويعمل بما فيه فلن يجد هداية أبداً، ولن ينتفع، فقوله: فِيهِ هُدًى [البقرة:2] أي: فيه غذاء، ولكن لمن يتناوله، ولهذا قال تعالى: لِلْمُتَّقِينَ أي: الذين يخافون عذاب الله ونقمه، ويخافون غضبه وسخطه، فهؤلاء الذين خافوا من الله أسرعوا إلى طاعته، وهؤلاء هم الذين يقرءون القرآن، ويتفهمون معانيه وما فيه، ويعملون به؛ لأنهم طالبو الوقاية، ولأنهم يجرون وراء النجاة. أما المعرض الذي لا يخاف الله، ولا يخشاه، ولا يفكر في عذاب، ولا شقاء، ولا حرمان، ولا خسران فلا يقرأ القرآن.
صفات المتقين
لقد ذكر الله تعالى صفات ينبغي أن تكون لنا، وأن نكون متصفين بها، ولا ندعها تمر هكذا مرور الرياح.معاشر المستمعين! عرفتم وتقرر عندكم أن ولاية الله متوقفة على الإيمان والتقوى، ومن فكر هذا التفكير، ومن تساءل: هل نحن مؤمنون؟ وهات القرآن نستعرضه يقرر إيماننا ويثبته أم يدفعنا بعيداً كأننا غير مؤمنين؟ثانياً: ما هي التقوى؟ وكيف يتقى عذاب الله ويجعل بينك وبينه وقاية؟عذاب الله لا يتقى بالأسوار العالية ولا بالجيوش الجرارة ولا بالسلاح القوي ولا بالشعوب القوية. عذاب الله لا يتقى إلا بالإسلام إليه؛ إسلام القلوب والوجوه والانطرح بين يديه، وبهذا يتقى الله.أما أنواع الوقاية الأخرى التي تعرفونها وتقي من الحر والبرد والجوع والعطش والمرض والموت فإنها لا تنفع، ولا يتقى بها عذاب الله.والله يتقى بالإسلام إليه، أسلم تسلم. أعط قلبك لله فلا يدور ولا يتقلب إلا طلباً لرضا الله عز وجل، والتقوى فعل الطاعات، وترك المكروهات.
من صفات المتقين: الإيمان بالغيب
قال تعالى في صفات المتقين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، ومعنى هذا أنه أراد أن يقول: المتقون كيف أصبحوا متقين؟ فقال: لأنهم يؤمنون بالغيب، والغيب: ما غاب عن حواسك، فلا العين تبصر، ولا الأذن تسمع، ولا اللسان ينطق، ولا الجوارح تحس أو تشعر، فهو غيب كوجود الله عز وجل، ووجود النار؛ عالم الشقاء والخسران، ووجود الجنة؛ دار السلام، وما فيها من نعيم مقيم.وإن كانت الأدلة والبراهين تغلب ما هو مشاهد، لكن الذي يقرأ كتاب الله ويتدبر فيه ويتأمله في صدق يصبح يرى عالم الغيب كعالم الشهادة أو أشد، فالملائكة عالم غيب، والجن عالم غيب.المهم أن العبد إذا دخل في الإسلام ينبغي أن يصدق الله تعالى ورسوله في كل ما يخبران به، ولا ترد على الله وعلى رسوله خبراً أبداً، ذلكم الإيمان بالغيب.واعلم أن ما أخبر الله تعالى به، وما أخبر رسوله وصح الخبر عنه يستحيل أن يكون على خلاف ما أخبر الله، فالإيمان ركن الولاية، والإيمان كله إيمان بالغيب.إذاً في القرآن هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب، وأركان الإيمان ستة أركان، فإن سقط ركن انهار البناء وانهدم ولم يبقَ إيمان، وقد جاءت مبينة في كتاب الله، وبيّنها حديث جبريل الصحيح في هذا المسجد؛ إذ جاء جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، وكان من رجالات العرب وساداتهم، فجاء والرسول صلى الله عليه وسلم جالس جلوسنا هذا وأمامه أصحابه، فشق الصفوف، ودنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع يديه على ركبتيه، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، بمعنى: يعلمهم كيف تتلقى العلم، ما هو أنت تلتفت أو نائم، وأخذ يسأله عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وأمارات الساعة، والشاهد قوله: ( أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قالت الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه ). وهذا معناه أنه عالم بالموضوع.وهذا الإيمان إذا امتلأ به القلب، وشعت أنواره، وخرجت على اللسان والسمع والبصر صير صاحبه أشبه بالملائكة في طهره، وصفائه، وكماله.
من صفات المتقين: إقامة الصلاة
قال تعالى بعد ذلك: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3].ما هو إقامة الصلاة عباد الله؟ إقامة الصلاة أن تؤدى على النحو والنهج والخطة التي وضعها الشارع، ومن ذلك أنها تؤدى في أوقاتها المنتظمة المحددة، فلا يحل تقديم لها ولا تأخير، وأن تستوفي شروطها من الطهارة الظاهرة والباطنة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وأن تؤديها على نحو ما أداها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أداها على نحو ما علمه جبريل إياها، فلما فرضت في السماء ونزل الرسول بها نزل جبريل يومين علمه كيفيتها، وحدد له أوقاتها.فالصلاة إذا لم تؤدَ على النحو الذي شرع الله وبين رسوله فإنها لا تثمر، ولا تنتج، ولا تولد الطاقة النورانية، ومن أراد أن يقف على الحقائق يجد أن ملايين المسلمين يصلون، ومع ذلك يتعاطون كبائر الذنوب والآثام.يخرجون من المسجد فيلغون في أعراض بعضهم البعض، ويخرجون من المسجد ويتعاطون المحرمات والخبائث، أين آثار الصلاة؟!إذاً: صلاتهم باطلة، ولا تساوي فلساً ولا درهماً؛ لأنها ما أنتجت، وما ولدت النور، واقرءوا قول الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] ولو سائل قال: لم يا ألله؟ لقال تعالى مبيناً الحكمة في ذلك والعلة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أستاذ الحكمة ومعلمها يقول: ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ) أي: والله لا صلاة له، وسبب بطلانها أنه ما أداها كما بينها رسول الله، وما أنتجت الطاقة واختل تركيبها وما أدت ثمرتها، وهذا أمر معقول.وكثيراً ما نقول: تجد المصلي يصلي أمام فقيه، فيقول له الفقيه: يا فلان! صلاتك باطلة. فيقول: لم يا أيها الفقيه؟ يقول: لأنك ما خشعت فيها، رأيتك تلعب، وما اطمأننت لا في ركوع، ولا في سجود، ولا في قيام، ولا في اعتدال.والفقيه لا يعرف إلا أنها صلاة باطلة قد فسدت، ونحن نقول: إنها ما ولدت النور، وما أنتجت الطاقة، واختل تركيبها، واختل أداؤها، ولهذا يخرج من المسجد ليعاقر الخمر والحشيش. إذاً: ما قال: يصلون، إنما قال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة .وقد قررنا قبل عشرات السنين والحمد لله رب العالمين وقلنا: والله الذي لا إله غيره لو أن أهل قرية أو مدينة أو إقليم أقاموا الصلاة لاستغنوا عن البوليس والشرط، وإذا لم يقيموا الصلاة فوالله لا ينفعهم لا بوليس ولا شرط، ولابد من الخبث، والشر، والفساد، وظلم العباد.ولو أننا ذهبنا إلى المسئول عن الأمن في المدينة وقلنا له: من فضلك أعطنا قائمة بالمخالفين أو المرتكبين للجرائم. فقال لنا: عندنا خمسمائة جريمة ارتكبت في هذا الشهر، هذا لعن أباه، وهذا سرق جاره، وهذا غنى مع امرأة فلان .. وغيرها من الجرائم والذنوب. ثم نقول له: إن وجدنا نسبة المقيمين للصلاة في ذلك العدد تتجاوز خمسة في المائة اذبحوني، نتحدى دائماً وأبداً، والله ما يوجد، الخمسة والتسعون الباقية هم من تاركي الصلاة، ومن العابثين بها. وتفضلوا زوروا الشرط واسألوهم يعطوكم قائمة بالمجرمين، فإن وجدتم أكثر من خمسة في المائة -والشذوذ يقع ولا حكم له- هم من المصلين فلكم أن تذبحوني.إذاً لمَ لا نلزم المسلمين بإقامة الصلاة؟! ولمَ ما نفرض عليهم ما فرض الله؟ ولمَ ما نمنعهم من أن يتجولوا في الشوارع والصلاة قائمة؟ ولمَ ما نطالبهم أن لا يتخلف عنها إلا ذو عذر كمرض أو خوف؟!قالوا: دعهم من شاء يصلي ومن شاء يغني. فامتلأت الدنيا بالخبث والشر والفساد، ونحن شبه أحياء أو أموات. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55] يا عباد الله! الصلاة ميعاد، ولقاء مع الله تعالى، فمولاك وسيدك وربك ينتظرك في بيته وأنت تغني وتلهو وتلعب!والعالم الإسلامي ليس فيه إلا هذه الديار يؤمر أهلها بالصلاة، ومع هذا فيها المكر والكيد حتى لا يبقى من يقول: قم صل. وهذه الكلمة يتألم وينقبض منها الهابطون والساقطون.وأنا أقسم بالله ما تحقق أمن ولا طهر في هذه الديار على دولة عبد العزيز ما تحقق في أي بلاد وأي إقليم إلا في القرون الثلاثة، والسبب أنهم أقاموا الصلاة إجبارياً.والعدو يعمل ليل نهار، ويهول من شأن الأمر بالمعروف وإقامة الصلاة حتى لا يبقى هذا النور.إذاً إقام الصلاة هي مواعيد منتظمة مع رب الأرض والسماء، فيقف عبد الله بين يديه، يتكلم معه ويناجيه: يا رباه! لكن هذا اللقاء ينساه عبد الله بعدما يخرج، وهذا لا ينفعه، فالذي يدخل وهو غير شاعر لماذا دخل! يكبر ويهلل لا يدري مع من هو يتكلم، فهذه الصلاة لا تنتج له الطاقة المطلوبة.
من صفات المتقين: الإنفاق
الصفة الثالثة: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] انظر: الصلاة والزكاة! الدنيا تحتاج إلى الزكاة، والآخرة تحتاج إلى الصلاة.نحن ما أمرنا أن نموت، وأن نذل ونهون حتى نمنع من عبادة الله، الدنيا والآخرة نعمل لهما معاً، وإن كنا نؤثر الآخرة عن الأولى لأنها خير وأبقى.وإن كان ولابد فإننا نعطي للدنيا ما تتطلبه من أجل أن نحفظ وجودنا لنعبد ربنا، فالإنفاق مقابل إقام الصلاة، والصلاة إذا أهملت وتركت وضيعت وعبث بها العابثون هبطت الأمة ولصقت بالأرض، والزكاة إذا منعت ما أصبح للأمة قدرة على أن تظهر أو تتحرك.والأمة الآن ثلاث وأربعون دولة، من إندونيسيا إلى المغرب إلى موريتانيا، هل جبيت فيها الزكاة كما كانت تجبى على عهد رسول الله؟ واسألوا الحكام والمسئولين ووزراء المال والاقتصاد والدولة لمَ ما يجبون الزكاة؟ هل هم في غنى وما هم في حاجة؟! نعم لو كانت تحتك الذهب وفوقك الذهب فهذه عبادة وطاعة كالصيام والصلاة، فيجب أن تجبى الزكاة، هل جبيت في الشرق والغرب؟ الجواب: والله ما جبيت إلا هنا فقط. لمَ؟ لأن هناك من يديرنا ويتصرف فينا حتى نلصق بالأرض، ولن يصبح لنا وجود بين الشعوب والأمم، فعرفوا أن الزكاة وجبايتها ترفع من شأن الأمة وتعزها ولا تذلها، فأهملوا هذه القاعدة كما أهملوا إقام الصلاة.والشعوب الإسلامية ادخل واخرج من شاء أن يصلي ومن شاء لا يصلي، بل يسخرون من المصلين ويستهزئون بهم، وخاصة في الدوائر والمناطق الرفيعة، ونقول: مسلمون، وننتظر الكمال والإسعاد! وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] يشمل الزكاة وغيرها.وهل تريدون الوجه الحقيقي؟لو اجتمع أهل قرية خمس مرات في بيت ربهم، لأصبحوا متعارفين ما بينهم مجهول، ثم وضعوا في مسجدهم صندوقاً لجباية الزكاة والكفارات والصدقات التي يتملق بها المؤمنون إلى ربهم، ونحن ليس عندنا لصوص؛ فأهل القرية كلهم أولياء الله، وإن جاء لص من القرية الثانية فلا يستطيع، لأن نور الإيمان يمزق بطنه، ولا يقوى على أن يدخل المسجد، وإن قلتم: ها أنتم جعلتم حراساً على بيوت المال والبنوك، نقول له: أما بيت الله فلا يحتاج؛ لأن هذا البيت سيكون كخلية النحل هذا راكع وهذا ساجد.فهذا المال -والله الذي لا إله غيره- ليفيضن على أهل القرية، فيتسع لفقرائها، ويسد حاجتهم وخلتهم ويفيض، وما خرجنا أبداً عن مبدأ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، فكيف يوجد بينهم سارق، وكذاب، ومن يحلف بالباطل، ومن يستلف ولا يرد السلف ..؟! لا يوجد. لأنهم عرفوا الله، واجتمعوا في بيته طول حياتهم، يتلقون الكتاب والحكمة، أصبحوا كلهم علماء وحكماء وأولياء، ولا تسأل عن مظاهر السرف والترف والبذخ فهي لا توجد بينهم أبداً، وهذا المال إذا فاض حولوه إلى جهات أخرى، فلا تجد بينهم من يمد يده أبداً، ولا من تظهر عورته أو من لا يستره شيء، فهم متراحمون متعاونون؛ لأنهم جماعة يتهيئون للنزول في السماء السابعة.
من صفات المتقين: الإيمان بالكتب كلها
الصفة الرابعة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، ومعنى هذا أنهم علماء، عقلاء، عرفاء، آمنوا بالوحي الإلهي سواء نزل على محمد صلى الله عليه وسلم أو على موسى أو على عيسى أو على داود أو على إبراهيم، وهاهنا أدخل الله أهل الكتاب المؤمنين في حظيرة الإسلام والمسلمين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهم نحن الذين ما سبق أن أعطانا الله كتاباً، والذين يؤمنون من قبل يعني: مؤمنو اليهود ومؤمنو النصارى، يؤمنون بالقرآن وبالتوراة والإنجيل.
من صفات المتقين: اليقين بوعد الآخرة
الصفة الخامسة: وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] المراد من الآخرة الحياة الآخرة، وهذه الحياة تسمى الأولى؛ لأنها سبقت الثانية، ولما تنتهي هذه الحياة بموتنا وانتهاء هذا الكون وتحويله إلى سديم وبخار هناك حياة أخرى وراء هذه تسمى الدار الآخرة، والحياة الآخرة، وتسمى الآخرة. وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فاليقين أكثر من الإيمان، علم طغى وعلت أنواره وأصبح يقيناً يرضى به العبد أن يمزق ويقتل ويصلب، ولا يستطيع أحد أن ينكره أبداً.(وبالآخرة) أي: بكل ما فيها من الحشر، والنشر، وتطاير الصحف، والميزان، والصراط، ودخول الجنة، ودخول النار.(هم يوقنون) ما قال: يؤمنون بل (يوقنون) فالنفس تهدأ وتستقر، ولا يبقى قلق ولا اضطراب ولا شك.
الفلاح للمتقين
اسمع البيان الأخير أُوْلَئِكَ أين هم أكمل الخلق وأعلاهم وأصفاهم؟ أشار إليهم بلام البعد، وما هم هابطين مثلنا، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5] أصبح الهدى كالفرس وهم راكبون عليه، فلا يتزعزعون، ولا يتضعضعون أبداً، ولا يمكن أن ينحازوا أو يهبطوا أو يسقطوا، فهم متمكنون؛ لأن إيمانهم بالغيب، وإقامهم للصلاة، وإنفاقهم جعلهم متمكنين من عقيدتهم.قال تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فأولئك هم وحدهم المفلحون، وما عداهم هم الخاسرون.والفلا مأخوذ من فلح الأرض إذا شقها، والفلاح فسره تعالى بالفوز فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وفسره في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] هذا إعلان، هل هناك من يقول: لا ..لا، إلا نحن ما نموت. وهل استطاعت البلشفية الحمراء -روسيا- أن تتعدى هذا وتقول: لا، عندنا قدرة على أن لا يموت الرئيس؟ مات ستالين أو لا! ومات لينين أو لا! ومات خروتشوف أو لا! مات مات .. ماتوا جميعاً، كيف يموتون؟ مع هذه الصناعة، وهذا التطور، وهذا الرقي يموتون؟! نعم؛ لأن حكم الله صدر كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] والموت يذاق أو لا؟ سوف تذوقونه، آلام ومرارة، ما تستطيع أن تدركها بأي شعور عندك أو إحساس. وقال تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2] قطعة القماش الحريرية إذا أخذتها وألقيتها على شجرة السدر ذات الشوك وجذبتها فكل خيط يلصق، وهذا أهون من نزع الروح. مع أن أرواح أولياء الله المؤمنين المتقين تسيل كقطرة الماء من السقاية وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2].والرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت يعاني، ويضع يده في ركوة ماء ويمسح على وجهه في اللحظات الأخيرة ويقول: ( إن للموت لسكرات، اللهم في الرفيق الأعلى )، وفاضت روحه وهو ينظر إليها.وخيرنا من يلازم باب الله حتى لا يبعد، بل يموت وهو يقول: لا إله إلا الله. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].أيها العمال! اعملوا ولا تطالبوا بالأجر اليوم؛ لأن الأجرة يستلمها العامل عند نهاية العمل، فإذا كانت مياومة ففي آخر المساء، وإذ كانت مشاهرة ففي نهاية الشهر، وإذا كانت معاومة ففي نهاية العام، فلِم تطالبون بالأجرة مع الله في يومها؟ أكملوا يومكم! وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] فمن عمل خيراً أو عمل شراً فإنه لا يستلم الأجر هاهنا، فهذه دار عمل ولا تطالب بالأجر أبداً؛ لأن الأجر ليس في هذه الدار. قالوا: ما نعمل ولا نأخذ أجراً. تضحكون على من أدار الكون كله، وأوجد الحكمة!واسمع هذا البيان العجيب: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فلا دينار ولا درهم، ولا ذهب ولا فضة، والذي يزحزح عن النار بعيداً ويدخل الجنة فهذا هو الذي أفلح وفاز، وهل هناك فوز أعظم من أن تنجو من مرهوبك ومخوفك، وقلقك وحيرتك، وتستقر في دار السلام؟! اللهم اجعلنا من أهلها!
تفسير قوله تعالى: (إن الذي كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)
قال تعالى بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لِم؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] من هؤلاء؟ والله لا ندري، ولعلنا منهم ونحن لا ندري؟!قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهذه هي البلية والمحنة، فقد جاءتهم من كفرهم، ومعنى كفروا: لم يؤمنوا، فجحدوا، وكذبوا، وما صدقوا، لا بتوحيد الله ولا بنبوة رسول الله. أي: ما قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وهناك صنف آخر ما توغلوا في الكفر والعناد والتكذيب والجدال واللجاج والخصومة، وهؤلاء بالإمكان أن يؤمنوا، فواصل أيها الداعية دعوتك، ولا تلتفت لا يميناً ولا شمالاً! وامض في طريق الدعوة.واعلم أن الذين تواجههم الدعوة صنفان:صنف حرموا الإيمان، عملوا .. عملوا وليس فيهم بقية تقبل الإيمان، ولو وضعت بين أيديهم ما شئت من المعجزات لم يؤمنوا، بل يسخرون ويضحكون.وآخرون .. لا، كفروا حقاً ولكن ما توغلوا في الكفر، وما فعلوا عجائب الذنوب والآثام، فهؤلاء مستعدون لأن يقبلوا الدعوة ويدخلوا في الإسلام. لكن هناك نوع آخر هم الذين قال تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ خوفتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، وليس معنى هذا: اترك دعوتهم يا رسولنا .. لا، فقط: حتى لا تكرب، ولا تحزن، ولا تتألم إذا واجهوك بالعناد والمكابرة والتكذيب، وأنت معهم ليلاً ونهاراً، تنذرهم وتخوفهم وهم يزدادون في طغيانهم طغياناً، فهؤلاء يستوي إنذارك لهم وعدمه. فاعرف هذا النوع؛ حتى لا تحزن، ولا تترك الدعوة، وواصلها.سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] وقد عرفنا منهم: أبا لهب ، أبا جهل ، الوليد بن المغيرة ، العاص بن وائل وفلاناً وفلاناً، فهؤلاء كلهم ماتوا على الكفر، وكم دعاهم رسول الله؟ وكم أنذرهم؟ أكثر من عشر سنوات وهم مصرون.
تفسير قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ...)
قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، فسبب الإعراض وعدم الإيمان أن الله ختم على قلوبهم.والختم ليس بختم غلاف البريد، وأصل الختم كان بالطين .. بالحديد .. على الكيس وعلى الإناء حتى ما يدخله شيء، والآن الختم يكون على الظرف حتى لا يفتح، لكن الأصل أن أي إناء فيه عسل .. فيه زيت .. فيه مال يختم، ويصب عليه نوع من الرصاص أو من النحاس حتى لا يدخل إليه شيء، فهذا هو الختم. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، فهم لا يسمعون، فهؤلاء الذين قد ختم الله على قلوبهم وأسماعهم تجد أنهم قد ألفوا الأغاني، والباطل، والهرج، والعبث، والسخريات، فلا يسمعون الحق، ولا يبصرونه أبداً، والذين ألفوا الباطل وتمرنوا عليه وعاشوه لا تستطيع أن تردهم إلى الحق والخير، ففقدوا هذه الحاسة، وما أصبحوا يتلذذون إلا بسماع الباطل، لكثرة المران والرياضة، فهم سنوات عديدة لا يسمعون شيئاً اسمه حق أو معروف، كأنما ختم على أسماعهم، فلا يدخل أبداً الكلام الطيب، يضحكون ويسخرون.وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] هذا أولاً، حتى ما ينفذ إليها نور الإيمان، ولِم ختم الله عليهم؟! هل ظلمهم؟ لا والله، إنما هي سنته في من يألف الباطل والشر، حتى يمتلئ قلبه، وينطبع بطابع، فلا يقبل المعروف، وهذه سنة الله؛ لأن الله ختم على قلبه. وَعَلَى سَمْعِهِمْ والختم على السمع كذلك، فيسمع الشر والفساد والخبث ويضحك، ويعبث سنيناً، ثم لا يقبل الهدى. وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ أما الأبصار فعليها غشاوة، كالبياض على العين فلا يبصر؛ لأنه أصبح لا يفكر ولا ينظر في الحياة أبداً، ولا يعرف إلا شهوته وأطماعه وغرائزه، وما يريد أن يصل إليه من أمور الدنيا.وهنا محطة أننا إن أردنا أن ننجو من هذه الفتنة فعلينا: أولاً: أن نفتح قلوبنا لذكر الله، وأن نروضها لتصغي وتسمع كلمات الهدى، وتنفر من كلمات الضلال، خشية أن نصاب بهذه الفتنة، ويصبح قلب أحدنا لا يرتاح لذكر الله أبداً، ولا يرتاح إلا إذا ذكرت الباطل والشر والفساد.إذاً هذه القلوب لابد من رعايتها، ولابد من رياضتها، حتى تسلم من أن ينزل بها ختم كهذا فنهلك.ثانياً: علينا أن نروض أسماعنا على سماع الخير والمعروف والهدى، ونجنبها سماع الباطل من الكذب والأغاني وأي باطل. وكل ما لا يحقق لك درهماً لمعاشك ولا حسنة لمعادك فهو لغو وباطل، وأولياء الله عن اللغو معرضون، فما عندنا أبداً وقت لا يرانا الله تعالى فيه عاملين على رضاه.إذاً: أسماعنا نحفظها من أن تسمع الباطل.وهنا محنة أن يوجد بيت مجاور لنا فيه من يدعي أنه مسلم وفي مدينة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعنده تلفاز تظهر فيه امرأة عاهرة ترقص وتغني في بيته، وهو يسمع وامرأته وأولاده كذلك يسمعون، فتيان وفتيات يشاهدون امرأة عاهرة ترقص وتغني في بيته! فكيف يسلم قلب هذا! ومن يضمن أنه يموت على الإيمان؟ هذا أمر عجب. وقد كتبنا إلى صاحب هذا البيت كتاباً ولو كان في قلبه إيمان لأغمي عليه، لكنه ما تحرك أبداً، وبقي الدش هكذا! كأنه يقول: أتحداك يا محمد.أتظنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضى لكم بهذا؟ هل يرضى أن تسمع عاهرة تغني في بيتك، ويسمعها ابنك وهو يتقزز ويتألم، وتسمعها امرأتك، كيف يمكن هذا؟!هذا والله العظيم يخشى أن يموت على سوء الخاتمة، فيموت وهو غافل لا يدري أو يغني أو السيجارة في يده، فما عرف الله ولا ذكره؛ لأن هذا الختم الإلهي هو حسب سنة الله، ليس فجأة أن تجد الإنسان يصلي ثم يختم على قلبه، حاشا لله، ولكن بعد الاستمرار على المعصية ومواصلتها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فيأتي الختم الإلهي، ويصبح يتقزز من كلمة الله.وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، يعني: أفراداً بأعيانهم علمهم الله، والرسول لا يعلمهم، ولكن يهون الله على رسوله من الكرب والحزن إذا ما استجابوا له؛ بأن الله سبق أن ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ والعياذ بالله.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (94)
الحلقة (101)
تفسير سورة البقرة (61)
نعى الله عز وجل على اليهود والنصارى الجدال والمحاجة في الله عز وجل، وعاب عليهم الافتراء عليه سبحانه والتقول عليه بغير علم، فمنهم الذين زعموا لله الولد والصاحبة، ومنهم الذين زعموا أنه ثالث ثلاثة، ومنهم الذين زعموا أنهم أولياء الله وأحباؤه وخيرته من خلقه وأصفياؤه، وهم في كل ذلك كذبة مفترون، ولنبوة محمد خاتم الأنبياء والرسل جاحدون، ولما أخذ الله عز وجل عليهم من العهد والميثاق كاتمون، فاستحقوا بذلك أن يكونوا ملعونين، ومن رحمة الله ورضوانه مطرودين.
تابع تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ...)
ابتداء الصراع واستمراره بين المسلمين وأهل الكتاب
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:139-141].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهان المستمعين تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين أن الصراع بين أهل الكتاب والمسلمين صراع بدأ من ساعة أن حل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة، والبداية الحقيقية من وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وما زال الصراع إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة. والمراد من أهل الكتاب اليهود والنصارى، اليهود يعتزون باليهودية وهي بدعة ابتدعوها ولم يشرعها الله عز وجل، ولم ينزل بها كتاب، ولم يتفوه بها نبي ولا رسول، والنصارى كذلك ابتدعوا النصرانية وجعلوها ملة وعقيدة وديناً، بل ونظاماً، وهم يصارعون الإسلام مصارعة عنيفة.ومن هنا كانت سورة البقرة من أولها إلى هذه الآيات وإلى ما بعدها وهي تبين لهم الطريق وتشرح لهم ما تنشرح له الصدور وتطيب له القلوب والنفوس، فمن أراد الله إكرامه وإنعامه وإسعاده استجاب للدعوة، ودخل في رحمة الله وأصبح من أولياء الله، ومن لم يكتب الله تعالى له السعادة أصر على يهوديته أو نصرانيته وما سكن ولا سكت، وما زال إلى الآن يضرب الإسلام بأشد قوة.
وقوف اليهود والنصارى وراء الفساد في العالم الإسلامي
وخطر ببالي أن أذكر أن هذا الفساد الذي انتشر في العالم الإسلامي سببه اليهود والنصارى، نذكر ولا حرج أنه شاع في ديار الإسلام ضروب من الكبائر يندى لها جبين العاقل، فالربا من سنه ومن قننه ومن جعله نظاماً عاماً تعيش عليه البشرية؟ إنهم اليهود عليهم لعائن الله، حتى السحر من نشره في العالم الإسلامي وأصبح المسلمون نساءً ورجالاً يعانون من هذه الفتنة؟ اليهود هم أهل السحر. وكشف الوجوه والعري والاختلاط بين النساء والرجال وإشاعة الزنا -والعياذ بالله- ما هي عوامله؟ اليهود والنصارى، وزادوا الطين بلة -كما يقولون- في هذه الآلات الناقلة للأصوات والصور فملئوا بها بيوت المسلمين، فهجرتها الملائكة وحلت محلها الشياطين فانتشر الفحش والدمار. لو تتبعنا ما نسميه بحضارة خطوة خطوة فسنجد أنها الدمار لا الحضارة، الخراب لا العمران، البادية أرحم وأحسن.
توبيخ أهل الكتاب في محاجتهم المسلمين في الله تعالى
اذكروا هذا واسمعوا هذا الكلام الإلهي، فماذا يقول ربنا؟ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ [البقرة:139] من القائل؟ الله، من الذي قال له: قل؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل يا محمد صلى الله عليه وسلم، قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، قل لهم موبخاً مقرعاً مؤدباً: أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ [البقرة:139] نحن أعرف منكم بالله، نحن أعلم منكم بالله، نحن أولياءه، وأنتم تدعون أنكم أولياء الله، يدعون أنهم أولى بالله من المسلمين ويفترون الكذب ويختلقون الأباطيل، ومن بين ذلك اليهودية والنصرانية، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] هذه الدعوة الفارغة الباطلة تعالى الله عن مثلها، هل أنتم أبناء الله؟! تعالى الله عن أن يلد أو يولد: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] . وادعوا فقالوا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، والله! ما عرفوا اليهودية ولا سمعوا بها، ولا عرفوا نصرانية ولا سمعوا بها قط، ويلصقون هذه الأباطيل بأولئك الأنبياء المصطفين الأخيار، ليفحموا المسلمين في نظرهم، والله ولي المؤمنين، ومن كان الله وليه لا ينهزم ولا ينكسر، فها هو ذا تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [البقرة:139]، أي: خالقنا وخالقكم، رازقنا ورازقكم، معبودنا الحق ومعبودكم، سيدنا وسيدكم، كيف تحاجوننا فيه وتجادلون وتقولون: نحن أولى بالله منكم؟! كيف جاءت هذه الولاية؟! أللإيمان الهابط الساقط الباطل، أو لتقواكم التي لا وجود لها، فالعهر والفجور والربا وسفك الدماء والشر والخبث كله في وسطهم، ويدعون ولاية الله! أولياء الله هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم المتقون لربهم الذين لم يخرجوا عن طاعته ولم يفسقوا عن أمره في اعتقاد ولا قول ولا عمل. أما الذين ما عرفوا الله حق المعرفة، ما آمنوا به حق الإيمان، الذين يقولون في الله: إنه ولد وإن له ولداً، فهل آمنوا بالله؟ لقد آمنوا بالشيطان، والذين يشبهون الله بمخلوقاته ويقولون: إنه ينسى ويعطي ويتراجع، وهذا مذهب اليهود لعنة الله عليهم، أهذا الإيمان يكونون به أولياء؟ أما التقوى فأين التقوى؟ أين اتقاء ما سخط الله وغضب عليه؟ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] هذه كلمات الله البينة الفاصلة التي تقطع هذا الحجاج الباطل والجدال الذي لا معنى له، يقول: كيف تجادلوننا في الله وهو ربنا وربكم، ليس ربكم وحدكم بل ربنا وربكم، لكن عرفناه وما عرفتموه، أطعناه وعصيتموه، استجبنا له وأعرضتم عن ندائه واستجبتم للشياطين!
حقيقة أعمال المؤمنين وأعمال الكفرة من أهل الكتاب
وخلاصة القول: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139] أعمالهم ما هي؟ كل ضروب الفسق والفجور والفساد هي أعمال اليهود والنصارى، المكر والخداع والغش والتضليل والحيل والباطل، ولكن أعمالهم سوف يجزون بها. وَلَنَا أَعْمَالُنَا [البقرة:139] وما هي أعمال المسلمين؟ استقامة على منهج الله، إذا أذن الله في الكلمة قلناها، وإذا لم يأذن فيها صمتنا وسكتنا، نظرة أذن فيها نظرنا، وإن منعنا امتنعنا، لقمة عيش أذن فيها أكلناها، وإن لم يأذن تركناها، هذه الأعمال التي ترضي الله عنا وتحببنا إليه وتحببه إلينا، هذه الأعمال المزكية للنفس المطهرة للروح البشرية. أعمال شرعها وأودع فيها قوة التأثير في تزكية النفس والتطهير، لا بدع وضلالات وخرافات يضعها القسس والرهبان والأحبار ويقدمونها لأولئك البلداء الأغبياء الضالين فيسومونهم ويسوسونهم كما تسام البهائم. فمن هؤلاء المخاطبون؟ إنهم أهل الكتاب، يقول لهم: أتؤمنون بالله وتكفرون برسوله؟! تؤمنون بالله وتجادلون فيه وتكذبون كلامه وكتابه وتنكرونه؟! أي مس في العقل أكثر من هذا؟! تقولون: نحن أبناء الله وأولياء الله، ها هو ذا تعالى قد أنزل كتابه القرآن العظيم فكيف تردونه؟ كيف تنكرونه؟ بأي منطق أو حجة أو ذوق؟ واصطفى رسولاً وأرسله، وعندكم صفاته كاملة وافية، وتحرفون وتؤولون وتغطون وتجحدون وتضللون أتباعكم ولا تؤمنون بخاتم الأنبياء!
المفارقة بين المؤمنين وكفرة أهل الكتاب في الإخلاص
وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، هذه كلمتنا نحن أيها المسلمون، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، أما هم فمخلصون للدنيا، والله! ما أخلصوا إلا لأهوائهم وشهواتهم وأطماعهم وأغراضهم السافلة المادية، فلو أخلصوا قلوبهم لله وأعمالهم لما باتوا ليلة واحدة على يهودية مبتدعة ولا على نصرانية باطلة لا تقوم على أساس ولا منطق ولا عقل ولا ذوق، فضلاً عن الوحي الإلهي، وهم مصرون عليها ويدعون إليها ويحاربون الإسلام حرباً شعواء حتى لا يظهر هذا الإسلام. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أخلصنا له ماذا يا عباد الله؟ أخلصنا له قلوبنا، فقلب المسلم الحق لا يتقلب طول حياته إلى طلباً لمرضاة الله، قلب المؤمن المسلم -لا بالنسبة ولكن بالحق- دائماً يريد الله، لا هم له إلا رضا الله عز وجل، أسلمنا جوارحنا لا نعطي ولا نأخذ لا نرفع ولا نضع إلا بإذنه وبرضاه وكيفما يريد منا. فهل أنتم - معشر اليهود والنصارى- فعلتم هذا؟ هل أخلص اليهود والنصارى شيئاً لله؟ لا شيء، ولكن بما أنهم يجادلون ويحاجون فالله عز وجل يبين لرسوله صلى الله عليه وسلم كيف يرد أباطيلهم ويمزق حججهم الهاوية.
حقيقة الإخلاص وأهميته
معاشر المستمعين! هذه تعنينا أكثر، أتعرفون ما هو الإخلاص؟ هل نحن مأمورون بالإخلاص؟ ما هي سورة الإخلاص؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] . ومن سورة تنزيل الزمر: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:1-2]. ومن سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] . خلاصة ما أقول للمستمعين والمستمعات في هذا الأصل: أن الإخلاص هو عنصر العبادة، متى تأكد ووجد أمكن للعبد أن يستفيد من عبادته، فإن ضعف هذا الأصل بطلت العبادة ولا أثر لها في النفس، الإخلاص أن تريد بحياتك وجه الله، تقول، تعمل، تبني، تتزوج، تطلق، تسافر، تقوم، تقعد، دائماً تريد الله. الإخلاص: ألا تلتفت بقلبك إلى غير الله، ترابط السنة والسنتين والعشر وأنت رابط نفسك في حدود وثغور دار الإسلام لا تريد جزاءً إلا من الله، تنفق أموالك وتضعها في أيدي المحاويج والفقراء والمساكين ولا تريد أن يقال: فلان منفق أو فلان يتصدق، تبيت راكعاً ساجداً بوجهك لا يراك أحد ولا يسمع أحد أنك صليت ولا قمت، تطلب العلم من أول ساعة إلى أن تتخرج لا هم لك إلا وجه الله. فالإخلاص معناه: جعل العمل كله لله، إذ هو الخالق هو الرازق هو الإله الحق، ونحن له مخلصون، نحن له مسلمون، فكل أعمالنا له، فمن صرف من أعماله شيئاً إلى غير الله فما أخلص بل أشرك. وهذا الإخلاص يحتاج إلى مقاومة النفس ومجاهدتها، ويساعدك على هذا أن تعيش وأنت تشعر أنك بين يدي الله، يرى حركاتك وسكناتك، يسمع دقات قلبك وما يخطر ببالك، فهذه المراقبة هي التي تساعد على الإخلاص. واعلم أن الخلق كلهم لا يساوون شيئاً، ليس بينهم من يحيي ولا من يميت، لا من يعطي ولا من يمنع، ولا من يضر ولا من ينفع، وإنما الضر والنفع هو بيد الله، والمعطي والمانع هو الله، والمحيي والمميت هو الله، لا تغفل يا مؤمن وتظن أن القضية سهلة، لا بد من جهاد نفسك. واذكروا دائماً أننا وقف على الله، واقرءوا قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، وهل بعد الحياة والممات شيء؟ لا شيء.
تفسير قوله تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ...)
ثم يقول تعالى لرسوله: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، الاستفهام هنا للتقريع، أتقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط -وهم أولاد يعقوب الاثني عشر- كانوا يهوداً أو نصارى؟ النصارى يقولون: كانوا نصارى، واليهود يقولون: كانوا يهوداً. والله! ما سمعوا باليهودية ولا بالنصرانية، فاليهودية متى وجدت؟ على عهد موسى، لما فسقوا وظلموا وخرجوا عن طاعة الله أعلنوا عن توبتهم في مواقف وقالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، فمن ثم عرف بينهم لفظ اليهود. والنصارى من متى؟ قبل نبينا بخمسمائة سنة فقط، قال الحواريون: يا عيسى نحن أنصار الله، فهو الذي قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، فمن ثم وجدت كلمة نصارى، فكيف يكون إبراهيم وأحفاده يهوداً ونصارى. ومن سورة آل عمران قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، إذاً: يوبخهم ويقرعهم بهذا الاستفهام، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، اليهود يقولون: (كانوا هوداً)، والنصارى يقولون: (كانوا نصارى)، أما رؤساؤهم من الأحبار والقسس فهم يعرفون أن هذه أباطيل وترهات ليخدعوا بها العوام ويضللوا بها الناس، وإلا فكيف توجد يهودية ونصرانية على عهد إبراهيم وولده إسحاق ويعقوب وأحفاده، كيف يمكن هذا؟ ولكن حب الدنيا والطمع وحب السلطة والسيطرة على القلوب، لكن القرآن فضحهم فما استطاعوا أن يقفوا أمام هذه الآيات القرآنية.
معنى قوله تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله)
واسمع ماذا يقول تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]؟ فإن قالوا: نحن أعلم كفروا وكذبوا وانتهى أمرهم، وتمزقت رابطتهم. قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، قل لهم يا رسولنا: أخبروني: أنتم أعلم أم الله؟ فإن قالوا: نحن أعلم كفروا، ولا كلام معهم ولا جدال، وإن قالوا: الله أعلم انقطعوا، فالله نفى أن يكون الأنبياء والرسل يهوداً أو نصارى، وبهذا قطع ألسنتهم. فمن علم رسولنا هذه الحجة؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، فإن قالوا: الله أعلم قلنا: الحمد لله، فالله نفى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وإن قالوا: نحن أعلم فلا كلام معهم لأنهم كفروا، ادعوا العلم فوق الله والله عليم بكل شيء، والله معلم كل ذي علم، فقطع الله بهذه الجملة خصومتهم، أسكتهم تماماً، فماذا يقولون؟ إن قالوا: نحن أعلم كفروا وكذبوا ولا يقبل منهم جدال ولا صراع ولا كلام، وإن قالوا: الله أعلم فالله نفى أن يكون إبراهيم وأولاده وأحفاده يهوداً أو نصارى، وقرر وأثبت أنهم كانوا مسلمين.
معنى قوله تعالى: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله)
ثم قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] هذه لنا جميعاً، اسمعوا هذه الكلمة الإلهية: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] الجواب: لا أظلم منه والله، لا يوجد ظلم أعظم من هذا أبداً، لا يوجد ظالم أعظم ممن يكتم شهادة عنده من الله ويخفيها ويسترها ويغطيها. ومعنى هذا -والله- أن اليهود والنصارى بأحبارهم ورهبانهم وقسسهم وأتباعهم ظلمة، الكل ظالم لا أظلم منهم، أي ظلم أفظع من أن ينسب إلى الله العلي الحكيم القوي القدير الولد؟ وهم يعرفون أم عيسى وأنها مريم ويقولون: عيسى ابن الله، أي ظلم أفظع وأعظم من هذا الظلم؟! ينسبون إلى الله ما هو منزه ومقدس عنه وهم يعلمون بأن هذا لن يكون أبداً ولا يعقل، ومع هذا يشيعونه في أتباعهم والمتبعين لهم في الشرق والغرب ويقولون: الإله مكون من ثلاثة أقانيم: الرب والابن وروح المقدس، ومرة يقولون: الابن والأب وروح القدس. إذاً: فالشهادة التي عندهم وكتموها ولم يخبروا بها هي ما عندهم من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته التي تكاد تصرخ بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبي آخر الزمان، وأن رسالته عامة للأبيض والأصفر، وأنه لا نبي بعده، وأنه هو الذي يدعو إلى الإسلام، فهذه موجودة فكيف يكتمونها؟ إذاً: هل يوجد من هو أظلم من اليهود والنصارى؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140]؛ لأن الله أخذ عليهم العهد والميثاق أن يبينوا للناس صفات ونعوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من سورة آل عمران: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81] . أخذ الله على جميع الرسل والأنبياء -وأممهم تابعة لهم- إذا بعث الله نبياً وجب أن يؤمنوا به وأن يتابعوه، وخاصة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. إذاً: الآية تقول: إن اليهود والنصارى جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها وهي شهادة في أعناقهم، أخذ عليهم العهد والميثاق ألا يكتموها وها هم أولاء قد كتموها، فمن أظلم منهم؟ لو سئلت عمن هو أظلم من اليهود والنصارى فتقول: لا أحد أظلم منهم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140].
الأمر بالإخلاص وتحريم كتمان الشهادة وقولها زوراً
معاشر المستمعين والمستمعات! هذا يتعلق بنا: الإخلاص والشهادة، فكما نحن مأمورون بالإخلاص أمر الأولون بالإخلاص، فلتكن أعمالنا ونياتنا وإراداتنا وتحركاتنا كلها مراداً بها وجه الله. أعيد القول: الإخلاص حلقة إذا انقطعت سقط العبد، فإذا تمت واستحكمت استمسك بحبل الله وثبت، فلتكن نياتنا وإراداتنا وخواطرنا وحركاتنا وسكناتنا، ليكن المراد من ذلك هو الله. ثانياً: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، مثلاً: استشهدك فلان وفلان في قضية من قضايا الحياة وكنت الشاهد، هل يصح منك أو يجوز لك أن تكتم هذه الشهادة وتخفيها وتجحدها؟ والله! ما جاز ولا صح. ولنعرف أن كتمان الشهادة -والعياذ بالله- كشهادة الزور من أعظم الذنوب عند الله، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بطريق السؤال والجواب فيقول لهم: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، حتى تمنى أصحابه أن لو سكت ). ومع الأسف ما أعطينا للشهادة قيمتها أبداً، فترى الرجل يشهد مع الرجل لا لشيء إلا لمجرد أدنى علاقة مادية، ونحن مأمورون أن نشهد على أنفسنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135] . إذاً: شهادة الزور من أكبر الكبائر عند الله، وها هو ذا تعالى يقول لليهود والنصارى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140] وعما نعمل وعما يعمل كل عامل. فلتكن هذه من مقتضيات حياتنا التي لا تفارقنا، أن لا نقول إلا حقاً ولا نشهد إلا بحق، وأن نتجنب قول الزور وشهادته، ما ننطق بالكذب حتى ولو كان لا يترتب عليه شيء، ألسنتنا صادقة، وقلوبنا وألسنتنا متحدة، القلب طاهر واللسان يعرب عن تلك الطهارة، أما الكذب، أما المنطق السيء، أما الباطل سواء في طالب شهادة أو في غير شهادة فكل هذا ليس لنا؛ لأننا مسلمون ومخلصون، فكيف للمخلص أن يلتفت إلى غير الله يرهبه أو يخاف أو يطمع فيه؟ وكيف لمن أسلم قلبه لله ووجهه أن ينطق بالباطل ويشهد بالزور ليمنع حقاً من حقوق الناس أو ليرتب على آخر حقاً ليس هو له؟
معنى قوله تعالى: (وما الله بغافل عما تعملون)
وهكذا يقول تعالى لهؤلاء اليهود والنصارى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140]، لا يغفل الله عن أعمالنا؛ إذ أعمالنا كلها هو خالقها، كتبها وقدرها قبل أن نكون ونحن بين يديه لا يعزب عنه من أمرنا شيء وإن كان مثقال ذرة، وقد عرفتم أن العوالم كلها في قبضته، فمن هو الذي يخفى عن الله أو يغيب عن الله؟ فأعمالنا كلها معلومة مقدرة، وهي لا تقع إلا على رؤية الله عز وجل وسمعه.
تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ...)
وأخيراً قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:141]، الإشارة إلى من سبق من عهد إبراهيم إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، هم يجادلون في الماضي ويتمسكون بأمجاد أجدادهم وآبائهم وهذا لا ينفع، والله! لا ينفع، لو كنت ابن نبي فلن يجديك ذلك شيئاً.وقد بين تعالى لنا هذه الحقيقة، وهي أننا نؤاخذ بكسبنا لا بكسب آبائنا وأجدادنا، ونعطى وننتصر ونفوز ونربح بكسبنا لا بكسب الآباء والأجداد أبداً، فهذه قضية معلومة بالضرورة، وهي أن الطمع الذي نعيش عليه -أن نسكن دار السلام، أن ننزل الجنة دار الأبرار- فهذا النزول وهذا السكن في ذلك العالم الأقدس الأطهر لن يتم بالنسب أبداً، لا ببنوة ولا بأبوة ولا بأجداد ولا بأحفاد، ما هو إلا أن تزكي نفسك يا عبد الله، فإن زكيتها طيبتها طهرتها أصبحت صالحة للملكوت الأعلى، فإن أنت لوثتها واخبثتها وأرجستها ونجستها فمستحيل أن ترقى إلى السماء أو تدخل دار الأبرار، وقد علمنا حكم الله في هذا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. إلا أننا مأمورون يا أبناء الإسلام بأن نعرف بم نزكي أنفسنا وبم تكون تزكيتها؛ لنعمل على التزكية ونبعد أنفسنا عن التدسية، فالقضية ليست قضية نسب، وها نحن مع قول الله عز وجل وقوله الحق: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم:10]، هذه حليلته أم أبنائه وامرأته في عصمته، لما خالفت منهج الله فخبثت روحها ما نفعها نبي الله ورسوله، فامرأة نوح وامرأة لوط أين هما؟ في الجحيم. والرسول صلى الله عليه وسلم يعلنها مدوية واضحة صريحة: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، بدأ ببني هاشم وانتهى إلى فاطمة الزهراء، فقال: ( يا فاطمة ! إني لا أغني عنك من الله شيئاً )، وبعد فاطمة من يطمع في أن يغني عنه رسول الله شيئاً وهو لا يؤمن ولا يعبد ولا يزكي نفسه ولا يطهرها؟ و آزر والد إبراهيم عرفنا ما حكم الله به عليه، آزر والد إبراهيم في الجحيم، وقد تضرع إبراهيم وتوسل إلى الله ليغفر لوالده ولم يقبل ذلك منه؛ لأنه كافر مشرك ضال أنى له أن تشفع فيه شفاعة! فقد كان يدعو الله ويقول: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:86-89] . وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم -وهو العليم الخبير بهذا الشأن- أن إبراهيم عليه السلام في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء والحكم بين الخلق يرفع يديه ويقول: يا رب! لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا؟ فيقول له الرب تبارك وتعالى: إبراهيم! انظر تحت قدميك. فينظر -لأنه كان رافعاً رأسه ضارعاً سائلاً- ينظر تحت قدميه وإذا بوالده آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح بين يديه، وما إن يراه إبراهيم حتى تشمئز نفسه ويتألم ويرفع صوته: سحقاً سحقاً. فوالله! ليؤخذن من قوائمه الأربع ويرمى في عالم الشقاء في النار.
تحذير من فتنة الدشات وآلات الفيديو
يا معاشر المستمعين والمستمعات! اعلموا أن الفتنة دائرة، وتبلغنا أخبار وأنباء آلمتنا ومزقت قلوبنا من فتنة هذه المحنة الجديدة، أعني العرض الذي يعرض فيه آلات الفيديو والتلفاز وتلتقط تلك الصور المدمرة، وكنا نبكي ونقول: نخشى أن يموت صاحب هذا الصحن الهوائي أو الدش على سوء الخاتمة. يبيتون ساهرين طول الليل يشاهدون الخلاعة والدمار، يشاهدون فضائع ما يقولها العاقل ولا ينطق بها المؤمن، وهم مصرون يومياً على هذا، وكل يوم نشاهد على سطح المؤمن المسلم تلك الآلة التي يلتقط بها هذا الدمار والخراب، سوف تمضي عليهم أيام وقد فقدوا إيمانهم، ولكن قد يصيبوننا نحن بالبلاء إذا نزلت النقمة فنهلك نحن معهم، أما هم فهم هالكون من الآن. انتهى الحياء، والحياء أخو الإيمان، الحياء من الإيمان، الحياء كله خير، مسخوه من وجوههم ووجوه بناتهم ونسائهم وأولادهم، فيرتكبون فضائع الذنوب، فكيف نقول؟ أين هذه الأمة، أين ذهبت؟ أين القرآن وأين السنة وأين أصوات العلماء؟ لا سماع أبداً، لا إقبال أبداً، لا تراجع لا ندم ولا توبة ولا بكاء، هذا القرآن على من نزل؟ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ونحن لنا ما كسبنا أم لا؟
أثر كسب الجوارح على العباد
والكواسب -يا معاشر الأبناء- هي الجوارح السبعة، العين -والله- تكسب، أقسم بالله! ما رمى مؤمن أو فاسق أو ماجن بنظرة في وجه لا يحل له النظر إليه إلا انعكس دخان وظلمة في قلبه ويجد أثره بعد ساعة أو ساعات، فيقول الباطل أو ينغمس في الخبث، لا ينطق بكلمة فقط من غضب الله وسخط الله إلا كان كذلك، وقد أخبرنا الرسول بما ليس فيه لبس ولا خفاء أنه قد يقول المرء كلمة لا يلقي لها بالاً ولا يلتفت إليها وهي من سخط الله عز وجل، فيلقى بها في النار أربعين خريفاً. فهذه الجوارح الكواسب وهذه التي نكسب بها اللسان من أشدها، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله صاحبه عن عمل يدخله الجنة ويباعده من النار فيقول له: كف عليك هذا. وأخذ صلى الله عليه وسلم بلسانه، فقال الرجل: ( وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ ). ولولا الكذب -والله- ما وجد باطل ولا شر، كل المعاصي تنتج عن هذه الجريمة، لو كففنا ألسنتنا ولم ننطق إلا بالحق والخير فوالله! ما كان للباطل وجود ولا للمنكر مظهر أبداً، لكن ألسنتنا هي التي تنتج هذا، كواسب أيدينا تكسب ويسجل علينا ما كسبت، ليست سرقة فقط أو أذية مؤمن بضربه أو قتله، فاليد تأخذ وتعطي، فاليد التي تأخذ الحرام كالتي تضرب وتقتل، هي جارحة كاسبة. أرجلنا نمشي بها إلى أين؟ ينبغي ألا نمشي خطوة واحدة في غضب الله، خطوة واحدة لا نمشيها في طريق لا يرضى الله به، ما نمشي أبداً إلا في رضا الله عز وجل. وأعظم من ذلك -والعياذ بالله- البطن والفرج، أكل الحرام وغشيان المحرمات، فهذا أعظم من ذاك كله. فقوله تعالى لها: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134]، ونحن أيضاً لنا ما كسبنا، إن كان الكسب خيراً فزنا بالخير، وإن كان الكسب شراً هلكنا في الشر والعياذ بالله تعالى.
مسئولية المرء عن كسبه وانتفاعه بما كان سبباً فيه من الخير
أقول: القرآن كتاب هداية ورحمة للبشرية، وإن ذكر حجاجاً بيننا وبين أهل الكتاب فالمقصود تربيتنا وإنجاحنا وإكمالنا وعزنا وطهارتنا؛ لأنه كتابنا، فالله تعالى يقول: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141]، هم يتمسكون بأعمال الأولين، فأعلمهم الله تعالى أن أعمال الأولين لا تسألون عنها قطعاً. هل يسال اليهود والنصارى عن أعمال إبراهيم وإسحاق ويعقوب؟ وهل نحن نسأل عن أعمال اليهود والنصارى أو أعمال من سبقنا؟ كل يسأل عن عمله، اللهم إلا ما كان سبباً في وجوده؛ لما علمتم وعرفتم من أن المرء إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، فمنها: ( علم ينتفع به )، فالذي يعلم مؤمناً أو مؤمنة مسألة في دين الله فيعمل بها ذاك المؤمن أو تلك المؤمنة؛ فإنه يثاب عليها ما دام يعمل بها. أيما علم حول حب الله ولقائه، حول العمل الصالح تورثه في أي عبد ويعمل به فإنه ما يزال يجرى لك الأجر حتى ينتهي ذلك العمل، وقد يعلمه آخر فتمتد الحلقات. ثانياً: ( أو ولد صالح يدعو له )، فالولد الصالح من أنجبه؟ أنت، أنت الذي بذلت وأنت الذي أنفقت وأنت الذي عملت حتى وجد هذا الولد، فما دام أنه يدعو فهو يدعو لك، ودعاؤه لا يرد في أبيه أو أمه، يستجاب. وهكذا الصدقة الجارية أيضاً، إذا بنى المرء مسجداً، أو حفر بئراً ذات ماء عذب للشاربين، أو عبد طريقاً، أو وضع جسراً من الجسور، أو أعد عدة لدولة تجاهد في سبيل الله، فهذا العمل متواصل، فقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] هو حق، ومن كسبنا أنا نخلف وراءنا من يعمل.
مسئولية المرء عمن تلزمه تربيتهم
وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141] هذا ختام هذا الحجاج، وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141]، فهل أحدنا يسأل عن أبيه إذا مات لا يصلي؟ الجواب: يسأل ولا يسأل، إن كان قد بلغه ونصحه ودعاه وجلب عليه الصالحين فدعوه فأبى أن يهتدي ومات -والعياذ بالله- تاركاً صلاته فهو من أهل النار، ولا يسأل عنه الولد يوم القيامة، لكن إذا قصر وما نصح وما علم وما دعاه إلى الهدى فإنه يسأل. أبناؤك تسأل عنهم إذا أنت قصرت في تربيتهم في توجيههم لهدايتهم، إذا أهملتهم وتركتهم في الشوارع والغابات يعبثون ويلعبون، وتأتي إلى البيت فتجدهم غائبين فلا تسأل، تجدهم نائمين فلا تسال، أنت مسئول عنهم، هم يعملون الباطل وأنت تأثم به، وهكذا. فالآية ليست على عمومها أنه لنا ما كسبنا ولهم ما كسبوا، نعم ولكن من كسبنا ما نكون السبب في إيجاده وحصوله.
تحذير من مشاهدة صور العاهرات والماجنين في البيوت
معاشر المستمعين والمستمعات! هذا كتاب الله أكرمنا الله عز وجل واجتمعنا عليه فلله الحمد والمنة، فلنذكر ما سمعنا ولنبذل ما استطعنا في إصلاح أنفسنا وتزكية أرواحنا، والطريق الوحيد يا معاشر الأبناء هو أن لا نخلو أبداً من مجالس الذكر، ما هذا الذكر؟ مجالس الذكر في بيوت الله نتعلم كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قدر منكم -وكلكم قادر- على أن يطرد الشياطين من بيوته فليفعل. يا معاشر المستمعين! أقسم لكم بالله! إن البيت الذي تظهر فيه صور العواهر والمغنيات وصور الكفار والماجنين من اليهود والنصارى وغيرهم؛ هذا البيت ما تبقى فيه الملائكة، وسوف تنزل بهم الشياطين، ولا يندم إلا من تورط ولا ينفع الندم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل حجرة عائشة ، هذه الحجرة الطاهرة التي فيها رسول الله وصاحباه، فإذا فيها خرقة من كتان فيها صورة لا ملامح لها ولا تجاعيد، فوالله! لقد غضب صلى الله عليه وسلم وعرفت عائشة الغضب في وجهه حتى صاحت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا فعلت يا رسول الله؟ فيقول لها: ( أزيلي عني قرامك يا عائشة )، أزيلي هذه الخرقة التي فيها الصورة، ( فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ). وجبريل عند الباب ما استطاع أن يدخل، أيسمع هذا المسلمون؟ أيسمحون بهذه الصور والخلاعة في بيوتهم والأغاني والرقص، فتتحول كأنها مواخير في بيت يجب أن لا يسمع فيه إلا ذكر الله، وأن لا يرى فيه صورة، فتطرد الملائكة وتخرج وتحل الشياطين محلهم. والعاقبة ما هي؟ أن ينزل بنا دمار وخراب، فنبكي ساعة ولا ينفع البكاء، فالله بالمرصاد، سلط علينا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا فأذاقونا مر العذاب وسامونا، والآن هل نحن أصلح من آبائنا وأجدادنا؟ نحن هابطون هبوطاً لا حد له، والله! ما كان هذا الفحش والباطل في ديار المسلمين، كانت كرامة وإباء وشرف. أما اليوم فمن هيأنا لهذه الفتنة؟ اليهود والنصارى، والله! إنهم لينتظرون متى نحترق ومتى نسقط، وهم يعملون ليلاً ونهاراً ونحن غافلون، ما قرأنا القرآن، فهذا المجلس الذي كنا فيه فيه حجاج بين الرسول واليهود والنصارى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] ، قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [البقرة:139]، هل هؤلاء الأعداء نتخذهم أولياء ينصحون لنا ويهدوننا لما فيه الخير؟ والله! إنهم ليعملون على تدميرنا. فيا عباد الله! انتبهوا، غيروا هذا النظام في الحياة، بيوتكم طهروها، ألسنتكم طهروها، قلوبكم طهروها لله لا تلتفوا إلى غير الله، فتكونوا قد عرفتم الطريق إلى الله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (95)
الحلقة (102)
تفسير سورة البقرة (62)
أول ما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يصلون مستقبلين للكعبة، ولبثوا على هذه الحال ثلاث سنين، فلما هاجر النبي إلى المدينة صلى تجاه بيت المقدس وصلى معه المؤمنون قرابة سبعة عشر شهراً، وكان صلى الله عليه وسلم حينها يتطلع إلى أن يؤمر باستقبال الكعبة حتى جاءه الأمر بذلك وقت صلاة الظهر، حيث تحول من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة أثناء الصلاة، فقام عندها المرجفون والمنافقون بإثارة الشبهات حول ذلك الأمر، فأنزل الله عز وجل مخبراً إياهم ومبيناً لمن عداهم أن الأرض كلها له سبحانه، مشارقها ومغاربها، وعباده المؤمنون يتجهون حيث أمرهم، مسلمين أمرهم له سبحانه طائعين منيبين.
فضائل الجلوس في المساجد للعلم ومدارسة القرآن
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:142-144].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم الجائزة الكبرى التي تفوزون بها في هذا المجلس، اذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، هذه لكم. وأخرى: يقول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وثالثة: هي أن المرء إذا صلى في المسجد وجلس ينتظر الصلاة الأخرى -كانتظارنا هذا لصلاة العشاء- فإن الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له .. اللهم ارحمه، اللهم اغفر له .. اللهم ارحمه، ما لم يحدث، أي: ينتقض وضوؤه، إلى صلاة العشاء. لو أردت أن تستخدم ملكاً واحداً يصلي عليك ساعة ونصفاً فكم ستعطيه؟ ما تستطيع، وها أنت بفضل الله في ملائكة تحف بالحلقة وتصلي علينا وتدعو لنا، غفل عن هذا المؤمنون وجهلوه، فهجروا بيوت الله وملئوا بيوت الباطل وحرموا هذا الهدى، وويل للذين كانوا سبب هذه الفرقة وهذا البعد عن دين الله وبيوت الله.
تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ...)
خلاصة الأحداث المتعلقة بالصلاة إلى زمن تحويل القبلة
والآن مع هاتين الآيتين الكريمتين، يقول الجبار جل جلاله وعظم سلطانه: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142]، أعطيكم خلاصة لهذه الأحداث وبها تفهمون عن الله مراده من هاتين الآيتين: اعلموا أن القبلة حيث نستقبل مكاناً فيصبح قبلتنا أمامنا، لما فرض الله عز وجل على نبينا وعلينا معه الصلوات الخمس؛ هذا الفرض تم في الملكوت الأعلى، الصلوات الخمس فرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته في الملكوت الأعلى، أي: فوق دار السلام، إذ تمت له رحلة من الأرض إلى السماء، ووصل إلى مكان فتأخر جبريل وتقدم هو صلى الله عليه وسلم، فجبريل تأخر وهو الدليل، فقال: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164]، وتقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وحده وناجاه ربه وكلمه وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس. متى هذا؟ كان في السنة العاشرة من البعثة، عرج بالرسول إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس فنزل وصلى به جبريل عليه السلام، علم جبريل الرسول كيف يصلي، وعلمه أوقات الصلوات الخمس حول الكعبة، جبريل يصلي والرسول وراءه، فعلمه الصلاة وأوقاتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة وهو -فيما يبدو- ما بين الركنين: الركن اليماني وركن الحجر الأسود، فصلى ثلاث سنوات، فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس، فصلى هو والمؤمنون والمؤمنات قرابة السبعة عشر شهراً وهم يستقبلون بيت المقدس. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، كان يود ويرغب كما سيأتي بيان ذلك في قول الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، واليهود فرحوا لأن الرسول يستقبل قبلتهم، وكانوا بالمدينة يكونون ثلاثة أرباعها. إذاً: فلما تطلع إلى أن يستقبل الكعبة بيت الله أنزل الله تعالى هاتين الآيتين، وهو إخبار بما سيكون: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ [البقرة:142]، والسفهاء: جمع سفيه ضد الرشيد، والمراد من السفهاء هنا اليهود والمنافقون وضعفة الإيمان ممن لم يتمكن الإيمان من نفوسهم. سيقولون عندما تتحول القبلة كذا وكذا، أخبر تعالى بهذا قبل حدوثه حتى لا يحصل للرسول والمؤمنين اضطراب وتألم مما يسمعون من المنافقين واليهود والمشركين، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، ثم نزلت الآية: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]. قيل: هذه الآية -آية التحول- نزلت في مسجد بني سلمة الذي يعرف الآن بمسجد القبلتين، وهو جائز؛ إذ قد يكون دعي لطعام عند أحد المؤمنين هناك، فجاءت صلاة الظهر فخرج وصلى بهم ركعتين، ثم أعلم بتحويل القبلة فاستداروا كما هم عليه إلى الكعبة النساء والرجال، وهذا مروي وجائز. وبعض الروايات تقول: الآيات نزلت والرسول هنا على المنبر يخطب الناس؛ حتى إن بعض الصحابة لما قرأ الرسول هذا عرفوا أن القبلة ستتحول، فقالوا: هيا بنا نغتنم الفرصة فنصلي فنكون أول من صلى إلى القبلة، وتم لهم ذلك ففازوا بالأولية والأسبقية.
الخبر عن قالة السفهاء حال تحويل القبلة
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، بعضهم يقول: هذا ما عنده ثبات ولا تطمئن النفوس إلى الإيمان به واتباعه ما دام يتقلب هكذا، أمس كان كذا واليوم كذا، فممكن غداً أن يتحول إلى جهة ثانية، هذا يحسنه المنافقون والمرضى ويجيدون الخبط في هذا الشأن، وقد عرفنا هذا من أعدائنا حين يتكلمون عن الإسلام فيشوهون ويقبحون ويقولون ما يقولون، هذا شأنهم إلى اليوم. إذاً: فهذه الأقاويل زلزلت أقدام المؤمنين واضطرب الناس، فهم يحسنون كيف يعيبون، يقولون: كيف يستقبل بالأمس بيت المقدس والآن يتحول؟ ما سبب هذا التحول غير عدم رأي وعدم بصيرة؟ هذا من الجائز أن يترك القبلة بالمرة والعياذ بالله، هذا الذي أخبر به تعالى قبل أن يكون وكان كما أخبر.
معنى قوله تعالى: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، فالجواب من الله عز وجل يقول: يا رسولنا المبلغ عنا! قل لهؤلاء: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142] المشرق لله والمغرب لله، إن شاء حولنا إلى شمال أو إلى جنوب، والمشرق والمغرب عبارة عن الكرة الأرضية، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] . وبهذا قطع ألسنتهم وهدأ من روع واضطراب المؤمنين، ألسنا بالمؤمنين؟ بلى، أليس الله بالعليم الحكيم؟ بلى، يهدي من يشاء؟ نعم، إذاً: أراد أن نستقبل بيت المقدس فاستقبلناه، ثم أراد أن يحولنا إلى الكعبة فتحولنا، وهذه هي طاعة الله وطاعة رسوله، فلم يبق مجال لمن يعترض أو ينتقد أو يقول ويقول. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، والصراط المستقيم هو سبيل الله الموصل بالسالكين إلى دار السلام، الصراط: الطريق الذي لا اعوجاج فيه، سالكه ينجو ويفوز ويسعد، وقد علمنا من سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الإسلام، من أسلم ظاهراً وباطناً، أسلم قلبه ووجهه لله واستقام على طاعة الله وطاعة رسول الله فهو ناج فائز، ما إن يتوفاه الله حتى يكون في دار السلام.
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ...)
وسطية الأمة الإسلامية بين اليهود والنصارى
ثم يقول تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] كما حولنا القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، أي: خياراً عدولاً، والوسط في كل شيء ممدوح ومحمود، والغلو والتفريط مذمومان، الإفراط والتفريط، والغلو والإهمال والضياع، لكن السبيل المحمود هو الوسطية. وهناك أمثلة: اليهود عليهم لعائن الله ماذا قالوا في عيسى ابن مريم؟ قالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا ما فيه من الأباطيل ما قالوا، هذا طرف فرط، والنصارى ماذا قالوا في عيسى ابن مريم؟ قالوا: ابن الله وهو الله وثالث ثلاثة مع الله، هؤلاء غلوا، وماذا قال المؤمنون المسلمون؟ قالوا في عيسى: عبد الله ورسوله، يكفيه أن يكون عبداً لله ورسولاً له، فانظر إلى الوسطية. اليهود قالوا: عيسى ابن زنا وساحر ودجال وكذاب، وصرفوا الناس عن رسالته ودعوته، والنصارى الذين اتبعوه ما هي إلا فترة سبعين سنة وأفسدوا عليهم دينهم وقلبوا أوضاعهم وحولوهم إلى وثنيين يقولون في عيسى: هو ابن الله، ومنهم من يقول: هو الله وثالث ثلاثة مع الله، فأمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا في عيسى ما قال الله فيه: عبد الله ورسوله، فهذا مثال للوسط. مثال آخر: فيما فرض الله على بني إسرائيل أن من قتل يقتل، لا دية ولا عفو، إن قتل فلا بد أن يقتل، وأما المسيحيون النصارى فعندهم أن من قتل لا تؤخذ دية منه ولا يقتل، يجب أن يعفى عنه! فانظر إلى الطرفين: اليهود أمروا بألا يقبلوا دية ولا يعفوا، لا بد أن يقتل، وهذا شرع الله فيهم، والنصارى أمروا بالعفو، فرض عليهم العفو، فمن قتل يعفى عنه، لا دية ولا قصاص، وأمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم مخيرة في الثلاثة: القتل والدية والعفو، إذا طالب أولياء القتيل بالقتل قدم لهم القاتل وقتل قصاصاً، وإن طالبوا بالدية وأعطيت لهم أخذوها، وإن شاءوا قالوا: عفونا لا نأخذ دية ولا نقتص ممن قتل أخانا أو أبانا، فانظر إلى الوسطية: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً. فمن هنا -معاشر المستمعين والمستمعات- تتجلى كرامة هذه الأمة لو استقامت على منهج الله؛ لأن العدل بيننا وعندنا هو ذاك الذي يجتنب كبائر الذنوب والآثام، العدل بيننا من لا يغشى كبائر الذنوب ولم يأت الآثام، وليس معنى هذا أنه معصوم، هو محفوظ بحفظ الله، فإن زلت قدمه في يوم من الأيام وارتكب كبيرة وتاب توبة نصوحاً عاد إليه نوره وكماله الأول وما زال عدلاً.
اعتبار شهادة الجماعة على الميت بالخير والشر
وهنا نذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه القضية: صح عنه صلى الله عليه وسلم ( أن جنازة مر بها حاملوها فتكلم من تكلم وأثنى على هذه الجنازة خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت. ثم مر بجنازة وذكرها الناس فقالوا فيها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت. فقال عمر : فدى لك أبي وأمي! مر بجنازة فأثني عليها خيرٌ فقلت: وجبت وجبت وجبت. ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض ). فالذي شهدتم له بالخير فهو على خير وهو في الجنة، والذي شهدتم عليه بعدم الخير بالشر وجبت له النار؛ لأنكم شهداء الله في الأرض، وهذه بينت قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] . وهذا نظيره ما علمتم من ( أن الله تعالى إذا أحب المؤمن أو المؤمنة ينادي جبريل عليه السلام: يا جبريل! إني أحب فلان ابن فلان فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماوات: إن الله يحب فلان ابن فلان فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )، لا يراه عبد صالح إلا أحبه.إذاً: بيننا من هم محبوبون ومن الناس من لا يحبهم بل لا يشهد لهم بخير، فهل غير العادل تقبل شهادته؟ ما تقبل، الآن في المحاكم إذا استدعى الأمر شاهدين فلا بد أن يكونا عدلين، وإلا فما يعطي القاضي حكماً بمجرد شهادة، لا بد من شهادة عدل، فمن هنا نقول: إذا شهد المؤمنون الصالحون لعبد مؤمن فقولوا: وجبت وجبت له الجنة، وإذا شهد أولئك الصالحون المؤمنون الأتقياء على شخص بالشر فقولوا: وجبت له النار. أما الذين ليسوا بعدول فشهادتهم لا تقبل ولا يعول عليها، ففي المحاكم يرفضونها ولا يقبلون شهادة معروف بالفجور معروف بالظلم والشر والفساد وبالخبث والشرك، ما تقبل شهادته. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا حقاً عدولاً، ما رأت الدنيا أعدل ولا أرحم من أولئك الأصحاب في الأمم السابقة واللاحقة، أما بعد مرور هذه القرون المتتالية ففي هذه الأمة عدول وما أكثرهم وفيها سفهاء وما أكثرهم، فأحببت أن تعرفوا أن العدل هو الذي تقبل شهادته، ذاك المؤمن المستقيم على منهج الله الذي لا يعرف الكذب ولا قول الزور ولا شهادة الزور ولم يغش كبائر الذنوب، فهذا إذا أعطى شهادته لا يعطيها إلا لمن عرفه وعرف ظاهره وباطنه، وقال: فلان عبد صالح فاشهدوا له بالصلاح.
شهادة الأمة للأنبياء على أممهم يوم القيامة
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] وذلك يوم القيامة، هذه منزلة عالية ودرجة رفيعة ما نالتها أمة من الأمم أبداً إلا نحن، يوم القيامة يقف النبي بين يدي الله تعالى ويقول: بلغت رسالتي يا رب إلى من أرسلتني إليهم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال: كيف شهدتم وما عاصرتموهم وما عرفتم عنهم؟ فيقولون: ربنا! أنزلت إلينا كتابك وبعثت فينا رسولك، وقد أخبرنا كتابك ورسولك بأن رسلك قد بلغوا وأن أممهم قد رفضت ذلك البلاغ وحاربته ولم تقبله، فشهدنا بشهادة كتابك ورسولك، فتقبل شهادتهم على الأمم التي سبقت.
معنى قوله تعالى: (ويكون الرسول عليكم شهيداً)
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] أي: هيأكم لهذا الكمال الذي أنتم عليه أيها المؤمنون العدول وتلك الاستقامة على منهج الحق والعدل، ذلك الصفاء الروحي والطهارة النفسية أهلتكم لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، والرسول يكون شهيداً عليكم، وكيف يشهد علينا؟ بلغنا أن أعمالنا تعرض عليه؛ إذ الأعمال تعرض على الله يوم الخميس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، فسئل: لم تصومهما؟ قال: أما يوم الاثنين فهو يوم ولدت فيه. وبعث فيه وهو يوم توفي صلى الله عليه وسلم فيه، وأما الخميس ففيه تعرض الأعمال على الله سبحانه وتعالى. إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد علينا، يشهد على أنه بلغنا فقضى ثلاثاً وعشرين وسنة وهو يبلغ هذه الدعوة، وحملها رجاله وأصحابه ونشروها في الشرق والغرب، إذاً: فالرسول يشهد على هذه الأمة بأنه بلغها ما أمر بإبلاغه وأوصل ما أمر أن يصل به إليها، ولنذكر أن شهادة النبي صلى الله عليه وسلم فيها درجة عالية ومستوى راق، كون محمد صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة، وهو الذي يقول الله عز وجل له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] وعد صادق، فيقول: كيف أرضى وواحد من أمتي في النار! فلهذا فإن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أي: الموحدون لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته لم يعرفوا له شريكاً في قلوبهم ولا في حياتهم؛ هؤلاء من ارتكب منهم كبيرة فزج به في عالم الشقاء في النار بشروه أنه لا يخلد فيها؛ لأنه تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: كيف أرضى وواحد من أمتي في جهنم؟ فهذه الشفاعة التي يخرج بها الموحدون من النار. أما الذين ماتوا على الشرك -والعياذ بالله تعالى- والكفر فكونهم من أمة محمد نسباً لا قيمة لذلك، وقد عرفتم أن للرسول شفاعات، منها أنه يشفع لمن دخل النار من أهل التوحيد ويخرج منها.
وبعض المفسرين يقولون في قول الله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
[البقرة:143] أي: لكم. ولا حاجة إلى هذا، ما دام أنه أخبر تعالى بقوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فأن نقول: ويكون الرسول لنا شهيداً فكأننا نرد على الله عز وجل، وهذا اللفظ موجود في التفاسير، لكن الحقيقة ما أخبر الله تعالى به، يشهد رسول الله على أمته أنه بلغها. وأمم ما آمنت به صلى الله عليه وسلم، هذه الأمم المعاصرة لنا؛ إذ الرسالات ختمت برسالته والنبوات ختمت بنبوته، فما بعده من رسول ولا نبي، إذاً: فالبشرية كلها الرسول شاهد عليها، فلهذا لا نحتاج إلى أن نقول (عليكم) بمعنى (لكم)، فهذه الأمم من اليهود والنصارى والصابئة والبوذيين والمشركين من عهده صلى الله عليه وسلم من هو نبيهم؟ من هو رسولهم؟ هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فهو يشهد على أنه بلغ اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمشركين، لا يشهد لهم بل عليهم، أما العدول الخيار فهم يشهدون لغيرهم وعلى غيرهم. هذه كمالات هذه الأمة، ومع الأسف خانوها وغشوها وخدعوها وأبعدوها عن كل سبيل لنجاتها وسعادتها، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
معنى قوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)
ثم يقول تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [البقرة:143]، ما هي القبلة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هي بيت المقدس، مكث سبعة عشر شهراً -سنة ونصف سنة- وهو يستقبل بيت المقدس، من الذي جعلها له قبلة؟ الله عز وجل، ما استقبل بيت المقدس عن هوى وإنما بوحي أوحاه الله إليه أو إلهام ألهمه الله إياه، فألهمه استقبال بيت المقدس، ومن الجائز أن يكون هذا فيه معنى الترغيب لليهود في الإسلام، فيقولون: ما دام قد استقبل قبلة قبلتنا فما هو الفرق بيننا وبينه؟ فلندخل في هذا الدين. قد يكون هذا من باب هداية الله لو قبلوا واهتدوا. وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] أي: قضية اختبار وامتحان، وقد مر قوله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] هذا الحسبان باطل، لا بد من الافتتان، لا بد من امتحان لا بد من الاختبار حتى يصفو النبع وتطيب النفس. فانظر ماذا حدث في تحويل هذه القبلة، والله هو الذي حولها، فهو الآمر والمشرع للامتحان والاختبار، إذ قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، وبالفعل أصيب المنافقون بمرض فصاحوا وضجوا، وضعاف الإيمان كذلك انتكسوا؛ فقالوا ما قالوا، وتعرفون البشر في مجالس في بيوتهم، يقولون: انظروا ماذا حدث! كيف تحولت القبلة؟ بالأمس كان هنا واليوم هنا وغداً يكون في جهة ثالثة! فاضطرب الناس وثبت أهل الإيمان واليقين وزادهم الله ثباتاً ويقيناً، والضعاف المهزولون انتكسوا ومنهم من ارتد والعياذ بالله.
معنى قوله تعالى: (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)
ثم قال تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] هذه هي الفتن التي إذا لم يثبت العبد فيها يتمزق ويسقط، فهي كبيرة، ونحن الآن ما نشعر بكبرها وعظمتها، لكن حين كان القرآن ينزل والناس يتطلعون يومياً إلى التشريع، ثم يشاهدون الرسول قد تحول فجأة من قبلة إلى قبلة يقولون: كيف نفعل؟ لأن جيرانهم ومن معهم في الشوارع وفي البيوت يقولون: انظروا: بالأمس كنتم كذا واليوم كذا وغداً ستصبح لكم قبلة أخرى! أين الثبات وأين الصدق وأين وأين؟ فتضطرب نفوس الناس. وهذه التي تعرف الآن بالطابور الخامس، ويستعملها الغرب وخاصة اليهود بأبشع صورة، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] تلك التحويلة من جهة إلى جهة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143]، الذين هداهم الله لحبه وطاعته والإيمان بلقائه والاستقامة على منهجه هؤلاء ما تزعزعوا ولا تحركوا ولا تألموا أبداً، فهم يقولون: إن شاء حولنا يومياً إلى جهة، أليس ربنا ونحن مأمورون بطاعته؟ يمتحننا كل شهر فيحولنا إلى جهة فنتحول، أطعناه في كل شيء، لا في قضية القبلة فقط. يقول تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] عز وجل، وهم أبو بكر وعمر وأصحاب الرسول والعشرة المبشرون بالجنة وأمثالهم في المدينة، وقد صاروا أكثر من ثلاثين ألفاً.
معنى قوله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] هنا لما تحولت القبلة تأسف بعض المؤمنين، قالوا: فلان مات قبل أن تتحول القبلة، فلان توفي قبل أن تتحول القبلة، كيف حالهم؟ كيف صلاتهم؟ هل صلاتنا التي صليناها الآن لسنة وزيادة تقبل أو لا تقبل؟ فنفوسهم اضطربت وتحركت، فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يضيع تلك الصلاة.إذاً: فهذه الصلاة هي الإيمان بهذه الآية الكريمة، فهل يقف عبد بين يدي الله يبكي، يركع ويسجد ويعفر وجهه في التراب ولا يكون مؤمناً؟ اللهم إلا إذا كان ينافق، فقلبه كافر، أما عبد يقيم الصلاة ويسجد بين يدي الله وفي اليوم خمس مرات فكيف لا يكون مؤمناً؟ فلهذا أطلق على الصلاة بهيكلها لفظ الإيمان، بهذه الآية الكريمة: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].إذاً: فالذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس قبل تحويل القبلة صلاتهم مقبولة صحيحة سليمة لا تشكوا فيها، وصلاتكم أنتم أيضاً يا من ما زلتم وتحولتم إلى الكعبة؛ صلاتكم في العام الماضي والأشهر الماضية مقبولة، ويكفي أن يقول الله تعالى لهم: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].أعيد فأقول: الصلاة إيمان، الله سماها إيماناً، فتارك الصلاة لا إيمان له، تارك الصلاة كافر.
معنى قوله تعالى: (إن الله بالناس لرءوف رحيم)
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، الرأفة أعظم من الرحمة، ومولانا وسيدنا وربنا تعالى رءوف رحيم، ليس بالمؤمنين فقط، بل بالناس: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، ومن أراد أن يشاهد الرأفة والرحمة الإلهية في الخلق فلينظر إليهم وهم يكفرون به ويحاربون دينه وأولياءه ومع هذا يمطر أرضهم ويسقيهم ويرزقهم ويأكلون ويشربون، لو كان غير الله فمن عصاه وتمرد عليه وكفر به يهلكه، يمنع عنه الطعام والشراب حتى يهلك، فسبحان الله! أعظم برحمة الله تعالى ورأفته! إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ [البقرة:143] كل الناس لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، إلا أن أولياءه هم أولى برحمته ورأفته، بخلاف أعدائه، إلا أن رحمة الله واسعة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله خلق مائة رحمة كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض، قسم منها رحمة بين الخلائق بها تعطف الوالدة على ولدها وبها يشرب الوحش والطير الماء وبها تتراحم الخلائق، فإذا كان يوم القيامة قصرها على المتقين وزادهم تسعًا وتسعين )، جزأ تعالى الرحمة إلى مائة جزء، وادخر لأوليائه تسعة وتسعين في الجنة، ورحمة واحدة تتراحم بها الخليقة كلها، حتى إن الفرس لترفع حافرها مخافة أن تطأ مهرها أو فلوها، هذه الظواهر تشاهدونها في الحيوان. والأم من بني آدم يكون الحمل في بطنها، ما إن تأتي ساعة الطلق والوضع والولادة حتى يتحول دمها الأحمر إلى لبن أبيض خالص ناصع حتى يرضع هذا الطفل من هذا اللبن، اللبن هذا كان دماً خالصاً، فانظر إلى تلك الرحمة الإلهية التي أودعت في الأمهات كيف تتحول إلى لبن! انظر إلى العصفور كيف يزق أفراخه! انظر إلى الدجاجة كيف تزق أفراخها وكيف تطعمهم! انظر إلى العنز كيف تصنع مع وليدها، تميل له وتنزل حتى تكاد تقع على الأرض وتناغيه بصوت خاص.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن الله قسم الرحمة إلى مائة قسمة، ادخر لنا -أيها المؤمنون والمؤمنات- تسعة وتسعين جزءاً، وجزء واحد تتراحم الخليقة كلها به، إذاً: حقاً إن الله رءوف رحيم، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].
حكم الصلاة إلى غير القبلة
وهنا نبين حكم من يصلي إلى غير القبلة؟ فنقول: لا تصح الصلاة إلى غير القبلة التي شرعها الله، فمن عزف عنها أو تكبر أو ارتفع أو أبى أن يستقبل بيت الله فصلاته باطلة بالإجماع، إذ من شروط صحة الصلاة: الطهارة واستقبال القبلة، لكن إذا عجز العبد عن استقبال القبلة، كمريض على سريره لا يستطيع أن يتحول، فهذا يكون رخصة له فيصلي حيث أمكنه، أو مسجون، أو مكبل بالأغلال، أو مكتوف في يديه ورجليه ما يستطيع أن يستقبل القبلة فيصلي حيث أمكنه. وأما جاهل بالقبلة ما عرفها، وجد نفسه في صحراء أو في طائرة أو في باخرة؛ فإنه يجتهد فحيث ترجح عنده أن الكعبة هنا اتجه، ولو صلى وجاء من قال: إنك صليت إلى غير القبلة فليس عليه أن يعيد صلاته، تكفيه صلاته الأولى، فإن صلى ركعتين أو ثلاثاً إلى غير القبلة ظناً أن القبلة هنا وجاء من قال: يا فلان! استدر يميناً أو شمالاً، فإنه يستقبلها وصلاته صحيحة، والذين كانوا في مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح، فجاءهم رجل صلى العشاء مع رسول الله هنا، فأعلمهم بأن القبلة قد تحولت إلى الكعبة، فاستداروا كذلك بعدما صلوا ركعة من صلاة الصبح، وأتموها إلى الكعبة.أما الذي يتعمد عدم استقبال القبلة فبالإجماع صلاته باطلة، أما الذي صلى ولم يجتهد فصلى كما يرى؛ فهذا إن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة، فلا بد للمؤمن أو المؤمنة عند القيام لله في الصلاة أن يتحرى القبلة ما استطاع، فإن وفق وصلى إليها صحت صلاته، وإن لم يوفق وصلى إلى غيرها صحت صلاته، ولا يعيدها، وهذا من رحمة الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].
تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ...)
ثم قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، الآن بدأ تحويل القبلة، فذاك الذي تقدم من أجل ألا يحصل ارتباك واضطراب بين المؤمنين، ومع هذا حصل ما حصل. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب في أن يستقبل الكعبة ويود ذلك، فكان ينتظر الوحي متى ينزل، والوحي ينزل من السماء، فكان يرفع رأسه انتظاراً لجبريل متى ينزل والله عز وجل به عليم، فأخبره بما كان عليه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] هذا وعد الله: فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، إذاً: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144] أيها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].
حالات لزوم استقبال جهة الكعبة وعينها
إذا كان أحدنا في المسجد الحرام لا تصح صلاته إلا إلى القبلة، سواء كان مكانه شمالاً أو غرباً أو جنوباً، وإن كان خارج المسجد فلا تصح صلاته إلا إذا اتجه نحو القبلة لقربها، فمن بعد في الآفاق فيكفيه أن يتجه إلى النحو الذي يرى أنه القبلة؛ لأن عين القبلة غير ظاهر، ما يراه أحد في الآفاق البعيدة، فيكفي الاتجاه، أهل المغرب يصلون إلى المشرق، فمكة شرقهم، وأهل الشمال إلى ما فوق سيبيريا يتجهون جنوباً لأن القبلة تعتبر جنوباً، وأهل المشرق كالرياض قبلتهم المغرب، وأهل اليمن يتجهون شمالاً، وهكذا. فالذي نريد أن يفهمه المستمعون والمستمعات أن الذي يصلي في المسجد الحرام والكعبة أمامه لا يصح أن يصلي منحرفاً عنها، لا بد أن يستقبل الكعبة وإلا فصلاته باطلة. ومن كان خارج المسجد من أهل مكة وهم قريبون من الكعبة قد يشاهدونها وهم على سطوحهم، فهذا أيضاً يجب أن يتجه شطرها، والذين في الآفاق يكفيهم الجهة التي فيها الكعبة.ثم هذه الكعبة كانت قبلة الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، كانت قبلة إبراهيم وموسى والأنبياء، فلم -إذاً- حول الله عز وجل رسوله والمؤمنين إلى بيت المقدس؟ للامتحان، للاختبار، فلهذا كان ذلك التحول من أجل امتحان المؤمنين واختبارهم ليبقى المؤمن الصادق وينهزم الكاذب كالمنافقين واليهود. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] إن كنا في اليابان أو الصين أو كنا في كندا وأمريكا، حيثما كنا نولي وجوهنا شطر المسجد الحرام.
وقفة مع هجران القرآن في حياة المسلمين
الرسول يوم القيامة يقول: رب! إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، فالمشركون الذين جاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاومهم ودعاهم وحاربهم كانوا هاجرين للقرآن غير مقبلين عليه ولا ملتفتين إليه، ما آمنوا به ولا عملوا بما فيه، وكل البشرية يشكو الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها الذي هو اتخاذ القرآن هجراً مهجوراً، فأيما إنسان لم يقبل على هذا الكتاب فيؤمن به ويقرؤه ويعمل بما فيه من هدى فإنه يشكوه الرسول إلى الله عز وجل، ويهلك قطعاً بلا جدال ولا شك. وها نحن نشاهد أيضاً العالم الإسلامي قد هجر القرآن إلا من رحم الله عز وجل، فالبلاد التي لا تطبق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تطبق شرع الله الذي حواه كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أما هجرت القرآن؟ بلى هجرته، والجزاء معلوم عند الله، فلهذا نسأل الله أن يتوب علينا وعلى المؤمنين والمؤمنات.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (96)
الحلقة (103)
تفسير سورة البقرة (63)
كان النبي صلى الله عليه وسلم أول مقدمه المدينة يتوجه في صلاته إلى بيت المقدس، وكانت نفسه تهفو إلى التحول تجاه البيت الحرام، ثم أذن الله عز وجل له بذلك مبيناً له أن أهل الكفر والنفاق والجدال بالباطل سيستغلون هذه الحادثة، وسيثيرون حولها الشبهات، وسيشغبون بها عليه وعلى المؤمنين، ورغم علمهم وقناعتهم بأن هذه القبلة هي الحق، ولكنهم لا يقبلونها لأنهم لا يقبلون الحق، فهذا هو حالهم وهذه هي سجيتهم.
تابع تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ...)
تطلع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحويل القبلة لمخالفة اليهود
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر الله شيئاً ولا يضر إلا نفسه. أما بعد:معشر الأبناء والإخوان! ما زالت السورة -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:144-151].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قد عرفنا من درسنا الماضي أن السفهاء من المنافقين واليهود، وهم حقاً سفهاء لا رشد لهم، فالذي يقدم على الكفر ويقدم على النفاق ويتحلى بأسوأ الأخلاق كيف لا يكون سفيهاً؟عرفنا ذلك وعرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة ثلاث سنوات يصلي، وقد صلى به جبريل عليه السلام، وكان يقف في صلاته ما بين الركنين اليماني والحجر الأسود، ويصبح الشام أمامه والكعبة أمامه، فلما هاجر إلى المدينة الطيبة المباركة استقبل بيت المقدس، واستقبلها المؤمنون والمؤمنات نحواً من ستة أو سبعة عشر شهراً، ثم كان صلى الله عليه وسلم يتطلع متى ينزل الوحي عليه ويحول الله قبلته إلى الكعبة، لم؟ أراد أن يخالف اليهود، لما ظهر مكرهم وخداعهم ونفاقهم أحب أن يخالفهم، وقد عرفتم كيف نهانا عن صيام يوم السبت؛ إنه من أجل مخالفة اليهود، وكنا نصوم يوم عاشوراء فزادنا اليوم التاسع حتى نخالف اليهود، فقال: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع )، والآن يصوم المسلمون يوم تاسع المحرم وعاشره مخالفة لليهود.وأصبح يعمل ما استطاع على مخالفة أهل الكتاب ليستقل المؤمنون استقلالاً كاملاً، فمن رغب من أهل الكتاب في الإسلام فباب الله مفتوح، فليدخل إلى رحمة الله.ولما حقق الله أمله وأمره بأن يستقبل الكعبة إلى بيت المقدس صرح المنافقون والمشركون واليهود -والكل سفيه- وقالوا الكثير، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، فقطع ألسنتهم وأسكت أصواتهم إذ هذا أمر الله، فالمشرق والمغرب كلاهما لله وهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وثبت المؤمنون عند هذه الفتنة. ثم قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144]، إذ كان صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى يوم يؤمر فيه باستقبال الكعبة إذ هي القبلة التي استقبلها إبراهيم والأنبياء والرسل من بعده، فنزلت هذه الآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] متطلعاً منتظراً الوحي، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].ويروى: أنه كان يصلي في مسجد بني سلمة، فنزل الوحي وهو في الصلاة يصلي بأهل ذلك الحي، فاستداروا، كانوا متجهين نحو الشام فاستداروا إلى الكعبة، استدار النساء والرجال بصورة لا يستطيعها الناس اليوم، ولهذا سمي هذا المسجد بمسجد القبلتين، وما زال يعرف بهذا إلى اليوم.
تحديد قبلة الكائن في المسجد الحرام وخارجه
إذاً: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، فمن هنا أصبحت القبلة التي يصلي إليها المؤمنون والمؤمنات هي شطر المسجد الحرام، وقد روى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من كان في المسجد الحرام فقبلته البيت )، فالذي يصلي داخل المسجد الحرام بمكة قبلته الكعبة بعينها، فلو صلى إلى غيرها ما صحت صلاته، وأهل الحرم قبلتهم المسجد الحرام، حيثما كانوا في أنحاء الحرم فقبلتهم المسجد، ومن كان من وراء الحرم من أهل المشرق والمغرب فقبلتهم شطر المسجد الحرام، وهذا هو قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، والشطر يطلق على نصف الشيء وعلى الجزء منه، فقبلة المؤمنين والمؤمنات في المسجد الحرام الكعبة، وفي مكة والحرم قبلتهم المسجد، وفي خارج الحرم شرقاً أو غرباً شمالاً أو جنوباً قبلتهم شطر المسجد الحرام، أي: الجهة التي فيها المسجد الحرام.وقوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] لأنه كان يتطلع ويرغب ويحب أن يحوله ربه تعالى إلى الكعبة، فها هو ذا تعالى يبشره: فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] حيث ما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، ولولا هذه الجملة من كلام الله لقال الناس: هذا خاص بأهل المدينة، هم الذين يستقبلون الكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطلع إلى ذلك، والله عز وجل أفرحه وأثلج صدره ووجهه إلى المسجد الحرام، فهذا لأهل المدينة، ولكن قوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144] أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام. وذكرنا ما ينبغي أن يعرف: وهو أن على المؤمن أو المؤمنة أن يجتهد حتى يصلي إلى القبلة، فإن اجتهد وما وفق وصلى فصلاته صحيحة ولو صلاها بعيدة عن جهة الكعبة، وإذا صلى فلا يعيد، أما الذي لا يجتهد ويقوم يصلي وما يسأل الناس ولا ينظر إلى الكوكب وإلى السماء ويصلى كما يرى؛ فإن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها، أما من اجتهد فلا حرج إن أخطأ في القبلة: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
الجمع بين أقوال العلماء في موضع نظر المصلي
وقوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] أي: جهته، هنا الإمام مالك رحمه الله تعالى خالف الأئمة الثلاثة، في هذه القضية خالف أبا حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله أجمعين؛ إذ الثلاثة يقولون: المصلي ينظر مكان سجوده، والإمام مالك يقول: قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، إذاً: لا بد أن تولي وجهك شطر المسجد الحرام، بمعنى: أن تنظر أمامك ووجهك مستقيم إلى الكعبة. والذي يجمع بين أقوال هؤلاء الأعلام رضوان الله عليهم أنك عندما تحرم بالصلاة فتقول: الله أكبر تكون مستقيماً ووجهك إلى القبلة، وحين تحرم وتدخل في القراءة لا تطأطئ رأسك، ولكن في اعتدال وأنت تنظر إلى مكان سجودك، وهذا هو الجمع بين آراء الأئمة رحمهم الله.أعيد هذه القضية: مالك يرى فهماً من قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] أن من أحرم بالصلاة يكون وجهه إلى القبلة، أما أن يطأطئ رأسه فهذا مكروه، ففي هذه الحالة قد لا يستطيع أن ينظر مكان سجوده ورأسه مستقيم معتدل. فالقول الجامع أنك عند الإحرام تكون مستقيماً ووجهك إلى القبلة، ثم حين تأخذ في القراءة حينئذ تنظر وأنت معتدل إلى مكان سجودك، أخذاً من قوله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].
معنى قوله تعالى: (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون)
ثم قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144] أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن أهل الكتاب اليهود والنصارى يعلمون أن القبلة هي الحق، كيف يعلمون ذلك؟ لوجوده في التوراة والإنجيل، فعندهم أن نبي آخر الزمان المنعوت بكذا وكذا قبلته الكعبة، وهم يعلمون هذا، ولكن اليهود مصرون على قبلتهم والنصارى كذلك، وأبوا أن يستقبلوا بيت الله، مع أن الكعبة هي أول قبلة عرفتها البشرية، ويكفي أن علمنا أن هذا البيت بنته الملائكة لآدم عليه السلام وحواء، لما نزلا من السماء من الملكوت الأعلى استوحشا في تلك الأرض في هذا العالم الذي ليس فيه إنسان سواهما، فمن باب رأفة الله ورحمته بعبديه آدم وحواء بنى لهما البيت، فإذا طلبا شيئاً استقبلاه، فإذا احتاجا إلى شيء جاءا إليه وطافا به وسألا ربهما.فالكعبة هي قبلة البشرية من عهد آدم، واستقبال اليهود بيت المقدس والنصارى المشرق وطلوع الشمس استقبال لا شرع فيه ولا حق لهم فيه. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [البقرة:144] وهم اليهود والنصارى قطعاً، لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144] أي: تحول القبلة واستقبالك بيت الله الكعبة هو الحق. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144] ومعنى هذا: أنه سيعذبهم على كتمانهم الحق وجحودهم له، مع علمهم واعترافهم بأن هذا هو الحق، ومع ذلك آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ...)
ثم قال تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة:145]، الله هو الذي غرز الغرائز وطبع الطبائع وعرف القلوب، أخبره بخبر الصدق، فقال له: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ [البقرة:145] على أن يستقبلوا معك بيت الله ما فعلوا، وكذلك كانوا، فما استقبل يهودي ولا نصراني الكعبة أبداً إلى اليوم وإلى يوم القيامة، مع علمهم أنها الحق، وهذا الكلام مؤكد: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145] واستمر الوضع إلى اليوم، اليهودي لا يستقبل الكعبة والنصراني لا يستقبل بيت المقدس، واليهودي لا يستقبل الكعبة ولا يستقبل مطلع الشمس، إذ القبلة ثلاث: الكعبة وبيت المقدس ومطلع الشمس، فقبلة النصارى إلى الآن المشرق طلوع الشمس؛ لأن الشيطان يدخل تحت الشمس ويجعلها على رأسه حتى يعبد، واليهود قبلتهم بيت المقدس، وهذا الخبر العظيم ما تغير ولا تبدل: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145]، هل اليهود استقبلوا الآن مطلع الشمس مع النصارى في كنسائهم؟ لا. هل النصارى استقبلوا بيت المقدس؟ الجواب: لا. والمؤمنون من باب المحال أن يستقبلوا غير بيت الله، غير الكعبة التي فرض الله استقبالها عليهم.
معنى قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين)
ثم قال تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ [البقرة:145] أي: أهواء أهل الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145]، وهذا -معشر المستمعين- عام، فاتباع الأهواء يسقط العبد وينزله من علياء السماء إلى الأرض، يبعده عن ساحة الهدى وطريق الخير، فالهوى -والعياذ بالله تعالى- وميل النفس إلى ما تشتهيه، إلى ما يزينه الشيطان لها ويرغبها فيه؛ هذا جزاؤه الخسار والدمار، وهذا الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: ولئن اتبعت يا رسولنا أهواء أهل الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145].وهنا: هل المسلمون وقفوا موقف نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ لقد اتبعنا أهل الكتاب في مجالات كثيرة، نذكر منها: أننا حلقنا وجوهنا اتباعاً لهم، نذكر منها: أننا كشف وجوه نسائنا اتباعاً لهم، منها: أننا فتحنا أبواب الربا وأقمنا له البنوك اتباعاً لهم منها: أن المسلمين -باستثناء هذه القطعة من الأرض- أعرضوا عن الكتاب والسنة وحكموا شرائع أهل الكتاب، بل ولا شرائع أهل الكتاب، وإنما أهواء اليهود والنصارى، ومن هنا فإننا لمن الظالمين، إن لم يعف الله ويصفح ويتكرم فسيجزينا بظلمنا، وقد جازى آباءنا وأسلافنا وسلط عليهم أعداءه وأعداءهم، لم؟ جزاء الانحراف عن هدي الله عز وجل وصراطه المستقيم. فهذا تهديد عظيم يوجه إلى رسول الله، فيقول له وقوله الحق: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145] والظالم جزاؤه معروف.
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ...)
ثم قال تعالى وقوله الحق: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] يعرفون رسول الله، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:146] يقرءون التوراة والإنجيل ويعلمون ما فيهما، يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله كما يعرفون أبناءهم، لا ريب في هذا ولا شك، ورضي الله عن عبد الله بن سلام الحبر من أحبار اليهود، هو أول من أسلم من اليهود في المدينة، فقد قال رضي الله تعالى عنه: والله! إني لأعرف رسول الله أكثر مما أعرف أبنائي. قيل: لم؟ قال: لأن أبنائي من الجائز أن تكون أمهم خانتني، أما رسول الله فلا أشك في رسالته ونبوته. ومع هذه المعرفة لم أعرضوا عن الإسلام وأدبروا عنه؟ قد تجيب بجواب سهل: لأن الله كتب شقاوتهم، ما أراد الله سعادتهم، ما هم بأهل لذلك، فلهذا عرفوا الحق وأغمضوا عيونهم واستدبروه.أما كون الأدلة ناقصة والبراهين ما هي بمتوافرة والحجج عند رسول الله ما هي موجودة فهذا -والله- ما كان، ويكفي شهادة الله أنهم يعرفونه رسولاً من الله كما يعرفون أولادهم، وإلى الآن القسس والرهبان والأحبار يعرفون، ولكنهم يجحدون عن أممهم، ويخفون عن جهالهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويعبرون بتعبير يختلف عما في التوراة إلى الآن، وسر ذلك اتباع الأهواء وإيثار الدنيا على الآخرة حتى يبقوا في مناصبهم وسيادتهم على معتنقي دينهم، وهكذا يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:146] ولفظ الكتاب اسم جنس يدخل فيه التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146] الضمير عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] أولادهم من بنين وبنات. وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، وإن فريقاً كبيراً كثيراً وهم القسس والرهبان والأحبار، أما عوام اليهود وعوام النصارى والذين ما درسوا الكتاب فمن الجائز أنهم مقلدون فقط، لا يعرفون أما أهل الكتاب الذين يدرسونه ويعلمونه لأولادهم ونسائهم وإخوانهم ويقرءون التوراة والإنجيل فيعرفون معرفة يقينية، ولكنهم يكتمون الحق؛ لأنهم إذا أفصحوا عنه وأعلنوه دخلوا في الإسلام، وإذا دخلوا في الإسلام انقطعت تلك الرياسة وانتهى ذلك السلطان الذي كان يعيشون عليه، فهم -والله- مؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وسيلقون جزاءهم.
تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين)
ثم قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [البقرة:147] الحق من الله هو الذي بينه وهداك إليه وأنزل به كتابه وعلمك الهدى، فالحق من الله عز وجل، إذاً: فَلا تَكُونَنَّ [البقرة:147] يا رسولنا مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147]، ومن هم الممترون؟ هم الشاكون الذين مرة يقولون: هذا حق، ومرة يقولون: باطل. مرة يقولون: هذا هو الصواب، ومرة يقولون: لا، هذا خطأ! هذا هو الامتراء: اضطراب، فالشك يدافع اليقين واليقين يدافع الشك، ويبقى في هذه الفتنة النفسية القلبية، فالله عز وجل ينهى رسوله محذراً له أن يكون من الممترين: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147].
تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً ...)
ثم قال تعالى في هذا الباب وقوله الحق: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148] ولكلٍ منكم أنتم أيها المؤمنون ويا أيها اليهود ويا أيها النصارى؛ لكل منكم قبلة هو مستقبلها، وصدق الله العظيم، فهل عدل اليهود عن قبلتهم؟ ما زالوا يوجهون وجوههم إليها. هل عدل النصارى؟ الجواب: لا. وهل المسلمون يعدلون وجوههم عن القبلة التي أكرمهم الله بها وشرعها لهم؟ الجواب: لا. إذاً: فهذا هو الواقع سواء كان حلواً أو مراً، يخبر تعالى بواقع البشرية، والصراع بين المؤمنين والمسلمين وبين أهل الكتاب دائم، فلهذا يقول تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148].إذاً: فماذا علينا؟ قال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، اثبتوا أيها المؤمنون على قبلتكم والزموها؛ فإن الآخرين على قبلتهم ملازمين لها ثابتين عليها، إذاً: فالطريق هو أن تستبقوا الخيرات، أي: أكثروا من فعل الصالحات، والخيرات: جمع خير، وهو ما شرع الله تعالى لنا من أنواع العبادات، من الجهاد إلى الصدقات، فكل ما شرع الله لنا أن نعتقده أو نقوله وننطق به أو نعمل به هو من باب الخير لا من باب الشر، فالله عز وجل يستحثنا، يدفعنا دفعاً إلى أن نتسابق في الخيرات.
معنى قوله تعالى: (أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير)
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [البقرة:148] هذه الحياة ستنتهي، ومن مات في الشرق كمن مات في الغرب، ومن مات اليوم كمن مات أمس أو كمن يموت غداً، المرجع إلى الله عز وجل، إلى الله مرجعكم جميعاً، أبيضنا كأسودنا، كافرنا كمؤمننا، الصالحون كالفاسدين، الكل مرجعهم إلى الله، وإذا رجعنا إليه فالجزاء العادل، أهل الإيمان وصالح الأعمال جزاؤهم أن ينزلهم منازل الأبرار، ويخلدون في النعيم المقيم لا يفارقونه ولا يفارقهم أبداً، إذ لا نهاية لتلك الحياة، إنها حياة الخلد والبقاء، والذين يأتونه بالشرك والكفر والقلوب المظلمة والنفوس الخبيثة ممن أصروا على الباطل وقاموا عليه وعاشوا عليه حتى ماتوا جزاؤهم معلوم بالضرورة، عالم الشقاء، النار ذات الدركات السبع، ذات الأبواب السبعة، يخلدون فيها إلى ما لا نهاية، اللهم إلا من كان من أهل التوحيد كما علمتم، فأهل التوحيد يخرجون من النار بعدما يلبثون فيها أحقاباً، يخرجون منها بذلك التوحيد الذي عرفوا به الله وما عرفوا غير الله، وأعطوا لله قلوبهم ووجوههم وما أعطوها للمخلوقات ولا للكائنات، وإن فسقوا وفجروا عن الطاعة يوماً فاستوجبوا العذاب ودخلوا النار فإنهم يخرجون كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، يخرجون وقد امتحشوا واحترقت وجوههم، فيغسلون في نهر عند باب الجنة، فينبتون كما تنبت الخامة من الزرع، هؤلاء هم أهل التوحيد، أما أهل الشرك فالجنة محرمة عليهم لا يدخلونها. أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:148]، لا يوجد شيء يصعب على الله أو يعجز الله دونه، وكيف وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون؟ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، إذا اتجهت إرادة الله إلى شيء وأراده فلا يستعصي أبداً، بل يكون كما أراد الله.إذاً: فهذه البشرية ومثلها عالم الجن الكل يجمعون في صعيد واحد، الكل يحشرون إلى موقف واحد، إلى ساحة واحدة، ويجازيهم الله وهو أرحم الراحمين وأعدل العادلين. وقد عرفنا حكمه عز وجل الذي أقسم عليه بأعظم إقسام، وهو قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فالإنسي كالجني، والجني مكلف كالإنسي بتزكية نفسه وتطهيرها، فمن استجاب لله وزكى نفسه أنزله منازل الأبرار، ومن أبى إلا أن يخبث نفسه ويدرنها بأوزار الذنوب والآثام فمصيره معروف.
أدوات التزكية التي يتدارك بها العبد قصر العمر وانصرام الدنيا
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الحياة ستنقضي، وهي تنصرم يوماً بعد يوم، وقبلها نموت ونرى نتائج أعمالنا وثمار سلوكنا في القبر، بل ساعة الموت، لا نؤجل حتى ندفن، والله! لنعرفن ذلك ساعة الاحتضار، يوم ينقطع الكلام عنا ونصبح محجوزين عن إخواننا ولا نرد ولا نتكلم معهم فثَمَّ يعرف عبد الله وأمة الله هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، ولنقرأ لذلك قول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].معاشر المستمعين والمستمعات! الفرصة ضيقة، ولا تظن أن العمر طويل مهما كان، ولا يدري أحدنا إذا أمسى أن يصبح وإذا أصبح أن يمسي، فمن أراد النجاة فليقبل على نفسه فليزكها، فليطهرها، فلينظفها، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
العقيدة الصحيحة القائمة على الكتاب والسنة
وأدوات التزكية وعواملها وضعها الله بين أيدينا، حملها كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فابدأ بعقيدتك صفها، أصلحها، أبعد عنها كل شائبة من الشك والريب، ولتكن عقيدتك عقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ نظر يوماً فقال: ( افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة )، وصدق رسول الله، وافترقت هذه الأمة -وما زالت مفترقة- إلى ثلاث وسبعين فرقة ( كلها في النار إلا واحدة ففي الجنة )، اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة المحمدية في النار إلا واحدة في الجنة، وألهم الله أحد الصحابة وهو جالس فقال: ( من هي الفرقة الناجية يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، الفرقة الناجية أفرادها من رجال ونساء وأحرار وعبيد هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي. وهنا -معاشر المستمعين- لا بد أن تكون عقائدنا هي عقائد رسول الله وأصحابه، لا نعتقد شيئاً ما اعتقده رسول الله ولا اعتقده أصحابه وهم من عرفتم، لم تكتحل عين الوجود بصحبة وأصحاب مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].إذاً: العقيدة مصدرها قال الله وقال رسوله، إياك أن تفهم أن عقيدة المسلمين مستنبطة أو مستخرجة من كتاب، إنما هي ما جاء في كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، عنوانها ورمزها الأول والأخير: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق نعترف به ونعبده إلا الله عز وجل، ولا يدخل العبد في رحمة الله إلا بالإعلان عن هذه الحقيقة: لا إله إلا الله، أي: لا يستحق أن يعبد إلا الله.ثانياً: وأن يشهد عن علم أن محمداً رسول الله. وهنا -معاشر المستمعين- يجب علينا أن نعرف عقيدتنا من كتاب ربنا وهدي نبينا، يجب أن نعرف أدوات التزكية للنفس والتطهير وكيف نستعملها، وهنا نجد أنفسنا مفتقرين إلى العلم افتقاراً كاملاً، ولا يستطيع أحد من هذه الأمة أن يعرف محاب الله ومساخطه، وكيف يقدم لله المحبوب وكيف يبتعد المكروه ما لم يدرس الكتاب والسنة؟ونعود إلى تلك الكلمة وهي الفرقة الناجية، فقد قالوا: من هي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ( هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )، هل كان لأصحاب رسول الله مذاهب؟ هل كان لهم طرق؟ هل كان لهم أحزاب؟ هل كان لهم تجمعات؟ كانوا كأسرة واحدة، وهذا شأن المؤمنين، أما قال صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )؟ فمن طلب النجاة نجا، وأنصح لك يا عبد الله أو يا أمة الله أن تبدأ بالعقيدة، فلا تفهم أبداً من عقيدتك ما لم تجده في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
العبادات المؤداة على الوجه المشروع
ثانياً: العبادات إذا لم يؤدها المؤمن على الوجه المطلوب فإنها لا تزكي النفس، فلا بد أن تعرف كيف تتوضأ عندما تتوضأ، وأن تعرف كيف تصلي عندما تقوم تصلي، وكيف تصوم عندما تشرع في صومك، وكيف تعتمر، وكيف تحج، هذه العبادات إذا لم تؤد على الوجه الذي وضع الشارع فإنها ما تنتج هذا النور ولا تولد هذه الحسنات. وعندنا أمثلة يا معاشر المستمعين: لو أن شخصاً قام يصلي أمام فقيه، فقدم السجود على الركوع، أو قدم قراءة الفاتحة على تكبيرة الإحرام، ماذا يقول له الفقيه؟ يقول له: صلاتك باطلة. لم يا شيخ باطلة؟ لأنك قدمت وأخرت. لو قام يصلي فصلى المغرب أربع ركعات، فقيل له: لم تزيد هذه الركعة؟ قال: أزيدها لوجه الله، أنا عبد الله فزدت هذه الركعة، ماذا يقول له الفقيه؟ يقول: صلاتك باطلة أعدها، لم يعيدها؟ لم بطلت؟ لأنه زاد ركعة ما شرعها الله، فلم تنتج تلك الصلاة المطلوب وهو الحسنات التي تحسن بها النفس وتطيب وتطهر، فهو كمن نقص؛ لو صلى أحدنا العشاء ثلاث ركعات -بل لو نقص سجدة واحدة- يقول له الفقيه: صلاتك باطلة. ما معنى باطلة؟ ما أنتجت لك المراد المطلوب وهو الحسنات، ما تزكي نفسك.
تلقي علم الكتاب والسنة في المساجد
فلهذا -معاشر المستمعين- يجب أن نعود إلى بيوت الله نطلب العلم والهدى، يكفينا ذلك الفرار وذلك البعد الذي دام قروناً والمسلمون هاجرون بيوت الله، لا يجتمعون فيها، ولا يتلون كتاب الله، ولا يتدبرونه، ولا يدرسون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كل الذي نعانيه في ديارنا الإسلامية هو نتيجة الجهل، ما عرفنا الطريق إلى الله كيف نسلكه، صرفونا بأنواع الحيل وشتى الوسائل فأخلينا بيوت الله وأصبحنا نجري في الحياة ولا بصيرة ولا هدى، فهل الذي لا يعلم الطريق يسلكه؟ وكيف يسلكه؟ لا بد من العلم، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما العلم بالتعلم ) ، ويقول: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، هذا العلم معاشر الأبناء مصدره قال الله وقال رسوله، لا تطلبه من غير الكتاب والسنة. إذاً: ما الطريق؟ كيف نعود إلى بيوت الله؟ نحتاج إلى حزم فقط وصدق فيه وجد صادق، فأهل القرية وأهل الحي إذا فرغوا من عمل الدنيا، الفلاح كالصانع كالتاجر، وغابت الشمس أو مالت إلى الغروب فإلى أين نذهب؟ فتحوا لنا المقاهي والملاهي وحدائق الباطل لنلهو فيها ونلعب فصرفونا عن بيت الله والمسجد، لماذا لا نأخذ أنفسنا بجد ونسلك سبيل رسول الله والمؤمنين الأولين من سلفنا الصالح؟ نجتمع في بيوت ربنا في أنحاء العالم، حيث وجدنا وجدت مساجد الله والبيوت التي نجتمع فيها من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، كل ليلة وطول العام، بل طول العمر، هل يبقى بيننا من لا يعرف الله؟ هل يبقى بيننا من لا يعرف كيف يتملق الله ويتزلف إليه ويتقرب منه؟ ما يبقى أبداً، لأنه حصل العلم والمعرفة، وكم أثنى الله تعالى على العلم والعلماء في كتابه العزيز في آيات كثيرة، ومنه قول الله تعالى: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، ضرب مثلاً للشرك والباطل فقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، ثم قال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].وقد رغب صلى الله عليه وسلم في العلم بما لا مزيد عليه، وحسبنا حديث مسلم ، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ) بهذا اللفظ العام، ( ما اجتمع قوم ) عرب أو عجم.. في الشرق أو الغرب، ( في بيت من بيوت الله ) لا الكعبة ولا المسجد النبوي، في أي بيت من بيوت الله، اجتمعوا اجتماعنا هذا ( يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم )، يقرأ القارئ الآيات ويأخذون في دراستها كما فعلنا، ( إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة )، ونقول: قف يا عبد الله وانظر إلى هذا المجلس المبارك، لو كان هذا المجلس في حديقة أو في دار سينما أو في مقهى فماذا تسمع؟ ماذا تشاهد من اللغط والكلام والباطل؟ انظر هل ترى حركة؟ والله! لقد نزلت السكينة.( وغشيتهم الرحمة ) إي والله غشيتنا الرحمة، فالآن لنا ساعة أو نصف ساعة، فهل أوذي مؤمن؟ هل أوذي واحد بيننا بما يؤلمه؟ والله ما كان، أليست هذه هي الرحمة؟( وحفتهم الملائكة ) لو كنا نراهم بهذه الأبصار الضعيفة لرأينا ملائكة تطوف بنا احتفاءً واحتفالاً بنا، وأعظم من هذا: ( وذكرهم الله فيمن عنده )، فالذي يذكره ربه في الملكوت الأعلى ما يشقى أبداً، هذه ثمرة ما أطيبها. وفوق ذلك -معاشر المستمعين والمستمعات- أن الشياطين تريد أن تبعدنا عن ساحة الرحمة وعن طريق الهدى والخير، فهيا بنا نكيد لها، نحتال عليها، فنجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتنتهي الفرقة نهائياً، لا فرقة ولا خلاف، الشيخ المدرس المربي قال: قال الله تعالى: اعتقد كذا، فاعتقدناه، فكيف نستطيع أن نتحول ونتبدل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، سواء كان خلقاً أو أدباً أو عبادة أو معرفة حق، فنعرفه نساءً ورجالاً، فهذا هو الطريق.لو أن العلماء عرفوا هذا الطريق لجمعوا المؤمنين والمؤمنات في بيوت الله في كل المدن والقرى، وما المانع؟ والله! لا مانع إلا الهوى والدنيا والشيطان، فلو يقبل المؤمنون على كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يدرسون هذا العلم كل ليلة طول العمر؛ فهل يبقى في القرية جاهل؟ هل يبقى في المدينة جاهل؟ وإذا انتفى الجهل انتفى معه كل شر وكل ظلم وفساد؛ لما تعلمون. سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً: ( من أعظم الخلق إيماناً؟ قالت الصحابة: الملائكة. فقال: وكيف لا يؤمن الملائكة وهم يعاينون الأمر؟ قالوا: فالنبيون يا رسول الله. قال: وكيف لا يؤمن النبيون والوحي ينزل عليهم من السماء؟ قالوا: فأصحابك يا رسول الله. قال: وكيف لا يؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون؟ ولكن أعجب الناس إيماناً قوم يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني، أولئك إخواني ).فالعلم نور، وصاحب النور ما يقع أبداً في الفساد والشر، هذا أمر واقع، ونقول دائماً: في أي بلد أعلمنا بالله وبمحابه ومساخطه أتقانا لله عز وجل، وأفسقنا أجهلنا. وهذا العلم -معاشر المستمعين- لا يتطلب منا قرطاساً ولا قلماً، هذا يستطيعه كل مؤمن ومؤمنة يعمل طول النهار في مزرعته أو في مصنعه أو متجره، وإذا مالت الشمس إلى الغروب يندفعون إلى بيت ربهم، يجتمعون فيه بنسائهم وأطفالهم ورجالهم، ويجلس لهم مرب مؤمن في يده كتاب الله ويقول لهم: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون كل ليلة علماً جديداً ويعملون به في نفس الوقت، يعلمون ويعملون يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام، أسألكم بالله: أيبقى فيهم جهل؟ أيبقى بينهم جاهل؟ أصبحوا علماء، فهل العالم الذي عرف يفسق؟ هل يجاهر بالفسق؟ هل يقبل على الشر والباطل؟ والله ما كان، فأعلمنا أتقانا لله عز وجل بالتجربة القائمة، في أي بلد في أي إقليم العلماء العاملون بالفعل هم أتقى أهل البلاد، أليس كذلك؟ وحسبنا أن يقول الله لرسوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ويكفي في منزلة العلماء أن الله قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
تنديد بمظاهر الفسق في بيوت المسلمين الناجمة عن الجهل
وأخيراً: كل الذي نشكوه من وجود فسق، فجور، ظلم، اعتداء، حسد، كبر، كل هذه التي نتألم لها ما هي إلا ثمرات الجهل، ويوم يزول الجهل ينتهي الظلم والشر والفساد، فما المانع؟ وقد جربنا هذه القضية في هذا المسجد، درسنا (كتاب المسجد وبيت المسلم) سنة كاملة وزيادة، ونحن نصرخ ونقول للمؤمنين في الشرق والغرب: إنه لا سبيل إلى اجتماعكم ووحدتكم واتفاقكم إلا أن تعلموا عن الله ورسوله، لا تتوحد أبداً صفوفكم إلا من طريق الكتاب والسنة، خذوا هذا الكتاب واجتمعوا عليه في بيوتكم، تلك البيوت التي تحولت إلى مباءة للشياطين، فهيا نبكي على بيوت المسلمين، فالبيت الذي ترقص فيه راقصة في شاشة فيديو أو تلفاز، ويغني فيه مغن ويرقص فيه راقص ويتكلم فيه كافر، هل ترون أن الملائكة تبقى في البيت؟ والله! ما تبقى، بل لا تدخله، فهجرنا المساجد هجراناً كاملاً وجئنا إلى البيوت فحولناها إلى مباءات للشياطين.معاشر المستمعين! البيت الذي ترى فيه الصور الخليعة المدمرة ويسمع فيه أصوات الخليعين من المغنين والمغنيات ما تدخله الملائكة، فإذا خرجت الملائكة امتلأ البيت بالشياطين، هؤلاء الشياطين هم الذين يدفعوننا إلى الفجور، يدفعوننا إلى قول الباطل، يدفعونا إلى الكبر والعناد وما إلى ذلك.ولنذكر الحديث في البخاري ومسلم والموطأ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، قالت: فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قالت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، فيقال لهم أحيوا ما خلقتم. وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة ). وازدادت المحنة بهذه الآلة الجديدة المسماة بالصحن الهوائي، هذه تجلب لأهل البيت أنواعاً من الفجور والباطل ما لا يقدر قدره، والله! لقد أصبح أولئك الذين نصبوها على سطوحهم أصبحوا يفقدون إيمانهم وحياءهم، والعياذ بالله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (97)
الحلقة (104)
تفسير سورة البقرة (64)
لما جاء الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بتغيير اتجاه القبلة نحو الكعبة المشرفة بدلاً من القبلة السابقة تجاه بيت المقدس، كثرت أقاويل المرجفين، وتهويشات المنافقين في هذا الأمر، رجاء أن يذعن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لذلك ويعودوا إلى قبلتهم الأولى، حتى يحتجوا عليهم من جديد على عدم ثباتهم على أمر، فبين الله لنبيه هذا الأمر، وامتن عليه وعلى المؤمنين بما أتم عليهم من النعمة والهداية.
تفسير قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر الله شيئاً ولا يضر إلا نفسه. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:150-152] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
ذكر ما وقع قبيل تحويل القبلة وبعده
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة يصلي فيجعل البيت أمامه والشام أو بيت المقدس وراء البيت، أي: يقف بين الركنين اليماني والحجر الأسود، وقضى على ذلك ثلاث سنوات، وجاء المدينة النبوية مهاجراً بعد أن تقدم إليها كثيرون من المؤمنين والمؤمنات، فلما دخل المدينة استقبل في صلاته بيت المقدس نحواً من سبعة عشر شهراً، سنة وزيادة، ثم كان يود وكان يحب وكان يرغب أن لو أذن له بأن يستقبل الكعبة بيت الله، وكان يتطلع حتى إنه يرفع رأسه انتظاراً للوحي متى ينزل، إذ قال تعالى في هذا الباب: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] ألا وهي الكعبة البيت العتيق قبلة إبراهيم والأنبياء من قبل.فلما استقبل البيت وترك بيت المقدس أخذ الناس يتكلمون، وخاصة مرضى القلوب من المنافقين واليهود والمشركين وضعاف الإيمان، أما اليهود فقالوا: ينكر ديننا ويستقبل قبلتنا! في هزء وسخرية، وهذا تعرفونه من بعضنا كيف نتكلم، فالبشر هم البشر؛ لأن إبليس هو إبليس، هو الذي يلعب بقلوب البشر وبأخلاقهم وآدابهم، والمشركون قالوا: حن إذا ديار آبائه وأجداده! وبعضهم قالوا: اليوم إلى الكعبة وغداً لا ندري إلى أين يتجه! وآخر يقول: هذه الذبذبة وهذه الحيرة كيف يدعي معها النبوة ويقول كذا؟ فكان موقفاً صعباً، واضطرب المؤمنون، فلهذا تكررت الآيات، وآخر ما فيها: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:150] أنتم أيها المؤمنون في أي مكان فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]، أي: جهته. وبهذا استقرت القبلة إلى يوم الدين، فلا تصح صلاة عبد يتعمد عدم التوجه إلى الكعبة، فإن استقبال الكعبة شرط في صحة الصلاة، فلا تصح بدونه، وقد علمنا -زادنا الله علماً- أن من تعمد عدم استقبال القبلة فصلاته باطلة بالإجماع. وأما من كان عاجزاً ما يستطيع فإنه يصلي حيث يستطيع، كالمكتوف الرجلين أو الملقى في زنانة أو مريض لا يقوى على أن يستقبل القبلة.ثانياً: من جهلها ولم يعرفها يجب عليه أن يطلبها، وأن يتحرى طلبها، فإذا اجتهد وصلى ولم يوفق فصلاته صحيحة؛ لأنه بذل ما في وسعه، سأل الناس إن وجدهم، أو ما وجد أحداً فنظر إلى السماء، فكر في الشرق والغرب وصلى، فهذا معذور وصلاته صحيحة؛ لأنه طلب وما وجد، هذا بالنسبة إلى صلاة الفرض. وأما المسافر الراكب على الطائرة أو السيارة فيستقبل إن أمكن في أول مرة البيت، وإن دارت دابته أو سيارته فليصل حيث اتجهت دابته النوافل، فلقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته النوافل حيثما اتجهت، والله عز وجل يقول: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
معنى قوله تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني)
إذاً: انتهت تلك الفتنة، والله عز وجل يقول لرسوله وللمؤمنين: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ [البقرة:150] أيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:150] أيها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]، لماذا؟ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [البقرة:150]، لو رجعوا بسبب الفتنة والصياح وعادوا إلى بيت المقدس لقالوا: هذا هو التلاعب، كيف اليوم من هنا وغداً من هناك؟ فلهذا علل تعالى لذلك بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [البقرة:150]، اللهم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150]، فهؤلاء لن تستطيعوا أبداً أن تسكتوهم، فلا ينفع معهم إلا الإعراض عنهم، وهذه قاعدة: إذا كان الشخص يتعمد ويقصد ويريد فتنة المؤمن فلا حاجة إلى جداله ولا إلى صراعه، من الحكمة أن تعرض عنه ولا تلتفت إليه، إذا كان الشخص معانداً يريد فتنتك أيها المؤمن فإنه لا يقبل حجة من حججك، ويرد كل ما تلقيه إليه؛ فمن هنا فأي فائدة في نزاعه أو جداله أو خصومته، أعرض عنه فذلك هو الحكمة. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:150] فهؤلاء لن تستطيعوا إقناعهم، إذاً: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150] إن كنتم مؤمنين.
معنى قوله تعالى: (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون)
ثانياً: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] بالعلم والمعرفة والهداية والإصلاح، وهذا وعد الله عز وجل، وقد أتم نعمته، وأتم هذا الدين بأكمله، وأعلن عن تمامه في آية المائدة يوم عرفات: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] ولا نعمة أعظم من هذا الدين، والله! لا توجد نعمة على سطح الأرض أجل ولا أعظم ولا أكثر خيراً وبركة وفائدة من هذا الدين الإسلامي، إذ هو سلم الكمال ومرقاة العروج إلى دار السلام.لا تفهم أن نعمة المال أو الولد أو السلطان تعدل نعمة الإسلام، والله! لا تعادلها نعمة؛ لأنها الطريق إلى دار السلام، وما عدا ذلك فأين يصل بالعبد؟ ساعات وتنتهي تلك النعم! وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150]، و(لعل) من الله كـ(عسى) تفيد الحقيقة، والهداية تكون إلى ما يحب الله ويرضى، الهداية إلى دار السلام، إلى الجنة. وهكذا هدأ الله تلك الضجة، وأطفأ تلك النار، واستقرت الحال على أحسن حال بتوجيه الله عز وجل وتدبيره. وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] أي: رجاء أن تهتدوا، أو ليعدكم ويؤهلكم للهداية إلى ما فيه خيركم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، وانتهت بهذا قضية القبلة واستقر أمرها إلى يوم الدين.
تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ...)
ثم قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [البقرة:151] هذه نعمة أخرى، إرساله تعالى الرسول النبي الأمي محمداً صلى الله عليه وسلم لهذه البشرية عامة، ولأمة العرب خاصة، هذه من أجل النعم وأعظمها، كيف كان حال البشرية قبل النبوة المحمدية؟ لو تتصفح تاريخ البشر لوجدت أنه هبطت البشرية إلى أبعد حد: الظلم، الشر، الفساد، الخبث، الجهل، عبادة الأوثان، عبادة الشهوات، عبادة الشياطين، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لم يبق إلا أفراد قلائل من أهل الكتاب ليسوا بشيء، والبشرية كلها في الظلام.فكانت نعمة الله عز وجل بإرسال هذه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأخذ القرآن ينزل وأخذت الشريعة تطبق، وما هي إلا خمس وعشرين سنة فقط والإسلام قد تجاوز نهر السند، وتجاوز الغرب، ووصل إلى أقصى الشرق والغرب في خمس وعشرين سنة!ومن ثم افهموا أنه لولا الإسلام الذي أضاء الدنيا وأشرقت به الحياة ما كانت هذه الكهرباء موجودة، ولا عرف الناس الطائرة ولا الباخرة، قبل الإسلام كانوا كالبهائم، ما إن تفتحت قلوب البشر بنور الله حتى أصبحت البشرية تتطور إلى أن وصلت إلى هذا الحد! ولعل هذه الكلمة ما هي بمسلمة عندكم؟ ولكن قالها علماء الغرب الصناعيون، قالوا: لولا الإسلام ما عرفنا هذا النور، ولا وصلنا إلى هذه الحضارة.فنعمة الله بإرسال الرسول نعمة عظيمة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [البقرة:151]، لو أرسل الله الرسول من العجم للعرب لقالوا: لا نؤمن به ولا نتابعه، أو لقالوا: لساننا يختلف عن لسانه، أو سيتعبون ويعانون ويقاسون حتى يعلموا ويفهموا، لكن قطع الله ذلك بإرساله منهم ينطق بلسانهم، ومنهم حيث عرفوه من ولادته إلى نبوته أنه أكمل مخلوق وأعز مخلوق وأعظم إنسان على الإطلاق، فهي نعمة عظمى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151] يقرؤها على أسماعكم وأنتم تسمعون، أي نعمة أعظم من هذه؟ بلغتكم ولسانكم، لا يطالبكم بأجر ولا بجزاء، أجره على الله عز وجل، فاذكروا هذه النعم واشكروها: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150] إلى أين؟ إلى سبل السلام وطرق السعادة، وهل بدون العلم نصل إلى هذا الكمال؟
المراد بالتزكية التي بعث لها النبي صلى الله عليه وسلم
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ [البقرة:151]، التلاوة للآيات عامل قوي للتزكية، لأن ما يحمله الكتاب من علم ومعرفة يكون أداة صالحة لتزكية النفوس.فهل المراد بالتزكية أن يقال: فلان ذو علم، فلان ذو شرف، فلان ذو كرامة؟! ليست بتزكية هذه، هذه التزكية هي تزكية النفس، بمعنى: تطهير النفس وتطييبها، فإذا طابت النفس وطهرت تجلى ذلك وانكشف في سلوك العبد، أيما إنسان زكت نفسه- أي: طابت وطهرت- إلا تجلى ذلك في منطقه، فلا ينطق بالمكروه، ولا يتلفظ بالسوء، وتجلى ذلك في مشيته، فلا يمشي خيلاء ولا كبرياء، وتجلى ذلك في يديه، فلا يتناول ما يؤذي ولا يضر، وتجلى ذلك في تفكيره، في كل حياته! النفس البشرية إذا طابت وطهرت انعكس ذاك النور على السمع والبصر والنطق وعلى الجوارح، فإذا كانت النفس خبيثة مدساة مظلمة ظهر ذلك في سلوك هذا الإنسان، في منطقه، في سمعه، في كل حركاته وسكناته، وإن قلت: كيف؟ قلنا: النفس هي المحرك للجسم، وبدون نفس هل تكون فيه حياة؟ إذا خرجت الروح هل يبقى للجسم ما يتحرك به، أو يفكر أو يعقل أو يبصر؟! انتهى.فهذه الروح التي هي من أمر الله إما أن تتدسى وتخبث وإما أن تطيب وتطهر، فإن طابت وطهرت حصل الكمال للإنسان بكامله، وإن خبثت هبط حتى يصبح أسوأ من الحيوان.والواقع شاهد، وهذا ملموس، مرئي محسوس في البشر كلهم، فلهذا قال تعالى في نعمة ثالثة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151] لم يتلو عليهم الآيات؟ ليذكرهم، ليعظهم، ليأمرهم، لينهاهم، ليبشرهم، لينذرهم، ليدفعهم إلى الكمال، ليسوقهم إلى السعادة، فالآيات تلاوتها هي الدافع، ويزكي نفوسكم ويطيبها ويطهرها.
توقف الفلاح على زكاة النفس وطهارتها
وأعيد إلى أذهان السامعين والسامعات أن سعادة الآخرة وفلاح العبد فيها وفوزه فيها متوقف -والله- على زكاة النفس أحببنا أم كرهنا، كما أن شقاء العالم الثاني، شقاء الدار الآخرة، والخلود في مر العذاب وشقائه في الجحيم متوقف على خبث النفس وتدسيتها، وهذا قسم الله العظيم، واسمعوا وتأملوا، فسأتلوه كما كان يتلو رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمع يا عبد الله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] هذه الواو واو القسم، هذه صيغة يمين، تأملها يا عبد الله. وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] هذه أيمان، هذا قسم، فمن أقسم؟ الله، أقسم على هذه الحكم الصارم القاطع الذي لا ينقض: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فهيا نبكي إذاً؟ هل عرفتم؟ من زكى نفسه أفلح، ومن دساها خاب، والخيبة والفلاح بينهما تعالى حتى لا يبقى لك عذر أو كلمة تقولها.قال تعالى في بيان هذا الفلاح: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فهل عرفتم الفوز ما هو؟ ما الفلاح؟ إنه الزحزحة عن النار ودخول الجنة.والخسران والخيبة ما هما؟ بين تعالى الخسران بنفسه، فقال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ [الزمر:15] بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، هل بقي وراء هذا شيء؟فالله تعالى يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وأسند الله تعالى الأمر إليك يا ابن آدم أو يا ابن الجان. وأعيد فأقول: معشر السامعين! هل عرفتم هذا الحكم الصارم القاطع؟ من أصدره؟ الله. ما مفهومه؟ ما مضمونه؟ ما حقيقته؟ الجواب: من زكى نفسه منا فاز بدخول الجنة والنجاة من النار، ومن دساها منا وأخبثها دخل جهنم، وخسر الخسران المبين.ونقول: الذين يحضرون هذا الدرس فازوا بالعلم والمعرفة، والذين ما جلسوا نقول لهم: هل عرفتم بم تزكون أنفسكم، أم أنه لا شأن لكم؟! أعوذ بالله .. أعوذ بالله! أقول على علم: لو أن مستمعاً أو مستمعة لهذا الكلام الإلهي علم يقيناً أن فلاحه متوقف على زكاة نفسه معرفة كاملة، وسكتُّ أنا وأعرضت، فوالله! لما استطاع أن يبيت الليلة حتى يقرع الباب ويقول: والله! لتبينن لي كيف أزكي نفسي، بم أزكيها؟ ولك أن تتكلم في مجتمعات العالم الإسلامي في الشرق والغرب وتقول هذا، ولا يقف واحد ويقول: كيف نزكيها يا شيخ؟! بماذا نزكيها؟ فإذا قال الشيخ: تعبت قال: لا. لا بد أن تبين لي. فإنا لله وإنا إليه راجعون! فهل تريدون أن تزكوا أنفسكم أم لا؟ إن مصيرنا هكذا، أقسم الجبار ألا فلاح ولا فوز إلا بتزكية النفس، فمن يزكيها؟ هل أبي أم أمي؟ من يزكيها؟ هل الطبيب أم فلان؟ أنت الذي تزكي نفسك.
العلم الشرعي بيان لكيفية استعمال أدوات التزكية
إذاً: ما هي أدوات التزكية؟ وأين توجد؟ في أية صيدلية؟ هذه الأدوات التي تزكي أين هي؟ وما هي؟ أين نجدها؟ كيف نحصل عليها؟ هذا هو السؤال الضروري الحتمي. ثم إذا عرفنا الأدوات وأحضرناها بين أيدينا يبقى سؤال آخر: كيف نستعملها؟ فحين يوضع الدواء بين يديك أما تسأل كيف تستعمله؟ لا بد من معرفة كيف تستعمله. من هنا كان يقيناً أن طلب العلم فريضة، تسمعون هذا من علمائكم؛ إذ لا تستطيع أن تسعد إلا به، مستحيل أن تزكي نفسك وتطهرها بدون علم. إذاً: العلم فريضة، فلم لا نطلب العلم؟ نقول: مشغولون بتجارتنا، فلاحتنا، مصانعنا، أزواجنا، أولادنا، والدنيا، فكيف نطلب العلم؟! ما علمنا آباؤنا، ما ربونا على العلم، والآن ونحن رجال وآباء وأمهات كيف نطلب العلم؟! فهل هذا يعتبر عذراً؟ والله! ما هو بعذر، ولا يقبل عند الله؛ لأن طلب العلم لا يشترط له الرحلة، ولا القلم ولا القرطاس، ولا العكوف أمام العالم طول النهار، ولا طول العام، العلم فقط يؤخذ بالسؤال الصادق والجواب الحق، اسأل العالم في صدق: كيف أزكي نفسي؟ وستعلم.ونعود لبيان الحقيقة الضائعة، فنقول: اسمعوا يا أيها المؤمنون ويا أيها المسلمون: واجبنا، طريق نجاتنا، سلم رقينا العلم بالله جل جلاله، وبمحابه ومكارهه، وبما عنده وما لديه، هذه المعرفة، هذا هو العلم المطلوب والفرض على كل مؤمن ومؤمنة، هذا العلم الحصول عليه -لو عرفنا- من أيسر الأمور وأسهلها، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].فمن كان لا يعلم شيئاً من مزكيات النفس ومطهراتها فليتعلمه، من كان لا يعرف ما يدسي النفس أو يخبثها فليسأل فيعلم، أما ألا نسأل ولا نتعلم فكيف نطمع أن نلحق بالسماء، وننزل الملكوت الأعلى؟ ولعل السامعين يخطر ببالهم أشياء، لقد عرفنا واقعنا، هل يبلغكم ما يصبه المؤمنون على إخوانهم من ألوان العذاب؟ يدعون أنهم مؤمنون، ويرتكبون عظائم يكاد القلب يتمزق لها، كيف لعبد مؤمن يفعل هذا بمؤمن؟! هذا نتيجة عدم المعرفة، نتيجة الجهل المظلم، ما عرفوا الله، فهل لمجرد قوله: أنا مسلم وأصلي عرف الله؟ وأضرب لكم مثلاً جزئياً: هذه الصحون الهوائية التي على السطوح أهلها -والله- لقد علموا أنها محرمة، وصدرت فتيا مفتي الديار السعودية الكريمة بحرمتها، ونبكي ونصرخ هنا، وكل يوم تجدها على سطح، ما سر هذا؟ والله! ما عرفوا الله، والله ما عرفوا الله كسائر الناس، أين العلم؟ وأين المعرفة؟
المساجد طريق تحصيل العلم المزكي
ونعود بعد هذا الألم والبكاء فنقول: لم ما نجتمع في بيوت ربنا؟ قبل غروب الشمس يتوضأ الرجل وامرأته وأولاده، ويذهبون إلى بيت ربهم، كل حي فيه مسجد، كل قرية فيها مسجد، إن لم يكن موجوداً أوجدناه ونحن قادرون، ونجتمع بأطفالنا ونسائنا في بيت ربنا على ولو على التراب، لسنا بأفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي والطين في جبهته، ونجلس في بيت الرب، يوماً نتعلم حكماً ويوماً حكمة ويوماً علماً ويوماً كذا طول الحياة، من ثم نصبح علماء نساء ورجالاً كباراً وصغاراً، وانتهى الجهل وظلمته، ولا تسألني عن نتائج العلم ما هي، والله! لتنتهين كل مظاهر الشر والفساد والخبث والباطل والسوء.ومع ذلك أبينا هذا وما نريده، فكيف نعمل؟ أي مانع من أن يجتمع أهل القرية في مسجدهم؟ قولوا لي يرحمكم الله: ما المانع ما بين المغرب والعشاء؟ هل يشتغلون بين المغرب والعشاء؟ قلنا لكم: إن اليهود والنصارى والمشركين في الدنيا إذا غابت الشمس ذهبوا إلى الملاهي والمقاهي والملاعب، ذهبوا يطلبون الاستراحة، ونحن إلى أين نذهب؟ نذهب إلى بيت الإله، بيت الرب: المسجد؛ نتلقى الكتاب والحكمة، تتلى علينا آيات الله، ونزكي أخلاقنا وآدابنا ونفوسنا.فالله تعالى يقول: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151]، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يخلفه؟ يخلفه المؤمنون العالمون، ويكذب من يقول: ما وجدنا عالماً، فالله عز وجل يأتي به لتقوم الحجة على الناس، والذي يسمع نداء العلماء بأعلى صوت أن هذا حرام قد يقول: لماذا هو حرام؟ فيقال: لأنه يشيع الفاحشة والخبث، ويدمر النفس، ويحول الإنسان إلى خنزير أو كلب، ولذلك أصبحوا ينزو بعضهم على بعض أمام التلفاز! فكيف نرقى؟ كيف نصل إلى الملكوت الأعلى؟ أنخادع أنفسنا؟ الجنة ما هي بمقهى من المقاهي، الجنة متوقفة على أن تكون نفسك شبيهة بنفس الملك، ما عليها دخن أبداً ولا ظلم ولا عفن، وإن طرأ عليها شيء فهناك أدوات المسح والتنظيف والتطهير، وهي التوبة الصادقة، ارتكب ذنباً فصاح: أستغفر الله، أتوب إلى الله، يبكي بين يدي الله ويتمرغ؛ فيمحى ذلك الأثر.ماذا نقول والله يمتن علينا؟ وقد فاز ذلك السلف الصالح بهذه الآيات: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة:151]، فإذا لم نجتمع حوله فكيف سيتلو علينا آياته؟ لو كان الصحابة ما يجلسون مع رسول الله فكيف سيتلو عليهم الآيات؟ وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151]. والله! ما اكتحلت عين الوجود بأصحاب أنجاب فضلاء كرام صادقين كما عرفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل الكمالات البشرية، فمن أين تخرجوا؟ ماذا تعلموا؟ والله! ما هو إلا ما أخبر الله تعالى: يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.وأنا أقول هنا في المجلس: والله! لأعلمنا بالله أتقانا له، أقسم بالله على يقين: أعرفنا بالله وجلاله وكماله أتقانا له، وأجهلنا أفجرنا وأكثرنا سوءاً وباطلاً، فهذه أمور ملموسة محسوسة، أفلا نعود إلى بيوت الله إذاً؟ يكفي قرون مضت ونحن من الجهل إلى الجهل حتى وصلنا إلى الحضيض، فلم لا نرجع؟ ما المانع؟ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].
أدوات التزكية وكيفية استعمالها
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تزكية النفس تكون بالإيمان وصالح الأعمال، هذه هي الأدوات، إيمان وعمل صالح عليهما تزكو النفس البشرية.فالثوب هذا يزكو على الماء والصابون، لا شيء آخر، بماء وصابون فقط ينظف ويطيب أم لا؟ ونفسي تزكو على الإيمان والعمل الصالح، حقق إيمانك، ثبته حتى تصبح موقناً أنك مؤمن، ثم اعمل الصالحات التي وضعها الله لتزكية النفوس وتطهيرها.يبقى السؤال: كيف تستعمل تلك الأدوات؟ الجواب: تحتاج إلى العلم، كيف تصلي صلاة تزكي نفسك، كيف تصوم صياماً ينتج لك الطاقة ويولد لك النور، كيف تتصدق بصدقة يعود نورها عليك؟ لا بد من العلم.
عرض النفس على القرآن وسيلة معرفة حقيقة إيمان العبد
وهنا عرفنا أن النفس تزكو بالإيمان، فهل أنت مؤمن؟ اعرض إيمانك على القرآن واسمع، أو تعال عندي وقل: أنا أريد أن أتأكد هل أنا مؤمن؟ فإن وجدت نفسك في هذه السوق فكبر وهلل وقل: الحمد لله أنا مؤمن، وإن عرضنا أمامك المؤمنين وأنت لست بينهم، أو توجد هنا وتغيب هناك فابك على نفسك حتى تؤمن.يقول الله تبارك وتعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات من سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] ما معنى أولياء؟ هذه الولاية عبارة عن حب ونصرة، من لم يحب مؤمناً فوالله ما هو بأخيه، ومن لم ينصر مؤمناً فما هو بمؤمن، وانظر الآن هل المؤمنون يحب بعضهم بعضاً أم يأكل بعضهم بعضاً؟ هل المؤمنون ينصر بعضهم البعض أم يهزم بعضهم بعضاً؟ أين الإيمان؟ وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] هذه صفة، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] هل المؤمنون يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؟! والله! ليوجد الملايين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، فهل هؤلاء يحسبون على المؤمنين؟ هل نكذب الله تعالى في أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [التوبة:71] ملايين المؤمنين ما يصلون، محسوبون في العالم الإسلامي أنهم مسلمون، ومنهم من يصلي ولا تنتج له صلاته حسنة واحدة، بل ينعكس عليه باطلها، صلاة لا يذكر فيها الله، ولا يشعر أنه بين يدي الله، ولا تدمع له عين، ولا يرتعد له جسم أبداً، دخل وخرج وما مس شيئاً؛ فماذا ينتج؟! قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].ومن شاء أن يجادلني فليتفضل، فالله تعالى يقول وقوله الحق: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟! ما العلة؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فإذا كان يخرج من المسجد ليتكلم بالباطل عند باب المسجد -بل يصلي وهو متلبس بالحرام- فأين آثار الصلاة؟ يصلي ويخرج يلعب القمار، ويتكلم بالباطل، ويغتاب المؤمنين والمؤمنات، ويمزق أعراضهم، ويقول ويقول، فأين آثار الصلاة؟ لو أنتجت النور المطلوب واستنار قلبه وانعكس على لسانه وسمعه وبصره لما كان يرتكب ما حرم الله! وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ [التوبة:71] بحق، هذا وصف الله لهم: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71] حتى في قلم الأظافر، أو الأكل باليمين، أو نزع النعل من الرجل اليمنى أولاً، طاعة الرسول في كل جوانب الحياة.فهل عرفتم المؤمنين بحق؟ هؤلاء قال تعالى عنهم: أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، فهل نحن من هؤلاء؟ أو مرة هنا ومرة هناك؟ وإليكم آية أخرى: قال تعالى من سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] أي: بحق وصدق، ما هو بالادعاء والنطق، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] خافت واضطربت، أقول: على الأقل إذا قيل لك: يا عبد الله! أما تخاف الله وأنت على هذه المعصية؟ في هذه الحال إذا ما خشعت ولا تألمت فما أنت بالمؤمن، امرؤ متلبس بالجريمة بمعصية الله والرسول، يقول له أخوه المؤمن: أما تخاف الله؟ أما تتقي الله؟ إن تحرك الإيمان وكان موجوداً وقال: أستغفر الله، أتوب إلى الله، فهذا فيه إيمان، وإذا قلت له: اتق الله فضحك، وأخرج لسانه واستهزأ بك، فهل هذا مؤمن؟ والله! ما هو بمؤمن، ولا يصح أن يقال فيه: مؤمن! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] بحق وصدق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، كان عداد الإيمان يشير إلى درجة مائة وستين، فيرتفع عند سماع القرآن إلى مائتين كما تعرفون في عقارب الطقس. وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] لا على المرأة، ولا على الوظيفة، ولا على الولد، ولا على السلطان وعلى فلان وفلان، ولا على مزرعة ولا مصنع، وَعَلَى رَبِّهِمْ [الأنفال:2] وحده يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] أي: يعتمدون. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:3-4]، هذا كلام الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4] وصدقاً، فكيف حالنا أيها المستمعون والمستمعات؟! نحن مؤمنون إن شاء الله.
وجوب سلوك المنهج النبوي في التربية المسجدية
أقول: ما ينفع درس ولا موعظة فقط، يجب أن نعود إلى الله، فقولوا: نحن عائدون، فما تغرب الشمس إلا ونحن بنسائنا وأطفالنا في بيوت ربنا، والعالم أمامنا، يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا، فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس أسبوعاً ولا شهراً ولا عاماً، ولكن طول حياتنا، دنيانا نشتغل لها من صلاة الصبح، فالكفار يشتغلون من الساعة الثامنة، ونحن إذا صلينا الصبح اندفعنا إلى أعمالنا، هذا يصنع وهذا يفلح وهذا يتجر إلى قبل غروب الشمس، أما يكفي هذا للدنيا؟ أما يكفي من صلاة الصبح إلى غروب الشمس؟ ثم غابت الشمس وإذا نحن في بيت ربنا، نستمطر رحماته، ونتلقى العلم والمعرفة من كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.وأزيدكم فبلغوا: والله! إن لم نعد إلى هذا المسلك النبوي ما ارتفع لنا شأن، ولا عز لنا شأن، ولا نزداد إلا هبوطاً وتمزقاً، هذه منة الله ونعمته، يقول تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151] أو يعلمكم الكرة واللعب؟ أو يعلمكم الرقص؟ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:151] كل يوم نزداد علماً من هذا الكتاب.ثم يقول تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] هذا أمر، فاذكروني يا عبادي أذكركم، ومن ذكره الله فهل أهانه؟ أذله؟ أفقره؟ أمرضه؟ كلا، بل أعزه ورفعه، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي [البقرة:152] إنعامي وما أفضته عليكم وأنعمت به عليكم، اشكروني أزدكم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل عرفنا أننا مطالبون بتزكية أنفسنا أم لا؟ فمن الليلة نعمل إن شاء الله، فبماذا نزكيها؟ هل بالماء والصابون؟ بالإيمان والعمل الصالح، الإيمان الذي بينه الرحمن في كتابه والعمل الصالح الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه لنا، من الصلاة إلى سبحان الله والحمد لله والله أكبر، على شرط أن نؤدي العبادات على النحو الذي أداها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإذا أديناها أداء مخالفاً فلن تنتج تزكية، سنة الله، لا تنتج الحسنات أبداً، لا بد أن نؤديها كما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن زدنا أو نقصنا بطلت ولم تفعل شيئاً. وهذا يحتاج إلى العلم أم لا؟ نحتاج إلى العلم؟ أين نطلب العلم؟ في أوروبا؟ في أمريكا؟ في الصين؟ لا، نطلبه في قريتنا، في حينا أيها المؤمنون، نطلبه في بيت الله، ومصدره موجود، هو قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.أيعجزنا هذا؟ فمتى نسمع أن أهل القرية الفلانية أصبحوا لا يفارقون مسجدهم من المغرب إلى العشاء، وكل ليلة نساؤهم وراء الستارة وأطفالهم بينهم، وهم يتلقون الكتاب والحكمة؟ هل سمعتم أن هذا حصل في قرية؟ عندكم (كتاب المسجد وبيت المسلم) فيه ثلاثمائة وستون آية وحديثاً، اطبعوه بالآلاف، صوروه، ضعوه في كل بيت من بيوت العالم الإسلامي، اجتمعوا في بيت ربكم، ولكن كأننا لا نعي ولا نسمع، فلا يسعنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! وما يئسنا أبداً، ولكن نصرخ ونبكي: عودوا إلى بيوت الله ينته الخلاف والصراع والبغض والحسد والشره والطمع، وحب الدنيا والإسراف والشهوات، هذا هو العلاج، لا ينفع إلا هذا.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (98)
الحلقة (105)
تفسير سورة البقرة (65)
إن ذكر الله عز وجل من أفضل العبادات وأجل القربات، فهو سبحانه وتعالى قريب من عباده الذاكرين، إذا ذكروه في ملأ ذكرهم في ملأ خير منهم، وإذا ذكروه في أنفسهم ذكرهم سبحانه وتعالى في نفسه، ومن ذكر الله لعباده المؤمنين الذاكرين الإحسان إليهم، وإسباغ النعم عليهم، ورفع درجاتهم، وإعلاء مقامهم في الدنيا والآخرة، فهو سبحانه الذي يعطي الكثير على العمل القليل، ويجازي بالجليل على الفعل الجميل.
تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:152-153] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] أليس هذا أمر الله؟ قوله: (اذكروني) أليس هذا أمراً؟ وهل يليق بالمؤمن أن يعصي لله أمراً؟! لك أن تقول: كيف أذكره؟ وبم أذكره؟ ومتى أذكره؟ علمني يرحمك الله.وإليك -يا بني- البيان: الله تعالى يذكر بأسمائه وصفاته، فإن لله تعالى مائة اسم إلا اسماً واحداً، فهي -إذاً- تسعة وتسعون اسماً، فبها تذكره، وبها تبجله وتناديه: يا رباه .. يا رباه، يا الله .. يا الله، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين، يا متولي الصالحين، يا ذا الجلال والإكرام. وواصل دعاءك وأنت ذاكر لربك، ويذكر تعالى بما أحب أن يذكر به.
فضل قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)
وقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان ذكر الله، فقد قال: ( خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير )، هذا الذكر الفاضل وضع رسولنا صلى الله عليه وسلم ورده بين أيدينا، فحوض الذكر الطاهر النقي نرده لنذهب ظمأ نفوسنا وعطش أرواحنا، وإليكم ما صح عنه صلى الله عليه وسلم.قال: ( من قال حين يصبح ) بعدما يطلع الفجر صليت الصبح أو لم تصل، ( من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة ) مائة مرة تعدها بالمسبحة، بالنوى، بالحصى، بأصابعك، حتى بآلة، الآن توجد آلة للعد، مائة مرة وأنت واع، وأنت تعرف ما تقول، قال: ( كانت له عدل عشر رقاب من ولد إسماعيل )، تعرفون قيمة الرقبة؟ هي كفارة الظهار، كفارة الصيام، كفارة القتل الخطأ عتق رقبة، ثمنها غال ورفيع، تكون أنت في هذا الصباح كمن أعتق عشر رقاب! ولو يعي أحد هذا ويفهمه لما استطاع أن يتخلى عن هذا الورد يوماً من الأيام قط، ما دام ينطق ويتكلم، فكأنما كان له عدل عشر رقاب من ولد إسماعيل حررهم في سبيل الله.قال: ( وكتب له مائة حسنة )، ولا ندري مقدار هذه الحسنات، ( وحط عنه مائة خطيئة )، كتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، ( وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذاك حتى يمسي ) حماية، ما يستطيع الشيطان إغواءه أو إضلاله أو إفساده، أو إغراقه في الذنوب والآثام.( ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه )، هذا الورد صاحبه لا يظمأ أبداً على شرط: أن يكون حال ذكره مع الله، يذكره بلسانه مع قلبه، ويكون فاهماً للكلمات التي يقولها، عارفاً بمعانيها، إذا استوفى هذا فالجزاء كما علمتم: ( كان له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذاك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه ).فهل أنتم متهيئون لهذا الورد؟ حتى ولو كنت تقود سيارتك، أو تأخذ بخطام فرسك، أو لجام بعيرك، حتى ولو كنت تضرب الأرض بفأسك أو معولك، ما يمنعك العمل أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. هذا الورد العذب الصافي من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر لنا به قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي [البقرة:152].
فضل الله على عباده بتيسير الذكر
وهناك ورد آخر، ولا تقولوا: أكثرتم علينا، إذ هذا الذكر لا يتنافى معك إلا إذا كنت تسمع لأصوات المغنين، أو هرج المبطلين، أما أن تبني، أما أن تغرس، أما أن تصنع، أما أن تمشي فما يمنعك؟! لا يمنعك من هذه الأوراد العذبة النبوية إلا أنك تتكلم بالباطل، أو تصغي وتسمع الباطل، وأعوذ بالله من قول الباطل وسماع الباطل، فأولياء الله قال تعالى فيهم: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، يعطونه عرضهم، لا يلتفتون إليه، ولا يقبلون عليه، وما هو اللغو؟ اللغو: هو كل قول أو عمل أو تفكير لا ينتج لك حسنة لمعادك يوم القيامة، ولا درهماً لمعاشك اليوم في هذه الدنيا.ومعنى هذا: أننا أغلقنا أبواب الكلام الباطل، ما أصبحت تسمع في مدينتنا، في قريتنا، في بيوتنا إلا الحق، وهذا المطلوب؛ لأننا أمة راقية، لأننا أولياء الله، لا تسمع في سوقنا ولا في بيوتنا ولا شوارعنا طول حياتك كلمة نابية، كلمة لا فائدة منها، أي: لا تحقق حسنة ليوم القيامة، ولا درهماً لمعاشنا اليوم.فالذين يجلسون أمام شاشة التلفاز أو الفيديو وينصتون ويقبلون على تلك الشاشة يسمعون من الباطل، ويسمعون من الكفر أحياناً، ويسمعون من الكذب ومن دعاوى الباطل، ويرون صور الخلاعة والدعارة، وينصتون، وتنطبع تلك الصورة في قلوبهم فتنعمي، ويذهب نور الله، ويصبحون كالبهائم قد ينزو بعضهم على بعض، هؤلاء هل عرفوا معنى قول الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]؟ ما عرفوا، ما سمعوه، ما فهموه، ما عرفوه، يقضي الساعة والساعتين والثلاث لا يستنتج حسنة واحدة، ولا درهماً واحداً في ساعات الراحة، أو في ساعات مناجاة الرب بالليل، وهو منصت ومع بناته ونسائه، وقد يكون مع أبويه أيضاً! فهذا شر من اللغو، هذا يدمر القلب تدميراً، ويحوله إلى قلب حيوان، والحيوان أقدس وأطهر.هذا الورد هو المراد من قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي [البقرة:152] بم نذكرك يا رب؟! رسولنا يبين لكم بم تذكرون وكيف تذكرون، ها هو ذا صلى الله عليه وسلم قد أعلن عن هذه المسابقة العظيمة: ( من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة؛ كان له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، وحط عنه مائة خطيئة، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه )، أي أجر أعظم من هذا؟! عدل عشر رقاب، ويكتب له مائة حسنة، ويمحى عنه مائة سيئة، ولم يأت أحد بمثل ما أتى به حتى ولو كان يقاتل الكفار، إلا من قال مثلما قال وزاد، ومعنى (وزاد): أنه لا تكتفي بالمائة إن شئت، اذكر مائتين وثلاثمائة وألفاً، أو اشغل ساعاتك كلها بذكر الله.
فضل قول: (سبحان الله وبحمده)
وذكر آخر: يقول صلى الله عليه وسلم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( من قال حين يمسي أو حين يصبح: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ).( من قال حين يصبح أو حين يمسي ) أي: يدخل في الصباح أو يدخل في المساء، ماذا يقول؟ سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده مائة مرة، حطت عنه خطاياه ولو كانت في الكثرة مثل زبد البحر! أية جائزة هذه؟ بم تقدر؟ وقد حرمها المؤمنون والمؤمنات، ما سمعوا بها ولا عرفوها، ومن سمعها وهو غافل ومعرض لا يبالي لم ترتسخ في نفسه، ولم تثبت في قلبه.أي ورد هذا؟ إنه عظيم، ما هي الكلفة؟ سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، بشرط: أن تكون ذاكراً لله بقلبك، أنت تقول: أنزه الله عز وجل عن كل النقائص، أنزهه عن الشريك والنظير والشبيه، وعن الولد والصاحبة، وعن كل نقص، فـ(سبحان): مصدر سبح يسبح، أنزه الله تنزيهاً عن كل النقائص.(وبحمده): أي: مع حمده. أنزهه وأحمده، أجمع بين نفي ما ينفى عنه وما يجب له تعالى، بهذا التركيب العجيب، هذا ما يعرفه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يستطيع ذو عقل أن ينتجه. تقول: سبحان الله وبحمده، تنزهه، كأنك تقول: الله ليس كمثله شيء، تعالى الله أن يكون له ولد، سبحان الله أن يكون له زوجة، تعالى الله أن يكون كذا، كل النقائص تنفيها، ثم تقول: الله العلي الكبير الغني الحميد الرب الذي لا إله إلا هو، فكل المحامد تطلقها عليه في هذه الجملة، ما أيسرها، ما أعذبها! جربها فقل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، وأنت مع الله؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: ( يقول الله تعالى: أنا مع عبدي إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه )، فالملائكة خير من البشر قطعاً.وإياك أن تفهم أنك إذا ذكرت الله فأنت بعيد عن الله، أنت مع الله، ولكن انتبه أن تذكره بلسانك وقلبك مع ليلى وسلمى، أو مع القدر وما فيه! أو في السوق وما فيه من بضائع، اجمع القلب مع اللسان، كأنك بين يدي الله، وإلا فالغافلون لا يستفيدون، إلا أن من تدبير الله أن من أخذ يذكر الله بقلبه ينطلق لسانه، ما يشعر إلا ولسانه ينطق، ومن أخذ يذكر الله بلسانه وواصل فما يشعر إلا والقلب يذكر ويتفق مع اللسان.هذا الورد معاشر المستمعين والمستمعات لو كنا سمعناه وما عرفناه، وكنا مؤمنين صادقين، وقام قائم وقال: أيها الناس! هل لكم في ورد من الذكر تحط به جميع خطاياكم ولو كانت مثل زبد البحر؟! فقلنا: نعم، فقال: لا بد أن تدفعوا خمسة آلاف ريال لكل من يريده؛ فوالله العظيم! لو كنا عالمين عارفين موقنين لهانت الخمسة آلاف والعشرة آلاف، ووالله! ليست بشيء أمام هذا، وها أنتم أخذتموه مجاناً، فهل يراكم ربكم غداً مع الصباح ترددونه؟ قولوا: إن شاء الله.إذاً: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] ما زلنا، فأين نذهب؟ الآن وردنا حوضين فقط، فاسمعوا ذكر الله، ولو لم يكن ذكر الله بهذه المثابة لما أمر الله به، ولما دعانا إليه، ولما رغبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
فضل الذكر دبر كل صلاة
إليكم ذكراً آخر، فإن شاء الله فسنستوفي الأوراد، أيها الظمآى، يا معشر العطاش! إليكم حياض النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ذكر الله، فردوها صباح مساء خير من الدنيا وما فيها.معاشر المستمعين والمستمعات! لما هاجر المؤمنون من مكة إلى المدينة ومنهم من هاجر من غيرها، لكن أغلب المهاجرين كانوا من مكة، إذ اضطرتهم جماعات الضلال والشرك إلى الهجرة، وكتب الله عليهم الهجرة فهاجروا، فنزلوا المدينة النبوية هذه، وأنتم تعرفون مستوى المهاجرين، فعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، عمر ، عثمان ، علي ، عبد الرحمن بن عوف ، سعد ، زمرة الأنوار هنا.ولم يكن في المدينة مصانع ولا بها متاجر، والحصار مضروب عليهم من أعداء لا إله إلا الله، فكان الأنصار من الأوس والخزرج من سكان المدينة يؤاخون بينهم وبين المهاجرين، فيقول الأنصاري للمهاجري: أنت أخي، ويقاسمه الطعام والشراب والكساء والسكن.فتألم المهاجرون، وقالوا: كيف نطعم ونسقى ونسكن، ذهب بالجنة أهلها، فماذا بقي لنا؟ فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون شكواهم إليه عسى الله أن يفرج عنهم ما في نفوسهم، فقالوا: ( يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم ) ولا نتصدق، ففازوا، فما لنا نحن؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ( أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟! ) فزتم وتفوقتم على غيركم، وما أرحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتكلم بإذن الله وبوحي الله وباسم الله، فقالوا: دلنا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ( تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة ).معاشر المستمعين والمستمعات! هل هذا الذكر عندكم؟ هل هذا الورد من أورادكم؟ إنه لا يحرمه إلا شقي، كيف يحرم هذا الورد مؤمن يرجو الله والدار الآخرة، مؤمن غذاؤه الروحي ذكر الله؟ أنبه إلى أن العدو أبا مرة إبليس الذي أخرج أباكم وأمكم من دار السلام، قد يستغفلنا ويعبث بنا، ويفوت علينا أجر هذا الورد، فنرد ونخرج عطاشاً، فكيف ذلك؟ يجعلك تتكلم بلسانك وقلبك ليس مع الله، وتختزل الحروف، وإليكم ما يفعل بنا: يقول أحدنا: سبحان الله سبحان الله سبحان الله بسرعة شديدة، فيمكر بنا حتى لا يصل إلى قلوبنا نور، وكأننا سبحنا وما سبحنا، فما يجوز هذا وما ينبغي، ولكن العدو بالمرصاد، إذا لم تستعذ بالله وتتحصن بحصن الله، وتعرف عدوك إبليس؛ فسوف يفقدك عباداتك، فهو قد حاول ألا يسمح لنا لنذكر الله فما نجح، أبينا إلا أن نذكر، إذاً: فحاول محاولة أخرى أن نفقد الأجر والمثوبة، فالذي يقول: سبحان الله سبحان الله بسرعة شديدة لا يصح ذلك منه، بل ينبغي أن يقول: سبحان الله .. سبحان الله .. سبحان الله، الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله، الله أكبر.. الله أكبر .. الله أكبر، يذكر بالقلب واللسان.هذا الورد العظيم خمس مرات في اليوم والليلة، ومعنى هذا: أنك تذكر الله خمسمائة مرة، فهذا كنز عظيم لا حد له، والعدو لا يسمح، لكن فاعصه واخرج عن طاعته، وتفطن له، واملأ فاك بذكر الله وتلذذ به، قل: سبحان الله .. سبحان الله .. سبحان الله، الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر، حتى تستوفي هذا الورد العذب الفرات دبر كل صلاة، فإن منعك العمل فقله وأنت ماش، وأنت راكب، ولا حرج.ويجوز أن تجمعها في كل مرة فتقول فيها: سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتعقد أصبعاً، سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتعقد أصبعاً، سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتعقد أصبعاً، لا فرق، وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون، ما قال: كلمة كلمة! والكل جائز، اجمع أو أفرد، إلا أن القلب ينبغي أن يكون حاضراً مع الله. هذا الورد معاشر -المستمعين والمستمعات- لا يحرمه إلا محروم، فالآن سبق لنا الذكران الأولان بمائتي مرة، وهذه خمسمائة، فالجميع سبعمائة، ونتدرج إلى أن نصل إلى الألف، وبذلك نفوق عبد القادر الجيلاني .
فضل التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم
ولتعرفوا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- قيمة ذكر الله وثمرته وفائدته، إليكم الصورة الآتية:زوج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، زوجها من ابن عمه علي المهاجر، وهي مهاجرة في المدينة، فكانت رضي الله عنها وهي أم الحسنين امرأة علي وبنت محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تطحن الشعير بيديها، أنتم الآن في جنة، أمي كانت تطحن وأنام على ركبتها والدقيق علي، ففاطمة كانت تطحن بالرحى، وتكنس المنزل وتخيط الثوب وتغسله، وتطبخ، هذه امرأة جنرال لا راتب له، فتورم كفاها من التعب والعمل، وهي ساكنة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعت عليها خمارها وخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه حاجتها إلى خادمة تساعدها على شئون البيت، فوقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف حاجتها، ولا يملك ما يعطيها، فسكت وخفض رأسه وتألم، وعرفت أنه لا يملك شيئاً، فعادت إلى بيتها، فما حصلت على شيء، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألمه، حتى جن الظلام واختلط ونامت العيون، فدخل على فاطمة وهي على فراشها مع بعلها علي ، فأرادا أن يقوما فقال: لا، فدخل في الفراش بينهما، هذا الذي يملكه لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى يده اليمنى لأحدهما واليسرى للآخر، هذا الذي عنده، ثم قال لهما: ( هل أدلكما على خير من خادم؟ ) ما هذا؟ أيكتب لهما شيكاً بمليون دولار؟ ماذا سيعطيهما؟ اسمع لتعرف قيمة الذكر، ذكر الله الذي أحبه الله وأمر به، ورفع أولياءه من أجله.قال: ( إذا أويتما إلى فراشكما ) إذا جئتما إلى فراشكما لتناما ( فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين )، فذلك يعين على أتعاب الحياة وآلامها.هذا الورد لما بلغنا وعرفناه صار عندنا أعز وأحلى من الحلوى والعسل، أعذب من أي عذب في هذه الحياة، والمسلمون غافلون، تائهون، لا يذوقون ولا يطعمون، هذا ورد أعطاه رسول الله لأحب الناس إليه، وأفضل العباد بين يديه: فاطمة وعلي رضي الله عنهما، وفي أية ساعة أعطاهما هذا؟ وفي أي مكان هذا؟ ومن أجل ماذا؟ وقبل وفاة علي قال رضي الله تعالى عنه: فوالله! ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له جنراله ابن الكواء : ولا ليلة صفين؟ قال: نعم، ولا ليلة صفين! ما تركه ولا ليلة صفين التي شاب منها الأطفال، الحرب التي دارت بينه وبين خصومه، ولا تلك الليلة. والآن ما أظن أن عشرة في المائة يحافظون على هذا، واسمحوا إن قلت: كيف يترك هذا الورد إذا كان المبشر بالجنة علي ما تركه في أصعب الليالي وأظلمها، ونحن ننام على الحرير على الأسرة، على الأنوار، ولا نقول هذا الورد، أين يذهب بنا؟ فسبحان الله، سبحان الله، سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أربعاً وثلاثين، صارت مائة.واذكر سواء كنت متوضئاً أو محدثاً، جنباً أو غير جنب، الممنوع على الجنب القرآن كتاب الله، أما الذكر والدعاء فلا يمنع.الآن كم عندكم ثمانمائة، فمتى نصل إلى الألف؟! نحتاج إلى مائتين فقط لنكمل الألف، والذي يذكر الله ألفاً في اليوم والليلة ارتقى ووصل مستوى عالياً.
فضل قول: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)
هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وتعرفون عمر بن الخطاب ، عمر يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه )، والفج مفرد فجاج، وهو الشارع الواسع، وما يطيق الشيطان أن يمشي مع عمر ، ما يقدر، أما لو كان الشارع ضيقاً فإنه يحترق الشيطان: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه )، وقال: ( لو كان في أمتي محدثون -أي: من تحدثهم الملائكة كالأنبياء- لكان منهم عمر ) ، لو كان في أمتي من عهدي إلى يوم القيامة؛ إذ لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، ( لو كان في أمتي محدثون لكان منهم عمر )، أي: متهيئ لأن تحدثه الملائكة. فإليكم هذا المنظر الكريم أيام خلافته رضوان الله عليه: فقد دعاه أحد الولاة أو الأمراء إلى طعام فوضع له سفرة لا أحسبها كسفرتكم أنتم الآن أو سفرنا نحن الفقراء، نحن الآن نعد الفول، البيض، الحليب، الشاي، الخبز، الجبن.. نجد تسعة أنواع، وضعوا له تلك السفرة، فقال: أخشى أن أكون ممن قال الله تعالى فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20] وترك الطعام، فهذه وحدها تكفي.إن فقراء المؤمنين الآن مائدتهم فيها نوعان وثلاثة، والسلطة وحدها نوعان، أما عمر فانتفض كالأسد وما أطاق، وعلل لتلك القومة بقوله: أخشى أن أكون ممن قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ [الأحقاف:20] يوم القيامة تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأحقاف:20] عذاب الإهانة؛ لأنكم كنتم متكبرين بغير حق، بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].فولده عبد الله يقول: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: نحسب- في الجلسة الواحدة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة )، هو معهم يعلمهم، يزكيهم، يربيهم، ولكن حين يترك الكلام يعود إلى الذكر بين الفينة إلى الأخرى: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، وهم يعدون، قال: فنجدها مائة مرة، فهل عرفتم؟ هذا الورد أغلى الأوراد: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، هذا خللوا به مجالسكم عندما تتحدثون، عندما تأكلون، عندما تطعمون، عندما تجلسون، بين الفينة إلى الأخرى: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، فيتم لك المائة والمائتان والثلاث، وتصل إلى الألف بحمد الله ذاكراً شاكراً.
جزاء الذاكرين في الدنيا
معاشر المستمعين والمستمعات! قد تزودتم بهذه الأوراد إن شاء الله، ويبقى السؤال: ما هو الجزاء في الدنيا؟ قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] ذكر الله لك يا عبده كم يساوي؟ والله! لو كنت تملك الدنيا بكاملها وتريد أن يذكرك الله وهو لا يريد فوالله ما استطعت، فكيف تجعل الله يذكرك؟ ما أنت ومن أنت؟وها أنت يذكرك الله، كلما ذكرته ذكرك، أما ترغب في أن يذكرك الله؟ أفي المؤمنين من لا يحب أن يذكره الله؟ لا يوجد، فلم -إذاً- لا نذكر الله حتى يذكرنا. وذكر الله لك يا بني كيف يكون؟ يثني عليك في الملكوت الأعلى، يحسن إليك، يغدق النعم، يواليها، يرفع درجاتك، يعلي مقامك، ينعم عليك في الحياة والممات، لا تسأل عن فوائد ذكر الله، وويل لمن غفل عن الله فلم يذكره الله، فالله تعالى يقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (99)
الحلقة (106)
تفسير سورة البقرة (66)
إن ذكر الله عز وجل لعبده هو غاية رغبة العابدين، ومنتهى أمل القاصدين، وقد وعد الله عز وجل الذاكرين له بأن يذكرهم في الملأ الأعلى بين الملائكة، ووعدهم بمزيد من الإنعام والإكرام لهم إن هم أدوا ما عهد به إليهم من الأعمال والعبادات الظاهرة والباطنة، وإن هم لهجوا بشكره على تفضله عليهم، فنطقت بذلك ألسنتهم، وانعقدت عليه قلوبهم، وترجمته جوارحهم.
تابع تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)
وعد الله تعالى بذكره عباده الذاكرين له
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:152-153].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أمرنا الله تعالى بذكره ووعدنا بأن يذكرنا، فما أعلى درجتنا، ما أسمى مقامنا، ما أفضل مكاننا، سبحان الله، الله يذكرنا!الحمد لله، وويل للكافرين، ويل للغافلين، ويل للمشركين، ويل للمعرضين، ويل للمتكبرين، ويل للناسين، وهنيئاً للذاكرين والذاكرات، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].لقد قلت لك يا عبد الله ويا أمة الله: لو كنت تملك ما في الأرض وتريد أن تنفقه من أجل أن يذكرك الله لما استطعت ولن تظفر بذلك، فما أنت ومن أنت حتى يذكرك رب العرش العظيم، ملك الملوك، قيوم السماوات والأرض رب العالمين، من بيده كل شيء؟ يذكرك في الملكوت الأعلى، ويذكرك بإفضاله، بإنعامه، بإحسانه، برحمته.. بشتى أنواع الذكر، ومع هذا فنحن أشحاء، بخلاء، ما نذكر الله إلا قليلاً!
فضل الذكر الوارد دبر كل صلاة
وأذكركم بما عاهدتم عليه، من أنكم تأتون بتلك الأوراد، فهل وفيتم أو نسيتم؟ أم ليس عندكم وقت؟وأعيدها تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين: أولاً: دبر كل صلاة، وهي خمس صلوات في اليوم والليلة، موزعة بتوزيع الحكيم بين ساعات الليل وساعات النهار، تقول: سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر ثلاثاً وثلاثين، هذه تسع وتسعون تسبيحة، ختام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هذه مائة في خمس صلوات بخمسمائة، والله! لأفضل من خمسمائة مليون دولار، حتى لا تستهينوا بها.ونبهتكم إلى أن عدوكم لا يريد أن تسموا وتسعدوا، فلهذا إياك أن يلعب بك فتصبح كما يفعل الغافلون فتقول بسرعة: سبحان الله سبحان الله سبحان الله سبحان الله، املأ فاك وقلبك: سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله، الحمد لله.. الحمد لله، الله أكبر.. الله أكبر، بكل جوارحك، أما الذين يركضون ركضاً فلا يستفيدون حسنة واحدة؛ لأنهم ما أكملوا الكلمة، ما أتموها، وتشاهدون هذا في إخوانكم رأي العين للغفلة.
فضل الذكر بـ(لا إله إلا الله وحده لا شريك له ...) مائة مرة
فهذه خمسمائة، أضفنا إليها ذكر الصباح، تلك الغنيمة الباردة التي لا تعدلها الأرض وما فيها، وهي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، سواء ما بين أذان الصبح وصلاتها أو بعد صلاة الصبح إلى أن تعود إلى بيتك، إلى أن تتناول أداتك لتعمل، تستطيع أن تأتي بها وأنت ماش في طريقك على رجليك، أو وأنت راكب على دابتك أو سيارتك، فما يمنعك؟ لا شيء، تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأنت تذكر بقلبك معاني هذه الكلمات.أتذكرون المثوبة؟ أتذكرون الأجر؟ ما هو؟ كان له كعدل عشر رقاب، كأنك أعتقت عشرة رقاب، وحررتهم في سبيل الله، وليس هذا فقط، بل كتبت لك مائة حسنة وحط عنك مائة سيئة، ولا تزال يومك ذلك كله في حرز من الشيطان، كأن الملائكة تحرسك، طول النهار وأنت في حرز من الشيطان، لن يصل إليك ليفسد قلبك، ولم يأت أحد بمثل ما أتيت به من الأجر في ذلك اليوم إلا الذي قال مثلك وزاد عليك، فهل هذا الورد يمكن أن نتركه ونحن أحياء عقلاء؟ هذه ستمائة.
فضل الذكر بـ(سبحان الله وبحمده) في الصباح والمساء
وهناك ورد الصباح والمساء: سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده، لو قلته وأنت فاهم ما تقول، وتدرك معنى هذه الكلمة فإنك تكاد تطير بها: سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده، مائة مرة في الصباح، ومائة مرة في المساء، نقولها ما بين أذان المغرب إلى الإقامة، بل أقل من ذلك، فمن موقف السيارات إلى المسجد النبوي نكملها. وهذه جائزتها: أن تغفر ذنوبك ولو كانت مثل زبد البحر، هذا لا يأتي من طريق الأحاديث الضعيفة، إياك أن تفكر هذا التفكير، هذه أحاديث في الصحاح، لا نذكر حديثاً ضعيفاً، حتى لا يوسوس لك الشيطان، ففيما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ( من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة إذا أصبح وإذا أمسى حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر )، هذه سبعمائة.
فضل الذكر الوارد عند النوم
وهل تذكرون عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم لـفاطمة الزهراء ولـعلي بن أبي طالب ، رسول الله هو الملك، هو السلطان، هو الأمير، هو الإمام، هو الحاكم، قل ما شئت، وتأتي الزهراء تطلبه عوناً لها على تعب حياتها فيعطيها الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الذكر، فبكم يقدر هذا؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم واهم؟ أعوذ بالله، حاشاه صلى الله عليه وسلم!يأتي إليها وهي على فراشها مع بعلها رضي الله عنهما فيقول: هل أدلكما على شيء إذا فعلتماه كان عوناً لكما على أتعاب الحياة، ويأخذ به علي ، ويسأله ابن الكواء أحد رجاله يقول: يا إمام المسلمين! هل تركت ذلك الذكر الذي أعطاك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً؟ قال: والله! ما تركته حتى ليلة صفين!وأنتم تتركونه، فأعوذ بالله! ما المانع؟ تقولون: يا شيخ! مشغولون بشاشة التلفاز وسماع الأغاني وأصوات العواهر ومناظر الباطل والسوء، محجوبون، إلى متى؟ أما هناك رحلة إلى السماء؟ أنريد هبوطاً إلى الأرض؟ تقولون: لا، إنا راجون، إنا طامعون أن ننزل الملكوت الأعلى بعد ساعات أو أيام، أما تستطيع أن تتهيأ للعروج إلى الملكوت الأعلى؟ ماذا يتعبك وأنت على فراشك وأصابعك في يديك تقول: سبحان الله.. سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله.. الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر.. الله أكبر أربعاً وثلاثين، هذه مائة.وعلي من هو؟ لو جمعت هذه البشرية ما كانت كـعلي في إيمانها ولا صلاحها ولا علو درجتها، وما يترك هذا الذكر أربعين أو خمسين سنة، حتى في ليلة من أصعب الليالي مرت به، حرب أوقد نارها المجوس واليهود والنصارى، ما تركها، ونحن نأكل ونشرب كالضباع وننام كالبهائم بلا ذكر لله! من فعل بنا هذا؟ إنه الجهل، ما عرفنا الله ولا أحببناه ولا سألنا عنه ولا تعرفنا عليه، هذه هي جملتنا.
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
إذاً: تلك ثمانمائة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تستطيع أن تستوفي بها الألف وتزيد، واسمع الله تعالى يقول: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[الأحزاب:56]، من قال: لا؛ تمزق وتلاشى، ولم يبق له مكانة عند الله، الله تعالى يقول: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ))[الأحزاب:56] وأنت تقول: لا؟! الله الذي يطوي السماوات السبع في يمينه وهذه الأرض في قبضته يصلي على النبي! وملائكته كم عددهم؟ والله! لا يعرف لهم عدد، لا يعرفهم إلا الله. أتريد أن تعرف عن الملائكة؟ جبريل عليه السلام تجلى لرسول الله فسد الأفق كله بستمائة جناح، ومدن سدوم وعمورة رفعها إلى السماء وقلبها.يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أذن لي )، أعطيت إذناً من ربي ( أن أحدث عن ملك رأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة )، الملائكة يصلون على النبي، والبشري المسكين يقول: لا، ولا يصلي، فلهذا إذا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم باسمه العلم أو بعنوان النبوة أو الرسالة ولم تصل عليه فإنك تتمزق: ( رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل علي ) صلى الله عليه وسلم.ويقول مبشراً معلماً: ( من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً )، والعشر بمائة، والمائة بألف، والألف بعشرة آلاف، ومع هذا يمضي على ملايين المؤمنين والمؤمنات أربع وعشرون ساعة ما يقولون فيها: صلى الله عليه وسلم، أما أن يستقبل القبلة، أما أن يجلس، أما أن يذكر ويقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد؛ فقل من يقول هذا، مع أنها واجبة في كل صلاة، إذا صليت ركعتين أو فريضة ذات الأربع ركعات أو ثلاث فلا بد أن تصلي هذه الصلاة في صلاتك، وإلا فصلاتك ناقصة إن لم تكن باطلة.
أعلى صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ورد عنه فيها نيف وثلاثون صيغة من الصيغ، علمها أصحابه ونساءه وبناته، أعطيكم صيغتين: كبرى ما فوقها صيغة، وصغرى أدناها صيغة، وأنت خذ بما تستطيع، الكبرى هي الصلاة الإبراهيمية التي نصلي بها في كل صلاة نصليها، أعيدها ليسمعها الغافلون وليحفظوها من إخوانهم الليلة، فلا يبيتن رجل منا ولا امرأة الليلة وهو لا يحفظ هذه الصلاة، ولو أن يقرع باب جاره يقول: اسمع. هل صلاتي صحيحة أو لا؟(اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد).أنا أعرف أن السامعين بينهم من لا يحفظها، والسامعات كذلك، لكن لم؟ أرخيصة هذه؟ لو كانت دجاجة مشوية لفزعنا إليها، فكيف لا نحفظها؟ وهي واجبة في كل صلاة طول العمر: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.هذه أكمل صلاة وأسماها وأشرفها وأغلاها، الصلاة الإبراهيمية؛ إذ علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، قالوا: يا رسول الله! قد علمنا السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ هؤلاء القائلون جنرالات الدنيا لا أوساخ البشر، هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان ورجالات الإسلام، قالوا: يا رسول الله! أما السلام عليك فعرفناه، وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فكيف نصلي عليك إذاً؟ فقال: ( قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ).نقولها في كل صلاة بعدما نقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وبذا تشعرون أنكم تكلمون رسول الله، فملايين من العرب والمسلمين ما يفهمون هذا ولا ذاقوا طعمه، نعم قبل وجود هذه المخترعات التي فتح الله أبوابها وأنار الوجود بها ما كان المؤمنون إلا على مطية التسليم لله، ولذا فإنهم بعد وفاته قالوا: كيف نقول: السلام عليك أيها النبي وهو غائب، أيام كان يصلي بنا هو بين أيدينا، لكن بعدما مات كيف نقول: السلام عليك أيها النبي؟ نقول: السلام على النبي. فقال العلماء منهم: اسكتوا، علمنا رسول الله أن نقول هذا. وتمضي القرون ونحن الآن موقنون أنا نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فتصله على الفور ويرد السلام، ومن شك في هذا فلا عقل له؛ لأني أنا الآن هنا أقول: (ألو) وأتكلم مع شخص في أمريكا، فحين نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فعلى الفور تكون عنده، لأن الله تعالى هو الذي خلق الهواء والأثير والموج، فلهذا إذا سلمت عليه وأنا غافل فإني أعيد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فتصل كل عبد صالح في الملكوت الأعلى والأرض.ثم أقول: أشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ففي كل صلاة وأنت بين يدي الله تشهد هذه الشهادة وتكررها طول حياتك، ذلك معراجك إلى الملكوت الأعلى، في كل صلاة نعيد شهادة الدخول في الإسلام: أشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم نصلي على النبي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. فهذه أعلاها.
أدنى صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وأدناها: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً. فهذه تؤدي بها الواجب؛ إذ بهذا أمرك الله فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] فإن قلت: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً فقد أديت الواجب.فهذه تستطيع أن تقولها مائة مرة في خمس دقائق: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً.. اللهم صل على محمد وسلم تسليماً.. اللهم صل على محمد وسلم تسليماً، وإن أردت أن ترقى إلى ما هو أفضل من هذه فزد كلمة: (وآله): اللهم صل على محمد وآله وسلم تسليماً.. اللهم صل على محمد وآله وسلم تسليماً، فكم تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم؟ وسأعطيكم ورداً فيها لثلاثمائة مرة على الأقل، وقد تقولون: يا شيخ! شغلتنا عن دنيانا، أخذت منا نومنا، تركتنا في هذه! فأقول: هل تتعب حين تقول: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً؟ هل تشعر بالإعياء؟ وأنت ماش، وأنت تنتظر الصلاة، فمن الأذان إلى الإقامة تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة.على الأقل ثلاثمائة مرة في اليوم والليلة، منها مائة نوزعها بعد الصلوات الخمس، بعد كل صلاة تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين مرة في خمس صلوات بمائة، تقول: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً.. اللهم صل على محمد وسلم تسليماً، ومائة في الصباح ومائة في المساء، فهذه ثلاثمائة؛ لأن حد الكثرة -كما قال علماء السلف- ثلاثمائة، لا تقل: أنا ذكرت الله كثيراً إذا ما ذكرت ثلاثمائة مرة في اليوم والليلة.
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي أعظم ذكر لله، فحين تقول: اللهم صل فقد ناديت الله وذكرته بأعظم ذكر، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وصلاة، تنادي ربك: (اللهم) معناها: يا ألله، حذفت الياء وأبدلت عنها الميم؛ لأن الله ما هو بغائب حتى تناديه بـ(يا ألله)، فهذه الميم في (اللهم) عوض عن ياء النداء، فبدل أن تقول: يا ألله قل: اللهم، لم؟ لأن الله ليس بغائب أبداً، قل بشفتيك يسمعك، يعلم دقات قلبك ونبضات عروقك، قل: اللهم صل على محمد وسلم تسليماً، وأي مانع من ذلك؟ ما هناك مانع أبداً، من ساعة أن تصلي الصبح أو تمشي في طريقك إلى صلاة الصبح تأتي بالأوراد هذه، وأنت عائد من صلاة الصبح تأتي بها، وأنت جالس تنتظر إقامة الصلاة تأتي بها، بل إني إذا نسيت قول (سبحان الله وبحمده) آتي بها بين الإقامة والدخول في الصلاة: سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده، فما تتم الإقامة ويدخل الإمام في الصلاة إلا وقد انتهيت منها، أما تحبون أن يكون الله معكم دائماً؟ أما قال لنا: ( أنا مع عبدي إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ- جماعة- ذكرته في ملأ خير منه )، أفضل وأقدس، من الملائكة وليسوا البشر.إذاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وزيادة، ذكر ودعاء، وهل تعرفون قيمة الدعاء؟ احفظوا هذا الحديث: ( الدعاء هو العبادة ) حصر العبادة في الدعاء، وورد ( الدعاء مخ العبادة )، وانزع المخ من الحيوان فهل يبقى حياً؟ انتهى، إذا بطل الدعاء بطلت العبادة.
أثر الذكر في الكف عن الجرائم
قد يقول القائل: أكثرت يا هذا من الذكر، الناس في حاجة إلى مقاومة الزنا والربا واللواط والخيانة والكذب والسرقة والإجرام وعقوق الوالدين، خمت الدنيا! ونحن نقول: هل الذاكرون الله كثيراً والذاكرات يغشون هذه الكبائر من الذنوب؟ والله! ما كان، فالحصن الحصين هو ذكر الله عز وجل، الذي يذكر الله بقلبه ولسانه، فهو مشدود بالسماع ومربوط مع الله هل يزني؟ هل يقول كلمة سوء وهو ينطق باسم الله؟ والله! ما كان.لو ذكرنا الله لانتهت الجرائم وانتهى الباطل والشر والفساد نهائياً، لا رشاش ولا بوليس، بذكر الله، قلوبنا مع الله، فكيف نقدم على معصيته ونحاربه ونحارب دينه وأولياءه ونحن معه نذكره؟قل لي بربك: من يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ويمد يده ليأخذ الباطل؟ يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ويفتح عينيه في جارته ينظر إليها؟ والله! ما كان، وما وقعنا في الجرائم إلا بعد الإعراض عن ذكره تعالى.أما أثنى الله تعالى على الذاكرين؟ أما قال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]؟ خالق الطباع وغارزها هو الذي يقول.وإليكم حادثة وقعت في بني إسرائيل أيام عيسى عليه السلام وابن خالته يحيى عليه السلام، فقد أوحى الله تعالى إلى يحيى بأربع كلمات أن يقولها لبني إسرائيل ويعمل بها، وفي ذلك الوقت كان بنو إسرائيل كالمسلمين اليوم، الكعب العالي، والربا، والزنا، والدنيا، والتكالب، مثل المسلمين الآن.فخاف يحيى كيف يواجه بني إسرائيل بها، فتردد فقال عيسى: أعطنيها أنا أقولها وليكن ما يكون، والآن في العالم الإسلامي ما يستطيع العالم أن يقول كلمات، لأنه يمزق. إذاً: لما خاف قال عيسى: أنا أقولها، فاضطرب يحيى وقال: يا ويحيى إذا لم أقلها، فصعد في شرفة منزل حتى لا يصلوا إليه بالحجارة، واجتمع بنو إسرائيل وهم يحبون التجمعات كالعرب والمسلمين الآن، إذا جاء مغن أو دجال امتلأ السوق عليه. فاجتمعوا وقالوا: تعالوا انظروا إلى يحيى ماذا يريد أن يقول؟ وقالها وبرئت ذمته، هذه الأربع الكلمات منها: ( وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذكر الله مثل حصن حصين )، كإنسان جرى العدو وراءه وهو هارب، فوجد حصناً فدخله وتحصن به، هذا مثل ذكر الله تعالى، الذي يريد أن ينجو من الشيطان فلا يزني، ولا يسرق، ولا يغتاب، ولا ينم، ولا يكذب، ولا يضجر، ولا يعق أمه، ولا يعصي الله ولا الرسول؛ فالحصن من الشيطان ذكر الله، الزم ذكر الله بقلبك ولسانك فما يقوى الشيطان على إفسادك. إذاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لله ودعاء وصلاة على المصطفى.
الذكر بتلاوة القرآن الكريم
وأخرى: تلاوة كتاب الله عز وجل، هذا ذكر عظيم، ذكر وحصول على العلم، الذي يتلو كتاب الله متدبراً متأملاً يحصل على أنواع العلوم والمعارف المختلفة المتنوعة، وفي نفس الوقت هو يذكر الله سبحانه وتعالى، من ساعة أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إلى أن يفرغ من تلاوته وهو مع الله، يتلو كلامه ويتدبره ويذكر اسمه، قلما تمر آية ما فيها اسم الله، فهو نعم الذكر، ولهذا سماه الله ذكراً، أما قال تعالى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]؟ القرآن صاحب الذكر، ما قرأه عبد إلا ذكر الله، فكيف تقرأ القرآن ولا تذكره؟ فمن تلاوة القرآن إلى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا تكون قد أتيت بورد يزيد على الألف، وأهنئكم وأحمد الله تعالى إليكم على ما فزتم به في ليلتكم هذه، ووفوا وانتبهوا، فما يبقى بيننا من يكذب، ولا يسرق، ولا يزني، ولا يأكل الربا، ولا يفعل جريمة أبداً؛ لأننا في عصمة الله ما دمنا ذاكرين لله، هذا معنى قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
معنى قوله تعالى: (واشكروا لي ولا تكفرون)
وما معنى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]؟واشكروا لي: إنعامي، إفضالي، إحساني.. ولا تكفروه وتغطوه وتجحدوه، ومن مظاهر شكر الله على إنعامه: شكره على خلقك، فأنت مخلوق أم لا؟ وهل هناك من يقول: أنا لست بمخلوق؟ أعاقل يقول هذا الكلام؟ مخلوق اسم مفعول، فمن خلقك؟ الفطرة تصرخ وتقول: الله، الله هو الذي خلقني، فهذا الخلق كم يساوي؟ ديتك كم تساوي؟ ولو جزأناك فدية العين دية كاملة، ودية اللسان دية كاملة، وهكذا، كل هذا الإنعام لا تحمد عليه المنعم ولا تشكره؟ تعجز أن تقول: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله؟
أركان الشكر
الشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، وفي هذا المعنى يقول الحكيم:أفادتكم النعماء مني ثلاثةيدي ولساني والضمير المحجبا.فالشكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح، فكيف يكون الشكر بالقلب؟ الشكر بالقلب هو الاعتراف الباطني بنعمة الله، اعترافك في قلبك بأن هذا الريال من فضل الله، بأن هذا اللسان من عطاء الله، بأن هذه الحياة من فضل الله، هذا الاعتراف بالقلب هو الشكر؛ إذ كم جاحداً كافراً لا يعترف بقلبه لله بنعمة ولا بفضل ولا بإحسان أبداً، وهذا شأن كل كافر على الأرض، هل يعترفون بما أنعم الله عليهم بقلوبهم؟ لو اعترفوا لوقعوا ساجدين بين يدي الله.فأولاً: أن تعترف بقلبك بهذه النعمة، سواء كانت في النطق، أو البصر، أو الريال، أو الصحة، أو الولد، أو الزوجة، والظل تحت شجرة، عندما تحصل النعمة اذكر الله بقلبك أن هذا من فضل الله، أما ألا تذكر بالقلب فهيهات أن تذكر باللسان، فأولاً القلب، وهو اعتراف قلبي باطني بنعم الله.ثانياً: تترجم ذلك الاعتراف الباطني بلسانك الطيب الطاهر فتقول: الحمد لله.. الحمد لله، والشكر لله، هذه الكلمة الطيبة تزن الدنيا وما فيها، عندما تشعر بأية نعمة وأنت تقول: الحمد لله، فمن هنا إن شربت ماء أو لبناً أو عسلاً فبعدما تفرغ مباشرة يجب أن تقول: الحمد لله، إذا أكلت طعاماً أي نوع أكلت وفرغت فقل: الحمد لله، ولن تقول: الحمد لله إلا بعد أن تذكر إنعام الله عليك بقلبك، فقلت: الحمد لله، إذا ركبت ووضعت جسمك على الدابة أو مقعد السيارة أو الطيارة فقل: الحمد لله. إذا أكلت، إذا شربت، إذا ركبت، عندما تفرغ من النعمة تقول: الحمد لله. ومما أذكره للصالحين أنه استدعانا لطعام أحد الإخوان في بريدة منذ سنوات، أستاذ دعانا على طعام، ووالده شيخ كبير، وضع المائدة وأخذنا باسم الله نأكل، وذاك الشيخ الكبير أبو هذا الأستاذ يقول: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله، حتى فرغنا من الأكل بعد ساعة أو زيادة، كلما ذكر النعمة وفكر فيها فاضت نفسه: الحمد لله.. الحمد لله. فهل عرفتم قيمة الحمد لله؟ جاء في التوراة والإنجيل في صفات هذه الأمة أنهم الحمادون، صفاتنا في التوراة والإنجيل، أمة آخر الزمان، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تعرف بالحمادين، ما معنى الحمادين؟كثيرو الحمد، هيا معنا إلى المستشفى، إلى أسرة المرضى المؤمنين الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، تقول لأحدهم: كيف حالك يا إبراهيم؟ فيقول: الحمد لله وهو يموت، تلتقي به على عكازه وهو جائع، فتقول: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله.هؤلاء هم الذاكرون الحمادون، أمة محمد صلى الله عليه وسلم عندما نأخذ بهديه ونسلك سبيله ونتمسك بطريقه، أما إذا غفلنا كما غفل ملايين منا فما يعرف (الحمد لله)، ولا يقولها إلا الأحياء، أحياء القلوب والضمائر العارفون بالله الشاكرون الذاكرون.فإن شاء الله لا يفارقنا لفظ: الحمد لله، نستيقظ من النوم: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره. فهل هذه لا تطيقونها يا أبنائي؟ تأملوا: هذا ذكر رسول الله عندما يستيقظ من النوم، ماذا يقول؟ ( الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره ).ومعنى أذن لي: سمح لي أن أذكره، وإلا فما أنا ومن أنا حتى أذكر ذا الجلال والإكرام، لولا إذنه لنا فهل نحن أهل لأن نذكره؟ أنا عرفت هذا من العجائز في القرية، حين تغضب العجوز تقول: لا تذكر اسمي، أنا أجل من أن تذكرني. فالله أذن لنا أن نذكره، ويثيبنا على ذكره، وأبو القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحمد لله الذي رد علي روحي )؛ لأنها فارقت الجسم، نعم التيار متصل بالملكوت الأعلى، ( وعافاني في جسدي )، قد يقوم الإنسان من نومه أعمى، أو مشلولاً لا يملك شيئاً، فحية قد تأكله، وعدو يغرز فيه حربة، فمن عافاك؟ الله، ( وأذن لي في ذكره )، هذه هي، سمح لي أن أذكره، وهو أجل وأعظم من أن نذكره نحن.إذاً: شكر الله أولاً بالقلب، يذكر النعمة والمنعم، ثم باللسان فيلهج بكلمة: الحمد لله، هذان ركنا الشكر، والثالث: أن تصرف النعمة فيما أحب أن تصرفها فيه، وإلا فأنت كافر النعمة ولست لها بشاكر، أعطاك ريالاً أو ألفاً فأنفقها فيما يحب، فيما أذن لك، فإن أنفقتها فيما نهى وحرم فوالله! ما شكرته، واستهزأت وسخرت، ما أعطاك هذا الريال أبداً لتشرب به السم، أو تقتل به عمراً، أعطاك لتنفقه عليك أو على من تنفق من أجل أن يعبد الله بالذكر والشكر.
ذم صرف النعمة فيما لا يرضي الله تعالى
وهنا وقفة لو نتأملها، لو عرف إخواننا هذا فوالله! ما شربوا الأفيون ولا الكوكايين ولا الدخان ولا السجائر ولا الخمرة أبداً، كيف يعطيك هذا الريال وتعصيه به، أين يذهب بعقلك؟ إلا إذا قلت: أنا كافر فنعم، أما أن تقول: أنا مؤمن، ويعطيك الدينار والدرهم إفضالاً منه وإحساناً، وأنت ما خلقت ولا أوجدت، هو الذي سخر لك وأعطاك، ثم تعصيه به، فكيف هذا؟ والصحة البدنية من وهبكها، من أعطاك صحة بدنك؟ فكيف تستخدم هذه الصحة ضد ربك، ضد الذي أعطاها؟ فتذبح المؤمنين وتبقر بطونهم، أو تسلب أموالهم وتنتهك أعراضهم؟ هذه الصحة من الذي أعطاك إياها؟ أليست نعمة الله؟ أهكذا يكون الشكر؟ قوة البدن تستخدمها ضد أولياء الله؟ قد تقولون: يا شيخ! ما تعلمنا، ما عرفنا، هذه علتنا، ما علمتمونا! وأنا أقول: ما جئتمونا، ما قرعتم أبوابنا، ما اجتمعتم في بيت ربكم وناديتم أن: علمونا، أنتم شاردون تائهون في المقاهي والملاهي والملاعب، فكيف نتعلم إذاً؟ نعم العلة أننا ما تعلمنا، والله! ما تعلموا، ملايين ماتوا أحياء، ما جلسوا هذا المجلس ولا عرفوا ما عرفتم هذه الليلة أبداً، فما الحيلة إذاً؟ هيا نستأنف الحياة من جديد، ما زالت الحياة بأيدينا، فماذا نصنع؟ لن من هذا الكلام، ولن نمل حتى ننتهي، فنقول: بلغوا رجال الحكم عندكم، بلغوا رجال العلم، بلغوا البصراء، بلغوا الأذكياء أن الطريق هو أن نعرف أننا مسلمون مؤمنون نريد أن نسكن السماء في الملكوت الأعلى، وعليه فإذا مالت الشمس إلى الغروب وقف دولاب العمل، توضأ واحمل زوجتك وأولادك إلى بيت الله، بيت الله مسجد تبنونه في القرية أو في الحي، وتجلسون والله يفتح ويعلم.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (100)
الحلقة (107)
تفسير سورة البقرة (67)
الصبر الجميل هو سلاح عباد الله السائرين في طريق الإيمان، وصاحب الصبر وعده الله عز وجل أن يوفيه أجره يوم القيامة بغير حساب، إضافة إلى ما يحصله الصابر في الدنيا من اللذة والسكينة، فما أوتي المؤمنون في دنياهم خيراً من الصبر، فإن أمروا من الله ورسوله بشيء صبروا على طاعتهما، وإن نهوا عن شيء صبروا على تركه، وإن أصابتهم المكاره والبلايا صبروا ابتغاء عظيم ثواب الله.
تابع تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع آية الذكر والشكر والاستعانة بالصلاة والصبر.يقول الحق تبارك وتعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:152-153].
وصية رسول الله لمعاذ بالذكر دبر كل صلاة
معاشر المؤمنين والمؤمنات! أمرنا الله تعالى بذكره، ونحن الرجال عبيده والنساء إماؤه، هو مالكنا ومالك أمرنا، خالقنا ورازقنا، ومدبر حياتنا، أمرنا بذكره وأمرنا بشكره، فهل ذكرناه؟ الجواب: لنستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لأحد أصحابه البررة الطاهرين، وهو معاذ بن جبل الأنصاري: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك )، من معاذ هذا الذي يحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يحبه، فهل من أحبه رسول الله يشقى؟ هذا الوسام لا يدانيه وسام، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحب إلا الطيبين الطاهرين؛ لأن الرسول مع ربه يحب ما يحبه، ويكره ما يكرهه، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ [البقرة:222]. قال: ( يا معاذ ! والله إني لأحبك، فلا تدعن ) أي: لا تتركن ( أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) ثلاث مرات، هذه أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أحبه الله فأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يعقل أن يسمعها منا عبد أو أمة ولا يفرح بها ولا يستمر عليها حتى الموت؟ ذلك غير معقول، إلا ما كان من أهل الغفلة والإعراض والنسيان، فوجوده كعدمه، فهل يعقل أن أحد السامعين أو إحدى السامعات ممن لم يبلغهم هذا لا يحفظون هذه الجملة الليلة ولا يقولونها دبر كل صلاة؟ ما أظن هذا يقع. تقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، أتدرون لم؟ قد سبق أن عرف السامعون والسامعات والحاضرون والحاضرات من الزائرين والزائرات أن علة الحياة وسر هذا الوجود هو الذكر والشكر، لن يستطيع أحد غير أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن ينبئك بهذا النبأ، لو تسأل الحكماء والعلماء: ما سر هذه الحياة؟ ما علة هذا الوجود؟ لم كان؟ فستجد الجواب: أراد الله تعالى أن يُذكر ويُشكر، فخلق هذه العوالم كلها وخلق الإنس والجن والملائكة من أجل أن يذكروه ويشكروه، فمن ذكر وشكر أكرمه، أسعده، ومن كفر بذكره وشكره أخسره وأشقاه شقاء أبدياً.أبعد أن يعرف العاقل سر هذه الحياة -وهو ذكر الله وشكره- يترك الذكر ويغفل عنه، ويعرض عن الشكر ولا يقبل عليه؟ كيف يعقل هذا؟ وها نحن مع هذه الآية الكريمة: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].وقد علمنا أن الذكر يكون باللسان والقلب، وخيره ما تواطأ فيه القلب واللسان، خير الذكر وأفضله ما تواطأ فيه القلب واللسان، القلب يذكر واللسان يترجم وينطق.
السنة النبوية مورد الأذكار
وقد عرفنا -معاشر المستمعين والمستمعات- أننا لا نعرف بم نذكر الله ولا كيف نذكره حتى يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بم نذكر الله وكيف نذكره، لا مجال للعقول هنا والفهوم والأفكار، هذا الذكر توقيفي، الله يأمرنا ورسوله يعلمنا كيف نذكر ربنا، وقد عرفنا من أنواع الذكر ما علمتم، وأفضل أنواع الذكر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ).وقد عرفتم جائزة هذا الذكر، هذا الورد الذي هو مائة في الصباح، يقول عبد الله أو تقول أمة الله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة، جائزته عظيمة والمحروم من حرمها، إنها تعدل عشر رقاب، لو تشتري بنقودك بآلاف دراهمك عشرة عبيد وتعتقهم في سبيل الله فصاحب هذا الورد مثلك وزيادة، فكيف يترك هذا الورد رجل سمعه أو امرأة؟ أنا أحتار وما أدري كيف يعقل هذا؟ أما لنا رغبة في السماع! أما نريد الملكوت الأعلى! أما نحن طامعون في دار السلام! أما عرفنا لماذا خلقنا؟! أيعجز أحدنا عن مثل هذا الورد؟ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة يعدها بأصابعه، بالحصى، بالنوى، بالمسبحة، بعد صلاة الصبح أو قبلها حين يصبح، ويحط الله تعالى عنه مائة خطيئة، ويرفع له مائة درجة، يكتب له مائة حسنة بدخل يومي، ويعفو عن مائة سيئة، فماذا بعد هذا؟ ويظل يومه ذلك كله في حرز من الشيطان حتى يمسي، لا يقوى الشيطان على إغوائه، أو إضلاله، أو إفساده، أو إهماله وتضييعه، فهو في حماية الله، مناعة ربانية، ولم يأت أحد بمثل ما أتى به من الأجر إلا من قال مثله وزاد.
الذكر حصن من وسوسة الشيطان وإغوائه
هذه الأوراد ذكرنا منها ألف ورد، فاللهم لا تحرمناها ما أحييتنا، اللهم لا تحرمناها ما أحييتنا، وعرفنا أن الذكر مناعة وحصانة لا تعدلها حصانة أو توازيها مناعة، وبالبرهنة والتدليل قلت لكم أيها السامعون المؤمنون: من يستطيع منكم أن يذكر الله بقوله: سبحان الله، أو الحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو الله أكبر، ثم يفتح عينيه يتعمد النظر إلى امرأة لا تحل له؟ أو يقول: الله أكبر، أو سبحان الله، أو لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويمد يده ليسلب أخاه ماله؟ أو يقول: آمنت بالله.. آمنت بالله، سبحان الله، لا إله إلا الله، ويستطيع أن ينطق بكلمة سوء أو بذاءة؟ فهذا أمر مفروغ منه، فإن ذكر الله بقلبه ولسانه فلن يجرؤ، ولا يقوى، ما يقدر على أن يخرج عن طاعته، والأدلة والبراهين قائمة، وجرب تجد، وقد ذكر لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أحد شبيبة بني إسرائيل كانت له بنت عم، وراودها عن نفسها، فلإيمانها كانت تمتنع وأبت عليه، حتى ألجأتها الضرورة جوع البطن، فاطرحت بين يديه، فلما دنا منها وجلس منها مجلس الرجل من امرأته ذكرت ربها وقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، ما إن سمع كلمة: (اتق الله) حتى انتفض وصرخ وهو يذكر الله، وتركها وترك ما أعطاها من دنانير.وما زلت على علم مما أقول، إن عبداً يذكر الله بقلبه أو لسانه لا يقوى على أن يعصي الله، وإنما يعصي الله الغافلون المعرضون عن ذكر الله، والله العظيم! للفسقة والفجرة والظلمة وأخباث الخلق هم الذين يعرضون عن ذكر الله، أما الذاكرون الله كثيراً والذاكرات فهيهات هيهات أن يتلوثوا بأوساخ المعاصي وأوضار الذنوب، فلهذا أمرنا الله بذكره: فَاذْكُرُونِي [البقرة:152] وجعل الجزاء أن يذكرنا بإنعامه، بإحسانه، بإفضاله، بهدايته، بتوفيقه، بنصره، برفع الدرجات، بل بأن يذكرنا بنفسه؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: ( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )، وكيف لا وهو القائل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]؟
بطلان المخترعات من الأذكار والأوراد
لقد بدأنا حديثنا وقلنا: كيف نذكر الله؟ وهنا ننبه إلى أنه ما نستطيع أن نبتكر أو نخترع، أو نوجد ذكراً نذكر الله به، بل لا بد من تعليم الله لنا بواسطة كتابه أو رسوله، لا بالأحلام ولا بالمنام.ومن قال: لم؟ قلنا: هذا موسى كليم الله، أي: الذي كلمه الله كفاحاً بلا واسطة في جبل الطور، قال: يا رب! علمني شيئاً أذكرك به. سأل الله أن يعلمه، فقال له: قل: لا إله إلا الله. فلا تفهم أن عالماً يخترع ورداً من الأوراد ويقدمه للطاهرين والطاهرات يردونه صباح مساء، هيهات هيهات، فلا بد من أن نتعلم من نبينا صلى الله عليه وسلم كيف نذكر ربنا.فمن هنا فالذين يذكرون الله من أهل الغفلة والجهل بلفظ الضمير: هو.. هو.. هو، هؤلاء ابتدعوا ذكراً لله، والله عز وجل ليس من أسمائه (هو) أبداً، هذه أسماؤه التسعة والتسعون حواها كلامه في كتابه، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، والله! ما فيها كلمة (هو)، فـ(هو) ضمير يطلق على كل غائب، يقال: إبراهيم هو الذي أُمر بذبح إسماعيل، علي هو الذي خلف عثمان في الخلافة، كلمة (هو) تعود على غائب ذكر، ما هي من أسماء الله، والغافلون وأهل الجهل يذكرون الله بقولهم: هو.. هو.. هو.. هو! ولذا نبهنا وقلنا: عباد الله! تعلموا كيف تذكرون ربكم، فإنما العلم بالتعلم. وكذلك أوراد عند الغافلين من أهل الجهل: يذكرون الله بالاسم المفرد (هو)، ثم يقولون: حي.. حي.. حي، يعني: يا حي.. يا حي.. يا حي! يحذفون حرف النداء، ويقولون: حي.. حي.. حي، لربع ساعة أو عشر دقائق وساعة.
موت الكافر بفقده روح الإيمان
أما الكفار فأموات، أيعقل أن تنادي ميتاً لتأمره أو تنهاه؟ قف على قبر وقل: يا صاحب القبر! قم فأذن وصل، أو قل: يا صاحب القبر! من الآن لا تقل الباطل ولا تنطق بالسوء! فهل أنت تأمر ميتاً أو حياً؟ والميت هل يسمع ويفهم ما تقول وينهض فيعمل أو يترك؟ لا؛ فهنا أريد أن يفهم السامعون والسامعات أن الإيمان به الحياة، أما الكافر فكالميت.ومن قال: ما الدليل على ما تقول يا شيخ؟قلت: الدليل: أن أهل الذمة من اليهود والنصارى يعيشون تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، تحت الدولة الإسلامية، فإذا رأينا هلال رمضان وأعلنا الصيام فهل نأمر هذا الذمي من اليهود أو النصارى بالصيام؟ أتأمر ميتاً؟ وإن وجبت الزكاة فهل نقول: يا معشر أهل الذمة في ديارنا! قد دخل شهر الزكاة فأعدوا زكاة أموالكم، أيجوز أن نقول هذا؟ هذا عبث، ولهو ولعب، فهو ميت فكيف تأمره؟! أذن المؤذن، نادى إلى الصلاة عباد الله، ويهودي أو نصراني أمام بابه، هل تقول له: امش فصل؟ أتأمر ميتاً؟ هذا هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.فمن هنا عرفنا أن الكافر ميت، لا يؤمر ولا ينهى، إذا نفخنا فيه الروح وسرت في جسمه ولاحت أنوارها على جوارحه فأصبح يسمع ويفهم بمجرد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ يكون قد حيي، فتقول: قم يا عبد الله فاغتسل، هذا هو الحمام أو المستحم، فيقوم فيغتسل، تقول: هيا بنا إلى المسجد لنصلي فيمشي، حي يسمع ويقوى على أن يفعل، أما وهو ميت بكفره وظلمة نفسه أفمن المعقول أن تأمره وتنهاه؟معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل عرفتم أنكم أحياء؟ وهل عرفتم أن الكفار أموات؟ إذاً: لا تقلدوهم، أتريد أن تكون كالميت؟ ميت كيف تأخذ بآدابه وأفكاره حتى تتزيا بزيه وهو ميت؟! هذا لا يصح أبداً، إذاً: فلنحمد الله على أن أنعم علينا بنعمة الإيمان، وهي نعمة من الله، كم من حاذق لبيب، عليم، عارف، وحرم هذه النعمة وهو كافر في عداد الكافرين، ذكاؤه خارق للعادة، وما عرف أنه عبد مربوب لرب عظيم، كل شيء يدل على علمه وقدرته ووجوده، وما سأل أهل العلم ولا قال: من خلقني؟ لم خلقت؟ إلى أين مصيري؟ ولكن في باب الطعام والشراب واللباس والمركوب يحذق تلك الأمور حذقاً عجباً؛ لأن الله ما أراد أن ينزله منازل الأبرار، علم أن هذا العبد عندما يعرض عليه الإيمان يرفضه باختياره وإرادته، بل ويحارب أهله ويعاديهم، فكتب ذلك في كتاب المقادير قبل أن يكون هذا الكافر.
إشادة بكتاب نداءات الرحمن لأهل الإيمان
وقد كتبنا كتاب النداءات، واسمه: نداءات الرحمن لأهل الإيمان، هذا الكتاب حوى تسعين نداءاً من الله إلى عباده المؤمنين والمؤمنات، هذا الكتاب ينبغي -إن لم أقل: يجب- أن يكون عند وسادة كل مؤمن ومؤمنة، قبل أن ينام يسمع نداء الله له، فيقول: ماذا طلب مولاي؟ فهذا الكتاب (نداءات الرحمن لأهل الإيمان) اشتمل على كل ما يهم المؤمن، ما ترك المال والاقتصاد، الحرب والسلم، المعاهدات، العبادات، الدماء، الحدود.. كل ما تتطلبه حياة المؤمن حواه هذا الكتاب، لم؟ لأنه اشتمل على تسعين نداء من نداءات الله لعبداه المؤمنين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104]، من سورة البقرة، وتوالت النداءات إلى آخرها وهو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، من سورة التحريم. فأنا أنصح لكل مؤمن أن يوجد هذا الكتاب عنده؛ لأنه مؤمن ويناديه سيده، أما يسمع نداء مولاه؟ إلا إذا لبس برنيطة وقال: ما أنا بمؤمن، حينئذٍ لا ينادى، أما وهو مؤمن ويناديه ربه من فوق عرشه أن: يا عبدي المؤمن! اسمع ما أقول، فيأمره بما يسعده ويكمله، وينهاه عما يشقيه ويؤذيه، يأمره بما يهذب أخلاقه وآدابه، ينهاه عما ينقص أخلاقه وآدابه، ثم لا يعرف ما ناداه به ربه؟! غفلة غفلها المؤمنون والمؤمنات، الآن فتح الله عز وجل، فهذا الكتاب ينبغي أن يوجد بعدد المؤمنين، ألف مليون نسخة.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153]، من أجل هذا ناداكم الله، استعينوا، اطلبوا العون بالصبر وبالصلاة، هنا تجد العون الوافي الكافي، وهو حبس النفس وهي كارهة.
مواطن الصبر
والصبر في ثلاثة مواطن، فمن منكم يريد أن يظفر بهذا العلم، وهذا الكمال؟ثلاثة مواطن جاهد نفسك فيها واحملها على أن تصبر فيها:الموطن الأولى: الصبر على طاعة الله ورسوله، الصبر على أداء الواجبات والنهوض بها على وجهها المطلوب منها، وتتململ النفس، تتضجر، تظهر كسلاً، جاهدها حتى لا تترك واجباً تقدر على القيام به، هذا أول موطن: النهوض بالتكاليف الشرعية التي هي أفعال، وأقوال، وأعمال.الموطن الثاني: الصبر على ترك معصية الله ورسوله، إذا حرم الله تعالى قولاً أو عملاً أو نية أو اعتقاداً أو صفة احبس نفسك بعيداً كل البعد عنها، احبس نفسك بعيداً كل البعد عن معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يتطلب مجاهدة النفس.الموطن الثالث من مواطن الصبر: هو الصبر على المكاره، إذا ابتلاك الله بمكروه، كمرض عافانا الله وإياكم، جوع، فقر، تعب، تصبر على ذلك البلاء فلا تجزع، ولا تقل: آهٍ، حتى يصبح المكروه كأنه محبوب عندك، لا تسمع الله كلمة: آهٍ، أو: لم هذا؟ وأفظع من ذلك قولك: ماذا فعلت؟ كما يفعل الجاهلون، تسأل والحمى تهزك فتقول: الحمد لله، أنا في خير، تسأل والبطن جائع: كيف حالك؟ فتقول: الحمد لله، أنا في خير، لا تظهر أبداً الجزع مما ابتلاك الله به ليمحصك ويظهر طيبك إن كنت طيباً ليرفعك إلى مستويات وإلى درجات ما كنت لتصل إليها إلا بهذا الابتلاء.فمن هنا كان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واسمعوا قول الله تعالى من سورة يونس: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة، ولي الله هل يخاف؟ هل يخاف من الموت؟ هو يفرح به، لينتقل إلى جوار ربه، هل يحزن لموت ولده؟ سبقه إلى ربه وهو على إثره لاحق به، هل يحزن على موت دابته؟ لا، ابتلاه ربه ليسمع منه كلمة: الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، أولياء الله لا يخافون ولا يحزنون؛ لأنهم أهل الصبر، وهم الصابرون، فلهذا الصابر ما يظهر عليه علامة الخوف ولا الحزن أبداً.
إرشاد الآية الكريمة إلى الصبر بشأن تحويل القبلة
إذاً: اصبروا، وأول ما يصبر عليه المخاطبون بهذه الآية قبلتهم التي وجههم الله تعالى إليها؛ لأن الآية نزلت في ظرف كان فيه المؤمنون في هذا البلد في اضطراب، فاليهود والمنافقون يشنون حملات كلامية يزعزعون بها إيمان المؤمنين، وقد تقدم هذا وعرفناه، وأمرنا تعالى بالصبر، فقد كنا نستقبل بيت المقدس بإذن ربنا، فأراد الله تعالى أن يخلصنا من التشبه بأعدائه وأعدائنا اليهود، فحول قبلتنا إلى الكعبة، وكون المنافقين والمرجفين يقولون: ما هذه الذبذبة وهذه الحيرة، وغداً سوف يولون وجوههم إلى المغرب، وغداً إلى كذا؛ هذا الطابور الخامس واجهوه بالصبر، واستعينوا بالصبر على هذا، واستعينوا على ذكر الله وشكره بالصبر، واستعينوا على ما يهمكم أو ينزل بكم أو تريدون الوصول إليه بالصبر، استعينوا بالصبر أولاً، وبالصلاة ثانياً.
توجيه المؤمنين إلى الاستعانة بالصلاة على مهام الحياة
نادى الله تعالى عباده المؤمنين والمؤمنات ليرشدهم إلى الاستعانة على مهام حياتهم بالصبر والصلاة. فاحبس نفسك على ما فرض الله عليك، احبسها بعيدة عن كل ما كرهه الله ومنع عباده المؤمنين منه، من الكلمة إلى قتل المؤمن، احبسها بعيداً، إذا ابتليت للامتحان -ولا بد- ولتمحيصك وإظهار باطنك وعرفت أنك مبتلى فاصبر، والصلاة أكبر عون على مثل هذا، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ).ورضي الله عن عبد الله بن عمر ، وهو في طريقه من مكة إلى المدينة، والمسافة مسافة عشرة أيام على الإبل، في أثناء طريقه جاء من المدينة أحد المؤمنين ذاهباً إلى مكة، فقال: يا ابن عمر ! لقد توفيت امرأتك. وكان على دابته، فنزل وصلى، فقيل له في ذلك: يا عبد الله! ما الذي صنعت؟ قال: ( رأيت رسول الله إذا حزبه أمر -أصابه كرب أو شدة- يفزع إلى الصلاة )؛ لأن الصلاة يا عباد الله هي لقاء مع الرب تبارك وتعالى، لقاء كامل تام، إذا تطهرت، وكانت ثيابك طاهرة وجلست على مكان طاهر واستقبلت بيته وقلت: الله أكبر؛ فأنت -والله- بين يدي الله، ( المصلي يناجي ربه )، من قال هذا؟ من أخبر بهذا الخبر؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما معنى أنه يناجيه؟ يتكلم معه سراً، فالمناجاة: هي كلام السر بين اثنين أو ثلاثة، فإذا دخل العبد في الصلاة ينظر الله تعالى إليه ويسمع منه؛ فلهذا يقبح أشد القبح أن تلوي رأسك يميناً أو شمالاً، أما إن استدبرت الله وقد نصب وجهه الكريم إليك فهذا معصية كبيرة، صلاتك باطلة بالإجماع، وذلك أقبح شيء، الله مقبل عليك بوجهه يسمع منك وتستدبر أو تلتفت؟ أو تتكلم معه ويبقى اللسان ينطق والقلب في البستان أو في الدكان؟! هذه أيضاً عيب كبير، سيدك مقبل عليك يسمع طلباتك ويرى مرادك، وأنت بقلبك في الدكان أو في البستان، هذه زلة لو تشعرون بها.ومن باب التمثيل: شخص تريد منه حاجتك، وتقبل عليه: يا سيدي! يا فلان! وإذا بك تنصرف، فيقول: أين أنت؟ فتقول: في المطبخ، تسأل عما طبخوا له! أيليق هذا بذوي الأدب؟إذاً: الاستعانة بالصلاة هي أنك إذا حزبك أمر واشتد بك كرب وضاقت النفس؛ فبدل أن تقول لزوجك: أنت طالق بالثلاث، أو تسب فلاناً أو تضرب القدر برجلك؛ افزع إلى ربك واطرح بين يديه، ولما لم يعرف أبناؤنا هذا فإن أحدهم تغضبه سيدة البيت بكلمة فيقول: أنت طالق بالثلاث، يشفي صدره بهذا حتى يعيش على الحرام حتى يموت، يغضبه ولده فيسب الله والرسول، يغضبه من معه من زملائه أو العمال معه، فيأخذ في السب والشتم والصياح والضجيج، أين حبس النفس؟ حين تشعر بالضغط الباطني افزع إلى الله.
حاجة المسلمين إلى التربية المفقودة
إذاً: يا شيخ! لا تلمنا؛ لأننا ما تربينا في حجور الصالحين، إي والله يا بني إنك تقول الصدق، الذي ما يتربى في حجور الصالحين ماذا يكون؟ عاش في أسرة لا يسمع إلا السب والشتم والغضب والصياح والضجيج، مشى مع أناس وجالسهم وعاش معهم في الحي أو في القرية أو في العمل لا يسمع كلمة الهدى ولا يرى نورها، وتريد منه أن يكمل بهذه السرعة؟ نعم ما ربينا في حجور الصالحين.إذاً: هل من طريق إلى تربيتنا يا شيخ؟ هل من طريق إلى العودة؟ الجواب: نعم؛ باب الله مفتوح، فرسول الله صلى الله عليه وسلم -وإن مات، وهو في دار السلام في جوار ربه- فحكمته وهداه بين أيدينا، كتاب الله، وربنا إن لم يناجنا ولم يكلمنا ولم يوح إلينا فكتابه بين أيدينا، فقط نجلس جلوس الصدق وبالنية الصالحة بين يدي المعلم أو المربي وندرس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.أما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، وقال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164].وسبق هذا دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يبني البيت العتيق الذي نحج إليه، كان يبني البيت وإسماعيل ولده معه يناوله الحجارة، وهما يبنيان البيت كانا يتقاولان، وسجل الله لنا كلماتهما، فماذا كانا يقولان؟ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، يتقبل منهما ماذا؟ العرق والجهد في تلك الصحراء في ذلك الوادي حيث يبنيان بيتاً ليس معهما أحد إلا الله.
وجوب الإسلام لله تعالى
ثم قالا: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، سبحان الله! إبراهيم يسأل الله أن يجعله وولده مسلمين؛ لأن الإسلام غال وعزيز ورفيع، من منكم يريد أن يسلم لله قلبه ووجهه، فتصبح أعماله، ونياته، وأفكاره، وتدبره كله لله عز وجل؟ وقد بينا هذا وفصلناه، قلنا: تمر بالرجل يهدم الجدار فتقول: لم؟ فيقول: في الله، خفت أن يسقط على عبد مؤمن فيؤذيه، تمر بكناس يكنس الشارع، فتقول: لم؟ فيقول: لله، أولياء الله يمرون من هنا؛ فأنا أكنسه خشية أن يؤذيهم هذا الشوك أو هذا الأذى، والآخر تمر به يبني، فتقول: لم تبن؟ يقول: لله، كيف تبني لله؟ هل هو مسجد؟ فيقول: لا، أبنيه لأكن فيه المؤمنين من أولادي والمؤمنات وأسترهم به، وفلان طلق زوجته اليوم، فقلنا: هل طلقت؟ قال: نعم، لم؟ قال: لله، سبحان الله! هل طلقت لله؟ أي نعم، هذه المؤمنة ما سعدت معي، شقيت، ما رضيتني لها، نفسها كارهة، طلقتها لتسعد، هذه أختي المؤمنة، فطلق لله، وفلان تزوج، لم يتزوج؟ لله، كيف يتزوج لله؟ أراد أن ينجب بنين وبنات يعبدون الله، فلمن زواجه؟ لله.فـ(أل) في كلمة (المسلم) دالة على العراقة والمتانة في الوصف، المسلم: ذاك الذي أسلم كل شيء لله، أسلم بمعنى: أعطى، أنت سلمت البضاعة الفلانية، سلمتها أو أسلمتها بمعنى واحد، المسلم الذي أعطى لله قلبه فلا يتقلب إلا في رضا الله عز وجل، وأسلم جوارحه، فلا يمشي ولا يقعد ولا يقوم ولا ينام ولا يبني ولا يهدم ولا يتزوج ولا يطلق ولا يعطي ولا يمنع إلا لله، فهل يستطيع المؤمنون أن يفعلوا هذا؟ لو علموا لفعلوا، فإن لم يعلموا فوالله! ما يفعلون.
ضرورة العلم بأحكام الصلاة لحصول أثرها
العلم قبل القول والعمل، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19].الذي ما يعرف أن يبني جداراً هل سيبنيه؟ الذي ما يحسن طبخ طعام هل سيطبخه؟ يفسده، الذي ما يحسن خياطة ثوب هل سيخيطه؟ سيمزقه، نحن في الدنيا واعون تمام الوعي، إذا لم يستطع أن يسوق سيارة هل يرمي بها في الوادي؟ كلا. والعبادات أمر غير مهم، مع أنها -والله- لأدق من سياقة السيارة أو من طبخ الطعام، بل أدق مما يسمى بالكيمياويات.أض ب لكم مثلاً: الصلاة التي بها العون على تحمل مشاق الحياة شرعت من الله، فالله عز وجل شرعها ورفع رسوله إليه ليسمعه كلامه، وليعلمه ما فرض عليه وعلى أمته، ولما نزل جبريل الأمين فصلى به يومين علمه الصلاة وأوقاتها، هذه الصلاة مركبة تركيباً كمياوياً، لو تركع قبل أن تقول: الله أكبر فصلاتك باطلة، لو تسجد قبل أن تركع فصلاتك باطلة، لو تترك قراءة الفتحة وتقرأ القرآن كله فصلاتك باطلة، ما معنى باطلة؟ إذا قال الفقيه: صلاتك باطلة فماذا يعني؟يعني أنها ما ولدت النور، عملية فاشلة، ما أنتجت الطاقة التي من شأنها أن توجد في هذه الحركات التي شرعها الله، فالصلاة عملية توليد الحسنات، وهي جمع حسنة، ما يحسن به القلب والنفس، هذه الصلاة لو تصلي أمام فقيه وتقول: الله أكبر مستدبراً القبلة فسيقول: صلاتك باطلة، كيف تكبر وأنت تستدبر القبلة؟ صلاتك باطلة، أو قرأت بعد تكبيرة الإحرام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ [التحريم:6]، وما قرأت الفاتحة، سيقول: صلاتك باطلة، أو ركع وما أكمل ركوعه، ولا مد صلبه وظهره ولا اعتدل فيه، سيقول: صلاتك باطلة، أو سجد وما مكن جبهته ولا أنفه من الأرض، ولا أرى نفسه الذلة وأنه بين يدي الله، بمجرد أن وضع رأسه رفعه، كأنها نار تحته، يقول الفقيه: صلاتك باطلة، وصلاة المغرب ثلاث ركعات، فقال: أنا أصلي خمساً لله، أتقرب إلى ربي، فصلى خمس صلوات، يقول: الفقيه: صلاتك باطلة، لم باطلة؟ هل أنا نقصت شيئاً؟ أنا أردت الزيادة لله، يقول: اسكت! صلاتك باطلة، أو نقص سجدة من السجدات في أي ركعة وقال: يكفي سجدة واحدة، فماذا يقول الفقيه؟ يقول: صلاتك باطلة؟ ما معنى: باطلة؟ معناه: ما تنتج لك الحسنات، ما تولد لك الأنوار، أعدها وإلا فهي عملية فاشلة كالمركبات الكيماوية. على سبيل المثال: إبرة البنسلين التي تعطى للمريض، لو عملوا لك خمسين إبرة فهل هي دواء؟ سيقتلونك، كمية الدواء ارتفعت، كمن يصلي المغرب أربع ركعات أو سبعاً، والإسبرين للصداع، أتيت بعلبة كاملة فيها عشرون حبة وابتلعتها، فهل ينفع ذلك؟ أو أنك بدل أن تبتلعها أو تذوبها وتشربها غسلت بها رأسك، فهل تنفع؟ باطلة ما تنفع، هذه أمثلة محسوسة، فما أمرنا الله بالاستعانة بالصلاة إلا لأنها توجد أنواراً تغمرنا فتتجلى على عيوننا وعلى أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا وعلى كل حركاتنا، لما تولد من ذلك النور.
إقامة الصلاة نور يحول دون الفواحش والمنكرات
ومن قال: ما الدليل على ما تقول؟ فالجواب: اسمعوا الله تعالى يقول وهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمته تابعة له-: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، (اتْلُ): اقرأ، مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، نقرأ الكتاب في الصلاة وخارجها؛ لأنه مصدر العلم والمعرفة، مصدر توليد طاقة الإيمان، أتريد أن تقوى؟ أن يشتد ساعدك؟ أن ترتفع كلمتك؟ اتل الكتاب، ونحن نقرؤه على الموتى فقط. يقول تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، لم يا رب؟ ما الفائدة من إقام الصلاة؟ ما قال: وصل، لو شاء لقال: اتل ما أوحي إليك من الكتاب وصل لنا، ولكن قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، وعلل لهذا الأمر، علل لهذا الحكم، وهل تعرفون معنى العلة؟إنها الجواب عن كلمة (لم)، يقال: لم طبخت هذا الفول يا أم سعيد؟ قالت: ليفطر به الأولاد قبل الذهاب إلى المدرسة، فلم حين يعلل الله لنا لا نفهم، سبحان الله! والله! ما يفهمون، وهم يعرفون التعليل لكل عمل، وما أمر الله ولا نهى إلا ويعلل لذلك، وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، الصلاة تنهى عن فعل الفحشاء وفعل المنكر، عن قول الفحشاء، عن قول المنكر، عن اعتقاد الفحشاء عن اعتقاد المنكر. وكيف تنهى؟ هل سمعتموها يوماً تنادي: يا عبد الله! لا تسرق، يا عبد الله! لا تقل السوء؟ الصلاة ما تنطق، إذاً: كيف تنهى عن الفحشاء والمنكر؟الجواب: لأنها توفر النور الطاقة النورانية، والذي يمشي في النور هل يضع رجله على عقرب؟ الذي يمشي في النور هل يجلس على شجرة الشوك؟ الذي يمشي في النور هل يعدل عن الطريق وينحرف عنها؟ الجواب: لا، الذي يمشي في الظلام هو الذي يقع له هذا، قد يدوس أفعى، قد يجلس على خراءة وبول، وما يرى، لكن صاحب النور أنى له أن يقع فيما يضره ويؤذيه؟! فالصلاة أكبر مولد لهذه الطاقة النورانية، والحج، العمرة، الجهاد، قل ما شئت من مولدات الحسنات أو الأنوار، والصلاة أعظمها بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أ ثر الصلاة في الكف عن الجرائم
ونقول: ما نحن بحاجة إلى البوليس والشرط والآلات لنقاوم السراق ونقاوم اللصوص والمجرمين والخونة، ما نحتاج إلى هذا، بل نقيم الصلاة فقط، أصحيح هذا الكلام؟ والله الذي لا إله غيره! لهو أصح من الصحيح، فما الدليل؟ عندنا براهين: كم كانت شرطة النبي صلى الله عليه وسلم؟ من مدير الشرطة؟ كم حادثاً وقع في عشر سنوات؟ زنية واحدة وسرقة واحدة.أبو بكر الصديق قاد المسلمين سنتين، فمن هو مدير شرطته؟ كم كان عنده من الشرط ورجال الأمن؟ لا أحد.عمر كانت خلافته سنوات، فمن مدير شرطة عمر ؟ هل كان عنده شرطي بوليس؟ والله! ما كان، ما هي الجرائم التي وقعت؟ لا شيء. وكذلك عثمان ؟ أتدرون السر ما هو؟ لأنهم يقيمون الصلاة رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، فازدهرت قلوبهم بالإيمان، وزكت نفوسهم بالصلاة فأصبح النور يغشاهم من فوقهم ومن تحتهم، فصاحب هذا النور ما ينطق بكلمة سوء، فضلاً أن يمد يده ليؤذي أخاه أو أمه، فهل هذا الكلام خيال؟!أيها السامعون وفيكم العلماء ورجال السياسية! عندنا ما يسكتكم، هيا بنا إلى أي محافظ في بلد من بلدان المسلمين، من إندونيسيا إلى موريتانيا، نقول: يا محافظ! أنا وفلان تنازعنا، هذا يقول: المقيمون للصلاة ما يزنون ولا يفسدون ولا يفسقون، وأنا أقول: هم الذين يفسقون ويجرمون، أعطنا قائمة بأسماء الذي اجترحوا السيئات في هذا الشهر، وهي مسجلة عندهم، هات القائمة، فيها إبراهيم بن عثمان، وعيسى بن سعيد، وموسى بن فلان، وخالد بن كذا.. هذا سرق فلاناً، هذا ضرب فلاناً، هذا ضبط يشرب الحشيش، هذا كذا.فنقول: إن وجدتم أكثر من(5%) من مقيمي الصلاة فاذبحوني، الآن لنا أربعون سنة نتحدى، ما استطاع واحد أن يثبت شيئاً، (5%) ممن سجلتم جرائمهم بالزنا واللواط وعقوق الوالدين، وخيانة الجيران، ولم نستثني خمسة؟ لأن الشذوذ يقع، والشاذ لا حكم له، و(95%) من تاركي الصلاة في دياركم ومن المصلين الذين لا يقيمون الصلاة.إن عبداً يطرح بين يدي ربه ويناجي ربه ويتردد على بيته خمس مرات بالليل والنهار ويذرف الدموع حتى تسيل على خديه بين يديه هل يخرج من المسجد ليكذب؟ والله! ما كان، هل يخرج من المسجد ليطارد النساء ويزني؟ والله! ما يكون، هل يخرج من المسجد ليتعاطى الحرام ويبيع الحرام؟ والله! لا يمكن.أما أن تقول: يصلون ويفعلون ففرق كبير بين من يصلي وبين من يقيم الصلاة، وما هو الفرق؟المقيم الصلاة صلاته ولدت له النور وأوجدت له الطاقة، فبها يبصر ويعرف الحق من الباطل والطهر من الخبث، أما الذي يصلي فما أنتجت له، بل كما دخل خرج، دخل في ظلام وخرج في ظلام، هذا يقرر ما سمعتم أن الصلاة أكبر مولِّد للطاقة النورانية، أكثر من الصيام، أكثر من الحج؛ لأن عبداً يذهب إلى ربه ويتكلم معه ويناجيه ويبكي بين يديه ويمرغ وجهه في التراب طالباً رضاه مستعيذاً من غضبه وسخطه هل يخرج يسب فلاناً أو فلاناً؟ والله! ما يكون.
انتفاع العالم بثمار العبادات ودلائل الآيات
إذاً: هيا لنقيم الصلاة، ونحتاج إلى العلم أولاً، الذي ما يعرف كيف يصلي كيف يقيمها؟ ما عرف أركانها ولا واجباتها ولا هيأتها، فعدنا من حيث بدأنا، فهيا نتعلم، لا بد من التعلم؟ فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، العالمون هم الذين يعقلون ويفهمون ويسوسون ويقودون، والجهلاء عميان وضلال يقودون الناس إلى المهاوي ويسقونهم السم وهم لا يشعرون.وقد ضرب الله مثلاً فقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ [العنكبوت:41]، مثل: أي: صفة، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ [العنكبوت:41] جعلوا من دون الله أولياء يبكون بين أيديهم، يستغيثون بهم، يطلبون نصرتهم، يريدون أن يشدوا قواهم وعزمهم، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ [العنكبوت:41]، هذا كلام الله، والعنكبوت جمعه عناكب، حشرة تعمل نسيجاً عجباً، كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا [العنكبوت:41] لتسكنه، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت:41] بيت القملة قد يكون أحسن وأصح، تدخل تحت الشعر، أما العنكبوت فبيتها خيوط في الهواء، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، هذا محل الشاهد: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [العنكبوت:43] لهدايتهم وتعليمهم، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، ما يعقلها إلا أهل العلم والبصيرة، غير العالم هل يستطيع أن يقود أمة، أن يسود جماعة، أن يصلح قرية، أن يصلح أسرة؟ والله! ما يستطيع. قد تقول: يا شيخ! لم تحلف بالله؟ كيف تقول هذا الكلام؟أقول: ها نحن في القارات الخمس من اليابان شرقاً إلى أمريكا غرباً، دلونا على دولة أو على قرية أو على أمة استقام أمرهم وأصبحوا كالملائكة في الأرض تسودهم الرحمة والإخاء والطهر والصفاء؟جهلة بربهم وبشرعه وقانونه ولقائه، فكيف ينتجون الطهر والصفاء؟ بل ينتجون الخبث والعفن والشر والفساد، ففرنسا أرقى دولة في أوروبا سجلوا لها عشرة آلاف جريمة في كل يوم، ما هي جرائم سب أو شتم، بل سرقة وقتل، أين البوليس، وأين الأنظمة، وأين تلك الآلات؟ هل فعلوا شيئاً؟ السويد والدنمارك سموا وارتقوا وينزو بعضهم على بعض في الغابات والبساتين؟ أين الرقي، أين الكمال؟إذاً: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:128-129]، هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ [البقرة:129]، من هؤلاء؟ أولاد إسماعيل حين يتزوج ويولد، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].هذا نظام الكمال البشري، هذا سلم الرقي إلى مقامات أهل الجنة.اللهم اجعلنا منهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (101)
الحلقة (108)
تفسير سورة البقرة (68)
منح الله عز وجل معيته لمن صبر وأقام الصلاة من عباده، ومعية الله سبحانه وتعالى تقتضي التأييد والنصرة والرعاية، كما وهب الله عز وجل الحياة لمن قتل في سبيله، وأعد له عنده سبحانه مقاماً كريماً، وأمنه من فتنة القبر، ومن فزع يوم العرض، ذلك أنه بذل نفسه وروحه في سبيل الله، وأراق دمه طلباً لمرضاته، واستعجالاً لأجره وثوابه.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) وقفات مع جملة (إنا لله وإنا إليه راجعون)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:153-157].
فضلها ومعناها
قبل أن نشرع في تفسير الآيات أقول: إن كثيرين من عوام المسلمين لا يحفظون هذه الجملة ويحفظون أغنيات متسلسلة، ويعجز أن يحفظ هذه الجملة، وهي: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، فهل يعجز المؤمن أو المؤمنة أن يعيد كلمة من كلام الله، هل يستطيع أن يقص القصص ويحكي أطول الحكايات ويعجز عن هذه الجملة: إنا لله وإنا إليه راجعون؟ والله! إنها لتزن ما على الأرض من ذهب، فـ ( ما من مؤمن يصيبه الله بمصيبة -في نفسه أو ماله أو ولده- فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا آجره في مصيبته وأخلفه خيراً منها ).ومعنى قوله: (إنا لله) أنه ما دمت تعترف أنك لله فإذا قتلك الله، سلبك الله، فعل ما شاء أن يفعل بك؛ فأنت عبد له، كما إذا رأيت الرجل يذبح شاته فهل تقول: لا تذبحها؟ رأيت الرجل يهدم جداره، فهل تقول: لا؟ رأيت الرجل يطالبك بأماناته عندك، فهل تقول: لا؟ فأنت عبد الله، فإذا أراد منك شيئاً فكيف تجزع؟ كيف تسخط؟ كيف تقول الباطل؟ وعهدناك إذا طلب منك شيء مما هو لغيرك تسلمه ولا تغضب ولا تسخط، وإذا أراد الله منك شيئاً من مالك أو من أولادك أو من نفسك تسخط وتغضب وتجزع، بل يقولون الهجر وينطقون بالباطل والكفر، فما سر ذلك؟ ما حفظوا هذه الجملة، ما هم في حاجة إليها، ما وجدوا يوماً من يرغبهم أو يحثهم أو يحضهم على حفظ كلمة من كلام الله، يعيش أربعين سنة ما يحفظها.
ثواب قولها
أيها المستمعون ويا أيتها المستمعات! إذا قال العبد: إنا لله وإنا إليه راجعون، فاسمع الجزاء: أُوْلَئِكَ [البقرة:157] السامون، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].لأن الذي إذا أصابته مصيبة عرف وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما تفوه بكلمة سوء، ولا تململ ولا تضجر، ولا ظهر في صفحات وجهه سخط ولا غضب، إنما رضي بقضاء ربه وحكمه، وهون على نفسه بقوله: إنا لله، فما دمنا له فليأخذ ما شاء منا وليبق ما شاء، يرفع منا ما شاء ويضع ما شاء، فنحن ملكه، فإنا لله. ثانياً: وإليه راجعون، فما دمنا راجعون إليه فإذا مت أو مات ابني أو مات أبي أو أخي أو امرأتي فهذا الموت أليس رجوعاً إلى الله؟ أما جئنا بإيجاده والرجوع إليه، فكيف نغضب؟ كيف يغضب الإنسان أن يرجع إلى الله؟هذه الكلمة لها وزنها وقيمتها، انتفع بها السالفون الأولون وجاء الجهل وغطى العالم الإسلامي، ألف سنة وهم في تيهان. أُوْلَئِكَ [البقرة:157] الذين يقولون هذا عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، يغفر ذنوبهم ويرحمهم، وماذا بقي إذا غفر ذنبك وأدخلك الجنة، هل بقي طلب آخر؟ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] في طريق الكمال وسبيل السعادة، المهتدون إلى رضا الله عز وجل.قول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ [البقرة:153]، إنه الصبر الذي يكون لنا عوناً على النهوض بالتكاليف فعلاً وتركاً، الصبر الذي يجعلنا نحبس أنفسنا حتى لا تتململ ولا تتضجر ولا تسخط، هذا الصبر على الطاعات، وحبس النفس بعيدة عن الشهوات والمعاصي، والصبر على القضاء والقدر بالابتلاء بفقد المال أو الولد، هذا الصبر حين يتم بشر صاحبه بأن الله تعالى معه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، لا يضيعهم، لا يخسرهم، لا يهلكهم، لا يكربهم ولا يحزنهم، لا يفوت النعم عليهم؛ لأنه معهم، أيما صابر في ميدان من الميادين لا يفقد ثمار ذلك العمل بوعد الله، ومن جزع وانقطع وما واصل العمل خاب وخسر. قد عرفنا قيمة الصلاة، وما واصلنا الحديث فيها، فنقول بإيجاز:إقام الصلاة -كما علمتم- أن تؤدى في أوقاتها التي حددها الله وبينها، إذ قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، وقال: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18]، الإمام الشافعي أخذ أوقات الصلوات الخمس من هذه الآية من سورة الروم، ومالك رحمه الله أخذها من قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقد عرف المؤمنون والمؤمنات أوقات الصلاة: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء.هذه الصلاة إذا أديت في أوقاتها نفعت، أما الذي يصليها قبل حلول وقتها فصلاته باطلة، والذي يؤخرها حتى يخرج وقتها خسر، ( من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله )، هذه الصلوات الخمس من شرط إنتاجها وتوليدها للإيمان والطاقة أن تؤدى أولاً في أوقاتها، ثانياً: في بيوت الله مع عباده المؤمنين، ولا يصلين أحد في بيته أو دكانه أو مزرعته إلا إذا بعد عن المسجد بثلاثة كيلو متر، وأقل من ثلاثة كيلو متر ينبغي أن يشهد الصلاة، وإن كان ذا عذر كمرض أو تمريض أو حراسة أو حماية فإنه يصلي حيث أمكنه، أما أن يكون في ديار الإسلام وبين المؤمنين والصلاة تقام في بيوت الله وهو يتحدث ويضحك حتى تفرغ الصلاة ويقوم يصلي، فهذه ما تنتج شيئاً، كالذي دخل الحمام وخرج وما غسل ولا نظف.ثم لا بد أن تؤديها على الوجه المطلوب، كما علمها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قلنا: نزل جبريل من السماء وصلى برسول الله في الكعبة يومين، علمه أوقاتها وكيفيتها، فمن لم يطمئن في الركوع أو في السجود أو في القيام أو الجلوس فصلاته باطلة، من لم يحسن قراءة الفاتحة مجودة مرتلة فصلاته باطلة، وما معنى باطلة؟ لا تولد له النور، الصلاة عبارة عن مولِّد النور، وتعرفون مكائن توليد الكهرباء التي تشترونها لبيوتكم، مكينة تدور فتولِّد الكهرباء، وهذه الكهرباء من أين؟ والصلاة مولِّدة للنور حقاً وصدقاً، ما إن يشع في صدرك حتى يظهر على بصرك.. على سمعك.. على لسانك، يظهر في سلوكك، ومن فقد هذا النور فهو كالأعمى يتخبط في كل واد للضلالة.وأنتم تعرفون أن فقهاءكم يقولون: إذا صليت قبل الوقت فصلاتك باطلة، وكذلك باطلة لأنك ما ركعت فيها الركوع المطلوب، فما معنى باطلة؟ أي: لا تولد الطاقة النورانية.وملاي ن الناس إلى اليوم كيف يصلون؟ يقول أحدهم في عجلة: الله أكبر، سمع الله، ربنا لك الحمد، الله أكبر، يركض ركضاً، ولا يجد من يذكره، ولا من ينبهه، ولا من يعلمه، ونحن نركض وراء الحياة، فلم نحيا؟ لمن حياتنا؟ لله، فهل قال الله هكذا؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! فما دمت له فلم لا تؤدي خدمته المطلوبة منك كما يطلبها ويرضاها؟ لم تبخسها وتنقصها؟وورد عن أبي القاسم الهادي صلى الله عليه وسلم قوله: ( أسوأ الناس سرقة -أقبح الناس سرقة- من يسرق في صلاته )، السارق تقطع يده، والسرقة قبيحة كيفما كانت، وأقبح سرقة على الأرض أن يسرق المصلي من صلاته، بدل أن يتم في خمس دقائق يصليها في دقيقة.
أثر إقامة الصلاة في حياة العبد
قد تقول: يا شيخ! لم تشدد هذا التشدد؟ فأقول: لما علمتم، فإنها لا تنتج له النور، فيخرج من المسجد يشهد شهادة الزور، يخرج من المسجد يلاحق النساء ببصره ويده، يخرج من المسجد يجلس على كرسي الربا يبيع ويشتري، أين ذلك النور الذي أشرقت له نفسه؟ ما كسب نوراً، ما حصل على نور، فهو في الظلام، وهل الماشي في الظلام تلومه إذا جلس على حية أو وطئ شوكة؟ ما عنده نور، واقرءوا قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، لم يا رب؟ الجواب: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، القرية المدينة الإقليم المملكة إذا أقام أهلها الصلاة نساء ورجالاً أمنت، فلا زنا، لا كذب، لا سرقة، لا شهادة زور، لا اعتداء، لا سفك دماء، تلقائياً.بالأمس قلت لكم: تفضلوا، امشوا إلى أي محافظ في محافظات العالم الإسلامي وقولوا: يا سيد! أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع أو هذا الشهر أو هذا العام، قلت لكم: إن وجدتم من أهل الجرائم أكثر من خمسة في المائة من مقيمي الصلاة فاذبحوني، وخمسة وتسعون من تاركي الصلاة ومن المصلين الذين لا يقيمون الصلاة؛ لأن الذي يناجي ربه في الصباح والمساء في أوقات معينة في الليل والنهار ويتكلم معه ويبكي بين يديه ويتحدث معه هل يخرج من المسجد ليعصيه ويخرج عن طاعته؟ كيف يتم هذا؟ لا يتم، والذي يسرق ويفجر ويزني ويكذب ويسب ويشتم ويحسد ويبغض ويغتاب وينم هو عبد لا يصلي، أو يصلي صلاة باطلة ما تنتج له النور، فيعيش في الظلام، يسب حتى أمه، هل عرفتم هذا؟أزيدكم برهانا: قلت لكم: هل كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دولته بالمدينة لمدة عشر سنوات شرطة وبوليس ورجال الأمن؟ هل كان للخليفة الصديق رجال أمن وقوة؟ هل كان لـعمر بوليس ورجال الأمن؟ هل كان لـعثمان رضي الله عنه رجال بوليس؟ هل كان لـعلي ؟ الجواب: لا، فكيف ساد الأمن؟ كيف تم ذلك الأمن؟ تم بإقام الصلاة، الذي يتكلم مع الله ربع ساعة ما يستطيع أن ينساه في دقائق ويفجر عن نظامه وقانونه وسننه.وإن قلتم: ما ندري، فوالله! لكما تسمعون، ما كان لدولة الراشدين بوليس أبداً، وساد أمن وطهر وصفاء ما يستطيع أحد أن يثبت مثله في الحياة.
دولة عبد العزيز أنموذج لأثر إقامة الصلاة
وأقرب مثال إليكم ما سأقول، ومن وسوس له الشيطان وقال: هذا الشيخ عميل، هذا شيخ الفلوس؛ فليعلم أن أبا مرة عليه لعائن الله يكرهنا كراهية كاملة، فلكي يحرم السامع يلقيها إليه فيقول: هذا عميل! فهذا يلقى لنا ونعلمه من أخلاق أبنائنا وإخواننا؛ لأنهم ما ربوا في حجر الصالحين، فكيف يكملون ويسعدون؟ يعيشون على الجرائد وأقوال الصحف.فنقول: لما أنشأ الله هذه الدولة على يد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود -تغمده الله برحمته- في أيام ليس فيها تلفون ولا هيلوكبتر أبداً، والله! ما إن أقام الصلاة حتى ساد هذه الديار أمن ما عرفته الدنيا في مكان إلا على عهد الراشدين، والله! إن الساكنين يبيتون وأبوابهم مفتوحة، وبعض الديار لا أبواب لها، وإن بائع الذهب ما يضع إلا خرقة على دكانه ويذهب إلى بيته ليقيل! وتحقق طهر، فما بقي من يجاهر بكلمة الشرك والباطل ولا من ينطق فيسب الله والرسول في الوقت الذي يفيض فيه العالم الإسلامي بسب الله ورسوله، تسمع هذا السب في كل مكان، وخاصة في الأسواق والأعمال. فساد أمن وطهر وصفاء، بأي واسطة؟ هل بالبوليس؟ والله ما هو إلا إقام الصلاة، أهل القرى والأرياف كان إمامهم يقرأ بعد صلاة الصبح قائمة أهل القرية؛ لأن في صلاة الصبح قد ينام المرء وقد يعجز أو يتكاسل، فيقرأ قائمة بأهل القرية ليعلم من غاب، فإن قالوا: مسافر، قال: رده الله بخير، وإن قالوا: مريض قال: زوروه، وإن تكاسل وأبى جروه وأدبوه، برهنة واضحة كالشمس: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وشاهد العالم هذا، وكان الحجاج يأتون فيعودون إلى ديارهم معجبين، لا سرقة لا نهب، وإنما لما استقلت بلاد العرب والمسلمين وأصبح الحجاج يتوافدون كان يأتي معهم لصوص من الرجال ومن النساء، فيسلبون الحجاج وهم قائمون على حجرة الرسول يسلمون عليه، يسلبونهم -والله- وهم يطوفون بالبيت العتيق، وعرف هذا أعداء الإسلام معرفة يقينية؛ لأنهم يدرسون ويراقبون المسلمين، يتربصون بهم، فمن هنا استقل لنا نيف وأربعون دولة، ما استطاعت دولة خرج منها الكافر الذي كان يحكمها أن تأمر بإقامة الصلاة، دلوني إذا سمعتم من إندونيسيا إلى موريتانيا، كل هذه الدول استقلت ونحن نكبر ونهلل، ما إن يعلن عن استقلال القطر الفلاني حتى نهلل ونكبر، وبعض الإخوان يمشون يصلون في كوبا شكراً لله، هل استطاعت دولة أن تجبر رعاياها من رجال ونساء من عسكريين ومدنيين على إقام الصلاة؟ لم؟ عرف العدو أن إقام الصلاة معناه: إنارة القلوب والبصائر، عودة إلى الطهر والصفاء، عودة إلى المحبة والولاء، إلى الأخوة الصادقة والولاء، فقالوا: اتركوهم يعش بينهم الباطل وينتشر الشر.هذا الكلام كررناه منذ أربعين سنة، كل مرة نقول: آهٍ لو يبلغنا أن النظام الفلاني أمر بإقام الصلاة! والمسلمون هابطون إلى أين؟ لا ندري.فلو أقيمت الصلاة في بيت إقامة حقيقية فوالله ما سمعت عاهرة تغني ولا كافراً يتبجح ويتكلم في بيت المؤمن، لكني أرد هذا إلى أننا ما علمنا، ما عُرِّفنا بربنا؛ لأننا ما نقبل أن نجلس أبداً بين يدي المربي، ولا نطلب العلم ولا نرحل من أجله، وإن طلبناه طلبناه للوظيفة، يأخذ الرجل طفله ويقول: تعلم لتحفظ مستقبلك، تعلمي لتكوني كذا، كأننا لا نؤمن بالله، ولا نعرف لله سبيلاً، مع أن الوقفية تمت: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، أنت وقف على الله، فكيف تنفق طاقتك لغير الواقف؟ هيا نقبل على الله من جديد ونقيم الصلاة، الرجل يوقظ بناته ونساءه وأطفاله ويراقبهم، لم ما صليتم المغرب معنا؟ لم ما حضرتم يا أولادي صلاة العشاء؟ لم يا أم فلان ما صليت ببناتك؟ وفي الصبح ما إن يؤذن المؤذن إلا وهو يقرع عليهم الأبواب أن: قوموا، فتقام الصلاة في البيت، والله! لا تبقى الشياطين.فهل أهل هذه الصلاة سيجلسون على الصحن الهوائي يشاهدون العاهرة تغني والمجرم يضحك ويتكلم وهم هكذا؟ لن يكون، فماذا نصنع؟ أما آن لنا أن نتوب؟أنا أقول على علم: إياكم أن تفهموا أن الشيخ يتكلم بالخيالات والجهالات، هذه وساوس يلقيها العدو كما قدمنا لكم، قالوا: لم يقول: الدولة السعودية تقيم الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ نحن نقول: عسى أن يقتدى بها، ويقوم مسئولون فيقولون: لم لا نكون هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لم يظهر الباطل في أسواقنا ودورنا وبين أبنائنا؟ ومنظمة من رجال العلم يجوبون الشوارع ويدخلون الأسواق ويراقبون سلوك المواطنين، من شاهدوا سلوكه فيه انحراف أخذوه وعلموه وأدبوه.ولكن تقوم الدولة على مبادئ حرمها الله، فماذا يرجو المؤمنون؟ ونحن نتلو هذه الآية من سورة الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].عبد العزيز رحمة الله عليه أين درس؟ تخرج من بريطانيا؟ من استانبول؟ في فرنسا؟ من الأزهر؟ لقد تعلم في حجر أبيه وأمه، لكن أراد أن يؤسس الدولة في صحراء والكفر يحوط به من كل جانب، كل العالم الإسلامي تحت نعال الاستعمار البريطاني وغيره، وأقام دولته هذه التي بقيت فيها هذه البركة ونحن كل يوم نمزق في أوصالها، العالم بأسره إلا من رحم الله يمزق حتى تنتهي، والله أسأل ألا تنتهي، أما الواقع فوالله! إن الإنس والجن ما يريدون أن تبقى راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.إذاً: قرأ هذه الآية مع مجموعة من أهل البادية فأقام الدولة على هذه الآية، آية واحدة: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: حكموا واستولوا وسادوا عليها، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41]، وعندنا كبار السن، فماذا كان عندهم؟ والله! ما هو إلا صاع الشعير أو البر، والتيس من الماعز، فأية أموال؟ لكن فرض الله الزكاة فنؤديها ونجبيها إيماناً بالله وطاعة له فيبارك ويزيد.وغيره ما إن يحكم ويتمكن حتى يترك أمور الدين، لا صلاة، لا زكاة، وما يعبرون عنها بالزكاة، بل الضريبة، ويضربون ضرائب فادحة، والحجاج يشكون، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالبوليس يصفر في الشارع فقط، أما أن تصلي أو لا تصلي، فما هو شأنه! هذه أربع دعائم، فكيف ترجو من دولة تقوم على غير هذه الأربع أن تكون دولة نورانية يسودها الطهر والصفاء والأمن والرخاء؟ هذه مناقضة لسنن الله، وإن شاء الله فسيتوب الحكام المسلمون، فالليلة بلغوهم، فما الذي يكلفنا؟ نقول: يصدر مرسوم: لا بد من إقام الصلاة، إذا نادى المنادي أن: حي على الصلاة فعلى المسلمين أن يقبلوا على بيوت الله، يغلقوا دكاكينهم، امش إلى بيت الرب، ما الذي يكلفنا؟ هل الميزانية تنقص إذا صلينا في بيت الرب ربع ساعة؟ ثم الزكاة بدل الضرائب، جباية الزكاة، وذكروا الناس بالإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا بالإقليم تتلألأ فيه أنوار وتعود إليه حياة الطهر والصفاء، ولا كلفة ولا ميزانية ولا شيء، ومع هذا أيضاً لا ننسى أن إجبار الناس على الصلاة وهم جهلة ما عرفوا الله ولا آمنوا بلقائه إيماناً حقاً فيساقون فقط؛ أنه لا يجديهم ذلك، لا بد من تعليمهم، لا بد من تعريفهم بالله معرفة يقينية تنتج لهم الخوف منه تعالى وحبه وحب ما يحبه.
معية الله تعالى للصابرين
إذاً: يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا [البقرة:153] بم؟ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].الصابر على نسج ثوبه يكمله، الصابر على خياطة ثوبه يكمله، فإن لم يصبر فلن يكمل، وعلى هذا فقس، والصابر على طلب العلم سوف يتعلم، وإن فشل فلن يتعلم، ومن صبر في ميادين المعركة والجهاد فوالله لينهزمن عدوه أمامه، ومن صبر على ضبط لسانه لا يتكلم بسوء ولا ينطق بغير المعروف فإنه يصبح ينطق بالهدى والحكمة تجري على لسانه، ما من ميدان من ميادين الحياة يصبر فيه سالكه إلا ظفر وفاز؛ لأن الله معه ينصره ويؤيده، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].
تفسير قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)
ثم يقول تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ [البقرة:154].حرام على المؤمن أن يقول لمن يكون في المعركة ويسقط شهيداً: مات فلان، لا تقل: مات، ولكن قل: استشهد؛ لأن كلمة البشري بفطرته يخاف من الموت، إذا قالوا: مات فلان ينهزم، فلا تقولوا: مات، قولوا: استشهد، وهو الواقع؛ لأن الشهيد عندما تقبض روحه يرفعه إلى الملكوت الأعلى إلى دار السلام، وتدخل روحه في حوصلة طير وترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل تحت العرش، وتستمر ترزق وتطعم وتعيش في طهر وكمال إلى أن تنتهي الدورة هذه ويبعث الله الأجسام وترسل الأرواح إلى أجسامها، فما هناك موت أبداً، انتقال فقط، كانت تسكن هنا فتعود تسكن في مكان آخر، كما أنك تركب هذه السيارة وتخرج منها فتركب سيارة ثانية، أو نازل في هذا البيت فتخرج منه وتنزل في بيت ثان أفضل وأكرم، فهذا هو الواقع، ما هناك موت، بل استشهاد، استشهد فلان، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة آل عمران: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، والله! ليأكلون ويشربون في حواصل طير خضر، لو تشاهد هذا الطير لخرج قلبك شوقاً إليه، وهم كذلك إلى يوم القيامة، فما ماتوا، فلهذا كان أحدهم يرقص فرحاً وهو داخل المعركة، صاحب التميرات في كفه في بدر قال: إن أنا صبرت حتى أكمل هذه التمرات ثم أدخل المعركة إنها لحياة طويلة، فرمى التمرات ودخل في المعركة.وأزيدكم: يخبر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: أن الشهيد بعدما يستشهد يتمنى على الله أن يرده إلى الدنيا ليستشهد مرة أخرى، فيود أنه يموت ويحيا ويموت ويحيا مرات، لما شاهد من نعيم الشهداء وآثار الشهادة في سبيل الله. إذاً: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ [البقرة:154] ما هم بأموات، بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] بحياتهم، وإن كان يشاهدون الابتسامة والأنوار تتلألأ، ولكن هذا الشعور الحقيقي لا يشاهد.
حقيقة الشهيد وشروط استحقاق وصف الشهادة
ومن هم الشهداء؟سألوا أبا القاسم صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، تدفعه الحمية ليدفع عن بلاده.. عن إخوانه.. عن امرأته ونسائه فيقاتل، فهل هو في سبيل الله؟ قال: لا، قيل: الرجل يقاتل ليرى مكانه بين الناس، ليقال: بطل، دحضوا بريطانيا ومزقوا فرنسا وانتصروا، لهذه السمعة، فهل هذا في سبيل الله؟ قال: لا، قيل: الرجل يقاتل للمغنم والحصول على المنصب والوظيفة والمال، فهل هو في سبيل الله؟ قال: لا، إذاً: من هو الذي يقاتل في سبيل الله؟ قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) أي: من أجل ألا يعبد في الأرض إلا الله، من أجل أن ينصر دين الله وأولياء الله.وقد جاهد المؤمنون بريطانيا وإيطاليا وفرنسا ولن تجد في الألف شهيداً بمعنى الكلمة؛ لأنهم جهال، ما يعرفون لم يجاهدون، وأعظم من هذا الآن أنهم يثورون في بلادهم على بعضهم، يقتل أخاه المسلم! فكيف هذا الإسلام؟فمتى تكون الشهادة؟أولاً: أن يكون لكم إمام رباني يحكم بكتاب الله وسنة رسوله.ثانياً: أن يغزو بكم ويقودكم من أجل إنقاذ البشرية من الشرك والكفر والضلال وما يترتب على ذلك من خبث وشر وفساد، أي: من أجل أن تتحرر البشرية من عبادة الشيطان وتعبد الرحمن لتكمل وتسعد، لا من أجل الاستيلاء على التراب والطين والبلاد، أو من أجل الغلال والأموال، ذاك ليس في سبيل الله، بل من أجل أن يعبد الله عز وجل، هذا هو الجهاد والاستشهاد.ومن قاتل تحت راية عمياء لا بيعة ولا إمام فقتاله باطل، لو يمزق سبعين مرة في اليوم فلا حسنة، وكذلك قتال تحت إمام وحاكم وليس المراد أن يعبد الله وتقام شرائعه وحدوده وتنقذ البشرية من الشرك والكفر ما هو بجهاد ولا استشهاد أبداً. فشأن الشهداء عظيم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171]، اللهم اجعلنا منهم. وهناك أمانة إذا حافظت عليها كنت منهم، ما هي؟ يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه )، وهذا نعلمه ولكن من يعمل، وخاصة الجيوش الإسلامية المرابطة نقول لهم: انووا الرباط في سبيل الله، تحمون بلاد المسلمين، صححوا نيتكم، لكن لا تصحح النية بأنك مرابط في سبيل الله لتحمي ديار الإيمان وأنت تشرب الحشيش والخمر وتارك للصلاة وتسب الله والرسول عندما تغضب! فهذا لا ينفع، المرابطون يبيتون ركعاً وسجداً، يلازمون ذكر الله والمدافع في أيديهم، يتمرنون ويركضون رياضة وهم يقولون: الله أكبر .. الله أكبر، مربوطون برب الأرض والسماء، والجهل هو الذي ربطهم هكذا وحبسهم، لأننا ما علمناهم.هل عرفتم الشهداء من هم؟ هم الذين يقاتلون تحت راية صادقة يحملها إمام صالح لإنقاذ البشرية من الكفر والشرك والضلال والفساد والشر، لإدخال البشرية في الإسلام، أو يحملها أيضاً لدفع العدو الكافر الذي يريد إطفاء نور الله أو تمزيق راية لا إله إلا الله، لا بد من إمام، أما جماعة تتحزب هنا وهناك ويعلنون الجهاد ضد حكومة كافرة فسيتورطون ويتمزقون ويهلكون ويجرون البلاء على المسلمين، والنتيجة أصفار على الشمال، فهل عرفتم؟وعندنا مثل حي ناطق: جاهدنا في الديار الأفغانية عشر سنوات بدون إمام شرعي، أحزاب وجماعات، ذهبنا إليهم ونصحناهم، انتدبنا شيخنا العلامة علامة الدنيا وصالحها اليوم، ونزلنا على جمعياتهم وقلنا: التئموا اتحدوا بايعوا إماماً واحداً، هذا القتال باطل، فرفضوا، ولم يرفضون؟ ما هم بمؤهلين، ما تربوا في حجور الصالحين، من أين لهم الآداب والأخلاق والكمالات؟ وقد شاهدنا أنهم انتصروا على العدو الكافر، فلا دولة إسلامية ولا إسلام، وهذا في كل بلد لا يقاتل تحت راية لا إله إلا الله ببيعة لإمام يختار وتبايعه الأمة، فبلغوا، والسلام عليكم ورحمة الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (102)
الحلقة (109)
تفسير سورة البقرة (69)
إن الصفا والمروة من شعائر الله تعالى، وقد فرض الله عز وجل على عباده فريضة السعي بينهما لمن أتى بحج أو عمرة، وفي ذلك إحياء للمشاهد التي مرت في حياة إبراهيم عليه السلام وأسرته حين تركهم في وادي مكة بأمر الله، وانصرف عنهم عائداً إلى فلسطين، وكان ما كان من نفاد الماء عن هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام، واضطرارها إلى السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط بحثاً عن الماء، حتى أخرجه الله لهما من بئر زمزم الذي جعله الله آية إلى يومنا هذا.
تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.أما بعد:معاشر الأبناء والإخوان! هذه ليلة تفسير كتاب الله عز وجل، ومثلها الليلة التي تأتي بعدها، ثم نواصل التدريس بإذن الله حسب ما سبق أن درسنا، فيوم الإثنين يوم العقيدة، ويوم الثلاثاء يوم كتاب المسجد وبيت المسلم، ويوم الأربعاء -إن شاء الله- نداءات الرحمن، ويوم الخميس صحيح الإمام البخاري رحمه الله، وقد عرفتم أننا اخترنا هذه الليلة -ليلة الخميس- لصحيح البخاري لنكثر فيها من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يوم الجمعة ليلة السبت السيرة النبوية العطرة من كتاب: هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب، وفي هذا العلم الغزير والخير الكثير، فلا تتململوا ولا تتضجروا.والدراس كلها -والله- لا تخرج عن الكتاب والحكمة، والعبرة بالفقه والعمل، كوننا نفقه ما يريد الله عز وجل منا في كلامه وما يريد منا رسوله صلى الله عليه وسلم، ونعمل ذلك ونطبقه ونبلغه أيضاً غيرنا؛ لما علمتم -زادكم الله علماً- أن من علم وعمل بما علم وعلمه غيره دعي في السماء عظيماً، وأن جهاد النفس هو أن تحملها وهي كارهة على أن تتعلم، ثم تحملها على أن تعمل بما تعلمت، ثم تحملها على أن تعلم ما علمته، وبذلك تكون في عداد المجاهدين.وقد انتهى بنا الدرس في التفسير عند آية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، فباسم الله تعالى ندرس تفسير الآية الكريمة من سورة البقرة.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].هذا خبر إلهي عظيم، إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، أليس هذا خبراً مؤكداً بأداة التوكيد وهي: (إن)؟
المراد بالصفا والمروة
فما هي الصفا وما هي المروة؟الصفا: جبل يقع شرق وجنوب الكعبة المقدسة بيت الله الحرام، هذا جبل يقع هكذا في شرق وجنوب بيت الله الحرام.وأما المروة فهو جبل ثان، وهو يقع شمال البيت، ويقابل الصفا، والمسافة بينهما قرابة سبعمائة وستين خطوة تقريباً، ثلاثمائة متر وزيادة.فلم سمي الجبل الأول بالصفا والثاني بالمروة؟لأن الصفا جمع صفاة، صخرة نظيفة براقة بيضاء يقال فيها: الصفا، والمروة كذلك حجارة رقيقة بيضاء، فسمي الجبلان بحسب ذاتهما.
الصفا والمروة من شعائر الله
وكونهما من شعائر الله، ما هي الشعائر؟الشعائر : جمع شعيرة، والشعيرة: العلامة على وجود عبادة، فالساعي بين الصفا والمروة هو يعبد الله عز وجل، بأية عبادة؟ بسعيه بين الصفا والمروة، إذاً: هذا السعي شعيرة من شعائر الدين، علامة على طاعة الله عز وجل بما شرع، وهي أيضاً نسك؛ إذ العبادة نسك، فلان ناسك: متعبد، وتنسك: تعبَّد.
وقفات مع قصة هاجر عليها السلام في حادثة زمزم
وأما السعي بينهما فمتى شرع؟ ولم شرع؟أعيد إلى أذهانكم أن هاجر أم إسماعيل عليهما السلام تركها إبراهيم الخليل في مكان قريب من بيت الله، ويومها لا بيت، وإنما مكان مرتفع من التراب، والسيول تأتي من هنا وهنا تحيط به، إذ كان قبل هدمه بيتاً، وبمرور الأزمنة والقرون جرفته السيول وسقط وبقي عبارة عن كوم من التراب، وقريب منه شجرة ذات ظل، فإبراهيم عليه السلام ترك هاجر وطفلها إسماعيل تحت تلك الشجرة، ولماذا فعل هذا؟علمتم مما سبق أن سارة أم إسحاق عليها السلام كانت لا تلد، ولما ولدت هاجر وهي أمة مملوكة، إذ وهبها ملك مصر لسارة ، فوهبتها سارة لإبراهيم فتسراها ووطئها بوصفها مملوكة له، فأنجبت إسماعيل، والغيرة المعروفة في النساء غريزة طبيعية، فحملت تلك الغيرة سارة على أن تتململ وتتألم: كيف تلد هذه الجارية وأنا ما ألد؟ وتضايقت وضاقت بها الحياة، فأمر الله تعالى إبراهيم أن يبعد هاجر وطفلها عنها طلباً لراحتها وطمأنينتها؛ لأنها سيدة من سيدات نساء العالم، إنها المهاجرة التي هجرت ديارها وأهلها وخرجت مع إبراهيم من أرض بابل بالعراق إلى الديار المصرية وإلى فلسطين.إذاً: فما كان من إبراهيم إلا أن أخذ الجارية هاجر وطفلها وسافر بهما إلى جبال فاران، إلى واد أمين، وماذا ركب إبراهيم؟ من الجائز أن يكون أركبه الله البراق الذي أركبه محمداً صلى الله عليه وسلم، وتركها إبراهيم هناك.
صدق هاجر عليها السلام في التوكل على الله تعالى
وهناك لطيفة ما تنسى: لما تركها مع طفلها إسماعيل وترك لهما قليلاً من الطعام والشراب وأدبر راجعاً إلى أرض القدس نادته: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم أن تتركني وطفلي في هذا المكان الذي ما به إنسان ولا حيوان؟ فالتفت إليها وقال: أي نعم يا هاجر . قالت: إذاً فاذهب فإنه لا يضيعنا. هذه الكلمة صحت ورددها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، هذه هو عنصر التوكل على الله، من لم يرزق مثل هذه الكلمة فما هو بشيء وإن ادعينا الإيمان والإسلام والتوكل، ما إن علمت أن الله أمره أن يتركها وطفلها هناك في ذلك الوادي تحت تلك الشجرة حتى قالت: إذاً فاذهب فإنه لا يضيعنا! فهل عرفتم معنى التوكل؟ الاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه، أمرك فاقبل الأمر وسلم إليه وارض بما رضي لك فإنه لن يضيعك.ونحن نقول لبعضنا: إذا حرم الله بيع أو شراء مادة من المواد فاتركها، وأطع ربك واستجب لأمر مولاك، واعلم أنه لن يضيعك، لا تبع هذا الحرام، لا تستورده، لا تؤذ به المؤمنين والمؤمنات، لا تحتج بأن بضاعتك لا تنفق، وأن الزبناء يتركونك ويذهبون إلى غيرك، هذه كلها وساوس الشيطان، أنت مع الرحمن، حرم عليك أن تبيع هذا النوع من البضاعة فلا تبعه، واصبر وإن تركك الزبناء وأهملوك ولم يعودوا إليك فإن الله لن يضيعك، وهكذا كل من يعيش على حرام، سواء كان معلوماً للناس أو مجهولاً، ينبغي أن يتوكل على الله ويترك ما حرم الله، ووالله! لن يضيعه الله.قديماً يوم بدأت البنوك الربوية عندنا وفتح بنك الأهلي وفجأة فوجئنا بأنهم يتعاملون بالربا، في بداية الأمر لا ربا أبداً، لكن الشيطان يزين لهم، فكتبنا لهم رسالة تحت عنوان: إلى اللاعبين بالنار، من هم الذين يلعبون بالنار؟ الذين يتعاطون الأموال الحرام، يلعبون بالنار وسيحترقون إلا أن يتوب الله عز وجل على من تاب. وكان هناك شاب توظف عندهم، فلما سمع ترك الوظيفة، وأخبرني بعد ذلك أنه فاز بعمل بأربعمائة ريال للشهر، عوضه الله ضعف ما كانوا يعطونه، وهذا مثال فقط، وإن شئتم حلفت لكم بالله، ما من مؤمن يترك ما حرم الله لوجه الله خوفاً من الله ورغبة فيما عند الله لا رياء ولا سمعة إلا عوضه الله، ولن يضيعه الله.
سعي هاجر عليها السلام لطلب الماء بعد نفاده منها
إذاً: ونفد ماء هاجر وعطش إسماعيل، وكأنكم تشاهدونه على التراب يتلوى من شدة العطش، ونظرت يميناً وشمالاً فلم تر أحداً، ولا طائر يطير يدل على وجود ماء، ولا إنسان يمر بها، واشتد كربها وعظم ألمها، ونظرت إلى جبل الصفا وهو أقرب الجبلين منها، فذهبت إليه فارتقت عليه واعتلت فوقه ونظرت لعلها تشاهد مسافراً، تشاهد طائراً يحوم حول ماء، ما رأت شيئاً، وهبطت تجري في واد بين الصفا والمروة كان يوجد في ذلك الزمان، وعلامته اليوم العلامة الخضراء في أول عمود وفي آخر عمود، كانوا قبل الكهرباء يصبغونهما بالأخضر، ويقال فيهما: الميلان الأخضران، والآن الكهرباء الخضراء، تلك المسافة كانت وادياً منخفضاً، فإذا وصلت إليها تسرع وتجري حتى ترتفع لأنها تطلب الماء، وهكذا حتى تصل إلى جبل المروة فتعلوه وتصعد فوقه وتنظر يميناً وشمالاً فلا ترى شيئاً فتعود، حتى اكتمل لها سبعة أشواط.وأخيراً: سمعت نداء فقالت: أسمعت أسمعت، هل من غياث؟ وإذا بجبريل عليه السلام في صورة رجل نظيف الثياب حسن المنظر واقف على رأس إسماعيل تحت تلك الشجرة، فدنت فلما قربت منه قال جبريل بقدمه هكذا فضرب بها الأرض ففار الماء، فلهذا كان ماء زمزم أفضل ماء على الإطلاق؛ لأنه كان بضربة جبريل، فلما فار فرحت هاجر وأخذت تزم الماء بالتراب حتى لا يسيح هنا وهناك، خافت أن ينفد، فضمته وزمته حشرته بما تضع من التراب ليكون في مكان واحد، وكأنكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( رحم الله أم إسماعيل؛ لو تركته لكان عيناً معيناً )، يسيل الدهر كله، لكن هي حصرته وزمته فلهذا سمي زمزم.
ذكر بعض ما ورد في ماء زمزم
ماذا تعرفون عن زمزم؟زمزم يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( زمزم طعام طعم وشفاء سقم )، وإليكم بيان الشفاء وبيان الغذاء، تذكرون أن أبا ذر الغفاري كان يرعى غنماً مع أخ له، فبلغه أن نبياً قد ظهر في مكة وأنه على كذا وكذا، فقال لأخيه: ارع غنمي حتى أدخل مكة وآتيك بالخبر وأعوج عليك بما تم في هذا الشأن، فدخل مكة، فمع من يتكلم؟ ممنوع الكلام، ومن يسأل؟ لا أحد، فتفرس في علي بن أبي طالب وخلا به وسأله فقال: امش ورائي وسأصل بك إن شاء الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال له: هناك عيون، فإذا رأيتني وقفت أو جلست فلا تقف، فمشى، ولما رأى علي أحد الطغاة يلاحظه وهذا البدوي وراءه جلس علي يصلح حذاءه، فمشى أبو ذر ومشى علي وراءه حتى وصلا إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم وكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة ما بلغوا عشرة بعد، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقال: لأصدعن بها بين أظهرهم. وجاء وإذا برجالات قريش حول الكعبة في ظلها يضحكون، فوقف بينهم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وما إن قالها حتى هبوا إليه، فهذا يضرب، هذا يصفع، هذا يركل، هذا يسحب، وانتدب له أحدهم فقال: اتركوه لحاله، قال: فتركوني، فجعلت أزحف والدماء تسيل حتى وصلت إلى بئر زمزم، فغسلت نفسي ودمائي بزمزم وشربت فاسترحت، وبقيت حول زمزم، فكان يشرب من زمزم فقط ويغتسل، فتماثل للشفاء، وأراد أن يمشي، ثم قال: لا، لابد أن أصدع بها، فأتاهم ورفع صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقاموا إليه ففعلوا ما فعلوا أمس، وبلغ ثلاثة أيام، ثم طابت نفسه ومشى، أما الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال له: عد إلى غنمك واسكت، فإن بلغك أنني ظهرت فتعال، لكن ما أخذ بالنصيحة. فما هو المرهم الذي كان يعالج به جراحاته؟ ما هو الطعام الذي كان يأكله؟ هل هو بقلاوة أو أرز باللحم؟ كلا.إذاً: فقولوا: صلى الله وسلم على رسول الله القائل: ( ماء زمزم طعام طعم، وشفاء سقم ) ، ولا تسأل، وقد شرع صلى الله عليه وسلم لمن شرب من زمزم أن يتضلع.ولقد رأيت رجلاً أيام الشبيبة يشرب الدلو والدلوين، ووالله! إنه ليوسع بطنه هكذا، ولو شرب من ماء النيل أو الفرات لدخل المستشفى على الفور، ولكن ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم، فهذه الآية باقية إلى اليوم ببقاء الإسلام.
استئذان قبيلة جرهم هاجر في مجاورتها
إذاً: وما الذي تم لـهاجر ، ما زالت هناك حتى جاءت قبيلة جرهم اليمانية فشاهدوا طائراً يحوم في المنطقة من بعيد، ولهم رائد يطلب الماء لهم، فلما رأى الطائر يحوم قال: لا بد أن يكون هناك ماء، فركب ناقته حتى انتهى ووجد هاجر وإسماعيل وبئر زمزم، فجاءت القبيلة، وهذه مسألة سياسية كررناها مئات المرات، حتى إن بعض المساكين يقول: ما هذا الدرس؟ هذا كلام منذ أربعين عاماً يعاد فيه! والله! لكذا بلغني اليوم من مرضى مساكين، وهم طلبة علم في الجامعة الإسلامية. فنحن نكرر الحق ونعيده ما عندنا إلا هو، فهذه القبيلة رجالها استشاروا هاجر: أتأذنين لنا أن ننزل بجوارك يا أمة؟ فقالت: نعم، على أن لا حق لكم في الماء. فقالوا: نعم، فماذا نقول؟ هل ممكن أن يتم هذا في هذه الحضارة والمدنية؟ والله! ليركلنها بأرجلهم، ولا يستأذنون منها، ويطردونها أيضاً لو تتكلم، فانظر كيف هبطت البشرية، هذه الحادثة لها ستة آلاف سنة أو أكثر، امرأة وحدها مع طفلها تملك ماء، وقبيلة كاملة برجالاتها يطلبون أن ينزلوا بجوارها، ثم يستأذنونها في الماء، فتقول: على شرط أن لا حق لكم في الماء، الماء مائي، فيقولون: لك ذلك، فلا تعطيهم الماء إلا برضاها وإذنها، فأين الحضارة وأين التمدن وأين الرقي؟ البشرية كانت أفضل مما عليه الآن بملايين المرات في العهود والمواثيق فقط، أين العهود والمواثيق الآن في العالم؟ يأكلونها أكلاً ويمزقونها، وكان الإنسان في أول الأمر إذا عاهدك لا يتراجع أبداً ولو مات.
ابتلاء إبراهيم بأمره بذبح إسماعيل عليهما السلام
والشاهد عندنا في هاجر عليها السلام، وكان إبراهيم يتردد عليها يأتي يزورها يتعهد تركته، ولنا أيضاً حكمتان ذهبيتان، والغافلون لا حق لهم فيها:جاء إبراهيم في مرة من المرات بعدما كبر إسماعيل وأصبح يقوى على أن يرعى الغنم، على أن يأتي بالحطب، فأخبر هاجر أمه أن الله أمره بذبح إسماعيل قرباناً لله تعالى، وآية ذبح إسماعيل في سورة الصافات، إذ قال لولده: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، الذي أمرك ربك افعله، هل يقولها الآن ابن لأبيه؟ ما أمرك الله به يا والدي فافعله: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وطيبته هاجر وحسنت ثوبه، وأعدته، وأعطته لأبيه ليخرج به إلى منى، وأخذه إلى منى، فكيف حال هاجر مع هذا الطفل الذي خرج من بطنها عصارة لحمها ودمها، ولازم غربتها في دار الغربة؟ يأذن الله لأبيه أن يذبحه فترضى هذه المؤمنة، ولا تسخط ولا تبكي ولا تنتف شعرها ولا تندب حظها، أروني مؤمنة من هذا النوع، وانتهى به إلى منى، وعند الجمرة الأولى استقبله إبليس زعيم الشياطين وإمامهم: إلى أين يا إبراهيم؟ ما حاجة ربك في هذا الغلام تذبحه، اترك هذا الوسواس، فرماه بالحجارة عند الجمرة الأولى الآن، ومشى فاعترضه في الوسط عند الجمرة الوسطى: يا إبراهيم! أين تذهب بطفلك، ما هذا الذي تراه في منامك؟ حاشا لله أن يأمرك بذبح طفل كهذا، اترك الوساوس. ويمضي إبراهيم، فيلقاه في الجمرة الثالثة فيرميه بالحجارة ويطرده، وثم تله للجبين، ووضعه على الأرض والمدية في يده، وباسم الله، وإذا بجبريل بيده كبش أملح ويقول: اترك هذا وخذ هذا، أي ابتلاء أعظم من هذا الابتلاء؟ هل تردد إبراهيم، هل استطاع الشيطان أن يفتنه وأن يغرر به بأنها ما هي إلا رؤيا وإن كانت رؤيا الأنبياء وحياً؟ فنفذ أمر الله، قال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] الولد والوالد قلبهما لله وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:103-109].عرفتم هذا الابتلاء أم لا؟ من يستطيع أن يقدم طفله ضحية لله، يا شيخ! ما استطاعوا أن يصرفوهم عن اللهو والباطل، أطفالهم يبعثون أمامهم في بيوتهم وما يستطيعون أن يؤدبوهم ويعلموهم ويحذروهم من كلام السوء وحركة المنكر والباطل خوفاً عليهم، وحباً فيهم، ولو أحبوا الله لما دخل حب أولادهم مع حب الله، لكن ما عرفوا الله حتى يحبوه، من لم يعرف الله هل يحبه؟ والله ما يحبه، هذه واحدة.
هجرة إبراهيم عليه السلام بعد إلقائه في النار
والثانية: تلك الهجرة التي كانت بعد الحكم على إبراهيم بالإحراق بالنار، صدر أمر الحكومة بإعدام إبراهيم بصورة من أبشع الصور، وهي: أن يحتطب الحطب ويجمع وتوقد نار، وكان الطير ما يستطيع أن يمر فوقها، فأكثر من أربعين يوماً وهم يجمعون الحطب، ويرعبون من يريد أن يؤمن بما آمن به إبراهيم.وأخيراً ما استطاعوا أن يلقوا به في النار، فاتخذوا منجنيقاً، هذا المنجنيق عرف قديماً، وجعلوه فيه ورموا به في أتون ذاك الجحيم، وقبل أن يصل عرض له جبريل فقال: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل.يقول: أما إليك فلا، لا حاجة لي عندك، يكفيني الله، ما إن قال هذه الكلمة الخالدة حتى صدر أمر الله إلى النار وهي مخلوقة الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فبردت، ولولا قوله تعالى لها: (وسلاماً) لكان إبراهيم يموت من شدة البرد ولتحولت إلى ثلج.فوالله! ما أتت النار إلا على كتافه في يديه ورجليه، احترق ذلك الحبل وخرج إبراهيم يمشي وجبينه يتفصد بالعرق، وودعهم وخرج مهاجراً مع سارة، وابن أخيه لوط عليه السلام، ابن هاران أخي إبراهيم، ولا ناقة ولا بغل، خرجوا على أرجلهم، حتى انتهوا إلى ما وراء سيناء إلى مصر. والشاهد عندنا في قول الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، اذكر يا رسولنا، واذكر يا مسلم معنا، اذكر إذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، الكلمات محدودة أتمها إبراهيم طاعة لله، إذعاناً لأمر الله، انقياداً لربه، أتمها ففاز بأعظم جائزة عرفتها البشرية، ما هي؟ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، أنت إمام البشرية، من أجل ماذا؟ من أجل صبره ويقينه وتحمله.صرخ بكلمة التوحيد في تلك الديار ولم ينطق بها سواه، إلا ما كان من سارة وابن أخيه لوط، قال: لا إله إلا الله. وأخرى ما ننساها: أمره الله عز وجل أن ينقل هاجر وإسماعيل وأن يبني له بيتاً، يصدر أمر الملك لك أن تبني بيتاً في صحراء، فكيف يستطيع، من أين تأتي بالعمال والعمل، وبنى إبراهيم البيت، هذا البيت العتيق بناه إبراهيم، وهذا مقامه يشهد له، قدماه قد لصقتا في الصخرة في المقام.إذاً: بعد هذه الجولة نعود إلى الآية الكريمة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، خلد الله ذكر هاجر بهذه العبادة، وفي هذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم )، طوفوا واسعوا وقفوا بعرفة وارموا الجمرات، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم.
ما تشرع البداءة به من الصفا والمروة في السعي
إذاً: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158] قطعاً مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] إي والله، من شعائر الله، بهذا أخبر الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما طاف في حجة الوداع استقبل الصفا وقصدها وهو يقول: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، ثم يقول: أبدأ بما بدأ الله به ) ، فبِم نبدأ في السعي؟ بالصفا، ولو عكسنا وقلنا: نبدأ بالمروة فهو أحسن، فهل يجوز؟ هل حججنا؟ والله يقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158]، والرسول الكريم يقول: ( أبدأ بما بدأ الله به )، لو سولت نفس امرئ له أن يبدأ المروة ويقول: ماذا في ذلك؟ فسعيه باطل ويبطل حجه، إذاً: ما حكم السعي بين الصفا والمروة؟ ركن من أركان الحج والعمرة، كم أركان الحج؟ أربعة: الإحرام، الطواف، السعي، الوقوف بعرفة.على هذه الأركان الأربعة ينبني الحج، فإن سقط ركن سقط البناء، فأركان الحج حرام على مؤمن ألا يعرفها، وهي الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف بعرفة من بعد الزوال إلى غروب الشمس، هذا هو الوقت، فإن لم يقف في هذا الوقت ما حج. وأركان العمرة ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي، أما الوقوف بعرفة فلا، ذلك في الحج. إذاً: كيف يكون السعي ركناً ويأتي الخبر بمجرد أنه لا حرج ولا إثم: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] أي: لا إثم أن يطوف بهما، فهذا الخبر يترك الإنسان يفكر، فالسعي ركن في الحج والعمرة، فكيف يقول تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158]؟ أي: لا إثم ولا حرج أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158].
توجيه معنى قوله تعالى: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما)
نحن الآن علمنا أن السعي ركن في الحج والعمرة، فيأتي الخبر يقول: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] معناه: إذا لم يتطوف فلا شيء عليه فما هو المخرج من هذا السؤال؟ المخرج -يفتح الله علينا وعليكم- أنه تقول الرواية: إن رجلاً يقال له: إساف وامرأة يقال لها: نائلة ، تقول الأخبار -وقد تصح-: إنهما زنيا في الكعبة! وهذا أمر عظيم، ولا تعجب، لقد زنوا في الحرم وهم يدعون الإسلام، فمسخهما الله صنمين، فوجدوهما حجارة، تمثال لـإساف وآخر لـنائلة، فأخذوهما فوضعوا إسافاً على الصفا ونائلة على المروة، ثم صاروا يتبركون بهما ثم عبدوهما على مراحل.إذاً: وأصبحوا يسعون بينهما، فجاء الإسلام بأنواره، وشرع الله السعي فأحجم المؤمنون، قالوا: كيف نسعى وكنا في الجاهلية نسعى بين إساف ونائلة، فخافوا فأنزل الله هذا الخبر ليرفع عنهم ذلك الخوف وذلك اللبس: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] من دين الله وشعائره وعباداته، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، الآن زال الإشكال أم لا؟ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158].
الفرق بين الحج والعمرة
ولِم هناك حج وهناك عمرة، ما الفرق بينهما؟ الحج لغة: القصد، حج المكان: قصده، حجك فلان: قصدك. وشرعاً: هو قصد بيت الله الحرام لأداء مناسك معينة، وهو خاص بأشهره وبأيامه المعروفة: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، شوال، القعدة، عشرة أيام أو تسعة فقط من ذي الحجة.أما العمرة فهي الزيارة، يقال: عمر المكان يعمره: إذا وجد فيه، أيما مكان تزوره تعمره، فالعمرة اعتمار بيت الله وزيارة له، ولهذا فالحج له أشهر معلومة وله يوم معروف هو عاشر الحجة، والعمرة تصح في كل أيام السنة، إلا أنها في رمضان أفضل، إذ إن مؤمنة تخلفت عن الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزنت لذلك وبكت، فمسح رسول الله دموعها وهو الرءوف الرحيم بالمؤمنين، فقال: يا فلانة! إذا جاء رمضان فاعتمري، فإن ( عمرة في رمضان تعدل حجة معي ).
معنى قوله تعالى: (ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم)
وقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، ماذا نفهم من هذا الخبر العظيم؟ من تطوع: أي: فعل تطوعاً لا وجوباً وإلزاماً، يدخل في هذا نوافل الصدقات، نوافل الزكاة، نوافل الصيام، نوافل البر والإحسان، نوافل الحج والعمرة، التطوع غير ما هو واجب، وعدنا ربنا عز وجل أن من تطوع ففعل خيراً فإن الله عز وجل يجزيه بالخير الكثير، ما قال: فإني أجزيه، قال: فإني شاكر عليم، فإن الله شاكر للمعروف، للفضل، لن يضيع المعروف عند الله، فمن عمل خيراً لوجه الله فالله عز وجل سيثيبه، سيجزيه بأضعاف ما فعل، لِم؟ لأن من صفات الله اللازمة له: أنه شاكر وعليم، لا تفهم أنه قد لا يدري هل تصدقت أو لم تتصدق، أو لعل الله ما علم البارحة أنك ما قمت تتهجد، أو لعله ما يدري أنك فعلت كذا، انزع هذا من ذهنك، فإن الله عليم بكل شيء.فثق -إذاً- في الله واطمئن إلى أن ما تفعله من الخير والإحسان لن يضيع، تثاب عليه وتجزى به أحسن جزاء؛ لأن الذي يجزي ويثيب شاكر، وعليم كذلك.الآن نقرأ الآية قراءة أخرى، واسمعوها: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس وبما نسمع، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (103)
الحلقة (110)
تفسير سورة البقرة (7)
نادى الله سبحانه الجميع بعنوان: (الناس) ليشمل البشرية جمعاء، وأمرهم بعبادته وحده، لأنه من خلقهم وخلق أسلافهم، ولعلهم بعبادته وحده يرجون النجاة من عذابه يوم القيامة، ونبههم سبحانه بأنه هو الذي أعد وهيأ الكون كله لهم، وأن ما يدعون من دونه لا يملكون شيئاً، ورغم أنهم يعلمون ذلك إلا أنهم جعلوا لله أنداداً يحبونهم كحب الله.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، ومع آياتها المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.وتلاوة تلك الآيات هي قول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
صنف المؤمنين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تقدم في السياق الكريم أن البشرية ثلاث فرق: فرقة هداها الله فاهتدت، وزكاها الله فزكت، وأنعم عليها فهي في نعمه، وهي فرقة آمنت بالله ولقائه.. آمنت بالله ورسوله .. آمنت بالله وكتابه. وجاء هذا القرآن يحمل لها الهدى، فهي تعيش على هدى القرآن الكريم، وهي المعنية بقول الله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:1-4]، ودخل في هذا: المؤمنون من العرب، والمؤمنون من أهل الكتاب اليهود والنصارى، الجميع يبشرهم ربهم فيقول: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5].اللهم اجعلنا منهم، هذا فريق السعداء الأطهار الأتقياء، أهل الإيمان واليقين، أهل إقام الصلاة والإنفاق مما رزق الله.
صنف الكفار
الفريق الثاني: الذين قال فيهم الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لم؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] هؤلاء توغلوا في الشر والفساد، وضربوا في طرق الضلال حتى ختم على قلوبهم، فلم يجد الإيمان منفذاً ليدخل إليها، فكان جزاؤهم: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
صنف المنافقين
الفريق الثالث: فريق المنافقين، هم مؤمنون في الظاهر وكافرون في الباطن، وهم شر الخليقة.. مؤمنون في الظاهر: يصلون ويؤتون الزكاة، وإن دعوا إلى الجهاد خرجوا مع المؤمنين في سبيل الله، وقلوبهم لا تؤمن بالله ولا بلقائه، ولا بالرسول ولا برسالته، ولا بالكتاب ولا بأنواره، وهم أيضاً نوعان: نوع كالذين عرفناهم من الكافرين لا يموتون إلا على النفاق، ونوع مذبذبون متهيئون لأن يدخلوا في رحمة الله، واسمعوا لقول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:8-16]. وهؤلاء المنافقون ضرب الله لهم مثلين: مثلاً نارياً ومثلاً مائياً؛ لأنهم نوعان: نوع انتهى أمرهم، ونوع متهيئون لقبول الحق والهداية إن شاء الله، فقال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] هؤلاء انتهى أمرهم كتلك الفرقة الكافرة، وحكم الله بأنهم لا يرجعون إلى الحق وطريقه؛ لما أصابهم من عمى القلوب، ونتيجة التوغل في الشر والظلم والكيد للإسلام والمسلمين.والمث الثاني للنوع الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19-20]. وهذا قرأناه ودرسناه واكتسبنا أجره وعلمه، والمنة لله رب العالمين.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ... )
نداء الله تبارك وتعالى للناس أن يعبدوه وحده
قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ نداء عام؛ لأن هذا الكتاب كتاب هداية وإصلاح، فبعدما ذكر الله تعالى تلك الأصناف وما عليه الناس ناداهم بنداء الرحمة، بنداء عام، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أبيضكم وأسودكم، عربيكم وعجميكم، مؤمنكم وكافركم، منافقكم ومستقيمكم؛ إذ هذا اللفظ يشمل كل إنسان. يَا أَيُّهَا النَّاسُ يا ذرية آدم! يا بني آدم.و(الناس) اسم مشتق من ناس ينوس إذا تحرك، وفيه معنى الأنس، وفيه معنى النسيان، والقرآن حمال وجوه، وكل ما يجب علينا في هذا: أن نفهم أن نداء الله هذا لكل إنسان.ويناديهم لم؟ ليأمرهم، أو لينهاهم، أو ليوجههم، أو ليحذرهم، أو ليخوفهم؛ لأنه سبحانه تعالى عن اللهو والباطل والعبث. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] خيراً لكم اعبدوا ربكم، ما قال: (اعبدوا الله) حتى يقولوا: من هو؟ بل قال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ . أي: خالقكم ورازقكم .. مدبر حياتكم .. الخالق لكل شيء، ترونه، وتعلمونه، وتسمعونه. هل عبادة خالقي ومولاي وسيدي والمنعم علي فيها غضاضة أو فيها عيب وانتقاص؟ لا أبداً. اعْبُدُوا رَبَّكُمُ عرفتم أن الرب هو الخالق، الرازق، المدبر، الحكيم العليم؟ وهذا يجب أن يُعبد، وكيف يُعبد؟ يطاع فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، هو ورسوله المبلغ عنه صلى الله عليه وسلم.
مفهوم العبادة الحقيقية لله
ما هي العبادة؟ تعرفون الطريق المعبد المذلل الذي تمشي عليه السيارات، فالعبد اسمه عبد، نحن عبيد أو لا؟ خدم لسيدنا، مطيعون لمولانا.إذاً: ذلوا له واخضعوا واخنعوا، فلا تترفع يا عبد الله ولا تلوِ رأسك متبرماً لا تريد أن تطيعه! أطع؛ إذ أنت مخلوق لهذه الحكمة.ولو سئلت من قبل الفلاسفة والعلماء: لم خلق هذا الإنسان؟! هم يجهلون، يقولون: ليعيش في الحياة الدنيا فيأكل ويشرب ويلهو ويلعب، هذه علة الخلق؟! ما هي بعلة هذه! هو يأكل ويشرب من أجل أن تبقى حياته للعلة التي من أجلها خلق ألا وإنها عبادة الله عز وجل.أراد الله عز وجل أن يُعبد في هذه الأرض فخلقها، وخلق أرزاقها، وفجر مياهها، وأصلح أجواءها وهواءها، وأصبحت كالفندق صالحة للنزول، ثم أهبط آدم وزوجه حواء، وزوجهما وبارك في نسلهما، فأخذا يلدان البنين والبنات، وأصبح أولادهم يعبدون الله، فهذه هي العلة.أما الأكل والشرب فمن أجل البقاء على الحياة، أما الحراثة والصناعة فمن أجل البقاء على الحياة، والحياة لم؟ لأن يُعبد الله.فلهذا كثيراً ما تسمعون أن الذي يموت تاركاً لعبادة الله كافراً بها يعبد غيره أو لا يعبد سواه، هذا جزاؤه أن يخلد في عالم الشقاء، ويعيش بليارات السنين بلا نهاية.فإن قلت: لم؟ أجرم، فسق، كفر مائة سنة .. مائتين .. طال عمرة ألف سنة، كيف يعذب مليارات السنين؟ أين العدل؟! والجواب: جريمته أنه نسف الكون كله، السماوات السبع، والأراضين السبع وما فيهما، والجنة، والنار.. الكل نسفه ودمره، كيف؟! كل ما خلق الله في السماوات والأرض من أجله هو، وهو من أجل أن يعبد الله، فلما أبى أن يعبد كان كمن نسف الكون كله، كم تعذبون هذا؟ بلا حساب، لو أن شخصاً أحرق قرية أو أغرق إقليماً فهل جزاؤه عشرين سنة سجن، أو يموت؟ هذا ما يكفي، فكيف بالذي يدمر العالم كله، هل فهمتم عني هذه؟هو في الظاهر عصى الله، وفسق عن أمره، وكفر به مائة سنة .. ألف سنة، هذا يعذب أبداً عذاباً فوق ما نتصور أو ندرك، وإن وصفه الله بكتابه وبينه، فما جريمة هذا؟ جريمته في الحقيقة أنه دمر الكون كله؛ إذ الكون كله خلق من أجل أن يُعبد الله فيه، فهمتم هذه الحقيقة؟ حتى لا يقول قائل: أين العدل في شخص يكفر مائة سنة، ويعذب مليارات السنين؟ هذا جريمته أنه نسف الأكوان كلها.والدليل على أنه خلق لعبادة الله قول الله تبارك وتعالى من سورة (والذاريات): وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] لا لغرض آخر، لا لعلة ولا لحكمة تريدون، أبداً، إلا أن يعبدني.فإذا قال العبد: لا أعبدك وأعبد عدوك، كيف تجازون هذا المخلوق؟!يقول: لا أعبدك وهو يأكل طعامه، ويشرب شرابه، ويتنفس هواءه، ويعيش في كنفه وفي رحمته! يقول: لا أعبدك، ويعبد شجرة أو فرجاً من فروج النساء! كيف هذا؟!ويوضح هذا المعنى حديث قدسي شريف يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن صح الخبر، يقول: ( يقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ) هذا واضح الدلالة. ماذا يبغي الله مني؟ أن أذكره وأن أشكره، فمن عطل ذكر الله وشكره، والعبادات كلها لا تخرج عن الذكر والشكر مطلقاً، وفي القرآن الكريم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، ومن سورة أخرى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].إذاً: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك ) وهذا الخبر صحيح، والقرآن يشهد له.
التوحيد رأس العبادة
قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] أي: وحدوه، لا تعبدوا معه غيره، كيف تقول هذا يا شيخ؟ الجواب: لما نزلت هذه الآية لا يوجد على الأرض من لا يؤمن بالله ويعبده، فكل البشرية تؤمن بوجود خالقها ورازقها وربها، ولكنها تعبد معه غيره، أو تركت عبادته وعبدت سواه.أما قانون البلاشفة: لا إله، هذه صناعة خبيثة يهودية وتبخرت، وما عاشت أكثر من سبعين سنة.والبشرية في كل عصورها بالفطرة .. بالغريزة تؤمن بأن الله موجود، ولكن ما تعرف أسماءه، وما تعرف كيف تعبده، فطلبت اللياذ بجانبه، والحماية به فما عرفت، وزين لها الشيطان أصناماً، تماثيل، الشمس، القمر..، وقال لهم: هذه تشفع لكم عند الله. فعبدوا غيره، ولهذا إذا قال المفسر: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: ليوحدوني؛ لأن العبادة موجودة، ولكن يعبدون معه غيره، فالمطلوب هو أن يعبد وحده.ومن القرآن الكريم قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ما هذه الرسالة؟ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ما الطاغوت؟ ما عبد من غير الله سواء كان الشيطان أو كان صنماً، فزين الشيطان عبادته وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36] من القائل يرحمكم الله؟ الله. هل يتطرق إلى هذا الكلام النقص أو الخطأ؟ والله كما أخبر، فما كانت أمة على سطح هذه الأرض من ذرية آدم إلا بعث الله فيها رسولاً يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.
كيفية عبادة الله
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] كيف نعبده؟ نطيعه في الأمر والنهي ونحن أذلاء، خانعين، خاضعين، لا كبرياء ولا ترفع ولا.. ولا.. تسليم لله وطاعة، نطيعه في الأمر، قال: صلوا صلينا. قال: صوموا صمنا. قال: اتركوا الزنا والربا تركنا.ومع هذا لاحظوا مجرد طاعة في ذل لا يكفي، وقد يوجد العبيد يطيعون أسيادهم هذه الطاعة، ولكن يجب أن يكون المطيع معظماً لربه محباً له، فتطيعه وأنت تكرهه ليست عبادة، وتطيعه وأنت تستهين به كما تطيع المرأة زوجها أو الزوج زوجته هذه ما هي بعبادة، فلا بد مع غاية الذل والتعظيم والحب. أطعه؛ افعل ما يأمرك، واجتنب ما ينهاك وأنت تحبه أعظم حب، وتعظمه أعظم تعظيم، ومنكسر ذليل بين يديه. هذه هي العبادة.لو قال قائل: أريد أن أعبد ربي فكيف أصنع؟نقول له: اسأل أهل العلم عما يأمر الله به فافعله، وعما ينهى عنه فاجتنبه.الباب مفتوح، وأهل العلم موجودون، واقرع الباب واسأل: ما الذي يحب ربي أن أفعله؟ يقول لك: صل. بعد فترة: ما الذي يكره مولاي؟ يكره الكذب. لا تكذب، ولا تزال تسأل وتعلم وتعمل، حتى تصبح ولي الله.
الخالق هو الله
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] هل عيسى خلق شيئاً أو والدته؟ هل عزير خلق شيئاً؟ هذا عند اليهود والنصارى.وعند ضلال المسلمين: هل سيدي عبد القادر خلق شيئاً؟ هل فاطمة أو الحسين خلقا شيئاً؟ هل البدوي ..؟ من الذي خلق؟ الله خلقنا، هذه منة عظيمة علينا، كنا غير موجودين منذ مائة سنة، ولا يوجد منكم واحد وأوجدنا، هذا ما يحمد! هذا ما يشكر! ما يتملق إليه! ما يتزلف! ما يحب ولا يعظم؟!لو أن شخصاً وهبك أصبعاً فقط لحمدته طول دهرك، فكيف لو أصلح عينك وأصبحت تبصر؟ ومع هذا الشياطين لا تسمح لبني آدم أن يعرفوا ربهم؛ حتى لا يعبدوه من أجل أن يساكنوهم ويعاشروهم في دار البوار في جهنم: لم ندخل النار ويدخلون الجنة؟ هذه قولة إبليس. إذاً فهو الذي يضرب على القلوب حتى لا تتحرك.
المغزى من عبادة الله
قال تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] لم هذه العبادة يا رب؟ ما العلة؟ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] من أجل أن تتقوا العذاب والسخط والغضب من سيدكم ومولاكم الله جل جلاله. هذا تعليل واضح: اعبدوه وأطيعوه حتى تنجوا من عذابه، فإن الذين لا يعبدونه سيعذبهم. حكم بهذا؛ فهم عبيده وخليقته. وقضى بهذا فمن أين لك أن تتكلم أنت أو ترد؟(لعلكم) لعل للترجي بالنسبة إلينا، ونحن نقول: هذه الإعدادية من أجل أن تعدوا أنفسكم للنجاة من النار ومن غضب الجبار.
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء ...)
نعمة خلق الأرض
من أجل أن ينير الله قلوب العباد، ويضيء نفوسهم ويطهرها قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]، إذا غفلت أو أغمضت عينيك، وقلت: من هو الذي خلقني؟ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]، هل علمتم أن البشرية في يوم من الأيام جاءت بفئوسها ومعاولها وفرشت الأرض وبسطتها، ممكن؟ ومن بسطها ومدها وجعلها كالفراش: نم هنا، وامش هنا، واجلس، واقعد، وقم، من فعل هذا؟ الله، وليس عندك إلا أن تقول: الله. يا ابن آدم! تقول: جدي؟ أبي؟ سيدي فلان؟ مولاي فلان؟! هذا كلام باطل، يسخر منك إذا قلت: فلان. من بسط هذا البسط كالفراش: نم واجلس واقعد، بل واحرث وازرع وابن وأنشئ. جَعَلَ لَكُمُ [البقرة:22] أو له هو؟ أو لغيركم؟ (لَكُمُ).إذاً: هذه وحدها تجعلنا نستحي من الله عز وجل جَعَلَ لَكُمُ [البقرة:22] لا لغيركم فِرَاشًا .
نعمة خلق السماء
قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22] أنت تنظر هذه القبة أو لا؟ هذه قبة ممسوكة بالعيدان أو الأخشاب؟ السماء مبنية، والكواكب معلقة فيها بالملايين، ولو يشاء الله عز وجل أن تنحل تلك العقود والأنظمة لحظة واحدة ولا حياة في الأرض. وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر:16]، من رفع السماء؟ بنو فلان؟! البشرية في يوم من الأيام تعاونت وهي التي رفعت السماء؟!ومن سورة الحج: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، لو أن كوكباً واحداً ينزل احترق الكون كله. قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ [الحج:65] مخافة أو كراهة أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ [الحج:65]، لو وقعت السماء انتهت الحياة، وكل هذا ما يذكره ابن آدم؛ لأن الشياطين صارفة لقلبه عن مثل هذا الذكر، فلهذا أبعدوهم عن القرآن، والذي يسمع القرآن يذوب.قال: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الحج:66]، والآيات في هذا ما أكثرها.قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] من الأمم والأجيال إلى آدم، كم عددهم؟ والله لا يعرفه إلا الله، من خلقهم؟ الكل يقول: الخالق هو الله جل جلاله. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، أي: من أجل أن تتقوا سخط الله وعذابه؛ لأنكم ضعفة فمن يقوى على الاحتراق بالنار، ومن يقوى على الغربة والبعد في ذلك العالم.إن أحداً بلغنا يوضع في تابوت من حديد، فلا يسمع، ولا يبصر، ولا يأكل، ولا يشرب، ويلقى في ذلك العالم ملايين السنين وهو في عذاب، كيف؟ والله لو يتفكر المؤمن ويتصور الحقيقة قد يصعق، وقد يترك الطعام والشراب، ويموت قائماً يصلي، هل مات أحد وهو قائم يصلي؟ ما بلغكم؟ نعم، مات سليمان عليه السلام وهو قائم يصلي.
نعمة نزول المطر
قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة:22]، من ينزل ماء المطر؟ الله.قالوا: الآن الصناعة الحديثة .. المطر الصناعي، فاندهشنا، قلنا: هؤلاء ممكن يسوقون السحاب إما بالصواريخ أو غيرها، قالوا: المطر الصناعي .. المطر الصناعي، أشادوا بهذا، ورأيناه فقط أنابيب مخروقة وترش الماء، هذا المطر الصناعي! والله يقول: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:22]، فلا تسأل كيف تكون الماء، مكونه ومكون الكون هو الله جل جلاله، لا تذهب بعيداً تفكر، فقط انظر إلى هذا الماء العذب الفرات الحلو الذي يتغربل، ويتصفى ويطهر، وينزل من السماء إلى الأرض، أيدينا هي التي فعلت؟ سحرتنا هم الذين فعلوا؟ من يفعل هذا؟ الله وحده.
تفضل الله تعالى على العباد بإخراج الثمرات رزقاً لهم
قال تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، قولوا: ما نحن في حاجة، ما نأكل، ما نريد تفاحاً، ولا برتقالاً، ولا بطيخاً، ولا لا.. ولا نعبدك، يقول هذا عاقل؟! وأنزل لكم من السماء ماءً لكم لا لغيركم، وإن قلت: هذا والبهائم أيضاً، والبهائم لم خلقها؟ أليس لنا؟ لنشرب اللبن، ونأكل اللحم، ونكتسي بالصوف والوبر، ونستعمل الشعر، لمَ خلق الله هذه البهائم؟ هو خلقها لنا: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:5-7]. فكيف يكفر بالله؟! ثم قال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، (وَيَخْلُقُ): بصيغة المضارع المقتضية للحدوث والتجدد، وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، أيام نزلت هذه الآية لا أمريكا موجودة، ولا الصين تفقه، ولا اليابان تعرف، ولا أوروبا ولا ولا.. حيوانات، والله يخبر أنه سيخلق من المراكب ما لا يعلمون، والآن حسبنا الطائرات، أما القطارات فكنا نصنع من الإبل قطاراً، جمل وراء جمل؛ سلسلة، والطائرات، الآن يطيرون في السماء كالجن أو الملائكة، ومع هذا يعصون الله في السماء، ويطيرون ويهبطون ولا يعرفون الحمد لله، أما هذه الديار ففيها ذكر الله، على الأقل دعاء السفر.أما طائرات العرب فيبيعون الخمر فيها، لا إله إلا الله، لولا حلم الله عز وجل ورحمته، ولكنه حكيم عليم، ( يملي للظالم ولا يهمله، وإذا أخذه لم يفلته )، وهذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يخطب الناس قال: ( إن الله ليملي للظالم )، وما معنى يملي؟ يزيد له في أيامه، وفي سلاحه وقوته، ( فإذا أخذه لم يفلته )، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى من سورة هود: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، والمراد من القرى: العواصم والحواضر، لا الاصطلاح الجغرافي الهابط، فالقرآن يريد بالقرية المدينة التي تجمع فيها الناس بكثرة.إذاً: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، فالبر، الشعير، الذرة، التفاح، العنب، التمر .. بسبب الماء أو لا؟ والماء من خلقه وأوجده؟ من أنزله؟ من فتح له قلوب الأرض حتى تداخلت معه وخرجت هذه الزروع، وهذه الأشجار والنخيل؟ هل هناك من يقول: غير الله؟! الملاحدة العور قالوا: الطبيعة. وعرفنا كيف أنها انمسخت، فلا طبيعة، ولا ضرورة، ولا صدفة، هذه كلها تفاعلات شيطانية ممسوخة فكفروا بها، وما بقي إلا الله.أضرب لكم مثلاً، رجلان جميلان طويلان وقفا أمام عمارة من ناطحات السحاب، أحدهما قال: هذه بناها فلان بن فلان. والآخر قال: أنت مجنون، هذه موجودة هكذا، كيف تقول: مبنية؟ هذه ما بناها أحد، أنت تكذب، أنت شاهدت من بناها؟ حضرت معه؟سمعتم المثالين؟ ما تقولون في هذا الرجل؟ يستحق الحياة هذا؟! عمارة؛ ناطحة.. يقول: لا لا لا.. هذه موجودة من نفسها، لما أقول أنا: يا هذا! هذه مبنية، يقول: أنت حاضر؟ أقول: لا ما أنا حاضر. يقول: أنت شاهدت؟ أقول: لا. إذاً: كيف تقول؟ هذا مثال المؤمن والملحد، فالإلحاد هابط وانتهى.إذاً: بناءً على ما سمعتم أيها الناس! فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] هذا هو المقصود.أعيد البيان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، لصالحكم هذه العبادة، لصالحنا أو لا؟والله العظيم ما شرع الله عبادة لعباده إلا من أجل إكمالهم وإسعادهم، ومن أجل غناهم وإعزازهم، ومن أجل صحتهم، ومن أجل رفاهيتهم، ومن أجل طهارتهم وصفائهم، ولا تفهم أن الله يأمر بأمر أو ينهى بدون ما يحقق ذلك الأمر للعبد مصلحة وفائدة، أو ينهى عن شيء بدون ما يدفع عنه ضرراً ولا مرضاً، والله ما كان.ولهذا لو تفطنت البشرية ولو عرف هذا المسلمون لطبقوا شريعة الله في أربع وعشرين ساعة؛ ليسودهم الطهر والأمن، والرخاء، والصفاء، والحب، والولاء، ولم يبق ما ينغص الحياة، ولا يكدر صفوها بحال من الأحوال.المسلمو كجسم واحد: حب وولاء، طهر وصفاء، لا أذى، ولا اعتداء، ولا ولا.. كالملائكة في السماء، نتيجة عبادة الله وتطبيق هذا الدين القيم، لكن الشياطين صرفتهم فذاقوا البلاء، والهول، والنزاع، والصراع، والشقاء، وفي الآخرة مثل ذلك إلا من شاء الله، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].ثم زاد في البيان: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22] أو للجن؟ ( لَكُمْ).
ربوبية الله تبارك وتعالى لعباده تستلزم عدم جعلهم الأنداد له
قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، أي: لا تجعلوا لله شركاء تحبونهم كحب الله، وترغبون فيما عندهم كما تصورتم، وكما يرغب فيما عند الله، وتبجلونهم وتجلونهم وتعظمونهم كما ينبغي أن يبجل وأن يوجل ويعظم الله، تدعونه وترفعون أكفكم إليه كما ينبغي أن تفعلوا ذلك لله. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22] أضداداً تضادونه بها. هذا موقف عظيم، هذه الفاء ما أجملها، أي: فبناءً على الذي عرفتم لا تجعلوا لله أنداداً، والحال أنكم تعلمون أن الأصنام، والقبور، والأشجار، والأحجار، والملائكة، والرسل، وكل هذه مخلوقات لا تستحق العبادة.قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، يدلك على هذا قول الله عز وجل: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ [يونس:31] سيدي عبد القادر ؟ لا والله؟ ماذا يقولون؟ اللَّهُ [يونس:31].وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ [العنكبوت:61] اليهود يقولون: عزير؟ والله ما يقولون. اليهود يقولون: عيسى؟ والله ما يقولون. من؟ اللَّهُ [العنكبوت:61]، يعلمون أو لا؟ يعلمون.العرب جهال، ضلال، مشركون، يطلقون على هبل إله، وعلى العزى إله، وأما أهل الكتاب فعندهم علم، يستحي أن يقول: هذا إله، أبداً، يقول: هذا ولي، نبي، نتقرب به إلى الله عز وجل، وورث المسلمون هذا عنهم، فالمسلمون يؤمنون بأن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، المحيي، المميت، لا عيسى، ولا أم محمد، ولا فاطمة، ولا الحسين ، لا يستطيع أحد أن يخلق ذبابة أبداً، هذا إيمان كامل، الله يحيي ويميت، ولكن كيف عبدوهم؟ من طريق قالوا: نتوسل بهم إلى الله ونستشفع. فأعطوهم ما هو لله، وتركوا الله بلا شيء، وقالوا: نحن متوسلون فقط.
حرمة التوسل بالأشخاص
وإليكم مظاهر ذلك التوسل والاستشفاع؛ الذي يقف أمام ولي من الأولياء في قبر أو ضريح أو تابوت ويقول: يا سيدي فلان! أنا كذا، أنا كذا، أنا جئت كذا. هكذا بهذه الألفاظ، وهذا الكلام ما قاله لله لا في ليل ولا في نهار، وماذا بعد هذه العبادة من عبادة؟! الذي يأخذ العجل أو الكبش أو البقرة إلى الضريح ويذبحها: هذا لسيدي فلان، واسأله: كم ذبحت لله؟ ولا مرة.مما هو مضحك ومبكي لتعلموا علماً يقينياً، كان عندنا أحد المؤمنين توفاه الله، وقد جالسنا وجلس في الدرس أكثر من عشرين سنة، قال: أنا أكنت أذبح للسيد حمزة ، وكانوا يذبحون لـحمزة بن عبد المطلب شهيد أحد رضي الله عنه وعليه السلام، وهذا من أهل المدينة، وهذا قبل دخول دولة التوحيد، ثبتها الله وأطال أيامها، وقبلها لا تسأل، أيام كان الشرك عاماً في العالم الإسلامي، لا توحيد، لكن لما جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة الشرك قال لنا: نذهب في الليل ونذبح، فهذا استشفاع أو توسل بسيدي حمزة ليقضي الله حاجاتنا. قلنا له: يا حاج مسعود ! أنت الآن بطلت ما تذبح لسيدي حمزة اذبح لنا طلبة العلم كبشاً. قال: ما أستطيع. أنت كنت كل عام تذبح كبشاً في الخفاء بالليل للشيطان، وحاشا حمزة ، حمزة قال: اذبح لي! أوصاه؟! ينتفع بهذه الذبيحة؟ حمزة سيد الشهداء، لكن أنت تذبح للشيطان والآن عرفت، قال: والله عرفت، لا إله إلا الله، الآن لن أذبح عصفوراً لمخلوق. قلنا له: إذاً هيا اذبح لنا أيضاً نحن. قال: ما أقدر، وما عندي نفس.إذاً: ماذا فعلنا؟ جعلنا لله أنداداً، ومن أراد أن يفهم النِّد لا النَّد، النَّد هذا عود هندي، النِّد لا النَّد، فهذا عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، في حلقة كهذه -وتلك أطهر فيها رسول الله وأصحابه- وقف هناك في طرف الحلقة أراد أن يعلم، من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فوقف: ( أي الذنب أعظم عند الله يا رسول الله؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أن تجعل لله نداً وهو خلقك )، أن تجعل لله ماذا؟ نداً، ليس معناه تجعل رباً كالله عز وجل، من أنت؟ ذبابة ما تصنعها.المقصود: لا تجعل لله شريكاً تناد به الله، بدلاً أن ترفع كفيك إلى الله ترفعهما إليه، بدلاً ما تحلف بالله وتعظمه باليمين تحلف بهذا وتعظمه، بدل أن تذبح لله تتقرب إليه بقربان وتذبح لهذا القبر، بدل أن تنذر لله: لك يا رب علي أن أفعل كذا إن فعلت لي كذا، تقول: يا سيدي فلان! إذا حصل لي كذا وكذا أعمل لك كذا وكذا. والمرأة تقول: يا سيدي عبد القادر ! يا سيد مبروك ! يا فلان! إذا تزوجت بنتي ورزقها الله بزوج صالح أشتري لك كذا. كانوا يشترون الشموع، فيجعلونها على الضريح طول الليل تشتعل، تقرباً إلى السيد، واستشفاعاً به إلى الله؛ ليقضي الحاجات، لا إله إلا الله.إذاً: عرفتم يا بني آدم أو لا؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، البلاء والشقاء والعذاب الأبدي في الآخرة وعذاب الدنيا. اعْبُدُوا [البقرة:21] من؟ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، إذاً: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، لو قلت لمن يعبد البدوي: البدوي خلق .. رزق .. يحيي؟ يقول: لا لا لا.. هذا مخلوق، إذاً لم تعبده؟ قال: أستشفع به وأتوسل. فأصبحوا يعلمون أو لا؟ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنهم لا يخلقون، ولا يرزقون، ولا يحيون، ولا يموتون، ولا يعزون، ولا يذلون، ولا يعطون، ولا يمنعون، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ [النحل:21].وما الذي جعل هذه الأمة تقع في هذا الضلال؟ لأنهم خدعوهم، وقالوا لهم: القرآن لا يفسر، الذي يفسر القرآن إذا أصاب أخطأ، وإذا أخطأ كفر. صوابه خطأ، وخطأه كفر.إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ نقرؤه على الموتى فقط، ومن إندونيسيا إلى موريتانيا إذا مات الميت يأتون بالطلبة يقرءون عليه، فإذا كان غنياً طول الليل، ثم لكلٍ ألف ألف ريال، حتى في سوريا هناك مكتب يسمى نقابة، إذا توفي لك أبوك .. أخوك .. زوجتك دق التلفون: نريد قارئاً؛ هذه الليلة عندنا وفاة، فيقول: من أصحاب مائة ليرة أو خمسين؟ يعني: هذا الميت غني أو فقير؟ إذا كان فقيراً خمسين ليرة، وهذا مثال! أما الواقع فهو كما تعرفون، فالقرآن لا يقرأ إلا على الموتى، ولا يجتمع اثنان قط يقول له: أسمعني كلام ربي ماذا فيه. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (104)
الحلقة (111)
تفسير سورة البقرة (70)
إن كتمان العلم من شر الخصال، وقد توعد الله فاعله بأسوأ مآل، فتوعد سبحانه بلعنه على لسانه سبحانه وعلى لسان عباده، وذلك لما في كتمان العلم والهدى من إشاعة الفساد في الأرض، ولما في كتمان الأحكام والشرائع من إضلال العباد، وتعطيل شرع الله في أرضه، ومن تاب من هذا الكتمان لزمه أن يصلح ما أفسد، وينشر ما كتم، حتى يتوب الله عز وجل عليه، ويقبله عند أوبته إليه.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله ...) من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع التفسير لكتاب رب العالمين، وقد كنا درسنا هذه الآية المباركة الكريمة، وتذكروا ما علمتم منها، وما فهمتم من هدايتها، وسوف أقرأ شرحها وما فيها من الكتاب أيضاً، تأكيداً لما علمتم، ثم نأخذ في الآيات التي بعدها.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
شرح الكلمات
إليكم شرح الآية من هذا التفسير تقريراً لما علمتم وتوكيداً لما حفظتم. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات:الصفا والمروة: جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية ] هذا الصفا، [ والمروة جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية، والمسافة بينهما قرابة سبعمائة وستين ذراعاً .شعائر الله: أعلام دينه، والشعائر: جمع شعيرة، وهي العلامة على عبادة الله تعالى، فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة ] لِم؟ [ لأنه دال على طاعة الله عز وجل.الحج ] ما الحج؟ لغة القصد، وشرعاً: [ زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكاً ]، هكذا علمنا فيما سبق.[ العمرة: زيارة بيت الله تعالى للطواف به، والسعي بين الصفا والمروة، والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.الجناح ] في قوله: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158] [ الإثم، وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهي عنه. (يطوف): يسعى بينهما ذاهباً جائياً ]. هذه مفردات الآية الكريمة، ذكرت الأبناء والصالحين بها.
معنى الآيات
وأما معنى الآية الكريمة؛ فقال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: يخبر تعالى مقرراً فريضة السعي بين الصفا والمروة ]، وقد علمنا أن السعي ركن من أركان الحج والعمرة، [ ودافعاً ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما، نظراً إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له: إساف، وآخر على المروة يقال له: نائلة، يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة في عهد الجاهلية، فقال تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158] يعني: السعي بينهما مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] أي: عبادة من عباداته؛ إذ تعبد بالسعي بينهما نبيه إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمين من ذريتهما ]، وقلت لكم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ). [ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ [البقرة:158] لأداء فريضة الحج، أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة:158] لأداء واجب العمرة فليسعَ بينهما أداءً لركن الحج والعمرة، إذ السعي ركن في الحج والعمرة، ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين إساف ونائلة ].وقد ذكرنا قصة إساف ونائلة، حيث تقول الروايات: إنهما زنيا في الكعبة في الجاهلية فمسخهما الله صنمين، فوضعهما المشركون على الصفا والمروة، وجاء جيل آخر فأصبح يتقرب إليهما ويعبدهما، ولا تأسف، فعبد القادر الجيلاني أما عبد؟ كل الأولياء عبدوا.قال: [ ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين ]، وهو قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، هذا وعد أو لا؟ من تطوع من المؤمنين والمؤمنات بفعل خير فليعلم أن الله يجزيه بأعظم منه؛ لأنه تعالى شاكر وعليم.[ ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزيه به ويثيبه عليه؛ لأنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة، ويثيبهم عليها؛ لعمله بتلك الأعمال ونيات أصحابها، هذا معنى قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية الكريمة ]، أي: ما يؤخذ منها من هداية. [ أولاً: وجوب السعي بين الصفا والمروة لكل من طاف بالبيت حاجاً أو معتمراً ]، وقد علمنا هذا وأصبح من الضروري عندنا، [ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ) ]، ليطرد الشك من نفوس بعض المؤمنين الذين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة.قال: [ وسعى صلى الله عليه وسلم في عمراته كلها وفي حجه كذلك ]، اعتمر أربع عمرات، وحج حجة الوداع فسعى في كل عمرته وفي حجه.[ ثانياً: لا حرج في الصلاة في كنيسة حولت مسجداً ]، من أين استنبطنا هذا؟ من السعي، ما دام قد أجاز لنا أن نسعى بين الصفا والمروة وكان هناك من يعبد غير الله، وكان هناك صنمان، إذاً: لو حولت الكنيسة إلى مسجد فلا تتحرج، لا تقل: هذه كانت كنيسة، اعبد الله فيها، ولا يضر كونها كانت معبداً للكفار، هذا مستنبط من قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].. الآية.[ ثالثاً: الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات؛ وذلك من سائر النوافل كالطواف والصلاة والصيام، والصدقات والرباط والجهاد ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]. فالحمد لله، فهذه الآية حفظها وفهم ما فهمتم منها والعمل به والله! لخير من سبعين قنطاراً من الذهب يا عشاق الذهب، الذهب يذهب يا عشاق الهدى وطلاب العلم.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ...)
والآن مع هذه الآيات، وإنها لثلاث آيات، فنتغنى بها أولاً لنتلذذ بتلك الكلمات النورانية الطيبة فتنشرح الصدور وتطمئن القلوب؛ لأنه كلام ربنا، كلام سيدنا ومالكنا، كلام خالقنا ورازقنا، كلام من أنزل كتابه على نبينا، فسبحانه لا إله إلا هو، تحببوا إليه يحبكم.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160]، من المتحدث؟ الله تعالى، يستثني فيقول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:160-162].ما معنى (ينظرون)؟ أي: يمهلون حتى يراجعوا أنفسهم ويتوبوا، فلا توبة ولا مراجعة يوم القيامة، انتهى الأمر.ومعنا في الآيات خبران:الخبر الأول: إليكموه، يقول تعالى مخبراً: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160].والخبر الثاني: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:161-162] أي: يمهلون حتى يتوبوا. فهذان خبران عظيمان أم لا؟
دخول اليهود في كتمان البينات واستحقاقهم اللعن بذلك
هيا نقرأ ونتأمل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، أي: القرآن، أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، من هؤلاء؟ أولهم: اليهود بنو عمنا، الآية فيهم نزلت، إذ هم الذين كتموا ما أنزل الله من البينات في كتابه، تلك البينات التي تحقق رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وتؤكدها وتوضحها وتبينها، البينات والآيات التي تبين أن النبي الخاتم هو محمد صلى الله عليه وسلم. والهدى ما جاء في هذا الكتاب وسنة الرسول من بيان الحق والباطل والخير والشر والضلال والهدى، والآداب والأخلاق والشرائع، كل هذا هدى يهتدي به العبد إلى سعادة الدنيا والآخرة. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ [البقرة:159]، يجحدون، يغطون، يخفون مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، أي: القرآن، أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].إذاً: لعنهم الله وطردهم من ساحة الخير وأفنية الطهر والسلام، واللاعنون من هم؟ الملائكة، والمؤمنون، والدواب كلها تلعنهم.
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا أصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)
واستثنى تعالى وفتح الباب لهم لعلهم يدخلون في رحمة الله، فقال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا [البقرة:160]، تابوا من كفرهم وضلالهم، ودخلوا في رحمة الله في الإسلام، تابوا وأصلحوا ما أفسدوه، أفسدوا القلوب وعقول إخوانهم، فلا بد أن يصلحوها، فيقولون لهم: ما علمناكم وما قلنا لكم فيما مضى كله باطل وخداع وغش، وكنا، وكنا، والآن تبنا وتاب الله علينا. وَبَيَّنُوا [البقرة:160] ما جحدوه وكتموه، وأعلنوه وأظهروه، وإن لعنهم الناس وسخط عليهم إخوانهم، لا بد أن يقفوا هذا الموقف. فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [البقرة:160]، أقبلهم، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160]، فالحمد لله.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
الخبر الثاني: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:161] من العرب والعجم من اليهود والنصارى ومن غيرهم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161]، ما تابوا، ما رجعوا، أُوْلَئِكَ [البقرة:161] البعداء عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ [البقرة:161] أي: ولعنة الملائكة، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161] عليهم لعنة الناس أجمعين، ويوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38]، كلما دخل فوج في عذاب النار لعن من وجده قبله، وهكذا.
تفسير قوله تعالى: (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)
وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا [البقرة:162] أي: في تلك اللعنة، في ذلك البعد عن دار السلام ورحمة الرحمن، لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162] ولو ساعة، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75]، ولا يلتفت إليهم، ولا تقبل لهم توبة ولا يسمع منهم.عجب هذا القرآن! فهذان خبران عظيمان، والحمد لله على أننا ما نقرأ القرآن على الموتى، لو كنتم موتى كإخواننا وآبائنا لكان علينا أن نتغنى بالقرآن ولا نسأل عن معنى أبداً، لكن الحمد لله أن أحيانا الله، كان آباؤنا وأجدادنا قرابة ستمائة سنة لا يقرءون القرآن هكذا أبداً، لا يقرءونه إلا على الموتى، الميت بين أيديهم وهم يقرءون، والختمة بألف ريال، يقال: تحب ختمة على والدك؟ هات ألف ريال ليختم القرآن عليه!
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ [البقرة:159]، ويدخل فيها اليهود أولاً، ويدخل فيها كل من سلك هذا المسلك فكتم ما أنزل الله من البينات والهدى والشرائع والأحكام. أُوْلَئِكَ [البقرة:159] الكاتمون قبل أن يتوبوا يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، الملائكة هم اللاعنون، والمؤمنون أيضاً، والدواب كما جاء في الحديث الصحيح أو الحسن.ثم قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160]، شخص عالم جحد العلم، كتم البينات ليعيش ويعبده الناس ويقدسوه ثم تاب الله عليه ورجع، فعليه أن يقول: أيها الناس! اعلموا أني كنت جاهلاً ضالاً، بل كنت متمرداً فاسقاً، فبينت لكم الباطل ودعوتكم إلى الشر، والآن الحقيقة هي كذا وكذا، وإني قد تبت إلى الله، فأصلحم ما أفسده، فهذا مقبول: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:160]، كونه يتوب ويصلح نفسه ويعلم الناس، أو يكتب ما يجب عليه أن يبينه، بهذه الشروط الثلاثة: تابوا وأصلحوا وبينوا، ولو ما بين وبقي ما جحده مجحوداً لا تقبل له توبة، ولهذا فالمطلوب إذا أخطأ العالم وقال خطأ أن يعلن للناس أنه أخطأ، وأن ما سمعتموه ليس بحقيقة ولا بجائز بل هو باطل، أو يكتب هذا في جريدة أو في كتاب: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [البقرة:160]، إذا أفسد عقائد أسرته أو جماعته أو جماعة في قريته فإنه يحاول أن يصلحها ويرجع بها إلى الحق. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] يعني: ما تابوا. أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]، من هم اللاعنون؟ الملائكة والمؤمنون، فهل يستجاب لهم أو لا؟ أما الكافر فإذا لعن آخر فهل يستجاب له؟ دعوة الكافر باطلة، ما يستجيبها الله؛ لأن اللعن دعوة. ويلعنه الناس أجمعون هنا، أما قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38] فذلك يوم القيامة.
معالم وأحكام في كتمان العلم
حديثان عظيمان في تحريم كتمان العلم
والآن معنا حديثان جليلان لا بد من حفظهما:الأول: يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، اللجام ما يوضع في فم الفرس، إذاً: هذه العقوبة تبدأ بالفم؛ لأنه كتمه وما نطق به، ( من كتم علماً ) جحده، غطاه، ستره، لِم؟ لأنه إذا بينه تذهب مصالحه، يفقد منصبه، يساء إليه، خاف على مركزه فكتمه.يقول صلى الله عليه وسلم: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، فهل صعب هذا الحديث؟ ومعنى هذا: أننا نحن -المسلمين- حرام علينا أن نكتم العلم، وقد رأينا وعيد الله للكاتمين للعلم، ففي الآية الأولى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، وفي هذا الحديث: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار ). والآن عرفنا اللجام، لأن بعض الناس ما يعرفون الخيل ولا البغال، يعرفون السيارات اليابانية، فالخيول والبغال والحمير يوضع لها اللجام، ويقال: فلان ألجمه: أي: لم يسمح له أن يتكلم.إليكم حديثاً آخر لأبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قاله في ظروف معينة، وذلك لما حصل الذي حصل من الفتن، كقضية معاوية وعلي رضي الله عنهما، وقبلها قضية عثمان ، في هذا الوقت يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، مع أنه كان له وعاءان من العلم، فما هذه الآية؟ هي آيتنا لهذه الليلة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:159-160].ماذا يقول أبو هريرة ؟ يقول: (لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، لكن هذه الآية تجعلني أحدث ولو قطع هذا اللسان، فماذا نصنع؟ لأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، عذاب الدنيا زائل وفان، وعذاب الآخرة ثابت وباق ودائم.فالآن عرفنا أن هذين الحديثين أكدا معنى الآية وزاداها شرحاً وتفصيلاً:الحديث الأول: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، بمعنى: أدخله النار وجعل اللجام من جنهم في فمه، زيادة في العذاب، وعلى هذا فإياك يا بني أن تكتم علماً شرعياً، بينه ولا تجحد، لا تخف.الثاني: بيان لعظم هذه الآية الكريمة، فماذا قال فيها أبو هريرة ؟ قال: (لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)، وهي هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:159-160]، اللهم تب علينا. فلهذا قلت لكم: من علم وتأكد من صحة ما علم وطلب منه فيجب أن يبين وإلا انتحر.
أهمية تحديث الناس بما يفهمون
وهنا لطيفة أخرى، ولا تقولوا: هذا تناقض، ومن وسوس له الشيطان فليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يقول علي رضي الله تعالى عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، فيا معشر المؤمنين! يا طلبة الهدى! حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله، ومن يحب ذلك؟فهذا معناه: إذا كان مستوى المستمعين والمستمعات مستوى نازلاً ما هو بعالٍ وما هو برفيع، فأنت أيها الداعي، أيها الهادي، أيها المربي، أيها المعلم حدثهم بما يمكنهم فهمه ويقدرون على استيعابه، لا تأتهم بأمور فوق عقولهم وطاقتهم، فحينئذٍ قد يكذبون، فيرجعون إلى بيوتهم غير راضين به، غير مصدقين، ومن أوقعهم في الفتنة؟ هذا المربي. أعيد فأقول: صح عن مالك أنه كان يكره صيام ستة أيام من شوال، فقد يقول طالب علم: إذا صح هذا فأنا ألعنه، ولا أقول برأيي، الرسول سن هذا، وبين أن صيام ستة أيام من شوال مع رمضان كصيام الدهر، وهو يقول: لا تصوموا؟!لكن العالم البصير يعرف لِم كره مالك الصيام؟ لقد رأى الناس يتسابقون، رأى الناس يقول بعضهم: عيدكم أنتم متى؟ فيقولون: يوم الخميس، وأنتم متى؟ فيقولون: يوم الثلاثاء، فخاف أن يأتي أناس يعتبرون هذه الستة الأيام من رمضان تابعة له، فدفعاً لهذا الخطر لأن يزاد في دين الله ويضاف إلى رمضان ستة أيام أخرى قال: أنا أكره الصيام.فإذا كنت ذا علم وبصيرة فانظر إلى مستوى من تربيهم، من تهذبهم، من تزكيهم، فحدثهم بما يفهمون خشية أن يكذبوا الله ورسوله. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما أخبر معاذاً وهو يركب معه على دابته بذلك الحديث، فقال: ( يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا )، خاف الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يستغل أرباب الهوى والدنيا ذلك فيقولوا: يكفينا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال: لا. وما أخبر به الصاحب الجليل إلا خشية أن لا يعلمه الناس عند موته فقط.
الرخصة للعالم في ترك إشاعة ما يخشى منه الفتنة من العلم
والذي نقرره -معاشر الأبناء- أن كتمان العلم حرام، ويكفي قول الله تعالى: أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار ) أليس كذلك؟يبقى أنه قد توجد ظروف وأحوال يكتم فيها العالم هذا الحديث أو هذه القضية ولا يقولها للناس، لا لإرادة إضلالهم وإفسادهم ليعيش ويأكل، لا، بل من أجل المحافظة على عقيدتهم، أو سلوكهم، أو ما هم عليه من التقوى والدين، فلا يذكر ذلك الحديث أو لا يشرح لهم تلك الآية، لا طلباً لنفعه هو، بل لنفعهم هم ولصالحهم، ونستدل لهذا بقول علي رضي الله تعالى عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟)، العوام ليس باستطاعتهم أن يدركوا معاني يحار لها الألباء والعقلاء، فكيف تقولها للعوام؟ إذاً: هناك رخصة، ففي بعض الأحوال والظروف نبينها للناس، وفي بعض الظروف لا نبين، فلو بينا هذه الرخصة لخرجوا عن الإسلام.خلاصة القول -معاشر المستمعين والمتسمعات- أن بيان العلم واجب، وكتمانه حرام، والوعيد شديد في الكتاب والسنة. وتبقى المسألة أن أهل العلم والبصائر ليسو مثلنا، من هم على مستوى عالٍ، هؤلاء قد يكتمون حديثاً أو آية طُلب منهم بيانها فخافوا أن تقع الفتنة بين الناس فسكتوا، من حقهم هذا؛ لأنهم راعوا حال القرية وأهلها أو الجماعة أو البلاد أو كذا، فخافوا أن يقع بلاء أو فتنة، ليس كتمانهم لصالح أنفسهم كما فعل اليهود للحفاظ على أموالهم ومناصبهم، وإنما خشية أن يتأذى المؤمنون، فكونهم لا يعلمون هذه القضية أو لا يفعلون هذه السنة لا يضر ذلك إذا فعلوا غيرها من الواجبات والسنن.
نقد الفتوى بتحريم لبس النساء الذهب المحلق
وعندنا مثال: بعض أهل العلم في هذه الأيام وجد حديثاً فيه أن المرأة لا تلبس الذهب إلا مكسراً، فهذا الحديث قرأه مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة وتلامذتهم، والأمة على أن المرأة تلبس الذهب مكسراً أو محلقاً، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلنها على المنبر: ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها )، يعني الذهب والحرير، وعاش المسلمون وهم على أن المرأة تلبس الذهب والحرير، فعثر أحدنا على حديث منع الذهب المحلق فأشاعه، فاضطرب النساء وكثرت التساؤلات، فهذا العلم مما ينبغي ألا نحدث به، فالأمة بدأت تستفيق من جهلها وباطلها وانتشر الهدى فيها، فهل نربكها؟ الأئمة الأربعة ومشايخهم كتبهم كلها ما تذكر هذا، فإذاً: كانوا يخفون هذا العلم ويكتمونه، فلم نوجد هذه البلبلة؟ إذا كنت تربي وتزكي وتهدي فما ينبغي أن تفعل هذا.
نقد الفتوى بلزوم طواف الإفاضة في ملابس الإحرام
ووجدوا أثراً: أن من أفاض من عرفة ورمى الجمرة وتحلل قبل أن يفيض فلا بد أن يلبس الإحرام ليفيض بإحرامه، وهذه ما عثرنا عليها للأئمة والفقهاء والمحدثين، عثر أحدنا على حديث في هذا الباب، وبدأت الفتنة، فقالوا: يجب عليك أن تعود إلى إحرامك، ونحن قلنا: إذا رمينا الجمرة تحللنا ولبسنا المخيط، وغداً نفيض أو بعد غد أو الآن، ولولا أن الله وفق سماحة الشيخ عبد العزيز ووقف في وجه القضية من أيامها لكان يحصل شغب وتعب لا نظير له. هذا مثال.
خلاصة معالم كتمان العلم
وأعود فأقول: بيان العلم واجب، وكتمانه حرام: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار )، إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ [البقرة:159].وهناك أحوال يجوز لك أن تخفي مسألة ولا تعلنها، لِم؟ خشية أن تحدث فتنة فيضيع الناس ما عندهم، أمن أجل سنة تحمل الناس على ارتكاب كبائر؟ فكل ما أقوله: على الداعي، على المربي أن يكون ذا بصيرة ويذكر ما ذكره السلف الصالح، حتى لا يوقع نفسه أو غيره في أخطاء تحدث شغباً وتعباً، وقد تضلل الناس أو تصرفهم عن الهدى، ولنحفظ هذه الكلمة: ( يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا )، وعلي رضي الله تعالى عنه يقول: (حدثوا الناس بما يفهمون) لِم؟ (أتحبون أن يكذب الله ورسوله)؟فنريد أن نركز على هذه القضية؛ فما هي بهينة، وهي أن كتمان العلم حرام: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، والرسول ماذا قال؟ ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار ).وهنا مسألة أخرى: هل يجوز للعالم في القرية أو في المدينة أو في الظرف الخاص أن يكتم علماً؟ يجوز، لِم؟ خاف أن يترتب عليه فساد.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (105)
الحلقة (112)
تفسير سورة البقرة (71)
لما أوجب الله على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم، وأن أول ما يجب على العلماء أن يبينوه للناس هو توحيده سبحانه وتعالى في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته، ثم أتى بالأدلة التي طلبها المشركون من رسوله على ذلك، وهي خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الفلك في البحر بأمره، وإنزال المطر من السماء وإحياء الأرض به، وتصريف الرياح التي يبعثها مبشرات بين يدي رحمته سبحانه.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع تفسير كتاب الله عز وجل، مع قوله تبارك وتعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:163-164].سبق هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:159-162].فهذه الآيات شرحناها ولم نقرأ شرحها في الكتاب، فإليكم قراءة شرح هذه الآيات وبيان هدايتها.
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات ]. أولاً: قوله تعالى: يَكْتُمُونَ [البقرة:159]] كل السامعين والسامعات يعرفون معنى الكتمان، كتم الشيء: إذا أخفاه. قال: [ (يكتمون): يخفون ويغطون ]، من هؤلاء؟ هؤلاء المغضوب عليهم اليهود، [ يخفون ويغطون حتى لا يظهر الشيء المكتوم ولا يعرف فيؤخذ به. البينات: جمع بينة، وهو ما يثبت به الشيء المراد إثباته ]، البينات: جمع بينة، والبينة ما هي؟ شيء يثبت به الشيء المراد إثباته، [ والمراد به هنا: ما يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب ] في التوراة والإنجيل؛ لأن الآية يقول تعالى فيها: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، ألا وهم اليهود.[ والهدى: ما يدل على المطلب الصحيح، ويساعد على الوصول إليه، والمراد به هنا: ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الصحيح المفضي بالآخذ به إلى الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.في الكتاب: التوراة والإنجيل. اللعنة: الطرد والبعد من كل خير ورحمة ]، لعنه: طرده، معلون: مطرود ومبعد من كل خير ورحمة.[ اللاعنون: من يصدر عنهم اللعن، كالملائكة والمؤمنين. (أصلحوا) ] في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160] [ أصلحوا ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه، والإيمان بما كذبوا به وأنكروه ]. لا يتم إصلاحهم إلا بأن يبينوا للناس ما أفسدوهم به، وغرروا بهم، وساقوهم إليه من الباطل، وأن يؤمنوا بالحق، هؤلاء وعد الله بأنه يتوب عليهم، وكيف لا وهو التواب الرحيم؟وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا [البقرة:162] أي: في نار جنهم. لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [البقرة:162] كما تقدم ولو ساعة، لا يفتر عنهم ولا تنخفض درجته. وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162] أي: يمهلون.إذاً: هذه المفردات لتلك الآيات التي شرحناها، فهذا تكرار لها، أما الشرح الموجود في التفسير فإليكموه:
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات: عاد السياق بعد الإجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة ]، وقد سبق أن عرفنا: أن بعض المسلمين تحرجوا، خافوا من الإثم والحرج، قالوا: كيف نسعى بين صنمين؟ إذ كان إساف على الصفا ونائلة على المروة، فلما تحرجوا اقتضت رحمة الله أن ينزل هذه الآية، فأزالت خوفهم وتحرجهم: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].قال: [ عاد السياق ]؛ لأن السياق من أول السورة كان في اليهود إلى هذه الآيات، ثم كانت تلك الاستطرادات للحاجة، وعاد السياق مع بني إسرائيل مع أهل الكتاب. قال: [ عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب ]، اليهود علماؤهم يقال لهم: الأحبار، جمع حبر، وعلماء النصارى يقال لهم: القسس، أما الرهبان فهم العباد جمع راهب.قال: [ عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب ودعوتهم إلى التوبة ]، إذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأنزل الكتاب الكريم بهداية البشرية جمعاء، إذاً: فلا تعجب أن هذا التنديد هو عبارة عن دعوة لهم إلى أن يعودوا إلى الحق فيكملوا ويسعدوا. قال: [ عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق والإيمان به ]، أولاً: يظهرون الحق الذي كتموه وغطوه وأخفوه، ودلسوا على العرب وعلى العجم وعلى أنفسهم، لا تقبل لهم توبة حتى يظهروا ما أخفوه ويعلنوا في صراحة، ثم يؤمنوا به.[ فأخبره تعالى: أن الذين يكتمون ما أنزله تعالى من البينات والهدى في التوراة والإنجيل من صفات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والأمر بالإيمان به، وبما جاء به من الدين ]؛ لأن التوراة والإنجيل فيهما نعوت الرسول وصفاته بحيث إنك حين تقرأها تكاد تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يحرفونها ويؤولونها كما يفعل بعض إخواننا في التأويل والتحريف للأحاديث والآيات، أما قال الروافض في البقرة: هي عائشة ؟ قالوا في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، قالوا: هذه عائشة ، وعلموا نساءهم ورجالهم وأطفالهم جيلاً بعد جيل، هذا هو التحريف والتغطية، فمن تاب منهم فعليه أن يعلن أنه كان كاذباً وأن المراد من الآية هي البقرة المعروفة، هذا مثال.قال: [ هؤلاء البعداء ] عن كل خير وكل كرامة؛ لأنهم مسخوا [ يلعنهم الله تعالى وتلعنهم الملائكة ويلعنهم المؤمنون ]، هذا ما يفهم من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159].قال: [ وفي الآية الثانية استثنى تعالى من المبعدين من تاب من أولئك الكاتمين للحق بعد ما عرفوه فبينوه وأصلحوا، فهؤلاء يتوب عليهم ويرحمهم وهو التواب الرحيم ]، هنيئاً لمن تاب منهم، فإنه فاز بهذه المغفرة والرحمة.[ وفي الآية الثالثة والرابعة أخبر تعالى أن الذين كفروا ] أي: جحدوا الحق، وكذبوا به [ من أهل الكتاب وغيرهم بنبيه ودينه ] أي: بنبي الله ودينه [ ولم يتوبوا، فماتوا على كفرهم أن ] هؤلاء [ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]؛ ولذا فهم مطرودون مبعدون من الرحمة الإلهية وهي الجنة، خالدون في جهنم لا يخفف عنهم عذابها، ولا يمهلون فيعتذرون، ويوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً، فاللعنة كاملة يوم القيامة.
هداية الآيات
كان ذلك شرح هذه الآيات، وهذه هدايتها: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: حرمة كتمان العلم ]، كتمان العلم حرام، كأكل لحم الخنزير وكالزنا والربا، فلا يحل لمؤمنة ولا مؤمنة أن يعلم عن الله ورسوله ويكتم ذلك العلم.قال: [ وفي الحديث الصحيح: ( من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار )، وقال أبو هريرة رضي الله عنه في ظروف معينة: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً ]، ما هذه الآية التي يعنيها؟هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]. قال: لولا هذه الآية ما حدثتكم حديثاً أيها المسلمون، هذا أيام الفتنة واضطراب المسلمين.[ ثانياً: يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله: إصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغير، وإظهار ما كتم، وأداء ما أخذه بغير الحق ]، هذه شروط التوبة، أما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160]، كيف تابوا؟ نريد أن نعرف كيف يتوبون؟فمن هنا اذكر أنه [ يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله ]، أيام كان ظالماً جاهلاً، يشترط فيه لتوبته: [ إصلاح ما أفسد ]، فإن هد بنياناً فإنه يبنيه، أو أحرق بستاناً فإنه يعيده، أو أخذ مالاً فإنه يرده، هذا إصلاح ما أفسد.[ إصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغير ]، يظهر أنه حرف الكلمة الفلانية، أنه أول القرآن في كذا وكذا؛ ليرجع الناس إلى الحق والصواب.[ وأداء ما أخذه بغير الحق ]، شاة، بعير، دينار، مليون ريال يرده، وإلا فلا توبة، هذه توبة العلماء الذين يكتمون الحق ويخفونه لمصالحهم، فإن تابوا فإنه يجب أن يبينوا، أفسدوا يجب أن يصلحوا، أخذوا يجب أن يردوا، وإلا فتوبتهم لا تصح.واسمعوا الآية الكريمة: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160]، أي: رجعوا إلى الحق بعد أن شردوا منه وكفروا به. وَأَصْلَحُوا [البقرة:160] ما أفسدوه من العقائد، من الآداب، من الأموال، كل شيء أفسدوه يصلحونه. وَبَيَّنُوا [البقرة:160]، فما كانوا يخفونه يظهرونه، هؤلاء يعدهم الله عز وجل بقوله: فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160]، والحمد لله.[ ثالثاً: من كفر ومات على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالداً في العذاب مخلداً فيه لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح ]، من أين اهتدينا إلى هذا؟ من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا [البقرة:161-162]، تلك اللعنة هي النار، أبعدوا من ساحة الخير من الجنة، لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162]، أي: لا يمهلون فيعتذرون حتى يتوبوا، لا توبة.قال: [ ثالثاً: من كفر ومات على كفره ] ما أسلم [ من سائر الناس ]، العرب والعجم وأهل الكتاب والمشركين على حد سواء، [ يلقى في جهنم بعد موته خالداً في العذاب مخلداً لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح.رابعاً: جواز لعن المجاهرين بالمعاصي ]، كأن تقول: لعن الله شراب الخمور، لعن الله آكل الربا، باللفظ العام، لعن لله المتشبهين من النساء بالرجال، لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، هذا لعن عام، لكن لا تقل: لعن الله أبا فلان لأنه كذا؛ فإنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن المؤمن، وقال: ( لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم )، لا تقل: فلان ملعون، لكن اللعن العام، كأن تقول: لعنة الله على من يتشبه بالكافرين، فلا حرج، لعن الله آكل الربا، لعن الله السارق، لعن الله عاق الوالدين مثلاً. من أين أخذنا هذا؟ أما قال تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]؟ بعد أن أخبر تعالى عن لعنهم من قبله والملائكة والناس أجمعين، فكيف تتحرج أنت؟ الممنوع أن تقول: خالد لعنة الله عليه لأنه فعل كذا وكذا.
تفسير قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم)
والآن مع قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، هذا بيان، هذا إعلام، هذا إعلان من الله، يا بني الناس! إلهكم إله واحد، فاعرفوه وتوبوا إليه، واستقيموا على شرعه ودينه تكملوا وتسعدوا. وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، لا ثاني له، ولا ثالث ولا رابع، وهو إله واحد في ذاته، في صفاته، في أفعاله، لا شبيه له، لا نظير له، لا كفؤ له أبداً، وعندنا سورة تعدل ثلث القرآن جاءت بهذا المعنى: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].ومعنى إله: معبود، وكلمة: (إله) وردت في القرآن، وأطلقت على غير الله، كآلهة المشركين المتعددة، لكن لفظ (الإله) لم يكن إلا لله، لفظ (الإله) لا يكون إلا الله، لكن (إله) بالتنكير: إله معبود من سائر المعبودات، أما الإله الحق فهو الله الذي لا إله إلا هو، ولهذا فكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، يقول العلماء: هذه الجملة أولها كفر وآخرها إيمان، وهذه لطيفة، يعني: حين تقول: (لا إله) وتسكت فإنك تكفر، لكن حين تقول: إلا الله تكون آمنت، أولها كفر وآخرها إيمان، فلهذا لا يحل لك أن تقول: لا إله وتسكت، إلا إذا شرقت مثلاً، أو غلبك التثاؤب فما استطعت، فيعفى عن هذا، أما أن تقول: لا إله وتسكت، وبعدها تقول: إلا الله؛ فيا ويلك؛ لأنك لو قلت: لا إله ومت فإلى جهنم. وَإِلَهُكُمْ [البقرة:163]، أي: معبودكم الحق، الذي لا معبود بحق سواه. لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163]، لا معبود يستحق أن يعبد لما يتفضل به ويعطي ولأنه يحيي ويميت إلا الله.وقال: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، فلولا أنه الرحمن الرحيم لكان يمسخ أو ينزل بلاء بكل من كفر به، لكن من صفاته الرحمن الرحيم، يسبونه، يشتمونه، يكذبون، يكفرون، ويسقيهم المطر، وينزل عليهم الغيث، ويأكلون ويشربون، فمن يشك في أنه هو الرحمن الرحيم؟يعبدون غيره، لا يبالون به وهو خالقهم، رازقهم، بل ويسبونه وينسبون إليه ما لا ينبغي، ومع هذا يطعمهم ويسقيهم، لو كان من يملك غير الله فأنكره أهل إقليم فقط وجحدوه، وحاربوه، فإنه سيمسحهم من الأرض، إذ لا يملك هذه الرحمة إلا الله. وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، لم هاتان الصفتان: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]؟ يخلق أهل إقليم من عنده تفضلاً، ويخلق أرزاقهم ويخلق ما يحفظ حياتهم، ثم يظلون ويبيتون يسبونه، ويشتمونه، وينكرون فضله وإحسانه، لو لم يكن رحيماً رحمة ذاتية فهل سيمهلهم؟ سيحولهم كلا شيء، لكن ها هم البشر، يكفرون به، يسبونه، قالوا: له ولد، أوجدوا معه آلهة عبدوها معه، ومع هذا لا يأخذ إلا إذا تعين العذاب، هذا سر قوله: هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163].
لوازم الشهادة لله تعالى بالوحدانية
إذا عرفت هذا يا عبد الله فاعبده وحده، ولا تشرك في عبادته غيره، فإن أنت ما عبدته فقد ضحكت وسخرت، كأنك تقول: عرفنا أنه لا معبود إلا أنت، ولكن تركت عبادته استخفافاً وعدم مبالاة، أو تقول: لا أؤمن بأنك تعذب، فهذا موقف. ثم حين تعبده كيف تعبد غيره؟! هل تستهزئ به؟ علمت أنه لا إله إلا هو وحده وعبدته، فكيف تعبد معه غيره؟! فلهذا قررنا هذه الحقيقة مئات المرات، وهي: من قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) لا تصح شهادته ولا تقبل منه ولا يدخل بها الجنة إلا إذا التزم بما يلي:أولاً: يعبده؛ لأنه أقر وأشهد على أنه لا معبود إلا الله، فإذا لم يعبده فما معنى شهادته؟ إنه يكذب، لم تقول: لا معبود إلا هو ولا تعبده؟ثانياً: أن يعبده وحده، فإن عبد معه غيره تناقض، وأبطل فعله قوله، فشهادتك باطلة، كيف تقول: لا معبود إلا الله، وها أنت تعبده وتعبد معه غيره؟ إذاً: شهادتك باطلة منقوضة.ثالثاً: ألا يعترف ويقر بعبادة غيره، فإذا رأى من يعبد الأصنام وسكت ورضي وابتسم فقد تناقض، فيقال له: قل -إذاً- من أول مرة: لا إله إلا الله وفلان وفلان! لا إله إلا الله وما يعبده الفلانيون! من قال: لا إله إلا الله لزمه أن يعبد الله وإلا فهو كاذب ما عرف لا إله إلا الله، قالها بلسانه وما يعتقدها، كيف يعتقد أن لا معبود إلا الله ولا يعبده؟! كالذي يعتقد أن هذه سيارتك ثم يقول لك: والله! لا تركبها، فماذا تقولون فيه؟ قال: هذه سيارتك، إذاً: انزل ودعني أركب، فهل اعترف؟ ما اعترف، بل كذب، فمن قال: لا إله إلا الله وجب أن يعبد الله.وكيف يعبده يا شيخ؟! يذل له ويخضع وينقاد، كما يفعل العبيد مع ساداتهم، إذا قال: قف وقف، إذا قال: امش مشى، إذا قال: اجلس جلس، إذا قال: احمل كذا حمله، إذا قال: ضع وضع، أليست هذه هي العبادة؟ قال: صوموا صمنا، حجوا حججنا، اخرجوا الزكاة أخرجناها، صلوا صلينا، امسكوا عن الباطل واللغو لا تتكلموا لم نتكلم؛ لأننا عبيده، هذه هي العبادة.إذاً: وبم نعبده؟ بما شرع، من طريق رسول الله، فلهذا قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن قلت: لا أعترف بأن محمداً رسول الله، ولكن أقول: لا إله إلا الله، قلنا: إذاً: كيف تعبد الله؟ دلنا؟ لا تستطيع، فلا بد من رسول يعلمك كيف تعبده وبم تعبده، فلهذا كانت الشهادتان مقترنتين، لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله ولكن لا أشهد لمحمد بالرسالة حتى أفكر سنة فهو كافر.
مظاهر رحمة الله تعالى المتجلية في المخلوقات
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، ورد أن (الرَّحْمَنُ): هو رحمان الدنيا والآخرة، لأن هذه الصغية صيغة مبالغة، كظمآن وعطشان، وهو كذلك رحمان الدنيا والآخرة.و(الرَّح ِيمُ) بأوليائه في دار السلام، ولكن لا مانع أنه الرحيم بنا، ومظاهر الرحمة تتجلى في مخلوقاته، هل تعرفون الدجاجة؟ إذا فقس بيضها وخرجت الكتاكيت فماذا تصنع معها؟ والله! إنها لتفرد جناحها وتدخلها تحتها، تكاد تدخلها في بطنها، وتأخذ تعلمها كيف تنقر الحب.أما العنز فوالله إنك تراها وهي تنخفض حتى يصل وليدها إلى ثديها، ثم تأخذ تناغية مناغاة خاصة؛ حتى يرتاح ويشرب اللبن. والطائر رأيناه يزق أفراخه، يحمل الطعام والماء من بعيد ويأتي به ويصبه في أفواه أفراخه، هذه مظاهر الرحمة، وأجل منها أن لبن المرأة أو البهيمة كان دماً خالصاً فاستحال إلى لبن أبيض.ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى خلق مائة رحمة، فرحمة بين خلقه يتراحمون بها، وادخر لأوليائه تسعة وتسعين )، قسم الله تعالى الرحمة مائة قسم، فتسعة وتسعون قسماً ادخرها لأوليائه في دار السلام يرحمون بها، وقسم واحد للخليقة كلها تتراحم بها، ( حتى إن الفرس لترفع حافرها مخافة أن تطأ مهرها )، وهذا مشاهد، ترفع رجلها خشية أن تطأ مهرها الذي يرضع منها.
تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ...)
تقول الروايات: لما سمع بعض المشركين المتوغلين في الإلحاد وفي الشرك قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]؛ قالوا: ما هي الأدلة على أنه لا إله إلا الله؟ نريد أدلة تثبت أنه لا إله إلا هو؛ لأن الآية تقول: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، قالوا: ما الدليل على أن الإله واحد فقط؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية الثانية فقط وفيها ستة أدلة.
الآيات الستة الدالة على وحدانية الله تعالى
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ الدليل الأول: خلق السماوات والأرض، وهو خلق عظيم لا يتأتى إلا للقادر الذي لا يعجزه شيء ]، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164]، أكبر دليل، فهل الذي يخلق السماوات والأرض وحده يحتاج إلى أن يكون معه إله آخر؟[ ثاني الأدلة: اختلاف الليل والنهار بتعاقبهما، وطول هذا وقصر هذا ] طول العام، فمن أوجد الظلمة والضياء؟ أوجد الليل والنهار يختلفان، إذا جاء الليل رحل النهار، وإذا جاء النهار رحل الليل لصالح العباد، هذا مظلم وهذا مضيء منير، يطول هذا ويقصر هذا، كيف يطول ويقصر؟ الآن دخل في النهار ساعتان تقريباً من ساعات الليل، وعما قريب يدخل من النهار ساعتان في الليل، باللحظة والدقيقة. [ ثالثاً: جريان الفلك -السفن- في البحر على ضخامتها وكبرها وهي تحمل مئات الأطنان من الأرزاق وما ينتفع به الناس في حياتهم ]، السفن بواخر تحمل ألف طن من البر، تحمل ألف شاة، تحمل كذا.. تمخر البحر من الشرق إلى الغرب، هذه السفن على سطح الماء كيف لا تغرق؟ من دبر هذا؟ من أوجده؟ هذا العليم الحكيم، لم أوجد هذا؟ رحمة بعباده؛ حتى يرزقوا وينتفعوا بما خلق الله من الأطعمة، والغافل ما يهتدي لهذا، وإلا فلو تفكر في سفينة تمخر البحر من أقصى المحيط الجنوبي إلى أقصى المحيط الشمالي لقال: من أوجدها؟ كيف تسير فما تغرق؟ [ رابعاً: إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها ]، من ينزل الماء من السماء؟ الله. وأشيع من سنوات أنهم الآن يصبحون في غير حاجة إلى المطر، استطاعوا الآن أن ينزلوا المطر، سموه: المطر الصناعي، واندهشنا وقلنا: كيف هذا؟ هل يأتون بالسحب ويسوقونها ويعصرونها؟ ووالله! إنهم لكاذبون، ولا قطرة يستطيعون خلقها أو إيجادها، كل ما في الأمر أن الماء يرتفع بالرش، فقالوا: مطر صناعي، وهذا كذب، أما يستحون من الله؟ فإنزال المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها أكبر دليل على أنه لا إله إلا الله. [ خامساً: تصريف الرياح، حارة وباردة، ملقحة وغير ملقحة، شرقية، غربية، شمالية، جنوبية، بحسب حاجة الناس وما تطلبه حياتهم ]، من أين الرياح؟ كيف تأتي؟ من أين تخرج؟ من أوجدها؟ لن تجد من يقول: أبي ولا أمي، هنا لا عبد القادر ولا اللات ولا عيسى، ما هو إلا الله، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ [الأعراف:57]. [ سادس الأدلة: السحاب المسخر بين السماء والأرض، تكوينه أولاً، وسوقه من بلد إلى آخر ليمطر هناك ولا يمطر هنا حسب إرادة العزيز الحكيم ]، سمي السحاب سحاباً لأنه يسحب كما تسحب الشاة في الأرض من مكان إلى مكان، من يسحبه؟ خالقه، وإن رأيت سنة من سننه تسوقه فمن خلق تلك السنة حتى انسحب بها السحاب؟إذاً: فكان ذلك رداً مفحماً للذين قالوا: ما الدليل على أنه لا إله إلا الله؟ فالقادر على خلق هذه المخلوقات هل يوجد معه إله آخر؟ ثم إن القادر على خلق هذه المخلوقات لن يكون إلا عليماً أحاط علمه بكل شيء، قديراً لا يعجزه شيء، رحيماً رحمته تغلغلت في كل شيء.ونقرأ الآيات: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ [البقرة:163-164]، يا من طلبت الدليل اسمع: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164].
معنى قوله تعالى: (لآيات لقوم يعقلون)
(لَآيَاتٍ): علامات، أدلة، براهين على وجود الله وعلمه، وحكمته، وقدرته، وربوبيته، وألوهيته، وتنزهه عن مخلوقاته، وصفات من أحدثهم، ولكن من يشاهد هذا؟ العقلاء، فالذي لا عقل له يكذب أمامك، وينكر الشمس؛ لأنه يتبع هواه وشهوته وما يمليه عليه الشيطان. لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] أي: فيما ذكر تعالى، إن في كذا وكذا لآيات لقوم يعقلون، فقوله تعالى: (لآيات) هو اسم (إِنَّ)، إن في هذه المخلوقات لآيات لقوم يعقلون، أما الذين لا يعقلون فليس لهم في هذا شيء.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات:الإله: المعبود بحق أو بباطل، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق المعبود بحق ]، وسبق أن قلت: لا تقل: الإله في غير الله عز وجل، أما كلمة (إله) فلما عبد من دون الله، كتأليه النصارى لعيسى وأمه، كعبادة المشركين الأصنام، فهذا يقال فيه: إله، أما الإله بحق فلا يكون إلا الله.[ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] في ذاته وصفاته، وفي ربوبيته، فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون والحياة إلا هو، وفي ألوهيته، أي: في عبادته، فلا معبود بحق يستحق العبادة سواه. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:164] بوجود أحدهما وغياب الثاني؛ وذلك لمنافع العباد، بحيث لا يكون النهار دائماً ولا الليل دائماً. وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة:164]، وفرق في الأرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب. وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ [البقرة:164]، باختلاف مهابها: مرة صبا، ومرة دبور، ومرة شمالية، ومرة غربية، أو مرة ملقحة ومرة عقيم ]. هذا معنى المفردات.
معنى الآيات
إليكم شرح هذه الآيات.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيتين: لما أوجب الله على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم، وأن هذا أول ما على العلماء أن يبينوه للناس، وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعباداته، وأسمائه وصفاته، ولما سمع بعض المشركين تقرير هذه الحقيقة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، قالوا: هل من دليل؟ يريدون: على أنه لا إله إلا الله، فانزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164].. إلى قوله: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، مشتملة على ست آيات كونية كل آية برهان ساطع ودليل قاطع على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته، وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من سواه ].وقد بينا هذه الآيات الست أو الأدلة الستة.
هداية الآيات
الآن مع هداية هاتين الآيتين: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ أولاً: لا إله إلا الله، فلا تصح العبادة لغير الله تعالى ]، لم؟ [ لأنه لا إله حق إلا هو.ثانياً: الآيات الكونية في السماوات والأرض تثبت وجود الله تعالى رباً وإلهاً موصوفاً بكل كمال منزهاً عن كل نقصان.ثالثاً: الآيات التنزيلية القرآنية تثبت وجود الله رباً وإلهاً، وثبوت النبوة المحمدية، وتقرر رسالته صلى الله عليه وسلم ]. كيف ذلك؟ الجواب: نقول: هذا الكلام كلام من؟ كلام الله. إذاً: الله موجود، وهل يوجد كلام بدون متكلم؟ وهذا الكلام يحوي العلوم والمعارف، إذاً: الله ذو علم، والذي نزل عليه لن يكون إلا رسول الله، وهل يعقل أن ينزل عليه كتاب الله ولا يكون رسولاً ولا نبياً، كيف يعقل هذا؟[ رابعاً: الانتفاع بالآيات مطلقاً ] آيات الكتاب أو آيات الكون [ خاص بمن يستعملون عقولهم ]، آيات الكون: وجود الليل والنهار والشمس والقمر والمطر، والحياة والموت، هذه آيات أم لا؟ فمن ينتفع بها؟ العقلاء؛ إذ الله تعالى قال: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، آيات التنزيل، آيات القرآن المختلفة، وفي القرآن ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية تدل على أنه لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والله العظيم! إن كل آية تدل على أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله. كيف دلت على أنه لا إله إلا الله؟ لأنها أنزلها الله عز وجل الموجود الحق، وهو يخبر أنه لا إله إلا هو، وكيف تثبت أن محمداً رسول الله؟ لأنها نزلت عليه، فكيف تنزل عليه ولا يكون رسولاً؟! لا وجود لهذا أبداً. فالانتفاع بالآيات مطلق، سواء كانت آيات الكتاب أو آيات الكون، فالشمس آية وعلامة على وجود خالق عليم حكيم، والمطر آية دالة على وجود خالق عليم رحيم حكيم ذي قدرة وعلم لا يعجزه شيء، وهكذا كل ذرة في الكون آية من آيات الله، لكن من ينتفع بهذه الآيات؟ أصحاب العقول. أما الذين فسدت عقولهم أو تعطلت وما أصبحت تعقل بسبب التأثيرات والمؤثرات من الشيطان عليه لعائن الله، فهؤلاء يشاهدون الشمس وينكرون وجود الله، أما قال علماء الاتحاد السوفيتي في مؤتمرات كثيرة: لا إله أبداً والحياة مادة؟ أين عقولهم؟هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا دائماً بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (106)
الحلقة (113)
تفسير سورة البقرة (72)
يبين الله عز وجل أنه مع تنزيل الآيات الباهرات الدالة على وحدانيته سبحانه إلا أن من الناس من يتخذ مع الله آلهة آخرى من الأصنام والأوثان والرؤساء الذين يحبونهم كحبهم لله تعالى، ثم بين الله حالهم ومآلهم يوم القيامة، يوم أن يعاينوا عذاب ذلك اليوم وفظاعته، يومها يتبرأ المتبوع من التابع، ويتنصل المعبود من العابد، ويتمنى التابعون الضالون أن لو ردوا إلى الدنيا ليتبرءوا من أولئك كما تبرءوا منهم، ولكن لا مصير لهم إلا النار، وهي مستقرهم وبئس القرار.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الواجبات الثلاثة على من شهد أن لا إله إلا الله
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس التفسير لكتاب الله العظيم، والآيات التي ندرسها في ليلتنا المباركة هذه إليكم تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:165-167].قبل الشروع في تفسيره هذه الآيات المباركات أذكر الصالحين بما علمناه من تفسير الآيات السابقة، فقد قلنا: يجب على من شهد أن لا إله إلا الله ثلاثة أمور: أولاً: يجب عليه أن يعبد الله.ثانياً: يجب عليه بأنه يفرد العبادة لله واحده.ثالثاً: ألا يعترف بعبادة أحد غير الله عز وجل.هذه الحقيقة تساوي الدنيا وما عليها، من قال: أنا شهدت على علم أنه لا إله إلا الله، نقول له: إذاً: اعبد الذي شهدت ألا تعبد إلا هو، فإن تفصى أو تنصل أو أعرض فشهادته باطلة، ما اعتقد ولا علم ولا عرف إذ لو علم بالأدلة والبراهين أنه لا إله إلا الله؛ والله ما استطاع ألا يعبد إلا الله، أبداً فما دام أنه ما عبده فشهادته لا تقبل.ثانياً: ألا يعبد معه غيره، إذ أعلن للملأ أنه لا معبود إلا الله وعبده، فكيف إذاً يعترف بعبادة غيره فيعبده معه؟ فإن عبد معه غيره دل هذا على أنه ما شهد شهادة الحق، وأنه ما عرف، إذ لو عرف حقاً أنه لا معبود إلا الله وعبده فكيف يعبد معه غيره؟ بأي منطق؟ فإذا كان يعبد مع الله غيره نقول: ما عرف الله ولا حقق معنى: لا إله إلا الله، كعوام المسلمين بالملايين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، ويعبدون الله، ويدعون الأولياء ويذبحون لهم وينذرون لهم، ويتقربون إليهم كأنهم آلهة.إذاً: لو عرفوا ما عرفنا والله ما التفوا إلى غير الله، ولا وقفوا بين معبود يسألونه أو يتضرعون أبداً، لكن ما عرفوا.والحقيقة الثالثة: ألا يعترف بعبادة غير الله، من عبد صنماً كمن عبد نبياً، كمن عبد ولياً، كمن عبد اللات والعزى، الكل يقرر أن عبادتهم باطلة ولا يرضاها ولا يقرهم عليها، وبذلك يكون قد أدى الشهادة على علم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهل استقرت هذه الحقيقة؟ إذاً: بلغوها، من أراد أن يستقر العلم في نفسه فليبلغه.
البراهين الستة على وحدانية الله تعالى
وكيف عرفنا أنه لا إله إلا الله وشهدنا هذه الشهادة؟ ما أدلتنا؟ ما براهيننا؟ ما حججنا؟ أم نحن جهال سمعناهم يقولون فقلنا؟لما نزل قول الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] ماذا قال بعض المشركين؟ طالبوا بالدليل، قالوا: ما الدليل؟ ما هي أدلتك يا محمد على أنه لا إله إلا الله؟ وهل أنزل الله أدلة؟ نعم. ستة براهين، ستة أدلة في الآية التي بعدها.هيا نستعرض تلك الأدلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، فأفحمهم، قطع ألسنتهم، طالبوا بالدليل فقال: إليكم الأدلة، هذه آيات الكون، آيات الله الكونية التي قال لها: كوني فكانت، فهي شاهدة على أنه لا إله إلا الله وأنه أعلم من يعلم، وأنه الخالق الذي لا يعجزه شيء، والحكيم لا يخرج عمله عن حكمة، والقدير، وله كل صفات الكمال، وبهذا استحق أن يعبد وحده دون سواه.إذاً: هذه الأدلة الستة نستعرضها كما في الكتاب:[ الأول: خلق السماوات والأرض، وهو خلق عظيم لا يتأتى إلا للقادر الذي لا يعجزه شيء ]، فخلق السماوات والأرض وإيجادهما وتكوينهما هل يتم مع عاجز؟ لا يتم إلا لذي قدرة لا يعجزها شيء، وهو الله تعالى، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164]، فأعظم آية تدل على وجود الله، وعلى ألوهيته، وأنه لا إله إلا هو هي خلقه السماوات السبع والأرضين وما فيهما.[ ثانياً: اختلاف الليل والنهار بتعاقبهما، وطول هذا وقصر هذا ]، لو تجتمع البشرية كلها إنسها وجنها على أن يأتوا الآن بالنهار فجأة فوالله ما يستطيعون، لو كنا في النهار، في رابعة النهار، في الضحى، ونريد ليلاً، واجتمعت البشرية كلها بسحرها ودجلها وقواتها أيستطيعون أن يقدموا الليل؟ ما يستطيعون، فدل على عجزهم وعلى قدرة خالقهم. واختلاف الليل والنهار لصالح الخليقة، لو كانت الحياة كلها ليلاً ما استتب أمرها ولا كانت، ولو كانت كلها نهار فكذلك، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ [القصص:71-72]، والآيات القرآنية في هذا الباب لا تسأل عنها، فتقف البشرية والجن مطأطئة رأسها، فمن الخالق؟ من المدبر؟ من يقول: عيسى أو أمه أو اللات أو العزى أو عبد القادر أو البدوي ؟ من يقوى أن يقول غير الله؟ولهذا قال الله تعالى عن المشركين: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، يستحون أن يكذبوا، كذبت البلشفية اليهودية الشيوعية خمساً وسبعين سنة وانتهت، كانوا يقولون: لا إله والحياة المادة، فمسخهم الله، أين الشيوعية؟ والحمد لله فقد وقفنا ضدهم حتى ذبحوا، أما كنا نندد بالاشتراكية؟ أين الاشتراكية والاشتراكيون؟ انتهوا ومسخوا.[ الثالث من الأدلة: جريان الفلك ]، السفن تجري من أقصى الشرق إلى أقصى العرب تحمل البضائع والرجال والسلاح، هذه السفن من يجريها؟ من وفق البشر لصنعها وهداهم إليه؟ أتعلمون أول سفينة على وجه البحر؟ سفينة نوح، من علمه صنعها؟ فهذه السفن التي تجري في البحر في المحيطات تتنقل لصالح البشرية من خلقها؟ ستقول: الصانع، فنقول: ومن خلق الصانع؟ فاسكت إذاً.وهنا مثل وقع عندنا ذكرناه من يوم بدأنا التدريس في المسجد النبوي، هو: أن صقلبياً من شمال أوروبا روسياً أبيض ما ذاق التمر ولا عرفه، جاء عندنا إلى بلاد التمر، فقدمنا له صحفة من الرطب أو من التمور الجزائرية، فقال: من صنع هذا؟ ألكم مصانع؟ قلنا: لا. هذا صنعه الله، قال: إن ربكم عظيم. أيوجد هذه؟ قلنا: نعم. وخرجنا في جولة إلى البستان، فوجد النخل والأقنية والعراجين ورأى الفلاحين، فقال: من هذا؟ قلنا: هذا الفلاح، هو الذي يؤبر النخل ويغرسه، قال: إذاً: خدعتموني، لم تقولون: ربنا، قولوا: الفلاح! قلنا :له يا غبي! يا جاهل! التربة التي غرس فيها الفلاح الفسيلة من أوجدها؟ الفلاح أم أمه؟والماء الذي يتفاعل مع التربة حتى تخرج الفسيلة من أوجده، الله أم الفلاح؟ ثم إيجاد هذه الحياة من التراب إلى الماء حتى تنبت الفسيلة، من فعل هذ؟ والفلاح من خلق يديه؟ ومن وهبه عقلاً وسخر له المسحاة والتربة حتى يفعل؟ إنه الله. إذاً: لا إله إلا الله.ولهذا فالذين لا عقول لهم ما يهتدون، أما ختم الله الآيات بالعقل: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]؟ أما الذين لا عقول لهم فتتحكم فيهم أهواؤهم وشهواتهم، أو يقادون بالتقليد الأعمى، هؤلاء يعون ولا يفهمون ولا قيمة لهم.قد يقول قائل: مصانع بريطانيا وهولندا هي التي تصنع السفن! فنقول: والأخشاب من صنعها؟ والحديد من أوجده؟ وهؤلاء الكفرة من ساقهم، من قادهم؟ من علمهم؟ من دفعهم؟ من سخر لهم؟ الله. إذاً: نقول من أول مرة: من صنع السفن؟ والجواب: الله، لا تتعب نفسك، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ [البقرة:164].[ الرابع: إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها ]، إنزال الماء من السماء، أولاً: من كوَّنه ماء؟ بالسحر؟ ثم من سخر السحب وساقها من هنا إلى هناك؟ ومن أذن لها أن تمطر؟ قد تقولون: الحرارة تعصرها فيسيل منها؟ فنقول: الآن في شهر الأسد تمر بكم سحب ضخمة عظيمة، والسماء كما تعرفون والأرض ملتهبة، وما تمطر، وتذهب إلى أوروبا حيث البرد والثلج وتمطر، أين نظريات البشرية؟السحب تأتينا في شهر الأسد، في شهر أغسطس، وتقف أياماً عندنا وترحل ما تمطر ولا قطرة، وتأتي إلى البلاد الجامدة ذات الثلوج فتمطر، فقولوا: آمنا بالله.قال: [ الخامسة: تصريف الرياح: حارة وباردة، ملقحة وغير ملقحة، شرقية، غربية ]، على اختلاف أنواعها، هذه الرياح من أوجدها؟ أمهاتنا؟ آباؤنا؟ مصانع في اليابان؟ مستحيل! من سخر الريح؟ من يسحب السحاب كأنه يجره بالسلاسل لينقله من مكان إلى مكان، ومن إقليم إلى إقليم، تدبير من هذا؟ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الروم:48]، من يفعل هذا؟ سيدي عبد القادر ؟ ليس إلا الله، إذاً: لا إله إلا الله وإن سخط العالم. [ السادسة: السحاب المسخر بين السماء والأرض، تكوينه أولاً، وسوقه من بلد إلى بلد ليمطر هنا ولا يمطر هناك حسب إرادة العزيز الحكيم ].أقول مرة ثانية: لما نزل قول الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163] في تقرير هذه العقيدة، أي: لا معبود بحق إلا هو، كل الآلهة باطلة وإن بلغت الملايين؛ لأنها مربوبة، مخلوقة، محدثة، فانية، فكيف تعبد؟! إلا أن الشياطين زينت عبادتها، فلما قال ما قال قالوا: ما الدليل على أنه لا إله إلا الله؟ فساق الله لنا هذه الآية فيهما ستة أدلة.اسمعوا القراءة مرة ثانية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، فالذين لا عقول لهم ما يدركون، ولا يفهمون. والآن استقر التوحيد فكل عبادة تفرض لغير الله صاحبها مشرك وهو كافر، ومصيره العذاب الذي لا يخرج منه أبداً، فاللهم ارزقنا التوحيد.
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ...)
والآن مع هذه الآيات، وهي ذات شأن خطير: يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:165]، ناس من الناس، ما قال: ومن الجن والإنس؛ لأن الهداية التي يقوم بها الرسول متعلقة بالبشر، وللجن دعاتهم. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا [البقرة:165]، الأنداد: جمع ند، وهو المثيل والضد، فلان ندك يساويك، يطلب ما تطلب أنت من العظمة والخير، فالأنداد: جمع ند، وهو ما عبد من دون الله، مما اتخذه الجهال والضلال آلهة يعبدونه، هذا إخبار من الله، وهو حق، والله! كما أخبر: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، يحبون تلك الأنداد وتلك المعبودات مع الله كحب الله، هذا بالنسبة إلى المشركين من العرب، كانوا يحبون الله، ويدلك على حبهم أنهم يعظمون حرمة الأشهر الحرم، إذا أهل هلال رجب لا تسمع قعقعة السلاح، إذا دخل الشهر الحرام لا قتال ولا نهب ولا غزو ولا غارة، إذا دخل الحرم وقد قتل أباك لا تنظر إليه، ويعظمون بيته، ويحجونه، إذاً: فهم يحبون الله شيئاً ما، ويحبون اللات والعزى ومناة والآلهة، فيخبر الله عنهم فيقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].
معنى قوله تعالى: (والذين آمنوا أشد حباً لله)
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، أشد حباً من كل محبوب ومحب لله، فالذي يروح على أنفسنا هو: هل يوجد بيننا مؤمن أو مؤمنة يكره الله؟ لا والله، مستحيل أن يكرهه مؤمن أو مؤمنة، وإذا لم يكرهوه فمعناه أنهم أحبوه، فالحمد لله أننا أشد حباً لله. فالمشركون منهم من يحبون الله ويحبون آلهتهم، سواء كانت الآلهة أنبياء أو أولياء أو ملائكة أو أصناماً وأحجاراً، ونحن نحب الله عز وجل، ولكن نتفاوت في هذا الحب، وتتجلى محبة الله في العبد بقدر ما هو مقبل على طاعته، والرسول صلى الله عليه وسلم علمنا وهو يدعو: ( اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني من حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ونفسي ومالي )، هكذا يدعو بهذا الدعاء: ( اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني من حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من أهلي ونفسي ومالي وأحب إلي من الماء البارد )، الماء البارد تعرفون قيمته أيام لم تكن الثلاجة في هذه البلاد الحارة في الصيف، الماء يكاد يغلي غلياناً، فمن ذا الذي يفضل على الماء البارد شيئاً آخر من الطعام أو الشراب أو كذا؟ويقول معلماً صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحبه )، وهل الذي يحب الله لا يحب رسوله ولا يحب أولياءه؟ إذ قلنا: الذي يحب الله تعالى يحب كل ما يحب الله، أليس كذلك؟
ذكر نعم الله تعالى محصل لمحبته في قلب العبد
وهناك لفتة تستطيعون إدراكها: من أراد أن يشعر بحب الله في قلبه، من أراد منكم -أيها السامعون ويا أيتها المستمعات- أن يشعر شعوراً حقيقياً بأنه يحب الله تعالى فوق كل محبوب؛ فليذكر نعم الله تعالى عليه، يغمض عينيه ويطأطئ رأسه ويذكر إفضال الله وإنعامه عليه، فإنها لحظات وإذا عيناه تذرفان الدموع، وجلده يقشعر، وهو كأنه بين يدي الله.اخل بنفسك وإن كنت مع الناس، واذكر ما أنعم الله به عليك وما أكثر تلك النعم، يوم نجاك من حادث السيارة، يوم وهبك، كذا، يوم أعطاك كذا، فوالله! لا تزال تذكر حتى تندفع بالبكاء وتعرف حب الله عز وجل، وويل للغافلين. وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحبه )، أنا عبده ورسوله، وهكذا المؤمنون الصادقون يحبون الله تعالى، ويجبون كل ما يحب الله من معتقد، ومن قول وعمل ومن صفة، ومن ذات من الذوات، إذا علمنا أن الله يحب فلاناً فنحن مدفوعون إلى حبه، ونكره ما يكره الله، إذا علمنا من طريق الوحي أن الله يكره الكلمة الفلانية فيجب أن نكرهها، يكره السلوك الفلاني فيجب أن نكرهه، وتجد هذا مغروساً في نفسك. من منكم يحب المشركين؟ لا أحد، من منكم يحب الخائنين؟ لا أحد، من منكم يحب الظالمين؟ لا أحد، لم؟ لأن الله يكره ذلك، ونحن أولياؤه وعبيده نحب ما يحب، ونكره ما يكره. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا [البقرة:165] شركاء، يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، ولو تسأل عن عوام وجهال المسلمين الذين يتمسحون بالقبور ويعكفون عليها ويحلفون بها، ويسوقون إليها الشاة، وينقلون المريض، فستجدهم يحبون تلك الأضرحة كما يحبون الله، هذا خبر من؟ أليس الله هو القائل؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، قولوا: نحن أشد حباً لله من كل محبوب عندنا، نحن نحب البرتقال والبطاطس والبقلاوة، لكن هذا الحب هل كحب الله؟ لا والله، نحب حب الغريزة، ولكن نسخر ذلك لله، ولولا الله ما أحببنا الطعام ولا الشراب، ولا طعمنا ولا شربنا؛ إذ حياتنا على الله موقوفة.
معنى قوله تعالى: (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب)
ثم قال تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165]، أي: أشركوا، ظلموا ربهم، أخذوا حقه من العبادة وأعطوه غيره من مخلوقاته، فتقرر لدينا أنه لا ظلم أعظم من الشرك، واقرءوا لذلك قول لقمان الحكيم: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان:13]، لم يا أبتاه؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وبينا ذلك باللهجة العامية القريبة، وفهم المؤمنون والمؤمنات، فظلمك لأخيك ليس كظلمك لنبيك، أليس كذلك؟ فظلمك لربك بأخذ حقه وسلبه ونهبه وإعطائه لمخلوقاته تحاده وتضاده بها؟ أي ظلم أعظم من هذا؟! إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165] لرأوا الفظائع، الخبر هنا لا يذكر، ومن يقوى عليه؟ أي: لرأوا الهول العظيم، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165]، وهذا متى؟ عند الموت وفي القبر، ويوم القيامة بصورة أوضح، لو رأوا ذلك لعلموا أن القوة لله، وأن الله شديد العذاب. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]، إذا عذب فعذابه شديد ما يطاق.
تفسير قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب)
ثم قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ [البقرة:166]، هذه كلها ظروف في وقت واحد، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، الرؤساء، المعبودون، المؤلهون، ما إن يقفوا بين يدي الله ويساقوا إلى جهنم ويدخلوها حتى يتبرءوا ممن عبدوهم البراءة الكاملة، يقولون: ما عرفناهم، وينكرون. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]، شاهدوا العذاب بأعينهم، والأسباب انتهت، لم يبق سبب، لا حبل ولا صلة ينجون بها أو يخرجون من عذاب الله؛ لأنهم وقفوا في ساحة فصل القضاء يوم القيامة.قال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، أي: اتبعوهم، فسيدي عبد القادر والله! ليتبرأن من هذه الآلاف والملايين من الذين ذبحوا له وحلفوا باسمه وعظموه وفعلوا وفعلوا، لا يعترف أبداً بعبادتهم، وما يقوى، ما هناك إلا البراءة الكاملة، وهو رحمه الله تعالى ما أمرهم ولا دعاهم ولا رغبهم ولا رضي بعبادتهم، الشياطين هي التي زينت لهم ذلك بعد موته وحسنته لهم فعبدوه، فعبد القادر كمثال، وقد عبدت فاطمة والحسين ، والبدوي ، وعيدروس .قد تقول: كيف عبدوهم؟! والجواب: حلفوا بهم: وحق سيدي عبد القادر ، فهذه عبادة، جعلوه مثل الله وحلفوا به، هذه أقل الأشياء، أما الذي ينذر النذر: يا سيدي فلان! إن ولدت امرأتي في معافاة وولدت كذا فلك علي كذا، أي نذر أعظم من هذا في باب العبادة؟ أم تقول: لا بد من الركوع والسجود في العبادة؟ فوالله! إنهم ليدخلون الأضرحة راكعين، وفي بلاد يأتون زاحفين وهم يقرءون القرآن، مضت فترة قبل هذه الدعوة الربانية هبطت فيها أمة الإسلام إلى ما تحت الجاهلية.وعندنا مثال: ذكر الشيخ رشيد رضا تغمده الله برحمته في تفسير المنار أن سفينة عثمانية على عهد الخلافة العثمانية تقل الحجاج من طرابلس الغرب إلى الإسكندرية، إلى حيفا عبر موانئ الشرق الأوسط، وكانت تقل حجاج المسلمين من طرابلس، الشام، فلسطين، سوريا، ذاهبون إلى الحج أيام كانت السفن قليلة، فقال رحمه الله: وكان الشيخ محمد عبده معهم في السفينة، فاضطربت السفينة وتململت، وإذا بالحجاج: يا سيدي عبد القادر ! يا الله! يا مولاي إدريس ! يا مولاي فلان! يا الله! يا كذا! وكان بينهم عملاق لا ندري أوهابي هو أم لا، قال: فوقف ورفع يديه وقال: اللهم أغرقهم فإنهم ما عرفوك. فشفى صدره، أفي حال الغرق يدعون غير الله! المشركون ما كانوا يفعلون هذا، والله! ما يفعلونه، إذا دقت ساعة الخطر فزعوا إلى الله.ويوضح هذا: أن عكرمة بن أبي جهل ، وأبو جهل طاغية المشركين في مكة وذبيح بدر، ترك ولداً مثله في البطولة والشجاعة، وكان رقم واحد بعد موته في بغض الرسول والمسلمين، وسقطت مكة في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثمان، وبعض الطغاة هربوا، وبعضهم سكتوا ينتظرون حكم الرسول، وأكثرهم جلس حول الكعبة، فدخل فقال: ( يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، هذا محمد رسول الله، فعكرمة هرب مع الذين هربوا إلى الساحل، فوجد سفينة ما ندري في جدة أو في ميناء آخر في ذاك الوقت، فركب، فلما ركب السفينة وأقلعت في البحر إذا بعاصفة تتململ تحتها السفينة، فقال ربان السفينة: يا معشر الركاب! ادعوا الله فإنه لا ينقذكم إلا هو! ففكر عكرمة ، قال: لم أنا هربت من محمد؟! ثم قال: والله! لترجعن بنا، ارجع بالسفينة إلى الشاطئ، ما دام أنه لا بد من التوحيد فلم أهرب أنا؟ لا بد أن آتي محمداً وأصافحه، وبالفعل رجع ودخل في رحمة الله، هذا عكرمة .والشاهد من هذا: أن المشركين من العرب قبل الإسلام كانوا في حال الشدة يفزعون إلى الله، لا يعرفون اللات ولا العزى ولا مناة، وإذا كانوا في حال الرخاء يفرفشون: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، أما جماعتنا ففي الرخاء والشدة على سواء، ما هناك فرق.
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ...)
قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً [البقرة:166-167]، رجعة إلى الحياة الدنيا، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167]، هذا الذي شفوا به صدورهم، لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً [البقرة:167]، أي: رجعة ثانية إلى الحياة الدنيا، فنبرأ من هؤلاء الذين عبدناهم أمس وتبرءوا منا اليوم.وختم تعالى هذا بقوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167]، أعمالهم التي قاموا بها في الدنيا، الأعمال الشركية الباطلة، أراهم إياها حسرات: جمع حسرة، الهم والغم والكرب الذي يقعد بك ويحسرك. وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، والله! ما هم بخارجين منها، ماتوا على الكفر والشرك، من يشفع لهم؟ أما أهل التوحيد فنعم، يوجد من يشفع لهم، وأما أهل الشرك والكفر فلا شفاعة، واسمع عيسى عليه السلام مع بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، هذه كلمة عيسى في بني إسرائيل اليهود.إذاً: نسمعكم الآيات مرة ثانية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:165-167].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
نقرأ الشرح دون المفردات، قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: لما تقرر في الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس -أي: ربهم ومعبودهم- واحد، وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه ]، لما تقرر هذا [ أخبر تعالى أنه مع هذا البيان ومع هذا الوضوح يوجد ناس يتخذون من دون الله آلهة أصناماً ورؤساء يحبونهم كحبهم لله تعالى، أي: يسوون بين حبهم وحب الله تعالى، والمؤمنون أشد منهم حباً لله تعالى. كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمراً فظيعاً يعجز الوصف عنه، ولعلموا أن القوة لله وأن الله شديد العذاب، إذ تبرأ المتبعون وهم الرؤساء الظلمة دعاة الشرك والضلالة من متبوعيهم الجهلة المقلدين، وعاينوا العذاب أمامهم، وتقطعت تلك الروابط التي كانت تربط بينهم، وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة فيتبرءوا منهم في الدنيا كما تبرءوا هم منهم في الآخرة، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه يريهم أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي، فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم ويدخلون بها النار فلا يخرجونهم منها أبداً ].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات ]، سنستخرج من هذه الآيات الأربع هدايتها:قال: [ من هداية الآيات: أولاً: وجوب حب الله تعالى وحب كل ما يحب الله عز وجل بحبه تعالى ]، دلت الآيات على وجوب حب الله تعالى وحب كل ما يحب الله من أجل الله.[ ثانياً: من الشرك الحب مع الله تعالى ]، نحن لا نحب زيداً ولا عمراً ولا ديناراً ولا منزلاً إلا بحب الله ومن أجل الله، أنت تحب بقرتك لا بأس، ولكن من أجل من؟ من أجل الله؛ لأنك تحلب لبنها وتقتات به لتعبد الله، لا تحبها استقلالاً، أنت تحب الشيخ أو لا؟ لم تحبه؟ من أجل الله، وهكذا، حتى حب الغريزة نصرفه لله، لا نحب إلا لله وبالله. [ ثالثاً: يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب، ولم يبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه ]، هذا الذي يبقى، كل الروابط انحلت، لا قرابة لا صداقة، إلا ما كان في الله.[ رابعاً: تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشر والفساد، وليس بنافعهم ذلك ]، فحين يتبرءون هل يرحمون، أو يكون هذا عذراً لهم؟ ما ينفع، بل زيادة في الحسرة لا أقل ولا أكثر.قلت لكم: هل المؤمن يكره الله؟ أيوجد مؤمن يكره الله أو يكره ما يحب الله؟ إذاً: هذا معناه أنه يحب الله، وبذلك سعدنا وارتحنا. قلنا: لا يوجد في نفوس المؤمنين الصادقين كره لله قط، ومعناه أنهم يحبونه، فالشخص الذي لا تكرهه تحبه، وهل الذي تحبه تكرهه؟ الجواب: لا.ثانياً: من أراد أن يحب الله حباً يسيطر على مشاعره فليذكر آلاءه وإنعامه عليه، لا تنس إفضال الله وإنعامه عليك، فتتوق نفسك إلى الله. وزد ثالثاً: ذكره تعالى، ذكر الله إذا لازمته يكسبك حب الله أكثر. والله تعالى أسأل أن يرزقنا هذا، وأن يجعلنا من أحبائه ومحبيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (107)
الحلقة (114)
تفسير سورة البقرة (73)
إن غضب الله عز وجل لا يقوم له شيء، وعذابه جل وعلا لا يتصور أحد من خلقه تحمله فضلاً عن اللبث فيه، والمشركون حين يرون غضب الله ويعاينون ما أعده لأهل الشرك من العذاب، ثم بعد ذلك تأتي متبوعاتهم ومعبوداتهم لتتبرأ من شركهم، وتتنصل عن عبادتهم، فعندها يسقط في أيديهم، وتأكل الحسرة قلوبهم ألا يستطيعوا الرجوع إلى الدنيا والتبرؤ من هذه المعبودات، وإخلاص العبادة لله الواحد القهار.
تابع تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ...) وما بعدها
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، فنحن نرجو من الله تعالى أن يحقق لنا ما وعدنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله كما في صحيح مسلم : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع قول ربنا جل ذكره من سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:165-167]، وقانا الله وإياكم عذابها.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهان السامعين والسامعات أن عقيدة المؤمن تقوم على مبدأ الإيمان بالله عز وجل وبلقائه، وأركانها الستة هي ضمن هذا المبدأ؛ لأن الله كثيراً ما يقول لنا: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]؛ لأن هذه العقيدة بمثابة الروح، إذا حلت في القلب واستشرت آثارها في الجسم حيي عبد الله وأصبح يعي ما يقال له ويفهم، وأصبح قادراً على أن ينهض بالتكاليف فعلاً أو تركاً؛ وذلك لكمال حياته.فالإيمان بالله رباً وإلهاً لا إله غيره ولا رب سواه، بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يضر وينفع، هذا الإيمان يضاف إليه الإيمان بالبعث الآخر، وهو لقاء الله والوقوف بين يديه للسؤال والاستنطاق ثم الجزاء إما بالنعيم المقيم أو بعذاب أليم، فهذه الآيات الكريمة -وهي ثلاث آيات- تقرر مبدأ البعث الآخر.
اتخاذ المشركين الأنداد لله تعالى في عبادته
فقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:165] ناس وما أكثرهم؛ إذ المشركون أكثر من الموحدين في كل الأعصر وفي كل الأزمان، وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:165] والعياذ بالله تعالى مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]. والأنداد: جمع ند، والند: الضد والمثل، والمراد من الأنداد من عبدوا من دون الله، فمن الناس من عبدوا الملائكة، وقالوا: إنهم بنات الله، قبيلة بكامل رجالها ونسائها من العرب عبدوا الملائكة.ومن الناس من يعبد الأنبياء، وجيراننا النصارى يعبدون عيسى، ومن الناس من يعبد الأولياء وصالح عباد الله، وهذا حدث في جاهلية المسلمين، إذ عبدوا الأولياء عبادة حقيقية؛ رفعوا أكفهم إليهم، سألوهم، تضرعوا بين يديهم، ساقوا لهم قطعان البقر والغنم، حلفوا بهم، نذروا لهم النذور، عكفوا حول قبورهم، رفعوا إليهم مرضاهم، وهي عبادة لا ينكرها إلا ذو جهل، وعلة هذا هي الجهل، ما وجدنا من يعلمنا، ما وجد بيننا من يعرف الحق وأهله ويعمل به فنقتدي به؛ إذ هي قرون أصابت المسلمين بظلمة لا نظير لها.ومن الناس من يعبد أصناماً وتماثيل لا تعبد لذاتها، ولكنها تمثل ملائكة أو تمثل أنبياء أو تمثل صالحين فيعبدونها، وها هو ذا عز وجل يخبر بما يعملون، وهل هناك من يعلم علم الله؟
جمع بعض المشركين بين محبة الله تعالى ومحبة آلهتهم
فالله يقول وقوله الحق: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] وبالفعل يحبونهم كحب الله تعالى، إلا أن هذا قد يكون خاصاً ببعض الناس، إذ من العرب -وخاصة القرشيين ومن إليهم- من كانوا يحبون الله، يدلك على حبهم لله أنهم يكرمون الضيف، وأنهم يحجون بيت الله، وأنهم يحرمون ما حرم الله من الأشهر الحرم.. إلى غير ذلك من الصفات الدالة على أنهم يحبون الله، ولكنه حب مع حب آلهتهم، فبطل لذلك حبهم؛ لأن الله عز وجل لا يقبل عملاً أشرك فيه غيره، إما أن يكون العمل كله لله، وإلا فلا يقبله الله، فهم يحبون الله ويحبون الآلهة التي يعبدونها من أجل أن تقربهم إلى الله، ما كان العرب في الجاهلية يعبدون الآلهة لذاتها، يعبدونها متقربين بها إلى الله رب إسماعيل وإبراهيم، وشاهد هذا من كتاب الله عز وجل؛ إذ قال تعالى من سورة الزمر: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، ردوا على الرسول صلى الله عليه وسلم لما أنكر عليهم عبادتهم، قالوا: نحن ما نعبدهم استقلالاً لذاتهم، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله قربى وزلفى.ويشهد لهذا بوضوح أن هؤلاء المشركين ممن نزل فيهم هذا القرآن كانوا إذا كانت شدة وأزمة قوية يفزعون فيها إلى الله، وخاصة إذا ركبوا البحر واضطربت السفينة للعاصفة التي أثرت فيها يدعون الله وحده ولا ينادون معه سواه، وجاء هذا في عدة آيات: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل:65-55]. وهنا حادثة كررناها للعظة والعبرة، وهي أن عكرمة بن أبي جهل ، وأبو جهل هو عمرو بن هشام المخزومي القرشي ، كان أحد طغاة الشرك وعتاتهم في مكة، وكان أشد خصم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذبح في بدر، له ولد يقال له: عكرمة رضي الله عنه، هذا الشاب كان نسخة من أبيه في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي على عدائه، وشن الحروب مع قومه في الأحزاب وما إلى ذلك، ولما فتح الله تعالى على رسوله والمؤمنين مكة ودخلوها باثني عشر ألف مقاتل وانهزم المشركون بفضل الله كان عكرمة ممن فر وهرب، وما أطاق أن يعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الكثيرون فجلسوا ينتظرون حكم الرسول فيهم، وقد خلدت تلك الكلمة لما اجتمعوا حول البيت، حول الكعبة، وطأطئوا رءوسهم أذلاء صاغرين، ودخل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم والسيف بيده أو الرمح، فقال لهم: ( يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء ).ونعود إلى عكرمة فما أطاق أن ينظر إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة الحنق والتغيظ والبغض، وأخذ ساحل البحر لا أدري هل جدة أو قبلها من الساحل، وإذا بسفينة تكاد تقلع، فركب، إلى أين؟ إلى الحبشة أو إلى فارس أو إلى بلاد أخرى، ومشت السفينة في البحر وجاءت موجة عاتية من تلك الموجات البحرية، فاضطربت السفينة يميناً وشمالاً، وخافوا الغرق، فنادى ربان السفينة أو ملاحها: معشر الركاب! سلوا الله عز وجل وحدوه، فإنه لا ينقذكم إلا هو! فعجب عكرمة وقال: الذي هربت منه وجدته هنا؟! لا بد من توحيد الله؟ إذاً: والله! لترجعن بنا يا ملاح إلى ساحل البحر وأذهب إلى محمد وأصافحه، وبالفعل مالت السفينة إلى الساحل ونزل عكرمة وأتى مكة بعد يومين أو كذا، واعتنق الإسلام، وعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن عن حبه كأشد ما يكون حباً له.
شدة محبة المؤمن لله تعالى فوق محبة المشرك لمعبوده
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، والذين آمنوا بصدق وحق بالله ولقائه ورسوله محمد وكتابه، وقضاء الله وقدره، هؤلاء أشد حباً لله.وأولئك المشركون يحبون آلهتهم التي تقربهم -في زعمهم- من الله وترضي الله تعالى عنهم، ويحبون الله، لكن حبهم للآلهة أشد، والمؤمنون أشداً حباً لله، فلا يحبون معه غيره أحداً، وإنما يحبون به. وهنا تأمل أيها السامع وأيتها السامعة: أحب -يا عبد الله- بالله، ولا تحب مع الله، باستثناء ما هو غريزة البشر كحبنا الطعام والشراب والراحة ورقيق اللباس، هذا الحب نحن أهل الحق نحبه أيضاً لله؛ نأكل من أجل الله، نشرب من أجل الله، ننام من أجل الله، وهكذا نعطي نمنع من أجل الله، إذا أعطينا فمن أجل الله، وإذا منعنا فمن أجل الله، ما وجه العطاء والمنع لله؟ إن تصدقت بزائد عن حاجتي وأهلي تصدقت به لله من أجل الله، وإذا منعت فلأن ورائي أطفالاً أو نساء أو كذا، فمن أجل الله، بل قلنا: نبني ونهدم من أجل الله، نسافر يوم نسافر ونقعد يوم نقعد لله، إذ حياة المؤمنين بحق وقف على الله عز وجل، واقرءوا لذلك آية الأنعام فهي واضحة الدلالة، يقول تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، قوله: محياي ومماتي لله، أي: حياتي وموتي. إذاً: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] من حب عابد الآلهة لله، ومن حب عابد الآلهة لآلهته، عباد الآلهة يحبونها حباً عظيماً، ولكن حب المؤمنين لله -والله- أشد من حبهم لآلهتهم، ولهذا ورد الحب في الله والبغض في الله، إيمان المؤمنين قائم على هذا المبدأ وعلى هذا الأساس، إن أحببنا زيداً أو عمراً أحببناه لله، وإن كرهنا فلاناً أو فلاناً فمن أجل الله، إن أكلنا أو شربنا، إن ركبنا أو نزلنا، كل حياتنا دائرة في فلك واحد ألا وهو رضا الله وطلب مرضاته.
الشرك بالله تعالى أعظم الظلم
ثم قال تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165]، أي: أشركوا بالله عز وجل غيره، إذ الظلم أنواع، لكن إذا أطلق في القرآن فالمراد به الشرك، إذ هو أعظم الظلم، كيف كان الشرك أعظم الظلم؟ إليك البيان: يخلقك ويرزقك ويحفظك ويخلق كل شيء حولك من أجلك، ويربيك، وينشئك، ثم تلتفت إلى غيره وتغمض عينيك فلا تنظر إليه، فتمدح غيره وتشكر غيره، وتثني على غيره، وتطيع غيره، وتتقرب إلى سواه، وهو كأن لم يكن ذاك الذي لولاه ما كنت، فأي ظلم أعظم من هذا؟ يخلقك يرزقك يربيك يكلؤك، يخلق كل شيء من أجلك، ثم لا تلتفت إليه وتتقرب إلى سواه؟ فهل عرفتم أن الشرك أعظم أنواع الظلم؟و لقمان الحكيم هذا من المؤمنين على عهد بني إسرائيل أيام داود عليه السلام، وهو نوبي من النوبة، كان له ولد يحبه كأنه الوحيد، فأجلسه بين يديه يوماً يعظه، وقد نقل تعالى إلينا تلك القصة بكاملها بالحرف الواحد، إذ قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ [لقمان:13]، أي: اذكر يا رسولنا للمسلمين، اذكر لقومك المصرين على الشرك والمعاندين فيه، بل والمحاربين من أجله، اذكر لهم ما يلي علهم يفيقون، علهم يرجعون: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، هل فهمتم أن الشرك ظلم كبير أو لا؟ لما ضربت لكم مثلاً وقلت: يخلقك ويرزقك ويكلؤك ويحفظك طول حياتك، ويخلق كل شيء من أجلك وتلتفت إلى غيره تدعوه أو تتملقه وتتقرب إليه، أي ظلم أعظم من هذا؟! أنت مخلوق لله أو لا؟ يجب عقلاً ومنطقاً وسياسة وقانوناً أن تكون جميع تصرفاتك له، فشاتك صوفها لمن؟ لجارك أو لك؟ لبنها، حملها، حياتها كلها لك أيها المالك، فكيف يملكنا الله ملكاً حقيقياً -لأنه خالقنا ورازقنا- ونلتفت إلى غيره نعبده؟ أي فظاعة أعظم من هذه؟ مع العلم أن الذين نعبدهم لا يملكون شيئاً، عبادتنا لهم هراء وباطلة، لو نعبد حجراً أو ملكاً أو إنسياً أو جنياً ألف سنة فلا يستطيع أن يعطينا ما لم يعطنا الله، ولا يدفع عنا ما لم يدفعه الله، فلم -إذاً- هذه العبادة؟! إن الشيطان هو الذي زين عبادة غير الله ليهلك العابدون معه، هذا هو السر.
فظاعة عذاب الظلمة يوم القيامة
ثم قال تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة:165] أشركوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165] لرأوا أمراً فظيعاً لا يقادر قدره ولا يمكن للعبارة أن توضحه أو تدل عليه، فوق ما يطاق، فالجواب محذوف؛ لأنه أمر عظيم. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]، ما بقي من له قوة يحدث بها شيئاً أو يتصرف بها في شيء والخليقة كلها واقفة حفاة عراة إنسها وجنها.
تبرؤ المتبوعين من عبادة متبعيهم وتعظيمهم لهم
وجاء تفصيل هذا: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، والتبرؤ معروف: أنا بريء من قولك، بريء من سلوكك، بريء من عملك هذا، ليس لي فيه دخل. تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، من هم الذين اتُّبعوا؟ الذين عبدوا من دون الله، كعيسى عليه السلام والعزير، والعذراء مريم، وسيدي عبد القادر والبدوي والعيدروس، وفاطمة والحسين، ملايين عبدوهم من دون الله، فيتبرءون منهم: ما أمرناكم، ما رضينا بعبادتكم، ما كلفناكم، نفي كامل، وهل يستطيع معبود أن يقول: نعم يا رب عبدوني؟ لا يقوى على هذا. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا [البقرة:166]، أي: المتبوعون، تبرءوا ممن عبدوهم من دون الله أو قدسوهم أو بجلوهم أو عظموهم، أو اتبعوهم في الباطل، كالرؤساء والزعماء وما إلى ذلك، هؤلاء المتبعون هل يستطيعون أن يدافعوا عن متبوعيهم؟ هل يقولون: ما اتبعونا إلا حباً في الله فقط، إلا طلباً لمرضاتك يا رب، هؤلاء كانوا جهلة، اعف عنهم وسامحهم؟ والله !ما يقولون كلمة من هذا، ولا عيسى يقول هذا. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166] اتبعوهم.
انقطاع العلائق بين الأتباع والمتبوعين بعد معاينة العذاب
وَرَأَوُا الْعَذَابَ [البقرة:166]، وشاهدوا العذاب، جهنم جيء بها تجر بالسلاسل، شاهدوا ما علموه من الغيب، ما حدثوا عنه في الدنيا شاهدوه عياناً. وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] لا مصاهرة، لا نسب، لا صداقة، لا وطنية، لا أخوة أبداً، كل الأسباب تمزقت، لم يبق إلا سبب الإيمان هو الذي ما تمزق: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]، المفروض أن الشيخ يشفع لمريديه، والمعبود يشفع لمن عبدوه، والعظيم الذي اتبعوه في الباطل ففجر وقتل وسفك الدماء يشفع لهم، ولكن لا شفاعة، فهل فهمتم معنى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]؟ كل واحد موكول إلى عمله، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.
تمني الأتباع الرجعة إلى الدنيا للبراءة من المتبوعين
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:167] صاحوا: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167]، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:167] العوام الذين لا بصيرة لهم، عبدوا الشيخ، وجروا وراءه، عبدوا الحكام والسلاطين، وقالوا بقولهم وسلكوا مسالكهم، قالوا: لو أن لنا كرة، أي: رجعة إلى الحياة الدنيا، لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [البقرة:167] في الحياة الدنيا كما تبرءوا منا الآن، لا نقبل من يقول لنا ولا من يزين ولا من يحسن ولا من يعد ولا من يتسلط علينا أو يدعي القوة علينا أبداً. لكن هذا التمني هل ينفع؟ ما ينفع، بل يزدادون به ألماً وحسرة، إذ هذه كلمات المتحسر المتأسف المتحطم، لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً [البقرة:167] أي: رجعة إلى الحياة الدنيا، فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167] اليوم، ولا نسمع لقولهم ولا نجري وراءهم، ولا نقبل أحاديثهم ولا أمانيهم.
زيادة حسرة الكافرين وخلودهم في النار
قال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167]، أعمالهم التي هي المدائح والقصائد والأناشيد والذبائح، ويقضون ليلة كاملة في مدح الشيخ، أعمالهم يريهم الله إياها حسرات تمزق قلوبهم. والخاتم الأخير: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]؛ لأنهم ماتوا مشركين، والمشركون آيسون من الخروج من النار ودخول الجنة، اللهم إلا الموحدين الذين ماتوا على التوحيد، عبدوا الله وحده، ولكن قارفوا ذنوباً وارتكبوا سيئات وما تابوا منها وماتوا عليها، فدخلوا النار لتطهيرهم؛ لأنهم يحترقون فيها ويمتحشون حتى يكونوا كالفحم، ثم يعودون إلى الجنة بتوحيدهم؛ لأن الله قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، أما أهل الكفر والشرك فأعمالهم الصالحة قد يخفف بها عنهم العذاب، فينزلون في دركات أخف، أما أن يخرجوا من عالم الشقاء وينتقلوا إلى عالم السعادة فوالله ما كان، هم آيسون، فلهذا من مات من أقارب المرء على الشرك والكفر فليبك عليه، لا رجاء أبداً في نجاته من النار. كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:167] الحسرات: جمع حسرة، وهي الألم القاتل الشديد الذي يقعد بصاحبه ولا يستطيع أن يتحرك، على حد: يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4] من الحسرة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
إذاً: معاشر المستمعين! زيادة في البيان والتوضيح نقرأ الكلمات مفسرة بهذا التفسير وازدادوا بها علماً.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات:أنداداً: جمع ند، وهو المثل والنظير، والمراد بالأنداد هنا الشركاء ]، سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو أولياء أو حيوانات أو نباتات أو جمادات، [ يعبدونها بحبها والتقرب إليها بأنواع العبادات كالدعاء والنذر لها والحلف بها ]، هذه من أنواع العبادات.وقولهم: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167] ما معنى التبرؤ يا عبد الله؟ قال: [ التبرؤ: التنصل من الشيء والتباعد عنه لكرهه ]، تبرأ منه: تنصل وابتعد لأنه يكرهه.وقوله: الَّذِينَ اتُّبَعُوا [البقرة:166]، من المراد بهم؟ قال: [ المعبودون والرؤساء المضلون ]، وهل يوجد اليوم مضل؟ نعم. جميع رؤساء الروافض والله! لمضلون لأتباعهم، يعرفون الحق ويضلون، ومن أهل السنة والجماعة مضلون من أجل أن يركبوا رءوس الناس ويأكلوا طعامهم، يزخرفون لهم الباطل ويحسنون لهم البدع من أجل أن يتبعوهم، موجود هذا البلاء.قا: [ الذين اتَبعوا: هم المشركون والمقلدون لرؤسائهم في الضلال ].قال تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]، ما معنى الأسباب هذه؟ قال: [ الأسباب: جمع سبب، وهي لغة: الحبل ]، السبب: الحبل الذي تربط به بين شيئين، [ ثم استعمل في كل ما يربط بين شيئين، وفي كل ما يتوصل به إلى مقصد أو غرض خاص ]، فما سبب مجيئك إلى المسجد؟ لا بد من حبل ربطك به، كلمة أو إيمان أو دعوة أخيك.وقوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [البقرة:167]، ما معنى الكرة؟ قال: [ الكرة الرجعة والعودة إلى الحياة الدنيا.الحسرات: جمع حسرة، وهي الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل ]، شدة الحزن والألم تقعد بالإنسان فما يستطيع حتى المشي، وهذا واقع، إذا كرب عبد وأصيب بحزن يلصق بالأرض. تلك مفردات قد تكون خفية على أكثر المؤمنين، فتفسر لهم كلمة كلمة.
معنى الآيات
أما الشرح الموجز فإليكموه كما هو في هذا التفسير.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات.لما تقرر في الآيتين السابقتين ]، وهي قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، هذه آية، وجاء الآية الأخرى فيها ستة أدلة على أنه لا إله إلا الله؛ إذ قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] ]، أما الذين لا عقول لهم فكيف يفهمون؟ مجانين.بعد هذا قال: [ لما تقرر في الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس -أي: ربهم ومعبودهم- واحد وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه ]، والله! ما هو إلا واحد، لو تجتمع الخليقة كلها على أن توجد ثانياً فوالله! ما أوجدته.قال: [ أخبر ] بعد التقرير للألوهية، بعد تقرير الوحدانية لله، [ أخبر تعالى أنه مع هذا البيان وهذا الوضوح يوجد ناس ]، أي: مع هذه الأدلة الستة التي لا تبقي أبداً في النفس شكاً في أنه لا إله إلا الله، ومع هذا وجد ناس [ يتخذون من دون الله أصناماً ورؤساء يحبونهم كحب الله تعالى، أي: يسوون بين حبهم وحب الله تعالى ]. وبينت لكم هذا، فالمشركون في مكة وفي غيرها يجمعون بين حب الله وحب ألهتهم، والنصارى الآن كذلك، واليهود، والحب إذا شاركه حب آخر بطل، رد على صاحبه، فنحن نحب الله ونحب في الله، إن أحببنا طعاماً أحببناه من أجل الله، أحببنا زيداً أو عمراً أحببناه من أجل الله، ما هناك حب خارج عن دائرة حب الله، وإلا فنحن مشركون إذاً.قال: [ والمؤمنون ] بحق وصدق [ أشد منهم حباً لله ]، هم يحبون الله، لكن حباً ضعيفاً؛ لأن نصفه أعطاه لغير الله، توزع هذا الحب، ما أصبح حباً حقيقياً، أما المؤمنون الكمل في إيمانهم الصادقون فهم أشد حباً لله تعالى.قال: [ كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة ]، لو يرى المشركون الذين أشركوا في الدنيا مع الله غيره، [ عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمراً فظيعاً يعجز الوصف عنه، ولعلموا أن القوة لله، وأن الله شديد العذاب ]، يدلك على هذا [ إذ تبرأ المتَّبعون وهم الرؤساء الظلمة ودعاة الشرك والضلالة من متبعيهم الجهلة المقلدين، وعاينوا العذاب أمامهم، وتقطعت تلك الروابط التي كانت تربط بينهم، وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه يريهم أيضاً أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي ]. والآن لا تقل: كيف يريهم الله أعمالهم؟ يري القاتل يقتل، والفاجر يفجر، والسارق يسرق، ولا تقل: كيف يمكن هذا؟ فالآن بعد شاشة التلفاز بقي شيء؟ تعرض أعمالهم هكذا، حتى يتمزقوا من الكرب والهم والحسرة، يريهم أعمالهم كما هي، وفي سورة الزلزلة: لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، من الذي يريهم أعمالهم؟ هو الله، الأولون يفسرون الآية بنتائج أعمالهم وثمراتها، لكن الواقع أن الأعمال ترى، والآن الواقع شاهد، يعرضون عليك معركة فتشاهد الدماء تسيل والرءوس تتقطع، والقتال دائراً، وينقلون صورة لفاجر تراها كما هي.[ وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه يريهم أيضاً أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم، ويدخلون بها النار فلا يخرجونهم منها أبداً ] فقولوا: الحمد لله على أننا من أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيات ]، كل آية تحمل هداية أو لا؟ أما قال تعالى: هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185]؟ كل آية تحمل هداية، كما أن كل آية تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لا توجد آية من الستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية لا تقرر أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن يسألني: كيف يا شيخ؛ فسأبين له كيف:فقوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]، هذا كلام أم لا؟ من تكلم به؟ أتقول: أبي.. أمي.. جدي.. شيخ القبيلة الفلانية؟ لن تجد من تكلم به سوى الله تعالى.إذاً: هذا الكلام هل يوجد بدون متكلم؟ أيستقر في عقولكم وجود كلام بدون متكلم؟ مستحيل، فمن المتكلم إذاً؟ الله، إذاً: الله موجود، وهذا القرآن كلامه كله علم وحكمة، ومظاهر الكون كلها تدل على علم الله وحكمته ورحمته.إذاً: الله عز وجل أخبرنا أنه لا إله إلا هو، وشهد بذلك شهادة، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ [آل عمران:18] أيضاً وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18] كذلك، فالآية وحدها تدل على وجود الله. والآية الواحدة تدل على أن محمداً رسول الله، لو لم يكن رسول الله فكيف يوحي الله إليه هذه الآية، هل أوحى الله إلينا نحن؟ منذ أن كنا وكانت البشرية إذا لم يوح إلى نبي فهل يوحي إلى غيره؟إذاً: فكل آية هي علامة على أنه لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.فهذه الآيات الأربع فيها أربع هدايات، يا من يريد أن يهتدي إلى حب الله، يا من يريد أن يهتدي إلى رضوان الله، يا من يريد أن يهتدي إلى العلم والمعرفة بالله! إليك هذه الهداية من أربع آيات:[ أولاً: وجوب حب الله ]، الذي لا يحب الله والله! ما هو بمؤمن.. والله! ما هو بمؤمن .. والله! ما هو بمؤمن، حب الله لا بد منه، وأشد من حبك لأمك وأبيك، بل ونفسك التي بين جنبيك والناس أجمعين، اذكر ما أنعم به عليك، اذكر إفضاله، اذكر إحسانه، لولاه هل تكلمت أنا؟ لولاه هل جلستم أنتم؟ فصاحب هذا الإنعام، هذا الإفضال، هذا الإحسان، هذه القدرة، هذا الجلال، هذا الجمال، هذا الكمال، كيف لا يحب؟! والضائعون أحبوا الأمريكاني لاعب الكرة ماردونا والعياذ بالله. فطرتك يا آدمي تحب كل ذي فضل وإحسان وكرم، تسمع أن فلان شجاع فتحبه لشجاعته، فلان كريم تحبه لكرمه، فلان جميل الوجه والطلعة فتحبه، والله خالق الجمال، خالق الكمال، واهب الكائنات، كل ذلك فضله وإحسانه، فكيف لا تحبه؟ أما أخبر تعالى عنكم بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].قال: [ وجوب حب الله وحب كل ما يُحب الله عز وجل ]، هذه أخرى، كل ما بلغنا أن الله يحبه حتى المشية نحبها، حتى اللحظة والنظرة إذا بلغنا أن الله يحبها أحببناها، فإذا أخبر الله أنه يحب عبده فلاناً فإنا نحبه، وعلى أتم الاستعداد، متى علمنا أن الله يحب كذا أحببناه، ويجب، وإلا فقدنا الإيمان الصحيح.[ ثانياً: من الشرك الحب مع الله ]، هل هناك فرق بين الحب مع الله والحب لله؟ نعم. هل نحن نحب مع الله؟ لا، نحب بالله، أحب الله تعالى (سبحان الله وبحمده) فأحببناها، أحب الله صفوف الجهاد فأحببناها، أحب صفوف الصلاة فأحببناها، أحب الله محمداً فأحببناه، أحب الزهراء فأحببناها، نحب بحب الله، لا استقلالاً.قال: [ من الشرك الحب مع الله، ومن التوحيد الحب بحب الله عز وجل.ثالثاً: يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب، ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه ]، كل الأسباب والروابط انحلت إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه، أي: في الإيمان، هذه لا تنحل فحافظوا عليها.[ رابعاً: تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشرك والفساد، وليس بنافعهم ذلك شيئاً ]، تبرءوا ولكن ما ينفع التبرؤ، التبرؤ ينفع الآن، لا نقلد أعمى ولا نجري وراء جاهل، ولا نطيع حاكماً ولا محكوماً في معصية الله عز وجل.قال: [ تبرؤ رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم ]. هم تبرءوا لأنهم ما يستطيعون أن يقولوا: هؤلاء عبدونا، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]، ما قالوا: أجابنا فلان ولم يجبنا فلان، فوضوا الأمر إلى الله عز وجل، أما المتبوعون فكل ما في الأمر أنهم يتحسرون ويتمزقون: آهٍ لو رجعنا إلى الدنيا لتبرأنا منهم.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (108)
الحلقة (115)
تفسير سورة البقرة (74)
بعد أن عرض الله عز وجل أحوال أهل الشرك والمعاصي، وما انتهوا إليه من نهاية مرة وهي الخلود في النار، نادى سبحانه وتعالى البشرية جمعاء مبيناً لهم أنه أحل لهم ما في الأرض من الطيبات، أما ما نهاهم عنه وما لم يأذن لم فيه فإنه لا خير لهم في أكله، لما فيه من الأذى لأرواحهم وأبدانهم، ثم نهاهم سبحانه من اتباع خطوات وآثار عدوه وعدوهم؛ لأنه لا يقود إلا إلى الشقاء والهلاك، وخسران الدنيا والآخرة.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله، رزقنا الله وإياكم فهمه والعمل به. آمين.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركات، وهي قول ربنا جل جلاله وعظم سلطانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:168-170].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني الكريم.
عموم النداء بلفظ الناس لبني البشر
معاشر المستمعين! هذا النداء الإلهي عام يشمل الأبيض والأسود، الكافر والمؤمن، الأول والآخر، إذ لفظ الناس عام.أما نداءات الرحمن التسعون فهي خاصة بكم أيها المؤمنون، أما هذه النداءات بعنوان الناس فهي عامة. يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168]، والناس لفظ مفرد دال على متعدد، من أين اشتق لفظ الناس؟ من ناس ينوس إذا تحرك، والإنسان يتحرك، فلعله اشتق هذا من ذاك، ولا عبرة بالاشتقاق، فالعبرة بأن نعرف من هم الناس؟ هل بنو تميم، سكان اليمن، الأوربيون؟ هذا الذي نحتار نريد أن نعرفه؟ قلنا: إنهم بنو الإنسان، مؤمنهم وكافرهم، عربهم وعجمهم، أولهم وآخرهم سواء، الكل مخلوق لله والله خالقهم، ناداهم ليأذن لهم بأن يأكلوا مما في الأرض: العنب، البرتقال، التفاح، الأرز، القمح، الشعير، الفواكه، الخضر، اللحوم، مما في الأرض، هذا الذي في الأرض من أوجده؟ الله جل جلاله، هؤلاء عبيده، فهل يستطيعون أن يعيشوا بدون أكل ولا شرب؟ كلا أبداً.
الإذن في أكل الطيب الحلال وتحريم الخبيث في غير ضرورة
فأذن لهم بقوله: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] حال كونه حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]، أما ما كان حراماً فلم يأذن فيه لهم أن يأكلوه ولا أن يشربوه ولا أن يركبوه حتى الجلوس عليه، ما حرمه الله تعالى- أي: حظره ومنع منه- فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أكله إلا في حالة بينها تعالى في كتابه، وهي حالة الاضطرار القصوى: إما أن يأكل وإما أن يموت، وجاء ذلك في قول الله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ [المائدة:3]، بطنه يبس من شدة الجوع، فلا بأس أن يأكل ما حرم الله من الميتة على أنواعها، ومن لحم الخنزير، لا بأس، ولكن بقيد: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ [المائدة:3]، في مخمصة حال كونه غير مائل إلى الإثم، لا أنه يفرح فيقول: الآن نأكل من لحم الخنزير، الآن نأكل الميتة، بل لأنه أصبح مضطراً، يأكل وهو متألم ومتحسر ومتأسف، لا أن يقول: أذن لنا فيأكل ويفرفش.
المراد بالأمر في الآية الكريمة
إذاً: الأمر في الآية الكريمة للإباحة، وقد يكون للوجوب، لو أن شخصاً قال: أنا لا آكل، سأصوم الليل والنهار، فإنه يؤمر بالأكل وجوباً وإلا قتل نفسه، لا بد أن يأكل ويشرب إبقاءً على جسمه صالحاً لعبادة الله، إذ قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهذه تدلنا دلالة واضحة أن علة وجودنا وسر حياتنا أن نعبد الله بما أحب أن نعبده به، لا بأهوائنا وما تزينه الشياطين لنا، ولكن بما أحب هو أن يعبد به، من الذكر إلى الدعاء وما بينهما مما شرع الله من العبادات. وكثيراً ما أعيد على أذهانكم أنه أراد الله عز وجل أن يذكر ويشكر، بمعنى: أراد أن يعبد، فأوجد هذه العوالم كلها علويها وسفلها، وأوجد فيها مواد بقاء أهلها، وخلق آدم وحواء، وأنزلهما وبارك في ذريتهما، حتى أصبحت الذرية لا يحصي عددها إلا الله، لم فعل هذا؟ ليعبد. وعالم الجن كذلك، وعالم الملائكة، أين البشر وأين الجن من عدد الملائكة؟ هذا الواحد منكم مكلف به عشرة من الملائكة، إذاً: فمن يحصي هذا العدد، لم فعل الله هذا؟ من أجل أن يعبد.إذاً: فالأكل والشرب لا بد منهما من أجل البقاء على الحياة التي بها يعبد الله، فمن هنا قد يقول: كلوا على سبيل الوجوب.
حقيقة وجود ما يؤكل على غير كوكب الأرض
ثم قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168]، لو جاء كذاب بفواكه وخضر يقول: هذه أتينا بها من سطح القمر، فهل يجوز أكلها أو لا؟ أهل الورع والبصيرة يقولون: ما أذن الله لنا في أكل ما على الزهرة أو عطارد أو القمر، قال: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] لا نأكل من غير الأرض، وإنهم لعلى حق.والحمد لله، ففرية صعود القمر انفضحت، انكشفت سوأتها، ظهرت عورتها، والحمد لله، ما أماتنا الله حتى أرانا الحق حقاً، أيام كنا في باب المجيد والإذاعات العربية تتعنتر، وصحف العرب الهابطين تتعنتر: صعدوا القمر! ونحن نرتعد خائفين نقول: يا عباد الله! لا تتمدحوا بأمجاد أعدائكم، لا تتبجحوا بفضائل أعدائكم، اجحدوها، فيضحكون: هذا جمود! ومضت فترة من الزمان، ووقعت في يدي مجلة صينية، قال صاحب المجلة: كذبة صعود القمر مؤامرة بين الدولتين العظميين لتخدير الشعوب والسيطرة على قلوبها، وما هي إلا أفلام تمت في الأرض، والله! كما تسمعون، وموقفنا نحن -المؤمنين- أننا قلنا: من الجائز أن يكون هذا، ولكن لا نثبت ولا ننفي، نقول: من الجائز، ولكن لا نتمدح بأمجاد أعداء الإسلام ونسبقهم إلى القول. وقلنا لهم: هيا نرجع إلى أربعة آلاف سنة، إلى بلقيس الملكة اليمنية، بلقيس ملكة اليمن، لما أراد سليمان أن يغزو بلادها، وما كانت المواصلات السلكية واللاسلكية والبرية، وإنما أناس يعيشون في إقليم لا يسمع بهم آدمي لقرون، فالهدهد طائر ممتاز، بارع في الذكاء والفطنة، واستخدم أيضاً في الجيوش والاطلاع على أسرارها، فالهدهد فقده سليمان؛ لأن الطير كان يحضره، ويحلق فوق جيشه، فافتقد الهدهد فسأل عنه، وقال متوعداً: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّه ُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21]، كيف يخرج عن النظام بدون إذن؟ وجاء بالخبر: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:23-24]، كفار، وتم الذي تم، وخلاصته أنه أحضر عرش بلقيس بين يدي سليمان ورجاله، كرسي الملك من الذهب والفضة، فوضع بين يديها، فقال لها: أهكذا عرشك يا بلقيس ؟ قالت: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل:42]، فهربت من الورطة، لو قالت: هو ولم يكن كذلك لقيل: هذه حمقى مجنونة، كيف يؤتى بعرشها من اليمن هكذا ويوضع بين أيدينا، ولو قالت: مستحيل، لن يكون؛ فإنها ضائعة؛ حيث تنفي حتى عرشها، فكيف تصلح للملك هذه؟ فاتقت العار والذم والملامة بكلمة خالدة، قالت: كأنه هو؛ حتى ما تؤاخذ، هكذا قلنا للعرب: قولوا: ممكن وجائز أن يكونوا قد صعدوا، ولكن الصين نفته لم؟ لأنها القوة الثالثة عدوة للغرب والشرق، فأرادت أن تحمي قلوب شعبها، حتى ما يخدروا بالخوف والهم، فكتبت وصرحت؛ ليبقى الشعب الصيني قوياً وقادراً، وأما العرب فلسان حالهم: اذبحوهم، امسخوهم، فإذاعاتنا وصحفنا تتغنى بأمجاد أمريكا وروسيا. وتمضي الأعوام ويعلن الذي كان يدعي أنه صعد القمر فقال: هذا كذب كامل، ما صعدنا ولا عرفنا قمراً! وما استطاعوا أن يقتلوه ولا أن يكذبوه، بل سكتوا، وطأطئوا رءوسهم.فقول ربنا: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] لو يأتينا من الشمس، من القمر فلن نأكل.
امتناع دفن بشر في غير كوكب الأرض
ونظير ذلك قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، كنت أحلف بالله: لن يستطيع أحد أن يبقى على سطح القمر حتى يموت ويدفن هناك، لا بد أن يدفن في الأرض؛ لأن الله قال: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وإذا مات في القمر أو في الزهرة أو في عطارد أو في هذه الأفلاك فكيف يدفن هنا، ومن ثم عرفنا أنها كذبة، أرادوا أن يتمدحوا بالباطل ليضلوا البشرية ويسحروها بالباطل.ونظير هذه القضية أن المملكة -حفظها الله- صبرت وما اعترفت أبداً بالشيوعية، ولا أقرت بالسفارة في المملكة لأية دولة شيوعية، وحفظها الله واستمرت كذلك حتى تمزقت الشيوعية وتحطمت وباءت بالفشل، لولا الصبر لكنا ماذا سنصنع؟ سنقول: افتحوا سفارة لألبانيا وأخرى لكذا، والحمد لله. ومعنى هذا: إذا عرفت الحق يا عبد الله فاصبر، ما هي إلا أوقات وتنتهي ويظهر الحق كما هو، أما تذوقتم هذه؟ الشيوعية والاشتراكية والعلمانية والكفر والباطل الذي ملأ بلاد العرب ما سببه؟ أليست السفارات والاتصالات بروسيا؟ والله! إنها لهي، بل بعثوا أولادهم يدرسون في روسيا والدول الشيوعية، وبلغنا أن شاباً درس في روسيا وتخرج؛ يدرسون الكفر الخالص، لما دخل على أبيه وأسرته نظر إلى أخته فوجدها جميلة وطويلة فقال: يا أبي! زوجني بأختي! فقال له: أزوجك بأختك؟! قال: ماذا في أختي، أنا أولى بها! فقيل له: حرام هذا! فقال: من حرمه؟! هذه خرافات باقية في عقولكم! فما كان من ذلك الوالد إلا أن قام في ليله المظلم وذبحه كالكبش وفصل رأسه. لو كنا كـعبد العزيز وأبنائه حين استقللنا فلن نعترف بالشيوعية والإلحاد، ولن يدخلوا بلادنا ينشرون الكفر، وما كان سيحصل الذي حصل، لكن كنا نصفق لهم، هل فهمتم أيها الساسة والسياسيون أو لا؟ أم أن أهل القرآن لا سياسة لهم؟ إن الذي يقرأ كتاب الله ويفهمه هو أعلم إنسان على وجه الأرض بالسياسة، أما سياسة الزندقة والكذب والافتراء والباطل والتخمينات والحيرة فماذا أجدت؟ أي شعب ارتقى إلى الطهر والصفاء والكمال والكرامة والبشرية والآدمية بها؟ هبطوا وأصبحوا كالحيوانات، بل أقبح من الحيوانات أيضاً، فأين السياسة؟
أهمية توافر الحل والطيب في المأكول
يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168] يا بني آدم! كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] على شرط أن يكون حلالاً وطيباً، قد يكون حلالاً وهو مستخبث مستقذر فما يؤكل، عندك صحفة فيها أرز، فجاءت دجاجة وسلحت عليها، فهل تستقذرها أو لا؟ ما تؤكل، وإن كانت حلالاً فما هي طيبة، فالحلال: ما انحلت عقدة المنع منه بإذن الله تعالى بأكله أو شربه، وكونه طيباً شيء آخر، قد يستقذر ويستخبث بمرور الأيام، توجد فيه ديدان، يوجد فيه وسخ فما يؤكل؛ لأنه يؤذي الجسم الذي نحفظه لنذكر الله به ونعبده، هذه واحدة.
معنى قوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان)
ثم قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، لم يا رب؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، أذن لنا في الأكل من الطيبات والحلال ولم يأذن لنا في اتباع خطوات الشيطان، وهل للشيطان خطوات يا شيخ؟ أي نعم، سأدلك عليها: حين يخرج الرجل من بيته ذاهباً إلى المخمارة إلى الحانة، إلى المزناة، إلى محل اللعب والباطل، فمن الذي يمشي أمامه وهو يتبع خطواته، أهو ملك؟ لا والله، بل الشيطان، هو الذي زين له وحسن له ودفعه ليمشي وراءه إلى أن يعمل المعصية.أزيدكم توضيحاً: كل من يمشي خطوة أو أكثر إلى معصية الله ورسوله فأول من حسنها وشجع عليها وزينها هو الشيطان، ثم يمشي أمامه وهو لا يشعر، حتى يصل إلى الجريمة ويقارفها. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، إذ الشيطان هو الذي فعل بالعرب العجب، ماذا فعل؟ هو الذي دعاهم إلى عبادة اللات والعزى ومناة وهبل والأصنام كلها، مع أنهم مؤمنون بالله يعرفون الله، يكفيهم أنهم يحجون بيته ويعتمرون، ويكرمون الحجاج ويفعلون ويفعلون، كانوا مؤمنين بالله، وزين لهم عبادة الأصنام بحكم التوسل بها إلى الله، والتقرب بها إليه.ثانياً: زين لهم تحريم أربعة أنواع من الغنم والإبل، ما هي؟ البحيرة والوصيلة والحامي والسائبة، هذه أنواع من الإبل والغنم من حرمها عليهم؟ الشيطان، والوصيلة التي تصل بطناً ببطن، أو تصلى أنثى بأخيها، يقولون: اتركوها للإله هبل، والبحيرة التي تعيش كذا سنة أو يفعلون كذا بها، يقولون: ابحروا أذنها واتركوها للات والعزى، والسائبة كذلك يسيبونها لأصنامهم.فمن فعل بهم هذا والله يقول: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة:103]، يقولون: هذا حرمه الله. فقال لهم: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] لا الذي حرمتموه أنتم بوسواس الشيطان.وخلاصة القول: ليس من حق أحد أن يحرم ما أحل الله، أو يحلل ما حرم الله، لم؟ لأن الملك الحق هو الله، كل ما في الأرض له، ما أذن فيه أحله، وما لم يأذن فيه حرمه، فهل يتدخل شيخ أو إمام ويقول: هذا ما ينبغي، لا تأكلوه، وهذا كلوه؟ فقد نازع الله في منصبه، نازع الله عز وجل في سلطانه، العبيد عبيده، وهو الذي يحل لهم ويحرم، وهذا جاء يريد أن يحل لهم ما حرم الله أو يحرم عليهم ما أحل الله، فنازع الله في الملك وفي الألوهية والعبادة والربوبية، هذا أقبح إنسان؛ الذي ينصب نفسه هذا المنصب.
معنى قوله تعالى: (إنه لكم عدو مبين)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، لم؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، ما معنى: مبين؟ ظاهر العداوة، لا تسفك دماء على الأرض بين بني آدم إلا والشيطان هو العامل، لا يتم خناً ولا زناً ولا رباً ولا كذب ولا باطل ولا شر ولا خيانة للأمانة ولا خلف للعهد، وكل الجرائم إلا وهو الذي زينها، أما قال أمام الله عز وجل: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]؟ لولا الشيطان فالإنسان بفطرته يكره الخيانة، يكره الكذب، يكره الظلم، ما تميل نفسه إليه أبداً، حتى يأتي هذا العدو بجيشه ورجاله، ويحسن ويغش ويخدع، وويل للغافلين.إذاً: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، هل يجوز لك أن تمشي وراء عدوك، السكين في يده أو البندقية ليدفنك تحت الجبل، وأنت تمشي وراءه، أين عقلك، أين يذهب بك؟ فلهذا إذا شعرت بخاطر يدعو إلى معصية الله والرسول فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وعاكسه، قم صل، حتى في الغضب حين يوقد النار في قلبك ويظهر الحمرة في عينيك وينتفخ أوداجك فهو نفخ فيك، فماذا تصنع؟ قل: الله أكبر وادخل في صلاة نافلة، فإنه يتمزق.فهل عرفت البشرية أن الشيطان عدوٌ لها؟ ما عرفت، الكفار من أين يعرفون؟ الجهال كيف يعرفون؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، أي: بين العداوة ظاهرها.
تفسير قوله تعالى: (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)
المراد بالسوء وبيان علة أمر الشيطان به
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، ثلاث سيئات من أقبح السيئات:الأولى: يأمركم بالسوء، وهو ما يسوء إلى النفس البشرية، فيلوثها ويخبثها ويعفنها وينتنها، حتى تصبح كأرواح الشياطين، لأن الله أصدر حكمه فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].إذاً: لكي يسعد بوجود بني آدم معه في عالم الشقاء، وهو يتبجح بينهم ويعقد أيضاً حفلة عظيمة، يعقد احتفالاً عظيماً في النار، وتجتمع عليه البشرية، وإليكم نص كلماته بالحرف الواحد، فالله قد علم ما سيقول، وكتبه قبل أن ينطق، جاء من سورة إبراهيم عليه السلام: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ [إبراهيم:22]، ماذا قال؟ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، الله أكبر! لولا القرآن فكيف سنحصل على خطبة تقال في عالم الشقاء؟ فالحمد لله.والله! إنها بالحرف الواحد، وإن كنت تشك في وجودك فشك في هذه الكلمات: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ [إبراهيم:22]، ودخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، واستقرت الأحوال، يقوم خطيباً، ويوضع له السرادق، كما تعرفون عن الزعماء حين كانوا يخطبون أيام الاشتراكية. فماذا يقول؟ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22]، فكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) تطرده ألف كيلو، فأي سلطان له؟ هل تشعر أنه يقودك إلى المعصية؟ كلا، بل تزيين فقط. وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، ما هو إلا أن أدعوكم وأنتم تمشون ورائي وتأتون إلي: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، إذاً: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].وأخيراً ييئسهم: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ [إبراهيم:22]، أي: بمزيل صراخكم، فيصرخون إلى الأبد، وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22]، أنا أبكي وأندب فهل ستنفعونني؟ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22] أشركوه من قبل أم لا؟ كل من عبد غير الله عبد الشيطان؛ إذ هو الذي دعا إلى ذلك وزين وحسن. إذاً: هنا ثلاثة أفعال: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، أولاً: السوء: وهو ما يسوء النفس البشرية، ويجعلها تهبط إلى مستوى الحيوانات أو الشياطين في الخبث، كيف هذا؟ الكذب، الخيانة، السرقة، الكبر، العجب، الحسد، تلك العلل هي السوء، ما يسوء، الآن تقوم إلى الشيخ وتبصق في وجهه وتسبه، وتقول: اسكت يا وهابي يا ملعون، فماذا يحصل؟ تحصل إساءة بهذا أم لا؟ هذا هو السوء.
المراد بالفحشاء
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ [البقرة:169] هل هناك أفحش من اللواط؟ ما عرفت البشرية من عهد آدم إلى عهد قوم لوط هذه الجريمة، حتى الشيطان علمهم إياها في كز يهم، فهل هناك أقبح من هذه؟ ما هناك أبداً، بل الحيوانات ما تفعلها، هل رأيتم فرساً ينزو على الفرس الذكر؟ هل زكجمل ينزو على الجمل؟ هل الكلب ينزو على الكلب؟ لا أبداً، ولكن الشيطان لما زين هذه الفاحشة وحسنها بلغنا أن أنزية موجودة في أوروبا، أندية اللوط، من يفعل هذا؟ هذا عدوكم، زين الفحشاء، والفحشاء بعد اللواط الزنا، فالزنا أفحش فاحشة: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، لو لم يكن فاحشة بالفطرة فمن الذي يرضى أن يز ى بأخته أو بأمه أو بامرأته؟ وإن كان فاجراً فإنه ما يرضى، النفس ما تقبل هذا، ولكن الشيطان يحسنها ويحمل عليها ويسوق إليها. قالوا: لفظ الفحشاء إذا أطلق فالمراد به الزنا واللواط، وأطلق لفظ الفحشاء على البخل في آية واحدة من كتاب الله من سورة البقرة: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] أي: بالبخل. فلم كان البخل فاحشة؟ لو كنا نعيش أيام الفطرة السليمة فإن الشخص إذا كان في يده أو بين يديه طعام وقلت له: أريد أن آكل معك فأنا جائع، فقال: لا؛ فكيف تنظر إليه؟ ما كانوا يعرفون البخل، إذا زاد عنك طعامك أو شرابك وهذا يموت بالعطش أو بالجوع فما تستطيع أن تمنعه. فلهذا من أصيب بهذه المحنة والشيطان غرسها فيه يصبح من أفحش ما يقول قوله هذا ومنعه. الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] أي: إذا أنفقتم، يقول: إذا أخرجت ما في جيبك الآن تصاب بالفقر، فلا تنفق، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] بالبخل.
عظم خطر القول على الله بغير علم
والثالثة من عظائم المعاصي: القول على الله بدون علم: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] هذه أعظم، ولم كانت أعظم؟ القول على الله بدون علم هو الذي يفسد الدين، ما الذي أفسد الديانات الإلهية؟ والله! إنه للقول على الله بدون علم، كاليهودية، النصرانية، الصابئة، والإسلام ما هبط إلا حين قال الناس بآرائهم وعقولهم. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] ومن قال على الله بدون علم أباح الحرام أو حرم الحلال أو عطل كذا وكذا، وفي سورة الأعراف آية اشتملت على أصول المفاسد، والأولى منها أخف، والثانية أشد، والثالثة أشد، ثم الرابعة، والخامسة أعظمها، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].مرة أخرى: ما أفسد دين الله -سواء في المسلمين أو في غير المسلمين- إلا القول على الله بدون علم، فلهذا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول: هذا حرام أو حلال إلا إذا علم، ولا أن يقول: واجب أو جائز أو ممنوع أو بدعة حتى يعلم. وقد تقولون: معنى هذا أنك ألجمتنا بلجام؟ فأقول: أي نعم، نلجمكم خيراً من أن نهلككم. وشيء آخر: لو التزمنا بألا نقول إلا بعد علم ما بقي جاهل بيننا، كلنا نطلب العلم، لكن ما دام الواحد منا يقول كما يشاء فلماذا يتعب وينقطع ليطلب العلم، لماذا يرحل إلى البلاد الفلانية؟ قل بعقلك وكفى، ولهذا في قول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] قلنا: حقيقة هذه الآية أنه ما يبقى جاهل في العالم الإسلامي ولا جاهلة أبداً، لم؟ لأن من كان عالماً هو عالم، وإذا سئل يجب أن يعلم، ومن لم يكن عالماً يجب عليه أن يسأل، وحرام أن يبقى بدون علم، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]، لكن من بين لنا هذه الآية، وما عرفناها إلا بعد قرون مضت، فالقرآن لا يقرأ إلا على الموتى، وإذا سمعوا الشخص يقول: قال الله يغلقون آذانهم، وما يسمعون.
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ...)
والآن مع المشركين في مكة وحولها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا آبَاءَنَا [البقرة:170] أي: ما وجدنا عليه آباءنا. وهذا عندنا في القرى، في المدن، في الضواحي، في القاهرة، في العالم الإسلامي، صاحب السنة والبيان يقول كذا فيقولون: لا، نعمل كما يعمل علماؤنا، أنت وهابي، أنت من كذا، هل آباؤنا كلهم كانوا ضلالاً ما يعرفون إلا أنت تعرف؟ هذه هي، فمن يمليها؟ الشيطان. وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:170] في كتابه وعلى لسان رسوله، سواء قيل هذا لليهود أو النصارى أو للعرب والمشركين، فيحتجون بماذا؟ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170] ما نحن في حاجة إلى دين جديد. وهذا هو واقع البشر. فقال تعالى منكراً عليهم مستفهماً استفهام إنكار وتأديب: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا [البقرة:170] يتبعون آباءهم ولو كان آباؤهم جهالاً ما يعرفون ولا يعلمون؟ أعاقل يقول هذا؟ تتبع أباك وإن كان ما يفرق بين الكاف والياء ولا الكوع والبوع؟ أهذه حجة؟ فالتقليد الأعمى حرام، لا يحل لك أبداً أن تمشي وراء أعمى، أين يصل بك؟ إلى الحفرة، امش وراء ذي بصيرة وعينين، قلد عالماً، أما أن تقلد جاهلاً فلا، هكذا ينكر الله تعالى علينا، وانتفع بهذا خلق لا يحصون عدداً، من عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في القرون الذهبية ما كان أحد مقلداً آخر إلا قال الله وقال رسوله، لكن عرف العدو هذا وأماتونا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
نعود إلى الشرح للبركة من جهة، ولتقرير القضية من جهة ثانية. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: الحلال: هو ما انحلت عقدة الحظر عنه ] أي: المنع منه، [ وهو ما أذن الله تعالى فيه ] من قول أو فعل أو أكل أو شرب أو اعتقاد، الحلال ما انحلت عقدة المنع والحظر منه، فلو سئلت عن الحلال ما هو؟ فهو الذي انحلت عقدة الحظر منه. وهنا اختلف أهل العلم: هل الأصل في الأشياء التحليل أو التحريم؟ منهم من قال: الأصل في الأشياء الحل حتى ينزل وحي بالمنع، ومنهم من قال: لا، الأصل في الأشياء المنع حتى يأتي إذن بالفعل، وهذه الآية شاهد للآخرين، فالحلال: ما انحلت عقدة الحظر عنه؛ إذ كان محظوراً.ثم قال: [ الطيب: ما كان طاهراً غير نجس ولا مستقذر تعافه النفوس ] كما شرحنا.[ خطوات الشيطان: الخطوات: جمع خطوة، وهي المسافة بين قدمي الماشي، والمراد بها هنا: مسالك الشيطان وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم.عدو مبين: عداوته بينة، وكيف وهو الذي أخرج أبوينا آدم وحواء من الجنة ]، هل هناك عداوة أكثر من هذه؟ يطرد أباك وأمك من دارهما وتقول: ما هو عدوي؟ قال: [ وأكثر الشرور والمفاسد في الدنيا إنما هي بوسواسه وبإغوائه ] أنا قلت أولاً: ما سالت قطرة دم إلا وهو الذي أسالها، ما من ذنب إلا وهو الذي دعا إليه.قال: [ السوء: كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر الذنوب.الفحشاء: كل خصلة قبيحة؛ كالزنا، واللواط، والبخل، وسائر المعاصي ذات القبح الشديد.ألفينا: وجدنا ]، وجاء في آية أخرى: مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان:21]، ألفاه على كذا: وجده على كذا.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: بعد ذلك العرض لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها، وهي الخلود في عذاب النار ]، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] لا بعد مليون سنة ولا مليار، بل خلود أبدي.قال: [ بعد ذلك العرض لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها، وهي الخلود في عذاب النار؛ نادى الرب ذو الرحمة الواسعة، نادى البشرية جمعاء ] لأن لفظ الناس عام، [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] وهو عطاؤه وإفضاله، حلالاً طيباً؛ حيث أذن لهم فيه، وأما ما لم يأذن لهم فيه فإنه لا خير لهم في أكله؛ لما فيه من الأذى لأبدانهم وأرواحهم معاً ]؛ لأن المحرمات في نفس الوقت تضر بالجسم، كالجيفة، الدم، ولحم الخنزير بإجماع الأطباء أنه يضر. وعندنا لطيفة: هل تعرفون الدياثة؟ لا أراكم الله، نجانا الله منها، نحن فحول نغار على نسائنا وبناتنا، بالتجربة وجد أن الذين يأكلون لحم الخنزير يفقدون الغيرة، ويصبح يرى امرأته يصافحها فلان ويقبلها وهو ميت لا حركة به، من أين ورثوا هذا؟ لأن هذه الدياثة من الخنزير، لا يغار على أنثاه أبداً.ودائماً نقول: ما عندنا كلام نقوله بدون علم، فالخنزير موجود في غابات في جبال في العالم، الخنزير ما يغار على أنثاه، والجمل يغار أم لا؟ يغار، وله هدير، والقط يغار، وسائر الحيوانات إلا الخنزير -والعياذ بالله- فغيرته ميتة، من أكل لحمه وعاش على لحم الخنزير يفقد الغيرة من نفسه.إذاً: عرفتم لماذا حرم الله عليكم الخنزير؟ قال: [ فإنه لا خير لهم في أكله لما فيه من الأذى لأبدانهم وأرواحهم معاً، ثم نهاهم عن اتباع آثار عدوه وعدوهم، فإنهم إن اتبعوا خطواته قادهم إلى حيث شقاؤهم وهلاكهم، وأعلمهم وهو ربهم أن الشيطان لا يأمرهم إلا بما يضر أبدانهم وأرواحهم. والسوء، وهو كل ما يسوء النفس، والفحشاء وهي أقبح الأفعال وأردى الأخلاق، وأفظع من ذلك أن يأمرهم بأن يكذبوا على الله فيقولوا عليه ما لا يعلمون فيحرمون ويحللون ويشرعون باسم الله، والله من ذلك بريء، وهذه قاصمة الظهر والعياذ بالله تعالى، حتى إذا أعرضوا عن إرشاد ربهم واتبعوا خطوات الشيطان عدوهم ففعلوا السوء وارتكبوا الفواحش وحللوا وحرموا وشرعوا ما لم يأذن به الله ربهم، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتبعوا -إذاً- ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. يا سبحان الله! يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ولو كان باطلاً وضلالاً؟ أيقلدون آباءهم ولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً من أمور الشرع والدين، ولا يهتدون إلى ما فيه الصلاح والخير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (109)
الحلقة (116)
تفسير سورة البقرة (75)
ندد الله عز وجل بالتقليد والمقلدين الذين يعطلون حواسهم ومداركهم، ويفعلون ما يأمرهم به رؤساؤهم، ويطبقون توجيهاتهم بتسليم تام، لا يعرفون لم فعلوا هذا ولم تركوا ذاك، ثم مثل سبحانه وتعالى حالهم بمثل عجيب، وهو أنهم حينما عطلوا قواهم العقلية واكتفوا بالتبعية صاروا كالأغنام التي لا تسمع من داعيها إلا مجرد الصوت، لكنها لا تفهم ولا تعي، وإنما تتجه إلى مصدر الصوت الذي ألفته دون تردد، حتى لو كان هذا النداء لها لتذبح.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت المبارك- ندرس كتاب الله عز وجل، ولنا رجاء أن يتحقق لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .وها نحن مع قول ربنا جل ذكره: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171].
أمر الناس بالأكل من الحلال الطيب دون المحرم
نعود إلى الآيات السابقة لهذه الآيات، وقد درسناها وما استوفينا كل معانيها، وهي قول ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:168]، وقد علمنا أن هذا نداء عام يشمل الكافر والمؤمن، والأبيض والأصفر والأحمر، فهو نداء لبني آدم أجمعين، والمنادي هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، الله الذي خلقهم وخلق هذه العوالم من أجلهم، خلقهم ليرى شكرهم ويسمع ذكرهم، ناداهم بهذا النداء العام فقال لهم: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168] إذ هو المالك لكل شيء، فما أذن فيه فهو الحلال، وما لم يأذن فيه فهو الحرام، هذه الأرض عبارة عن مائدة أوجدها الله لبني آدم وحواء، وقبل أن يتناسلا، وقبل أن يكثر هذا العدد من بنيهما أوجد هذه الأرض، فها هو ذا تعالى يقول لنا: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] على شرط أن يكون حلالاً طيباً.فما كان حراماً ممنوعاً منهياً عنه من قبله تعالى، إذ الملك ملكه والمخلوقات مخلوقاته، فما أذن في أكله أو شربه أو لباسه فليأكل عبد الله وليشرب وليلبس، وما لم يأذن بل نهى ومنع وحرم فلا يحل للآدمي أن يلبس أو يأكل أو يشرب ما لم يأذن له فيه سيده ومالك أمره، مع العلم اليقيني أن الله عز وجل ما نهى أو حرم إلا لما في ذلك المنهي عنه أو المحرم من الضرر والفساد بحيث يعود على فاعله بالضرر في الدنيا أو الآخرة. ما نهى الله تعالى عن شيء أو حرمه أو منعه إلا لما فيه من الضرر، أي: فيه ما يضر بفاعله، وإن شئتم حلفت لكم في ذلك، ما حرم الله قولاً ولا عملاً ولا فكراً ولا اعتقاداً إلا لأنه ضار بابن آدم، إن عاجلاً أو آجلاً، لا بد من الضرر. وإن قلتم: لم؟ فالجواب: لأنهم عبيده وهو خالقهم وسيدهم ومولاهم، وخلقهم من أجل أن يسمع ذكرهم له ويرى شكرهم له، فهو -والله- لأرحم بهم من أنفسهم. وأذكر هنا وتذكرون: أن امرأة في غزاة من الغزوات وقعت في السبي فطلبت طفلها فما وجدته، فاحترق كبدها وهاجت نفسها وأخذت تبحث عنه حتى وجدته، فضمته إلى صدرها وهي تبكي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل لأرحم من هذه المرأة بولدها )، لأرحم بعباده من هذه المرأة بطفلها، فكيف إذاً لا يمنعهم مما يؤذيهم ويفسد حياتهم عليهم؟ أما الذين ما عرفوا الله ولا آمنوا به -كما سيأتي حالهم في الآيات الآتية- فهم كالأموات، بل الأموات أحسن حالاً منهم، هذا بالنسبة إلى العقلاء البصراء أهل الإيمان والمعرفة. يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]، وهنا لفتنا النظر إلى أن من أراد أن يفتري فرية ويكذب كذبة وينمق ويحسن ويقول: نأتيكم بالبقلاوة، أو بالبطاطس من القمر أو من كوكب الزهرة أو عطارد لا يسمع لكلامه ولا يلتفت إليه، وإنه دجال كذاب، لأن الله قال: مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168]، فما كان خارج الأرض لا حق لنا فيه ولا يصل إلينا ولسنا من أهله. كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168]، وكلمة (طيب) نعت للفظ الحلال، معناه: غير مستقذر ولا مستخبث، فيوجد طعام مستقذر مضت عليه ليال فتعفن، وجدت فيه جراثيم، يوجد طعام خبث وتعفن، أو ألقي عليه بعض النجاسات، فلا تقولوا: هذا مما أحل الله، فالله قيد ذلك بقوله: حَلالًا طَيِّبًا [البقرة:168].
نهي الله تعالى الناس عن اتباع خطوات الشيطان
ثم وجه إليهم هذا النهي، بعد ما أذن لهم في الأكل وأباحه لهم لقوام حياتهم حذرهم من الخطر الأحمر، فقال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، يا بني آدم! يا أيها الناس! لا تتبعوا خطوات الشيطان، فهل للشيطان من خطا؟ أي نعم، ما يستطيع أن يأخذ بثوبك أو يضع السلسلة في عنقك ويقودك إلى المزناة أو إلى المخمارة أو إلى مجالس الباطل أو إلى سلوك الانحراف، هذا ما يقدر عليه وما هو شأنه، وإنما يمشي أمامك ويزين لك ويحسن لك ذلك القبيح، فإن مشيت وراءه فوالله! ما انتهى بك إلا إلى معصية ربك. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، إذاً: اعلموا -والعلم ينفع- أن كل ما حرم الله عز وجل من الاعتقادات والأقوال والأفعال على اختلافها وتنوعها؛ ما حرمها إلا لضررها وفسادها وما تنتجه لعباد الله من الضرر والأذى في الحياتين: في الدنيا والأخرى، وأن تلك المحرمات الشيطان مهيأ لدعوة الناس إليها وحملهم على إتيانها بالوسائل التي يملكها، ولا يملك سوى التزيين والتحسين، يجري الشيطان من ابن آدم مجرى الدم من العروق، ويتصل بقلبك محطة الإرسال والتلقي، وقد يفسد قلبك عليك، ويصبح يأمر وينهى وأنت تستجيب، واقرءوا توجيه الله عز وجل لنا لطلب المناعة والحصانة والحفظ من هذا العدو، اقرءوا قوله في آخر سورة من كتابه العزيز: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6].هذا هو القلب، وهو إذا ما استعذت بالله ولا لجأت إليه ولا احتميت بحماه؛ فإنه يرفع رأسه ويسيطر على قلبك ويملي ما شاء أن يملي، فإذا استيقظت وعذت بالله واستعذت انخنس، لأننا قررنا غير ما مرة أن قلوبنا كالمحطات للتلقي والإرسال، فمن عصمها وحفظها من الشياطين كانت تلك المحطة صالحة لتتلقى عن الله، وإن دمرها إبليس وخربها ما بقي لصاحبها شيء، واستدللنا بقول ربنا من سورة الأعراف: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ [الأعراف:200-201] طيف مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:201-202] إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]. فبهذا إن عملت حراسة كاملة لمحطتك فلن يصل إليها العدو ولن يفتنك ولا يفتن غيرك بك، وإن أنت أهملتها واحتلها وأصبح الذي يعطي ويأخذ فقد انتهى أمرك يا عبد الله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].اسمع: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الأعراف:201] اتقوا من؟ الله. كيف اتقوه؟ ما عصوه، ما أهملوا ما أوجب ولا غشوا وارتكبوا ما نهى عنه وحرم، هؤلاء جهازهم صالح للتلقي والإرسال، بدليل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، والرادارات الموجودة للحراسة في العالم إذا حومت طائرة العدو يتلقونها من أقصى البلاد لقوة هذه الأجهزة الرادارية، والمؤمن له هذا الجهاز، ذو الروح الزكية والنفس الطاهرة التي ما تلوثت بأدران الذنوب وأوساخ الآثام، هذه الروح في صفائها كالرادار الصالح للعمل، فبمجرد أن يحوم العدو يضربه. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202] ولا يقصرون في الذنوب والآثام. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168] جمع خطوة، وهي كل طريق إلى معصية الله ورسوله، تلك هي خطوات الشيطان، وهناك من سورة النور يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:21] هذا خطاب لأولياء الله، لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، وعندنا ملايين البشر والله! ليأمرون بالفواحش ويحسنون ويزينون ويظهرون في مظاهر الدعوة الصريحة إليها، فالذين يمشون وراء الشيطان يوماً بعد يوم لا يأتي زمن إلا وهم دعاة الباطل والمنكر.
الإخبار عن عداوة إبليس الظاهرة لبني آدم
ثم قال تعالى معللاً للنهي عن اتباع خطواته: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] بين العداوة ظاهرها، ومن هنا فإني أحلف بالله أنه ما ارتكبت جريمة على وجه الأرض من بني آدم إلا والشيطان هو الذي دعا إليها وحمل عليها، وقد عرفنا ببيان ربنا لنا أنه ناقم ساخط علينا لأننا السبب في شقائه وخسرانه، أليس هو الذي أخرج آدم من الجنة مع حواء؟ إذاً: وهو كيف أبلس وطرد من رحمة الله وأيس من الخير؟ بسبب ماذا؟ بسبب آدم، لما خلق الله تعالى آدم ومضى عليه أربعون سنة بأيامنا هذه، كما قال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، فكان إبليس يمر بهذه الصورة من ذاك الطين ويقول: إن لهذه شأناً، يتوقع أن يكون لها خطر عليه، فلما نفخ الله تعالى فيه الروح وأصبح آدم حياً يسمع ويبصر؛ أمر تعالى ملائكته أن يسجدوا لآدم تحية، السجود لله والتحية لآدم، كصلاتنا خلف مقام إبراهيم، الصلاة لله ولكن المقام تشريف له لما قدم من خدمة جلى لله في بناء بيته، فأمرنا الله أن نوقع هذه العبادة دونه: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فالصلاة لله.فسجود الملائكة لمن؟ لله؛ إذ هو الذي أمر به، والفضل والشرف لمن يحصل؟ لآدم، وأسجد له ملائكته، هذا العدو أبى أن يسجد تكبراً، وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف:12]، وعلل فقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، والنار أسمى وأشرف من الطين الهابط. وقالت العلماء: لقد أخطأ إبليس في نظريته هذه كما يخطئ أصحاب النظريات، أخطأ بدليل أن النار تحرق، أليس كذلك؟ والطين ينبت الزهور والفواكه وأنواع الخضر، فأيهما أفضل: النار أم التراب؟ التراب، والطين أفضل، فقاس قياساً أخطأ فيه، وما أصاب. إذاً: فلما أفلس ويئس من رحمة الله واجه الحق بما أخبر تعالى، فقال: فَبِعِزَّتِكَ [ص:82] يا رب لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83].فهاهو ذا تعالى يقول: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168] عداوته ظاهرة، كيف تستجيبون لندائه؟ كيف تمشون وراءه؟ كيف تأخذون في الخطوات التي يخطوها بكم إلى سخط الله تعالى ونقمته وعذابه؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، فمن سمع نداء الله وأجابه نجا، ومن أعرض عنه هلك كما سيأتي بيان ذلك.
دعوة الشيطان إلى السوء والفحشاء والقول على الله بغير علم
ثم قال تعالى: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169] هذه عظائم ثلاث، أولاً: يأمركم بالسوء، وهو ما يسوء إلى النفس البشرية، ما يسوء إلى الإنسان في عقله، في دمه، في بدنه، في ماله، في أخلاقه، لا يأمر إلا بما يسوء ويضر ويفسد، كما يأمر أيضاً بالفحشاء، وقد علمنا أن الفحشاء هو الذي قبح واشتد قبحه، فكل ما قبح وعظم قبحه واشتد فهو فحشاء، ولكن إذا أطلقت الفحشاء في القرآن فافهم أنها الزنا واللواط، وأطلقت مرة واحدة على البخل من سورة البقرة: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] أي: بالبخل لتبخلوا، وما عدا هذا فلفظ الفحشاء هو الزنا واللواط: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [النمل:54] في آيات قوم لوط.والثانية: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، هذه مدمرة أكثر من الأولى والثانية، والناس عنها غافلون. وَأَنْ تَقُولُوا [البقرة:169] ويأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، فتصفون الله بغير ما وصف به نفسه، وتقولون على الله بغير علم، وتحللون وتحرمون وتشرعون وتبيحون وتمنعون وتنسبون ذلك إلى الله، والله ما حرم ولا شرع ولا أمر ولا قال.فما وجه هذه الحقيقة؟ وجهها أنه لو أن كل إنسان التزم بألا يقول على الله إلا ما علم منه بواسطة كتبه أو رسله لما كان للجهل وجود بين الناس، نحن في ديارنا الإيمانية لو التزم أهل البلد أو أهل القرية بألا يقول الرجل ولا المرأة إلا ما علم، وما عدا ذلك لا ينطق ولا يتكلم ولا يفتي ولا يأذن؛ لوجدتمونا نطلب العلم نساءً ورجالاً وكباراً وصغاراً، فالذي حرمنا من طلب العلم أننا نقول بالجواز والمنع بدون إذن من الله، فلو خفنا من الله وعرفنا أن القول عليه من أكبر الذنوب وأعظم الخطايا لما تجرأ أحدنا أن يقول على الله بدون علم، وحينئذ أصبحنا مضطرين إلى طلب العلم، وقد جاء في سورة الأعراف بيان عظائم الذنوب في سلسلة، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33] لا فرق بين الزنا العلني أو السري، وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، الأولى أخف والثانية أعظم ثم الثالثة، وآخرها: القول على الله؛ لأن القول على الله يبطل شرائع الله، ما دام كل واحد يقول بما شاء وينسب ذلك إلى الله فما بقي تشريع ولا بقي علم ولا علماء، أكبر الذنوب أن يقول العبد أو الأمة على الله ما لا يعلم، فيقول: هذا حلال أو حرام، هذا يجوز، هذا ممنوع بدون علم. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فهذا مما يأمر الشيطان به ويحسنه ويزينه لأصحابه، فتهلك الأمة وتضل. فهذه الآيات درسناها فيما سبق.
تابع تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ...)
والآن مع قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:170] من هؤلاء؟ إنهم المشركون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ هم الذين حرموا السائبة والوصيلة والحامي، وقالوا: هذه نذرناها للآلهة لا يحل أكلها، وفيهم نزل هذا الخطاب: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168] إذ هو الذي حرم عليكم ما أحل الله لكم، فاخترعوا مذهباً أو طريقة أو تقنيناً وشريعة وقالوا: السائبة من الإبل والحامي من الجمال والوصيلة من النوق هذه لا تحل لنا؛ لأنها للآلهة، من حسّن لهم هذا؟ من زينه؟ من علمهم هذا؟ الشيطان، اتبعوا خطواته فوقعوا في هذا. إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، بدليل أنه قال تعالى لهم: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]، لا الذي حرمتموه أنتم أو مشايخكم أو رؤساؤكم أو أهل الديانة الباطلة عندكم، وإنما أنا أقرأ عليكم ما حرم عليكم ربكم، وذكر لهم عشر محرمات. وهنا قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:170]، يا عباد الله! أنتم عبيده أم لا؟ فاتبعوا ما أنزل في كتابه وعلى لسان رسوله من الواجبات والمستحبات ومن بيان المحرمات والممنوعات، فكان جوابهم: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170]، هذا هو الجمود والتقليد الأعمى، الرسول صلى الله عليه وسلم ورجاله ودعاته وأصحابه يقولون لهم: اتبعوا ما أنزل الله في العبادات، في الآداب، في الأخلاق، في الشرائع، في التقنين، في الحقوق، في كل شيء اتبعوا ما أنزل الله، فكانت حجتهم الباطلة: لا، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.
مرض تقليد الآباء والمشايخ في العالم الإسلامي
هذا المرض انتشر في أمتنا أيضاً بعد دخولها في الإسلام ورحمة الله، وأصبح الكثيرون يرفضون كل دعوة تأتيهم من طالب علم أو شيخ من مشايخ العلم، ويقولون: يكفي ما وجدنا عليه أهل بلادنا، فكم من بدع، فكم من ضلالات، فكم من صور واضحة للشرك بالله عز وجل، ويتمسكون بهذه الكلمة: حسبنا ما وجدنا عليه مشايخنا أو آباءنا وأجدادنا! فهذا القول أنكره الله وقبحه، فكيف يبين لك الحق وتقول: لا، نحن أهل هذا الإقليم أو البلاد ما عندنا هذا، نعيش على ما عاش عليه أجدادنا؟ ولكن هذا هو الواقع، لم؟ لأن الشيطان هو الداعي لذلك والحامل عليه والواقف على نشره ودفع الناس إليه. وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا [البقرة:170] لا، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170] وألفينا بمعنى: وجدنا. ألفيت فلان عند فلان: وجدته. والآن حين نقول لحكام العالم الإسلامي: اتبعوا ما أنزل الله في أحكامكم فطبقوا ما شرع الله لكم، يعتذرون: وجدنا الوضع هكذا، ما نستطيع تغييره، فهل هذه حجة؟ والله! ما هي بحجة، وإنهم لمؤاخذون. قد تقول: يا شيخ! لا تحلف، وأقول: قد أخذهم الله، فعن الفقر والذل والبلاء والمصائب والمحن لا تسأل، فهذه ثمرة ماذا؟ نتيجة الإعراض عن شرع الله عز وجل، والله! لو طبقوا شرع الله في بلادهم لسادهم أمن ما عرفته الدنيا، ولسادهم طهر ما عرفته الحياة، ولسادهم شبع ما عرفته أوروبا ولا غيرها، لكن حجتهم: ما نستطيع، ما عرفنا هذا، ما وجدنا كذا. ومن دفعهم إلى هذا؟ الشيطان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:168-170] قال تعالى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170]، أيقولون هذا ويحتجون به ويقفون عنده ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟نعم نحتج بما بين لنا آباؤنا ودعونا إليه وعشنا عليه إذا كان على نور من الله، إذا كان من كتاب الله، من هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا كان آباؤنا وأجدادنا عقلاء علماء بصراء.أما أن نحتج بآباء جهال وأجداد لا يعرفون الشرق من الغرب فكيف يمكن؟ هذه معرة كبيرة أن يقفوا هذا الموقف ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون إلى خير وإلى معروف أو إلى كمال. فهنا التقليد الأعمى محرم بيننا أيها المسلمون، التقليد: هو أن تقبل قول الغير بدون دليل ولا حجة ولا برهان، وإنما قال فلان، فلا بد أن نتبع العلماء العارفين بالله البصراء الذين أهلهم الله لمعرفة شرعه ودينه وبينوه للناس ودعوا إليه، أما أن نقلد من لا يعلم فهذا التقليد باطل وحرام، ويكفي هذا الإنكار الإلهي: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170]، ما وكلنا الله إلى الآباء ولا إلى الأجداد، بل وكلنا إلى كتابه، فإن قال العالم قولته ننظر: هل مصداقها في كتاب الله أو في سنة رسول الله؟ فإن وجدنا ذلك فأهلاً وسهلاً ومرحباً، فإن وجدناها فرية أو ضلالة أو جهالة ما وجدنا لها دليلاً من كتاب ولا سنة رفضناها وتبرأنا منها ولم نقبلها، لأننا أهل نور وبصيرة.
معنى قوله تعالى: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170]، فتقليد الجهلة حرام، تقليد الضلال حرام، تقليد العلماء بدون معرفة الدليل كذلك لا يجوز، لا بد من معرفة دليل هذا الحكم الذي قاله العالم، ومعنى هذا: يجب أن نكون كلنا علماء؛ لأن مصدر العلم قال الله وقال رسوله، ما يحتاج إلى بناية كليات ولا مدارس، في بيوت الله، في القرى، في الأرياف، في الجبال أهل القرية يجتمعون من المغرب إلى العشاء بنسائهم وراء الستارة وأطفالهم دونهن والفحول أمامهم، وليلة آية وليلة حديث مع الله ورسوله طول العمر، والله! ما يبقى جاهل ولا جاهلة وإن كانوا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، كما كان أصحاب رسول الله أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب أبداً، فقط حفظوا ما قال الله، فهموا معناه، عملوا به، ما هي إلا سنيات معدودة والقرية كلها نور، وإذا عمها النور نور العلم فهل يبقى فيها ظلمة الجهل: الزنا واللواط والربا والخيانة والكبر والعجب والسخرية؟ والله! ما كان ولن يكون. والبرهنة أننا دائماً نقول: أيما أهل قرية انظر إلى أعلمهم بالله وأتقاهم لله، وطبق من الآن، أيما أهل حي من الأحياء أعلمهم بالله أقلهم خيانة وكذباً وسرقة وفجوراً وباطلاً، ومن يرد هذا الكلام؟ فلهذا إذا علموا وعرفوا ارتقوا وسموا، وصلوا إلى الكمال الذي أعده الله لأمة الإسلام.
تفسير قوله تعالى: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ...)
والآن مع هذه الآية: مثل عجيب يروح على النفس: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:171] مع داعيهم إلى الله موجههم إلى الكمال والإسعاد في الحياتين، كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ [البقرة:171] نعق الغراب ينعق ونعب ونغق ونعق: إذا رفع صوته. كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ [البقرة:171] أي: ينعق ببهائم، بحيوانات لا تسمع، إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] أنت مع الغنم، مع البقر تتحدث، فهل تفهم شيئاً؟ لا تسمع ، إلا إذا قلت (وا) بأعلى صوتك. إِلَّا دُعَاءً [البقرة:171] والدعاء هو الصوت القريب، كدعائنا لله؛ لأن الله ما هو ببعيد منا، فنقول: يا رب.. يا رب! بدعائنا، ولا نناديه المناداة للبعيد، نحن ننادي الله أو ندعوه؟ هل قال تعالى: (ادعوا ربكم) أو قال: نادوه؟ هل في القرآن: نادوه؟ ادعوه لأنه معكم. كيف يكون معنا يا شيخ؟ إذا كانت الأرضون السبع والسماوات السبع يضعهما في كفه فأين البعد؟ نحن بين يديه، هو فوق عرشه بائن من خلقه، والخليقة كلها بين يديه، لا يخفى عليه من أمرهم شيء، فلهذا تدعو ربك: يا رب.. يا يا رب، يا الله، يا عليم، يا حليم، ما هناك حاجة إلى أن ترفع صوتك.وقوله: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ [الأنبياء:89] ناداه نداء خفياً: يا رب.. يا رب! هب لي من لدنك ذرية، والشاهد عندنا في لغة القرآن: أن النداء غير الدعاء، الدعاء للقريب والنداء للبعيد. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، إذاً: فيا أيها الداعي! تسلى، لا تحزن، لا تكرب، إن كنت تدعو كفاراً مشركين إلى الله فلا تفهم أنك بمجرد أن تقول: أيها الناس! أيها القوم! آمنوا وافعلوا فإنهم سيستجيبون، حالك معهم كحال من مع غنم أو بقر أو إبل أو حيوانات يدعوها ويناديها إذا كانت بعيدة، فلا تسمع إلا الدعاء إن كانت قريبة أو النداء، أما أن يفهموا عنك الحلال والحرام والطيب والخبيث والصالح والفاسد فما هم بأهل لذلك أبداً.وذكر ابن جرير معنىً لطيفاً لهذا أيضاً، قال: حال الكفار مع أصنامهم وآلهتهم التي ينادون ويعبدون ويتبركون ويذبحون ويعكفون حولها؛ كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء. وهو كذلك، لكن المعنى الأول هو أن مثل الداعي إلى الله مع الكفرة والمعرضين كالذي يدعو وينادي الصم البكم الذين لا يعقلون، فلا يحزن ولا يكرب وليواصل دعوته، لا يفهم أنه بمجرد أن يقول: أيها الناس! إن ربكم واحد فآمنوا به سيستجيبون، أنى لهم ذلك والشياطين قد أعمتهم وأصمتهم وحجبت عنهم كل نور وهداية؟ فتحتاج إلى مواصلة الدعوة وتلوين الأسلوب وتغيير النظام شيئاً فشيئاً عاماً بعد عام حتى تصل؛ لأن حالك وحالهم كما قال الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:171] بربهم وألوهيته، بلقائه، بكتبه، برسله، حجبوا حجباً كاملاً عن الله فلا يعرفونه ولا يعرفون أسماءه ولا صفاته، حالهم كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [البقرة:171] ويرفع صوته بما لا يسمع إلا دعاء أو نداء فقط، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] فكان المؤمنون وعلى رأسهم نبيهم يتسلون بمثل هذه، ما يحزنون، ما يكربون، ما يشتد ألمهم عندما ترفض دعوتهم ولا يجابون لها، لأن القوم هكذا، هذا شأن الكافر، أعماهم الشيطان وأصمهم وذهب بسمعهم وأبصارهم، فكيف يستجيبون لك؟ استعن بالله عز وجل وواصل دعوتك في حدود قدرتك وما تستطيع، والأمر لله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
لنستمع إلى شرح هذه الآيات، حيث قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: مثل: المثل: الصفة والحال ]، فلان مثله مثل كذا، أي: صفته وحاله كحال كذا.[ ينعق: يصيح، والاسم النعيق، وهو الصياح ورفع الصوت.[ الدعاء: طلب القريب؛ كدعاء المؤمن لربه: يا رب يا رب. النداء: طلب البعيد، كأذان الصلاة ]، يقول: حي على الصلاة على خمسة كيلو حول المدينة، فهذا نداء أم دعاء؟ وفي الحديث: ( قم فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً ) . [ والصم: جمع أصم، وهو فاقد حاسة السمع فهو لا يسمع.البكم: جمع أبكم، فاقد حاسة النطق فهو لا ينطق.لا يعقلون، أي: لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة الإدراك عندهم، وهي العقل ]، العقل أخذه الشيطان وصرفه كما شاء.
معنى الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة:لما نددت الآية قبل هذه بالتقليد والمقلدين ]، أما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170]؟ قال: [ لما نددت الآية قبل هذه بالتقليد والمقلدين الذين يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول لهم رؤساؤهم ويطبقون ما يأمرونهم به مسلمين به لا يعرفون لم فعلوا ولم تركوا؛ جاءت هذه الآية بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى أصبحوا كالشياه من الغنم يسوقها راعيها حيث شاء، فإذا نعق بها داعياً لها أجابته ولو كان دعاؤه إياها لذبحها ] وهو كذلك، [ وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي لا تدري لم دعيت، إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد الطويل والاتباع بدون دليل ].عندي مثل: الذين خرجوا عن مذهب أهل السنة والجماعة من الفرق والضالة والله! لهذه حالهم، لو كانوا عقلاء وقد سمعوا أن العالم الإسلامي هم أهل السنة والجماعة، هم أصحاب رسول الله وأتباعهم إلى يوم القيامة؛ فكيف سيعيشون متقوقعين هناك بمذاهب ومبادئ وكلام يمليه عليهم رؤساؤهم ومشايخهم ولا يسألون؟ هل جاءنا واحد وسألنا في ليلة من الليالي؟ أبداً. والله! لهذه حالهم، كيف يرون أن العالم الإسلامي هم أهل السنة والجماعة وأن الفرق الضالة منها الكافر ومنها الضال ولا يسألون؟ يقولون: وجدنا آباءنا هكذا، وتقليداً لمشايخهم، ولا يقولون: أين الدليل من قال الله وقال رسوله![ فقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:171] في جمودهم وتقليد آبائهم في الشرك والضلال كمثل غنم ينعق بها راعيها، فهو إذا صاح فيها داعياً لها أو منادياً لها سمعت الصوت وأجابت ولكن لا تدري لماذا دعيت ولا لماذا نوديت؛ لفقدها العقل. وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية، فهو مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلال الجامدين كمثل الذي ينعق ] بالغنم والإبل.
هداية الآية
هذا وفي الآية هدايات في ثلاثة مواضع: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية: من هداية الآية الكريمة:أولاً: تسلية الدعاة إلى الله تعالى عندما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلال ]، يتسلون بهذه الآية.[ ثانياً: حرمة التقليد لأهل الأهواء والبدع ]، صاحب بدعة وطالب هوى لا نقلده ولا نمشي وراءه ولا نتبعه أبداً.[ ثالثاً: وجوب طلب العلم والمعرفة حتى لا يفعل المؤمن ولا يترك إلا على علم بما فعل أو بما ترك ]، هذا واجبنا وهذا طريقنا.[ رابعاً: لا يتابع إلا أهل العلم والبصيرة في الدين؛ لأن اتباع الجهال يعتبر تقليداً ] والعياذ بالله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (110)
الحلقة (117)
تفسير سورة البقرة (76)
بعد أن ذكر الله حال الكفرة المقلدين لآبائهم في الشرك، وما أقدموا عليه من تحريم ما أحل سبحانه وتعالى من الأنعام، نادى هنا سبحانه وتعالى عباده المؤمنين آمراً لهم بأن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، وأن يشكروه على ما أنعم به عليهم من حلال اللحوم، ولا يحرموها كما حرمها مقلدة المشركين؛ لأنه ليس لهم إلا أن يحرموا ما حرمه الله عز وجل من ميتة ودم ولحم خنزير وما أهل به لغيره تعالى.
تحقق الكمال والطهر في تعلم الكتاب والحكمة في المساجد
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين المباركة- ندرس كتاب الله، آملين، راجين، طامعين في ذلك الموعود الذي جاء على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .ولم يرغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القضية بالذات؟ لعلمه أن هذه الأمة لن تكمل ولن تسعد، لن تسمو ولن ترتفع إلا إذا اجتمعت في بيوت ربها على كتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن طالبنا بالدليل وقال: ما البرهنة على ما تقول؟ نقول: أيام كانت هذه الأمة تتعلم الكتاب والحكمة في بيوت ربها من أهل الكتاب والحكمة بلغت من الكمال شيئاً -والله- ما بلغته أمة على وجه الأرض، كمال الطهر والصفاء، كمال العزة والكرامة والسمو والعلو والآداب والأخلاق، في خلال خمس وعشرين سنة فقط حملت راية الكتاب والسنة إلى ما وراء نهر الصين شرقاً وإلى ديار الأندلس غرباً، ولا تملك صواريخ ولا هيدروجين ولا ذرة، وإنما إيمان صادق ويقين ثابت ومعرفة، علم بالكتاب والسنة. ومن أراد أن يرد علينا فليتفضل، فليجمع أهل قرية من قرى العالم الإسلامي سواء كانوا عرباً أو عجماً، يجمعهم بنية أن يتعلموا الكتاب والحكمة ليزكوا ويسموا ويطهروا، ويجمعهم بنسائهم وأطفالهم وذلك كل ليلة وطول العام من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، ويجلس لهم رباني يعلم الكتاب والحكمة كجلوسنا هذا، ليلة آية والتي بعدها حديث، الليلة آية والتي بعدها حديث طول العام. ولينظروا: فإن بقي جهل فليطالبونا بغرامة، وإن انتفى الجهل فوالله! ما يبقى زناً ولا قمار ولا رباً ولا سرقة ولا تلصص ولا حسد ولا بغضاء ولا كبر ولا ظلم، ويصبح أهل تلك القرية كأنهم أسرة واحدة متحابين في الله، متآخين في دين الله، متعاطفين متراحمين برحمة الله، وتعالوا بالعالم ليشاهد من بعيد أنوار تلك القرية. وقد جربتم الشيوعية والاشتراكية والمبادئ الغربية، فأين وصلت هممكم وأخلاقكم وآدابكم وعزتكم وسيادتكم أيام كنتم تقولون: اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها؟ أرونا عزنا وكمالنا وسعادتنا وطهرنا وصفاءنا، هل هناك من يرد على هذا غير المجانين؟ أما العقلاء فحاشاهم. إن لله سنناً لا تتبدل ولا تتغير، واقرءوا دائماً: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، ومن ثَمَّ فالطعام يشبع، ترقت الشعوب ووصلت إلى القمر فهل استغنوا عن الطعام، فما أصبح الطعام يشبعهم لا خبز ولا تمر ولا لبن؟ والنار تحرق، فهل تعطلت هذه السنة وأصبحت النار ما تحرق؟ والحديد يقطع، فهل أصبح الحديد الآن ما يقطع؟إن لله سنناً لا تتبدل ولا تتغير شاءها كذلك، ومن ذلك سنته في أن من عرف الله فأنتجت له المعرفة حب الله فأحبه، أنتجت له خوف الله فخافه؛ فإنه بذلك يستطيع أن يستقيم على منهج الحق والعدل والخير والطهر والصفاء، سنن لا تتبدل أبداً. ونطالب ببرهنة: فنقول: هيا نذهب إلى أية قرية من قرى العالم الإسلامي في صدق، فنجد أن أعلمهم بالله أتقاهم له، أقلهم شراً وفساداً، وأن أجهلهم بالله ومحابه ومساخطه أكثرهم فسقاً وفجوراً وخيانة وكذباً، فمن يرد؟ لم إذاً؟ ما الذي يمنع أمة الإسلام أن تعود إلى بيوت ربها؟ تحمل نساءها وأطفالها ساعتين من المغرب إلى العشاء فقط يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم، ما المانع؟ ما وجدنا لذلك مانعاً أبداً، رأينا اليهود، النصارى، البوذيين، المشركين، الشيوعيين، الكل إذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة يقف دولاب العمل، لا مصنع ولا متجر ولا مطعم ولا مقهى، وتذهب تلك الجماعات من النساء والأطفال والرجال إلى الملاهي، إلى المقاهي، إلى الملاعب، إلى المساخط، ولا لوم فإنهم أموات: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]. فما المانع لنا؟ هيا نجرب في قرية فقط، فإن قيل: ما نستطيع، قلنا: لم ما نستطيع؟ ما الذي يقف في وجهنا؟ هل التجارة تتعطل، هل الصناعة تقف؟ إن أرباب التجارة والصناعة الذين نجري وراءهم ونقلدهم يوقفون أعمالهم مع غروب الشمس، لم ما قالوا: تعطلت تجارتنا وصناعتنا؟
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ...)
وها نحن مع هذه الآيتين من كتاب الله من سورة البقرة، فهيا نتلوهما.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:172-173].هذه لو يكررها أهل المسجد ثلث ساعة ويحفظها الأطفال والنساء والرجال ويفهمون معناها ويطبقونه فستتغير الحياة رأساً على عقب، يصبحون خلقاً غير هذا الخلق الهابط، عرف العدو هذا، المجوس واليهود والنصارى عرفوا هذا منذ ألف سنة، عرفوا أن الروح التي بها الحياة هي القرآن العظيم، أن النور الذي به الهداية إلى السعادة والكمال هو القرآن، فصرفوا المسلمين بالسحر والتدجيل والحيل، صرفوهم عن القرآن، وأصبح القرآن لا يقرأ إلا على الموتى، لا تسمع من يقرأ القرآن إلا إذا كان في البيت ميت، وهل أفقنا؟ ما أفقنا. أينزل الله كتابه يحمل العلم والمعرفة والهداية ونعرض عنه ونقرؤه على الموتى؟ لم لا نجتمع عليه في بيوت ربنا ندرسه ونتعلمه؟ لعلنا ما نحن في حاجة إلى هذا، حسبنا كليات العلم ومدارس التربية، أهذا يكفي؟ إليكم صورة ربانية: ماذا تعرفون عن رسول الله؟ أليس هو الذي أنزل عليه القرآن؟ أليس الذي أمر ببيان القرآن وتفسيره؟ يقول يوماً لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( يا ابن أم عبد ) يكنيه تدليلاً له، ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن. فيعجب عبد الله ويقول: سبحان الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. وأخذ عبد الله يقرأ بإلهام، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] حتى بلغ قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] وإذا بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان وهو يقول: حسبك ) . أين أمة الإسلام؟ أين مظاهر الكمال فيها؟ الآن الركض المتواصل بين طلبة العلم وبين الأمة بكاملها -إلا من رحم الله- على الأكل والشرب والنكاح، إذاً: أصبحنا كالآخرين، ما نستطيع أن نتفرغ ساعة بأبنائنا ونسائنا لنسمع كلام الله ونحثهم ونحضهم على فهمه وتطبيقه والعمل به، لأنه سلم كمالنا ورقينا في الدنيا والآخرة.
علة نداء المؤمنين بلفظ الإيمان ومقاصده
اسمع هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:172] لبيك اللهم لبيك، أما نادانا؟ هل نقول: لا، ما نحن بمؤمنين؟ أعوذ بالله! عبد الله بن مسعود يقول لنا: إذا سمعت الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك، أعطها أذنك. لم يا عبد الله ؟ لأنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. وهل أنت ترضى بفقدان الخير أو بحلول الشر؟ إذاً: كيف لا تسمع؟ناداهم بعنوان الإيمان، لم يا أبنائي؟ لأن المؤمن حي كامل الحياة يسمع، يبصر، ينطق، يعي ويفهم، يأخذ ويترك، قادر على أن يفعل لأنه حي، لو كان كافراً ميتاً فلن يناديه ولن يكلفه، فهو ميت، أتضع بين يديك ميتاً وتأخذ تأمره: قم صل، قم اغتسل من جنابتك، أد حقوقك؟! فلكمال الحياة يناديهم الله عز وجل إما ليأمرهم بما فيه خيرهم، أو لينهاهم عما فيه شرهم، أو لينذرهم عما فيه مخاوف لهم وعواقب سوء، أو يبشرهم بما يزيد في فرحهم وسرورهم، أو ليعلمهم، أما أن يناديهم لا لشيء فتعالى الله عن اللهو واللعب، تعالى الله علواً كبيراً.
أمر المؤمنين بالأكل من طيبات الرزق
فماذا قال لهم الآن؟ ماذا قال لنا؟ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] أولاً، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] ثانياً إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]. كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، والطيبات جمع طيب، ما الطيب يا أبنائي؟ الحلال، وهو ما انحلت عقدة الحظر منه وأصبح مأذوناً فيه من مالكه مباحاً، هذا هو الحلال. كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] هل من رازق غير الله؟ المرأة تقول: أنا الذي طهوت الطعام وأنا الذي فعلته، نقول لها: وأنتِ من خلقكِ؟ يداك من شغلهما؟ عقلكِ من قاده؟ من علمكِ؟ ما هو إلا الله.
معنى قوله تعالى: (واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] من لم يشكر نعم الله ما عبد الله، وقد عرفنا أن علة الحياة بكاملها وسر هذا الوجود الذكر والشكر، أراد الله عز وجل أن يذكر ويشكر فأوجد هذه العوالم وأوجد البشر ليذكروه ويشكروه، فمن أعرض عن ذكر الله تمزق وتلاشى، ومن كفر نعم الله تمزق وخسر نهائياً.أما الذكر فمعروف، الصلاة التي نصليها نفتتحها بذكر الله: الله أكبر، ونختمها بـ(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، وما بين الافتتاح والسلام كله ذكر: الله أكبر، سبحان الله، قراءة القرآن، كله ذكر.إذاً: وأعظم من هذا أننا نحن -المؤمنين بحق- الذين ننادى لا يمكن أن تمضي الساعة والساعتان على أحدنا ولا يذكر الله أبداً، إلا إذا نام فقط، القلوب والألسنة متفقة متواطئة، يذكر القلب فيتبعه اللسان، ويذكر اللسان فيتبعه القلب؛ لأن ذكر الله غذاءنا الروحي، لأن ذكر الله حصننا الحصين، لا تستطيع الشياطين أن تدخل على قلب صاحبه يذكر الله، ولا تحتله أبداً، والذين يتركون ذكر الله تحتل الشياطين قلوبهم وتعبث بها كما شاءت. وقد تقول: يا شيخ! كيف هذا الكلام؟ فأقول: الذي يجري إلى معصية من دفعه؟ من حسنها؟ من زينها إن لم يكن الشيطان؟ وقد عرفتم أن الخناس ذاك الذي يوسوس، فإذا لاح في الأفق (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) انخنس وانكسر وسكت، ما يقوى، وعرفنا أن أهل التقوى التي هي طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر فيما أمر الله به ونهى عنه، هذه الطاعة هي التي تزكي النفس البشرية وتطيبها وتطهرها، بمعنى أن ما نقوم به من عبادات يزكي أنفسنا يغسلها ينظفها يطهرها، وما نتجنب من المعاصي والذنوب وغير ذلك من الذي يخبثها ويدسيها، فإذا اتقينا الله وخفنا منه فعملنا بما أمر وتركنا ما نهى عنه وزجر احتفظنا بطهارة أرواحنا، احتفظنا بزكاة نفوسنا، فإذا جاء العدو يريد أن يغزوك تلوح على الفور أنوار التقوى فيشاهدها فيهرب، كالرادار الممتاز الآن في مطاردة العدو، ولنقرأ لذلك دائماً: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202] إخوان من؟ إخوان الشياطين، فهل يصبح الآدمي أخاً للشياطين؟ أي نعم، إذا تزيا بزيهم ونطق بمنطقهم ولبس لباسهم وعمل عملهم فهو واحد منهم، أما قال تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [هود:119].
حقيقة الشكر
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] وحده، فما هو الشكر؟ نريد أن نشكر، فما هو الشكر؟ الشكر مادته مأخوذة من الظهور، شكرت الدابة: إذا ظهر سمنها بالعلف الذي قدمته لها، شكرت فهي شكور، فالشكر -إذاً- إظهار النعمة، وذلك يتم بثلاثة أمور: أولاً: الاعتراف للمنعم بقلبك ولسانك، ما هذا الثوب الذي ترتديه؟ من الله، ما هذه السيارة التي تركبها؟ من الله، ما هذه المرأة التي في بيتك؟ من الله، كل شيء من الله لا من زيد أو عمرو، فالاعتراف بالنعمة لله، فما بنا من نعمة إلا وهي من الله. ثانياً: الاعتراف باللسان بأن تحمد الله عز وجل على نعمه، أكلت فقل: الحمد لله، شربت فقل: الحمد لله، ركبت الدابة والسيارة فقل: الحمد لله، نزلت فقل: الحمد لله، نمت فقل: الحمد لله، استيقظت فقل: الحمد لله، وتتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستيقظ من النوم فيقول: ( الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور )، ( الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي ). وما رفعت مائدته بين يديه بعد الفراغ من الأكل إلا قال: ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ).فالشكر: الاعتراف بالنعمة للمنعم أولاً. ثانياً: النطق بها وحمده والثناء بها عليه. ثالثاً: صرفها فيما يحب، فمن صرفها فيما يكره فوالله! ما شكر، وكيف تصرف النعمة فيما يحب الله؟
كيفية شكر نعمة العلم
هيا نبدأ بالنعم القائمة عندنا، نعمة العلم نعمة، إذاً: شكرها كيف يتم؟ هل في المقاهي والملاهي؟ هل في قضاء العطلة في لندن؟ بم يتم شكر الله على نعمة العلم؟ أولاً: بالعمل به. ثانياً: بتعليمه غيرك، فإن لم تعمل به فأنت كافر النعمة -والله- وجاحدها، أين هي النعمة؟ فإن عملت ولم تعمل فأنت أيضاً غير معترف بفضلها ولا بكمالها ولا بأجرها ولا بحسناتها، لم لا تعلمها؟ وهكذا أصبح العالم في القرية في المدينة في أي مكان يعلم ويعمل ويعلم.
كيفية شكر نعمة الصحة البدنية
ننتقل إلى شكر القوة البدنية، فهذه نعمة أم لا؟ لو مرضت يوماً فقط عرفت قيمتها، هذه النعمة من أعظم النعم، صحة البدن والقدرة على القول والعمل، هذه النعمة كيف نشكر الله تعالى عليها؟ أولاً: الاعتراف بأن هذه الصحة من الله عز وجل. ثانياً: نحمده في كل مناسبة: الحمد لله.. الحمد لله. ثالثاً: ألا نعمل بها معصية من المعاصي. ونبدأ من ذلك باللسان، لا تغتب مؤمناً، لا تسب مؤمناً، لا تؤذ مؤمناً، لا تنطق ببذاء، لا تنطق بسوء أبداً، حتى تشكر نعمة الله على المنطق والنطق. ونعمة العين انظر بها إلى كتاب الله، انظر بها إلى الآيات الكونية، انظر بها الطريق إلى بيتك، انظر بها إلى كتابك الذي تقرؤه، انظر بها إلى أولادك لتحبهم وتفرح بهم، أما أن تنظر بعينيك إلى ما حرم الله عليك فوالله! لأنت كافر بهذه النعمة، وما شكرت الله. وهل هناك أشياء غير مسموح لنا النظر إليها؟ أي نعم، كل محارم المؤمنين لا يحل النظر إليها، لا يحل لك أن تقلب عينيك في امرأة ليست من محارمك، وسواء كانت في الشارع أو في الطيارة، غض بصرك وطأطئ رأسك ولا تلتفت إليها، وما لك إلا النظرة الضرورية الأولى، وإلا فما شكرت نعمة البصر. والسمع نعمة أم لا؟ سلوا أهل الصمم: كيف حالكم؟ في كرب، ما يسمعون، فهذه النعمة كيف تشكر، هذه تشكر بسماع الحق، تشكر بسماع ذكر الله، تشكر بسماع كلام يفيد وينفع، أما أنك تصغي إلى عاهرة تغني أو إلى ماجن ساقط هابط يغني فوالله! ما شكرت هذه النعمة، لقد كفرتها وسيؤدي بك هذا الكفر إلى ويلات، قد تموت على سوء الخاتمة. وإن قلتم: ما هذا التشديد يا شيخ؟ قلت: أما عرفتم لماذا؟ إن أمريكا والصين واليابان وأوروبا والعالم آيسون من الصعود إلى الملكوت الأعلى والنزول في الفراديس العلا، آيسون بالمرة، ونحن نرجو ونأمل، إذاً: فإذا صمنا الدهر كله فذلك لا يضر، وإلا فكيف ترقى، كيف تخترق مسافة سبعة آلاف وخمسمائة سنة ساعة خروج روحك، كيف تنزل في الملكوت الأعلى؟ لو طلب منك أن لا تأكل فلا تأكل، أو أن لا تشرب فلا تشرب، أو أن تقف في مكان لا تتحرك فإنك تقف، لم؟ لأن الغاية عظيمة. ومع هذا فما حرمه الله علينا من السماع وكلام البذاءة ما منعه إلا لأنه يلوث أرواحنا ويخبث نفوسنا ويحول بيننا وبين حب الله ورضاه. إذاً: عرفتم الصحة البدنية، إذا مررت بأخيك يحمل حملاً ثقيلاً فاحمل معه ساعده، وإذا كنت ما تستطيع فادع له بالعون من الله عز وجل.
كيفية شكر نعمة المال
وننتقل إلى نعمة الدينار والدرهم، فهذه نعمة معروفة أم لا؟ هي السلم لعيشنا وحياتنا، والله يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، حياتنا تقوم على الدينار والدرهم، به نشتري اللباس والطعام والسكن والمركوب ونعالج المريض، هذا تدبير الله عز وجل، لو صرف قلوب البشرية في يوم ما عن الدينار والذهب والفضة فإنها تكسد وتصبح أوساخاً فقط، وعندنا علم اليقين أن يوماً -والله- قريباً سيخرج فيه أحدنا بصدقة الذهب فما يجد من يقبلها، والوقت قريب جداً. إذاً: هذا المال الذين يشترون به ما يسمونه بالصحن الهوائي كان يساوي مبالغ مالية طائلة ما يملكها أمثالنا، يبلغ خمسين أو ستين ألفاً، فعرف العدو الماكر إبليس وجنده أن هذا ما يفسد على هذه الأمة عقولها ولا قلوبها، ونحن نريد دمارها وخرابها، فأنزلوا ثمنه حتى أصبح بألفي ريال أو بثلاثة، وأصدر فتيا ربانية إلهية سماوية أعلم أهل الأرض -فيما نعرف- وأتقاهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بحرمة هذا، ووزعت الفتيا وكتب في الجرائد، وإخوانكم الهابطون يتحدون الله ورسوله والمؤمنين، وبعضهم فقراء ولا تشعر إلا والدش على السطح، البيت الواحد فيه أربعة أو خمسة بحسب السكان في المدينة، فهل المؤمنون عرفوا الله حقيقة؟ أنا في حيرة، المؤمن يقول كلمة فيرتبك ويضطرب، ويبحث ويقول: كيف وقعت هذه المحنة؟ بكيف بهذا الذي يتحدى، وتحدوا أيضاً حكومة القرآن، وأصدرت بياناتها وأبطلتها، وهم إلى الآن يتحدون. نعرف مؤمنين في القرى إذا قال الشيخ: هذا حرام يبتعد عنه نهائياً وهو أمي، يقول: أنا سألت فقال الشيخ: ما يجوز هذا، فما يدخله بيته! ونحن ندعي العلم والمعرفة والصناعة ونتحدى الله ورسوله والمؤمنين، فهل يجوز؟ واسمعوا وبلغوا: لو دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيتك وفيه عاهرة تغني أو ماجن راقص يرقص، فماذا تقول؟ وفي مدينته وتحت رايته: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، هذه -والله العظيم- وحدها لو وعاها ذو وعي أو معرفة لمزق هذا، وإن أكره بالتعذيب والضرب فإنه يهاجر ولا يتحدى رسول الله ويغضبه. والله! لقد كتبت كتاباً بالعبارات التي سمعتم، وأعطيناه لصاحب دش مقابل المسجد النبوي، ولا أدري من هو هذا، فوالله! ما التفت ولا تغير، وقلت لكم: والله! لو كان يهودياً لخجل واحترم هذا الكتاب والكلام وتركه، فهل عرفتم وضعنا أم لا؟ إننا منحدرون، ما علة هذا يا شيخ؟ الجهل بالله، مؤمن مقلد، اسأله عن الله، ما عرفه، فكيف يحبه أو يخافه. لكن المحنة أن يعرف أن هناك علماً وعلماء يجب أن يسألهم ولا يسأل، والله تعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وجاهد نفسك، إذا قال عالم: هذا باطل فلا تجعله حقاً أبداً. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] نعمه الظاهرة والباطنة بالاعتراف بها وحمد الله بالألسن عليها وبإنفاقها في محابه وإبعادها عن مساخطه، إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ألستم تدعون تقولون: إننا مؤمنون؟ تقولون: لا إله إلا الله أم لا؟ تقولون: لا نعبد إلا الله؟ إذاً: إن كنتم كذلك فاشكروا الله، ومن قال: لا فقد كذب.
تفسير قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ...)
ثم قال تعالى وهو يعلم ويربي عباده المؤمنين به، يقول لهم: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، هذا الذي حرم أو حرم رسوله باسم الله، ككل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور، فما هذه المحرمات الممنوعة المحظورة التي لم يسمح لنا ربها ومالكها بأن نأكلها؟ أربعة: أولاً: الميتة، فالحيوان المأكول اللحم كالأنعام من الإبل والبقر والغنم والأرانب والغزلان إذا مات بدون عملية التذكية فهو ميتة، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يأكلها، لم؟ فيها جراثيم فيها أمراض فيها كذا، حاشاه سبحانه أن يحرم شيئاً لا خطر فيه ولا ضرر، والله! ما كان، وإن كابر الأطباء الدنيا. الثاني: الدم، ما هو الدم؟ هو القاني الأحمر، هذا الدم الذي يتجمع إذا ذبحت الشاة أو البعير أو البقرة ووضع له إناء يجمع فيه، أما الدم مع العظام مع اللحوم فما فيه شيء، الدم المسفوح المصبوب صباً، فهذا الدم المسفوح حرام، أما المختلط باللحم والعظم فلا شيء فيه. الثالث: لحم الخنزير، حرمه لم؟ لأنه يورث الدياثة، والديوث لا يدخل الجنة، بهذا أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الديوث هو الذي يرضى الخبث في أهله، والذي يأكل لحم الخنزير ويتربى عليه يصبح ديوثاً، يقدم امرأته أو أخته للآخر وهو يبتسم، أما رأيتموهم في أوروبا يكونون جالسين في المرقص فيقول لزوجه: قومي ارقصي مع فلان، أو يأتي فلان فيأخذها يقول: تعالي نرقص، ويرقص مع امرأة فلان وهو جالس؛ لأنهم أكلوا الخنزير ففقدوا الفحولة والمروءة. وعندنا كلمة نبلغها للنساء حفظناها عن عائشة أمنا قالت: الديوثة من النساء التي يسمع صوتها الضيف في حجرتها. فبلغوها، الديوثة من النساء من هي؟ التي يسمع صوتها ضيف زوجها في حجرته وهي ترفع في صوتها. والله تعالى أسأل أن يحيي قلوبنا وأن يردنا إلى الصراط المستقيم حتى نعرف الله ونحبه ونخشاه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (111)
الحلقة (118)
تفسير سورة البقرة (77)
إن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا الطيب، ولا يرتضي لعباده المؤمنين إلا الطيب من المآكل والمشارب، لذلك فإنه سبحانه قد أحل لهم الطيبات من هذه المآكل والمشارب وحرم عليهم الخبيث منها، فلم يأذن لهم بأكل الميتة ولا الدم المسفوح ولا الخنزير؛ لأن هذه كلها تحمل نجاسة عينية، كما حرم عليهم أكل ما أهل به لغيره سبحانه لأنها تحمل نجاسة معنوية، أما من اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فإن له ذلك على قدر الحاجة والإبقاء على حياته ولا يزيد على ذلك.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله راجين أن ينالنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا يا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين. وقد انتهى بنا التفسير إلى هذه الآيات المباركات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:172-173].شرعنا في دراسة هذه الآيات في الدرس السابق، وإليكم خلاصتها:
نداء المؤمنين لشرفهم
أولاً: من المنادي بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:172]؟ إنه الله جل جلاله وعظم سلطانه، ومن المنادَى؟ نحن المؤمنين والمؤمنات، فلنذكر هذا ولا ننسه، وهو شرف وأي شرف أن ينادينا رب السماوات والأرض وما بينهما، رب العالمين. وقد علمتم -وزادكم الله علماً- أن سر هذا الشرف هو الإيمان، لو ما كنا مؤمنين لما كنا أهلاً لينادينا عز وجل، ولكن إيماننا هو السبب، وعلة ذلك أيضاً أن المؤمنين أحياء يسمعون نداء ربهم ويجيبونه، إن أمرهم فعلوا وإن نهاهم تركوا وإن علمهم علموا، وإن بشرهم استبشروا، وإن حذرهم حذروا؛ لكمال حياتهم.
أمر المؤمنين بالأكل من طيب الزرق وشكر الله الرزاق
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] هذه منة أخرى امتن بها علينا؛ إذ أذن لنا بأن نأكل من طيبات ما رزقنا، والمشركون الوثنيون الجهال الفاسقون أكلوا ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما وضعوه لآلهتهم الباطلة وأوثانهم الملعونة، وحرم عليهم مشايخهم ما أحل الله، فحرموا السوائب وما إلى ذلك مما كان المشركون يحرمونه على أنفسهم. أما نحن -المؤمنين- فقد آمنا بالله وبلقائه وبكتابه الذي أنزله على رسوله وهو هذا الكتاب، فنحن أذن لنا بأن نأكل من الطيبات، جمع طيب، وهو ما كان حلالاً غير مستقذر، الطيب: ما كان حلالاً، أي: أذن الله لنا في أكله أو شربه، وكان غير مستقذر، ما فيه قذر ولا وسخ، لا بد من الجمع بين الحلية وبين الطيب، وإن كان فيه أوساخ وقذر فما نأكله إلا في حالة الضرورة كما سيأتي. قال تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] من الرازق؟ الله. وإياك أن يخطر ببالك أن هناك رازقاً سوى الله، فجميع المأكولات والمشروبات من خلقها؟ من أوجدها؟ من سخرنا لطلبها والحصول عليها؟ من أذن لنا في تناولها؟ إذاً: كل ذلك من رزق الله، فكلوا مأذوناً لكم من طيبات ما رزقناكم، وبعد هذا فاشكروا إذاً، أم أنك تأكل الغلة وتسب الملة كما تقول العجائز من العرب والمسلمين، أيجوز هذا؟ تأكل وتشرب ولا تقول: الحمد لله، أيصح هذا؟ أي جحود وأي كنود وأي إساءة أدب أعظم من هذ؟ تجلس على مائدة أخيك فتأكل وتشرب بإذنه وبعد ذلك لا تقول شيئاً! فهذا لن يصح عقلاً أبداً. إذاً: فبما أنه أذن لنا في الطيبات التي رزقناها أمرنا بشكره.
أركان الشكر
وقد عرفتم الشكر زادكم الله معرفة، الشكر يتكون من ثلاثة: أولاً: شكر القلب، اعترف بقلبك بأن هذا الطعام أو الشراب أو الكساء أو المركوب أو المسكن هو من الله. ثانياً: ترجم عن ذلك الذي وقع في قلبك بكلمة: الحمد لله، عندما تنظر إلى النعمة وتعرف أنها من الله المنعم بها لا تجد بداً من أن تقول: الحمد لله .. الحمد لله، أما الغافل الذي لا يعترف بالمنعم فكيف يحمده؟ إلا إذا قلد المؤمنين وكان يقول إذا فرغ من الطعام: الحمد لله، فنحن لا نقلد، نحن أولاً ننظر إلى النعمة ومن أنعم بها علينا، فنجد أنفسنا مضطرين إلى حمده وشكره والثناء عليه، فلا نلبث أن نقول: الحمد لله. وهكذا من أكل من شرب من لبس من ركب، كل من حصلت له نعمة فليعترف بها في قلبه أولاً ثم يعلن عنها بلسانه بكلمة: الحمد لله. ثالثاً: أن يصرف تلك النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها عليه، وهنا وقفنا وقفات، والخلاصة: أن نعمة المال شكر الله تعالى عليها أن لا تنفق درهماً واحداً في معصية الله، أيعطيك أخوك السلاح لتقاتله؟ فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينفق درهماً واحداً وهبه الله وأعطاه إياه في معصية الله، لا في خمر ولا زناً ولا لباس ولا سفر، أنعم الله عليك بهذه النعمة فأنفقها حيث أذن لك في إنفاقها، أما أن تتحداه وتنفقها ضده وهو ساخط غير راض فإنك تحارب الله، ولولا حلمه لسلبها فور إعطائك، فأحلم به تعالى!فهل فهم السامعون والسامعات؟ هل يجوز لمؤمن أو مؤمنة أن يشتري ما حرم الله ليلبس أو يركب أو يأكل، والله! لا يجوز. ثانياً: نعمة البدن، عرفنا أن صحتك نعمة جلى، فلا تبدد طاقة من طاقاتك في معصية الله ولو أن تمشي خطوات إلى معصية، وسمعك بصرك نطقك لسانك يداك رجلاك كل هذا نعمة الله عليك، فإياك أن تنفقها في سخطه وعدم رضاه، ومعنى هذا: لا تمش إلى باطل ولا إلى منكر ولا تسافر إليه، ولا تنظر إلى محرم ولا تسمعه ولا تتكلم به ولا تتناوله بيدك ولا تمش إليه برجلك. قد يقال: قيدتنا يا شيخ! فأقول: أي نعم، نحن -كما تعرفون- وقف على الله، وأنتم تعرفون الوقف، كعمارة هي وقف على طلبة العلم، هل يجوز أن تنفق في غيرهم؟ وقف على المهاجرين، هل يعطى مالها لغيرهم؟ وقف على مسجد، هل يعطى لغير المسجد، ونحن وقف أم لا؟ وآية الوقف هي قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، هذا الأمر للرسول وأتباعه وراءه أم لا؟فصحتنا وقف على الله، فالذي يبيت ساهراً أمام فيديو أو تلفاز ينقل الباطل ويعرض الشر والسوء هل يجوز أن ينظر إليه بعينين وهبه الله إياهما، هل يجوز أن يصغي ويسمع الباطل والمنكر وقد وهبه الله سمعه، هل يجوز أن يضيع الساعة والساعتين في غير خدمة الله وطاعته؟ والله! ما يجوز. إذاً: ماذا تريد منا يا شيخ؟ أريد أن نكون أولياء الله، وهل هناك مرتبة أسمى أو أعلى منها؟ نريد أن نكون أولياء الله، لا نأكل ولا نشرب ولا نسمع ولا ننظر ولا نأخذ ولا نعطي ولا ننام ولا نستيقظ ولا نأكل إلا من أجله ووفق مراده، ومن زلت قدمه منا فغلط استغفر وتاب وعاد إلى ربه، إلى متى؟ حتى تدق الساعة وننتقل إلى الملكوت الأعلى. إذاً: ونعمة العلم بم يكون شكرها؟ بعد الاعتراف بها وحمد الله عليها يكون بالعمل بهذا العلم الذي علمك الله، ثم بتعليمه سواك من عباد الله، اشكر هذه النعمة ولا تكفرها، أما عالم يعرف كل شيء ولم يعمل فأي علم هذا؟ هو أجهل الخلق، يعمل ولا يعلم غيره ويجحد هذا العلم ويكتمه، هذا كفر هذه النعمة وما بينها وما شكر الله عليها، وبهذا ينتشر العلم بين المؤمنين المؤمنات، فمن علم شيئاً علمه غيره.
استلزام عبادة الله تعالى شكر نعمه
إذاً: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] لا لغيره إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] . وقوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] هذا تذكير، إذا كنتم تعبدون الله إذاً فاشكروه على ما أولاكم ووهبكم وأعطاكم، ولأن النعم كلها تدور على الذكر والشكر، ما من عبادة -سواء كانت من أعمال القلوب أو أعمال الألسن أو الجوارح- إلا وهي مظهر من مظاهر ذكر الله وشكره. فبما أنكم تعبدونه إذاً فشكره عبادة، فكلوا من طيبات ما رزقكم واشكروا له هذه النعم بذكره وصرف النعمة في مرضاته.
تابع تفسير قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ...)
معنى قوله تعالى: (وما أهل به لغير الله)
ثم قال تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، وهو الذي ذبح باسم غير اسم الله، والإهلال: رفع الصوت، كما يقال في هلال رمضان: انظر فقد طلع الهلال. فالذي يذبح الشاة أو الطير أو العصفور ويقول: باسم فلان، هذا لا يؤكل ما دام بغير اسم الله ولو كان سميناً نظيفاً صالحاً والتذكية جيدة وراقية، ما دام أنه ذكر اسم غير اسم الله فلا يحل أكله، لم؟ تقدم أن قلنا: حين نشرب نقول: باسم الله أم لا؟ حين نأكل نقول: بسم الله أم لا؟ لولا إذنه لنا فهل سنفعل؟ وقلنا: لا يحل لرجل يشعل سيجارة ويقول: باسم الله، فهو كاذب، أو يتناول الخمر ويقول: باسم الله، أو يتناول المحرم من الطعام ويقول: باسم الله، هذا كذب على الله، فما دام أنه تعالى قد حرم ما أهل لغير الله فكيف يأكله والله ما أذن به، هذا سمي عليه آخر، فإن كنت عبد هذا الذي سميت له فنعم، ولكن ما أنت بعبده، أنت عبد الله وهذه نعمة الله. وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173] إذ كانوا لا يقولون: باسم الله، ولكن بالعزى أو مناة أو كذا، ولما بعدنا عن القرآن ودراسته وما فيه وأصبحنا نقرؤه على الموتى فقط عم الجهل العالم الإسلامي، أصبح المؤمنون والمؤمنات -والعياذ بالله تعالى- يذبحون لغير الله، فشاة لسيدي عبد القادر ، وعجل لسيدي البدوي ، هذا شائع في العالم الإسلامي، هو عند الذبح يقول: باسم الله، ولكن لمن هذه؟ هذه لسيدي فلان، حتى بلغ بنا الجهل والهبوط أن المرأة في القرية أيام كنا نستولد الدجاج من بيضه ونتركه لأمهاته، كانت المرأة تضع تحت الدجاجة عشر بيضات ثم تحلق على واحدة بالفحم معلمة وتقول: هذه بيضة سيدي عبد القادر، هذه بيضة سيدي مبروك أو سيدي البدوي، لم يا أماه؟ حتى يحفظ الله هذه البيضات وتفقس عن فراخ ولا تفسد ولا تصاب بالمرض. إلى هذا الحد! ويغرس الرجل غرساً فيجعل منطقة كلها زيتوناً ويجعل فيها شجرة لسيدي فلان، والله! إنهم ليغرسون النخيل ويقولن: هذه نخلة سيدي فلان، فهم يمشون وراء أهل الجاهلية خطوة بخطوة ولا غرابة ولا عجب، فمن علمهم؟ ما عرفوا، الشياطين تحسن وتزين وتعلم والناس معرضون وغافلون وجهلاء. فلهذا إذا قيل: هذه شاة سيدي البدوي فلا يحل لمؤمن أن يأكل منها قطعة لحم قط، هذا العجل لمن؟ لفلان، فلا يحل أبداً أن يأكل شيئاً منه، لقول الله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:173]، وقوله من سورة المائدة: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، والنصب: جمع نصب، وهو ما ينصب، كما بلغنا أيام أصبح عندنا زعماء في البلاد العربية أنهم نصبوا لهم تذكارات، ومن السنة إلى السنة يذبحون عندها، فهذا لا يحل أكله أبداً بنص كتاب الله.
ذكر أنواع الميتة
وفي آية المائدة ذكر تعالى أنواع الميتة فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، هذه كلها داخلة في لفظ الميتة مفصلة فقط؛ لأن حال الموت سيكون بالتردي من جبل أو من السطح إلى الأرض فيموت الحيوان، وأحياناً يكون موقوذاً بحجر أو بعصا فيموت، أحياناً يختنق بين شجرتين تدخل الشاة رأسها بين غصنين فما تستطيع أن تخرج رأسها فتموت، أو تكون مربوطة بحبل فتحاول أن تطلق نفسها فتختنق. فالموقوذة والمتردية والنطيحة تنطحها أختها بقرنها فتقتلها، وما أكل السبع، الذئب يجري وراءها فيأخذها، فهذه إن ماتت بدون تذكية فهي ميتة، من أدركها حية والحياة مستقرة فيها تستطيع أن تعيش بعدها وذكاها حلت له: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:3]، أما إذا وجدها وقد أيس من حياتها حيث فارقتها الروح وبقيت فيها بقية لا تنفع فهذه لا تذكى ولا تنفع، لا بد أن تكون الحياة مستقرة فيها وإن كان بطنها مفقوءاً. وإذا صاد الصائد حيواناً وقال: باسم الله وأطلق رصاصته، أو باسم الله وضربه بسيفه، فإن وجده حياً ذكاه وإن وجده قد مات فهو حلال، لكن لو وجده حياً فبدل أن يذكيه لوى رأسه وقطعه بيده فهذا ما يجوز، إن وجده حياً ذكاه، وإن وجده مات يأكله ولا حرج، هذا مشروط بأن يقول: باسم الله ويرمي، فإن لم يسم الله فلا يأكل.
معنى قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)
وقوله تعالى: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]، هذه عامة وتحتاج إلى بعض الحفظ، فمن الباغي هذا؟ هذا يتناول البغاة الذين يخرجون على إمام المسلمين، خرجوا عن الإمام وتحزبوا وتعصبوا بالجبال والطرق، وهم خارج البلد، هؤلاء إن جاعوا لا يأكلون الميتة ولا الدم ولحم الخنزير.الباغي: الذي يقطع طرقات المؤمنين وليس ضد الحكومة فقط، متسلط جبار يروع المسافرين ليستولي على ما عندهم ويقتلهم، هذا الذي في الطرقات يبغي على الناس هل يجوز له أن يأكل الحرام؟ لا يجوز، موته أولى، ما أذن الله له فيه، لأنه قال: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]، والعادي بمعنى: المعتدي، فإذا خرج لمخرج باطل وسوء ليقتل المسلمين أو يأخذ أموالهم أو يسلبهم ما عندهم فهذا المعتدي، فهذا إذا جاع لا يأكل الميتة. نظيره المسافر إذا سافر لمعصية الله، سافر باغياً أو عادياً، لا يحل أن يتيمم ولا أن يجمع الصلاة أو يقصرها؛ لأن سفره حرام لا يحل له ذلك السفر. ويدخل في قوله تعالى: (غير باغ) أن يأكل القدر الذي يسد رمقه ويقيم صلبه، ولا يشبع من الميتة أو الدم ولحم الخنزير، فإن طلب ما هو زائد على حاجته. كذلك الاعتداء إذا كان في غير حاجة ماسة إلى أكل هذه الميتة، ويدخل في الاعتداء أيضاً أنه لا يشبع ويمتلئ بطنه بالميتة أو بالمحرم؛ لأنه يأكل بالقدر الذي يحفظ حياته ليذكر الله ويشكره، فلا بد من هذا الاستثناء: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173] ظالم معتد متجاوز للحد، إلا أن مالكاً رحمه الله يرى أنه إذا أكل فلا بأس أن يشبع، لكن ليس رغبة في الأكل من هذا الحرام، وإنما يعرف أن الطريق والمسافة بعيدة ولا يمكنه أن يواصل سفره، فلهذا يأكل القدر الذي يستطيع أن يسافر به ويواصل سفره، بل أجاز بعضهم أن يأخذ منها لأنه يعلم أن الطريق بعيدة، فيأخذ هذا الفخذ من الشاة لكن لا على نية أن يأكله إلا إذا خاف على نفسه الموت؛ لأنه لا يحل له أن يأكل مما حرم الله إلا إذا خاف الموت والهلاك على نفسه، لا أن يأكله متلذذاً طالباً له، بل لا بد ألا يأكل إلا حفاظاً على حياته ليعبد الله ربه، هذا معنى قوله تعالى: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]، فإن كان باغياً أو عادياً فعليه الإثم وحرام أن يأكل المحرم، لا ميتة ولا دم ولا لحم خنزير. وعلل لذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173] غفور لمن تاب رحيم بعباده، ولولا رحمته ما أذن لهم ولقال: موتوا ولا تأكلوا.
حكم ترك المضطر الأكل من المحرم مفضلاً الموت على ذلك
وهنا السؤال: هل يجوز للمؤمن أن يموت وبين يديه جيفة ميتة أو لحم خنزير أو دم؟ الجواب: لا يحل له أن يرضى بالموت ولا يأكل، لم؟ لأنه عصى الله عز وجل، أذن الله له فقال: ما نأكل، فهذا تعدي أم لا؟ فلا يحل له أبداً أن يمتنع من الأكل حتى يموت أو من الشرب حتى يموت؛ لأن حياته لله؛ فكيف يقضي عليها لينقطع ذكره وشكره؟ فالله ما يرضى هذا لعباده، وحسبنا أننا نسمع قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173].
تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير
وقوله تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ [البقرة:173] لما أذن لنا في الحلال، وهو اللبن والشاي والبن والعسل والبطيخ والتفاح، وما أكثر الحلال، فمن الحكمة اكتفى بقوله: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]؛ لأن ذكر كل الحلال صعب ما يتسع له الوقت ولا الورق، والذي هو حرام محدود يعد، فذكر تعالى ما حرم علينا من المطاعم فقال: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [البقرة:173]، وهي كل ما مات حتف أنفه بدون تذكية له من بعير أو بقرة أو كبش أو أو دجاجة أو عصفور، كل المأكولات من الأنعام والطيور، اللهم إلا السمك والجراد، فميتة السمك وميتة الجراد أحلهما الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( أحل لنا ميتتان: السمك والجراد ) فكل ما مات حتف أنفه بدون تذكية فهو ميتة وحرام ولا يؤكل. ثانياً: الدم، بشرط بأن يكون سائلاً مسفوحاً، أما الدم الذي هو ممتزج مختلط باللحم والعظم فلا شيء فيه؛ لأنه من الصعب أن نصفي اللحوم ونزيل الدم، ما كلفنا الله بهذا، فالدم الحرام الذي يؤذي هو الدم الذي يسيل حين تذبح الشاة أو البقرة أو البعير، فكانوا يجعلون آنية تحتها ويجمعون الدم ويطبخونه. هذا الدم حرام، وعلة تحريمه ما فيه من الضرر والأذى، والله! إن فيه أذى وضرراً وإن أكله الكفار سمان الأجسام، فهم لا يعترفون، وإلا فهم يتأذون به، وسواء كان دم حيوان أو طير. قال تعالى: وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ [البقرة:173]، والخنزير حيوان معروف من أخبث الحيوانات، وهو ديوث، فلم لا نأكل لحم الخنزير؟ لأنه يورثنا الدياثة؛ لأنه الحيوان الوحيد الذي لا يغار على أنثاه، والديوث في الإسلام والمسلمين من يرضى الخبث في أهله، والديوث لا يدخل الجنة. وبلغنا عن أمنا عائشة أنها قالت: الديوثة من النساء تلك التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها. هذه أمكم تقول هذا، يا معشر المؤمنات! اسمعن عائشة تقول لكن: إن الديوثة من النساء هي التي ترفع صوتها حتى يسمعها ضيفها وهي في حجرتها. فلتكن أصوات المؤمنات منخفضة على قدر الحاجة، وحتى أصوات الرجال، فلا تبدد طاقتك فيما لا معنى له، أما قال تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19]؟ تكلم بصوتك على قدر الحاجة كريالك في جيبك تخرجه على قدر حاجتك تنفقها، فلا تبدد طاقتك فتتكلم بصوت عال، بل اخفض من صوتك وتأدب. هذا الفحل فكيف بالمرأة؟ فهي من باب أولى أم لا؟ لأن صوتها يتأثر به الفحل، ومن يمسح هذه الطبيعة والغريزة التي جبلنا الله عليها؟ صوت الأنثى في الحيوان يتأثر به ذكور الحيوانات، فصوت الأنثى في البشر يتأثر به الرجل، ونحن نحافظ على طهارة أرواحنا استعداداً للعروج إلى السماء، نخشى أن نموت والنفس خبيثة فيبطل عملنا ونهلك.
حرمة كل أجزاء الخنزير
إذاً: ولحم الخنزير حرام، وهل شحمه لا بأس به؟ النص يقول: اللحم؟ فما حكم الشحم؟الجواب: كل أجزائه محرمة، العظام والعصب والعنق والدم والجلد أيضاً، ينبغي ألا يوجد في ديارنا ولا نسمح بتربيته أو وجوده في بلادنا؛ إذ لا يحل أكله بأية صورة من الصور، وهل يوجد في المدينة خنازير؟ كلا. هل يوجد في المملكة خنازير؟ كل بلاد المسلمين يجب أن تطهر من هذا الحيوان، لا خير فيه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيتين
إذاً: نسمعكم دراسة هاتين الآيتين من الكتاب:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيتين الكريمتين: بعد أن بينت الآية السابقة حال الكفرة المقلدة لآبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله من الأنعام؛ حيث سيبوا للآلهة السوائب وحموا لها الحامات وبحروا لها البحائر؛ نادى الجبار عز وجل عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:172] أي: بالله رباً وإلهاً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً! كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57] وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172] ربكم على ما أنعم به عليكم من حلال اللحوم ولا تحرموها كما حرمها مقلدة المشركين؛ فإنه تعالى لم يحرم عليكم إلا أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره تعالى.ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلاك فأكل فلا إثم عليه، على شرط أن لا يكون في سفره باغياً على المسلمين ولا عادياً يقطع الطريق عليهم، وذلك لأن الله غفور لأوليائه التائبين إليه رحيم بهم لا يتركهم في ضيق ولا حرج ]، هذا معنى الآيات.
هداية الآيتين
في الآيتين هدايات إلهية: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيتين: من هداية الآيتين: الندب إلى أكل الطيبات من رزق الله تعالى في غير إسراف. ثانياً: وجوب شكر الله تعالى، وذلك بالاعتراف بالنعمة له وحده وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه. ثالثاً: حرمة أكل الميتة والدم المسفوح ] بهذا القيد، أي: السائل، لا العالق بالعظم أو اللحم، [ ولحم الخنزير ]، وقد عرفتم أن كل أجزاء الخنزير محرمة، [ وما أهل به لغير الله ] سواء كان عبد القادر أو اللات أو عيسى أو موسى عليهما السلام، كل ما قيل: هذا لفلان فهو له، إلا من قال: هذه لله فنعم. رابعاً: جواز الأكل من المذكورات عند الضرورة، وهي خوف الهلاك، مع مراعاة الاستثناء في الآية، وهو (غير باغ ولا عاد).خامساً: أذن النبي صلى الله عليه وسلم في أكل السمك والجراد وهما من الميتة، وحرم أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ]، فالذئب حلال أو حرام؟ له أنياب، والسبع النمر الفهد، وذوات المخالب من الطيور كالبازات، كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها، كل ذي ناب من السباع وذي المخلب من الطير. وما الفرق بين الميتة والميِّتة؟ هذه مسألة لغوية: ما الفرق بين الميِّت والميت؟ قالوا: الميت من انقطعت حياته نهائياً، وأما الميِّت فهو في حياة ما مات، ومن هنا قال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميِّت ميت الأحياء.والآية واضحة، فالميِّت يكون حياً ويموت، وأظهر من هذا كله قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، فهل لما نزلت الآية كان الرسول ميتاً؟ لكن بحكم أنه سيموت قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، فإذا أطلق لفظ الموت ننظر: فإذا كان بلفظ: الميِّت أو الميِّتة فما انقطعت روحه ولا انتهت حياته، فكلمة (ميِّت) يصح أن تطلق على حيوان مات، لكن الصواب أن تقول: ميت، أما الميِّت فما زال في الحياة ويموت فيما بعد. والدم مقيد، فما كل دم حرام، فهناك دم حلال، فقيد الدم هو المسفوح، ما معنى المسفوح؟ السائل، هل هذا الدم المسفوح من الشاة أو البعير أو البقرة حرم لضرر يحصل منه أو لا لشيء وإنما تعبداً فقط؟ الجواب: لضرر، لأن الجراثيم عندما تذبح الشاة والحيوان تخرج مع ذلك الدم فما تبقى في الجسم، فإذا ما ذبحت الشاة أو البعير بقيت تلك الجراثيم فيها، فحرم الله الميتة لما فيها من الضرر، فإذا خرجت مع الدم واحتسينا الدم أو طبخناه حصل نفس الضرر، فمن هنا من لطف الله ورحمته بعباده أنه حرم الميتة لما فيها من الضرر وحرم الدم المسفوح السائل الذي تخرج معه الجراثيم لما فيه من الأذى والضرر، وأما الشاة المريضة فتذبح وتؤكل، إذا ذبحها وسالت الجراثيم والدم أكلها. وما علة تحريم لحم الخنزير؟ الجواب: لأنه يورث الدياثة، وهي عدم الغيرة على الأنثى، فالحيوانات تغار على إناثها إلا الخنزير فلا يغار، إذاً: فالديوث من الرجال هو الذي لا يغار على امرأته أو أهله، وحكمه أنه لا يدخل الجنة، والديوثة من النساء تقول عنها عائشة هي التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها. ومعنى هذا أن نتأدب ذكوراً وإناثاً فلا نرفع أصواتنا إلا على قدر الحاجة، فإذا كنت تنادي بعيداً فارفع صوتك، أما رفع الصوت بغير حاجة فتبديد للطاقة وتبذير لما أعطاك الله، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19]. اللهم ارزقنا الأدب معك والأدب في طلب العلم يا رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (112)
الحلقة (119)
تفسير سورة البقرة (78)
يبين الله عز وجل حال اليهود ويندد بصنيعهم من كتمان لما أنزل الله من الكتاب والدين، وبيعهم له بعرض من الدنيا خسيس، جاحدين ما جاء به نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وإرضاء لأهل الشرك والنفاق، رغبة في عطاياهم وحرصاً على هداياهم، مخبراً سبحانه أن كل ما يأكلونه من ذلك إنما هو النار، مع ما يصاحب ذلك من غضب الجبار، فلهم الويل والبوار.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله نفسر آيات الله وكلنا رجاء في أن يتحقق لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم اجعلنا منهم. وها نحن مع هذه الآيات الثلاث من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:174-176].
سبب تسمية السور القرآنية
معاشر المستمعين والمستمعات! من المخبر بهذا الخبر؟ الله، هذا خبر وأي خبر! يقول الله جل جلاله وعظم سلطانه في كتابه العزيز القرآن الكريم الذي أنزله على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم من سورة تسمى سورة البقرة، وسميت سورة البقرة لأن لفظ البقرة فيها، فتسمى سور القرآن ببعض الكلمات التي تمتاز بها حتى تتميز عن باقي السور؛ لأن السور مائة وأربع عشرة سورة، فمن تدبير الله وحكمته أن جعل لكل سورة اسماً علماً عليها، فهذه السورة الجليلة العظيمة ذات الجزئين والنصف اسمها البقرة؛ إذ قال تعالى فيها عن موسى عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، هذا الخطاب موجه لليهود، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، وإذا ذبحتموها اسلخوها وخذوا قطعة لحم منها وقولوا: باسم الله واضربوا قتيلكم؛ فإن الله يحييه وينطق ويقول: قتلني فلان. وذلك لأنهم وقعت بينهم جريمة القتل، فاتهمت كل قبيلة الأخرى وكادوا يقتتلون، فمن رحمة الله بهم وإنعامه عليهم أوحى إلى عبده موسى أن يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67]، أعوذ بالله! أنجاس أجلاف قساة جهلة، كيف يخاطبون رسول الله بهذا؟ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]؛ إذ لا يستهزئ إلا جاهل، أما العالم العارف بربه فحاشاه أن يستهزئ أو يسخر من مؤمن، وسوف تكشف هذه الآيات عن حالهم، والشاهد هنا أنها سورة البقرة.
المراد بكتمان ما أنزل الله في الكتاب
إذاً: يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ [البقرة:174]، والكتمان: الجحود والستر والتغطية والإخفاء بشيء معلوم يغطونه، يكتمون ماذا؟ ما أنزل الله من الكتاب؟ وما المراد بالكتاب؟ إنه التوراة، والإنجيل والقرآن أيضاً، فمن كتم آيات القرآن لمصالحه ومنافعه فهو -والله- منهم، والنصارى إن كتموا ما في الإنجيل -وقد فعلوا- فهم -والله- منهم؛ لأن القرآن كتاب هداية عامة للبشرية كلها منذ نزوله إلى أن يرفعه مولاه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. نعم نزلت في أحبار اليهود: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ [البقرة:174]، والمراد مما كتموا صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونعوته المبينة له المظهرة له، كتموها جحدوها غطوها حتى لا يؤمنوا به ولا يتابعوه.
معنى قوله تعالى: (ويشترون به ثمناً قليلاً)
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174] يشترون بذلك الكتمان والجحود والتغطية، ويقولون: إن نبي آخر الزمان لم يظهر بعد وسيظهر، أما هذا الذي ظهر الآن فليس هو، راجع حاشية فلان، راجع تعليق فلان على التوراة، راجع شرح فلان. وهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويفسرون بغير مراد الله منه للإبقاء على المنصب من طاعة وإجلال ومال؛ ليعيشوا على حساب العوام الجهلة يكرمونهم يبجلونهم يطيعونهم يأتونهم باللبن والزبدة ويأتونهم بالطعام واللباس، فهم ساداتهم وأئمتهم ومشايخهم، وقد فعل هذا بين المسلمين، فعجب هذا القرآن! وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174] ويشترون بذلك الذي كتموه ثمناً قليلاً، فما قيمة ما يعطونه من عوامهم من الطعام أو اللباس أو المال أو التبجيل والتعظيم وتقبيل اليدين والرجلين، أي شيء هذا؟ ليس بشيء، هو ثمن قليل.
معنى قوله تعالى: (أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار)
واسمع: أُوْلَئِكَ [البقرة:174] البعداء الأشقياء التعساء الهابطون السفلة الجاحدون لآيات الله الغاشون لعباده، ما قال: هؤلاء، بل أشار إليهم بلام البعد، فما أبعدهم عن الخير والكمال! أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174]، فالبيض واللحم المشوي والبرتقال والموز، كل هذا هو عبارة عن نار في بطونهم، وسيئول هذا إلى نار يأكلونها عند موتهم، ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ومن سورة النساء قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] لمن هذه وفيمن نزلت؟ فينا أم لا؟ أيما مسلم يدعي الإسلام والإيمان ويصلي ويزكي ثم يأكل أموال اليتامى بدون حق ظلماً إما بالاختلاس أو بالسرقة أو بادعاءات فالويل له: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] ثم وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] . فلهذا كان أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب، وأكل ماله كالشرك وقتل النفس والسحر وعقوق الوالدين، يتيم فقد أباه امتحاناً من الله له ووكلك أنت بهذا الولد، سواء ابن أخيك أو ابن أختك أو عمك، فاحفظ ماله حتى يكبر ونمه وأنفق عليه في حدود ما يستطيع أن يعيش واحفظ له هذا المال، أما أن تستغله وتأكله ظلماً وعدواناً فهذا حرام، وأغلب الذين يتولون أمور اليتامى قبل هذه الإفاقة كانوا يأكلون أموال اليتامى إلا من رحم الله. ولا عجب: فالذين يقتلون المسلمون تعجب منهم؟ الذين يتعاطون سحر المؤمنات تعجب منهم؟ الذين يتركون الصلاة تعجب منهم؟ لا عجب، فهو الجهل، المال بين يديه يوفر ماله ويأكل من مال اليتيم، وشاهدناهم ورأيناهم. ما هي العلة؟ إنها الجهل؟ هل الجهل بالتقنية؟ بالسحر؟ إنه الجهل بالله تعالى وبمحابه ومساخطه وبما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، فالجاهل بهذه يفعل ما لا تتصور. دلونا -يرحمكم الله- على طريقة نذهب بها هذا الجهل عن المسلمين ونبعده من ديارهم ليستنيروا ويعودوا إلى ربهم فتزدان الحياة بهم ويصبحون هداة الخلق وأئمة البشرية.الطريق: أن يعرف المسلمون هذا الذي هبط بهم وسقط بهم من علياء كراماتهم إلى أسفل الأرض، فهذا الجهل يعرفونه أولاً كما عرفناه الآن، لا سعادة معه ولا كمال ولا هداية ولا طهر ولا صفاء ولا هدوء ولا استقرار أبداً، يعرفون هذا فيقولون: هيا نطلب العلم الذي هو معرفة الله ومعرفة محابه من عقائد من عبادات من أقوال، ومساخطه من ذلك، وما عنده وما لديه، فمعرفة هذا أيها المسلمون تتم لكم بأن تعترفوا أولاً بهذا، ثم تعزموا على ألا تغيب الشمس في دياركم إلا وأنتم في بيوت ربكم المساجد، النساء الأطفال الرجال، الأغنياء كالفقراء والمسئولون كغيرهم، الشمس غابت فأهل القرية كلهم في بيت ربهم، النساء وراء الستائر والأطفال دونهن والفحول أمامهم، والمعلم المربي أمامهم يتعلمون ليلة آية وأخرى حديثاً، وهذا هو الكتاب وهذه الحكمة، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفي كل القرى والمدن، المدن ذات المناطق، كل منطقة في المدينة أو كل حي كما يسمونه يوسعون مسجدهم حتى يتسع لأفراد الحي كلهم ذكوراً وإناثاً ويجلسون من المغرب إلى العشاء، يقف دولاب العمل فلا يبقى واحد في الشارع ولا في البيت، أين أهل الحي؟ في بيت ربهم، ماذا يريدون؟ يريدون رضاه، يريدون أن يحبهم يريدون أن يسعدهم ويكملهم يريدون أن يرفعهم وأن يعزهم بمعرفته التي توجد لهم حبه في قلوبهم أكثر من حبهم لأنفسهم، وتوجد لهم خوفاً في نفوسهم فترتعد فرائصهم إذا ذكر ربهم بين أيديهم، فضلاً أن يكفروا أو يكذبوا أو يفجروا، فهل فهم السامعون هذه اللغة؟ كم كررناها؟ بالله الذي لا إله غيره! لن يرتفع شعب ولا أهل إقليم ولا أهل بلدة ولا قرية ولا حي في العالم الإسلامي إلا من هذا المبدأ، اقبلوا أو لا تقبلوا، والبرهنة والتدليل كالشمس. ثم نقول: لم لا نفعل هذا؟ اليهود والنصارى والكفار والمشركون إذا غابت الشمس ودقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، إلى أين يذهبون؟ إلى المقاهي والملاهي والمراقص إلى نصف الليل، ولا لوم؛ فهم بهائم على الأرض لا هم لهم إلا شهوة بطونهم وفروجهم، والمسلمون لم لا يذهبون إلى ربهم، لا إلى المقاهي والملاهي، يجلسون في بيت مولاهم يستمطرون رحماته ويضفي عليهم آلاءه وإنعامه ورضاه، سنة واحدة وهم كلهم أولياء الله، فاختفى الفقر والظلم والفسق وسوء الأدب وأصبحت القرية كأنهم ملائكة في السماء، فلم لا نعمل هذا؟ ما وجدنا لهذا جواباً إلا أن نقول: كتب الله هذا!
معنى قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم)
إذاً: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:174]، والمراد من عدم التكليم: التكليم التكريمي والإكبار والإجلال والرحمة، أما مطلق التكليم فإنه يكلمهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] هذه كلماته أم لا؟ يقول لأهل النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، لا يكلمهم هنا تكليم تكريم وإعزاز وإكبار لشأنهم كما يكلم أولياءه، أما أعداءه فلا يكلمهم إلا تكليم الإهانة والتصغير والتحقير، فحين يصرخون في النار يقول: (اخسئوا)، كما تقول للكلب: اخسأ في مكانك، يقول لهم الله عز وجل: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُو هُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:108-110]، يسخرون بالمؤمنين الآن، فلا تلمهم يا شيخ لأنهم ما عرفوا، إي والله ما عرفوا، الذي عرف هل يسخر من سنة الرسول ومن شرائع الله ودينه؟ والله! ما كان، بل يرضى أن يصلب أو يقتل ولا يسخر من دين الله. لكنهم جهلاء، وهل جهلاء وهم يقرءون ويكتبون؟ نقول: وهل القراءة والكتابة هي العلم؟ فعدنا من حيث بدأنا، فنقول: تعالوا نتعلم، قالوا: ما نستطيع، نحن مشغولون من طلوع الفجر إلى المغرب، مشغولون بالدنيا. قال تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ [البقرة:174] أيضاً، لا يكلمهم ولا يزكيهم، ومعنى: ولا يزكيهم: أي: ولا يطهرهم من ذنوبهم وأوضارها حتى يدخلهم دار السلام، لا يزكيهم، تبقى أدرانهم وأوساخهم وذنوبهم عليهم حتى يعيشوا في جهنم ولا يخرجون منها.
معنى قوله تعالى: (ولهم عذاب أليم)
وأخيراً: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:174] الأليم: الموجع الشديد الإيلام، آلمه يؤلمه العذاب: إذا اشتد عليه، وما أطاقه، هذا العذاب ألوان، أتريدون صورة منه؟ يقول الشقي: عطشت، أريد ماءً، فيؤتى بقدح من الحميم، فما يدليه من فمه حتى تسقط جلدة وجهه! وفي آية سورة محمد: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، ماذا نعرف عن عذابهم؟ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21].أهل النار ما هم كذباب مثلنا حتى تقول: ضربة واحدة تكفيه، إن ضرس أحدهم -والله- كجبل أحد، لأن عرض جسمه أخبر به أبو القاسم فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر يوم القيامة في النار كما بين مكة وقديد )، ومكة وقديد بينهما مائة وخمسة وسبعون كيلو، هذا العرض فقط، لا تسأل عن الطول إذاً، فضرسه كجبل أحد، فلهذا يحترق ويعذب ملايين السنين فما يموت.
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار)
ثم قال تعالى في خبر بعد خبر: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:175] شروها بكتمان الحق، وصرف الأمة عنه ليعيشوا سعداء أغنياء مرفهين، باعوا آخرتهم بدنياهم: أُوْلَئِكَ [البقرة:175] البعداء الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:175]، الناس العقلاء يطلبون الهدى، وهم اشتروا الضلالة، أعطوا الهدى وأخذوا الضلالة! أبعدوا الهدى مرة واحدة، وأقبلوا على الضلالات يعيشون وينشرونها بين إخوانهم؛ من أجل أن يستمتعوا يوماً من الأيام في حياتهم بالطعام والشراب! قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [البقرة:175] شروا العذاب بالمغفرة أم لا؟ كل من فسق فجر كفر فقد اشترى الضلالة بالهدى، واشترى العذاب بالمغفرة، بدل أن يتوب إلى الله ويرجع إليه بعدما لاحت أعلام الحق وظهرت الهداية؛ أعرض عنها، فكان كمن اشترى الضلال بالهدى والعذاب بالمغفرة.وأخيرا : يقول تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175] ما أعظم صبرهم على النار! وإلا فكيف يقترفون هذه الذنوب، ويرتكبون هذه الجرائم ويعلمون أن مصيرهم هذا ويعرفونه، إذا:ً فصبرهم على النار عجب، فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175].إذاً: فمصيرهم إلى جهنم حتماً.
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ...)
ثم قال تعالى: ذَلِكَ [البقرة:176] الحكم الذي سمعتم بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ [البقرة:176] نزل القرآن بالحق والتوراة والإنجيل بالحق، وهؤلاء أعرضوا عن الحق وجحدوه وكتموه، وعملوا بالباطل وعاشوا عليه، إذاً: فهذا هو الذي حصل. تم ذلك ونفذ لأن الله أنزل الكتاب بالحق، والكتاب: اسم جنس، يدخل فيه القرآن والتوراة والإنجيل كما علمنا، وإن كان يراد به أولاً: التوراة، فنزل الكتاب بالحق ليبطل الباطل، فهم أعرضوا عن الحق وحرفوه وبدلوه، وأخذوا بالباطل، أما ينتقم الله منهم؟ ينزل كتابه ويعلمهم إياه ليهدوا به ويهتدوا به ويعاكسونه ثم يتركهم؟ لا بد من هذا العذاب، فهذا العذاب الشديد العظيم بسبب أنهم كتموا الحق الذي أنزل الله به كتابه.
خطر الاختلاف في كتاب الله وشريعته
وأخيراً: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176]، يخبر تعالى بأن الذين يختلفون في الكتاب في التوراة والإنجيل والقرآن في شقاق بعيد.كم بلغت فرق اليهود؟ إحدى وسبعين طائفة وملة، كم بلغت فرق النصارى؟ اثنتين وسبعين فرقة، كم بلغت فرق المسلمين؟ ثلاثاً وسبعين فرقة! ما سبب هذا؟ اختلافهم في الكتاب، يؤولون ويفسرون بحسب أهوائهم وأغراضهم الهابطة؛ فيحدثون الشقاق والخلاف ثم التناحر والدماء والقتال، ثم التعصب للمذهب وللطائفة وللقبيلة.سأكشف الغطاء عن بعض الأشياء، الروافض يقولون: عثمان وأبو بكر وعمر تمالئوا وجحدوا سوراً من القرآن الكريم! قالوا: الآيات التي فيها الثناء على آل البيت وحقوق آل البيت كلها كتموها وجحدوها! فهل اختلفوا معنا أم لا؟ إذاً: هل نحن معهم على اتفاق أو شقاق؟ وشقاق بعيد أو قريب؟ بعيد كما بين الشرق والغرب.فهذه آية واضحة، الذين يفسرون القرآن على أهوائهم إبقاء على مناصبهم، ويفسرون: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فيقولون: هذه عائشة! والشاهد: ما من قوم اختلفوا في كتاب الله إلا انشقوا وانقسموا، وأصبح شقاقهم بعيداً، فلهذا يجب على المسلمين أن ينكبوا على دراسة كتابهم، وتفهم وفهم ما فيه، حتى تتحد عقائدهم وآدابهم وأخلاقهم وشرائعهم وأحكامهم، ويصبحوا الأمة الرفيعة ذات الشأن، أما أن نحرف كلام الله ونفسر كما يبدو لنا حتى تتم الفرقة والتعصب للمذهب؛ فهذا هو الذي توعدنا الله به.اسمع: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176] فلهذا لا يحل لنا أن نختلف في كلمة واحدة في كتاب الله، ما عرفناه جهرنا به، وما لم نعرفه قلنا: آمنا بالله!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
معاشر المستمعين! الآن ندرس هذه الآيات الثلاث في الكتاب: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:يكتمون: يجحدون ويخفون.ما أنزل الله من الكتاب: الكتاب التوراة، وما أنزل فيه من صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به.لا يكلمهم الله: لسخطه عليهم ولعنه لهم ]، هذه هي العلة.[ ولا يزكيهم: لا يطهرهم من ذنوبهم؛ لعدم رضاه عنهم ]، فإذا زكاهم أدخلهم جنته.[ الضلالة: العماية المانعة من الهداية للمطلوب.الشقاق: التنازع والعداء؛ حتى يكون صاحبه في شق ومعاديه في شق آخر.بعيد: يصعب إنهاؤه والوفاق بعده ]، إذا كان الشقاق بعيداً بين الاثنين فيصعب تلافيه.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات:هذه الآيات الثلاث نزلت قطعاً في أحبار أهل الكتاب ] العلماء [ اليهود، تندد بصنيعهم، وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه، بيعهم له بعرض خسيس من الدنيا، يجحدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ودينه إرضاء للعوام؛ حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعداتهم المالية، وحتى يبقى السلطان الروحي عليهم، فهذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174].وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار، إذ هو مسببها، ومع النار غضب الجبار، فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.كما أخبر تعالى عنهم في الآية أنهم -وهم البعداء- اشتروا الضلالة بالهدى،. أي: الكفر بالإيمان، والعذاب بالمغفرة، أي: النار بالجنة، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله وعلى التقحم في النار! فلذا قال تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175].وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء الكفرة لأن الله نزَّل الكتاب بالحق، مبيناً فيه سبيل الهداية، وما يحقق للسالك من النعيم المقيم، ومبيناً سبيل الغواية، وما يفضي بسالكه إلى غضب الله والعذاب الأليم.وفي الآية الأخيرة أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب -أي: التوراة والإنجيل، وهم اليهود والنصارى- لفي عداء واختلاف بينهم بعيد، وصدق الله؛ فما زال اليهود والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم؛ ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله وأمرهم بالأخذ به، فتركوه وأخذوا بالباطل، فأثمر لهم هذا الشقاق البعيد ].قد يقول القائل: اليهود الآن متفقون مع النصارى؟ والجواب: متفقون فقط لأنهم سحروا النصارى، وجاءوهم بالمبدأ اللاديني اللائكي الفلسفي الأحمر؛ فأخرجوهم من عقيدة النصارى؛ فأصبحوا كالأبقار والحيوانات؛ فركبوهم واستولوا على أموالهم وبنوكهم، وأصبح النصارى خانعين خاضعين.فالنصران بحق ما يستطيع أن ينظر إلى يهودي بعينيه، بل كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت، وقد بينت لكم فقلت: الذي قتل ربك وإلهك كيف تنظر إليه؟ ما أنت بالمؤمن إذاً! لكن سادوا بالمكر والحيل، ووجدوا النصارى حيوانات فركبوا ظهورهم، حتى إن بولس الثامن منذ حوالي سبع عشرة سنة أعلن أن اليهود برآء من دم السيد المسيح! فقامت الدنيا وقعدت، فقلنا لهم: نحن عرفنا هذا من ألف وأربعمائة سنة، أخبرنا الله بقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، والآن النصارى ترقوا فقالوا: اليهود ما قتلوا السيد المسيح. فبالضغط والمال والسيطرة والسحر أعلن رئيس الكنيسة في العالم: أن اليهود برآء من دم السيد المسيح، وهم يعلقون الصليب في أعناقهم أم لا؟ فمن صلبه وقتله في نظرهم؟ إنهم اليهود.
هداية الآيات
هذه الآيات تحمل هداية، وكل آية من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية تحمل هداية، بل هدايات لمن أراد الطريق والوصول إلى الجنة.كل آية تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية من أنزلها؟ هل نبتت بها شجرة؟ هل قالها إبراهيم أو عثمان؟ لا، ما هناك إلا أن الله الذي أنزلها، فالله موجود، وهذه الآية تحمل العلم أم لا؟ فالله عليم حكيم، وتحمل الهداية للخلق أم لا؟ إذاً: لا إله إلا الله. والذي نزلت عليه من هو؟ محمد بن عبد الله، فهل هو رسول الله أم لا؟ والله! إنه لرسوله، كيف ينزل عليه كتابه وما هو برسوله؟ كيف يعطيه كتابه ليبلغه ويقول: ما أنت برسول؟! مستحيل هذا عقلاً، فكل آية تقرر معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فضلاً عما تحمل من آداب في الأخلاق وفي الأموال، وفي الحياة كلها.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات.أولاً: حرمة كتمان الحق ].الحرمة بمعنى: التحريم، لم سميت أمك حرمة؟ لأنها حرام عليك، فلا يحل لإنسان أن يكتم الحق، وما معنى: يكتمه؟ يجحده ويغطيه، ما يعترف به، لا سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالاً أو رئاسة، فيكون أبشع، فكتم الحق من أجل ريال أو بقرة حرام، لكن هذا هين بالنسبة لمن يكتم الحق من أجل أن يغوي البشر أو يصرفهم عن الله، فبينهما فرق كبير، والذنوب تتفاوت، كتمان الحق محرم ولو في بيضة تجحدها وتكتمها، لكن كونه يكتم الحق من أجل أن يتوصل إلى منافع دنيوية مالاً أو رئاسة هذا أبشع، لأنه يصرف الناس عن الحق والعمل به والانقياد له.[ ثانياً: تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب ]، لأن هذه الآيات وإن نزلت في علماء أهل الكتاب فهل نحن ما ننتفع بها؟ كل من يسلك سلوكهم هو منهم وإن كان هاشمياً قرشياً.[ تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وإفتاء الناس بالباطل؛ للحصول على منافع مادية معينة ]، ولما هبطت أمتنا ظهر فيها علماء ومشايخ طرق وزوايا يفعلون صنيع علماء اليهود بالضبط، يجحدون الحق لتبقى لهم تلك المنزلة.أعطيكم مثلاً عشناه: لما بدأت فترة التوحيد كانوا يقولون لأتباعهم: لا تستمعوا لهؤلاء، هؤلاء وهابيون؛ ليصرفوهم عن الحق، لأنهم إذا انصرفوا عنهم ذهب ذاك المنصب الذي كان لهم، هذا كان يأتي بدجاجة، وهذا يأتي بشاة، هذا يقبل رجليه، والآن من أين يأتي ذلك؟كلنا سواء.ويوجد أيضاً علماء يفتون بالمال، ويحللون الحرام في الفتيا! وهذا انتشر في العالم الإسلامي فترة طويلة، ما يفتيك مجاناً أبداً، تسأل عن طلاق فيقول: هات ألف ريال ويفتيك، ويحل لك الحرام إذا أكثرت العطاء، ولا لوم ولا عتاب؛ لأنهم ما عرفوا، ما علموا، ما عرفوا ربهم معرفة أوجدت خشيته في قلوبهم ومحبتهم له، فلهذا يفعلون، علوم سطحية مادية فقط.[ ثالثاً: التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم ]، أما حذرنا الله؟ الأولون اختلفوا في الكتاب فهم في شقاق بعيد، فإن اختلفنا نحن في القرآن فوالله! ليتمن هذا، وقد حصل، فهذه الطوئف: الإباضية، الزيدية، الجعفرية، والله! إنها للاختلاف في القرآن في تفسيره ومعانيه.لو أقبلوا على الحق وأرادوه لانتهى الخلاف في سنة واحدة، لم نختلف؟ أم يجوز هذا؟ هو الذي هبط بأمة الإسلام إلى الأرض، وإلا فكان يجب أن يقال: هيا نستعرض آي القرآن ونحضر العلماء وتثبت القضية بيننا، واقبلها وطأطئ رأسك، وإن عاش أسلافك وأجدادك على الباطل فلا تبق أنت على الباطل، أنت تريد النجاة أم لا؟ تريد دار السلام أم لا؟ أم تريد فقط بقاء العصبية لقبيلتك أو لحزبك وجماعتك؟ [ التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين ]، وهو واقع ثابت من ألف ومائة سنة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (113)
الحلقة (120)
تفسير سورة البقرة (79)
لما أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة تجاه البيت الحرام، زعم اليهود أن قبلتهم هي القبلة الحق، وزعم النصارى أيضاً أن قبلتهم هي القبلة الصحيحة، فبين الله سبحانه وتعالى هنا أن البر ليس باستقبال المسجد الحرام أو بيت المقدس، ولكن البر والحق هو بالإتيان بأركان الدين، وفعل ما أمر الله عز وجل به، والانتهاء عما نهى الله عز وجل عنه، فإن ذلك هو سبيل المتقين، والموصل إلى مرضاة رب العالمين.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ....) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة السبت من يوم الجمعة المبارك- ندرس كتاب الله من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي القدير.وقد انتهى بنا الدرس عند هذه الآية المباركة الكريمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، هذه آية من أجل الآيات القرآنية وأعظمها.
هداية الآيات
ونشير هنا إلى هداية الآيات السابقة؛ حيث قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: حرمة كتمان الحق ]، علمنا الله عز وجل بما قص علينا من شأن أهل الكتاب أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يكتم الحق إذا عرفه، ولا يلتفت إلى أي اعتبار يطلب منه لأن يكتم هذا الحق.قال: [ حرمة كتمان الحق إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالاً أو رياسة ]، تشتد حرمة كتمان الحق إذا كان الكاتم للحق يرجو من وراء ذلك منفعة دنيوية مالاً أو جاهاً؛ لأن الذين كتموا الحق من أهل الكتاب كتموه من أجل مصالح دنيوية بحتة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:174-176]، وهم اليهود والنصارى عليهم لعائن الله.[ ثانياً: تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب ]، الآية الكريمة تهدينا إلى أن الله حذرنا نحن -علماء الإسلام- من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب [ بكتمانهم الحق وإفتاء الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة ]، فعلماء اليهود والنصارى كتموا الحق، إذ صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته في الكتابين في التوراة والإنجيل واضحة وضوح الشمس، ولكن للبقاء على السلطة والسيطرة الروحية على أتباعهم حرفوا تلك الصفات، وجحدوا أكثرها، وهذا هو الكتمان؛ لأجل البقاء على الرئاسة والسيطرة الروحية على أتباعهم. ومع الأسف حصل هذا للمسلمين ووقع، فكثير من مشايخ الطرق وأصحاب الزوايا كانت هذه حالهم، فاستولوا على العوام من الناس وحرموهم هداية الله عز وجل، وما علموهم إلا أشياء قليلة من دين الله، كل ذلك للحفاظ على أتباعهم؛ حتى لا يتصدروا ويهربوا منهم، فإذا سمعوا بدعوة الحق بغضوها إلى أتباعهم، وحرموهم من قبولها وطلبها، وما زال إلى الآن الروافض يسيطرون على العوام، ويحرمونهم من هداية الله ليبقوا تحت سلطتهم وسلطانهم، هذا واقع البشرية.إذاً: هذه الآية تحذر علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب، وذلك بكتمانهم الحق، وبإفتائهم الناس بالباطل، يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله من أجل الحصول على المادة، سواء كانت السلطة أو الرئاسة، أو كان المال: الدينار والدرهم.[ ثالثاً: التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم ]؛ لأن اليهود والنصارى اختلفوا في كتب الله، وسبَّب ذلك الاختلاف انقسامهم وسقوطهم وهبوطهم، فالآية تحذرنا من الاختلاف في القرآن الكريم؛ [ لما يفضي إليه الاختلاف من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين ]. وها نحن مع الروافض مختلفون، والسبب أنهم حرفوا كلام الله وفسروه بأهوائهم، فمنعوا من أن يتصلوا بالعالم الإسلامي ويعيشوا معهم.وسبحان الله! فقد تبين بالتتبع والاستقراء أنه ما من عبادة إلا ووضعوا فيها ما يخرجون به عن جماعة المسلمين! لا حج ولا عمرة ولا غسل، ولا وضوء، ولا تيمم، ولا صلاة، كل عبادة حتى النكاح، أباحوا المتعة لا لشيء إلا للخروج من جماعة المسلمين؛ ليبقى ذلك الشعب وتلك الأمة خاضعة لسلطان الأئمة! فها هو ذا تعالى يحذرنا من الاختلاف في القرآن الكريم، إذ اختلف اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل فحصلت الفرقة وتم الخلاف على أشده، فحذرنا تعالى من أجل ما يفضي إليه الخلاف من العداوة بين المؤمنين والشقاق البعيد، فكيف -إذاً- يحملون راية التوحيد؟
تفسير قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ...)
والآن مع هذه الآية الكريمة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
سبب نزول الآية الكريمة
سبب هذه الآية: أن اليهود زعموا أن قبلتهم هي القبلة الحق، والنصارى كذلك قالوا: قبلتنا هي القبلة الحق. وتأثر بعض السفهاء من المنافقين، ونسمع قول الله تعالى فيهم: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة، وقويت شوكته فيها وعظم سلطانه؛ كان يرغب جداً في أن يخالف أهل الكتاب، ولا يرضى أن يتصل بهم في أي جانب من جوانب الدين، من ذلك: أنه نهانا عن صيام يوم السبت، من ذلك: أنه كان يتطلع إلى أن يحول الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، إذ صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بالمدينة سبعة عشر شهراً وهم يستقبلون بيت المقدس، فكانت القبلة غرباً وليست بالجنوب، فكان عليه الصلاة والسلام يتطلع متى ينزل الوحي بتحويل القبلة، إذ قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، وقال تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقال تعالى: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145] فهل اليهود استقبلوا المشرق كالنصارى؟ ما استقبلوا، ولا النصارى استقبلوا بيت المقدس، فاحتفظت كل أمة بقبلتها، فلما حصل هذا تبجح من تبجح، فقال تعالى في رده على هذا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] ليس الخير كل الخير والإسلام كل الإسلام والهداية كل الهداية في أن تستقبلوا بيت المقدس أو الكعبة، لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] أي: في الصلوات، وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] أو صاحب البر أو ذا البر مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177]، وذكر من أركان الإيمان خمسة ركناً بعد ركن.
مجمل أركان الإيمان الواردة في الآية الكريمة
وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] أو ذا البر أو الخير أو فاعل الخير بحق عبد آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، هذه خمسة أركان في آية واحدة، والركن السادس جاء في سورة القمر، إذ قال تعالى من سورة القمر: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فكان هذا الركن السادس لأركان الإيمان الستة.وقد ذكر منها أيضاً في آخر البقرة في قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة:285] عدة أركان، مجموعها ستة عليها ينبني الإيمان، فإن سقط ركن سقط البناء، وأصبح صاحبه كافراً.وفي حديث جبريل في صحيح مسلم عدها الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل، وجبريل يقول: صدقت، صدقت، إذ سأله عن الإيمان فقال: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ).إذاً: هذا رد على من ظنوا أن القضية كلها تدور حول استقبال القبلة أو بيت المقدس، وهذا جزء من آلاف الأجزاء، نحن الآن إذا أردنا أن نصلي وما عرفنا القبلة صلينا حيث صلينا: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115]، ولكن كوننا نرغب في أن نتميز ونستقل هذا أمر ضروري، ما دمتم لا ترضون بديننا ولا تدخلون في إسلامنا إذاً: فالمفاصلة بيننا أولى حتى لا تكون شبهة على المؤمنين، فكانت رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في أن تتحول القبلة، وعرف الله ذلك منه، واستجاب له، وحول القبلة، وبقي من يتكلم ويكرر الكلام في موضوع القبلة كما تعرفون الطابور الخامس الذين ينشرون الفتنة؛ فأسكتهم الله عز وجل بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] صاحب البر الحق مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].
معنى الإيمان بالله تعالى
وهنا بإيجاز نقول: الإيمان بالله: التصديق بوجود الله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، وأنه موصوف بكل صفات الجلال والكمال، منزه عن كل صفات النقصان، إذ هو رب كل شيء ومليكه، لا إله إلا هو ولا رب سواه.ثم الإيمان باليوم الآخر، وهو آخر يوم تنتهي فيه هذه الحياة، فندخل في ذلك اليوم الذي هو آخر الأيام، هذه الأيام التي تمر بنا يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام سوف تنتهي في آخر يوم وهو يوم الجمعة، فيه تقوم الساعة.وفجأة نستقبل اليوم الآخر، إذ لم يبق بعده يوم، وفي الحساب وفي فصل القضاء يدوم ذلك اليوم خمسين ألف سنة، ثم يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، أهل الملكوت الأعلى في الملكوت الأعلى، وأهل الملكوت الأسفل في الأسفل، وطويت صفحة هذه الحياة.
الإيمان بالملائكة وذكر بعض خبرهم
والملائكة: جمع ملأك، ويجمع على ملائك، والملائكة مادة خلقهم من النور، خلقهم الله تعالى من النور، وخلق الجان من مارج من نار، فلهذا يوجد تقارب بين عالم الملائكة وعالم الجن، ويدلك أن إبليس عليه لعائن الله قبل أن يبلس من رحمة الله كان مع الملائكة يعبد الله، وأخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أن الملائكة في السماء إذا تكلمت بكلمة يختطفها الجني ويقرقرها في أذن صاحبه.إذاً: الملائكة عالم من نور، ولا يوصفون بأنوثة ولا بذكورة، لا يقال فيهم: إناث ولا ذكور، ما هم بإناث ولا بذكور، ولولا أن الله عرفنا بالإناث والذكور فهل سنعرف شيئاً؟ لما خلق هذا أخبرنا، خلق الملائكة من نور، ولم يجعل بينهم ذكراً ولا أنثى؛ ولهذا زين الشيطان لبعض القبائل في العرب خطيئة وزلة كبيرة، وهي قوله لهم: إن الله تعالى أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة، وفي الآية من سورة اليقطين: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158]، قالوا: الملائكة بنات الله! وكيف تولد الملائكة؟ قالوا: إن الله أصهر إلى الجن، خطب منهم جنية وتزوجها، فولد الملائكة؛ فلهذا نعبدهم بوصفهم بنات الله! ولا تعجب، فالعرب جهال، فكيف بالنصارى الذين يقولون: عيسى ابن الله؟! لا تعجب لأن الحامل لراية الإفساد والإغواء والإضلال هو الشيطان، إلى الآن النصارى أطباء ودكاترة وفلاسفة يقولون: عيسى بن مريم هو ابن الله! أو الناسوت واللاهوت، مركب من إله وعبد مخلوق.إذاً: فالملائكة عبدهم قبيلة من العرب بهذه الفرية التي افتراها إبليس ليضللهم! فرد الله تعالى بقوله: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:153-158] ممنوعون من الوصول إلى السماء ومخالطة الملائكة فيها، وآيات كثيرة تشنع على هذا النوع من العبادة، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، وجعلوا له البنات سبحانه وتعالى عما يشركون.المهم أن هذه الخدعة الشيطانية وجدت مناخ الجهل في الجزيرة، فوجدت قبيلة تعبد الملائكة بوصفهم بنات الله.فالملائكة خلقهم الله من نور لعبادته فقط، وليسوا بذكور ولا بإناث، وتعالى الله أن يصهر إلى الجن وهو خالق كل شيء.
أصناف الملائكة وأعمالهم
إذاً: عرفنا عن الملائكة وأنهم أصناف، أعظمهم وأجلهم الملائكة المقربون من الله، ولا يعرف عددهم إلا هو، كذلك حملة العرش أربعة منذ أن خلق الله العرش، خلق هؤلاء الملائكة وأسند إليهم مهمة حمل العرش، فهم يحملونه، ويوم القيامة يعززون بأربعة، فيصبحون ثمانية، واقرءوا لذلك من سورة الحاقة: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:17-18].ومنهم المخلوقون فقط لتسبيح الله وذكره، لا يفترون أبداً: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، يلهمون التسبيح كأنفاسنا نحن نرددها، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].ومنهم من كلفهم بالجنة ونعيمها، مهمتهم فقط إسعاد أهل الجنة، والملائكة يطوفون عليهم: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]، ومنهم الذين يقدمون أطباق الطعام وألوان الشراب، هذه مهمتهم.ومنهم أيضاً ملائكة موكلون بالنار فقط وعذابها، لا مهمة لهم إلا هذه، وقد أعلمنا الله عن عددهم فعلمناه، ألا وإنهم تسعة عشر من الزبانية! جاء هذا من سورة المدثر: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر:30-31]؛ لأن أبا جهل لما نزلت الآية قال: يا معشر قريش! أنا أكفيكم شر سبعة عشر، فهل تعجزون أنتم عن اثنين ونطفئ النار ونخرج الناس من بعدنا؟! فهذا مجنون؛ لأنه يكثر التبجح، يقول: تسعة عشر؟! أنا أكفيكم سبعة عشر! وما درى هذا الجاهل الأحمق أن ملكاً أخبر الرسول عنه كما في سنن أبي داود بحديث سنده صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: ( أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام )، فيا أبا جهل ! أين أنت؟ وجبريل عليه السلام لما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء، بعد أن دخل عليه في صورة رجل كريم، وعلمه وأدبه، بعد ذلك تركه، وحين كان الرسول عائداً رآه وقد تجلى في الصورة التي خلقه الله عليها، وكان له ستمائة جناح، فسد الأفق كله، وناداه: يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل. ومدائن قوم لوط -عمورة وسدوم وغيرها-كيف قلب ظاهرها على باطنها بجناح جبريل؟! إذا:ً لا تسأل عن عظم الملائكة وما آتاهم الله من قدرة.ومن الملائكة الموكلون بالعباد والحمد لله، وما حمدنا الله على هذه النعمة؛ لأننا جهال، فمن أنت حتى يوكل الملك بك؟ عشرة ملائكة يحرسونك، فكيف تشكر الله؟ الآن إذا كان أمير أو كذا يخاف عليه يعطونه عسكرياً واحداً يحرسه، وما ينفع، وأنت با ابن آدم يحرسك عشرة، اثنان من الكرام الكاتبين، وثمانية يحمونك من الجن والشياطين.فكم عددهم إذاً؟ الجواب: لا يحصي عددهم إلا الله، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.
قدرة الملائكة على التشكل
والملائكة يتشكلون بإذن الله كما شاء الله، وحسبنا أن جبريل عليه السلام يشاهده المؤمنون بينهم، ففي حديث عند مسلم وهو صحيح، ولا نزاع فيه، أن الرسول كان جالساً بين أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم في الروضة، وإذا بجبريل يأتي في صورة رجل، ولا يرى عليه أثر السفر، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لحيته سوداء، شاب سهل، ثيابه نظيفة بيضاء، ما عليه غبار ولا رمل؛ لأن المسافر في ذلك الوقت ينكره أهل البيت، فالرمال والرياح والعواصف وهو على جمل أو على حمار، ما إن يصل حتى يدخل الحمام للغسل، وجربنا هذا، والحمد لله، كنا نأتي من الرياض على السيارة التي تسمونها (لوري) مكشوفة ثلاثة أيام، ما نصل إلى المدينة إلا وكلنا رمال! إذاً: فلهذا قال: ( لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ) أيضاً، وجاء من طرف الحلقة وهو يشق الصفوف، فتعجب الأصحاب من هذا البدوي، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ليعلمهم كيف التلقي، فالذي يتلقى العلم ما يلتفت، ما ينظر إلا إلى ما يخرج من كلام، فوضع يديه على فخذيه، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، أسندهما ووضع يديه على فخذيه يتلقى، وأخذ يسأله، فسأله أولاً عن الإسلام، فقال: كذا، قال: صدقت، قالت الصحابة: عجبنا له يسأله ويصدقه، هذا أعلم منه إذاً! فلما فرغ من ذلك التعليم الذي حوى الشريعة بكاملها، وأعظم ما جاء فيه الإحسان المفقود عندنا من قرون؛ فلما فرغ قال: أخبرني عن الساعة، قال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل )، أنت أعلم مني، وأمر الساعة خفي على الإنس والجن والملائكة والبشر، علمها عند الله: لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187] حتى ينتظم الكون وتمشي الحياة إلى نهايتها.قال: ( فأخبرني عن أماراتها )، والأمارة: العلامة، والجمع علامات، قال: أخبرني عن أماراتها، أي: العلامة الدالة عليها.قال: ( أن تلد الأمة ربتها ) وهل الأمة تلد سيدتها؟! السيدة هي التي تلد، كيف يتم هذا؟ تم على عهد الصحابة والتابعين، إذ كان الرجل يشتري الأمة وقد كان تسراها أحد الناس، وأنجبت لمن تسراها بنتاً، فيبيعها، وتتنقل بحسب الظروف والأيام والأعوام، فيشتريها الأول، فتصبح البنت ربة الأمة.المهم أنه لما كثر الناس ما التزموا، كحالنا، وإلا فمن تسرى جارية وولدت له بنتاً فهي حرة بسبب بنتها، وهي تابعة له مع ابنته، لا يبيعها، والشاهد عندنا: هذه العلامة، وهي خفية، لكن العلامة الواضحة هي: أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، تحققت بعد ألف سنة أو أكثر، أن ترى الحفاة العراة من سكان البادية والجبال والأرياف في العالم بكامله حتى في أوروبا يتطاولون في البنيان: أيهم عمارته أعلى؟! هذا خبر عجب، من يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلهذا أخبار الغيب تشهد أن محمداً رسول الله.
الأدب مع الملائكة
والشاهد عندنا في الملائكة عليهم السلام، هؤلاء الملائكة ما موقفنا معهم يا معشر المؤمنين؟! أن نتستر ولا نبدي عوراتنا لهم، حاول أن تستر نفسك دائماً ولا تكشف عورتك.ثانياً: احذر أن تلوث ساحتهم برائحة كريهة، وويل للمدخنين الذين ينفخون الرائحة الكريهة في وجوه الملائكة وهم لا يشعرون.يا معشر المستمعين والمستمعات! لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يشعل سيجارة فينفخ في وجه الكرام الكاتبين ذاك اللهب وتلك الرائحة الكريهة، ومن شك في هذا القول فليذكر ما جاء في صحيح الأحاديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، من أكل ثوماً أو بصلاً نيئاً رائحته في فيه فلا يدخل المسجد، لم يا رسول الله؟! لأنه يؤذي الملائكة وهم سكان بيوت الله.فإن شاء الله لا يسمع هذا الخبر مؤمن ولا مؤمنة ويدخن ليلته هذه! ثالثاً: معاشر الأبناء والإخوان! معاشر المؤمنات! لا تطردوا الملائكة من بيوتكم، لا تسلطوا عليهم صور الخلاعة والدعارة في بيوتكم، فأزيلوا آلات الفيديو وأزيلوا التلفاز إذا لم تكن قادراً على صيانته والتحكم به؛ حيث لا تفتحه إلا لأمر ينفعك في دينك ودنياك.أما أن تفتحوه لبناتكم ونسائكم وأبنائكم؛ فتدخلون على قلوبهم الخبث فيفسدون أمامكم وأنتم السبب، وأعظم من هذا وذاك أن تطردوا الملائكة من بيوتكم! وقد تقول: وكيف؟ الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) صورة في كتان، أو في ورق، أو في خشبة.وشيء آخر: لو يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك في بيتك، ويجدك جالساً مع بناتك وأولادك، وممكن أن أمك معكم أيضاً، وعاهرة تغني وترقص وهي كافرة وخبيثة، أو فاسقة من العرب والمسلمين، فكيف يكون موقفك؟ تذوب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ يغمى عليك، فما حملك على هذا؟ فأنا أقول بأعلى صوتي: إن كانت هذه المناظر -يا أهل القرآن، يا أهل لا إله إلا الله- تكسبكم مالاً وأنتم في حاجة إليه لسد جوعتكم وستر عريكم فلا مانع، فأنتم مضطرون، ولكن هل يكسبكم مالاً؟ إذا كان هذا يدفع عنكم البلاء، والأمراض والعاهات من الحمى إلى غيرها، فقولوا: نحمي أنفسنا حتى نعبد الله، ولكن هل يكسب هذا صحة وعافية بدنية؟ والله! إنه ليبددها.إذاً: ما هو السبب إلا أن نغضب الله ونخرج الملائكة؟! أعوذ بالله! ما عندنا سبب إلا أن نغضب الله ونطرد الملائكة من بيوتنا حتى يرضى اليهود والنصارى عنا! أرأيتم هذا الكفر كيف عمل؟ شيء عظيم هذا، لو أن أهل البيت يجتمعون على آية من كتاب الله يتغنون بها ساعة ويحفظونها لكان خيراً من أوروبا وما فيها، لأن يجتمعوا على حديث من أحاديث نبيهم يصلون عليه ويسلمون، ويتعلمون الهدى والمعرفة من قال رسول الله؛ لكان خيراً من الدنيا وما فيها.لكن غشونا وخدعونا وضللونا؛ فوقعنا في هذه المحنة إلا من نجاه الله، ولكن إلام؟ بل في بعض بلاد العرب من أدخل التلفاز يدفع ضريبة أيضاً، الحكومة فقيرة، تضرب ضريبة على من يدخل تلفازاً في بيته، ويعطون الضرائب ويدخلون التلفاز! فسلوا الله تعالى العافية، من عوفي فليحمد الله!
الإيمان بالكتب
قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ [البقرة:177]، و(أل) هنا للجنس، لا بمعنى القرآن فقط، الكتاب كالإنسان لفظ جنس يستغرق كل إنسان، والكتب -معاشر الأبناء- التي نزلت جملة واحدة بين لنا تعالى منها التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، وأخبرنا الرسول عن صحف شيث عليه السلام، لكن الكتب الأربعة هي التي عليها المدار، وناسخها القرآن العظيم وهو آخرها نزولاً، ونزل مفرقاً في خلال ثلاث وعشرين سنة؛ فلهذا قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32] يعنون ما سمعوا عن اليهود والنصارى، ولله تعالى في تنزيله الحكمة العالية البالغة، فلو نزل جملة فمن سيحفظه؟ من يعمل بما فيه؟ لكن ينزل آيات بحسب الأحوال، كلما يحصل إشكال تنزل الآية تبين وتفصل، ويحفظها المؤمنون والمؤمنات.إذاً: إيماننا بالكتب هو أن نصدق بكل ما أنزل الله من كتاب في الجملة، لا بما داخله من الزيادة والنقص والتبديل والتحريف؛ لأننا علمنا أن الله نسخ تلك الشرائع وتلك الأحكام من تلك الكتب، وجعل القرآن الكتاب الحاوي لكل ما فيها! لو كان اليهود أو النصارى يعقلون لأفهمناهم بكلمة واحدة، وهي: أن رئيس الجمهورية يصدر أحكاماً لعشر سنوات والشعب يطبقها، أليس كذلك؟ ثم يصدر حكماً بإلغائها، هل يبقى مواطن يحتج يقول: هذا كان الحاكم قد أمر به؟ مضى عشرون سنة والدولة تقوم بكذا، والشعب يقوم به، ثم بدا لها نقض هذا القانون لفساده، أو لوقوع ظروف لا يتناسب معه، فأبطلوه، فهل يبقى المواطنون يحتجون بالأول ويعملون به؟والله! ما كان، إذاً: اليهود والنصارى يعرفون أن القرآن نسخ الكتب السابقة، فلم لا يعملون به ويتركون المنسوخ؟! الجواب: ما علمتم الآن: رؤساؤهم، أحبارهم، علماؤهم الذين يعيشون على حسابهم يحملونهم على هذا الباطل، وإلا فأدنى عاقل يفهم، أنت تؤمن بالكتب الإلهية أم لا؟ هذا آخر كتاب نسخ الله به ما سبق من القضايا والأحكام؛ لأن الزمان تغير. إذاً: يجب أن نعمل بهذا الكتاب ونلغي تلك الكتب.
الإيمان بالأنبياء والرسل
قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، والنبيون يقال فيها: والنبيئون، كالنبي والنبيء، وقرأ ورش : (يا أيها النبيء) في كل القرآن، من أنبأ ينبئ إنباء، فهو منبأ من الله عز وجل، ولا بأس للتخفيف أن تحذف الهمزة وتعوض بها الياء: النبيون، فهذا أسهل من: (النبيئون)، كـ(الآخرة والأولى) بنقل حركة الهمز إلى الساكن قبله، فتقرأ: (الاخرة ولولى)، وهو أسهل من (الآخرة والأولى). ورأيت لبعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذف الهمزة في مثل الآخرة والأولى؛ لأنه أسهل في المدينة، وقراءة ورش هي قراءة أهل المدينة بالتخفيف.إذاً: النبيون أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهم صنفان: أنبياء رسل، وأنبياء ليسوا برسل، ما كل رسول إلا وهو نبي، لا يكون رسولاً حتى يكون نبياً، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً.وعدد الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر على عدة قوم طالوت الذين هزم الله بهم جالوت ، وعلى عدة أهل بدر الذين هزم الله بهم أبا جهل ، فسبحان الله! عدة قوم طالوت ثلاثمائة وأربعة عشر هزموا جيشاً عرمرماً، وكان داود البطل فيه، ثلاثمائة وأربعة عشر فقط من المدينة من المهاجرين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم هزموا ألف مشرك في بدر.إذاً: عدد الرسل ثلاثمائة وأربعة عشر، وعدد الأنبياء مائة وعشرون ألفاً، ولا تنكر العدد، إن أنكرته أنت أنكره غيرك، ولكن الذي عليه جمهور الأئمة أن هذا العدد ثابت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يضرنا إن زاد العدد أو نقص، وفي الجملة أن الأنبياء هكذا كان عددهم. وفي حديث صحيح: أن اليهود كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم الواحد! ويقيمون أسواقهم في المساء للبيع والشراء وكأن شيئاً ما وقع! وذلك لموت قلوبهم، وقساوة قلوبهم، قتلوا زكريا نبياً ورسولاً، وقتلوا ولده يحيى نبي الله ورسوله، وتآمروا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، وكادوا يقتلونه مرتين أو ثلاثاً.والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، أو أرسل ونبئ بشريعة سبقته، كأنبياء بني إسرائيل.وعندما نذكر الأنبياء ماذا نقول؟ نقول: عليهم السلام: يوسف عليه السلام، يعقوب عليه السلام، إلا إبراهيم فإننا نقول: صلى الله عليه وسلم، وإننا في كل صلاة نصليها نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.وأول الأنبياء آدم، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأولو العزم منهم خمسة، وحفظ هؤلاء الخمسة ومعرفتهم واجب وركن من أركان العقيدة، وهم: نوح عليه السلام، إبراهيم عليه السلام، موسى عليه السلام، عيسى عليه السلام، محمد صلى الله عليه وسلم، وهم في آية واحدة من سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7] بدأ بقوله تعالى: (منك)، فهو أولهم وأفضلهم في الآية، وحديث الشفاعة العظمى جاء بمثل هذا.قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] وصبر إبراهيم معلوم.نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (114)
الحلقة (121)
تفسير سورة البقرة (8)
أنزل الله سبحانه القرآن الكريم برهاناً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى العرب وغيرهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا، بل إن الله سبحانه قد بين أنهم لن يستطيعوا، وأن الأجدر بهم أن يتقوا النار التي وقودها العصاة من الناس والحجارة، والتي هيأها الله سبحانه لكل من جحد به أو بدينه.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع بعض الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
استشعار العبودية لله في كل شئون الإنسان وأحواله
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! دراسة كتاب الله وقراءته من أجل استخراج تلك الدرر والمعاني التي تغمر النفس والقلب بالنور الإلهي، فيصبح عبد الله وأمة الله النور على علمه وفي سمعه وبصره وفي لسانه، ويصبح أشبه بملاك في الأرض، فلا يصدر عنه شيء اسمه معصية لله ورسوله، ويقضي أوقاته كلها في ذكر الله وطاعته وعبادته.وقد قلت وبينت أن هذا المؤمن الذي يعيش على طاعة الله تحقيقاً للعبودية، تراه يحصد الزرع والمنجل في يده وهو في طاعة الله! تراه يضرب بفأسه الصخرة ليكسرها وهو في طاعة الله! تجد المائدة بين يديه يأكل ويشرب وهو في عبادة الله! هذا هو العبد الخالص لله. لمَ؟ لأنه يذكر دائماً بأنه خلق لذكر الله وشكره، وذكر الله تعالى يكون بالقلب واللسان، وشكره يكون بالأركان .. بالطاعة، فعبد الله إذا وجدته يبني أو يهدم اسأله: لم؟ يقول: أردت أن أبني غرفة أو حجرة لتكنني من الحر والبرد أنا وأفراد عائلتي، فعملي هذا لله. وتراه يحرث أو يزرع أو يصنع، لم؟ لله، لأنني وقف لله، وهذا الزرع أو هذه الصناعة من أجل عباد الله، أنتفع أولاً بشيء يسد حاجتي، والعمل كله لله، وينتفع به عباد الله.وإذا جلست في مجالس هؤلاء فإنك لا تسمع كلمة سوء، ولا بذاء، ولا باطل، ولا منكر أبداً كأنهم الملائكة، فأحاديثهم وكلامهم لا تخرج أبداً عن دائرة مرضاة الله عز وجل، وهؤلاء أهل النور الإلهي الذي اكتسبوه من كلامه؛ لأن كلام الله نور، إذا يقول تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، و جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].وآية الوقفية على الله ينبغي أن لا ننساها؛ لتفهم أنك إذا كنت مؤمناً حقاً فأنت وقف على الله، فريعك ودخلك وغلالك كلها لله، وحياتك وموتك لله، وفي هذا يقول تعالى من سورة الأنعام واحفظوا الآية وتأملوها: قُلْ [الأنعام:162]، والمخاطِب هو الله، والآمر هو الله، والمخاطَب هو رسول الله، والمأمور هو رسول الله، وأمته تابعة له، ولا تنفك عنه في أغلب الأحوال، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فهذه هي آية الوقفية، فنحن وقف على الله، فنأكل من أجل الله، ونشرب من أجل الله، ونتزوج من أجل الله، ونطلق من أجل الله، ونبني .. نهدم .. نبيع .. نشتري .. الكل من أجل الله. فصاحب هذا النور إذا باع أو اشترى هل يغش .. يخدع .. يكذب؟! والله لا يفعل، وصاحب هذا النور إذا بنى هل يبني على غير هدي الله ورسوله؟ يقتطع قطعة أرض ويبني عليها؟! والله لا يفعل.المهم فيما نريد أن نقوله: هيا نتدبر كلام الله، فإنه الروح التي بها الحياة، والنور الذي به الهداية.
هداية القرآن الكريم
عرفنا مما درسنا أن هذا القرآن الكريم -كلام الله- لا ريب فيه، وأن فيه هدى، والهدى: ما يصل بك إلى مطلوبك، وينتهي بك إلى رغائبك، وما تريد أن تنتهي إليه من كمال وسعادة، لكن هذا الهدى مكنون في باطنه. من ينال هذا الهدى؟أولاً: من يؤمن بالله ولقائه .. بالله ورسوله .. بالله وكتابه، ثم يتقي الله عز وجل فلا يخرج عن طاعته فيما يأمر وفيما ينهى، فهذا الذي تتجلى له أنوار الهداية ويجدها في القرآن الكريم، هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].وذكر الله تعالى أنهم: هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، واقرءوا إن شئتم: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:2-5]، لا سواهم.
أقسام الكافرين
ثم ذكر تعالى حال الكافرين، وقد عرفنا أنهم صنفان: صنف توغلوا في الشر، في الظلم، في الفساد، في الخبث يوماً بعد يوم، عاماً بعد عام، حتى مضت فيهم سنة الله عز وجل، فختم على قلوبهم وعلى أسماعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فهم لا يسمعون، ولا يفهمون، ولا يعقلون، ولا يبصرون، هؤلاء مصيرهم معلوم، الخلود في عالم الشقاء في النار دار البوار، لا يخرجون أبداً بليارات السنين، وليس هناك مكان آخر، وفيهم يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لم؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7]، الختم على الظرف، الختم على الآنية، من أين يدخل الشيء والختم موجود؟ من أين يدخل نور الإيمان أو معاني الإيمان أو مفاهيم الكلام وقد أغلق على القلب، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، نعوذ بالله أن نكون منهم، أو يكون بيننا أحد منهم!الصنف الثاني: كفروا، وظلموا، وفسدوا، لكنهم ما توغلوا، أي: ما وصلوا إلى مستوى أن طبع على قلوبهم وختم على سمعهم وأبصارهم، فهؤلاء بلغهم دعوتك يا رسولنا! وأنذر وخوف، فإنهم يدخلون في رحمة الله، وقد دخل من هذا العدد بلايين.
صنف المنافقين
جاءت الآيات تذكر لنا صنفاً آخر من الخلق، ألا وهم المنافقون.ومن هم المنافقون أيها المؤمنون؟ هم الذين يبطنون الكفر في قلوبهم ويخفونه في نفوسهم ولا ينطقون به أمامكم أيها المؤمنون، وهم الذين يتظاهرون بالإسلام فيصلون معكم، وقد يجاهدون إلى جنبكم، ولكن من باب أن يحفظوا على أنفسهم حياتهم وأموالهم ووجودهم؛ لأنهم لو أعلنوا عن الكفر والردة لقتلوا بيننا، ولا نسمح لهم بالبقاء في ديارنا.فخوفهم من السيف حملهم على أن يصروا على كفرهم، وعلى تكذيبهم بوجود الله .. بعلم الله .. بقدرته .. بحقه في الطاعة والعبادة .. بالكفر برسول الله وبكتابه، ولكن يداهنون مؤقتاً.وهؤلاء المنافقون كانوا موجودين والقرآن ينزل في هذه المدينة النبوية، فما زال القرآن ينزل ويصفي ويغربل حتى ما بقي منهم أحد، فمنهم من مات على كفره ونفاقه، وأغلبهم مات على الإيمان والتوحيد.والآن لا يسمون بالمنافقين بل يسميهم العلماء بالزنادقة، والواحد زنديق، والجمع زنادقة، فالزنديق: هو الذي يتكلم ببسم الله، ورسول الله، كأنه مؤمن، وهو فقط يضحك على المؤمنين، ويسخر منهم من أجل أن يصل إلى أغراضه الهابطة الدنية، أو يخاف أن يطرد من القرية أو من الحي أو يهجر فلا يتكلم معه، فهذا يقال عنه: الزنديق، وهو المنافق.وهؤلاء المنافقون نسمع الله تعالى يخبرنا عنهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، ومن أخبر عنهم؟ العليم بقلوبهم، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9]، إي والله. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10]، أي مرض هذا؟ هل يعرفه الأطباء؟! هل هو الخفقان؟! هذا مرض الشرك، والكفر، والنفاق، وبغض الإسلام وأهله، وبغض التوحيد والداعين إليه، وبغض دار السلام وأهلها، فهؤلاء يزيدهم الله مرضاً، والمرض إذا لم يعالج في الجسم فإنه يستشري وينتصر فيعجز الأطباء عن مداواته، فهذا الفريق من المنافقين يموت على الكفر ولا يعالج. وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، إن ماتوا على كفرهم ونفاقهم. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:11-12]، وقد ذكرنا وأشرنا إلى أنهم كانت لهم اتصالات باليهود، واتصالات بالكافرين في مكة وخارجها، بل حتى مع الروم، وإذا سئل يقول: هذا من أجل تحقيق الأمن للبلاد .. من أجل أن ندفع شر هؤلاء الكفار أو اليهود، نحن مصلحون، وعندما يقول له المؤمن: كيف تتصل بفلان، فالبارحة كنت في بيته وهو كافر من اليهود؟ يقول: لغرض صحيح، للدفاع عن الحقيقة، لرد هؤلاء عن ظلمنا والاعتداء علينا.إذاً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11] أي: بالمعاصي، فالإفساد في الأرض يكون بماذا؟ وأنا أريد أن يبقى هذا علماً راسخاً في نفوس المؤمنين والمؤمنات فلا نتردد: الإفساد في الأرض بم يكون؟ الإفساد يكون بمعصية الله ورسوله؛ لأن الذي عصى الله: أجرم، ظلم، فجر، اعتدى، سرق، كذب.إذاً: هذا هو الفساد؛ ولهذا جاء في آية سورة الأعراف: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، كان في البلاد كفر، وظلم، وشر، وفساد، فجاء نور الإيمان فاشتملته القلوب والأبصار، وظهر النور، واستقام أهل البلاد، فمن جاء يحدث باطلاً أو شركاً أو كفراً أو ذنباً فقد جاء ليفسد في الأرض.إذاً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:12-13]، آمنوا كما آمن فلان وفلان وفلان من إخوانكم وجيرانكم: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13]، فيعتبرون الذين دخلوا في الإسلام من اليهود ومن العرب المشركين سفهاء، كيف يذوبون في هذه الدعوة ويتخلون عن عقائد آبائهم وأجدادهم ومميزاتهم، ويدخلون في هذه الدعوة التي قد لا تدوم أعواماً بعد اليوم؟! فيقولون بهذا القول: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13].قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13]، كيف يعلمون وهم كالأبقار انطمست بصائرهم وعميت عيونهم.
ضرب الأمثال للمنافقين
ضرب الله تعالى للمنافقين مثلين فقال: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:14-16]. هنا مثلين: مثل ناري: مضروب للذين علم الله أنهم يموتون على النفاق، ومثل مائي: مضروب لمن يرجى لهم العودة إلى الطريق المستقيم، وإلى الدخول في رحمة الله.قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18]، وهذا النور معبر عنه بالنار والنور القرآني، والآيات تنزل، فإذا نزلت الآية وكانت تحمل بشرى وهداية، وما سمتهم، ولا عرَّضت بهم، فرحوا واطمأنوا، فإذا نزلت الآية كالرعد القاصف تخرج نفاق المنافقين -والعياذ بالله تعالى- أصابهم ما أصابهم، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18].المثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19]، مطر يقال فيه: الصيب؛ لأنه يصب، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19]، هذه هي الآيات وأنوارها، فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:19-20]، برق الآيات وأنوارها. كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، ولو شاء الله لأصابهم ما أصاب الأولين، وماتوا على النفاق، ولا دخول في الإسلام، ولا نظر إلى رحمة الله.
نداء الله للناس أجمعين
بعد الآيات الأولى التي كشفت الهدى وبينته جاء نداء الله عز وجل للبشرية كلها بعنوان: الناس، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، أبيضكم وأسودكم .. عربكم وعجمكم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، أمرنا بأن نعبده، كيف نعبده؟ نعبده بما يبين لنا من أنواع الطاعة، إذ العبادة من العبودية، إذا قال: قوموا قمنا، وإذا قال: اقعدوا قعدنا، وإذا قال: انظروا، نظرنا، وإذا قال: أغمضوا أعينكم غمضنا. ولو لطول الحياة؛ لأننا عبيد.قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، أي: بما شرع لكم من أنواع العبادات والطاعات.لم هذه العبادة؟ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21]، إذا خطر ببال أحد: مَنْ هو هذا الذي يأمرنا بعبادته؟ من هو؟ الله الذي خلقك، وخلق أمك، وأباك، وجدك، وجدتك وإلى آدم الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، قد يقولون: نحن لسنا بمخلوقين، إذاً: هؤلاء مجانين، فلا يدخلون في دائرة الكلام معهم، مخلوقون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] أيضاً، ما أنتم وحدكم، أي: اعبدوا الله الذي خلقكم، وخلق من قبلكم بل وخلق كل شي، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81]، فالذي صنعك، وصورك، ووهبك حياتك، طلب منك أن تطيعه من أجل أن يكملك ويسعدك وأنت تقول: لا، لا. هذا جنون أو عقل؟! خلقك وصورك، ووهبك سمعك وبصرك وحياتك، وخلق كل شيء في الكون من أجلك، وطلب منك أن تطيعه؛ لأجلك أنت لا لأجله هو، حتى تكمل وتسعد في الدار الأولى والدار الثانية، وأنت تقول: لا، لا.. لا أعرفه.أرأيتم هبوط الكافرين والمشركين؟! دون البهائم، فالذين يرفضون عبادة الله مستواهم أحط من البهائم، والله تعالى ما قال: اعبدوا الجبار العظيم الذي بيده أرواحكم وأرزاقكم، والذي إن شاء أماتكم وأبادكم. ما نادى بهذا النداء، بل نادانا بما يمكن أن يعقله الرجل والمرأة والعربي والعجمي. اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، أي: خالقكم، الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21]، وعلل فقال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] بذلك عذابه ونقمه، أي: اعبدوه لتحصلوا بتلك العبادة على النجاة مما تخافون، ومما تحزنون وتتألمون. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، نتقي ماذا؟ عذاب الله، حتى لا نقع في فقر، ولا في فتنة، ولا في اضطراب، ولا في آلام، ولا في حروب، ولا ولا.. هذا في الدنيا، وعلَّنا نتقي أيضاً عذاب الدار الآخرة التي نرحل إليها تباعاً، واحداً بعد واحد، ومائة بعد مائة، والمصير واحد إلى دار البوار أو دار السلام.سبحان الله العظيم! ماذا يريد الله تعالى من العباد؟ يريد أن يكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة، وأسباب الكمال والسعادة في طاعته، طاعته فيما وضع من قوانين من شأنها أن تزكي النفس وتطهرها، وأن تهذب الأخلاق وترفعها، وأن تحسن الآداب وتسمو بها، فينتهي الظلم والشر والخبث والفساد، فيعيشون على سطح الأرض كالملائكة في السماء، قالوا: لا، الشيطان ما يريد.
إثبات ربوبية الله على العباد وتفضله عليهم
زاد الله الأمر بياناً فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]، إذا ما عرفتم الله بخلقه لكم، وخلق من قبلكم انظر .. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]، مبسوطة: تبني، تنام، تحرث، أليس كذلك؟! وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22]، فوقكم، لو شاء لخرَّت من فوقكم، من يبقى؟ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65].لو تسقط الشمس فقط -والعياذ بالله- والله لا يبقى موجود على الأرض. لا يا شيخ! ما من شأنها أن تنزل، أن تسقط فقط، فلو نزلت عن مستواها لاحترق الكون، والشمس حرارتها معروفة والأبعاد ما تدركها بعقلك، ومع هذا لو تخرج عن فلكها وتنزل لاحترق كل شيء، ولو ارتفعت لتجمد كل شيء، فنحن نعيش بحرارة الشمس بفضل الله. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة:22]، تكلمنا عن المطر الصناعي، وهل هناك مطر صناعي هذه الأيام في الصين أو في اليابان؟ قالوا: المطر الصناعي .. المطر الصناعي، وكتبت الجرائد والصحف: يتحدون بالمطر الصناعي، هل فعلاً حصل مطر صناعي؟ فرنسا عندما أصابها جدب في عام من الأعوام قالوا للمسلمين: صلوا وادعوا لنا الله عسى أن يمطرنا، وخرجنا وصلينا وأمطرهم الله.أين المطر الصناعي؟! فقط أنابيب مخروقة يخرج الماء منها، وقالوا: هذا المطر الصناعي.تدرون قبل ثلاثين .. أربعين سنة لما بدءوا يفكرون في قضية الطلوع إلى القمر، أخذت صحف العرب تكتب: من يحجز من الآن؟ احجزوا منازل في القمر، وشطحوا ورقصوا. فأين الطلوع إلى القمر؟! وقبل أيام أعلن أنها مناورات وكذب، وتمثيليات في الجبال فقط، وقد سبقت إلى هذا الصين الشيوعية أيام قوتها وشدتها، فنشرت في مجلاتها أنها مؤامرة ضد البشرية تمت بين الدولتين العظيمتين: روسيا وأمريكا، لإذلال البشر وإخضاعهم، وكل ما قالوا باطل، والذي يعرضونه في التلفاز وشاشات السينما تمثيليات فقط. أما نحن فبكينا، وقلنا: يا رب!يا مسلمون! اخجلوا، لا تتبجحوا بانتصارات أعدائكم، فعدوك يحقق هذه الأهداف السامية العالية، وأنت تمدحه وتثني عليه، ما تستحي؟! أما الصين فما أخفت هذا عن شعبها ولم تذكره، بل قالت: باطل، ليبقى الشعب الصيني متماسكاً وقوي الروح، ويستطيع أن يقف في وجه روسيا أو أمريكا، ونحن أبقار هابطون نصفق لهم، وإذا قلت: ما طلعوا. قالوا: اسكت، أنت رجعي، وأنت كيف ما طلعوا؟! وهذا الحديث سمعتموه أو لا؟ أعدناه من ثلاثين سنة، أين الطلوع إلى القمر؟ آه.إذاً: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، رزقاً لمن؟ لله وملائكته! لا، لكم يا بني آدم، من ينزل الماء من السماء؟ كيف يتحول هذا الماء؟ كيف يتكون؟ كيف؟ دعنا من آثار تكوينه، نزل ماءً عذباً فراتاً، فإذا انقطع ماتت الأرض ومات أهلها، وهذا ما نعرفه، أنه ربنا وخالقنا، نقول: من هذا؟
ربوبية الله تقتضي توحيده في عبادته وعدم الإشراك به
قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، فبعد هذه المعرفة اليقينية يجوز أن تقول: يا ألله! ويا عيسى؟! أو يا رب ويا هبل؟ أو يا رب وسيدي عبد القادر ؟! يجوز أن تجعل مضاداً لله تضاده به؟! لا يصح أبداً إلا التوحيد: لا إله إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي من الصالحين، فضلاً عن الأوهام، وما عبد البشر إلا بأمر الشيطان وتزيينه، إذ عبدوا حتى الفروج.إذاً: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22]، تضادونه بها بأن تعبدوه، فمعه تدعونها، تستغيثون بها، تذبحون لها الذبائح، تنذرون لها النذور، تتمسحون بها، تعكفون عليها، تعلقونها في أعناقكم.واليوم أخبرني طالب وهو صادق، أن مسيحياً مصرياً مدسوساً هنا جاء للعمل، فضبطوه وفي عنقه سلسلة الصليب، فمسكوه وكسروا الصليب وتركوه، وهو لا ينفعه. وعيسى نفسه الذي وضع الصليب له والله لن يغني عنك من الله شيئاً، والصليب في عنقه مضادة لله ومحادة له، فماذا ينفع الصليب؟ ماذا ينفع عيسى، أو أمه، أو جبريل عليهم السلام؟ من يستحق أن يعبد؟ الله، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فالذي ما خلق، ولا أمر، ولا كوَّن كيف يعبد؟إذاً: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، نعم يعلمون، لو تسألوه عن هذا الصليب: هل يشفيك من مرضك؟ تترك العلاج؟ يقول: لا، لا يشفي، هذا الصليب يمثل عيسى، وعيسى عليه السلام أنت تقول: ذبحوه وقتلوه، فلو كان ينفع ويضر فكيف يصلبونه على أخشاب والناس يشاهدون؟ أين عقول النصارى؟! والله -سبحان الله العظيم- إذا تكلم البصير منهم يقول: عادات فقط جرى عليها الناس، الإله يذبح ويصلب! سبحان الله العظيم! والدليل على أنه صلب أنهم يعلقون الصليب؛ لأنه صورة عيسى لما قتل وصلب من قبل اليهود، يا سبحان الله! والقرآن يصرح بأن عيسى ما قتل ولا صلب، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، ونقول: لا. القرآن يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، لا لا لا.. هذا قرآن العرب.وتمضي الأيام وتتوالى القرون والأعوام ونسمع ونحن في الدرس أن بولس الثامن أعلن أن اليهود برآء من دم المسيح، أما سمعتم بهذا بولس ! والغريب أن بولس هذا اسم قس، ورئيس كنيسة، وبولس عندنا ماذا في جهنم؟ درك من دركات النار اسمه: بولس.بولس يقول: إن اليهود برآء من دم السيد المسيح، فلا تحملوا لهم أيها النصارى العداء والبغضاء، وما قال هذا إلا بالمال؛ لأن اليهود سيطروا على العالم في باب البنك والرصيد والمال، فأخضعوا أوروبا وأمريكا، وأخضعوا العرب والمسلمين. سمعتم بهذه؟ قلنا: آمنا بالله، نحن من قبل نقول: عيسى حاشاه ما قتلوه وما صلبوه، بل رفعه الله إليه، وسينزل، وهم: لا لا لا.. قتلوه، هل استطاعوا أن ينزعوا الآن الصليب من أعناقهم؟ ما استطاعوا.
تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ...)
الآن مع قول ربنا: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، يخاطب الله تعالى البشرية كلها، وبخاصة الكافرين، والمشركين، والمنافقين، فيقول لهم: وَإِنْ كُنتُمْ [البقرة:23]، وبعد هذا النداء الذي وجهناه إليكم، والبيانات والبراهين التي لاحت في الآفاق بينكم بأنه لا إله إلا الله، فاعلموا أن محمداً رسول الله. يا من شهدوا أن لا إله إلا الله لما ظهر لهم من الآيات ولاح لهم في الآفاق من بينات، وعرفوا ألا يعبد إلا الله، فقالوا: لا إله إلا الله قولوا: محمد رسول الله.والبرهنة والتدبير على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله اسمع! وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23]، والريب: الشك الذي معه اضطراب في النفس، وقلق وحيرة، فليس مجرد شك وصاحبه هادي النفس بل في قلق. وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، من عبده هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الإضافة للتشريف: عبد الله، ومن منا يرقى إلى هذا المستوى، ويصبح حقاً عبد الله؟ تصبح عبداً لله مطيعاً له في حركاتك وسكناتك، وفي أفكارك، وميولك، وما تحمل من حياة، كل ذلك لله فأنت عبده إذا قال: قف. وقفت الدهر كله، وإذا قال: نم. نمت كذلك، ولا تصرف لك أبداً بل الكل لله. هذا العبد الذي استعبده بالخدمة، بالطاعة .. بالعمل المتواصل .. بترك كل شيء من أجل الله عز وجل. وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] من الآيات القرآنية التي حواها هذا الكتاب. ومن نزل هذا الكتاب؟ الله جل جلاله.فإن كنتم في ريب من تنزيل هذا الكتاب، أي: من كونه نزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليقرر رسالته ونبوته، وليجيب طاعته والاتباع له فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، تفضلوا! الباب مفتوح، نعطيكم عاماً .. عامين .. ثلاثة .. ألف سنة، تفضلوا فأتوا بسورة من مثل محمد في أميته، وعدم قراءته وكتابته وعلمه، أو من مثل هذا القرآن الكريم، والقرآن حمال أوجه.والشاهد في الاثنين، فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقد عاش أربعين سنة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ونزل عليه القرآن، وهو لا يفرق بين الألف والباء، ولا بين الهاء والواو.ولما بلغ الأربعين سنة نبئ، وهذه سنة الله في تنبئته وإرسال رسله، فعامتهم ينبئهم إذا بلغوا سن الرشد والكمال العقلي؛ لأن الفتوة والشباب يوجد فيها طيش للعبد؛ ما فيه ثبات ورصانة، ولكن إذا بلغ الأربعين اكتمل عقله ونماؤه، فسنة الله في هذا الباب ما نبأ ولا أرسل إلا من بلغ الأربعين، هذا في الغالب. فَأْتُوا بِسُورَةٍ [البقرة:23] من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وتفضلوا!ووجه آخر: فَأْتُوا بِسُورَةٍ [البقرة:23] من مثل القرآن.وهذا التحدي الإلهي قائم إلى الآن، فهل استطاعت البشرية أنت تأتي برجل يقول: أوحي إلي القرآن وأنزل علي كتاب، وهذه سورة من سوره؟! ما استطاعوا.وهنا حقيقتان أو وجهان مشرقان:الأول: أن الله عز وجل صرف قلوب البشر عن محاولة الإتيان بسورة، ومن يقوى على صرف قلوب البشر إلا الله؟ أجيال، الجيل بعد الجيل، وما هناك من حاول أن يأتي بسورة من مثل القرآن، ومن يقدر على قلب القلوب وصرفها؟ ما هي من جيل ولا من أمة؟ ألف وأربعمائة سنة، وهو كذلك.ثانياً: القرآن المعجز بألفاظه .. بكلماته .. بجمله .. بمعانيه لا يستطيع أحد مهما أوتي من الفصاحة والبلاغة والبيان لن يستطيع أن يأتي بسورة من مثل القرآن.إذاً: هذا التحدي قائم وباقٍ إلى الآن، فهو وحده يشهد أن محمداً رسول الله، إن طولبت وطلب منك التدليل على نبوة محمد ورسالته أجيبوا بكل سهولة: أنزل الله عليه كتابه مائة وأربعة عشر سورة، وتحدى الله البشرية كلها أن تأتي بسورة من مثله فعجزت، فدل هذا يقيناً أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وجاء قول الله عز وجل: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، وجاء أيضاً: فأتوا بمثل القرآن، فعجزوا إذ قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88] وتعاونوا وتضافروا، عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88]، من سورة الإسراء، قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، أي: معيناً ومساعداً، فالشياطين والجن فسقتهم وفجرتهم، والبشرية فجارهم وطغاتهم كلهم تعاونوا على أن يأتوا بمثل القرآن في هدايته وقضائه وأحكامه وشرائعه وبلاغته وبيانه فوالله ما استطاعوا، ومن هنا نزل تعالى وتحداهم بعشر فقط: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود:13]، ثم تحداهم بسورة واحدة من سورة يونس: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس:38]، وفي البقرة هذه الآية التي ندرسها: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، أي: من القرآن بأحكامه، وشرائعه، وآدابه، وقصصه، وأخباره، وأنبائه: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ [البقرة:23] الذين تعبدونهم، وتستغيثون بهم، وتستعينون بهم، وترجون شفاعتهم فليتفضلوا ليعينوكم، ويقفوا إلى جنبكم، ويساعدوكم على إتيان سورة فقط من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ويشهدوا لكم بأنكم على حق أيضاً، فعجزوا وما استطاعوا إلى اليوم.
تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)
تصريح القرآن بعجز المنكرين له عن الإتيان بسورة من مثله
قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، يفعلون ماذا؟ الإتيان بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، مستعينين بشهدائهم، بآلهتهم، بشركائهم، بمن يدعونهم، بمن يعولون عليهم من الإنس والجن، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هذه (لن) الزمخشرية.وقد اختلف النحاة في (لن) هل نفيها مؤبد أو نفيها كنفي لا: لا تأكل .. لا تشرب، لن تأكل بعد اليوم ولن تشرب؟ فالجمهور على أنها مثل لا النافية، أما الزمخشري اللغوي البحر فيقول: (لن) هذه تدل على النفي المؤبد، فإذا أردت أن تحرم أخاك من شيء، تقول له: لن أعطيك بعد اليوم، فلا يطمع، أما إذا قلت له: لا أعطيك بعد اليوم. ممكن تتراجع وتعطيه، لكن إذا قلت: (لن) أبَّدت النفي، وهنا (لن) للتأبيد. وَلَنْ تَفْعَلُوا هل فعلوا؟ لا.وهنا دائماً أذكر الأبناء والإخوان والمؤمنات من باب التبيين والتوضيح، أقول: لو أن أمريكا أنتجت آلة من الآلات الصناعية، ثم أعلنت أنها تتحدى العالم الإنساني سبعين سنة، ومن بين ذلك أوروبا الصناعية، واليابان الصناعية، وروسيا الاتحادية، فإذا استطاعوا أن ينتجوا مثل هذه الآلة، وهل تفعل أمريكا هذا التحدي؟ لا تفعل، وإذا تحدت فإنها تفضح.وأقول كذلك: اليابان الصناعية الآن متفوقة، فهل تستطيع أن توجد شيئاً من الصناعات ولو إبريقاً من أباريق الماء أو الشاي وتقول: أتحدى العالم الإنساني لمدة خمسين سنة أن ينتجوا مثل هذا؟ ممكن يقع هذا؟!والجبار جل جلاله وعظم سلطانه يقول: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، إلى الأبد، هل فعلوا؟ ما فعلوا.لو اجتمع علماء اللغة والبيان والفصاحة والسحر والمنطق كلهم وقالوا: نجمع عقولنا وقلوبنا على أن نأتي بسورة، ونعلن عنها في الصحف وفي الجرائد وفي الكتب أنها كسور القرآن:أولاً: الله يصرفهم، والله ما يجتمعون على ذلك، أليست قلوبهم بيد الله فهو الذي يصرفهم!.ثانياً: لو أراد الله أن يتركهم يتخبطون ليفضحوا، وتنكشف عورتهم، والله ما أن يقدموه حتى يضحك منها النساء والرجال: هذا كلام الله؟ هذا يشبه كلام الله حتى ننسبه إلى الله عز وجل؟ وتتم الفضيحة الكبرى.هذا معنى قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24].
كيفية اتقاء النار
إذاً: ماذا تنتظرون؟ ثبتت نبوة محمد، وتقررت رسالته، صح دينه. إذاً: فانجوا واطلبوا النجاة لأنفسكم: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، وما دمتم عجزتم، وعرفتم ضعفكم وعجزكم، ولاحت أنوار الكمال المحمدي وأنه رسول الله، وأن هذا وحي الله وكتابه، فأنقذوا أنفسكم من النار.إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا [البقرة:24]، أي: ما تتقد به وتشتعل، ليس فحماً، ولا حطباً، ولا بنزيناً، ولا غازات، بل وقودها أجسام الكفرة والكافرات، والمشركين والمشركات، العظام واللحوم، ومادة أخرى هي حجر من سجين، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، وهذا النوع من الحجارة ما رأيناه، ولكن البشر رأيناهم، فما هناك حطب، ولا خشب، ولا غازات، ولا.. هذا العالم المشتعل يشتعل بأجسام البشر وبالحجارة التي كانت آلهة وأصناماً يعبدها المشركون، وهذه الحجارة هي أصنام المشركين التي نصبوها حول بيوتهم وفي المنعطفات يعكفون عليها ويأتونها، ويتقربون إلى الله بالتمسح بها، والعكوف حولها.ومن الأمثال اللطيفة، أن العرب في جاهليتهم لما جاءهم عمرو بن لحي بالأصنام من الشام، الذي رآه الرسول في النار لما كشفت له وشاهدها، فوجده يجر قصبه في جهنم، فـعمرو بن لحي لما جاء بالأصنام انتشرت، وأصبح كل منعطف، كل حي في المدن، يجعلون تمثالاً، وإذا بأحد الأعراب ذهب إلى صنمه ليزوره ويستشفع به ويتبرك به، فلما دنا منه وجد ثعلباً قد رفع رجله ووضعها على كتفه ويبول عليه، كعادة الذئاب والكلاب عندما يبول أحدها يرفع رجله على شيء مرتفع، فنظر إليه ثم قال:أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالبواعتزله حتى مات، وتخلى عنه. ففطرته اقتضت هذا، كيف أن ربي آتيه لأعبده والثعلب يبول على رأسه، وما يدفعه ولا يقتله؟!ووا أسفاه، ووا حسرتاه!! فقد وقع آباؤنا وأجدادنا من القرن الثامن أو السابع في مثل هذه العمياء فعبدوا قباب الصالحين وقبورهم، وتقربوا إليها أكثر مما يتقربون إلى الله، فيحلفون بها، ويستغيثون بها، ويجعلون البقر والغنم لها، ويجعلون الأشجار لها، وهكذا مثل ما كان المشركون، ولا لوم ولا عتاب؛ لأن نور القرآن صُرف عنهم، فعاشوا في ظلام.وأنتم الآن ترون شيخاً يدرسكم القرآن أو لا؟ هذا كان مستحيلاً، يقولون: كيف يتكلم في كلام الله؟ ممنوع، لم؟ يقولون: القرآن فيه الناسخ والمنسوخ، فيه مجمل ومفصل، فيكفينا كتب الفقه، لا نتورط ونكذب على الله، فأصبح من يقول: قال الله؛ يرمى بالحجارة، فصرفوا أمة الإسلام عن القرآن.إذا ذهب القرآن بنوره أسألكم بالله: من أين تأتي الهداية؟ كيف يعرفون التوحيد؟! هذا هو السر.الحمد لله الآن، ولا ندري لو كنا في بلد آخر يسمحون لنا أو لا؟ الآن الحمد لله من نيف وأربعين سنة ندرس كلام الله في بيت الله ومسجد رسوله.والشاهد عندنا في أن ظلام الجهل هو الذي أوقعهم في عبادة غير الله عز وجل يستشفعون بغير الله.وقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، والسؤال معاشر الأبناء: بم نتقي النار؟ كنا نقول بالأمس: بم نتقي الله أو لا؟ وبم نتقي الحر أسألكم بالله؟ بالمكيفات والشمسيات أو لا؟ وبم نتقي البرد؟ وبم نتقي الجوع؟ لكل ما نخاف منه له ما يتقى به أو لا؟ فالنار بم تتقى؟إن عرفنا بم يتقى الله عرفنا بم تتقى النار، وإذا اتقينا الله بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمرا باعتقاده وقوله وعمله، وفيما نهيا عن اعتقاده وقوله وفعله، فذاك الذي نتقي به النار؛ لأننا إذا اتقينا الله وبعُد غضبه عنا وعذابه اتقينا النار، لكن من باب التوضيح ومن باب البيان: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، فلا تشتعل بمادة غير أصنام المشركين وآلهتهم التي عبدوها ثم بأجسامهم الضخمة في تلك النار أو ذلك العالم.
إعداد النار للكافرين برب العالمين
هذه النار أُعِدَّتْ [البقرة:24]، الإعداد للشيء إذا كان ذا قيمة، تقول: أعددنا لكم عشاء، معناه تعبنا وهيأنا، كذا أو لا؟ أعددنا للحرب عدتها، أعدت وهيئت بعناية خاصة. لمن أعدت النار؟ للكافرين، للكافرين بيض أو حمر، سود أو سمر. من هم الكافرون؟ إنهم الذين أنكروا وجود الله، وقالوا: الحياة مادة، وهؤلاء كفار جدد ما مضى عليهم أكثر من مائة وخمسين سنة، وهم البلاشفة الحمر الروس، وهؤلاء لم يسبقهم من كفر كفرهم قط في البشرية، بل البشرية موحدوهم ومشركوهم، مؤمنوهم وكافروهم يؤمنون بوجود الله الخلاق العليم، الذي يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ولكن أهل الشرك يتوسلون إليه بعبادة غيره، تلك العبادة التي زينها العدو لهم فعبدوها من أجل الله، واقرءوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].ويدلك لذلك أن أبا سفيان يحلف بالله، وأبا جهل يقسم بالله عز وجل، ويحج بيته، فهم مؤمنون بوجود الله، وأما هذا الكفر فجديد، وقد تغير بعدما انهزمت الشيوعية وتحطمت فلبسوا بدلة جديدة وهي العلمانية؛ ليسلبوا عقول البشر، وليتغنوا بالعلم، فيرفضون كل شيء إلا العلم، وهم ما يسمون بالعلمانيين.هل عرفتم الآن العلمانيين؟ ما استطاعوا أن يقولوا: لا إله والحياة مادة. فشلت هذه النظرية. إذاً: كيف يختبئون؟ تستروا بالعلم، فلو رفعت يديك بالدعاء قيل لك: قم اشتغل واسترزق، ولا ترفع يديك إلى السماء، بل اعمل وتعلم العلم.ومن هو الذي وضع هذا المبدأ البلشفي؟ والله إنهم اليهود، ولا عجب، فهم الذين وضعوا هذه من أجل التعجيل بتدمير البشرية والقضاء عليها لتصبح حيوانات يركبون منها ما شاءوا، ويأكلون ويذبحون ما شاءوا، وترتفع راية بني إسرائيل، ومملكة بني إسرائيل، فكل العظائم من السحر ومن موبقات الجرائم من وضعهم، وهم السر في ذلك، لو يسمعون كلامي هذا تأخذهم الحمى، ونحن ما يأخذنا شيء.وأخيراً: ما قلت لكم منذ أيام أنهم عرفوا أن هذه الدولة القرآنية لا تسقط ولا تزول إلا إذا عم أفرادها الخبث، وغطاها الفسق والفجور بالله العظيم، ومددنا أعناقنا كالأبقار، وما بكينا ولا اطرحنا بين أيدي ربنا، واستجبنا لهم ونحن لا نشعر، فهم يعملون على نشر الإلحاد والفسق والفجور؛ حتى تزول هذه العقبة من بين أيديهم، وهذه هي المانعة، عرفوا هذا أو لا؟ فهيا نقارن معرفتهم بأن نستقيم، لا نأكل إلا الحلال، ولا ننطق إلا بالحق، ولا نسكت إلا على الحق، وهكذا طهر وصفاء، ولو يجمعون الجن كلهم بسحرهم ما يؤثرون علينا، ولا يطفئون هذا النور الذي نعيش عليه، لكن عرفوا وما عرفنا، نشروا أفلام الدعارة والفجور بأنواعها، والسحر بضروبه، والآن في المدينة سحرة فكل يوم يكتشفون ساحراً.واسمع الآن، يقول لي طالب: في المدرسة أساتذة يقررون أن كشف الوجه ليس بحرام، بدليل القرآن والسنة، المرأة تكشف عن وجهها وكفيها. يا هؤلاء! أنسيتم قول ربنا: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ [النور:60] أية ثياب يضعونها؟ تنزع ثيابها وتخرج حمراء؟ هذا مقصود الله؟ أعوذ بالله! ما الذي تنزعه؟ تنزع ما كانت تغطي به وجهها وعنقها ويديها، ومع هذا يقول الله: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60] تبقى كالبنت، عمرها مائة وعشرون سنة وهي تخرج كالكتلة في ثيابها السوداء، لا تعرف كبيرة هي أو صغيرة. ولولا هذه الصيحات لفعلوا ما فعلوا، وبدأ الحجاب من عشرين سنة يزول في جامعة جدة، لكن بكى العلماء وبكى المسلمون وأدبوهم، الآن بدءوا يرددون -أيضاً- عن كشف الوجه، وهل ترضى أن تخرج امرأتك كاشفة وتضحك في الشوارع يا ديوث؟ يرضى بهذا مؤمن أو عاقل؟! حتى ولو كانت رمصاء، عمشاء، عمياء ما تريد أن تفضح بين الناس.إن نساء المؤمنين مستورات في الخيام مقصورات حتى في الجنة، فكيف نرضى بأن تصبح المرأة كاشفة عن وجهها ثم عن عنقها أيضاً، وكفيها وهي تلوح في الشوارع؟ أعوذ بالله.ثم لما بدأ دعاة السفور؛ عملاء اليهود في العالم الإسلامي، هل انتهى السفور فقط إلى الوجه؟ نزل إلى الفخذين والركبتين والساعدين، ودمج النساء مع الرجال في كل الأعمال والوظائف حتى أصبحوا كاليهود والنصارى.وهؤلاء في المدرسة لا يستحون أن يقولوا: الكشف ليس في الوجه والكفين، إذا كان فقط الكف والوجه مكشوفان إذاً ماذا بقي؟أنا أقول لهم: انظروا، أنا مستور أو مكشوف؟ انظروا إليّ، هل هناك غير وجهي وكفي؟ هذا هو الحجاب، إذاً السعوديون كلهم متحجبون، هذا فهم وذوق الذي يقصر الحجاب على الوجه والكفين.والشاهد عندنا: هذه أصابع الماسونية اليهودية لعنها الله عز وجل وقطع دابرها. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (115)
الحلقة (122)
تفسير سورة البقرة (80)
رد الله عز وجل على أهل الكتاب تبجحهم بالقبلة، وادعاءهم الإيمان والكمال فيه، لمجرد أنهم يصلون إلى بيت المقدس، ثم بين سبحانه أن البر الحقيقي، والإيمان الصادق هو بالإيمان بالله سبحانه وتعالى وكتبه ورسله، وإقامة شرع الله عز وجل، وحكم دينه في سائر شئون حياته، والالتزام بأداء الحقوق على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا هو طريق الفلاح والنجاح.
تابع تفسير قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا ذلك يا رب العالمين.وقد كنا مع هذه الآية العظيمة الجليلة وما استوفيناها شرحاً ولا تفسيراً.
معرفة مقياس الإيمان بعرضه على قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ...)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. يصح -معشر المستمعين والمستمعات- أن نقول: هذا عرض للمؤمنين الصادقين، شاشة بيضاء من نور الله عز وجل، إن شئت أن ترى نفسك في هذه المواكب السعيدة فانظر: فإن وجدت نفسك فيهم وبينهم ومعهم فاحمد الله وأكثر من حمده وشكره، وإن وجدت نفسك غير موجود فابك على نفسك، واقرع باب الله فإنه يفتحه لك، وادخل في رحمته.وإن وجدت نفسك تظهر في معرض وتغيب في آخر فجد في عزمك من جديد، وأصلح حالك، وحدد وجهة نظرك في مسيرتك، وادخل مع مواكب الإيمان والإسلام قبل أن تفوت الفرصة، والله! إنها لضيقة.
الرد على اليهود والنصارى في ترك حقائق الإيمان والاعتراض بتحويل القبلة
ذكرت لكم أنه لما استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يتطلع إلى القبلة ليستقبل بيت الله الكعبة المشرفة، وقد جاء في هذا قول الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، لما استجاب الله تعالى لرسوله اغتاظ اليهود، وكانوا يساكنون اليهود في المدينة، وقالوا: بالأمس يستقبل قبلتنا، واليوم يعدل عنها، ومن الجائز أن يعدل عن القبلة الثانية غداً! والمرض موجود، وكانت شائعات تألم لها المؤمنون، ويكفي أن نسمع قول الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، إذ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون قرابة سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في مخالفة اليهود، فكان يتطلع إلى ذلك، ففتح الله، وأمر المؤمنين أن يتجهوا نحو الكعبة المكرمة.هذه الشائعة أبطلها الله عز وجل بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ [البقرة:177] وفي قراءة: ( ليس البرُّ ) أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، ما هي قضية قبلة وصلاة فقط، وهذه الآية أيضاً تهز قلوب الذين لا هم لهم من الإسلام إلا الصلاة، فإذا صلى ظن أنه بلغ الكمال في إسلامه!ليس البر تولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب، أي: للصلاة، ولكن البر الحق والبرور والصدق والبار بالحق هذا الذي آمن بالله حق الإيمان أولاً، وهل هناك إيمان غير صحيح غير حق؟ نعم. إنه إيمان المنافقين بألسنتهم، ولا دخل له في قلوبهم، وكم من مدعي الإيمان وما هو بمؤمن، فإيمانه كاذب وليس بصادق.
صور الإيمان الحق المتجلية في أركانه وأعماله
فالإيمان الحق تتجلى لكم صوره فيما يأتي: أولاً: آمن بالله، أي: رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، هذا الإيمان الحق إن وجد أثمر لصاحبه ثمرتين عجيبتين: الأولى: حب الله، فيصبح يحب الله أكثر من نفسه وأهله والناس أجمعين.ثانياً: يثمر له خشية الله، الخوف من الله، يصبح إذا ذكر الله ترتعد فرائصه ويوجل قلبه، فأيما دعوة للإيمان وصاحبها لا يحب الله ولا يخشاه فهي دعوى باطلة ما هي بحق.ثانياً: وآمن باليوم الآخر، أي: آمن بالله وبلقائه، ولقاء الله متى يتم؟ يوم القيامة في اليوم الآخر حيث البشرية كلها في صعيد واحد في ساحة واحدة تسمى ساحة فصل القضاء، وانظر إلى هذا المنظر: قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:67-71] ثم قال تعالى بعدها: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73]، وانتهى كل شيء، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، فاستقر أهل النعيم في نعيمهم وأهل العذاب في عذابهم.فالإيمان بلقاء الله والإيمان باليوم الآخر قوة دافعة للعبد على أن يطيع الله ورسوله، إذا قويت هذه العقيدة في النفس وأصبح لا يفارق قلبه ذكر الدار الآخرة فهذا يجد العصمة الكاملة، وقد أثنى الله على بعض عباده الصالحين وقال: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] الآخرة، من نسي يوماً واحداً الموت والفناء والبلاء ثم الوقوف بين يدي رب الأرض والسماء أكلته المعاصي واجتاحته، فلهذا من الحكمة أن تجعل الموت نصب عينيك.والإيمان باليوم الآخر -معاشر المستمعين والمستمعات- معناه: الإيمان بالبعث والحساب والجزاء، ليس مجرد لقاء. ثم الإيمان بالملائكة، وقد عرفنا عنهم ما شاء الله، ومن ذلك أنهم لا يحصي عددهم إلا الله، وأنهم موكلون بوظائف وأعمال يقومون بها، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأن من أعظمهم المقربين، ثم الكروبيين، ثم حملة العرش الأربعة الذين يعززون يوم القيامة بأربعة فيصبحون ثمانية، إذ قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وأن منهم الموكلين بالجنة ونعيمها، ومنهم موكلون بالنار وعذابها، وقد عرفنا الزبانية التسعة عشر، وعرفنا مدى قوة هؤلاء الملائكة، فجبريل تجلى وظهر بمكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيام البعثة الأولى وقد سد الأفق كله بستمائة جناح، وعرفنا قوته في سدوم وعمورة مدن قوم لوط؛ جعل عاليها سافلها، ونفخة إسرافيل في البوق في الصور نفخة واحدة تتزلزل الكائنات وتبددها، وقد عرفنا عددهم، فإذا كان كل واحد منا له عشرة: ثمانية حراس واثنان يكتبان أعماله، فكم عددهم إذاً؟وعرفنا الإيمان بالكتب، وهي جمع كتاب، والمراد من الكتب ما أنزل الله تعالى على رسله، وأعظم الكتب أربعة: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وهناك صحف شيث عليه السلام ستون صحيفة، وصحف إبراهيم عليه السلام، وما لم نعلمه أكثر، والذي جاء في كتاب الله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن نعرفه وأن نؤمن به.ثم الإيمان بالنبيين: جمع نبي، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فما كان رسول إلا وهو نبي، ثم أرسل فهو رسول، وأما النبي فقد يكون نبياً وليس برسول.وقلنا: الفرق بينهما: أن الرسول يحمل الرسالة يبلغها أهل إقليم من الأقاليم أو بلاد من البلدان، والنبي لا رسالة له، يعلمه الله ويخبره ويوحي إليه ولكن هو يعيش على شريعة ورسالة من سبقه، هذا الفرق. فلهذا فعلماء المسلمين شبيهون بالأنبياء، إذا صاموا وصلوا، إذا صدقوا واستقاموا وبلغوا رسالة الله فهم كالأنبياء في بني إسرائيل، لم يوح إليهم بشرع والشرع موجود وهم يدعون إليه.وعرفنا أن عدد المرسلين ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، على عدة قوم طالوت وعلى عدة أهل بدر، وأما الأنبياء فقد ورد في الحديث أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، ويدلك على كثرتهم ما أخبر به أبو القاسم صلى الله عليه وسلم من أن اليهود لما هبطوا هبوطنا هذا كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم ويقيمون أسواقهم في المساء. إذاً: ذلك الذي درسناه من الآية وهو بعضها.
معنى قوله تعالى: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين)
انتهينا إلى قوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، (آتى) بمعنى: أعطى، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ [الحاقة:19] أي: أعطي كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة:19]. فهذا البار المؤمن الصادق صاحب البر: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أي: على شدة حبه له وضنه به أعطاه، وإن شئت أيضاً فقل: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أي: من أجل حبه الله تعالى أنفق فيما أمره أن ينفق، والكل صحيح، والقرآن حمال الوجوه، ولولا حب الله ما أنفق ماله، ولكن الظاهر هو الأول: أنفق المال مع حبه له ورغبته فيه، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177] ذوي بمعنى: أصحاب، ذو المال: صاحب المال، ذو الجاه: صاحب الجاه، والجمع ذوو مرفوع وذوي منصوب.(ذوي القربى) أي: القرابات الأقرب فالأقرب، كما قال عمر رضي الله عنه: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فأنت لا تستطيع أن تصل كل رحم وهم ألف نسمة أو أكثر، لكن الأقرب فالأقرب، الابن قبل ابن الابن، والبنت قبل بنت البنت، والأخ قبل ابن الأخ.. وهكذا في حدود طاقتك وما تتسع له. وَآتَى الْمَالَ [البقرة:177] أعطاه، يحمله بيده ويضعه في يد الآخر.وقوله تعالى: وَالْيَتَامَى [البقرة:177] الذين فقدوا الآباء قبل بلوغهم واستكمال حياتهم، فهؤلاء اليتامى من يقيتهم؟ من يعيشهم؟ لا بد من مؤمنين صادقين ينفقون عليهم.وقوله تعالى: وَالْمَسَاكِينَ [البقرة:177] جمع مسكين، من أسكنته الحاجة وأذلته وقعدت به، فمن لهذا المسكين؟ المؤمنون الصادقون في إيمانهم ذوو البر والتقوى هم الذين ينفقون. وَابْنَ السَّبِيلِ [البقرة:177] وهل السبيل تلد؟ ما السبيل يا هذا؟ هي الطريق، فالسبيل لا تلد ولداً ورجلاً، لا، ولكن الذي جاء معها ودخل بلادنا ولا يعرف فيها أحداً هو ابن السبيل، لا تعرف أباه ولا أمه فتقول: هذا ابن عثمان ولا ابن زيد، هذا ابن السبيل، فهذا إذا نزل بالقرية كما في الزمن الأول لا فندق ولا مطعم، فمن له؟ وإن كان من أغنى الأغنياء في دياره، لكن انقطع، جاء على راحلته أو على رجليه بينه وبين بلاده آلاف الأميال وإن كان غنياً، فماذا يصنع؟ فالمؤمنون الصادقون هم الذين ينفقون عليه حتى يعود. وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177] أي: وينفقون على السائلين الذين تدفعهم الحاجة إلى أن يقولوا: يا فلان! سد حاجتي، جعت.
معنى قوله تعالى: (وفي الرقاب)
قال تعالى: وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] أيضاً، ما معنى: في الرقاب؟ الرقبة هي الجزء المعروف من البدن، ما بين الرأس والجسد، والمراد من الرقاب: المملوكون، المملوك يملك من رقبته أم لا؟ من أين يجر؟ يؤخذ من رقبته، إذاً: هذا المملوك ينتظر من يحرره؟ من يعتقه؟ متى؟ ما يستطيع، فيتفضل المؤمنون المتقون أولياء الله فيشترونه: فيقولون: أنت حر في سبيل الله فاعبد ربك، يتملقون إلى الجبار ويتزلفونه بتحرير عبيده، فهم استُعبدوا بما أذن الله به، ولكن يمتحن الله أولياءه بعتق هؤلاء وتحريرهم. فهذه مشاريع وأبواب الإنفاق: أولاً: (ذوو القربى)، ثانياً: (اليتامى)، ثالثاً: (المساكين)، رابعاً: (ابن السبيل)، خامساً: (السائلون)، سادساً: (في الرقاب)، أي بيان أعظم من هذا البيان؟ بيان من هذا؟ هذا بيان الله، فلهذا أمة حرمت القرآن أمة ضلت وهلكت.
معنى قوله تعالى: (وأقام الصلاة)
قال تعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177] هذا الذي هو بحق مؤمن بار من ذوي البر، آمن بالله وباليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله والقضاء والقدر، كما في آية سورة القمر: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، الآية الوحيدة، وبينته السنة في صحيح مسلم وغيره من حديث جبريل عليه السلام.ثم بعد هذا بين وجوه الإنفاق بالمال الذي يحبه، أما إذا كان يكره المال وما له فيه حاجة فما يكون هذا مظهراً من المظاهر كما لهذا الفحل، لكن ما حاجته إليه؟ورد في السنة النبوية أن أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت قوي شحيح، أما إذا مرضت وتخاف الموت فالصدقة هينة، أو كنت سخياً طبعت على السخاء تنفق الليل والنهار، لكن أعظم الصدقة أجراً ومثوبة وأنت قوي شحيح تحب الدنيا والمال. وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]، هل عرفتم إقام الصلاة، ما قال: وصلى، كلا، قال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]، وورد: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4]، فرق بين (صلى) وبين (أقام الصلاة)، فذاك صلى صلاة لا تنتج له الطاقة النورانية، لا تولِّد له الحسنات، أيما صلاة لا تستوفي شرائطها وأركانها وسننها وواجباتها فهذه عملية فاشلة، ما تولد النور، وقد علمنا -زادنا الله علماً- أنه لا عبادة أكثر توليداً للحسنات من الصلاة، شاهد هذا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فما من مؤمن يقيم الصلاة إلا وينتهي انتهاء كلياً عن القول أو الفعل الفاحش أو الفعل الباطل والمنكر، وكل من ترك الصلاة فهو عرضة لغشيان الذنوب والآثام، وكل من صلى ولم يقم الصلاة لا يسلم من السقوط في الجرائم والموبقات.وهنا كلمة رددناها مئات المرات ولكن ما استجاب أحد، حيث قلت: إذا كنتم تريدون أن تتأكدوا فاذهبوا إلى محافظ المدينة أي مدينة، وقولوا: يا سيد! أعطنا قائمة بالمجرمين في هذا الشهر، وهم كثيرون، هذا سرق.. هذا كذب.. هذا عق أباه.. هذا سب فلاناً، فأقول: أنا أقسم بالله! لن تجدوا نسبة أكثر من خمسة في المائة من المقيمين الصلاة وخمسة وتسعون من تاركي الصلاة ومن المصلين، وأحياناً أقول: اذبحوني إذا ما صدقت، وفي أي بلد في العالم الإسلامي.فالذي يناجي ربه في الليل والنهار لا يفارق محاربه هل هذا ينغمس في المعاصي والذنوب والآثام؟ ما يستطيع، النور يمنعه، أما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فكل المخالفات نتيجة ترك الصلاة أو التهاون بها وعدم إقامتها.والآن أسألكم: لم يقول تعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]ولم يقل: صلى؟لأن هذه عبادة إذا أديت على ما وضعها الله عليه تنتج النور للقلب، فإذا امتلأ القلب نوراً فاض على سمعه فلا يسمع باطلاً، فاض على لسانه فلا ينطق بسوء، فاض على عينيه فلا ينظر حراماً، غطاه النور، والذي يعيش في الظلمة أما يقع في الهاوية؟
معنى قوله تعالى: (وآتى الزكاة)
ثم قال تعالى: وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] فضلاً عن الإنفاق العام في تلك الطرق الستة قال: (وآتى الزكاة)، فيعترف بها أنها قاعدة الإسلام، وآتاها وأعطاها أهلها، وما سميت الزكاة زكاة إلا لأنها تزكي النفس وتطهرها وتزكي المال وتنميه بإذن الله أيضاً، إذا أديت إيماناً واحتساباً وعلى الوجه الذي بين الله عز وجل بلا زيادة ولا نقصان فهذه من شأنها أن تزكي النفس البشرية وتطهرها كالصلاة، لكنها دون الصلاة، الصلاة كل يوم والزكاة في العام مرة.
معنى قوله تعالى: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا)
قال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177] هذه لا تظنوها سهلة، والموفي من: أوفى، عاهد وأوفى، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177] إذا عاهدوا الله أولاً أو عاهدوا رسوله أو عاهدوا إخوانهم أو عاهدوا من عاهدوا لا ينقضون العهد، ولو يترتب عليه هلاكهم أو ضياع مالهم. ومن لم يوف فهو مريض بالنفاق، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وأعطى رجاله أمارة، وما كان عندهم شرطة ولا مخابرات ولا أمن، كل مؤمن شرطي وخبير بالمخابرات وحام وحارس للبلاد والعباد، ولماذا نعمل نحن الآن المخابرات والشرط؟ لأننا هبطنا، فكل مؤمن يجب أن يكون في القرية حارساً أميناً يرعى الحق والفضيلة، وكم كان للرسول من شرطي؟ فكل مؤمن شرطي، أتمر بجريمة وتسكت؟ أتمر بفساد أو شر وتسكت؟ غيِّره فأنت المسئول، لكن قلدنا الغرب من جهة؛ لأن الغرب كفار لا يخافون الله، إذا جاع أكل أمه، لكن المؤمن إذا جاع يحتسب جوعته لله، ما يأكل مال أخيه، لكن لما هبطنا وأصبحنا لا نأمر بمعروف ولا ننهى عن منكر، بل نتآمر ونكون عصابات للشر، إذاً: لا بد من الشرطة والمخابرات والآلات، فاللهم سلم سلم، أو تريدون أن نقول لكم: اتركوا هذا؟ أسلموا يوماً واحداً فقط، هيا نسلم، والله! لتبيتن أبوابكم مفتوحة، أما وقد أعرضنا وما أسلمنا لله شيئاً فكيف إذاً يتحقق الأمن؟ هل لكوننا كنا مؤمنين؟يقول صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )، إذا ضبطتم الرجل في القرية هكذا فألقوا القبض عليه فإنه منافق، ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، والعياذ بالله.
الحاجة إلى التربية المسجدية لإصلاح أخلاق المسلمين
تدخل المحاكم في العالم الإسلامي فتتجلى في الخصومات أنواع الفجور، والخروج عن الآداب واللياقة والعقل والمعروف، ما علة هذا؟والله! لا علة إلا الجهل، قد يقال: كيف تقول: الجهل، والكليات والجامعات والمدارس من موريتانيا إلى إندونيسيا، أي جهل هذا الذي تعني؟ تريد منا أن نجعل في كل بيت مدرسة؟فأقول: الجهل بالله جل جلاله وعظم سلطانه، الجهل بمحابه تعالى ومكارهه، الجهل بما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه، وهذه شريعته كائنة ما كانت، فالذي ما عرف الله بأسمائه وصفاته فما أحبه ولا خافه، فمثل هذا تأمنه؟ يفجر ويأكل ويسخط.إذاً: هيا نتعلم، وما الطريق؟ سوف أموت وتبقى هذه الكلمة مسجلة ولم تطبق، لم؟ أمة هبطت، كيف نطهر قلوبنا ونزكي أرواحنا؟ كيف نبعد ظلمة الجهل عن نفوسنا؟ المدارس كثيرة ووسائل التعليم لا حد لها ولكن ما نفعت؛ لأننا ما طلبنا العلم لله، ما وضعنا وسائله لله.الطريق الوحيد -اللهم اشهد- أن نراجع تاريخ الحبيب صلى الله عليه وسلم، وحينئذ نجد أنفسنا كما كان رسول الله وأصحابه.إذا مالت الشمس للغروب في الساعة السادسة وقف دولاب العمل، الفلاح يرمي بالمسحاة ويوقف العمل، والتاجر يغلق باب المتجر، والعامل، حتى الكناس يلقي المكنسة، أهل البيت يحملون أطفالهم ويخرجون إلى بيت ربهم، ما إن يؤذن المغرب إلا وأهل القرية كلهم في المسجد، ما بقي أحد خارج المسجد إلا مريض أو من في حكم المريض، أهل الحي من المدينة ذات الأحياء إذا أذن المغرب لا يبقي من هو خارج المسجد، كلهم في بيت ربهم، النساء وراء ستارة ومكبرات الصوت تبلغهن الكلام، والأطفال صفوف كأنهم ملائكة دون النساء، والفحول مثلكم أمامهم، ويجلس لهم مرب يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وذلك كل ليلة، فليلة آية وأخرى حديثاً، وهم ينمون ويرتقون ويتعلمون ويعملون، وبعد سنة فقط لن تعثر على معصية في تلك القرية، فلم يبق شح ولا بخل ولا حسد ولا رياء ولا كبر ولا نفاق ولا زناً ولا سرقة ولا خلف العهد ولا كذب، كل ذلك يزول؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع والماء يروي والنار تحرق والكتاب والسنة يزكيان النفس ويطهرانها، سنة الله تعالى لن تتخلف أبداً، ومن مرض أو اشتد مرضه فليرحل ولا يقيم في الحي ولا في القرية، فلان رحل وما أطاق أن يعيش على نور الله، هذا هو الذي يزول به الجهل، لا المدارس والمكاتب والكليات، هذا هو الطريق، والمدارس افتحوها وتعلموا أنواع الصناعات فيها وتفوقوا، ما عندنا مانع، افتحوها ليتخرج علماء الكتاب والسنة والشريعة، أما التعليم الرباني الروحي المزكي للنفس الذي تظهر نتائجه في أول ساعة فهو في بيوت الله عز وجل، بـ(قال الله قال رسوله)، فتنتهي الفرقة والمذهبية نهائياً، أهل بيت الله يتعلمون كتاب الله وسنة رسول الله، لا إباضي ولا زيدي ولا رافضي، ولا مذهبي، هم مسلمون، والذي ما يطيق هذا النور فهو كالشيطان فليرحل، والله! ما يبقى في القرية أبداً ولا يبقى في الحي، يذهب إلى من هم على صفاته، فهذا هو الطريق.ولا غير هذا أبداً، وقلنا لهم: جربوا، ونحن سنزورهم، والله! لو أن أهل قرية التزموا بهذا المبدأ المحمدي وعاشوا سنة لذهبنا إلى دارهم لنشاهد كمالاتهم، ولكن ما وجدنا، كم مرة ونحن نعيد هذا الكلام، فأين العلماء؟ أين الأمراء؟ أين الأذكياء؟ أين الأغنياء؟ أين البصراء؟ خيم علينا ظلام المستقبل، فلا إله إلا الله!
معنى قوله تعالى: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس)
قال تعالى: وَالصَّابِرِينَ [البقرة:177] أيضاً فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [البقرة:177]، هؤلاء أصحاب البر الحق، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ [البقرة:177]، والبأساء:حالة البؤس، قد تكون فقراً، والضراء: حالة الضرس، مرض أو غيره من آلام، لا يتتعتعون ولا يتزعزعون، فقير ما يشكو فقره إلا إلى الله، مريض لا يفارقه قول: الحمد لله .. الحمد لله، هذا الصبر لن يتم إلا لأصحاب العقائد التي مرت بنا، فهم الصابرون بحق في حال البأساء وحال الضراء. وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177] أي: وقت الحرب والشدة، البأس هنا القتال، إذا اندفعت كتائب الله تجاهد لا يتزعزعون والموت يتخطفهم، أولئك العالون السامون أين هم؟ في الملكوت الأعلى.
معنى قوله تعالى: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)
أُوْلَئِكَ [البقرة:177] أشار إليهم بلام البعد، أولئك الذين صدقوا في أنهم مؤمنون، وادعوا الإيمان وقالوا: نحن مؤمنون، هؤلاء هم الذين صدقوا، ومن لم يكن على نهجهم وعلى التجمل بصفاتهم فما هو بصادق، ما صدق في دعواه الإيمان وأنه من أهل البر والتقوى. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] هؤلاء هم المتقون لسخط الله وغضبه وعذابه ونقمه، هؤلاء هم المتقون لغضب الله فلا يغضب عليهم، ولسخطه فلا يسخط عليهم، ولعذاب الله فلا يعذبهم، لا يخزيهم ولا يذلهم لا في دنياهم ولا في أخراهم، لما هم عليه من هذه المناعة الكاملة: إيمان وعمل صالح، فاللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآية الكريمة
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة:في الآيات الثلاث السابقة لهذه الآية ندد الله تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به من غضبه وأليم عقابه يوم القيامة، كما تضمن ذلك تخويف علماء الإسلام من أن يكتموا العلم على الناس طلباً لحظوظ الدنيا الفانية.وفي هذه الآية رد الله تعالى على أهل الكتاب أيضاً تبجحهم بالقبلة، وادعاءهم الإيمان والكمال فيه؛ لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم بيت المقدس بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق؛ إذ الأولى قبلة اليهود والثانية قبلة النصارى، فقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ [البقرة:177] كل البر أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات.بين تعالى لهم البار الحق في دعوى الإيمان والإسلام والإحسان فقال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:177] أي: ذا البر أو البار بحق هو مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:177]، وذكر أركان الإيمان إلا السادس منها: القضاء والقدر، وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] وهما من أعظم أركان الإسلام، وأنفق المال في سبيل الله مع حبه له وضنه به على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهو ينفق ماله على من لا يرجو منه جزاء ولا مدحاً ولا ثناء؛ كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي الخصاصة والمسغبة، وفي تحرير الأرقاء وفكاك الأسرى، وَأَقَامَ الصَّلاةَ [البقرة:177]] أي: [ أدامها على الوجه الأكمل في أدائها، وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] المستحقين لها، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أعظم قواعد الإسلام، وذكر من صفاتهم الوفاء بالعهود والصبر في أصعب الظروف وأشد الأحوال، فقال تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، وهذا هو مبدأ الإحسان وهو مراقبة الله تعالى والنظر إليه وهو يزاول عبادته.ومن هنا قرر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان والإسلام، وهم المتقون بحق غضب الله وأليم عذابه، جعلنا الله منهم، فقال تعالى مشيراً لهم بلام البعد وكاف الخطاب لبعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] ]. هذا معنى الآية.
هداية الآية الكريمة
ومن هدايتها: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية الكريمة:من هداية الآية الكريمة:أولاً: الاكتفاء ببعض أمور الدين دون القيام ببعض لا يعتبر صاحبه مؤمناً ولا ناجياً ]، فالذي يكتفي ببعض العبادات أو بعض التكاليف عن الأخرى ما آمن ولا هو بناج.[ ثانياً: أركان الإيمان هي المذكورة في هذه الآية، والمراد بالكتاب في الآية: الكتب.ثالثاً: بيان وجوه الإنفاق المرجو ثوابه يوم القيامة، وهو ذوو القربى... إلخ ] إلى آخر ما ذكر تعالى.[ رابعاً: بيان عظم شأن الصلاة والزكاة ]، ولو أن أهل إقليم أقاموا الصلاة فقط فوالله! لانتفت مظاهر الباطل كلها، ما بقي شيء اسمه جريمة، تقام الصلاة فقط، فإذا تركت الصلاة أو أهملت الصلاة تجلى الفسق والظلم والفجور في أعظم صوره.وقد استقل العالم الإسلامي من بريطانيا وفرنسا ومن إيطاليا، وما استطاعت دولة أن تأمر بالصلاة، فأنا في حيرة من هذا، فمن إندونيسيا إلى بريطانيا تستقل الحكومة عن الحكومة الغاصبة والمستعمرة ولا يصدر أمر بإقام الصلاة، ما السر في هذا؟العدو عرف قبل أن نعرف، فمن ثم نزع هذا من قلوب من ولاهم وسلطهم، عرفوا لو أن الصلاة أقيمت فإنه ينتهي الفقر والبلاء والذل والهون والجرائم كلها، تمسح مسحاً كاملاً إذا أقيمت الصلاة، لم؟أما قال الله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟ فالكذب والخيانة وخلف الوعد كل هذه المصائب من ترك الصلاة وعدم إقامتها.[ خامساً: وجوب الوفاء بالعهود.سادساً: وجوب الصبر وخاصة عند القتال ]؛ لقوله تعالى: وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]. [ سابعاً: التقوى هي ملاك الأمر والغاية التي ما بعدها غاية للعاملين ].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (116)
الحلقة (123)
تفسير سورة البقرة (81)
كان بعض قبائل العرب يتعاملون مع قضايا القتل والثأر بنوع من التميز، ويتخذون لأنفسهم مقاماً أعلى من مقام الناس، ظناً منهم أن ذلك يجوز لهم، فإن قُتل لهم امرأة قتلوا بها رجلاً ممن سواهم، وإن قُتل لهم عبد قتلوا به حراً من غيرهم، فجاء الإسلام مبطلاً لذلك، ومبيناً لهم ضوابط الاقتصاص والأخذ بحق الدم، فلا يقتل بالعبد حر ولا عبدان، ولا بالرجل رجلان، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان، لكن من قتل إنساناً قتل به، إلا أن يتنازل أولياء الدم إلى الدية أو العفو فلهم ذلك.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله جل جلاله وعظم سلطانه.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:178-179].معاشر المستمعين والمستمعات! أذكركم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، كما أذكركم بفضيلة أخرى هي لكم بإذن الله، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وهذه الآيات سبقت لنا دراستها في نداءات الرحمن؛ لأنها إحدى النداءات الإلهية، ولا بأس بتكرارها؛ إذ الشيء إذا تكرر تقرر، بهذا قال أهل العلم، فهيا إلى شرح هذه المفردات المباركة.
شرح الكلمات
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]، من الذي كتب؟ الله جل جلاله، وهذا الكتب بمعنى الفرض، وكتب في أي كتاب؟ في القرآن وكتاب المقادير اللوح المحفوظ، إذ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، واذكروا قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، ونزل في ليلة القدر، واستمر نزوله ثلاثاً وعشرين سنة.
وسطية الأمة في استيفاء الولي حق دم وليه
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: كتب: فرض، والقصاص: إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف ]، أما إذا رضي ولي الدم بالدية أو بالعفو فلا قصاص، وقد عرفتم فضيلة هذه الأمة؛ إذ كان القصاص فرضاً على بني إسرائيل ولا دية ولا عفو، لو قال ولي المقتول: آخذ دية، لم يقبل الحاكم بذلك، ولو قال: نعفو لوجه الله، لم يقبل الحاكم بذلك؛ وذلك لحكمة علمتموها: أن القوم قست قلوبهم وتمردوا على شرع الله وفسقوا عن أوامره، فلما عتوا أغلظ الله الحكم عليهم تأديباً وتربية.وأما النصارى من عهد عيسى عليه السلام فقد استقلوا أيضاً بديانتهم، فرض الله تعالى عليهم العفو، فلا قصاص ولا دية، من صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.وهذه الأمة أمة الوسط، وهي -في الحقيقة- البشرية اليوم كلها، وإنما من أجاب أصبح من أمة الإجابة، ومن أعرض أصبح من أمة الكفر والعياذ بالله، والكل نزل القرآن لهم، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ولهم.قال: [ في القتلى: الفاء سببية، أي: بسبب القتل ]، فقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] أي: بسببه.[ والقتلى: جمع قتيل ]، قتيل وقتلى كمريض ومرضى. [ وهو الذي أزهقت روحه فمات بأي آلة ] كان القتل، بحصاة أو بعصا، بسيف أو برمح، الكل واحد.
قتل العبد بالعبد وبيان تشوف الإسلام إلى تحرير الرقيق
[ الحر ] في قوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] [ خلاف العبد ]، وهو كذلك، [ والعبد هو: الرقيق المملوك ].كلنا عبيد الله، ولكن فيما تعارفت عليه البشرية أن العبد من مُلِك وتُصرِف فيه، ولملكه عوامل وأسباب أظهرها: أن الحرب إذا أعلنت وانتصر فريق على آخر فسبيهم من الذراري والنساء والأطفال يسترقون، فإذا ما استرقوا ووزعوا على المجاهدين أو المقاتلين يصبح كل واحد مالكاً لعدد من أولئك العبيد، جاء الإسلام والحال هكذا في العالم بأسره، فلم يشأ الله أن يبطله رأساً وفوراً؛ لما في ذلك من تبعات ومسئوليات وقضايا قد لا يتمكن ولاة المسلمين من تنفيذها، لكنه عمل على تحرير الأرقاء.واذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: ( من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة حين يصبح كان له عدل عشر رقاب )، ففيه الترغيب بتحرير العباد المسترقين.واذكر لذلك: أن من حلف بالله لا أعطيك، أو بالله لأعطينك وحنث فعليه كفارة، بم يكفِّر هذا الذنب الذي علق بنفسه؟ وسبب الذنب هو أنه نسي أو غفل عن أنه لا يملك أن يعطي ولا يأخذ، أنفاسه مملوكة لله، فمن أين لك القدرة على أن تفعل أو لا تفعل، أتملك ذلك أنت؟ المفروض أن تقول: إن شاء الله، أو: إلا أن يشاء الله، فإذا ما قلت هذا وتجاهلت وقلت: والله! لأفعلن، ثم عجزت تعلق بك إثم لا يمحى ولا يزول أثره إلا بما حدد الشارع وعين، إذاً: فمن حنث فليكفِّر أولاً بعتق رقبة، فإن لم يجد فبإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن عجز صام ثلاثة أيام، هذه دعوة إلى تحرير العبيد أم لا؟ومن ظاهر من امرأته وقال: أنت عليَّ كأمي أو كأختي، فعليه كفارة، لم؟ لأنه كذب، لأنه حرم ما أحل الله، كيف تكون كأمك أو كأختك؟ فتعلق به إثم عظيم، بم يزول هذا الإثم؟ هل بالتوبة؟ لا تكفي التوبة هنا، شاء الله أن يكون المزيل لهذا الأثر هو أن تعتق رقبة وتحررها لتعبد الله عز وجل، فإن عجزت فصيام شهرين متتابعين، فإن عجزت فإطعام ستين مسكيناً، هذا من عوامل تحرير العبيد أم لا؟والشاهد عندنا في اصطفاء الله لهذه الأمة وتفضيله لها على غيرها من الأمم، ومن ذلك هذه التي نعالجها وهي القصاص، فالحر بخلاف العبد، والعبد هو الرقيق المملوك.
حكم قتل المسلم بالكافر
وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178]، هناك لطيفة في كلمة: (من أخيه)، هل هو أخوه ابن أبيه أو ابن أمه؟ هذه أخوة الإسلام، والسر فيها: أن الكافر لا يقتل بالمؤمن، ليس الكافر بأخينا حتى إذا قتلناه نُقتل بسببه، وهذا الذي عليه جماهير العلماء والأئمة من الصحابة والتابعين؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المسلمون تتكافؤ دمائهم )، ثم قال: ( ولا يقتل مسلم بكافر )، لو قتل مسلم كافراً من أي جنس فهل يقتل هذا المسلم؟الجواب: لا؛ لأن دمه لا يتكافأ مع دم المؤمن، والسر وراء ذلك: هو أن هذا المسلم لما أبقي على حياته يبقى يذكر الله ويشكره، والذكر والشكر سر الحياة كلها ووجودها، فإذا قتلناه عطلنا هذا الخير، وحرمناه منه، وعطلنا الملائكة الذين كانوا يكتبون؛ فلهذا من الحكمة أن المسلم لا يقتل بكافر: ( لا يقتل المسلم بكافر )، ما السر في هذا؟الكافر لو قُتل أو ترك هل يعبد الله؟ هل يذكر الله ويشكره؟ لولا رحمة الله والرجاء أن يسلم لم يكن له حق أن يأكل ولا يشرب ولا يتنفس الهواء، لولا رجاء أن يسلم ويعبد الله لم يكن له حق في الحياة، إذ خلق الله كل شيء من أجلنا وخلقنا نحن من أجل أن نعبده، وكثيراً ما تترد هذه الجملة، لو سئلنا عن سر الحياة وعلة الوجود ما هي؟ فإنا نقول: ذكر الله وشكره، أراد الله أن يذكر ويشكر فأوجد هذا الكون وأوجد هذه البشرية، فمن عطل ذكر الله وشكر الله فكفر بالله ونسيه لا حق له في الحياة، فلم يأكل ويشرب؟ وهل هناك سر غير هذا؟ والله! لا وجود له فيما نعلم.فمن هنا هذه اللطيفة في الآية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] أي: في الإسلام والإيمان، أما إذا كان ليس بأخ فلا قصاص.
الواجب على الولي والقاتل حال العدول عن القصاص
قال: [ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو ].ما معنى: ولي الدم؟ إذا قلت لأخيك: أنت ولي الدم، قتل عمك فأنت ولي الدم.قال: [ فمن تنازل له ولي الدم عن القود ] وقال: لا أقتادك إلى المجزرة حيث القصاص، تنازل عن القود إلى الدية أو العفو، عفونا عنك، اعبد الله والأجر لنا ولك، أو: قال: أعطونا المبلغ الذي أعطانا الله. [ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]: فالواجب أن تكون مطالبة الدية بالمعروف ]، أي: [ بالرفق واللين ].[ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]: وأن يكون أداء الدية بإحسان خالياً من المماطلة والنقص ] وما إلى ذلك، فهذه تعاليم ربانية، هذا هو الأدب الإلهي، الله يؤدب عباده في هذا الكتاب وعلى لسان من أنزل عليه هذا الكتاب. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] المؤمن شَيْءٌ [البقرة:178] تنازل عن القصاص عن القود ورضي بالدية، فيا من وجبت عليك الدية! تأدب عند أدائها لا تماطل ولا تنتقص منها لا تأتي بأشياء غير سليمة كالإبل يأتي ببعض الأبعرة المريضة أو لا تساوي شيئاً، وأنت أيها المطالب بالدية وقد عفوت ورضيت بالدية أيضاً اطلبها بالتي هي أحسن، لا تعنف وتؤذي هذا المؤمن وقد عفوت عنه، هذه الآداب أين توجد في غير القرآن العظيم؟ والمسلمون عنه معرضون. [ ذَلِكَ [البقرة:178] ] أي: ما سمعتم من الأحكام [ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:178] أي: ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بدلاً من القصاص تخفيف عنكم من ربكم؛ إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط، وأنتم مخبرون بين العفو والدية والقصاص ].أي توسيع أعظم من هذا؟ فقولوا: الحمد لله، الحمد لله.
حكم قتل القاتل بعد أخذ الدية
وقوله تعالى: [ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ [البقرة:178] يريد ] أن [ من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله لا غير ].رجل قتل آخر فأهل القتيل أخذوا الدية وقالوا: نتنازل عن قتله إلى الدية، ولما أخذوا الدية قتلوه، اعتدوا وقتلوه، فما الحكم؟قال: [ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ [البقرة:178] يريد: من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله لا غير ] عند بعض أهل العلم.قال في الهامش: [ اختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية:فقال مالك والشافعي وكثير من العلماء: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة ].مالك والشافعي قالا: هذا كالذي قتل ابتداء، أولياء المقتول مخيرون: إن شاءوا عفوا وإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية، وهذا مذهب الجمهور في هذه القضية.[ وقال آخرون: عذابه أن يقتل، ولا يمكِّن الحاكم الولي من العفو ]، لو قال ولي الدم: أنا عفوت، يقول الحاكم: لا بد من قتله، من أجل هذه الجرأة والوقاحة، كيف يقبل الدية وبعد ذلك ينتقم ويقتل؟[ وقال عمر بن عبد العزيز ]، وعمر بن عبد العزيز كان أميراً على المدينة، وجاء الحر في مثل هذه الأيام، وكان مولاه يروح عليه حتى ينام؛ إذ ما هناك حيلة، فالمرأة تروح على زوجها، والولد على والده، والصديق على صديقه، والعبد على مولاه، فأخذ النعاس العبد فنام أيضاً، فاستيقظ عمر وإذا بمن يروح عليه نائم، فأخذ المروحة وأخذ يروح عليه، فاستيقظ العبد فقال: لا تخف، ما الفرق بيني وبينك؟ أنت عبد الله وأنا عبد الله، نم أروح عليك، فمن يرقى إلى هذا المستوى؟وكان والياً لعمه الخليفة بالشام، ولما ولي الخلافة انكسرت درجة من درج بيته، فقالت المرأة أو الخدم: يا سيدي! الدرجة الفلانية لا بد من إصلاحها، قال: لا أصلحها، ما دمت قد وليت أمر المسلمين فلا أضع لبنة على أخرى، لا أبني بيتاً ولا منزلاً ولا أصلح درجة! هذا الزهد الحقيقي.إذاً: عمر بن عبد العزيز ماذا قال في هذه القضية؟ قال رحمه الله: [ أمره إلى الإمام ]، أمر هذا القاتل الذي أخذ الدية وقتل إلى الإمام، فينظر الإمام هل تحدث هذه القضية اضطرابات بين القبائل.. بين الأفراد.. بين الأسر، فالأمر الذي يراه يحقق الأمن والاستقرار يطبقه، ويجوز اجتهاداً منه ومن أئمة العلم.
المساواة في القصاص
وما معنى القصاص في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178]؟قال: [ القصاص: المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضاً ].المساواة في القتل، قتل واحد فلا يقتل به اثنان، والجراحات تقدر حتى بالمعاير والمقاييس وتتساوى، وفي آلة القتل كذلك، هذا قتل برصاص فما تقتله أنت بعصا، فالمرء مقتول بما قتل، قاعدة وضعها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.وقد ورد أن يهودياً قتل جارية مسلمة رضخ رأسها بين حجرين، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقتل كذلك، وهذا هو معنى القصاص.
تحقق حياة الناس بالقصاص
قال: [ حياة ] في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] أي: [إبقاء شامل عميم، إذ من يريد أن يقتل يذكر أنه سيُقتل فيترك القتل فيحيا ] إذاً، [ ويحيا من أراد قتله، ويحيا بحياتهما خلق كثير وعدد كبير ].وصدق الله العظيم: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] عظيمة كثيرة، وجهها: [ إبقاء شامل عميم، إذ من يريد أن يقتل ] أول مرة [ يذكر أنه سيُقتل فيترك القتل فيحيا، ومن أراد قتله يحيا ]، وهكذا يحيا بحياتهما أيضاً آخرون، وهذا معنى قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179].وقوله: [ أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179] ] في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179]، أولي وأولو مثل: ذو وذي بمعنى صاحب، هذا ذو المصحف الفلاني، هذا ذو السيارة الفلانية، بمعنى صاحب، هذا ذو الدار أو ذو الخلق العظيم، هؤلاء أولو الدار الفلانية، بمعنى: أصحابها، أولو: بمعنى أصحاب.[ أولو الألباب: أصحاب العقول الراجحة ]، الألباب: جمع لب، ولب الخبزة وسطها اللذيذ منها، ولب الإنسان أيضاً قلبه، أعظم جزء في الإنسان وأبركه وأطيبه القلب: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).إذاً: أصحاب الألباب أي: أرباب العقول، ذوو العقول.قال: [ أصحاب العقول الراجحة ]، أما العقول المرجوحة التائهة فلا قيمة لها، أولو الألباب: أصحاب العقول الراجحة الثقيلة الوزن التي لا تتحرك بسرعة فتخطئ.قال: [ واحد الألباب: لب، وهو في الإنسان العقل ].وقوله: [ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] ليعدكم ]، هذه (لعل) ليست للترجي، بل للإعداد، قال بعض أهل العلم -وأصابوا-: هذه لعل الإعدادية.أي: [ ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لاتقاء ما يضر ولا يسر في الدنيا والآخرة ]. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، شرعنا هذا الحكم بالقصاص لماذا؟ لنعدكم للتقوى فتتقون ما يؤذيكم ويضركم في دنياكم وفي آخرتكم، ولله الحمد والمنة. هذا شرح الكلمات، فهيا بنا إلى معنى الآية الكريمة.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: هذه الآية نزلت في حيين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر، فلذا يقتل الحر بالعبد والرجل بالمرأة تطاولاً وكبرياء، فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178]، أجمله تعالى وتركه هكذا، وأهل العلم والحكم يوفقهم الله لما فيه الخير، فما قالوه لا يخطئون؛ لأن اللفظ عام. فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:178-179]، ليعدكم بذلك إلى التقوى، نتقي ماذا؟ البلاء والشقاء الخسران والعذاب في الدنيا والآخرة.قال: [ هذه الآية نزلت في حيين كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر؛ فلذا يقتل الحر بالعبد والرجل بالمرأة تطاولاً وكبرياء، فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية تبطل ذحل الجاهلية وتقرر مبدأ العدل والمساواة في الإسلام ].تبطل ذحل الجاهلية: الذحل هو يجمع على ذحول، أي: الثأر الذي كان في نفوس أهل الجهالة؛ ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة )، اللهم لا تجعل واحداً منا منهم، ( إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير قاتله )، قتل ابن عمه أو أباه أو أخاه، قتل غير الذي قتل، ( رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم )، في حرم مكة أو المدينة، ( ورجل أخذ بذحول الجاهلية ) جمع ذحل، أي: بعاداتها الباطلة من الثأر إلى غير ذلك.الله أكبر! هكذا إذاً نطوي الكتاب، العرب والمسلمون اليوم كلهم من أعتى الناس على الله يوم القيامة، يطبقون شرائع الغابات، لا قصاص أبداً يعرفونه.فالآن العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يطبق شريعة الله ويأخذ بقوانين الشرق والغرب وهم أجهل الجاهلين، لا إله إلا الله! قال: [ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، فلا يقتل بالرجل رجلان، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان، ولا بالعبد حر ولا عبدان، فمن تنازل له أخوه ]، أخوه في الإسلام، [ فمن تنازل له أخوه -وهو ولي الدم- عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقاً فليتبع ذلك، ولا يقل: لا أقبل إلا القصاص، بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه ]، لو أن القاتل قال: اقتلوني، وأولياء الدم قالوا: لا نقتل، سنأخذ الدية، عفونا عنك، فلا يؤخذ برأيه.قال: [ ولا يقل: لا أقبل إلا القصاص، بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو، وليطلب ولي الدم الدية بالرفق والأدب، وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث لا يماطل ولا ينقص منه شيئاً ]، هذا كله تقرر عندنا زادنا الله وإياكم علماً. [ ثم ذكر تعالى منته على المسلمين ] ولله الحمد والمنة، [ حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيراً بين ثلاثة: العفو، أو الدية، أو القود ] أي: [ القصاص، في حين أن اليهود كان مفروضاً عليهم القصاص فقط، والنصارى الدية فقط.وأخبر تعالى بحكم آخر في هذه القصة، وهو: أن من أخذ الدية وعفا عن القتل ثم تراجع وقتل، فقال: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178]، واختلف في هذا العذاب الأليم هل هو عذاب الدنيا ] بالقتل [ أو هو عذاب الآخرة؟ومن هنا قال مالك والشافعي : حكم هذا المعتدي كحكم القاتل ابتداء: إن عفي عنه قبل، وإن طولب بالقود أو الدية أعطى. وقال آخرون: ترد منه الدية ] التي أخذها [ ويترك لأمر الله ]، نقول له: أعطنا الدية واذهب، نتركك لله عز وجل.[ وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يرد أمره إلى الإمام يحكم فيه بما يحقق المصلحة العامة.ثم أخبر تعالى: أن في القصاص الذي شرع لنا وكتبه علينا مع التخفيف حياة عظيمة؛ لما فيه من الكف عن إزهاق الأرواح وسفك الدماء، فقال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] ].واضح معنى الآيات، ولو درسنا القرآن هكذا ما بقي مؤمن غير عالم.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية الكريمة ]، كل آية فيها هداية تحملها، كما أن كل لقمة فيها مادة مغذية.قال: [ من هداية الآية الكريمة:أولاً: حكم القصاص في الإسلام وهو المساواة والمماثلة، فيقتل الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، والمرأة بالرجل والرجل بالمرأة، ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة ]، فالسكين بالسكين -كما علمتم- والرصاصة بالرصاصة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [ ( المرء مقتول بما قتل به )، ولما كان العبد مقوَّماً بالمال فإنه لا يقتل به الحر ]، وهذا عرفناه وتقرر عندنا؛ لأن الحر إذا قتل العبد فالعبد هذا يباع في السوق وقيمته معروفة، إذاً: يعطى هذا المبلغ لمولاه وسيده ينتفع به ولا يُقتل هدراً، وهذا الذي عليه الجمهور، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن العبد يُقتل بالحر والحر يُقتل بالعبد، فخالف الجمهور.قال: [ وعليه الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد ، وخالف أبو حنيفة ] رحمه الله، [ فرأى القود، فيقتل الحر بالعبد أخذاً بظاهر الآية ]، فـأبو حنيفة احتج بآية المائدة: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]. [ ثانياً: محاسن الشرع الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو والدية بدل القصاص.ثالثا: بلاغة القرآن الكريم ]، ما وجه ذلك؟ [ إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون: القتل أنفى للقتل ].حكماء العرب في الجاهلية أطلقوا هذه الحكمة وقالوا: القتل أنفى للقتل، ما معنى: القتل أنفى للقتل؟أي: إذا قتل قيل: اقتلوه، فهذا يجعل حداً للقتل، فالقتل أنفى للقتل، فماذا قال القرآن الكريم؟ [ فقال القرآن: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] ]، ما ذكر القتل؛ لأن لفظ القتل مزعج.[ فقال القرآن: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، فلم يذكر لفظ القتل بالمرة، فنفاه لفظاً وواقعاً ]، فقال: فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] لأننا إذا تركنا القتل فهذا المؤمن يعبد الله عز وجل.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم دائماً بما ندرس ونتعلم ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (117)
الحلقة (124)
تفسير سورة البقرة (82)
بعد أن ذكر الله في الآيات السابقة أحكام القصاص، ثنى هنا بذكر الوصايا لارتباطها بمن استحق حكم القصاص وأن عليه أن يوصي للوالدين والأقربين، ولكن هذه الآية نسخت بآية المواريث، ونسخ الحكم بالوجوب في الوصية إلى الاستحباب، فصارت الوصية مستحبة لغير الوالدين أو الأقربين الوارثين، إلا أن يجيز ذلك بقية الورثة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله.
نسخ قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) بآية المائدة
وكنا مع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178].وهذه الآية نسخت بآية سورة المائدة، في قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].وقد قلنا: كان العرب -أي: حكماؤهم- يطلقون كلمة يعتزون بها؛ لأنها من حكمهم، فنزلت آية طمستها ولم يبقَ لها أثر، حيث كانوا يقولون: القتل أنفى للقتل. ونزلت الآية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179].
ذكر سبب نزول آية القصاص في القتلى وبيان وسطية الأمة فيه
وسبب نزول هذه الآية التي نسخت، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ .. [البقرة:178]، نزلت في قبيلتين من العرب، كانت إحداهما تتفوق في الشرف والمكانة، فكان إذا قتل منهم امرأة يقتلون من القبيلة الثانية رجلاً، ما يقبلون امرأة، وإذا قتل منهم عبد قتلوا حراً، فأبطل الله هذا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى [البقرة:178]، ونزلت آية المائدة: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة:45].وهل القصاص خاص بالنفس أو يتناول الأعضاء؟ يتناول الأعضاء، فالعين بالعين، والأنف بالأنف.. حتى الجراحة تقدر بمقاييس، وهذه نعمة فازت بهذه الأمة الإسلامية دون غيرها، فقد كان حال اليهود القتل في النفس فقط، إذا قتل اليهودي فلا بد أن يقتل، لا دية ولا عفو، بل القصاص تأديباً لهم، لأنهم قساة القلوب، وكان النصارى بعدهم: لا دية ولا قصاص، فمن صفعك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، لِم هذا؟ تربية وتأديب، فجاءت أسمى الأمم وأشرفها فأعطيت الثلاثة: إن شئتم قتلتم، إن شئتم أخذتم دية، إن شئتم عفوتم، الأمر واسع لكم، ونعم السعة هذه.وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] أي أن الذي يريد الدية يتبعها ويطالب بها بالمعروف، لا بالعنف والشدة، والذي يؤدي الدية ينبغي أن يؤديها أيضاً بلا مماطلة ولا نقصان.
امتناع قتل المسلم بالكافر
وذكرنا في قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] لطيفة في قوله تعالى: (من أخيه)، أي: في الإسلام، وبناءً على هذا فالكافر إذا قتل مسلماً فلا عفو ولا دية، الكافر إذا قتل مسلماً فالقصاص، لا عفو ولا دية، أنت تعفو عنه ليواصل كفره بالله وشركه! ما استفادت الدنيا، لكن المؤمن إذا عفوت عنه عبد الله سنين، والكافر ماذا يصنع؟ يزداد في الظلم والشر والخبث، إذاً: فالموت خير له، ولهذا قال تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178]، لا ابن أبيه أو أمه، أي: في الإسلام.ولا يقتل مسلم بكافر، وفي الحديث الصحيح: ( لا يقتل مسلم بكافر )، قد يقول الجفاة: هذا تعصب، وهذه شدة، وهذه غلظة!والجواب: أن الكافر ميت، أتقتل حياً بميت؟ أتميت حياً بميت؟ وقد تقرر عندنا أن الكافر حكمه حكم الميت، فالكافر من حقه أن لا يحيا ولا يعيش؛ لأنه خلق لعبادة الله بذكره وشكره فعطلها، إذاً: لِم يأكل ويشرب ويتنفس الهواء إلا رجاء أن يؤمن ويعبد الله، فلهذا لا يستحق القتل أبداً إلا قصاصاً، رجاء أن يسلم غداً أو بعد غدٍ فيعبد الله، فلهذا فالمؤمن حي يسمع ويعي، ينطق ويفهم، ويأخذ ويعطي، ولهذا كلفناه بالغسل فاغتسل، وبالحج فحج، وبالصيام فصام، وكلف كافراً فهل سيصوم؟ هل سيصلي؟ سيغتسل من جنابة؟ كلا، لأنه ميت، فلا نكلفه، وأهل الذمة في ديار المسلمين لا يكلفون، لا بصلاة ولا صيام، ولا بحج ولا زكاة، ولا بجهاد، ولا برباط، شأنهم شأن الموتى، فإذا أسلموا حيوا، وحينئذ كلفهم ولا تخف.
تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين ...)
مناسبة الآية الكريمة لما قبلها
ونحن الآن مع آيات أخرى، والمناسبة بينها وبين السابقة أنه لما ذكر تعالى القصاص، والقصاص موت، فهذا الذي أريد أن يقتص منه له وصايا، فينبغي أن يوصي، فمن هنا قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].فهيا نسمع الآيات مرتلة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:180-182]، هذه آيات الأحكام. كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180]، الخطاب لمن؟ للمؤمنين قطعاً، ومعنى (كتب): فرض، وكتب في اللوح المحفوظ وفي القرآن العظيم.
معنى قوله تعالى: (إذا حضر أحدكم الموت)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180] ماذا؟ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة:180]، بمعنى: إذا جاءه الموت وعرفنا مجيئه، لا أنه جاء في شخصية بارزة، وإذا جاء الموت فحينئذ ما بقيت وصية، فالمعنى: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة:180] أي: حضرت أسبابه وعوامله، ومقتضياته، صدر الحكم على فلان بالقتل، قد يقتل بعد سنة، لكن يعتبر أنه حضر الموت، فليوصِ بما لديه وما عنده لغيره ولنفسه، ومن هذا قول الشاعر:أنا الموت الذي حدثت عنهفليس لهارب مني نجاءهذا جرير سمى نفسه الموت، باعتبار أنه سبب الموت، فقال وهو يهجو الفرزدق في مناورات عجيبة، قال له: أنا الموت الذي حدثت عنهفليس لهارب مني نجاءوالشاهد عندنا في ذكر الموت، والمراد أسبابه ومقتضياته وعوامله، وإن لم يحضر هو بعد عام أو أعوام.
معنى قوله تعالى: (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين)
قال تعالى: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ [البقرة:180] أيها المؤمنون الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] إن ترك الذي حضره الموت ولاحت أعلامه ودلائله وبراهنه، ككبر السن مثلاً، فماذا يفعل؟ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] ما الخير الذي يتركه الإنسان؟ المال، صامتاً كان أو ناطقاً، كالأراضي.. الدكاكين.. الإبل.. البقر.. الذهب.. الفضة، كل ما يتمول يسمى مالاً وخيراً. إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] أي: فالوصية، فالوصية هنا من حيث هي واجبة، لا يحل لمؤمن أن يبيت وله ديون أو عليه ديون ولم يكتب وصيته عند رأسه، بهذا جاءت السنة الصحيحة: ( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده )، إن كانت له حقوق أو عليه حقوق، حتى لا تضيع بموته، فمن الناس من لهم حقوق عند آخرين، فالورثة يفقدونها إذا مات، ومن الناس من عليه حقوق للآخرين إذا مات وما كتبها فالورثة يجحدون، ينكرون، ويعذب هو، إذاً: الوصية.وهنا لطيفة لأهل النحو: لِم ما قال: إن ترك خيراً فالوصية؛ إذ إن (إن) الشرطية الجواب بعدها يكون مقروناً بالفاء: من حضرته الصلاة فليقم، من حضره الطعام فليأكل أو ليتقدم. والجواب: حذفت هذه الفاء من باب التخفيف: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، بدلاً من: (فالوصية)، وهذا الكلام الإلهي الراقي السامي تتجلى فيه آيات الإعجاز في بلاغته وفصاحته في مثل هذه المواطن، وهذا معروف بالضرورة: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]؟ أي: وصية واجبة عليه أن يفعل كذا وكذا. ومن هذا قول الشاعر:من يفعل الحسنات الله يشكرهاوالشر بالشر عند الله مثلان.والشاهد: من يفعل الحسنات الله يشكرها، كان المفروض أن يقول: فالله يشكرها، ولكن ضرورة الشعر والهروب إلى التخفيف، ما قال: (فالله)، لو قال: فالله فإنه ينخرم الوزن.
نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآيات المواريث
والشاهد عندنا في قوله: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].وهنا نسخ هذا اللفظ بالذات، ما هذا اللفظ؟ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] الواجبة لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا [البقرة:180] واجباً عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، هذا قبل نزول آية المواريث، قبل أن تنزل سورة النساء، وفيها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] إلى آخر الآيات.فقد فرض الله أولاً على المؤمنين إذا حضر أحدهم الموت أن يوصي لوالديه أولاً ثم الأقربين كالأبناء والإخوان وما إلى ذلك، إذ ما كانت قسمة، وهذا هو التدرج والترقي لتبلغ هذه الأمة كمالها في ظرف ثلاث وعشرين سنة.أمك قبل كل شيء، أوص لها بشيء، وأبوك كذلك، ثم الأقرب فالأقرب، هذا قبل نزول آية المواريث، قبل قسمة المواريث التي أنزلها الله فيما بعد. إذاً: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180] معناه: واجباً على الذين يتقون غضب الله وسخطه، الذين يتقون النار وما فيها من عذاب مقيم، حق واجب عليهم، وهذه الآية منسوخة، وبقيت فيها أحكام لم تنسخ، منها ما علمتم من أنه لا ينبغي لمؤمن له حقوق أو عليه حقوق أن يبقى ثلاثاً وليست وصيته عند رأسه.
حكم الوصية للوارث
ثانياً: أذن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يوصي المؤمن أو المؤمنة بثلث ماله في وجوه البر والإحسان، ولا يوصي للورثة، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( لا وصية لوارث ) خلدت هذه الكلمة، قلها يا عبد الله، فالوارث له حق في التركة أم لا؟ فلِم توصي له؟ لو فتح الله هذا الباب لكان الرجل يوصي لمن يشاء من أحبائه، من أبنائه وأعمامه وأخواله، لكن الباب أغلقه أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( لا وصية لوارث ) ما معنى هذا الكلام؟ أي: لا توصِ بالثلث أو بالربع أو بالسدس أو بشيء لواحد من ورثتك وأنت تموت، وأجاز أهل العلم أخذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي لوارث بشرط أن يرضى بذلك سائر الورثة، فيقول: يا أبنائي.. يا إخوتي: إن فلاناً أعمى أو أعرج، أو أمي كذا، ونريد أن نوصي له بشيء، فهل توافقون؟ قالوا: نوافق ونوقع، أوص لأخينا مثلاً، فإن أجازها الورثة أجمعون جازت.فـ ( لا وصية لوارث )، فإذا رضي الورثة بأن عرض عليهم الهالك أن فلاناً أو فلانة في حاجة إلى كذا، وذكر الأسباب والعوامل، فاقتنع الورثة كلهم، وقالوا: لا بأس فإنه يجوز، أليس هو خيراً أو لا؟ أصبح الورثة قد تصدقوا على هذا، ولهم أجرهم، كأنهم اشتركوا في صدقة، فيجوز.
حكم رجوع الموصي عن الوصية
وهل للموصي أن يتراجع عن وصيته قبل أن يموت؟ الجواب: نعم. أوصى بالبستان الفلاني للفلانيين، أو الدار الفلانية للفلانيين، ثم أصابه ضعف أو مرض أو حصل له موانع فتراجع وأبطل الوصية وهو حي، وهي لا تنفذ إلا بعد موته، حتى ولو كتب، والوصية بالكتابة وبالشهود، أوصى لابن عمه الذي ليس من الورثة، ولاحظ فيه بعد أعوام أو أيام التمرد والفسق والباطل والشر، فقال: أنا ما أعطي مالي لهذا ليعصي به الله، فأبطل الوصية عند القاضي، فيجوز إبطالها، فله أن يوصي ثم يتراجع لأمر شرعي أو لنظرية سديدة صالحة، فله الحق في ذلك ما لم يمت أو يحضره الموت.
تفسير قوله تعالى: (فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم)
وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ [البقرة:181]، إذا أوصى المؤمن بوصية وأشهد اثنين وسمعا، ثم لما مات بدلا وغيرا، فهل يأثمان أو لا؟ يأثمان، والمتوفى ما يأثم: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181]. وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181] تهديد، إياك أن تظن أنك وحدك، وتغير الوصية وتزيد وتنقص، فمعك السميع العليم، السميع لأقوالك، العليم حتى بنياتك وإراداتك.
تفسير قوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه ...)
قال تعالى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]، من هو هذا؟ أنت حاضر في المجلس، وخفت من هذا الذي يوصي ميلاً عن الحق، أو رأيت منه جنفاً واضحاً في وصيته، حيث قال: تعال يا فلان، يا فلان، أنا مريض أشهدكم على وصيتي، فَمَنْ خَافَ [البقرة:182]، منكم مِنْ مُوصٍ [البقرة:182]، من هذا الموصي جَنَفًا [البقرة:182] ميلاً، إما عن جهل وإما عن عدم بصيرة، خاف ميلاً عن الحق في وصيته أَوْ إِثْمًا [البقرة:182]، بمعنى أنه متعمد الحيف والجور في وصيته، قال: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [البقرة:182]، قال للموصي: هذا ما ينبغي، ما يجوز هذا، كيف تحيد، كيف تجور؟ ما الفرق بين ابنك إبراهيم وخالك فلان أو عمك فلان، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]، فهذا غير الوصية وبدلها؛ لأنه كان فيها انحراف واعوجاج، فتحمل واجتهد وأصلح تلك الوصية ومضى بها على الوجه المطلوب، فهل حين بدل وغير يعتبر آثماً؟الجواب: لا، فإن الله قال: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]؛ لأنه أصلح فاسداً، لا لرغبة ولا لهوى، ولكن للحق وحب الخير، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]، لِم لا إثم عليه؟ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182]، يغفر له ويرحمه، ويغفر للموصي الذي مال وصوبناه، أو انحرف، بل سقط في الإثم وأنقذناه، وإن كان مريضاً ومات بعد ساعات، لكن لما استقر الوضع على وصية شرعية فلا إثم عليه، لِم؟ لأن الله غفور رحيم، فيغفر له ويرحمه، هذا معنى الآيات، ونقرؤها في الكتاب.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: كُتِبَ [البقرة:180]: فرض وأثبت. خَيْرًا [البقرة:180] أي: مالاً، نقداً أو عرضاً أو عقاراً ]، والعقارات: الأراضي والمباني، والنقد: الدينار والدرهم.[ الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] الوصية: ما يوصى به من مال وغيره. بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180] هو ما تعارف عليه الناس كثيراً أو قليلاً؛ بحيث لا يزيد على الثلث ]، لا تزيد وصيتك على ثلث مالك، لو أوصيت بثلثين أو بنصف فالقاضي يبطل هذه الوصية، ما عندك أبناء ولا آباء، عندك أبناء عم أغنياء، فقلت: إذاً: أوصي بالنصف فلا، فالقاضي لا يقر ذلك، أو بالثلثين، فهذا حسد للورثة، ما أنت بمسئول عن غناهم وفقرهم.إذاً: الذي تعارف عليه المسلمون: أن الوصية لا تزيد على الثلث، سواء لحي أو ميت.قال: [ فَمَنْ بَدَّلَهُ [البقرة:180] التبديل: التغيير للشيء بآخر. جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [البقرة:182]، الجنف: الميل عن الحق خطأ، والإثم: تعمد الخروج عن الحق والعدل ].هذه كلمات تحتاج إلى شرح، والآن مع معنى الآيات.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: بمناسبة ذكر آية القصاص، وفيها: أن القاتل عرضة للقتل، والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل قتله؛ ذكر تعالى آية الوصية هنا، فقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ [البقرة:180] أيها المسلمون إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] إن ترك مالاً الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] أي: الإيصاء لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية المواريث ]، في سورة النساء: يُوصِيكُمُ اللَّهُ .. [النساء:11] إلى آخر الآيات، [ وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا وصية لوارث ) .ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب، ولكن لغير الوالدين والأقربين الوارثين، إلا أن يجيز ذلك الورثة، وأن تكون الوصية ثلثاً فأقل ] إن أجاز الورثة، [ فإن زادت وأجازها الورثة جازت؛ لحديث ابن عباس عند الدارقطني : ( لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ) ]، إذا أجاز الورثة ما فوق الثلث فلهم ذلك؛ لأن المال مالهم إذا أرادوا أن يتطوعوا.[ ودليل الاستحباب ] استحباب الوصية [ حديث سعد في الصحيح؛ حيث أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في الوصية بالثلث. وقد تكون الوصية واجبة على المسلم، وذلك إن ترك ديوناً لازمة أو حقوقاً واجبة في ذمته، فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته، لحديث ابن عمر في الصحيح: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده )، هذا ما تضمنته الآية الأولى، وهي المائة والثمانون. وأما الآية الثانية -وهي: المائة وإحدى وثمانون- فيقول تعالى لعباده المؤمنين: فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه أو نقص، أو غيره، أو بدل نوعاً بآخر؛ فلا إثم على الموصي، ولكن الإثم على من بدل وغير، وختم هذا الحكم بقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، تهديداً ووعيداً لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيئ. وفي الآية الأخرى أخبر تعالى: أن من خاف من موصٍ جنفاً أو ميلاً عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون تعمد الجور، ولكن خطأ، أو خاف الإثم على موص حيث جار وتعدى على علم في وصيته فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [البقرة:182] أي: بين الموصي والموصى لهم، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182] في إصلاح الخطأ وتصويب الخطأ والغلط، وختم هذا الحكم بقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: نسخ الوصية للوارثين مطلقاً إلا بإجازة الورثة ].وهنا سؤال: هل يجوز للمؤمن أن يقسم التركة قبل موته؟الجواب: يجوز، وإذا كسب مالاً جديداً فإنه يقسمه أو يتركه يُقسم بعده.إذاً: من هداية الآيات أولاً: نسخ الوصية للوارثين مطلقاً إلا بإجازة الورثة، وإذا أجاز بعض الورثة أجاز والبعض ما أجاز فلا تنفذ الوصية، لا بد أن يتفقوا.[ ثانياً: استحباب الوصية بالمال لمن ترك مالاً كثيراً يوصي به في وجوه البر والخير ].يستحب لأي مؤمن أو مؤمنة يكون له مال كثير وخير كثير أن يوصي في وجوه البر كالمساجد، الفقراء، طلبة العلم، المسافرين، الغرباء، المرضى، المستشفيات، يوصي بشيء من ماله، يستحب له هذا، لكن هل هذا واجب؟ الجواب: لا، فيستحب لمن حضره الموت أن يوصي بالثلث فأقل في وجوه البر والإحسان.[ ثالثاً: تأكد الوصية حضر الموت أو لم يحضر ]، ليس شرطاً أن يحضر الموت، وإنما الغالب، فالشخص إذا مرض مرضاً شديداً وخاف الوفاة فإنه يوصي.[ تأكد الوصية حضر الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق، خشية أن يموت فتضيع الحقوق، فيأثم بإضاعتها ]كما قدمنا، فلا يبيت أحدنا ثلاث ليال أو ليلتين كما ورد وله شيء يوصي به إلا وكتب وصيته، كم من إنسان عنده ديون عند الناس، فإذا وما وصى فالورثة لا حق لهم، أو تكون عليه حقوق لفلان وفلان وفلان، فإذا مات يؤاخذ بها ويطالب، فلا بد أن يوصي.[ رابعاً: حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير الصالح ]، ما معنى (إلى غير الصالح)؟ الشيخ الفلاني حضره الموت والمرض فقال: أوصيكم بأن تأخذوا ثلث مالي بعد موتي لبناية القباب على قبور الصالحين، فالآن ما بقي الناس يحترمون الأولياء، ولا يقدسونهم، وأصبحت القباب إذا سقطت لا تجدد، فهذا المال في ذمتكم أن تجددوا به قباب الصالحين، فهل يجوز هذا؟وآخر كان مغرماً بالحشيشة أو بالخمر، فقال: ثلث مالي للحشاشين من أصدقائي وأحبائي! فهل يجوز؟! لا يجوز، وهكذا، فإن كان تغييرها وتبديلها لأجل الصالح فنعم، هذا أوصى على الخمر فيبدلونها إلى الفقراء والمساكين، أوصى لبناية القبور أو للمواليد، فلان يقول: كل سنة تقيمون المولد على حسابي، غلة البيت الفلاني أو البستان الفلاني تنفق في هذا! فهل يجوز هذا؟ لا يجوز، ويبدل إلى الصالح، فهذا لا يصح، هو بدعة، فكيف تنفق فيها المال؟مرة أخرى أقول: هذه الآيات ذات هدايات: الهداية الأولى: [ نسخ الوصية للوارثين مطلقاً إلا بإجازة الورثة ]، فإذا أجاز الورثة فلا بأس، كم من إنسان يكون له أربعة أولاد أكثرهم موظفون وأغنياء وواحد منهم معتوه وضعيف، فيقول: أبنائي! الدار الفلانية أوصينا بها لأخيكم، فهل توافقون؟ إن قالوا: لا أسكتوه، وإن قالوا: نعم يا والدنا، ونحن أحق بهذا منك، فلا حرج.[ استحباب الوصية بالمال لمن ترك مالاً كثيراً ]، لماذا قلنا: كثيراً؟ عندك أربعة أولاد وعندك دخل خمسة آلاف في الشهر، فتوصي بماذا؟ مثلاً: عندك ثلاث بنات متزوجات ومع أولادهن، وعندك مال ما شاء الله، فأوص بالثلث، لِم؟ لأن ورثتك أغنياء، يرضون أو لا يرضون؟ لا حق لهم؛ لأنك أوصيت بما دون الثلث أو بالثلث فقط.هذه الوصية مستحبة، وتذكرون سعداً رضي الله عنه، ذهب إلى مكة فمرض، فخاف أن يموت في غير دار هجرته، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، فبكى وذكر له ماله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الثلث والثلث كثير ) .[ تأكد الوصية سواء حضر الموت أو لم يحضر ] وهذا للذي عليه حقوق أو له حقوق، فكيف لا يكتب ويوصي إلا عند المرض؟ لا يدري الإنسان فقد يموت وهو يمشي، أو وهو راكب، فالذي له حقوق ينبغي أن يكتبها ويوصي، والذي عليه حقوق كذلك يكتب: لفلان علينا كذا، لفلان علينا كذا وكذا، حتى إذا مات فالورثة يوزعون ذلك المال على الورثة، إذ القسمة لا يبدأ بها إلا بعد سداد الدين وقضائه.[ تأكد الوصية حضر الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع الحقوق فيأثم بإضاعتها ]؛ إذ هو الذي أضاعها. وأخيراً: [ حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير الصالح ]، هل هذا له إشارة في الآية؟ نعم. قال تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [البقرة:181].فإن أوصى بمال لبناء قبة، أو أوصى بأن يدفن في المسجد الفلاني، فهذا التبديل يصح، فإن كان التبديل لغير صالح فهو حرام، ولا يجوز، وعليه الإثم: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181].هذا والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (118)
الحلقة (125)
تفسير سورة البقرة (83)
لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأت تتوالى الأحكام وبدأ التشريع ينزل تباعاً، ولما كان الصيام من أعظم ما يكوّن عند الإنسان ملكة التقوى، فقد أنزل الله عز وجل فرضه في السنة الثانية من الهجرة، وشرع لعباده صيام شهر رمضان، وبين سبحانه أنه فرضه على هذه الأمة كما فرضه على من كان قبلهم من الأمم، وهون عليهم سبحانه بأن جعله شهراً واحداً في العام، ورتب عليه الثواب الجزيل إضافة إلى غفران الذنوب وذهاب الأدواء والأمراض.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:183-184].معاشر المستمعين والمستمعات! أذكركم ونفسي بالموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) فليهننا ذلك الخير وهذا الموعود على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألسنا في بيت الله؟ أليست هذه آيات من كتاب الله؟ ألسنا متدارسين لها؟ إذاً: الحمد لله، ولولا فضل الله علينا ورحمته ما اجتمعنا ولا تلونا ولا تدارسنا، فالمحرومون ملايين البشر.يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] هذا نداء الله عز وجل، وإن كنا درسناه في النداءات في الأسبوع الماضي هذا النداء باختصار، وليس بوافي الدراسة، والشيء إذا تكرر تقرر وثبت، هذا النداء موجه من قبل الله عز وجل إلى عباده المؤمنين ونحن إن شاء منهم. ينادينا بعنوان الإيمان، وسر ذلك معروف؛ لأننا أحياء بإيماننا نسمع ونعي، ونعقل ونعمل، نادانا ليخبرنا بخبر عظيم، يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، افرحوا، أبشروا، فرض عليكم الصيام.
حقيقة الصيام وشرط تبييت النية فيه
والصيام: إمساك عن شهوتي البطن والفرج، إمساك بمعنى امتناع عن شهوتين: شهوة البطن فلا طعام ولا شراب، والفرج فلا جماع ولا وطء.هذا الصيام امتناع وإمساك، وقد علمنا أن من شرط صحته تبييت النية، العزم على أن نصبح غداً إن شاء الله صائمين، وعلمنا -وزادكم الله علماً- أن النية تبيت بالليل، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح ولم يفطر ولم يتناول شيئاً من المفطرات، ودخل على أهله يطلب طعاماً ليفطر، فإذا قالوا له: ما عندنا يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء، قال: إذاً أنا صائم. وينوي الصيام ويصوم إلى الليل، هذا الصيام صيام النافلة، لا الفريضة ولا الواجب، ومن حدث له هذا وفعل فإنه قد ائتسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن نعوذ بالله أن نصبح نطلب طعاماً ولا نجده، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهله يطلب فطوراً، فقالوا: ما عندنا شيء، فقال: إذاً: أنا صائم.أما أحدنا إذا أصبح وما نوى الصيام، فلما أصبح وطلع النهار وجاء الضحى، وجاء الإفطار قال: إذاً: أنا سأصوم، فهذا لا يصح: ( من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له )، ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، لا توجد عبادة إلا وتسبقها نية التقرب إلى الله والتزلف إليه والتملق، أو نية أداء الواجب وما افترضَ عليّ مولاي، وما ألزمني به سيدي.
فرض الصيام على الأمم السابقة وفائدة ذكره
و(كتب) هنا بمعنى: فرض، وهو مكتوب أيضاً في اللوح المحفوظ، مكتوب في القرآن كتابة. كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، من آدم عبد الله ونبيه إلى آخر أمة، وهي أمة الإسلام، لما في الصيام من عوائد خير وبر وبركة على المؤمنين، سنستعرض بعضها إن شاء الله؛ لأن الله حكيم عليم، أليس كذلك؟ والحكيم إذا شرع أو قنن فهل يشرع لغير مصلحة؟ مستحيل هذا، وينزه الله تعالى عنه، فإذا شرع للمؤمنين الصيام فقد شرعه لحكم عالية، وفيه من الخيرات والبركات والعوائد ما لا يقادر قدره.وفي قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] معنى التهوين والتخفيف، لستم وحدكم الأمة التي كتب عليها الصيام، فتمتنع من الطعام والشراب والوقاع، بل هذا تم لكل الأمم المؤمنة قبلكم، فلا حاجة إلى التململ أو التضجر.وشيء آخر: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، لا أعوام ولا أشهر، بل أيام معدودات: تسعة وعشرين يوماً، وأكثر شيء ثلاثون يوماً.
تحصيل التقوى بالصيام
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، هذه (لعل) نسميها الإعدادية، أي: ليعدكم بذلك للتقوى، والتقوى رأس مالكم، وأهل هذه الحلقة يعرفون قيمة التقوى، وباقي المسلمين لا يعرفون، إنها الخطوة الثانية للوصول إلى ولاية الرب تبارك وتعالى، فخطوتان يخطوهما العبد أو الأمة يصل إلى ولاية الله، ويصبح ولياً من أولياء الله، لا خوف عليه ولا حزن.اقرءوا قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم يا رب؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].فمن لم يؤمن إيماناً يوقع عليه القرآن ويصدقه، ويعيش على تقوى الله فيأتي بالواجبات ويتخلى عن المحرمات وينافس في الصالحات ويبتعد عن المكروهات والمشبوهات؛لم تتحقق له ولاية الله، لن يكون ولي الله، فمَن من السامعين والسامعات يرغب أن يصبح غداً ولياً لله؟ الجواب: كلنا. إذاً: حقق إيمانك، واعرضه على القرآن، فإن وافق عليه وصدق فأنت مؤمن، مشيت الخطوة الأولى فزد الثانية، وهي أن تعيش تتقي الله، لا تتكلم بالكلمة حتى تعلم هل أذن لك أو لم يأذن، لا تفتح عينيك تنظر حتى تتأكد أذن لك أن تنظر أو لم يأذن، لا تتناول اللقمة -بله حبة العنب- حتى تعرف أذن لك أو لم يأذن، لا تنام حتى تعلم أذن أو لم يأذن، ولا تقم ولا تقعد، وهكذا تحقق تقوى الله عز وجل فتصبح من أولياء الله تعالى ممن قال الله فيهم: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] فاللهم اجعلنا منهم.والبشرى في الحياة الدنيا: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له )، لن تموت يا ولي الله حتى تبشر بالجنة دار السلام، إما أن ترى ذلك أنت أو يراه لك عبد صالح ويخبرك ويبشرك.أما عند سياقات الموت وحال سكراته فلا تعجب، وفود تنزل من السماء محتفلة بروحك ورفعها في الملكوت الأعلى، وهي تبشرك وأنت تبتسم وتفارقك روحك وأنت تبتسم، وجاء هذا في كتاب الله، إذ قال تعالى من سورة (حم فصلت): إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] هؤلاء هم الأولياء أو لا؟ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، بشارات متتالية، هؤلاء أولياء الله ينتظرونه ساعة الاحتضار وهو في غرفة الإنعاش كما يقولون، فهل يتم لنا هذا؟ فهل عرفتم منزلة التقوى؟ الصيام يساعدكم على تقوى الله عز وجل؛ لأنك طيلة ما أنت صائم ما تجرؤ على أن تقول باطلاً أو ترتكب محرماً وأنت صائم أو تقول سوءاً، أو تحدث باطلاً، فأنت معصوم بالصيام.
تفسير قوله تعالى: (أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ...)
ثم قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا [البقرة:184]، والمرض من أعراض الحياة، وفيه خير أيضاً، فبالنسبة إلى المؤمنين المرض خير لهم، وبالنسبة لغير المؤمنين هو عذاب عجل لهم في الدنيا قبل الآخرة، أما المؤمن فبالمرض تكفر سيئاته وتمحى ذنوبه، وترتفع درجاته، ما من مؤمن تصيبه مصيبة حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله بها خطاياه، فالحمد لله.أحد الصحابة لما سمع هذا الخبر قال يا رسول الله: اسأل الله تعالى أن لا تفارقني الحمى ولكن لا تقعد بي عن العمل. واستجاب الله له، فما سافر إلا والحمى عليه ليل نهار طول حياته، وهو يواصل الطاعات والعبادات ولا تفارقه الحمى رضي الله عنه وأرضاه. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فالواجب عدة أخرى من أيام أخر يصومها. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ [البقرة:184] أيها المؤمنون والمؤمنات مريضاً مرضاً لا يقوى معه على الصيام، والمرض درجتان: درجة الخطر، وهنا يحرم الصوم، ودرجة دون الخطورة، درجة ألم فقط، فالصوم أفضل، ولو أفطر جاز له الإفطار، والمسافر المسافة المعروفة: ثمانية وأربعون ميلاً، والميل ألفا ذراع، والكيلو متر بالحساب الفرنسي ألف متر، والمتر ذراعان، فهذا القول الوسط عند أهل العلم، وهو: أن المسافة لا تنقص عن ثمانية وأربعين كيلو متر، فإن زادت فلا تسأل. فَعِدَّةٌ [البقرة:184] أي: فعليه، أو فواجب عدة من أيام أخر بعددها.
معنى قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]، يقدرون عليه ولكن مع المشقة، وهذا الجزء منسوخ، فالصيام فرض على مراحل، حيث فرض صيام عاشوراء في السنة الأولى من الهجرة، ما إن دخل النبي صلى الله عليه وسلم في محرم حتى وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسألهم فقالوا: ( هذا يوم أنجى الله فيه موسى وبني إسرائيل فنحن نصومه شكراً لله، قال: نحن أحق بموسى منكم ) ، ونحن أحق بموسى منهم، فصام وأمر أهل المدينة أن يصوموا، فصوم الأنصار والمهاجرون أطفالهم الصغار، صاموا وصوموا أطفالهم الصغار.ثم جاءت السنة الثانية ففرض الله صيام رمضان، ونسخ الصيام الأول، وبقي صيام عاشوراء سنة مستحبة، ليس بواجب أبداً.إذاً: ففي أول سنة فرض صيام رمضان كانت هذه الآية تقول: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]، وما يقال: تطيق في نحو حمل الكتاب، لكن إذا وضع بين يديك كيساً فيه مائة كيلو فإنه يسألك: تطيق حمله أم لا؟ أقول: هل من المعقول أن تقول لأخيك: تستطيع أن تحمل هذا الكأس من الشاي؟ هذا لا يقوله عاقل، لكن إذا كانت غرارة، أو صندوق، أو شيء كبير يقول: تطيق هذا أو لا؟ فقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] معناه: يتحملونه بمشقة وعناء، إما لكبر سن وإما لمرض وإما للعادة، ما تعودوا أن يتركوا الأكل والشرب طول النهار، فقال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يقدرون عليه مع العناء والمشقة والألم والتململ، هؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم مسكيناً رحمة من الله تعالى. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] يدفع الفدية ويأكل، ولا يلومه أحد، لأنه ما هو منشرح الصدر وقوي على أن يصوم، ما يقوى، فمن رحمة الله بالمؤمنين أوليائه شرع هذا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] يقدمها ويفطر، ولا يقضي.ثم نسخ هذا بالآية التي تأتي بعد هذا، وهي قول الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، أما مجرد أنه يتململ أو ما تعود فقد انتهى. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة:185] أي: دخول الشهر، وشهده وحضر الإعلان عنه أو رآه، فالصيام لا بد منه حينئذ، إلا أن يكون مريضاً حقاً، أو مسافراً. فهذا الجزء نسخ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة:184] أطعم عشرة مساكين فله ذلك. والإطعام يقول فيه أهل العراق في الزمان الأول: إنه نصف صاع، أي: مدان. وأهل الحجاز وأهل المدينة بالذات يقولون: مد واحد، والمد: حفنة بحفنة الرجل المتوسط، والآن الإطعام هو كيلو إلى كيلو ونصف.
معنى قوله تعالى: (فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة:184]، إذا أطعم عشرين فليفعل، بدل أن يعطي المد يعطي أربعة أمداد، هل هناك من يقول: لا؟ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة:184]. وَأَنْ تَصُومُوا [البقرة:184] أيها المطيقون للصيام بالتكلف، إن شئتم أطعمتم، ولكن: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184] ففوائد الصيام وآثاره طيبة في النفس والحياة، خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184].
الأحكام المتعلقة بفطر الشيخ الكبير والمريض والحامل والمرضع
هنا عندنا شيخ كبير هرم، وعندنا مريض ميئوس من شفائه، على سرير الموت، وعندنا حامل في بطنها جنين أو جنينان، وعندنا مرضع ترضع ولداً، ما كان الثدي الصناعي ولا كانت الإبرة، هؤلاء أربعة أصناف. فالرجل الكبير المسن، طالت به الحياة فما أصبح يستطيع الصيام، هذا يفطر بلا نزاع، ولا يكلف نفسه ما لا يطيق، ويطعم عن كل يوم مسكيناً.ونظيره المريض الذي لازمه المرض، وما أصبح ينتظر الشفاء حتى يقضي، هذا أيضاً كالأول يطعم مسكيناً عن كل يوم ولا قضاء عليه.أما الحامل والمرضع فشفقة بهما ورحمة بهما، الحامل في بطنها الجنين، وهي تتألم، إذا جاعت تخشى أن يسقط جنينها، والمرضع تخشى إذا جاعت أن ينقطع لبنها ويبكي طفلها ويصرخ، فتفطران وتطعمان وتقضيان، تفطران وتطعمان عن كل يوم مسكيناً، وتقضيان.هنا مسألة: المرضع إذا خافت على ولدها، والحامل إذا خافت على حملها، هاتان تفطران وتطعمان وتقضيان، وإذا خافت على نفسها فقط لا على الولد، مرضع أو حامل خافت إذا صامت أن تتأذى وتمرض هي، فهذه تقضي ولا تطعم، كالمسافر والمريض.والموضو يحتاج إلى تأمل، فأقول: ما حكم المريض والمسافر؟الجواب : يفطران ويقضيان. وما حكم الشيخ الهرم والمريض الذي لا يرجى برؤه؟الجواب: يفطران ويطعمان.فعندنا حامل ومرضع، فإن خافتا على نفسيهما لا على ولديهما فإنهما تفطران وتقضيان، ولا تطعمان، شأنهما شأن المريض، لكن إن خافتا على ولديهما لا على نفسيهما، فهنا تفطر وتطعم وتقضي، لأن خوفها على ولدها أو على ما في بطنها، ما هو بخوف على نفسها، ما هي مريضة، خافت على طفلها. إذاً: لابد أن تطعم مسكيناً.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
وبعد ذلك البيان نسمعكم ما في التفسير لزيادة معرفة وعلم.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:كتب: فرض وأثبت ].ما معنى كتب؟ معناه: فرضه وأثبته بالكتابة تأكيداً له. [ الصيام: لغة: الإمساك، والمراد به هنا: الامتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ]. غشيان النساء، يقال: غشيها: إذا غطاها، وفي ذلك تعبير قرآني فيه الأدب: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا [الأعراف:189]، هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [البقرة:187]. ودعنا نبكي قليلاً، فالآن بلغنا: أن مؤتمراً عالمياً سيعقد في القاهرة يضم مائة، هذا المؤتمر إشفاقاً منه ورحمة على البشرية،يريد أن يبيح اللواط والزنا والباطل والشر، وأن يحدد الولادة ويمنع الولادة، نصب نفسه منصب الرب تعالى ليخطط ويشرع، وأحسب أنه ما ارتكبت زلة أعظم من هذه في الحياة، حتى قلت وأنا في كرب: لو يستطيع أحداً أن يأخذ كلمات مني في الرسالة ويقرؤها في المؤتمر الذي أسأل الله أن لا ينعقد، فوالله! لأعطينه خمسة آلاف ريال، يطير بالطائرة بألف ويقرأ الرسالة.فهؤلاء كفار، بلغ بهم الكفر حتى تنكروا للفطرة، والذي نقول لهم: يا كفرة! ابتعدوا عن ساحة الرب، فهو الذي يشرع ويقنن لعباده، هل خلقتم أنتم امرأة أو رجلاً، خلقتم طفلاً أو طفلة؟ من أين لكم أن تشرعوا وأن تقننوا، وتبيحوا ما حرم الله، وتحاربوا الله عز وجل ورسله وأولياءه في الأرض والسماء؟أمر يكرب ويحزن ويحطم في بلد إسلامي، قالوا: حقوق الإنسان، ومن حقوق الإنسان أن يسمح للأولاد بأن يلوط بعضهم ببعض أمام أهليهم وذويهم، فالحق حقهم! كلام قذر وأوساخ.والحقيقة أنهم لا يلامون: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل:21]، بهائم، بل شر من البهائم وأسوأ، ظهروا لما غبنا، ورفعوا رءوسهم لما ذللنا وطأطأنا رءوسنا، نحن الذين أضعناهم وأهملناهم، ما عرفناهم بالله ولا عرفوه، ما عرفناهم بشرائع الله وما تنتجه وما تظهره من كمال البشر في الأرض، فلهذا نحزن فقط.قال: [ الصيام لغة: الإمساك، والمراد به هنا: الامتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ]، لِم عبر بالغشيان والتغطية واللباس؟ ينزه المؤمنين أن يتكلموا بكلمة سوء، أو ينطقوا بعبارة تدل على الفحش والقبح، إنهم أولياء الله، وهؤلاء الملاحدة والمسحورون بسحر اليهودية يتبجحون بفتح المجال للأولاد أن يلوط بعضهم ببعض![ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً بحسب شهر رمضان ]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا )، وعقد بكفيه تسعة وعشرين وثلاثين، وما هناك واحد وثلاثون ولا ثمانية وعشرون أبداً.[ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فعلى من أفطر لعذر المرض أو السفر فعليه صيام أيام أخر بعدد الأيام التي أفطر فيها ].وهنا مسألة: إذا فرط المسافر أو المريض وما قضى، عاد من سفره ولم يقضِ حتى دخل العام الثاني؟ هنا يسن له أن يطعم عن كل يوم مسكيناً مع القضاء قطعاً؛ لأن المفروض ألا يمضي عليه سنة كاملة ولا يقضي، إلا إذا كان في مرض متواصل أو سفر متواصل فلا حرج، فيقضي في العام الآتي وليس عليه إطعام.[ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض لا يرجى برؤه. فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، فالواجب على من أفطر لعذر مما ذكر أن يطعم على كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه ]، وهذا الجزء منسوخ.[ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة:184] أي: زاد على المدين أو المد أو أطعم أكثر من مسكين، فهو خير له. وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الإفطار مع الإطعام ].هذا الشرح للكلمات، كل كلمة على حدة.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيتين:لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ]، أي: المدينة النبوية [ وأصبحت دار إسلام ] بعدما كانت دار كفر وأوثان، [ أخذ التشريع ينزل ويتوالى، ففي الآيات السابقة كان حكم القصاص، وحكم الوصية، ومراقبة الله في ذلك، وكان من أعظم ما يُكوِّن في المؤمن ملكة التقوى الصيام، فأنزل الله تعالى فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، فناداهم بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183] وأعلمهم أنه كتب عليهم الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم من الأمم السابقة، فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وعلل لذلك بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] أي: ليعدكم به للتقوى، التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، لما في الصيام من مراقبة الله تعالى ]، فالصائم دائماً يراقب الله، لولا أنه يراقب لكان يأكل ويشرب، فما دام مع مراقبة الله فإنه ما يعصي الله.[ وقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، ذكره ليهون به عليهم كلفة الصوم ومشقته، إذ لم يجعله شهوراً ولا أعواماً، وزاد في التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يفطر، ويقضي بعد الصحة أو العودة من السفر، فقال لهم: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، كما أن غير المريض والمسافر إذا كان يطيق الصيام بمشقة وكلفة شديدة له أن يفطر ويطعم على كل يوم مسكيناً، وأعلمهم أن الصيام في هذه الحالة خير، ثم نسخ هذا الحكم الأخير بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].وقوله: إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]، يريد: تعلمون فوائد الصوم الدنيوية والأخروية، وهي كثيرة، أجلها: مغفرة الذنوب وذهاب الأمراض ].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات: أولاً: فرضية الصيام وهو شهر رمضان.ثانياً: الصيام يربي ملكة التقوى في المؤمن.ثالثاً: الصيام يكفر الذنوب؛ لحديث: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).رابعاً: رخصة الإفطار للمريض والمسافر.خامساً: المرأة الحامل أو المرضع دل قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أنه يجوز لهما الإفطار مع القضاء، وكذا الشيخ الكبير فإنه يفطر ولا يقضي، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه كذلك ] يفطر ويطعم ولا يقضي، [ إلا أن عليهما أن يطعما عن كل يوم مسكيناً، بإعطائه حفنتي طعام ]، هذا نصف صاع، [ كما أن المرأة الحامل والمرضع إذا خافت على حملها أو طفلها أو على نفسها أن عليها أن تطعم مع كل صوم تصومه قضاء مسكيناً ].لكن فصلنا فقلنا: إذا خافت الحامل أو المرضع على نفسيهما فتفطران وتقضيان ولا تطعمان كالمريض، وإن خافتا على ولديهما فتفطران وتقضيان وتطعمان.[ سادساً: في الصيام فوائد دينية واجتماعية عظيمة، أشير إليها بلفظ: إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184] ].
فوائد الصيام
[ من هذه الفوائد: أولاً: يعود الصائم الخشية من الله تعالى في السر والعلن.ثانياً: كسر حدة الشهوة، ولذا أرشد العازب إلى الصوم ]، كما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) أي: خصاء، وبعض الشباب يقولون: كلما صمنا زادت قدرتنا، فنقول: لا، واصلوا الصوم، ولا تسرفوا في الطعام والشراب طول الليل، صوموا الصوم الشرعي فلن يتخلف أبداً.[ ثالثاً: يربي الشفقة والرحمة في النفس ]، فالذين ما ذاقوا الجوع أبداً لو سقط أمامهم أحد بالجوع لا يفهمونه، لكن لما يصومون يعرفون الذي يتلوى من الجوع أو العطش.[ رابعاً: فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء والأشراف والأوضاع ]، يقال: غداً رمضان فتصبح كل الأمة صائمة، الشريف، الوضيع، الغني، الفقير، العالم، الجاهل، فهذه مساواة أو لا؟[ خامساً: تعويد الأمة النظام والوحدة والوئام ]، يقال: غداً رمضان فتصبح كلها صائمة، وبعد غد العيد فتصبح كلها مفطرة، فيعود على النظام والوئام.وعندنا مثل للنظام: فالآن لو نربي الحجاج في بلادهم ونأتي بهم ليرموا الجمر فإذا أحسنوا النظام سيرمونها وهم يبتسمون، ولما نزلت آية تحويل القبلة إلى الكعبة جاءَ جاءٍ من المسجد النبوي إلى مسجد القبلتين فوجدهم يصلون غرباً صفوف النساء والرجال، فأعلمهم فاستداروا كما هم عليه.والآن والله! ما تستطيعون، فأولئك استداروا كلهم في خط واحد، وقد كانوا إلى الغرب فاستداروا كما هم، فهذا يحتاج إلى تربية، والأمة قابلة للطلوع، فنحن الآن هابطون ما نستطيع.[ سادساً: يذهب ] أي: الصيام [ المواد المترسبة في البدن ] من الشحم وما إلى ذلك، [ وبذلك تتحسن صحة الصائم ]، وفي الحديث: ( صوموا تصحوا، وسافروا تغنموا ) .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (119)
الحلقة (126)
تفسير سورة البقرة (84)
لما ذكر سبحانه وتعالى أنه كتب على الأمة الصيام وجعله أياماً معدودات، ذكر هنا أن هذه الأيام المعدودات هي أيام شهر رمضان المبارك، الذي أنزل فيه القرآن هادياً وموضحاً طرق الهداية، وفارقاً بين الحق والباطل، ثم بين سبحانه أن من كان حاضراً في البلد عند دخول الشهر فقد وجب عليه الصوم، ومن كان مريضاً أو مسافراً أفطر ثم قضى بعدة الأيام التي أفطرها بسبب ذلك تيسيراً على العباد، ورفعاً للمشقة عنهم.
تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية المباركة، فلنتلها أولاً ثم نأخذ في بيان ما احتوت عليه من العلم والمعرفة.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
معنى رمضان
أولاً: شهر رمضان هو الشهر التاسع من شهور الشمس القمرية، ورمضان مأخوذ مشتق من الرمضاء، وهي شدة الحر، ولهذا ورد: ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال )، والفصال جميع فصيل: ابن الناقة الصغير، إذا اشتد الحر وارتفعت الشمس فالفصيل ما يقوى على الوقوف بخفيه، فيبرك على الأرض، فهذا وقت صلاة الأوابين، والمراد منها: صلاة الضحى حين ترتفع الشمس وتشتد الحرارة، والرمض: هو شدة الحر للعطشان، من به ظمأ وعطش ترمض نفسه، فمن هذا سمي شهر الصوم برمضان، ويجوز أن تقول: شهر رمضان أو تقول: رمضان، ولا حرج. وقوله تعالى: الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] أولاً: أنزل القرآن في بيان فضل الصيام، وأنزل القرآن في شهر رمضان، بل ورد أن كتب الله من صحف إبراهيم إلى الإنجيل إلى القرآن كلها نزلت في رمضان.
نزول القرآن في شهر رمضان
ثم إن نزول القرآن من اللوح المحفوظ، أما قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]؟ نزل في رمضان إلى السماء الدنيا في بيت العزة، ثم أخذ ينزل منجماً نجماً بعد نجم بحسب أحوال البشرية، فكلما تطلب الأمر نزول آية أو آيات تنزل والرسول يعلم ويبلغ، والكتبة يكتبون ويدونون، إذ كان للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون كاتباً يحسنون الكتابة، وكلما نزلت الآية أو السورة كتبوها.إذاً: وما هي الليلة التي نزل فيها القرآن؟ الظاهر أنها ليلة القدر، وذلك لقول الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:3-5]، وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5]. شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، والقرآن: هذا اللفظ علم على كتاب الله، وله علم آخر: الفرقان، القرآن مشتق من القرء الذي هو الجمع، جمعت حروفه وكلماته وآياته وسوره في كتاب واحد، فهو قرآن، وسمي بالفرقان؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل، بين المعروف والمنكر، بين الشر والخير، بين كل متلابسات الحياة.
معنى قوله تعالى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)
وقوله: هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى [البقرة:185] هذا هو القرآن، والله! لهدى للناس أبيضهم وأصفرهم، عربهم وعجمهم، لفظ الناس عام، فأيما إنسان ذكر أو أنثى يؤمن بهذا الكتاب ويقبل عليه يقرؤه ويتفهم مراد الله منه ويعمل به إلا اهتدى إلى طريق سعادته وكماله ونجا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ولا يقولن قائل: قرأناه ولم نجد فيه الهداية! فهذا كلام باطل ولا ينطق به حتى إبليس. هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى [البقرة:185] ليس مجرد هدى، بل كان بينات، أنواع وفنون من أنواع الهدايات، فهو في العقل، في الآداب، في الأخلاق، في المال، في الحياة بكلها لا يوجد موضع في الحياة إلا والقرآن يهدي ويبين ما فيه.إذاً: والفرقان كذلك، فرق الله بالقرآن بين الكفر والإيمان، بين الشرك والتوحيد، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الصالحين والمفسدين، بين الأبرار والفجار، القرآن هو الفرقان، وشأن الفرقان عظيم.
معنى قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
بعد هذا قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وتقدم لنا في الدرس الماضي أن الله أخبرنا أنه كتب علينا الصيام، وأنه أيام معدودات لا أعوام ولا أشهر، وكما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين تسعة وعشرين يوماً إلى ثلاثين، وأن هذا ليس مما كلفنا به دون غيرنا، بل الأمم التي عرفت الله كلها فرض عليها الصيام.إذاً: متى نصوم؟ بين تعالى الشهر الذي كتب أيامه، فقال: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185] كأن سائلاً يقول: ما هو الشهر الذي نصوم فيه؟ ما هي الأيام التي نصومها؟ فأخبر تعالى أنها أيام شهر رمضان. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة:185] كيف يشهد الشهر؟ يشهده: يحضر في القرية أو في الحي، يشهد من يقول: انظروا إلى الهلال، أو يقول: أنا رأيت الهلال أو رؤي الهلال، شهده وكان حاضراً غير مسافر.ثم هنا مسألة فقهية لا بد من معرفتها: وهي أن ثبوت رؤية الهلال للصيام تثبت برؤية المؤمن العدل، ولا يتطلب الأمر شاهدين أو استفاضة الشهادة، أ يما مؤمن عاقل يشهد بأنه رأى مساء الليلة الهلال فقد وجب على المؤمنين الصيام، هذا الذي عليه أكثر أئمة الإسلام.أما الإفطار -وهو الإعلان عن شهادة رؤية هلال شوال- فثَمَّ لا تقبل شهادة الواحد وإن كان عدلاً، وإنما لا بد من شهادة اثنين من المسلمين العدول.والسر واضح؛ لأن الذي يشهد بأنه رأى هلال رمضان ليصوم ويصوم المؤمنون؛ فالفطرة تتنافى مع تحمل الأتعاب والظمأ والعطش وترك الأكل والشرب، فكيف إذاً يقول: رأيته وما رآه؟ أما الرؤية من أجل أن يفطر فقد يكذب حتى يفطر، هذا ليس واجباً أنه يقع، لكن هذه وضعية البشر، هذه فطرة الناس، فمن هنا تقبل في رؤية هلال رمضان شهادة مؤمن واحد ولا نطلب شهادة اثنين أو ثلاثة.أما العيد برؤية هلال شوال فلا بد من اثنين من العدول، فلو قال واحد: أنا رأيت فلا نأخذ برؤيته، له أن يفطر هو في بيته، فإذا تأكد من الرؤية ورآها فله الحق أن يفطر، لكن لا يحمل الأمة أن تفطر برؤيته، ولا يقبل منه هذا أبداً، إلا إذا شهد اثنان فأكثر على أنهم رأوا الهلال. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ [البقرة:185] أيها المؤمنون، ولو قامت كتلة من اليهود وقالوا: رأينا الهلال فلا نقبل قولهم، لو قالت أوروبا الصليبية كلها: لقد رأينا الهلال الليلة، فصوموا، فلا نقبل؛ لأنهم غير عدول، وأي انحراف وهبوط أكثر ممن يكفر بالله ويجحده؟ إذاً: قوله تعالى: مِنْكُمُ [البقرة:185] أيها المؤمنون.ثم هنا أمر آخر: مِنْكُمُ [البقرة:185] أيها المكلفون، فغير المكلف لا يدخل في هذا، والمكلف هو المؤمن العاقل البالغ، فغير المؤمن ما هو بمكلف، لو رأى الهلال فلا التفات إليه، وطفل صغير لم يبلغ لا تقبل شهادته، ومجنون مختل العقل لا تقبل شهادته.
معنى قوله تعالى: (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ...)
قال تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].[ ذكر تعالى عذر المرض والسفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما أفطر بعدده، وأخبر تعالى أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر اليسر بالأمة، ولا يريد بها العسر، فله الحمد وله المنة ].
معنى قوله تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم)
ثم قال تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] على هدايته لكم، وهذا في ليلة العيد، فهل الكافرون يكبرون؟ ائت لي بكافر يكبر وسنعطيك ألف ريال، يكره أن يقول: الله أكبر، وإذا بك أنت تتلذذ بها وترفع صوتك بها وأنت في فرح وسرور، أليس هذا مما يحمد الله عليه ويشكر؟ عندنا مثل عامي، فالعجوز إذا كانت تكره جارتها تقول: لا تنطقي باسمي، ما أسمح أن تقولي: فلانة، فكيف هذا؟ بمعنى: أنا فوق مستواكِ أنتِ حتى تذكري اسمي. ومن هنا أذن الله لنا في ذكر اسمه، فهذا إنعام لا حد له، وإلا فمن نحن وما نحن حتى نذكر اسم الله الجليل؟ هل نحن أهل لأن نذكر الله؟ والله! ما نحن بأهل، ما قيمتنا؟ ولكن من فضله علينا وامتنانه أن أذن لنا في ذكره، بل وأثابنا عليه، بل ورفعنا درجات بذكره.
معنى قوله تعالى: (ولعلكم تشكرون)
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] أي: وليعدكم أيضاً للشكر، وقد تقرر عند السامعين والسامعات الشكر، فالشكر أولاً: الاعتراف في القلب بالنعمة للمنعم.ثانياً: ترجمتها والإعراب عنها باللفظ: الحمد لله.ثالثاً: صرف النعمة فيما من أجله أنعم بها المنعم، لا أن ينعم عليك بألف ريال فتشتري بها كأس خمر وتشربه، أنعم عليك بنعمة الصحة فلا تبدد طاقتك في معصيته، أنعم عليك بنعمة الشرف والمكانة الرفيعة فتواضع وتطامن، لا تترفع على أوليائه وتتكبر عليهم، وهكذا.. فهذه الحقيقة لن تفوت المؤمنين والمؤمنات، الشكر علة الحياة كلها، أليس كذلك؟ لو سألت: يا رب! لم خلقت هذه العوالم كلها؟ يقول: خلقتها لأجلك. يا رب! وأنا خلقتني لم؟ يقول: من أجل أن تذكرني وتشكرني. فعلة الوجود بكله: أن يذكر الله ويشكر، لهذا فالذي لا يذكر الله ولا يشكره جزاؤه أن يخلد في العذاب الأبدي.وبينا غير ما مرة فقلنا: لو أن شخصاً نسف مدينة فسيحكمون عليه بسجن خمسين سنة، وإذا كان نسف قارة بكاملها فسيسجن حتى الموت، وهذا الذي ترك ذكر الله وشكره كأنما نسف السماوات كلها ونسف الأرض وبدد العوالم كلها، إذ كلها مخلوقة لأن يذكر الله ويشكر، فلما رفض ذكر الله وشكره كان كمن نسف العوالم كلها وصيرها دخاناً، إذاً: كم يعذب هذا؟ لا نهاية لعذابه؛ لأن جريمته أعظم.قد يقول قائل: هذا كفر سبعين عاماً فكيف يخلد في جهنم؟ فنقول: لأنه ما كفر سبعين عاماً، بل لأنه كمن نسف الكون كله ودمره، لأن الحياة كلها مخلوقة لنا، أما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، وقال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13]؟ وفي الحديث: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك )، إذاً: فإذا أراد من عبده أن يذكره ويشكره فرفض الذكر والشكر كان شر الخليقة والبرية، وجزاؤه أن يخلد في عذاب لا ينتهي.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
الآن نقرأ الدرس من الكتاب.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:شهر رمضان: هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية، ولفظ الشهر مأخوذ من الشهرة ]، والشهرة: الاشتهار والانتشار، مأخوذ من الشهرة؛ لأنهم يشاهدون الهلال.ورمضان مأخوذ من: رمض الصائم إذا حر جوفه من العطش. الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور حيث أنزل فيه القرآن، وذلك في ليلة القدر منه لآية: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] ] وفي ليلة مباركة.قال: [ أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل ] منجماً [ نجماً بعد نجم ]، والنجم كوكب، لأن البشرية قبل الحساب وقبل هذا الترقي في المادة كانوا إذا طلع النجم الفلاني فإن أحدهم يسافر، أو طلع النجم الفلاني فيسدد دينه، يشاهدون السماء والنجوم تطلع وتغيب، فيحسبون هذا الحساب، هذا معنى أنه منجم نجماً بعد نجم، فترة بعد فترة، زمناً بعد زمن.قال: [ وابتدئ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أيضاً ]، وهل في ليلة السابع عشر؟ خلاف. [ هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185]: هادياً للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين. وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185] البينات: جمع بينة، والهدى: الإرشاد، والمراد أن القرآن نزل هادياً للناس ومبيناً لهم سبيل الهدى موضحاً طريق الفوز والنجاة فارقاً لهم بين الحق والباطل وفي كل شئون الحياة.شهد الشهر: حضر الإعلان عن رؤيته. فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] أي: فعليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها مريضاً أو مسافراً ] أو حائضاً أو نفساء.قال: [ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة:185] وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة من صلاة العيد، والتكبير مشروع وفيه أجر عظيم، وصفته المشهورة: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ] هذا محفوظ عند أكثر الناس.[ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] أي: فرض عليكم الصوم وندبكم إلى التكبير لتكونوا بذلك من الشاكرين لله تعالى على نعمه؛ لأن الشكر هو الطاعة ] هذه هي المفردات، فهيا معنى الآية الإجمالي.
معنى الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة:لما ذكر تعالى أنه كتب على أمة الإسلام الصيام في الآية السابقة وأنه أيام معدودات؛ بين في هذه الآية أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هادياً وموضحاً طرق الهداية، وفارقاً بين الحق والباطل، فقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] يريد شهر رمضان، ومعنى شهد: كان حاضراً غير مسافر لما أعلن عن رؤية هلال رمضان، فليصمه على سبيل الوجوب إن كان مكلفاً ]، والمكلف: العاقل البالغ، وإن أسلم الكافر وبلغ الغلام في الليل وجب الصيام، وإن كان في النهار فلا شيء عليه.[ ثم ذكر عرض المرض والسفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما أفطر بعدته، وأخبر تعالى أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر اليسر بالأمة، ولا يريد بها العسر، فله الحمد وله المنة، فقال تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].ثم علل تعالى للقضاء ] قضاء رمضان [ بقوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة:185] أي: عدة أيام رمضان، هذا أولاً. وثانياً: لتكبروا الله على ما هداكم عندما تكملون الصيام برؤية هلال شوال. وأخيراً: ليعدكم بالصيام والذكر للشكر، فقال عز وجل: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] ].الآن مع هداية الآيات، وكل آية فيها هداية، والله! لكل آية فيها هداية، كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أليس كذلك؟ هذه الآية من أين أتت؟ إذاً: الله موجود وعليم، وعلى من نزلت؟ على محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: هو رسول الله.
هداية الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآية: من هداية الآية:أولاً: فضل شهر رمضان وفضل القرآن.ثانياً: وجوب صيام رمضان على المكلفين، والمكلف هو: المسلم العاقل البالغ مع سلامة المرأة من دمي الحيض والنفاس.ثالثاً: الرخصة للمريض الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه ]، فالمريض الذي إذا صام يتأخر الشفاء وتطول مدة مرضه يفطر، أو يخاف زيادة المرض وارتفاع درجته.قال: [ الرخصة للمريض الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه، والمسافر مسافة قصر ]، وهي ثمانية وأربعون كيلو متر، وأصلها: أربعة برد، والبريد اثنا عشر ميلاً، والميل: هو عند علماء الأندلس والمغرب: ألفا ذراع، أما عند أهل العراق والمشرق فلا بد من مسافة سبعين كيلو، ومنهم من يقول: ثمانين، ما هي بمضبوطة؛ لكن المسافة التي يمشيها الرجل على ناقته لا تزيد على ثمانية وأربعين كيلو في اليوم، ومشينا هذا وجربناه، اركب ناقتك في الصحراء وامش، تأتي القيلولة فتنزل، تنام وتستريح وتجدد السفر، فتمشي ثمانية وأربعين كيلو، فهذا الحساب للأندلسيين المالكية من أبدع ما يكون، جاءت فرنسا تركض وأوروبا وأخذوا به، فقالوا: الكيلو ألف متر، والمتر ذراعان، فاتفقنا إذاً، جروا وراءنا وسبقناهم. وهذا ننظر إليه من جهة أخرى: أن من أهل العلم من يقول: من سافر ولو عشرين كيلو فله أن يفطر ويقصر، كالظاهرية، ومنهم من قال: مسافة سبعين كيلو، ونحن دائماً مع الوسط، وهو ثمانية وأربعون كيلو، يبتدئ عندما يغادر البلد ويترك الديار وراءه، أما وهو ما زال في بلده ويفطر فلا يصح، أما قال تعالى: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:185]؟ وهذا ما سافر بعد فكيف يفطر؟ [ رابعاً: وجوب القضاء على من أفطر لعذر ] والذي أفطر لغير العذر فعليه الكفارة والقضاء، فالذي أفطر بعذر من مرض أو سفر أو دم حيض أو نفاس يقضي، أما أن يقول: لن نصوم؛ فهذا عليه الكفارة والقضاء. وهذه المسألة شيخكم فيها يجري وراء ظل ابن عباس رضي الله عنه، فـابن عباس رضي الله عنه كان إذا جاء الرجل يسأل: ما تقول فيمن قتل نفساً، فهل له توبة؟ هل تقبل توبته؟ يقول له الحبر: أنت قتلت؟ فإن قال: نعم قتلت. يقول: من يمنعك من التوبة وباب الله مفتوح والله يدعو إلى التوبة، تب يا بني. وإن قال: لا، ما قتلت، قال: أعوذ بالله! هل قاتل النفس له توبة، والله يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. ففرق بين من قتل ومن لا يقتل، فنحن كذلك إذا جاءنا الشخص وقال: ما تقول فيمن يأكل في رمضان فقط، فيشرب ويأكل؟ فنقول: عليه القضاء والكفارة. وإن قال: أنا أكلت ولم أستطع، قلنا: هل جامعت؟ فقال: لا، ولكن أكلت وشربت، فنقول له: اقض فقط ولا كفارة عليك؛ وذلك لأن مذاهبنا الأربعة نصفهم يقول بالقضاء ونصفهم يقول: لا قضاء إلا في الجماع، فالمفتي أو الذي يعلم ينبغي أن يسلك مسالك الهداية. [ خامساً: يسر الشريعة الإسلامية وخلوها من العسر والحرج.سادساً: مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه، وهذا التكبير جزء لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام.سابعاً: الطاعات: هي الشكر، فمن لم يطع الله ورسوله لم يكن شاكراً أبداً حتى يعد مع الشاكرين ] فمن لم يطع الله تعالى ورسوله فما شكر، بل كفر.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (120)
الحلقة (127)
تفسير سورة البقرة (85)
لما جاء نفر من الصحابة إلى النبي يسألونه عن ربهم أهو قريب فيناجى أم بعيد فينادى، فجاء الجواب مباشرة من عند الله لهم ولمن بعدهم، أنه سبحانه قريب مجيب لدعوة الداعي، فمن التزم آداب الدعاء وأطاب مطعمه ومشربه كان أرجى أن تجاب دعوته، وما من مؤمن يدعو دعوة إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يستجيب له بها، أو يرد عنه من الشر ما يقابلها، أو يدخرها له يوم القيامة، وما عند الله خير لعبده مما أراد لنفسه.
تفسير قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية القرآنية النورانية المباركة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
سبب نزول الآية الكريمة
هذه الآية لها سبب نزلت به، وكثير من آي القرآن الكريم ينزل لأسباب اقتضت نزوله، ومعرفة السبب تساعد على معرفة المراد من الآيات التي نزلت لذلك السبب.سبب هذا: هو أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: ( أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ ) لأن المناجاة تكون سرية خفية، وقد عرفتم المناجاة وحكم الله فيها: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المجادلة:9]، وناجى الله تعالى موسى عليه السلام، قالوا: ( أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ )، والنداء بـ(يا ألله)، فنزلت هذه الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] أي: أقريب أم بعيد؟ فأجبهم أني قريب أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].إذاً: هذا السؤال معقول ومشروع، لا عنت فيه ولا تكلف، أرادوا أن يعرفوا إذا نادوا ربهم هل ينادونه بأعلى أصواتهم أو يدعونه بالألفاظ القريبة، فقالوا: ( أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ ) فأنزل الله تعالى قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ [البقرة:186] يا رسولنا عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] أي: في كوني قريباً أم بعيداً، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] إذا دعاني الداعي أجيب دعوته.
مثال توضيحي لقرب الله تعالى من عباده
وهنا -معاشر المستمعين والمستمعات- كثيراً ما أكرر تلك اللطيفة لتعرفوا القرب والبعد، فالله تعالى يقول: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] يضع الجبار السموات والأرض في كفه ويقلبها ويقول: أنا الملك، أين الملوك؟ هذه أخبار النبي صلى الله عليه وسلم التي يتلقاها بالوحي الإلهي. إذاً: فأين البعد؟ فنحن بين يديه، لو وضعت نملة في كفك فأنت محيط بها من كل جوانبها، أنت فوقها، أنت تحتها، أنت عن يمينها، عن شمالها؛ لعظمتك وحقارتها، إذاً: فالله عز وجل والعوالم كلها كهذه النملة بين يديه، فكلنا بين يديه. وشيء آخر: أحوالنا الظاهرة والباطنة هو الذي يسيرها، لا تنطق حتى ينطقك، لا تبصر حتى يجعلك تبصر، لا ترفع يديك حتى يجعلك ترفعها، وكل شيء قد كتبه في كتاب المقادير قبل خلق السماوات والأرض فضلاً عن البشر، إذاً: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].إذاً: فالله معنا، قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] لا تفهم أنك تبعد عن الله أو تغيب عن الله، هيهات هيهات! وهنا -معاشر الإخوان والأبناء- أذكر أن أحد المؤمنين رأى رؤيا، وفيها: أن على الشيخ هذا أن يعلم المستمعين والمستمعات الآداب مع الله عز وجل، وهي رؤيا صالحة، والله يعلم أننا ما تأدبنا معه، ودائماً نذكر هذا، أدبنا مع الله ليس بشيء، فباسم الله كل ليلة إن شاء الله أضع بين أيديكم مسألة فاذكروها وتأدبوا بها مع الله. الأولى: الشكر على النعم. لو أن أحد إخوانك في بيتك وبين يديك تطعمه وتسقيه، تكسوه وتلبسه، تسكنه وتركبه، تحميه وتدافع عنه، ولا يذكرك بخير، ولا يقول: جزاك الله خيراً، ولا يشكر لك نعمة بين الناس، كيف تنظر إلى هذا؟ أي أدب هذا عنده؟ هذا أسوأ الناس أدباً. ونحن نعيش في كنف الله وفي نعمه وفي رعايته وحمايته، وفي أرضه وتحت سمائه، وبه نأكل ونشرب، ونجيء ونذهب، حركاتنا من فضله وإحسانه، فمن الأدب أن ننسى هذه النعم وأن ننساه وهو المنعم المتفضل، فهيا نتأدب مع الله، فدائماً لساننا يذكر الله ويحمده، دائماً مع الله نشكر له إنعامه وإفضاله وإحسانه، لا يفارقنا لفظ: الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله، في المرض والصحة، في الجوع والشبع، في القيام والقعود، في السفر والإقامة، في كل حال: الحمد لله، نذكر النعم التي نتقلب فيها، ونذكر المنعم بها وهو الله، ونحمده بما علمنا، والحمد لله أن قبل منا كلمة: الحمد لله، هذه نعمة أخرى، أن قبل منا كلمة: الحمد لله وشرعها لنا وانتدبنا إليها، هذه نعمة أخرى. فإن شاء الله سنتأدب من الآن، فنعم الله لا ننساها، وحمد الله وشكره لا ننساه، هذه خطوة إن شاء الله، وسنواصل خطواتنا بإذن الله حتى نصبح من أهل الأدب مع الله، وإن كانت الرؤيا تعنيني أنا فقط فأنا مقصر في الأدب مع ربي، فاسألوا الله لي أن يجعلني من المتأدبين معه، اللهم آمين.
معنى قوله تعالى: (أجيب دعوة الداع إذا دعان)
إذاً: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي [البقرة:186] فأعلمهم أني قَرِيبٌ [البقرة:186] أي: منهم. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186] وحذفت الياء للتخفيف؛ لأن القرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار، يتلوه العربي والعجمي والصغير والكبير والفصيح والألكن، فهو قائم على الخفة، بدل الداعي: الداع، فالياء محذوفة. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ما معنى: دعاني؟ قال: يا رب! اغفر لي وارحمني، يا رب! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، يا رب! فرج ما بي، يا رب! فرج كربي، يا رب! اقض حاجتي، يا رب! أسكني المدينة، هذا مؤمن قال لي: ادع الله لي أن يجعلني من سكان المدينة، فاللهم اجعله من سكان المدينة يا رب العالمين، اللهم ائت به إلى المدينة.إذاً: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] والذي لا يدعو الله كافر، الذي يستغني عن الله تربب وتأله وادعى الربوبية، وإلا فكيف يستغني عمن أنفاسه بيده؟ والدعاء هو العبادة، اذكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، و( الدعاء مخ العبادة ) في حديث ضعيف؛ لأن المخ في الحيوان هو مقر الحياة، إذا أخذ المخ سقطت البنية، لكن الحديث الصحيح: ( الدعاء هو العبادة ) .وقد عرفتم كيف كان الدعاء هو العبادة، وسأعلمكم بهذه للناسي والغافل أريكم كيف كان الدعاء هو العبادة:فأنا إذا رفعت يدي إلى السماء فقد أعلنت عن فقري، الذي يرفع كفيه أعلن عن فقره أم لا؟ المتسول يقول هكذا فتضع ريالاً في يده، إذاً: هذه صورة معناها: أن هذا الشيخ فقير محتاج إلى الله.ولو كان غير الله يقضي حاجته ويسد خلته لقال هكذا أو هكذا يميناً وشمالاً، لكن يرفع يديه إلى من فوق عرشه وفوق سماواته، إذاً: أنا مؤمن بعلو ربي عز وجل، وأنه فوق ليس تحت ولا عن يمين وشمال، وأنا فقير ومحتاج. ثم حين أقول: يا رب يا رب فأنا مؤمن بأنه يسمع سري ونجواي، ولهذا أقول: يا رب يا رب يا رب! فمعناه: أنني مؤمن بأن الله يسمعني، وأن الله قادر على قضاء حاجتي وإعطائي سؤلي وإلا فما رفعت كفي إليه.ثم لو كان في الكائنات من يقضي حاجتي أو يفرج كربي أو يعطيني سؤلي لسألته، إذاً: عميت عن كل المخلوقات ولم أر إلا الله، فأعطيته قلبي ويدي ولساني وكلي وأملي، وهذا هو التوحيد، العبادات كلها تعود إلى هذا، فصلوا على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم القائل: ( الدعاء هو العبادة ).فلذا أيما إنسان يتجه إلى غير الله ويسأله حاجته فقد مسخ ومسح اسمه من ديوان المؤمنين وإن صام وصلى، فالذي يقول: يا سيدي عبد القادر ، يا مولاي، يا فاطمة، ينادي ميتاً وغائباً أعطاه صفات الله من الجلال والكمال وسأله فقد مسخ وما بقي مسلماً، فلولا يقيننا بأن الله يسمعنا ويرانا ويقدر على إعطائنا الحاجة هل سنسأله؟ فالذين يدعون غير الله عز وجل ويرفعون أصواتهم بأسمائهم منادين صارخين هؤلاء لولا أنهم جهلة ما علمهم العلماء لقلنا لهم قولاً غير هذا، ولكن نكل أمرهم إلى الله. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] إذا لم تدع واستغنيت عن الله وتكبرت فإنه لا يجيبك، ما هو في حاجة إليك، وفي هذا ترغيب في الدعاء وحث عليه وحظ عليه، لو تظل طول ليلك ونهارك: يا رب يا رب؛ فأنت في أحسن حال، فأكثروا من الدعاء.
آداب الدعاء
لكن للدعاء آداب، نذكر بعضها:أولاً: الذي يمنع الإجابة أكل الحرام، سواء كان دماً أو ميتة أو خنزيراً أو مالاً مسروقاً أو مغصوباً أو مأخوذاً، المال الحرام، أكل الحرام محجوب صاحبه عن إجابة الدعاء، والذين يعيشون على الربا كيف حالهم؟ ارحموهم، استغفروا لهم، ادعوا لهم بالتوبة، ما ترفع لهم دعوة أبداً، ورطهم الجاهلون. وإن قلت: ما الدليل على ما تقول؟ قلت: حديث مسلم ؛ إذ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( الرجل يطيل السفر -في الجهاد والغزو والحج والعمرة- أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟ ) كيف؟ فهذا الحديث واضح. فالذي في بطنه الحرام محروم من الإجابة، إلا إذا تقيأ وأخرج ما في بطنه، وهل يستطيع؟ فعل ذلك أبو بكر الصديق ، والله! لقد تقيأ اللقمة التي أكلها، أدخل أصبعه وأخرجها، وهي بالنسبة إلينا من أحل الحلال واعتبرها شبهة وأخرجها، هذه واحدة.ثانياً: الاستعجال في الدعاء، وهذا متورط فيه أكثر الناس، وهو أن تقول: دعوت وما استجيب لي! فأنت ترجوا الاستجابة ولو بعد أربعين سنة، إلا إذا قلت: دعوت وما استجيب لي فقد انتهيت، فلا تيأس، لا تقنط، لا تقطع رجاءك، ابق مع سؤالك عشرين سنة، أربعين سنة، ستين عاماً ما تترك الدعاء، ويستجيب الله لك، فلا تستعجلن الدعاء وتقول: دعوت ولم يستجب لي.من الآداب: أن على الداعي أن يعزم في دعوته، يطلب: اللهم أعطني، اللهم أكرمني، اللهم افعل بي كذا، ولا يقول: اللهم ارزقني ولداً إن شئت، اللهم أسكني مدينة نبيك إن رأيت ذلك أو شئت، هذا حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يقل: اللهم أعطني كذا إذا شئت، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري : ( فإذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإنه لا مستكره لله ) ما هناك قوة فوق الله تكره الله على أن يعطي أو لا يعطي، اعزم المسألة: أعطني، اغفر لي، ارحمني، ارفعني، أعزني، بلا تردد. ومن الآداب: أنه يستحب الإسرار بالدعاء، أي: يستحب إخفاء الدعاء، ما معنى الإسرار به؟ عدم الجهر، واذكروا قول الله تعالى عن نبيه زكريا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3] الخفي ضد العلني والجهري فيستحب في الدعاء أن يكون خفياً، فلهذا لا ندعو كل ليلة وفي كل حلقة، بل ندعو عند المناسبة ونسأل الله العفو، وإلا فالدعاء يكون سراً فيما بينك وبين الله عز وجل.
أوقات إجابة الدعاء
هناك أوقات يستجاب فيها الدعاء، نضبطها ونسأل الله فيها، أوقات عدة بينها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.من الأوقات التي يرجى فيها استجابة الدعاء: ما بين الأذان والإقامة، فإذا أذن المؤذن ادخل في الدعاء حتى يقول المقيم للصلاة: قد قامت الصلاة، وهي عشر دقائق وأحياناً عشرون دقيقة، فهذه -والله- نتصيدها كل يوم على علم، قبل أن يقول: الله أكبر ونحن في الطريق أو في الصف ندعو، فبين الأذان والإقامة اطلب حاجتك.ثانياً: السَّحر، وقت السحور، الثلث الأخير من الليل إلى أذان الصبح، هذا الوقت وقت استجابة، وسر ذلك: أن الله عز وجل ينزل في هذا الوقت إلى السماء الدنيا وينادي: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فهذه فرصة.ثالثاً: وقت الفطر، وقت فطر الصائم، عندما يؤذن المؤذن قبل أن ترمي بالتمرة في فيك ادع الدعوة التي تحتاج إليها وبعد ذلك أفطر، وتحين الوقت، بعدما يقول: الله أكبر قل: يا رب! افعل بي كذا وكذا، ثم كل التمر أو اشرب الماء.رابعاً: حال السفر. أيها المسافرون! إن كان سفركم لله لا للشيطان ولا للهوى فلكم دعوة مستجابة، ادعوا الله عز وجل فإنه يستجيب لكم؛ لأنكم مسافرون له، حتى ولو كنت تاجراً تتجر من أجل أن تعول أسرتك وتحفظ نفسك عن سؤال غير الله، والتجارة مأذون فيها والمال حلال وبيعك وشراؤك على أسس البيع والشراء الذي أباح الله؛ فأنت في عبادة، ادع الله وأنت مسافر، أما إذا كنت في الحج والعمرة والزيارة وطلب العلم والدعوة إلى الله فادع بما شئت.أما إذا كان السفر كسفر الغافلين للنزهة والترويح على النفس، ويخالطون الكفار والفساق والفجار، ويعيشون معهم الشهر والشهرين ويعودون ملطخين، وأعوذ بالله من هذه الحالة، ولا تغضبوا، فما سمينا زيداً ولا عمراً، لكن بلغنا أن هناك من يسافر لا لشيء إلا للهوى، تخرج من مدينة الرسول؟ تترك مكة وتذهب إلى بلد لتروح على نفسك؟ !والله إن الذي لا يجد الروحانية في الحرمين لن يجدها في العالم، لو أعطوه أموال بريطانيا ونساءها كلها فوالله لن يجدها، ولكن الجفاف والقسوة سببها البعد عن الله، فيحاولون كيف يخففون.خامساً: المرض، أيها المرضى -ونحن منهم- ادعوا الله عز وجل طول الليل والنهار فدعاؤكم لا يرد، إذا كان المرض ما تسببنا فيه بمعصية الله، إذا امتحنك الله وابتلاك ليطهرك ويزكيك، أما إذا أنت شربت الخمر أو لعقت السم بيدك فهذا أمر ثان، أنت عاص لله، حتى الذي يسرف في الأكل والشرب حتى يتخم ويمرض لا يستجاب له، عصى الله عز وجل.سادساً: في السجود، هذه أصعب من سابقتها، يضع رأسه بسرعة ويرفع، فما هي قضية سهلة، ما يعرف حتى سبحان الله أو سبحان ربي الأعلى، يخطفها ويرفع رأسه، فإين يسجد؟ أين يدعو؟ فالدعاء يستجاب في السجود وأعظمك السبعة على الأرض ووجهك معفر في التراب وأنت تسأل الله، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، لو تظل ألف سنة وأنت صاعد في السماء فما أنت بأقرب من ساجد في الأرض يسجد لله، واقرءوا قول الله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19] واسجد واقترب من الله عز وجل، والسجود: وضع الجبهة والأنف والكفين والركبتين والرجلين على الأرض، ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ) حال السجود.سابعاً: دبر الصلوات، عرفنا حديث معاذ : ( يا معاذ! والله إني لأحبك، لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) هل فيكم من لم يدع بهذا الدعاء اليوم؟ نحن لا نتعلم ونترك، ما تعلمنا مسألة إلا طبقناها، وإلا فكيف نسمو؟ ثامناً: عند اشتداد الكرب من ظلم وغيره، إذا اشتد البلاء وعظم الكرب ففي الحالة هذه الله معك، فادع الله عز وجل، إذا ابتلينا بحرب، بفتنة، بعذاب، بعدو يعذبنا، عند اشتداد الكرب من ظلم وغيره، فقد ورد من الأحاديث والآثار ما يصدق هذا ويؤكده. تاسعاً: عند رؤية الكعبة، ورد عندما ندخل المسجد ونشاهد الكعبة أننا ندعو بدعاء، والحاصل أن ما ذكرنا ليس معناه الإحصاء والإحاطة، فأبواب الفضل كثيرة.وأما الدعاء في الركوع فباطل، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) لا دعاء في الركوع.
معنى قوله تعالى: (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)
قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، قوله: وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186] فالذي لا يؤمن بالله ولقائه، لا يؤمن بما أمر الله بالإيمان به من الغيب والشهادة؛ هذا سفيه، ضائع، خاسر، لا وجود له.فقوله تعالى: وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] أقول: الكفار السفهاء، لا يعرفون الرشد أبداً، ولا يذوقون له طعماً، ولا يظفرون بفائدة منه قط، لأن الله اشترط للرشد أولاً الإيمان به، وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186] بجلالي، بكمالي، بوجودي، بإنعامي، بإفضالي، بإحساني، بشرائعي، بقوانيني، وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. لكن نعود إلى الوراء: فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186]، فكيف تدعو الله: يا رب! أكرمني، تريد أن يستجيب لك وأنت لم تستجب له؟ أعوذ بالله! تقول: يا رب أعطني، يا رب افعل بي، وتلح تريد أن يستجيب لك، وهو يدعو: عبدي، ولا تستجيب، فوالله! لا يستجاب لك. وهل نادانا الله؟ نعم، نادانا تسعين نداء إلا نداء، فالذي لا يستجيب لله إذا ناداه الله فهل يستجيب له الله تعالى؟فهل هذا هو الأدب مع الله: أن تقول: أعطني وأنا لا أعطيك، أمعقول هذا؟ أتقول: يا فلان! أعطنا، خذ كذا، أعنا، وأنت لا تعطيه، كيف يمكن هذا؟ هذا هو سوء الأدب مع الله. عجب هذه الآية: فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186] إذا دعوتهم، وكم دعانا ربنا في القرآن؟ تسعين مرة، دعانا لأي شيء؟ لا لشيء، وإنما دعانا ليأمرنا بفعل ما يسمو بنا ويعزنا ويكملنا، دعانا لينهانا عما يشقينا ويردينا ويهبط بنا، دعانا ليبشرنا لننطلق في ميادين الصالحات، دعانا لينذرنا من عواقب السوء والمصائب والويلات، دعانا ليعلمنا فنسموا ونتعلم، فالذي ما استجاب لله ويقول له: أعطني فهل سيستجيب له؟ هذا سوء أدب.فمثله: أني أعطيك ما تسأل وما تطلب، دائماً أقول: خذ، وحين أقول: من فضلك أعطني كذا تسكت، فهل هذا أدب؟ لعام وعامين وأنت تعطيه وبعد ذلك قلت: أعطني فلوى رأسه. فحالنا مع الله تعالى هي هذه، كأننا ما سمعناها أبداً: فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186] إذا دعوتهم، وقد دعانا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] استجبنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، استجبنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، في تسعين نداء، أكثر المسلمين ما شعروا أن الله ناداهم، وقد تضمنها القرآن الكريم، والحمد لله، فقد علمنا الله وهدانا وكتبنا وعرفنا، وها نحن ندرسها. فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186] إذا كانوا يريدون أن نستجيب لهم وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، الرشد ضد السفه، فالرشد هو أن تمشي دائماً في سبيل نجاتك، بعيداً عن سبيل هلاكك، هذا الرشد، فالإيمان بالله وطاعته في أوامره ونواهيه بعد معرفة الأمر والنهي والله! لهو الرشد، وصاحبه راشد ورشيد.والإعراض عن معرفة محابه ومساخطه والعيش بعيداً عنها والله! لهو السفه الكامل، وصاحبه خاسر.إذاً: هذه (لعل) الإعدادية ما هي للترجي، ليعدكم بذلك للرشد، فمن آمن بالله وعرف محابه ومكارهه وأخذ بطريق طاعته رشد، أصبح من الراشدين، أعطه مليار ريال أمانة وغب أربعين سنة، فوالله! لتجدنها كما هي؛ لأنه ما هو بسفيه، بل راشد.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
الآن نعود للآيات في الكتاب. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: الداعي: السائل ربه حاجته ]، يقال فيه: الداعي.[ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186]: أي: يجيبوا ندائي إذا دعوتهم لطاعتي وطاعة رسولي بفعل المأمور وترك المنهي والتقرب إلي بفعل القرب وترك ما يوجب السخط. يَرْشُدُونَ [البقرة:186]: بكمال القوتين العلمية والعملية، إذ الرشد: هو العلم بمحاب الله ومساخطه، وفعل المحاب وترك المساخط، ومن لا علم له ولا عمل فهو السفيه الغاوي والضال الهالك ].
معنى الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة:ورد أن جماعة من الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: ( أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى قوله: (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ))[البقرة:186].. الآية ).ومعنى المناجاة: المكالمة بخفض الصوت، والمناداة: برفع الصوت ]، ناجاه: كلمه بصوت منخفض، ناداه: كلمه بصوت عالٍ مرتفع.[ وإجابة الله دعوة عبده معناها: قبول طلبه وإعطاؤه مطلوبه، وما على العباد إلا أن يستجيبوا لربهم ] إذ دعاهم [ بالإيمان به وبطاعته في أمره ونهيه، وبذلك يتم رشدهم ويتأهلون للكمال والإسعاد في الدارين: الدنيا والآخرة معاً ].
هداية الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية ]، كل آية فيها هداية، إذ في كل تمرة مادة غذاء وفي كل حبة عنب كذلك، فكيف بآية ما فيها هداية؟ والله! ما تخلو آية من هداية.قال: [ من هداية الآية:أولا: قرب الله تعالى من عباده ]، لو كان الله بعيداً عنا فمن يبلغ صوتنا، من يرفع سؤالنا؟ لكنه معنا، قريب منا، فادع وأنت مرتاح.[ قرب الله تعالى من عباده، إذ العوالم كلها في قبضته وتحت سلطانه، ولا يبعد عن الله شيء من خلقه؛ إذ ما من كائن إلا والله يراه ويسمعه ويقدر عليه، وهذه حقيقة القرب ]. فالقرب ما هو؟ أن يسمعك ويقدر على أن يمنعك ويعطيك، هذا هو القرب.[ ثانياً: كراهية رفع الصوت بالعبادات، إلا ما كان في التلبية والأذان والإقامة ]، مطلق العبادات رفع الصوت بها مكروه، فلم ترفع صوتك، أما يسمع هو؟ هذا اتهام له، فهذا وجه الكراهة، هل أنت خائف أنه لا يسمعك، فلهذا العبادة كلها يستحب فيها خفض الصوت والمناجاة مع الله، إلا التلبية، فقد أذن الرسول بذلك، فارفعوا أصواتكم: لبيك اللهم لبيك، حتى تصاب بالبحة، والإقامة والأذان، فالأذان لا بد حتى يسمع أهل الحي، والإقامة حتى يسمع أهل المسجد، فقط هذه الثلاثة: الأذان والإقامة والتلبية، وهل ترفع التلبية للمؤمنات؟ لا، هذا خاص بالفحول الرجال، أما أم سعيد فلا، المؤمنة لا يحل لها أن ترفع صوتها، والديوثة التي يسمع ضيفها صوتها في حجرتها، هكذا تقول الصديقة ، فالمؤمنة صوتها منخفض فكيف تلبي بصوتها؟[ ثالثاً: وجوب الاستجابة لله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال ]، أما دعانا فقال: فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي [البقرة:186]؟[ رابعاً: الرشد في طاعة الله والغي والسفه في معصية الله ]، أين يوجد الرشد؟ في طاعة الله ورسوله، أين يوجد السفه؟ في معصية الله ورسوله، والسفيه: هو الذي يشرب الخمر وينفق أمواله في الباطل.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (121)
الحلقة (128)
تفسير سورة البقرة (86)
كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل ثم استيقظ في وسطه لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية، وكأن الصيام هنا يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، فأتى ناس من الصحابة نساءهم في الليل فشق ذلك عليهم، فأنزل الله عز وجل بيان وقت الصيام من النهار، وأذن لهم بالأكل والشرب وإتيان النساء طالما وأن الفجر لم يطلع، ثم امتن سبحانه عليهم بما بين لهم من الأحكام وما شرع لهم من الشرائع التي توصلهم إلى تقواه سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا ذاك، أنت ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية المباركة من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187].
اختصاص الله تعالى بالتشريع
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] من الذي أحل لنا؟ الله، إذ لا يحل ولا يحرم إلا هو، لم؟ لأنه هو المالك لكل شيء، فما أذن فيه فهو كذلك، وما منعه وحظره ولم يأذن فيه فممنوع، أليست هذه حالكم؟ مالك الدار إن أذن لأحد نزل وإن لم يأذن لم ينزل، هذا أولاً.وثانياً: أليس الله عليماً حكيماً؟ فالعليم يعرف المنافع والمضار، فلا يأذن إلا بما فيه منفعة، ولا يمنع إلا ما فيه مضرة، والحكيم يضع كل شيء في موضعه، إذاً: لا يحل ولا يحرم إلا الله، ومن أخذ يحلل ويحرم بدون إذن الله فقد تربب وادعى الربوبية. وهنا لطيفة كررناها عمراً طويلاً، وقلنا للحكام المسلمين: أيها الحاكم! طبق شرع الله في جماعتك في أمتك، أنت عبد الله، كلفك الله وأناط بك هذا، فطبقه كما أراد هو، فإن شقي الشعب أو سعد فلا لوم عليك، إن أصابهم بلاء وجوع فقل: ربكم هو الذي فعل وتبرأ ذمتك، إن أصابهم خير وطهارة وكمال فقل: هذا فضل الله عليكم، فإن أبيت هذا فاخلق إقليماً من الأقاليم من البلاستيك أو من الطين وانفخ فيهم الأرواح، واجلس على سرير ملكك، وإذا نازعك أحد في حكمك فاقتله، فهل يستطيع أحد أن يخلق أمة حتى يحكم فيها بما يريد؟ الجواب: لا.إذاً: أما تستحي يا عبد الله أن تبعد الله عز وجل عن حكمه وتحكم أنت بما تشتهي؟ يا ويحك، يا ويلك! إلا أن يتوب الله عليك.فإذا أراد الإنسان أن يحكم بهواه على المؤمنين أهل الكتاب والسنة فليصنع ما شاء من البلاستيك مليون نسمة أو مليونين وينفخ فيها الروح وليتربع على سرير ملكه يأمر وينهى: افعلوا، لا تفعلوا، ولا يلومه أحد، لأنه يقول: خلقي، صنعي وصنعتي، فمن يلومه؟ أما أن يخلق الله ويرزق الله ويدبر الله وينزل كتابه ويبعث رسوله ويكل الأمر إليك لتطبقه فتعرض عن الله وعن كتابه وشرعه، وتطبق على المؤمنين شرائع الهوى والأباطيل فهذا عار ومذمة، ولو فقه هذا واحد فإنه سيدعي الجنون ويهرب، ما يقبل أبداً أن يبقى على كرسي الحكم، لكن من بلغهم؟
الأدب القرآني في الكناية عن الجماع
والشاهد عندنا قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] من المحلل؟ الله، ماذا أحل لنا؟ قال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، الرفث: الجماع، لم ما قال: الجماع أو الوطء أو النكاح؟ لأن هذا كتاب مقدس، هذا تقرؤه الفتاة وتتلقى عن أبيها، ويتلقاه الشاب عن أبيه، بل عن أمه، فكل عبارة من شأنها أن تثير الغريزة أو تحدث فكرة في الجنس لا يستعملها، آمنا بالله!ومعنى هذا: تربوا يا عباد الله وطهروا ألسنتكم وأقلامكم، فلا تتكلموا بما يسيء، بما يضر، تأدبوا بآداب ربكم، وارتقوا إلى مستويات نبيكم، هذا هو المطلوب منا، وقد يقال: يا شيخ! من علمنا هذا، ما وجد من يعلمنا، ونحن مشغولون بالملاهي والمقاهي والملاعب والطعام والشراب! إذاً: فلا نلومن إلا أنفسنا، ولا حجة لنا عند الله أن نقول: ما تعلمنا، فلم ما تعلمتم؟ كان سلفكم يرحل الرجل من المدينة إلى حمص من أجل حديث واحد يتعلمه، وأنتم التعليم في بيوتكم وتعرضون عنه، فأي عذر لهذه الأمة؟قال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة:187]، أي: إذا كان الغد هو يوم صيام فتلك الليلة قبله هي ليلة الصيام، الرَّفَثُ [البقرة:187]، أي: الجماع ومخالطة نسائكم.
معنى قوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)
ثم قال تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]، من هن هؤلاء؟ الزوجات، والضمير يختلف، فـ(هن) غير (أنتم). ودعاة المساواة بين الرجل والمرأة يقولون: اتركوا كلمة (هن) هذه، فالكل (هم)! فيا للسخرية والاستهزاء والهبوط، أين تهبط البشرية؟ هذا شأن من جهلوا الله وما عرفوه، شأن من كفروا بالله وأنكروه، شأن من أعرضوا عن ذكر الله وكتابه وتجاهلوه، فهم في حيرتهم يتخبطون. إن الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، شر الخليقة، من شر الخليقة؟ الكفار، من قضى بهذا؟ خالقهم، ولو حللنا ذلك تحليلاً علمياً فوالله! لوجدناهم شراً من القردة والخنازير، ولكن ما دمنا هبطنا وجاريناهم ومشينا وراءهم فما يتبين لنا هذا، لو كنا في سمائنا وكمالاتنا ننظر إليهم كالقردة والخنازير لا وزن لهم ولا قيمة، لكن هبطنا فتساوينا، بل تفوقوا علينا، فماذا نقول؟ هُنَّ [البقرة:187]، أي: الزوجات لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] كيف لباس؟ العامة من عجائز القرية يقلن: فلانة تستر زوجها وهو يسترها، واللباس هل يستر أو يفضح؟ فزوجتك تسترك، وأنت تسترها، حتى لا تتعرض للفضيحة أنت ولا هي، إذاً: فهي لباس وهو لباس، سبحان الله!
معنى قوله تعالى: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ...) وبيان سبب نزول الآية
وقوله بعد: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]، لهذه الجملة سبب نزلت به، حيث كانوا إذا نام أحدهم بعد المغرب ثم استيقظ لا يأكل ولا يشرب حتى اليوم الآتي ويفطر مع غروب الشمس، فمن أراد أن يأكل، يشرب، يجامع أهله فقبل أن ينام، إذا نام واستيقظ فهو صائم لا أكل ولا شرب ولا جماع، ومشى الحال هكذا لسنة أو سنتين، أو لأيام وليال، فـعمر رضي الله عنه استيقظ وأتى أهله رضي الله عنه، فشعر بأنها زلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه القصة، فأجاب الله تعالى عمر والمؤمنين: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187]، فتلوثونها بأدران المخالفة والمعصية، فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]، بشراك يا ابن الخطاب بشراك، الحمد الله، فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]، لا مؤاخذة، ولا قضاء ولا إثم، منة الله على ذاك النور الأرضي عمر .و عمر يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه )، ما يقدر وما يستطيع الشيطان أن يمشي مع عمر في شارع واحد، فيحترق، ويقول فيه: ( لو كان في أمتي محدثون -أي: من تحدثهم الملائكة- لكان منهم عمر ، ولكن لا نبي بعدي )، هذا هو عمر ، هذا هو ابن الخطاب .ويوجد من الغافلين والجهال المضلين من يسبونه، وضبط واحد منهم يبصق على قبره! فما هذا العمى، ما هذا الجهل، ما هذا الضلال؟! تعالوا اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ما عندنا إلا أن نقول: كتب الله خلقاً للجنة وخلقاً للنار.إذاً: عرفتم سبب نزول الآية، وتأمل قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187]، وإن كان الذي فعل واحداً فقط، لكن القرآن في سماء الآداب والكمال، ما يقول: علم أنك، فتسأل: من هذا؟ فقال: (أنكم) أنتم أيها المؤمنون، إذ الواحد منكم جزء منكم والكل واحد، كما قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، أمرنا واحد.
معنى قوله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)
وقوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، أي: أذنا لكم، إذا أذن المغرب وأكلت أو أشربت أو صليت العشاء فائت زوجتك، نم حتى تشبع نوماً وقم وائتها وكل واشرب حتى الفجر، والحمد لله، هذه فضيلة عمر . فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، فالآن بعد الذي حدث وبعد العفو الذي تم باشروهن، ما معنى باشروهن؟ من أراد أن يجامع زوجته فليجامع، وإن نام واستيقظ ولا حرج، لم هذه المباشرة، لم هذا الجماع يا حكيم يا عليم؟ قال تعالى: وَابْتَغُوا [البقرة:187]، اطلبوا ماذا؟ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، ما هو بجماع شهوة فقط، اطلبوا البنين والبنات، إذا كتب الله لكم ذلك في كتاب القضاء والقدر في اللوح المحفوظ فسوف يكون الولد والبنت، فانظر كيف رفع مستوانا إلى الكمال، ما هي بقضية بهائم فقط، باشر انكح.. اطلب الولد حتى يعبد الله عز وجل، ما هو لمجرد الشهوة.
معنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)
قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، كان أحد الأصحاب قد فهم من الآية أنها خيوط، فوضع تحت رأسه عند وسادته خيطين أبيض وأسود، وما عندهم كهرباء، فكان ينظر: فإذا وجد الخيط أسود قال: ما زال الليل، وإذا وجد الخيط الأبيض قال: طلع الفجر، فذكر ذلك للحبيب صلى الله عليه وسلم، فقال: ( إنك لعريض القفا )، قفاك عريض، لم؟ تجعل المشرق والمغرب كله تحت رأسك؟! تجعل الأفق بكامله تحت رأسك وأنت نائم! هذه اللطيفة المحمدية، فليس المراد من الخيوط هذه خيط يلوح هكذا أبيض فتظن الفجر، وخيط يأتي بعده أسود. وهذا عرفناه وعشناه وجربناه قبل وجود هذه الكهرباء الظالمة التي أفسدت حياتنا، وقد تقول: يا شيخ! لا تقل هذا. فأقول: والله ما استعملناها في منافعنا، لو استعملناها في النافع لكانت نعمة، الآن أقل ما يكون أن أولادنا يعلبون طول الليل وهم يجرون ويصيحون، وينامون بعد الفجر إلى الظهر أو إلى العصر، بل حتى النساء تغيرن فجعلن النهار ليلاً والليل نهاراً؛ بسبب ماذا؟ أيام كان الفانوس والزيت أو جريد النخل ما كان هذا، الآن يسهرون فلا يصلون الصبح ولا يشهدونها، ولا يذكرون الله، ولولا هذه الكهرباء فمن أين يأتي التلفاز والفيديو؟ هي محنة الكهرباء.المهم أننا سفهاء، لا رشد لنا، فلهذا ما ننتفع بما فيه نفعنا، ونحول المنافع إلى مضار؛ وذلك لهبوطنا، ما نحن سادة البشرية وقادتها.إذاً: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، إلى متى؟ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187]، نكون في المسجد في القرية، وفجأة يضاء المسجد من النوافذ وما هناك كهرباء ولا فوانيس، فنقول: طلع الفجر، ونأخذ في صلاة النافلة، وفجأة يأتي الظلام كما كان خيطاً أسود، بعدها بدقائق ينبلج الصبح، هذا الذي أراده الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، الخيط الأول كذنب السرحان، حيث يطلع بياض في الأفق عشر دقائق أو خمس دقائق ثم ينسخ ويأتي ظلام الخيط الأسود، بعدها ينبلج الفجر. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، وسمي الفجر فجراً لانفجار الضوء وانتشاره، فاشرب مع الخيط الأسود وكُلْ حتى ينبلج الفجر الخيط الأبيض.وقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، هذا الأمر للإباحة، منة الله، ولو أن شخصاً قال: يجب أن نأكل، فربي قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، فسيبقى يراقب الفجر حتى يأكل، ولكن هذا للإباحة، فإذا لم ترد أن تأكل فلا تأكل ولا تشرب، فقد كان ذلك ممنوعاً فأذن لهم فيه.
معنى قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل)
قال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] أتموا الصيام من الفجر الذي هو انتشار الضوء في الأفق إلى الليل، والليل يبتدئ بغروب الشمس، سقطت عين الشمس بالأفق فدخل الليل.إذاً: وأتموا الصيام إلى الليل، ما هو الصيام؟ هو الإمساك والامتناع عن شهوتي البطن والفرج، وهل للبطن شهوة؟ أي نعم، يشتهي الطعام والحلويات أو لا؟ يشتهي الماء والعصير أو لا؟ والفرج له شهوة.
معنى قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)
إذاً: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، أي: الزوجات وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، هذا إعلام لنا بمشروعية الاعتكاف، وهو ملازمة المسجد للعبادة، ويشترط للعكوف أن يكون المسجد مسجداً جامعاً، أي: تصلى فيه الجمعة، حتى لا يخرج منه ليصلي الجمعة، والعكوف أقله يوم وليلة، كونك تجلس نصف النهار أو الليل وتقول: اعتكفت ليس هو العكوف الشرعي، هو عكوف لغوي، العكوف في المسجد: ملازمة المسجد لا تخرج إلا للبول أو الوضوء، أو تأتي بطعام من السوق أو شراب بدون أن تتكلم ولا تجادل، إذا لم يكن لك من يأتيك بطعامك وشرابك، وتنام في المسجد، وإن احتلمت فاخرج على الفور اغتسل وارجع، لا تبق محتلماً.إذاً: هذا الاعتكاف فيه فضل عظيم لا يقادر قدره، حسبك أن عبد الله عكف في بيت ربه يذكره، وهو قراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء والركوع والسجود أربعاً وعشرين ساعة، فإذا جاءك النوم فنم ولا حرج، وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشر ليالٍ، والاعتكاف سنة في العشر الأواخر من رمضان.يقول تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، ما معنى: ولا تباشروهن؟ المباشرة: أن تمس البشرة البشرة، فنحن بشر لأن بشرتنا ما عليها ريش ولا وبر، فـ(باشر زوجته): اختلطت بشرته ببشرتها، كناية عن الجماع والوطء. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، لا الناهية، حرام عليكم، وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، فمن غلبته شهوته فذهب إلى بيته وواقع امرأته بطل اعتكافه وفسد، ويجب قضاؤه حتماً؛ لأنه دخل في عبادة وتركها بدون مقتضٍ ولا موجب، أثم وعليه أن يقضيها، إذ المعتكف قد تغلبه نفسه ويمشي إلى البيت مثلاً ليأتي بطعام أو شراب فينهزم، فإذا انهزم بطل اعتكافه وعليه قضاؤه، وهذا كلام الله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] والحال أنكم عاكفون في المساجد.ويقضي في شوال أو في أي وقت، إذا التزم بعشرة أيام فإنه يقضيها في شوال، وإذا التزم بيوم وليلة فقط يقضي يوماً وليلة.
معنى قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها)
ثم قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:187]، تلك الأحكام التي بيناها من قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة:187] إلى هذه الجملة: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] هذه كلها حدود الله، فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] ولا تعتدوها، ابتعدوا عنها، وقوله: فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] أعظم من: تعتدوها؛ لأن النهي عن قربانها من بعيد.
معنى قوله تعالى: (كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون)
ثم يقول تعالى: كَذَلِكَ [البقرة:187] كهذا البيان والتبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ [البقرة:187] التي تحمل شرائعه وأحكامه، وآداب وأخلاق الكمال البشري، يبينها للناس أبيضهم وأسودهم من عرب وعجم، ولكن من هم؟ الذين يؤمنون بهذا الكتاب، ويقرءونه ويفهمون ما فيه من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلة: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] كل هذا من أجل التقوى، إذاً: للتقوى شأن عظيم. والذين ما حضروا هذه الحلقة ليقم أحدهم ويبين لنا سر التقوى وسنعطيه ألف ريال، ولكن لا يعرفون، وقد يقال: يا شيخ! ماذا تريد؟ فأقول: نريد أهل المدينة المنورة يأتون بيوت الله يتعلمون العلم، في ساعة ونصف فقط بين المغرب والعشاء، ينبغي أن يمتلأ المسجد بنا نحن ونسائنا وأطفالنا، كل ليلة نتلقى الكتاب والحكمة، وتمضي الأيام والأعوام وأحدهم ما يجلس جلسة كهذه أبداً، فكيف يتعلم، من أين له أن يتعلم، أيوحى إلينا؟ إنما العلم بالتعلم كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.فالتقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي، أن تطيع الله ورسوله وأولي الأمر في الأمر والنهي، هذه هي التقوى، فكيف علت وأصبحت هكذا؟ الجواب: لأن المتقي طيب النفس زكي الروح، روحه كأرواح الملائكة في السماء، هذا الذي يقبله الله ويرضى عنه ويدنيه، وولاية الله التي يطلبها العقلاء متوقفة على التقوى، من هم أولياء الله؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أولياء الله من ألف سنة عند العرب والعجم سيدي عبد القادر ، سيدي عيدروس وفلان وفلان، ولا يعرفون ولياً بين الناس، تدخل إلى القاهرة وإلى الإسكندرية أو دمشق أو بغداد أو الرياض، وتقول لشخص: من فضلك أنا جئت من بلاد بعيدة، نريد ولياً من أولياء هذه البلاد أزوره، فوالله! ما يأخذك إلا إلى ضريح، ولا يعرف أن هناك ولياً لله! فمن فعل بنا هذا؟ الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، كيف فعلوا بنا هذا؟ لأننا بالولاية نحفظ، فولي الله انتبه أن تقول فيه كلمة سوء: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فأصبح الرجل إذا فجر ما يمر بقبر الولي أو بضريحه، بل يأتي من شارع آخر خائفاً من الولي، فحصروا خوفنا في القبور، وسلطوا بعضنا على بعض: الزنا، السرقة، الكذب، القتل، الضرب، الدمار بيننا؛ لأننا أعداء الله ما نحن أولياء الله، لو علمونا أننا أولياء فما يستطيع الإنسان أن يؤذي ولي الله أبداً والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فانظر كيف توصلوا إلى أن أبحنا الزنا والربا واللواط والجرائم، فالمؤمن أخوه يقتله يسبه يشتمه، ويزني بامرأته، فكيف يتم هذا؟ لأننا لسنا أولياء الله، ما علمونا أننا أولياء الله، من فعل هذا؟ العدو، هل عرفنا عداوته؟ كلا أبداً، بل هم أصحابنا! إذاً: ماذا نقول؟ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، الولاية تتحقق بخطوتين: آمن حق الإيمان واتق الرحمن فأنت ولي الله، وإن لم تؤمن أو لم تتق فأنت ولي الشيطان.فلهذا أمرنا بهذه الحدود وهذه الآداب في الصيام والاعتكاف ثم قال: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] فيصبحوا أولياء الله عز وجل، فاللهم اجعلنا من المتقين.
ذكر بعض أحكام سنة السحور
من سنن الصيام: السحور، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر )، الفرق بين صيامنا وصيام اليهود والنصارى أكلة السحر، هم لا يتسحرون؛ لأنهم بهائم، أما نحن فمرابطون مجاهدون صناع، نأكل قبل الفجر بخمس دقائق ونمشي للعمل لننتج، فالسحور هو الغداء المبارك، لو كنا أهل علم فلن نتسحر وننام، بل نتسحر وإذا أذن المؤذن صل واحمل مسحاتك أو آلتك إلى عملك، ولن تفكر في الطعام لأنك شبعان. ويدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى تأخير هذه السنة فيقول: ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور )، ما هذه الرحمة المحمدية؟ يدعونا إلى أنه بمجرد أن تغيب الشمس نأكل، رحمة بنا أو لا؟ لو قال: أخروا حتى تصلوا العشاء أو المغرب ففي ذلك أجر لكان ذلك ضرراً بنا، لكن قال: ( عجلوا الفطر وأخروا السحور ) إلى قبيل الفجر بدقائق، فهذا الشارع حكيم أو لا؟ إنه أستاذ الحكمة ومعلمها صلى الله عليه وسلم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
والآن تسمعون شرح هذه الآيات مرة ثانية.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: لَيْلَةَ الصِّيَامِ [البقرة:187]: الليلة التي يصبح العبد بعدها صائماً.الرفث: الجماع. لِبَاسٌ لَكُمْ [البقرة:187]: كناية عن اختلاط بعضكم ببعض؛ كاختلاط الثوب بالبدن. تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187]: بتعريضها للعقاب، ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة الصيام قبل أن يحل الله تعالى ذلك. بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]: جامعوهن، أباح لهم ذلك ليلاً لا نهاراً. وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]: أي: اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم في قضاء الله وقدره، ولا يكن الجماع لمجرد الشهوة ]، هذه تربية ربانية.[ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ [البقرة:187]: الفجر الكاذب، وهو بياض يلوح في الأفق كذنب السرحان ]، أي: كذنب الذئب. [ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187]: سواد يأتي بعد البياض الأول فينسخه تماماً. الْفَجْرِ [البقرة:187]: انتشار الضوء أفقياً، ينسخ سواد الخيط الأسود ويعم الضياء الأفق كله. عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]: منقطعون إلى العبادة في المسجد تقرباً إلى الله تعالى. حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:187]: جمع حد، وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلاً أو تركاً. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ [البقرة:187]: أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من أفعال وتروك ليهيئهم للتقوى التي هي السبب المورث للجنة ]. التقوى سبب مورث للجنة، كما قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، قالها إبراهيم عليه السلام، إذاً: الجنة تورث، وسبب إرثها التقوى.
معنى الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة:كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية؛ كأن الصيام يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، ثم إن ناساً أتوا نساءهم وأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر، فقال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] أي: الاختلاط بهن؛ إذ لا غنى للرجل عن امرأته، ولا للمرأة عن زوجها. هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]: يسترها وتستره؛ كالثوب يستر الجسم، وأعلمهم أنه تعالى علم منهم ما فعلوه من إتيان نسائهم ليلاً بعد النوم قبل أن ينزل حكم الله فيه بالإباحة أو المنع، فكان ذلك منهم خيانة لأنفسهم، فقال تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187] فاحمدوه.وأعلن لهم عن الإباحة بقوله: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187]، يريد: من الولد؛ لأن الجماع لا يكون لمجرد قضاء الشهوة، بل للإنجاب والولد ]، وغداً سينعقد مؤتمر يمنع الولادة، فلعنة الله عليهم.قال: [ وحدد لهم الظرف الذي يصومون فيه، وهو النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فقال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، وحرم على المعتكفين في المساجد مباشرة نسائهم، فلا يحل للرجل وهو معتكف أن يخرج من المسجد ويغشى امرأته، وإن فعل أثم وفسد اعتكافه ووجب عليه قضاؤه، قال تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وأخبرهم أن ما بينه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده تعالى فلا يحل القرب منها ولا تعديها، فقال عز وجل: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، ثم قال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، فامتن تعالى على المسلمين بهذه النعمة، وهي بيان الشرائع والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة؛ ليعد بذلك المؤمنين للتقوى، إذ لا يمكن أن تكون تقوى ما لم تكن شرائع تتبع وحدود تحترم، وقد فعل فله الحمد وله المنة ].وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (122)
الحلقة (129)
تفسير سورة البقرة (87)
يبين الله عز وجل في هذه الآية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل، وأنه يحرم على المسلم أن يأكل لحم أخيه بغير طيب نفس منه، ثم ذكر نوعاً من شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحكام ليحكموا لهم بغير الحق، فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أموال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة، وهذا الحكم من الله يدخل فيه مال المسلم ومال غير المسلم على حد سواء.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ...) من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله؛ رجاء أن يتحقق لنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا ذلك يا ولي المؤمنين.كنا قد أخذنا في الدرس السابق قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، هذه الآية شرحناها وفهمنا مراد الله تعالى منها، وبقي أن نذكر هداية هذه الآية الكريمة.
هداية الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية: من هداية الآية:أولاً: إباحة الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: (( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ))[البقرة:187] الآية.[ ثانياً: بيان ظرف الصيام ]، بيان وقت الصيام، [ وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ]، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))[البقرة:187]، فالفجر إذاً فجران: صادق وكاذب.[ ثالثاً: بيان ما يمسك عنه الصائم، وهو الأكل الشرب والجماع ]، من أين أخذ هذا الحكم أو هذه الهداية؟ من قوله تعالى: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ))[البقرة:187] الآية.[ رابعاً: مشروعية الاعتكاف وخاصة في رمضان، وأن المعتكف لا يحل له مخالطة امرأته وهو معتكف، حتى تنتهي مدة اعتكافه التي عزم أن يعتكفها ]، من أين أخذنا ذلك من الآية؟ من قوله تعالى: (( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ))[البقرة:187]، وقد عرفنا أن من باشر امرأته وهو معتكف فسد اعتكافه، ووجب قضاؤه بعد رمضان، وعرفنا أن الاعتكاف لا يقل عن أربع وعشرين ساعة، عن يوم وليلة، ولا يكون اعتكافاً شرعياً إلا إذا كان صاحبه صائماً، لا اعتكاف بدون صيام، أقله يوم وليلة، وأفضل ما يكون الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.[ خامساً: استعمال الكناية بدل التصريح فيما يستحى من ذكره ]، حيث قال تعالى: (( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ ))[البقرة:187]، فكنى عن الجماع بالمباشرة من باب تربيتنا لنعيش على الآداب وحسن الأخلاق، ما قال: ولا تجامعوهن. [ سادساً: حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده ]، من قوله تعالى: (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ))[البقرة:187].[ سابعاً: بيان الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود وهي تقوى الله عز وجل ]، إذ قال تعالى: (( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ))[البقرة:187].[ ثامناً: ثبت بالسنة سنة السحور، واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر، واستحباب تعجيل الفطر ]، لحديث: ( فصل ما بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحر )، ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور ).
تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ...)
ولننتقل للآية الآتية من هذه السورة المباركة.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].هذا النهي الإلهي، والذي نهانا هو ربنا العليم الحكيم، فقال: وَلا تَأْكُلُوا [البقرة:188] و(لا) ناهية، ويطلق الأكل للمال على كل استعمالاته، سواء للباس، للسكن، للركوب، للشراء، الكل يطلق عليه لفظ: أكل المال؛ لأن الغالب أن الأموال تستعمل فيما يأكله الآدمي. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [البقرة:188] هل هي أموالنا؟ أي نعم، فالله هو واهبها لنا، ونحن كفرد واحد، أمة واحدة، لا فرق بين البعيد والقريب ولا الشريف والوضيع، ولا العربي ولا العجمي، نحن مثل أمة واحدة. وَلا تَأْكُلُوا [البقرة:188]أيها المؤمنون أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] والباطل خلاف الحق، وفي هذا يدخل المال الذي يؤخذ من طريق الاغتصاب، إذ الاغتصاب باطل، والذي يؤخذ من طريق الخداع والغش فهو باطل، والذي يؤخذ من طريق شهادة الزور فهو أخذ باطل، الباطل ما كان بغير مقابل، فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه، وكل ما أخذ بغير طيب النفس فهو حرام، وهو مأخوذ بالباطل، وقد حرم الله علينا أن نأخذ أموالنا بالباطل، وقد يأخذ المرء مال أخيه مع طيب نفسه؛ وذلك كالذي يقامر ويأخذ مال أخيه بالقمار ونفسه طيبة، لكن كونه راضياً ولا ينكر هل هو راضٍ حقيقة عن أخذ ماله؟ والله! ما هو براضٍ، إذاً: فيبقى اللفظ على عمومه، لا يحل لمؤمن أن يأكل مال مؤمن بغير حق، بأن يأكله بالباطل، وأموال أهل الذمة كأموال المسلمين، لا يحل لمؤمن أن يأخذ مال كتابي كيهودي أو نصراني بغير حق، لا فرق بين هذا وذاك، وكلمة (بينكم) تشمل الأمة كلها على اختلافها.
معنى قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)
وقوله: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188] هذا يندد بالرشوة وبأصحابها وبالقضاة الذين يأخذونها، الرِشوة والرُشوة والرَشوة: ما يعطى للحاكم ليحكم بغير حق، يعرف المواطن المؤمن أن هذا البستان لي لا له هو، ولوجود شبهة أو محاولة يرشي الحاكم ليحكم له بذلك البستان، والبستان كالدار، كالدابة، ككل شيء، الأمور ذات البال هي التي ترفع إلى القضاء، فحرم الله تعالى على المؤمنين أن يدلوا بأموالهم إلى القضاة والحكام ليتوصلوا بذلك إلى أكل أموال إخوانهم بالباطل؛ إذ قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].وقوله تعالى: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا [البقرة:188] قدراً معيناً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ [البقرة:188] الملطخ للنفس، المقبح لها المشوه لها، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188] أن هذا المال حرام، وأن الدابة ليست لك أو البستان أو كذا، وترشي الحاكم مع وجود شبهة تدعي بها أن الدابة دابتك أو أن الدار دارك، وأنت تعرف أنها ليست لك، وتغرر بالحاكم وتضلله، وتفسد عليه حياته، فتشجع القضاء بالباطل بما تدلي به إليه من مال، وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188] من أجل ماذا؟ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا [البقرة:188] يقل ويكثر، وهذه اللام لام العاقبة والصيرورة، لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ [البقرة:188] وكلمة (النَّاسِ) تشمل الكافر والمؤمن، فلهذا قال أهل التفسير: أهل الذمة بيننا لا يصح لمؤمن أن يأكل أموالهم بالباطل بحال من الأحوال، لا يقولن: هذا يهودي أو هذا نصراني ويقيم شبهة، ويقدم القضية للحاكم ويقول: هذا يهودي عدو، فيقضي له بالباطل ويأكل مال الناس.وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188] والحال أنكم تعلمون أن هذا حرام ولا يصح ولا يجوز بحال من الأحوال، ولهذا كانت الرشوة من أفظع الذنوب وأسوئها؛ أن نعطي الحاكم مالاً كالرشاء الذي ننزع به الدلو من البئر، من أجل أن نحصل على مال محرم.هذه الآية نص في حرمة الرشوة واستعمالها، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يدعي أخيه في ماله، ثم يرفع القضية إلى القضاء إلى الحاكم ويرشي الحاكم ليحكم له بمال أخيه. ولنرجع إلى الآية الكريمة في الكتاب.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:الباطل: خلاف الحق ]، فالشيء إما أن يكون حقاً أو باطلاً، لا وسط بينهما، ما هناك شيء ما هو لا حق ولا باطل، إما أن يكون حقاً أو باطلاً، فالباطل خلاف الحق.[ تدلوا: الإدلاء بالشيء: إلقاؤه، والمراد هنا: إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم ] فيأكلوها بالباطل.[ فريقاً: أي: طائفة وقطعة من المال ]، وفريق من الناس: جماعة، كذلك فريق من المال، قطعة من المال، كل ما يؤخذ من مجموعة ويفرق بينه وبين غيره يقال فيه: فريق، سواء كان دنانير ودراهم، أو كان رجالاً ونساء، الفريق هو القطعة من المال في هذه الآية: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].[ بِالإِثْمِ [البقرة:188]: المراد به هنا: بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة، أي: الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق ]؛ لأن المدعي هذا قد يحلف، يقول القاضي: احلف، فيحلف بالله الذي لا إله غيره وهو كاذب، ولهذا فاليمين الغموس هي التي يحلف صاحبها وهو كاذب ويتعمد، بعض أهل العلم قالوا: هذه لا كفارة فيها، ومنهم مالك ، ما يكفي فيها صيام ولا إطعام؛ لأنها سميت بالغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في أتون الجحيم، وبعض أهل الفقه يقول: مهما كان فإنه يكفر فيطعم عشرة مساكين ولا ينفعه ذلك؛ لأنه حلف فاجراً متعمداً من أجل أن يأخذ أموال الناس أو يمزق أعراضهم، فلهذا قال: المراد بالإثم هنا: الرشوة وشهادة الزور، وشهادة الزور أن يقول: أشهد بالله أن كذا لفلان وهو يكذب، أشهد أن فلاناً ما قال كذا وكذا، يقوله أمام القاضي.ولهذا في الصحيح أيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي رجاله كان جالساً بينهم في هذا المسجد، ثم قال لهم بهذا الاستفهام: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس -اهتماماً بالأخيرة- ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور )، وما زال يكررها حتى فزع الأصحاب وتمنوا أن لو سكت خشية أن ينزل ما ينزل، قال الراوي: ( حتى قلنا: ليته سكت ). وشهادة الزور كثرت لما هبطت أمتنا وأصبح يحوم حول المحكمة صعاليك ويتحسسون، فإذا جاء أحد قال له: تريد شهادة؟ أنا أشهد معك، فيضع في جيبه نقوداً ويدخل يشهد، ويحلف بالله ما كان هذا أو لم يكن، أما إذا كان من قبيلته أو من أهل قريته -بل حتى من إقليمه- فيشهد له شهادة زور لكونه من بلاده، ما سبب هذا؟ الجهل، ما جلسوا في حجور الصالحين كما جلس الأصحاب في حجر الحبيب صلى الله عليه وسلم، فمن أين يعرف ويتعلم؟ بل يشهد وهو يضحك.قال: [ بِالإِثْمِ [البقرة:188]: المراد به هنا: بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة ]، أي: اليمين الغموس، هذه يمين الفجور والخروج عن طاعة الله ورضوانه.قال: [ أي: الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق ]؛ لأنه قال: اعتمد على شهادة فلان وفلان. فهذه مفردات هذه الآية المباركة.
معنى الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة: لما أخبر تعالى في الآية السابقة ] ذات الأحكام المتعددة [أنه يبين للناس ] إذ قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ [البقرة:187]، والآيات القرآنية هي التي تحمل الأحكام الشرعية: الحلال والحرام والحق والباطل وما إلى ذلك.[ أنه يبين للناس أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي ]، ليتقوه: أي: ليتقوا الله، بأي شيء يتقوه؟ بفعل ما أمرهم وترك ما نهاهم، والتقوى: التي بها نتقي الله حتى لا يسخط علينا ولا يغضب ولا ينتقم، فهي امتثال أوامره وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم، واجتناب نواهي الله ونواهي الرسول صلى الله عليه وسلم، بهذا يتقى الله، ما يتقى بالجيوش الجرارة، بالحصون العالية، بالأسوار الحصينة، هذه ما تنفع، والله! لا تنفع، بم يتقى الله؟ بطاعته وطاعة رسوله، فمن أطاع الله تعالى فيما أمر وفيما نهى -أي: في فعل المأمور وترك المنهي- وأطاع الرسول في ذلك فهو متقٍ، وهو في عداد المتقين.
وراثة الجنة بالتقوى
وللتقوى فضل عظيم، فهي سبب وراثة الجنة، فالجنة دار السلام تورث، وورثتها معلومون، وسبب الوراثة تقوى الله عز وجل، واقرءوا: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، يورث الله الجنة من كان تقياً. وإبراهيم الخليل في دعوته التي حفظناها قال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، إذاً: الجنة تورث كالتركات المالية تورث، نحن الآن نتوارث بثلاثة أسباب: النسب، المصاهرة، الولاء، فالنسب: كالبنوة والأخوة والقرابة، والمصاهرة: بين الزوجة والزوج، والولاء أيام كان عندنا العبيد، والآن كلنا عبيد، لكن هل نحن عبيد لله؟ لا، للدينار والدرهم، إذاً: فالجنة دار السلام لها ورثة يرثونها، وسبب إرثهم تقواهم لله عز وجل. وسر هذه التقوى: أنها تزكي النفس أي: تطهرها، كيف تزكي النفس يا شيخ، كيف تطهرها؟ الجواب: أن الله إذا أمر بكلمة تقال أو حركة تحدث فقد جعل تلك الكلمة يخرج منها إشعاع نوراني يصل إلى النفس فتطهر به، ما شرع الله جل جلاله من عبادة قولية أو فعلية أو اعتقادية إلا وعمل ذلك يولد الطاقة النورانية في النفس المعبر عنه بالحسنات، فالمتقي كل يوم يزكي بنفسه، المواد التي تزكي النفس يفعلها، والمواد التي تخبث النفس يتركها، يفعل المأمور المزكي للنفس، ويترك المنهي المخبث لها الملوث لها، وهكذا كل يوم يزكي هذه النفس ويبعدها عما يخبثها، وإن حدث مرة أنه أذنب فإنه يتوب إلى الله ويرجع إليه، ويغسل ذلك الأثر بما يفرغ عليه من الحسنات، فإذا وافاه الأجل والنفس طاهرة فإنه تفتح له أبواب السماء. وهل تعرفون حكم الله في هذه القضية؟ صدر على البشرية كلها، حكم الله صدر وأكثر البشر لا يعرفون هذا ولا يسمعون به، ولو كانوا بصراء فإنه إن قيل: صدر حكم الله عليكم، وبلغنا أن عالماً بالهند عرف هذا الحكم؛ فوالله ليمشن إليه. فما هذا الحكم؟ إنه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، ومن يراجع؟ لا استئناف ولا مراجعة، قد أفلح من زكى نفسه أي: طيبها وطهرها، وقد خاب -أي: خسر- من دساها بما صب عليها من أطنان الذنوب والآثام حتى لم يبق لها وجود.هذا حكم الله الذي صدر على البشرية، ولشأن هذا الحكم ولتأثيره أقسم الله عليه بأقسام ما أقسمها على حكم كهذا، فماذا قال تعالى؟ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8].والمقسم عليه قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]؛ لأن الله عز وجل لما خلق الجنة، وهيأها بنعيمها حكم ألا يدخلها إلا ذو نفس طاهرة، ولما خلق عالم الشقاء وأعده كذلك حكم بألا يدخله إلا خبيث النفس منتن الروح.ولهذا قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، من هم الأبرار؟ بنو هاشم؟ أتباع عيسى؟ الأبرار: جمع بر أو بار، هم المطيعون الصادقون.والفجا : جمع فاجر، فمن هو هذا الفاجر؟ هو الذي فجر عن الطريق السوي، وأخذ يذهب ذات اليمين وذات الشمال، ما مشى مع الطريق إلى باب الجنة، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13] لبرهم، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:14] لفجورهم، هذا يؤكد معنى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، بل يبينه ويشرحه.وفي آية الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41]، عجب هذه الآية!أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: أن ملك الموت وأعوانه إذا أخذوا الروح الخبيثة يعرجون بها إلى السماء، فيستفتحون السماء فلا تفتح لهم أبواب السماء، ويرجعون من السماء الأولى، وأما الأرواح الطاهرة، النقية، النظيفة بسبب العبادات المزكية للنفس، المطهرة لها، وبسبب الإبعاد عن الذنوب والآثام المخبثة للنفس المدسية لها؛ فوالله! ما ينتهى بها إلا إلى تحت العرش.
حكاية شيخ الإسلام ابن تيمية مع خالته في مرض موتها
ولهذا عندنا لطيفة ذكرها شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى ورضي الله عنه، يقول عن شيخه الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله: كانت لي خالة في دمشق، فمرضت، فزرتها في مرضها. وزيارة المرضى سنة من سنن الإسلام، قال: فعدتها في مرضها، فقالت لي: يا شيخ! أنا مقبلة على الله، كانت شاعرة بقرب أجلها؛ لأن المرض له آثاره، أو لرؤيا رأتها، على كل حال قالت: إني مقبلة على الله، وإذا وقفت أنا بين يديه فماذا أقول؟ علمني. قال: فارتج علي وفزعت، وما عرفت ماذا أقول؟ قال: ثم فتح الله علي، فقلت لها: قولي: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. هذا الذي نقوله نحن مع الله بعد كل فريضة، بعد السلام نستغفر الله؛ لأننا قد أسأنا في المقابلة وما أدينا المناجاة على وجهها، وهذا واقع، فنفزع إلى الاستغفار أولاً، ثم نقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. قال: وقمت عنها وماتت رحمة الله عليها، فرأيتها في المنام فقالت: يا شيخ! جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً؛ إني لما وقفت بين يدي ربي ما عرفت ما أقول، واندهشت، ثم ذكرت الكلمة التي علمتني فقلتها، فجزاك الله خيراً. فبعد كل صلاة فريضة تقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ما نقول: السلام عليك يا رب الأرباب، السلام عليك يا خالق العباد، السلام عليك يا ذا الجلال والإكرام، فهو السلام، فكيف تقول: عليك السلام وهو السلام ومنه السلام؟ تقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. واسم البر التقي يدون في عليين، فحين يسجل في عليين يهبطون بالروح إلى القبر للمحنة والابتلاء، واقرءوا كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18-21]. والفجار والظلمة أين كتبهم؟ أين تسجل أسماؤهم؟ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:18-9]، في أسفل الكائنات.إذاً: احمدوا الله على نعمة الإيمان والإسلام.
تتمة معنى الآية
ونعود إلى معنى الآية الكريمة، وهي قول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].قال: [ معنى الآية الكريمة: لما أخبر تعالى في الآية السابقة أنه يبين للناس أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي؛ بين في هذه الآية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل، وأنه حرام، فلا يحل لمسلم أن يأكل مال أخيه بغير طيب نفس منه، وذكر نوعاً هو شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق، فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أموال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة والتي يحلف فيها المرء كاذباً، وقال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، حرمة ذلك ومنعه ]، فمعنى الآية -والحمد لله- واضح.
هداية الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين:[ هداية الآية ]، إذ كل آية تحمل هداية.[ من هداية الآية:أولاً: حرمة أكل أموال المسلم بغير حق، سواء كان بسرقة أو بغصب أو بغش أو باحتيال ومغالطة.ثانياً: حرمة الرشوة، وهي ما يدفع للحاكم ليحكم بغير الحق ]، الحاكم قد يكون قاضياً، وقد يكون شيخ قرية أو جماعة، يدفع له ليحكم بغير الحق.[ ثالثاً: مال الكافر غير المحارب كمال المسلم في الحرمة ]، أما المحارب فدمه وماله حلال، والمحارب: العبد الذي بيننا وبين قومه حرب دائرة، فماله حلال؛ لأن دمه حلال، لكن إذا كان معاهداً ذمياً فلا يحل، أو كان مستأمناً لا يحل أكل ماله، ولهذا اذكروا قول الله تعالى من سورة الفرقان في صفات عبادة الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الفرقان:68] أي: قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، فما هي النفس التي لا تقتل إلا بالحق؟ هي نفس المحارب، فلا يحل لمؤمن أن يأكل مال كافر، ولا أن يسيل دمه أبداً بوصفه كافراً.قال: [ مال الكافر غير المحارب كمال المسلم في الحرمة، إلا أن مال المسلم أشد حرمة؛ لحديث: ( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ) ]. مال الكافر حرام، لكن مال المؤمن أعظم وأشد؛ لأن إزعاجك لمؤمن، وتخوفيك، وإقلاقك له من أكبر الذنوب، بخلاف الكافر، فلو فزع أو انقبض أو تألم فما هو بشيء.[ ولقوله تعالى ] في هذه الآية: [ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] ]، وحكم الحاكم لا يحل الحرام، لا تفهم أن القاضي إذا قضى لك بمال أنه أصبح حلالاً، فحكم الحاكم لا يجعل الحرام حلالاً، لا يحل ما حرم الله!قال في الهامش: [ حكم الحاكم لا يحل حراماً، سواء كان أموالاً أو فروجاً ]، وإذا قضى القاضي بأن الزوجة زوجتك مثلاً وأنت ليس بزوج لها فهل يصبح النكاح حلالاً؟ كلا.قال: [ لهذا الآية أولاً، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها ]، وهي التي مكثت سنة كاملة وهي تبكي في الأبطح، أخذ ولدها، وذهب عنها زوجها، فعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا إنما أنا بشر )، ما أنا بملك من الملائكة، أنا بشر والبشر يصيب ويخطئ أو لا؟ ( وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن -أفصح- بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها ). يقول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب أصحابه وأمته: (أنا بشر) لست بملك أعرف الغيب وأعلم ما غاب، وقد يكون الخصم ألحن من خصمه وأفصح، يحسن التعبير، فأقضي له بحسب ما سمعت من بيانه، فمن حكمت له بغير حقه فإنما هو قطعة من النار إن شاء أخذها وإن شاء تركها؛ لأن القاضي قد يخدعه الفصيح، يؤثر عليه بإيراد حجج باطلة، لكن يزوقها ويحسنها ويجعلها معقولة ومقبولة، والآخر المظلوم ما يفصح، بل يتلكأ في كلامه، بل قد يقول ما لا يقبل، فيتهمه القاضي بأنه أيضاً كاذب، فيصدر القاضي حكمه، وهو هنا غير آثم، ولا إثم عليه؛ لأنه قضى بحسب ما سمع، والذي يأخذ ذلك الحق وهو يعلم أنه خدع الحاكم فإنما هو قطعة من نار إن شاء أخذها وإن شاء تركها.
وقفة مع أدب الحياء
معاشر المستمعين! بدأنا في الآداب، وذكرنا منها أدباً، ونحن مأمورون بأن نتأدب مع الله، بل مأمورون بأن نتأدب مع بعضنا، مع أقاربنا، مع أباعدنا، فكيف -إذاً- لا نتأدب مع ربنا؟ وقد قلنا: أول أدب: الشكر على النعم، كيف تأكل وتشرب وتكتسي في بيت ولا تحمد صاحب البيت ولا تشكره؟ أهذا أدب؟ يركبك دابته، يسقيك ماءه، يكسوك ثوبه، ولا تقول له: جزاك الله خيراً؟! أين الأدب؟!فنحن نتقلب في نعم الله، فإذا لم نشكره على كل صغيرة وكبيرة أسأنا الأدب، ما نحن بأدباء أبداً، ومن هنا قلنا: كلما أكلنا لقمة، كلما حصلت نعمة نفزع إلى قول: الحمد لله، والشكر لله، لنكون قد تأدبنا مع الله الذي ينعم علينا ويجدد النعم في كل لحظة.والأدب التالي: هو الحياء من الإيمان، الحياء كله خير، وفي هذا خبر الرجلين اللذين مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم في أزقة المدينة، أحدهما يلوم أخاه ويعتب عليه، يقول له: اترك هذا الحياء، افعل كذا، أضعت نفسك، أضعت مالك بهذا الحياء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، ( دعه؛ إنما الحياء من الإيمان )، هو ينصح أخاه بأن الحياء أضاع مالك، أضاع حقوقك.. كما يفعل الناس، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم توجيه هذا قال: ( دعه -اتركه- فإن الحياء من الإيمان ).والحياء: خلق، من عمل على اكتسابه اكتسبه، وأصبح لا يستطيع أن ينطق ببذاءة أو سوء، إذاً: الحياء عندما يميل أحدنا إلى المعصية يجب أن يستحي من الله.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (123)
الحلقة (130)
تفسير سورة البقرة (88)
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ما بالها تكون صغيرة، ثم تكبر حتى تتكامل، ثم تعود لتصغر حتى تكون كما بدأت، فجاءه الوحي صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم أن هذه الأهلة هي مواقيت، وعلة بدئها صغيرة، ثم تكبر حتى تتكامل، ثم تعود تصغر حتى المحاق، هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم وعباداتهم، فتفرق الشهور ويعرف الصيام ويعرف الحج، وتعرف العقود وآجالها وغير ذلك من المصالح.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل.وأعيد تلك البشرى التي زفت إليكم من طريق الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: (من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله).وأخرى ما ننساها: أن المؤمن إذا صلى الفريضة وجلس ينتظر أختها التي تأتي بعدها كانت الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث، حتى يصلي الصلاة الثانية، ولو أردنا هذا الخير بالمال فلن يقادر قدره، ولن نجد مالاً يبلغه، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.وثالثة البشريات: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وقد سبق لنا دراسة قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، هذه الآية دلت دلالة قطعية على حرمة أكل أموال الناس بغير طيب نفوسهم، وسواء كانوا مؤمنين أو كافرين، نص قطعي الدلالة على تحريم أكل أموال الناس بغير طيب نفوسهم.ثانياً: دلت على تحريم الرشوة، وأنها من أقبح ما يكون، وأن المؤمن لا يقدم على مثلها.والرشوة: أن تعطي الحاكم أو القاضي مالاً ليقضي لك بحق أخيك فتأخذه، فتهلك وتهلك القاضي معك، إذ قال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ...)
وها نحن الليلة مع هذه الآية المباركة من سورة البقرة، إذ انتهى الدرس إليها:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189].قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]، هذا الخطاب ممن؟ من الله عز وجل، وإلى من؟ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقال: سأله كذا، أي: طلب منه كذا، سأله مالاً، سأله قرطاساً، سأله دابة، أي: طلبه، وإذا كان المطلوب خبراً وعلماً يقال: سأله عن كذا ليعرف، فسأل للطلب يتعدى بنفسه، سألته كذا، أي: طلبت منه، وسألته عن كذا: طلبت بيانه وما أريد منه. يَسْأَلُونَكَ [البقرة:189]، عم؟ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]، ولم يسألون هذا السؤال؟ سألوا وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لم الأهلة تبدو صغيرة ثم تتكامل وتصبح قمراً، ثم تأخذ في الاضمحلال حتى تغيب، ما سر هذا؟ وعلى كل حال فصاحب الفراغ يسأل هذا السؤال، وإلا فما هناك حاجة إلى هذا، وقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره تعالى بقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189].
المراد بالأهلة
الأهلة: جمع هلال، وهو الأيام الأولى من الشهر، ثلاثة أيام، إذا رآه الناس رفعوا أصواتهم: الهلال.. أهل الهلال، ظهر، وبعد الثلاثة أيام يصبح قمراً إلى أن يضمحل، والعامة يقولون: مات الشهر، ويولد يوم كذا! وهذا مأخوذ عن اليهود وجهالهم، وإلا فالقمر ما يموت ثم يخلق في اليوم الثاني، وإنما يستتر ويظهر في اليوم الذي بعده. والشهر تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون، قرر هذه القاعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن يستطيع ابن امرأة تحت السماء أن ينقضها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا ) وعقد أصابعه، يعني: تسعة وعشرين يوماً وثلاثين يوماً.
معنى قوله تعالى: (قل هي مواقيت للناس والحج)
يقول تعالى: قُلْ [البقرة:189]، أجبهم يا رسولنا عن سؤالهم هذا، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، هذا الجواب، بمعنى أن الشهر حين يبتدئ بالهلال ثلاثة أيام ثم يتكامل ويصبح قمراً ثم يضمحل وينتهي ويستأنف رجوعه من جديد، العلة في هذا أو السر أو الحكمة أن ذلك مواقيت للناس وللحج.ومواقيت: جمع ميقات، والميقات أخص من الوقت، الوقت عام، والميقات محدد، مواقيت للناس؛ لأنهم يتعاملون بالسلم، بالاستقراض، بالديون، فلولا الشهر فكيف سيعرفون الآجال؟ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، يعده مدة شهرين ويأتيه بما وعده، يعده لشهر رجب أو رمضان، لولا هذه الأهلة بهذه الطريقة فكيف سيعرف الناس الآجال؟ ستتعطل حياتهم، وفوق ذلك الحج، وهو يوم واحد في السنة، وهو تاسع ذي الحجة، فلولا الأهلة تبدو صغيرة وتتكامل وتكبر ثم ترجع وتعود، فكيف سنعرف الحج الذي قرره الله وافترضه على عباده. قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] بصورة خاصة؛ لأنه تاسع شهر ذي الحجة، فكان الجواب مقنعاً مسكتاً، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189] يا رسولنا، قُلْ [البقرة:189] لهم: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189] عامة، أبيضهم وأصفرهم، والحج بصورة خاصة، فمواعيد الناس وعقودهم لا بد لها من ضوابط وليس إلا الشهور، لو جعلنا الشهر الشمسي فكيف سنعرف أن الشهر دخل أو لم يدخل؟ إلا من يحسب أو في جيبه مفكرة، لكن البشرية ليست كلها هكذا، يعرفون الشهر بالهلال، يعرفون العام بعدة الشهور، يعرفون نصف السنة كذلك.
معنى قوله تعالى: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى)
قال تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، هذا يقرر أن العرب في الجاهلية -وخاصة أهل المدينة من الأوس والخزرج- كان أحدهم إذا أحرم بالحج أو العمرة وتجرد وخرج من بيته يريد مكة، فإذا عنَّ له أن يعود إلى بيته لأمر ما فماذا يصنع؟ لا يجيز لنفسه أن يدخل تحت نجف الباب يظلله، فيحتاج إلى أن يصعد على الجدار من فوق السقف ويهبط؛ حتى لا يدخل تحت نجف الباب. ولا تضحك؛ فالروافض إلى الآن ما زالوا إذا أحرم أحدهم لا يريد أن يظلله شيء، حتى سقف السيارة!إذاً: فأبطل الله هذه البدعة، إذ الله ما تعبدنا بها، والله لا يعبد إلا بما شرع، فكوننا نخترع، نبتكر، نوجد ما نسميه طاعة لله، ونطيع الله به وهو ما شرعه، فهذا لا يحل أبداً وهو بدعة وضلال. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [البقرة:189]، من فوق السقف وتهبطون؛ خشية أن تنزلوا تحت نجف الباب.
صور من إنكار الشارع التقرب بغير المشروع
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، البر بر عبد اتقى الله عز وجل، بفعل أوامره وترك نواهيه، هذا هو العبد البار، وهذا هو البر والخير، أما بدعة تبتدعها يا عبد الله وتتقرب بها فما تقبل.ونذكر حادثة أبي إسرائيل أحد الصحابة رضوان الله عليهم، ولعله كان من اليهود وأسلم، نذر أن يقوم ولا يقعد، وأن يقوم في الشمس ولا يستظل، وأن يسكت ولا يتكلم، وأن يصوم ولا يفطر، وهو في الحصباء، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجل فرأى أنه واقف في الشمس ولم يقعد وطالت مدته وهو ساكت لا يتكلم، فسألهم عن حاله، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم لله ولا يقعد، وأن يسكت ولا يتكلم، وأن يصوم ولا يفطر، وأن يقف في الشمس ولا يستظل بأي شيء يظله، فأمرهم أن يأتوا به، وقال لهم: ( مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه )، اسقط ثلاثاً وأبقى الرابعة؛ لأن الله ما تعبدنا بالوقوف في الشمس، ولا بالقيام دون القعود، ولا بدون استظلال، وإنما أمرنا بالصيام، فمن أراد أن يصوم تملقاً لله وتزلفاً فليفعل، أما أن يتملق الله ويطلب حبه ورضاه ببدعة يبتدعها فوالله! ما تنفع؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )، ضلالة تضل صاحبها عن طريق الهدى ليشقى ويردى، فإياكم، احذروا! وهذا القضية واضحة.وفي خبر الثلاثة الذين دخلوا على عائشة رضي الله عنها وسألوا عن صيام الرسول صلى الله عليه وسلم وقيامه، فيه أنها أخبرتهم، فتعاهدوا فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، والآخر قال: أنا لا أتزوج النساء، والثالث قال: أنا أصلي الليل كله ولا أنام، فإذا كان الرسول يصوم ويقوم فأين نحن منه؟ وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف يخطب الناس وقال: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ إني -وأنا رسول الله- أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، هذه سني ومن رغب عن سنتي فليس مني، فتابوا وتراجعوا، وعلى رأسهم ابن مظعون رضي الله تعالى عنه أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.والشاهد عندنا: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [البقرة:189]؛ لأن هذه بدعة ابتدعها الناس، فالله أمر بتعرية الرأس وكشفه والتجرد من المخيط، بهذا تعبدنا الله على لسان رسوله، فكل من أراد مكة للعمرة والحج لا بد أن يتجرد من المخيط وأن يعري رأسه ويكشفه لله في الحر والبرد على حد سواء، أما أن نبتكر أو نخترع أو نحاول أن نتقرب إلى الله بما لم يشرع فهذا لا يقربنا من الله، بل يبعدنا.
انتفاء تحصيل الطهارة بغير العبادات المشروعة
وهذه الحقيقة تقررت عندنا مئات المرات، وهي: أن هذه العبادات ما سرها؟ هل لأن الله في حاجة إليها؟ لا والله، إذا: عوائدها تعود على من؟ على العباد، فهذه العبادات شأنها شأن الغذاء والماء والهواء للبدن، حياتك متوقفة على الغذاء والماء والهواء، بدونها تموت يا عبد الله، فصحتك متوقفة على هذه.إذاً: وطهارة روحك لتصبح كأرواح أهل السماء في الطهر والصفاء؛ ليتم التجانس وتنتقل إلى أهل السماء وتعيش معهم، فهذه الروح بم تطيب وتطهر؟ ما هي الأدوات؟ الجواب: هي هذه العبادات التي شرعها الله عز وجل، لا غيرها، فمن لم يعبد الله تعالى بها فوالله! ما زكت نفسه، ولا طابت، ولا طهرت، ولا ينفع فيها ماء ولا صابون، ولا حيلة أبداً.إذاً: هذه الأدوات التي تزكي النفس إن لم يكن الله قد شرعها فهل تفعل شيئاً؟ كلا. ولو اجتمع العلماء ليخترعوا بدعة عظيمة.وعلى سبيل المثال: هل هناك أفضل من الحجرة النبوية وما فيها بعد الكعبة؟ كلا. فلو قال قائل: هيا بنا نطوف بحجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ونحن نهلل ونكبر ونصلي على الرسول وآله وصبحه سبع مرات لنشفي صدورنا، لنطهر نفوسنا، وأخذوا يفعلون، فهل هذا الطواف يحدث زكاة لنفوسهم؟ والله! ما كان، ولن يحدث إلا ظلمة وعفناً ونتناً، وعلى هذا المبدأ لا يرضى مؤمن ببدعة مهما كانت؛ لأنها لا تنتج الطاقة المطلوبة وهو النور المعبر عنه بالحسنات.
رد التقرب بغير المشروع
وعندنا قاعدة حفظها المؤمنون والمؤمنات، كلمة فاصلة هي قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يسمعها ولا يحفظها وما يبالي بها ميت، ولأن يخرج من المسجد خير له. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، من عمل عملاً ما أمرنا به فهو مردود على صاحبه، لن يعود بأجر ولا مثوبة ولا حسنة أبداً؛ لأننا ما كلفناه، هو الذي اخترع وابتدع وفعل، وهكذا سائر البدع التي استحسنتها العقول الفارغة أو الضالة أو اللاهية البعيدة عن سر هذه الشريعة الإلهية فجعلت البدعة لوجه الله. فهؤلاء قالوا: أحرمنا، فكيف أدخل تحت الباب ويكون فوق رأسي السقف! وهذا تقرب إلى الله، فعلوه تقرباً، إي والله العظيم، ما هو لأجل الرياء ولا السمعة، يريدون رضا الله، لكن لما لم يشرع الله هذا عاتبهم وأبطل به عملهم.
كيفية تقوى الله عز وجل
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، أي: صاحب البر المتقي.ونعود فنقول: الله جل جلاله بم يتقى عذابه وسخطه، هل بجحافل الجيوش؟ هل بالأموال؟ بالرجال؟ بالعصبيات؟ بما يتقى غضب الله وعذابه؟يتقى فقط بطاعته وطاعة رسوله، لا تعصه فقط، قال: صم فصم، قال: أفطر فأفطر، قال: نم فنم، قال: استيقظ فاستيقظ، هذا الذي يتقى به الله عز وجل، فالبر كله في تقوى الله عز وجل، وصاحب البر هو التقي، أما الفاجر الخارج عن طاعة الله ورسوله فما هو بالمتقي أبداً ولا يستطيع أن يتقي عذاب الله، ولا غضبه ولا سخطه بأي وسيلة من الوسائل إلا بالإسلام له، بأن يسلم قلبه ووجهه لله. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ [البقرة:189] يا رسولنا هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، يوقتون بها ديونهم وأعمالهم، وميقات للحج بصورة خاصة، إذ الحج عرفة: ( الحج عرفة )، ويوم عرفة هو تاسع ذي الحجة، فلولا هذه الأهلة فكيف سنعرف الحج؟ كيف نعرف الشهر، ونعرف التاسع منه؟ ما نستطيع، مع أن الحج مفروض قبل الإسلام، من يوم أن بنى إبراهيم البيت أمر أن يؤذن في الناس أبيضهم وأصفرهم بالحج.وقوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:189] بر مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، الذي يتقي الله، يخافه، فلا يفجر، ولا يفسق، ولا يخرج عن طاعته، ذاك الذي حصل له النجاة، ذاك الذي اتقى عذاب الله.
معنى قوله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها)
ثم قال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، هذا كالمثل، من طلب شيئاً ينبغي أن يطلبه من الطريق الذي يحصل منه عادة، وَأْتُوا الْبُيُوتَ [البقرة:189]، من أين؟ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، كل من أراد أن يطلب شيئاً جرت سنة الله الحصول عليه يطلبه من ذاك الطريق لا من طريق آخر.رجل أراد أن يصبح غنياً ثرياً، فكيف يطلب الآن الغنى والثروة؟ يجب أن يكدح، وأن يعمل الليل والنهار، وأن يربط على نفسه، من أجل أن يحصل، إذ من هنا تأتي الثروة أو لا؟ وإن قال: أنا آتي بالثروة وأحصل عليها من طريق الإجرام والتلصص والسرقة والاحتيال فهل هذا هو الطريق؟ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، لا تأتوها من ظهورها.أراد أن يشبع، فهل يدخل الطعام من أذنيه أو منخريه؟ لا بد أن يدخله من فمه، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189].
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفلحون)
إذاً: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]، نقول: هذه (لعل) الإعدادية: لتعدكم التقوى للفلاح، ولو قلنا: (لعل) للترجي فسيبقى العاملون المتقون خائفين دائماً وأبداً، فالتقوى تعدهم للفلاح، هذه سنة الله، فمن أكل شبع، من شرب ارتوى، من اتقى الله عز وجل أفلح. والفلاح يكون دنيوياً وأخروياً، فمن اتقى الله ففعل الأوامر واجتنب النواهي فوالله! ليسعدن في دنياه، فلا وسواس، ولا هواجس، ولا آلام ولا خوف ولا اضطراب أبداً ما دام على منهج الله سائراً، والفلاح الأخري هو المقصود بالذات، فما هو الفلاح في الآخرة؟ أن يبعد عن النار ويدخل الجنة، لآية آل عمران: زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، آمنا بالله، اجتاز المفازة المهلكة ودخل دار النعيم. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]، واتقوا الله -يا عباد الله، أيها المؤمنون- رجاء أن تفلحوا، فمن اتقى الله أفلح؛ لأن المتقي لله ذاك الذي أسلم لله قلبه ووجهه، قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وجهه لا يلتفت أبداً إلى غير الله، دائماً مع الله، فهذا العبد أفلح.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
نقرأ هذه الآية من الكتاب؛ لنقف على بعض ما فيها من بيان وهدى.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ شرح الكلمات: الأهلة: جمع هلال، وهو القمر في بداية ظهوره في الثلاثة الأيام الأولى ]، يقال فيه: هلال؛ [ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم: الهلال .. الهلال.المواقيت: جمع ميقات، الوقت المحدد المعلوم للناس ]، الوقت المحدد المعلوم للناس، فإن كان مطلقاً غير محدد ولا معلوم فهو الوقت، والدنيا كلها وقت واحد من بدايتها إلى نهايتها، لكن الميقات وقت محدد بالشهر أو بالشهور أو بالأعوام.[ إتيان البيوت من ظهورها: أن يتسور الجدار ويدخل البيت تحاشياً أن يدخل من الباب ]، هذه بدعة باطلة لا يثابون عليها.[ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]: البر الموصل إلى رضوان الله تعالى بر عبد اتقى الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه ]، فليس البر دخول البيوت من ظهورها، هذه بدعة لا تصح ولا تقبل.[ الفلاح: الفوز، وهو النجاة من النار ودخول الجنة ]، كما قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:90-91]، الجنة تبرز للمتقين كما يبرز القمر، فالجنة أزلفت وأدنيت وقربت للمتقين، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:91].أتذكرون كيفية بروز النار؟ أما تذكرون قول الله تعالى من سورة الفجر: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23]، جيء بها من أين؟ تجر بسبعين ألف زمام، كل زمام ممسك به سبعون ألف ملك، تجر حتى تبرز ويشاهدها أهل الموقف.إذاً: إياك أن تفهم أن الزمام هذا حبل غليظ صنعته اليابان، نحن علمنا أن أهل النار، أهل الكفر والفجور والظلم والشر كل واحد منهم تدخل فيه سلسلة من فيه وتخرج من دبره طولها سبعون ذراعاً، ما هو بذراع السلطان اليوم، فإذا كان عرض هذا الكافر مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، وضرسه كجبل أحد؛ إذاً: فهذه السلسلة بأي ذراع؟ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32]، لم؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:33-34].إذاً: برزت الجحيم للغاوين، أزلفت الجنة للمتقين، هذا الموقف والبشرية هائجة مائجة، تنتظر حكم الله فيها، فمن نجاه الله من النار وأدخله الجنة دار الأبرار قيل عنه: فاز فلان ابن فلان، هذا هو الفوز العظيم: النجاة من النار أولاً، ودخول الجنة ثانياً.أما من دخلوا النار ولو خرجوا منها بعد أحقاب من السنين فما فازوا، فإنهم يخرجون منها وقد امتحشوا، أصبحوا كالفحم، ويغسلون في نهر عند باب الجنة يقال له: نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في السيل.وقد يقال: يا شيخ! عرفنا الفلاح أنه النجاة من النار ودخول الجنة، فنريد أن نعرف بم يكون هذا الفلاح؟ ما هي الأدوات؟ ما هي الآلات؟ كيف نحصل عليه؟ الجواب: طاعة الله ورسوله والتقوى هي السبب المورث، يا من يريدون الجنة! إن للجنة سبباً فحققوه وإلا فلا حظ لكم في هذا الأمل أو الطمع، السبب هو التقوى؛ لأنها تزكي نفسك وتطهرها حتى تصبح كأنفس وأرواح أهل السماء في الملكوت الأعلى. وأصحاب الأرواح الخبيثة، العفنة، المنتنة من أوضار الذنوب والآثام؛ أرواحهم كأرواح الشياطين، والله! ما تدخل الجنة وهي كذلك، بل تنزل إلى عالم الخبث والدرن.وهل من شاهد في القرآن على هذه القضية؟ يا أهل القرآن! الأرواح الطاهرة تفتح لها أبواب السماء إلى أن تصل إلى دار السلام، والأرواح الخبيثة المنتنة تخبث بالمعاصي، فالكذبة يكذبها العبد تحول نفسه إلى هذا العفن أو النتن، فإذا لم يبادر إلى غسلها وتنظيفها خسرت. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، والذي كذب بآيات القرآن هل صام وصلى؟ هل تجنب الربا والزنا؟ ما آمن، كذب بالآيات. وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40]، والمستكبر عنها وإن آمن هل يعمل بها؟ الآن المسلمون استكبروا عن شرع الله وما طبقوه، فهل انتفعوا بالشريعة؟ هل طهرت البلاد؟ هل حصل أمن وإخاء ومودة؟ الجواب: لا؛ لأنهم ما طبقوا.وضربنا مثلاً لنفرق بين المستكبر والمكذب، فقلنا: مريضان في مستشفى، هذا على سرير وهذا على سرير، ففحصوا فقالوا لهما: عليكما أن تستعملا هذه الأدوية بهذا النظام بالساعة كالصلوات الخمس، فالأول قال: أنا لا أومن بهذه الخرافة، أي دواء هذا؟ ما آمن بالدواء ورفضه، فهلك ومات.والثاني: وصفوا له الأدوية وأوقاتها فقال: جزاكم الله خيراً، لكن نفسي ما تقبله، ما عندي قابلية لهذه الأدوية، أنا أعرف أنها نافعة لكن ما هناك انشراح للصدر عندي، فما استعملها فهلك كالأول، فأي فرق بينهما؟ فاليهود والنصارى ما آمنوا بالشريعة الإسلامية، فهلكوا، والمسلمون من يوم أن أعرضوا عنها وتركوها مثلهم، أولئك كفروا وهؤلاء في صورة المستكبرين، يقولون: كيف نطبق قانون الرجعية؟! والواقع يشهد أنه ما في العالم إلا هذا البلد، فكل دولة استقلت تطبق قوانين وشرائع من استعمرها، كأنهم مسحورون، فما تحقق أمن ولا طهر ولا صفاء؛ لأنها سنة الله، فالطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، سنن لا تتبدل، من لم يطبق شرع الله الذي أنزله لتحقيق الطهر والأمن والصفاء والكمال فوالله! لن يحصل له شيء. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40]، ما لهم؟ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، هل الجمل الأورق يدخل في عين الإبرة؟ والإبرة: حديدة رقيقة فيها ثقب تدخل فيها المرأة الخيط وتستخرجه وتخيط الثياب المقطعة، فهل يمكن أن ندخل بعيراً في عين إبرة؟ مستحيل، كذلك مستحيل أن يدخل من كذب بآيات الله واستكبر عنها فخبث بشركه وكفره وفسقه، مستحيل أن يدخل دار السلام، فمن يفتح له أبواب السماء حتى يلج ويدخل؟وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، لقد قضى الله، لقد حكم الجبار، ولا مراجع لقضائه ولا معقب لحكمه، فقد قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، هنا تقرير المصير، لا في الأمم المتحدة، يا ابن آدم! يتقرر مصيرك في الدار الآخرة، فإن أنت آمنت واستقمت وجاهدت نفسك والهوى وفعلت ما أمر به وتركت ما نهي عنه فأنت قررت مصيرك إلى الجنة، وإن أعرضت واستكبرت وتجاهلت وجريت وراء الشهوة والهوى والدنيا ولعبت معرضاً عن الله وذكره فأنت قررت مصيرك في العالم الثاني الأسفل.
معنى الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآية الكريمة ]، وهي قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]قال: [ روي أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: ما بال الهلال يبدو دقيقاً، ثم يزيد ثم يعظم ويصبح بدراً ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] ].قال: [ وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: هي مواقيت للناس، وعلة بدئها صغيرة، ثم تتكامل، ثم تنقص حتى المحاق: هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم، فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء ]، فالمرأة المعتدة بالموفاة عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، فلولا الهلال فكيف سنعرف الأشهر؟ قال: [ وتعرف الشهور، فنعرف رمضان ونعرف شهر الحج ووقته، كما نعرف آجال العقود في البيع والإيجار، وسداد الديون وما إلى ذلك ]، فلا بد من هذا القمر بهذه الطريقة.[ وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله نجف الباب، فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه، وكانوا يرون هذا طاعة وبراً، فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ [البقرة:189] بر أهل التقوى والصلاح، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189] ].
هداية الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[هداية الآية الكريمة:من هداية الآية: أولاً: أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال عما لا ينفعه ]، وفي الحديث الصحيح: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فحين تقوم الآن وتسأل سؤالاً ما يتحقق به أي خير لك ولا للسامعين، فهل يجوز هذا السؤال؟ هو إضاعة للوقت، ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، كل ما لا علاقة له بطهره وصفائه أو بكماله لا يلتفت إليه.[ ثانياً: فائدة الشهور القمرية عظيمة؛ إذ بها تعرف كثير من العبادات.ثالثاً: حرمة الابتداع في الدين، ولو كان برغبة في طاعة الله تعالى وحصول الأجر ]؛ لأن المبتدع في الغالب يريد رضا الله والحصول على الأجر، لا يبتدع فقط للفتنة، قد يوجد في الضلال من يبتدعون لفتنة الناس، لكن أغلب الناس يبتدعون رغبة فيما عند الله وحباً فيه.[ رابعاً: الأمر بالتقوى المفضية بالعبد إلى فلاح العبد ونجاته في الدارين ]. معاشر المستمعين والمستمعات! هيا نتأدب مع الله، وقد عرفنا أول أدب: أننا نشكره على آلائه وإنعامه، وإلا فقد أسأنا الأدب مع الله، فهو يطعمنا ويسقينا، يركبنا ويكسونا ويداوينا، خلق الكون كله لنا حتى الجنة والنار، ثم لا نقول: الحمد لله والشكر لله، أي أدب هذا؟ ويا ويل من يسب الله ويشتمه، ويكذبه ويكفر به وهو يأكل ويشرب من رزقه!ثانياً: الحياء عند الميل إلى المعصية، عندما تميل يا عبد الله إلى الكلمة السيئة أو الفعل المحرم فاستح من الله؛ لأنه يراك، ويعلم حالك، وما تقدم على فعله، فأنت بين يديه، فكيف لا تستحي؟ هل يستطيع واحد الآن وهو عاقل أن يكشف عن سوأته ويبول؟ هل يكشف عن فرجه فقط؟إذاً: فيا عبد الله! عندما تميل نفسك إلى معصية اذكر أن الله يراك، فاستح منه، واقطع عملك وقف؛ لأنك بين يديه، كيف يراك وأنت تسرق؟! كيف وأنت بين يديه ترتكب إثماً وهو يراك؟ فمن رزق الحياء من الله فما يستطيع أبداً أن يعصي الله، فقط نحتاج إلى الذكر ونبعد الغفلة، عندما يهم أحدنا بمعصية الله فليذكر الله أنه معه ويراه، فيقف، ولا يقدم عليها.إذاً: الحياء عند الميل إلى معصية الله، عندما تميل النفس وتريد أن تفعل اذكر أن الله تعالى يراك وأنك بين يديه فتستحي منه كما تستحي من الناس، وكنا نعرف كثيراً من الشبيبة يدخنون، لكن ما يستطيع أن يدخن أمام والده، أبداً، بل رأيناهم إذا مروا برجل صالح من أهل العلم أو الصلاح أو كبار السن يطفئون السيجارة حياء، فمثل هذا لو علم أن الله يكره التدخين لأنه يؤذي ملائكته لما دخن، ولكن الجهل هو المصيبة.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (124)
الحلقة (131)
تفسير سورة البقرة (89)
هذه الآيات من أوائل ما نزل من القرآن في شأن قتال الكافرين، وهي متضمنة الإذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم، والكف عمن يكف عنهم، مبيناً سبحانه أن فتنة قتال أهل الشرك والكفر أهون عند الله من فتنة الكافرين للمؤمنين، وحملهم على الكفر باضطهادهم وتعذيبهم وصدهم عن دين الله، وأن إخراج الكافرين وقتالهم إنما هو جزاء كفرهم واعتدائهم وظلمهم.
تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل أملاً في أن يحقق الله تعالى لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا ذلك يا ربنا.وها نحن مع هذه الآيات الأربع من سورة البقرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:190-193].
مراحل تشريع الجهاد
بين يدي تفسير هذه الآية أعلمكم: أن الله لم يأذن لرسوله والمؤمنين بقتال الكافرين والمشركين فترة من الزمن، كما هو شأنه صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة أذن الله تعالى لهم في القتال، وأول آية في هذه الشأن قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، ثم خص هذا العام بهذه الآية الكريمة: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190]، من؟ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:190]، فمن قاتلكم قاتلوه، من كف عن قتالكم كفوا عن قتاله، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].إذاً: أذن لهم في قتال من يقاتلونهم، ولم يأذن لهم في قتال من لم يقاتلهم، ثم بعدما انتصر الإسلام وانتشرت الدعوة نزلت آيات من سورة التوبة، فأعطى الله المشركين في الجزيرة فرصة للتفكر والتأمل: إما أن يدخلوا في الإسلام، أو أن يخرجوا من هذه الديار، وإلا فسوف يقاتلون، قال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، أعطاهم أربعة أشهر، حيث قال تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1-3]، إذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم علياً في السنة التاسعة يعلن هذا الإعلان: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن مشرك بعد هذا العام.إذاً: فهم ممهلون أربعة أشهر، هؤلاء أصحاب العهود، فمن كانت مدته أقل من أربعة أشهر فمدته تلك، ومن كانت أكثر من أربعة أشهر فأربعة فقط: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، والمراد من هذا: تطهير هذه الديار، ديار التوحيد، ديار الجزيرة. ثم نزلت آية أخرى في آخر سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، إعلان في قتال المشركين والكافرين، ومعنى (يَلُونَكُمْ) أي: يحاددونكم.إذاً: فدائرة القتال تكون ضيقة أولاً، ثم نقاتل من حولنا فتتسع وتتسع حتى تنتظم الكرة الأرضية، فالجهاد واجب كفائي، ولا ينتهي حتى لا يبقى في الأرض من يعبد غير الله.
خطوات ومراحل قتال الكفار
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: شرك، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، ولفظ (قاتِل) غير (اقتل)؛ فلهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نقاتل المشركين الذين يلوننا، مهما اتسعت ديارنا، وهو أن نعسكر بجيوشنا على مقربة من بلادهم، ثم نبعث رسولنا أو سفيرنا إليهم، فهم مخيرون بين اثنين، فإن رفضوهما تعين القتال:الأول: أن يدخلوا في رحمة الله، في الإسلام، نقول لهم: جئناكم بدين ربكم، من أجل إكمالكم وإسعادكم، والقضاء على الشر والفساد والخبث بينكم، فإن قبلوا دعوة الله وادخلوا في رحمته فكلنا إخوان في الله عز وجل، وإن رفضوا، وأصروا على معتقداتهم ودينهم قلنا: إذاً: اسمحوا لنا أن ندخل دياركم، ونتولى أمر قيادتكم وأنتم آمنون في بلادكم على دينكم؛ لأن دخولنا ومشاهدة إخوانكم لنا يحملهم على أن يدخلوا في الإسلام، كانوا خائفين من الإسلام والمسلمين، إذا دخل المسلمون ديارهم، وشاهدوا أنوار الصدق والطهر والعدل والرحمة والكمال انجذبوا ودخلوا في رحمة الله، ونحن نتولى حمايتكم والدفاع عنكم، مقابل إعلان أنكم قابلون لحمايتنا، ويدفعون الجزية، يدفعها الذكور منهم دون الإناث، والقادرون دون العجزة، كذا درهماً في السنة يسمى بالجزية، فإن قبلوا هذه دخل المسلمون وتولوا القضاء، ونشر الدعوة والتعليم والإصلاح؛ وفي سنة أو أقل إذا البلاد كلها أنوار. فإن رفضوا فلم يبق إذاً إلا القتال، فإن رفضوا الأولى والثانية تعين قتالهم، لا قتلهم، فندخل في حرب مع جيوشهم، وسوف ينكسرون، وتدخل خيل الله لتنشر الهدى والطهر والصفاء، وهذا الذي تم في البلاد الإسلامية، طهرت الجزيرة، يليها الشام، يليها اليمن، يليها العراق، وأخذ الإسلام ينتشر.هذه لا بد من معرفتها:أولاً: ما أذن للمؤمنين بالقتال؛ لضعفهم وعدم قدرتهم، كانوا يؤمرون بكف أيديهم، ولم يسمح لهم بقتال، فما اغتال مؤمن كافراً في مكة ثلاث عشرة سنة أبداً، ولم يسمح لهم بالقتال ولا في المدينة، حتى نزلت آية: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39] لأنهم يقاتلونهم بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]. ثم تتابعت الآيات، فأذن لهم بقتال من يقاتلهم والكف عمن يكف عنهم، وبعد فترة من الزمن انتشر الإسلام وانتصرت دولته، فأمروا أولاً بتطهير الجزيرة، حتى لا يبقى فيها دينان أبداً، لا يجتمع دينان في الجزيرة، وبعد طهر الجزيرة نزل قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ [التوبة:123]كلما اتسعت الحدود قاتلنا من يلينا حتى لا يبقى على الأرض من لا يعبد الله، هذا هو المفروض الواجب، فإن عجز المسلمون فعجزهم مؤقت، ويوم يزول ويقوون ويقدرون يقاتلون ويدخلون الناس في رحمة الله.
المقصد الشرعي من الجهاد
فالآن قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] هذا قيد، وسبيل الله هي أن يعبد وحده وتعلو كلمته، هذا سبيل الله، وقاتلوا في سبيل الله لا في سبيل قبلية ولا مال ولا سمعة ولا انتصارات، وإنما الدافع الأول والأخير هو أن نقاتل من أجل أن يعبد الله وحده، لا هدف سوى هذا، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:190] والذين لا يقاتلونكم لا تقاتلوهم، وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190] بقتالهم؛ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
تفسير قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ...)
قال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191] الذين قاتلوكم وحاربوكم اقتلوهم حيث تمكنتم منهم، وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [البقرة:191] من دياركم، أما أخرجوهم من مكة؟ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191] يعني: ذنب الشرك ومصيبته أعظم من القتل، وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191] والمراد به مكة والحرم، لا المسجد فقط، وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191]، أي: في حرم مكة حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191]، ولهذا لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم ورجاله فاتحين سنة ثمان أعلن أن مكة حرمها الله منذ أن خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، ولم تحل إلا ساعة أحلها الله له ثم عادت حرمتها إلى الأبد. وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ [البقرة:191] إذاً فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ [البقرة:191]، أي: قتالكم لهم وإخراجكم لهم كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة:191]، هم قاتلوكم وأخرجوكم.
تفسير قوله تعالى: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)
قال تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] فدخلوا في الإسلام وعبدوا الله وحده فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [البقرة:192] لهم رَحِيمٌ [البقرة:192] بهم، لا يحاسبهم ولا يجزيهم على شرهم وكفرهم وقتالهم لكم قبل إسلامهم، وعد الله الصادق، فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] عن الشرك والظلم وقتال المؤمنين فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192] سيغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم.
تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ...)
وقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193] هذا في الجزيرة، فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193] إذا كفوا عن قتالكم فكفوا عنهم؛ فإنه لا عدوان إلا على من ظلم.وأطلق العدوان هنا من باب المشاكلة فقط، وإلا فقتالنا لمن قاتلنا لا يسمى عدواناً ولا ظلماً، مثل قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، ما هي بسيئة لكن من باب المشاكلة في اللفظ.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
إليكم شرح هذه الآيات: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: سبيل الله: الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإسلام، والمراد إعلاء كلمة الله ].هذا سبيل الله: الإسلام؛ لأنه يصل بالسالك إلى الجنة، والإسلام معناه: أن من أسلم قلبه لله عبد الله وحده، إذاً: فسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضوانه تعالى وهو الإسلام، فلن يظفر إنسان برضا الله ما لم يسلم له قلبه ووجهه. الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:190]: المشركون الذين يبدءونكم بالقتال. وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190]: لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال أو من اعتزل القتال من الرجال ].نقاتل ولكن في عدل لا في ظلم واعتداء، فلهذا لا يحل قتل النساء ولا الأطفال ولا من اعتزل القتال ولم يرض به، فالنساء إن قاتلن ودخلن المعارك يقتلن، كذلك أهل الصوامع والرهبان والعُبّاد من اليهود والنصارى إن بقوا في صوامعهم وعبادتهم فلا يحل قتالهم، فإن دخلوا المعارك وحملوا السلاح فإنهم يقتلون، والأطفال أمرهم واضح أنهم لا يقتلون.[ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191]: تمكنتم من قتالهم. وَالْفِتْنَةُ [البقرة:191]: الشرك. الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191]: المراد به مكة والحرم من حولها. وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193]: بأن لم يبق من يعبد غير الله تعالى. فَلا عُدْوَانَ [البقرة:193]: أي: لا اعتداء بالقتل والمحاربة إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، أما من أسلم فلا يقاتل ] ولا يقتل.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات: هذه الآيات الثلاث: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] ] إلى قوله: جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة:191] هذه الآيات الثلاث [ من أوائل ما نزل من الآيات في شأن قتال المشركين، وهي متضمنة الإذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم، والكف عمن يكف عنهم.وقال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:190] أي: في سبيل إعلاء كلمة الله ليعبد وحده الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ [البقرة:190]، واقتلوهم حيث تمكنتم منه، وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم أيها المهاجرون من دياركم ] لأن المهاجرين في المدينة هم الذين يعودون إلى قتال أهل مكة.[ ولا تتحرجوا من القتل، فإن فتنتهم للمؤمنين لحملهم على الكفر بالاضطهاد والتعذيب أشد من القتل نفسه. وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191] فلا تكونوا البادئين؛ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191]، كذلك القتل والإخراج الواقع منكم لهم يكون جزاء كل كافر يعتدي ويظلم، فإن انتهوا عن الشرك والكفر وأسلموا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم؛ لأن الله تعالى غفور رحيم.أما الآية الرابعة ] في هذه الآيات [ وهي قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] فهي مقررة لحكم سابقاتها؛ إذ فيها الأمر بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالاً يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه، ويكون الدين كله لله فلا يُعبد غير الله عز وجل في مكة.وقوله: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:193] من الشرك بأن اسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم؛ إذ لا عدوان إلا على الظالمين، وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات:أولاً: وجوب قتال من يقاتل المسلمين، والكف عمن يكف عن قتالهم، وهذا قبل نسخ هذه الآية ].أما الآية الختامية من آخر سورة التوبة وآخر ما نزل فهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، كيف يلوننا؟ مثلاً: لنفرض أن البلاد التي حول الجزيرة ما زالوا كافرين، فهل نزحف لنقاتل تركيا قبل الشام؟ هل نقاتل إيران قبل بغداد؟ الجواب: لا، هل نقاتل شمال إفريقيا قبل المصريين؟ الجواب: لا.نقاتل الذين يلوننا، فإذا أسلموا دخلوا في رحمة الله ويصبح جيرانهم من الجهة الثانية هم جيراننا، ونأخذ في القتال حتى تتسع دائرة الإسلام وتنتظم الأرض كلها، كبركة ماء أو مستنقع واسع، فخذ حجراً وارمه في وسطه، فستنفتح دائرة ثم لا تزال تتسع حتى تصل إلى كل حافاته. فما نتجاوز بلداً مجاوراً ونذهب نقاتل من وراءه، لا يصح هذا، فالذي يلينا أولى بالرحمة والإحسان ممن كان بعيداً، والناس يعرفون أن الصدقة أولى بها الأقربون؛ لأن هذه الدعوة ما هي دعوة استعمار واستغلال، هذه دعوة نشر الهدى والرحمة بين البشر، والله رب الجميع هو الذي أذن في هذا وأمر به.وهكذا فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما وصلوا إلى الأندلس إلا بعدما فتحوا شمال إفريقيا، ما وصلوا إلى جبال الألب في فرنسا حتى فتحوا أسبانيا.. وهكذا، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123].
التشابه في التدرج بين تشريع الجهاد وتحريم الخمر
وشأن الجهاد كشأن تحريم الخمر، فالخمر ما حرمت في يوم واحد، أو في آية واحدة، بل في فترات، وأول ما نزل فيها: أننا إذا شربناها لا نصلي: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فمن كان سكران لا يحل له أن يدخل في الصلاة، حتى يزول سكره ويتوضأ ويصلي. وهنا حدثت التساؤلات: لماذا -إذاً- نشرب الخمر؟ فنزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، فأجاب الله تعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، واستمرت الحالة على هذا فترة من الزمن، فكان عمر يرفع صوته: يا رب! بين لنا في الخمر بياناً شافياً، يا ألله! بين لنا في الخمر بياناً شافياً. فنزلت آخر آية بشأن الخمر في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فقال عمر : انتهينا يا ربنا. فأهريقت في أزقة المدينة حتى جرت في الأرض. فكذلك القتال، كانوا يتمنون ويطلبون الإذن من الرسول فقال لهم: اصبروا، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما قويت شوكتهم وأصبحوا أهلاً نزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39] نزلت هذه الآية أن: قاتلوا من يقاتلكم، ثم في الآية قبل الختامية أعطوا المشركين عهداً لأربعة أشهر: إما أن تسلموا أو تخرجوا من الجزيرة؛ لأن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قربت، ولم يصلح أن يموت الرسول وفي الجزيرة من يعبد غير الله، لتكون قبة الإسلام وبيضته، وبعدها نزلت آية: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123] فتحمل مسئوليتها أبو بكر الصديق، فبعث بجيش أسامة إلى الأردن والشام، وعمر بعث بجيشه إلى العراق وفارس.. وهكذا، وعثمان بعث بجيشه إلى شمال إفريقيا، وأخذ الإسلام ينتشر وأصبحت حدودنا تلي نهر السند، ثم توقفنا بكيد أعدائنا ومكرهم، لكن في يوم ما لو عاد لنا سلطاننا وقدرتنا وقتالنا فسنطبق أمر الله عز وجل، نبدأ من جديد بأسبانيا لأنها في حدود المغرب، نبدأ بروسيا لأنها في حدود يوغسلافيا.. وهكذا.
معية الله تعالى بالنصر للمتقين الآخذين بالأسباب
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] بالسلاح والعتاد والقوة، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] ومعنى هذا: اتقوا الله في كل أوامره ونواهيه، فالتفريط في السلاح والعتاد أيضاً معصية، صاحبه ما ينتصر، الخلاف والفرقة هي آيات الهزيمة، الإعلان عن معاصي الله والمجاهرة بها أهلها لا ينتصرون؛ فالله تعالى ما قال: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله معكم، ما قال هذا، فلو قال هذا فحينئذ سيكونون مخدوعين، سيقولون: الله معنا! إذاً: غنوا واشربوا الخمر وغداً قاتلوا، فالله معكم! ولكن قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] الذين يتقون غضب الله بترك معاصيه ومعاصي رسوله، أما أن نقاتل ونحن مرتكبو الجرائم والموبقات فلن ينصرنا، ومن أيسر ما يكون هنا أننا إذا اختلفنا انهزمنا، فالخلاف حرام بيننا، وإذا ما أعددنا العدة والسلاح فلن ننتصر، والله يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، ونحن نقول: لا، ما هناك حاجة، فالله معنا!فلو كانت الآية: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله معكم؛ لغنى المؤمنون، ولما أصبح أحدهم يبالي بالمعصية، فالنصر حتم لأن الله معنا، لكنه قال تعالى: (مع المتقين)، إن اتقيتم أوامرنا فنحن معكم، وإن عصيتم تركناكم لأنفسكم.
وجوب قتال الكفار بمراحله وخطواته
فالهداية الأولى: [ وجوب قتال من يقاتل المسلمين، والكف عمن يكف عن قتالهم، وهذا قبل نسخ هذه الآية]، أما قلنا: إن الخطة هي: أن الذين يلوننا في الشمال في الجنوب في الشرق في الغرب نعسكر حقيقة أمامهم، ثم نراسلهم، وهم مخيرون بين الدخول في الإسلام ليكملوا ويطهروا ويسعدوا، ولا شيء ولا درهم يؤخذ منهم، بل نحمل إليهم المال إن كانوا فقراء، فإن رفضوا فليأذنوا لنا أن ندخل ديارهم لتعليم الناس وهدايتهم، وأن نطبق بينهم شرع الله لإصلاحهم وإكمالهم، ويعطونا ما يسمى بالجزية، يعني: نقد لا قيمة له، وإنما هو إعلان عن أنهم دخلوا في ولاية المسلمين وحمايتهم، فإن رفضوا فلم يبق حينئذ إلا أن نقاتلهم حتى يخضعوا، ومن نقاتل؟ نقاتل الجيوش والحكومة، فهل يبقى الشعب المسكين محروماً من هداية الله؟ فإذا هزمنا الجيوش دخلنا ونشرنا الرحمة والخير والهدى بينهم.
حرمة الاعتداء في القتال
[ ثانياً: حرمة الاعتداء في القتال ]، ويكون الاعتداء في القتال مثلاً بالإحراق بالنار، يكون الاعتداء بقتل الأطفال، كيف بطفل يقتل، أو يضرب، أو يؤذى؟! يكون الاعتداء بقتل النساء، النساء حسب سنة الله تعالى لا يبرزن للقتال، وإن حدثت حادثة نادرة فلا قيمة لها، النساء لا يقاتلن أبداً.والآن بعض حكوماتنا المتقدمة جيشت النساء! وهذه أضحوكة، رأيت في المجلة مجاهدات، والشاهد عندنا أن هذا خبط وضلال وتفاهة في العقول، نعرض عن الإسلام ولا نطبق قواعده ولا شرائعه، ونجيش النساء ونجعل الحارسات والمجاهدات، هل انعدم الرجال؟قال: [ حرمة الاعتداء في القتال بقتل الأطفال والشيوخ والنساء إلا أن يقاتلن ] فشيء آخر، فمن أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
حرمة القتال في الحرم وبيان حكم قتل اللائذ به
[ ثالثاً: حرمة القتال عند المسجد الحرام، أي: في مكة والحرم، إلا أن يبدأ العدو بالقتال فيه ].لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم باثني عشر ألفاً هل دخلوا ليقتلوا المشركين؟ كلا أبداً، من قاتلهم قتلوه، ومن أسلم وانقاد لم يقتل، ومع هذا أعلن الرسول عن حرمتها من يوم أن خلق الله السماوات والأرض، وأنها حرام إلى يوم القيامة، ولم تحل إلا ساعة من نهار، أحلها الله لرسوله، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة، لكن لو أن أشخاصاً هربوا إلى مكة وهم مجرمون فما الحكم؟ الجواب: الأولى أننا نلقي القبض عليهم ونخرجهم خارج الحرم، ونعدمهم إذا كانوا قد قتلوا، ولا نقتلهم في الحرم، هم قتلوا إخواننا خارج مكة في جدة في الطائف وهربوا إلى الحرم، فهل نقتلهم في الحرم؟ الذي عليه الجمهور أن يخرجوا إلى خارج الحرم ويقام عليهم حد القتل خارج الحرم، امتثالاً لقول الله تعالى: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191]، لكن لو هاجموا ودخلوا برجالهم إلى مكة فماذا نصنع؟ نقاتلهم، ما دام أنهم قد قاتلونا فيه فلا بد أن نقاتلهم.
محو الإسلام والتوبة ما قبلهما من الذنوب
[ رابعاً: الإسلام يجب ما قبله ]، ما معنى: يجب؟ يقطع، الجب: القطع، ما قبل إسلام المرء يترك كله ولو قتل ألف مقتول وأخذ مليار دولار وفعل ما فعل، إذا أسلم جاء في عهد جديد والأول كله معفو عنه، لا يطالب به ولا يؤاخذ به أبداً، الإسلام يجب ما قبله، والتوبة أيضاً تجب ما قبلها، كان يشرب خمراً، كان يتعاطى ربا، كان عاقاً لوالديه، كان خائناً لجيرانه، ثم تاب توبة نصوحاً، فما يبقى مطالباً بشيء، اللهم إلا الحقوق الخاصة بالأفراد، فالمال يرده إلى أصحابه. فالتوبة أيضاً تجب ما قبلها، وهي التوبة النصوح التي صاحبها لا يعود إلى الذنب ولو صلب وقتل وأحرق، والإسلام يجب -أي: يقطع- ما قبله، ما الدليل على هذا؟ هو قوله تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] عن الشرك والكفر وقتالكم وأذيتكم وإخراجكم من دياركم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192]، فإن انتهوا وتابوا فالله عز وجل يغفر لهم ويرحمهم، لماذا؟ لأنه تعالى غفور رحيم.فالإسلام يجب ما قبله، أخذنا ذلك من قوله تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] عن قتالكم وحربكم وعن الشرك والكفر والفسق والفجور؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192] فسيغفر لهم ويرحمهم؛ لأنه هذا وصفه: الغفور الرحيم.
حكم الجهاد وبيان حالات تعينه
[ خامساً: وجوب الجهاد ] أي: قتال الكفار من أجل أن يعبد الله وحده، هذا القتال واجب، [ وهو فرض كفاية ]، وفرض الكفاية يقابل فرض العين، فرض العين هو ما تعين على كل واحد من أهل الجهاد ذكر ليس بأعرج ولا مريض ولا أعمى، وليس بشيخ هرم، هذا هو الذي يتعين عليه القتال، أما النساء والأطفال والمرضى والعميان والعرجان فلا، فالجهاد فرض كفاية إذا قام به بعض المؤمنين وأدوا الواجب وانتصروا أو دفعوا عن المسلمين الخطر فالآخرون لا يأثمون أبداً، نعم يحرمون الأجر وما في ذلك شك، ما داموا جالسين ولا يقاتلون فكيف يثابون؟ كل ما في الأمر أنهم لا يأثمون، ومن أراد الثواب فليخرج، إلا إذا قال إمام المسلمين: لا تخرجوا، فحينئذ أطاعوا إمام المسلمين فأطاعوا الله، فهم مأجورون لأن قلوبهم مع الجهاد، كالذين رجعوا لضعفهم وعجزهم وقلوبهم تتحرق. إذاً: [ وجوب الجهاد، وهو فرض كفاية ] إذا قام به جيوش المسلمين أو مقاتلوهم سقط الواجب عن الباقين، فإن عجز الجيش ولم يقدر على الفتح أو الدفع فحينئذ تعين على المؤمنين أن يكملوا ذلك النقص ويسقط الواجب حينئذ، ولهذا يقول أهل الفقه: يتعين الجهاد ويكون فرض عين في ثلاثة مواطن:الأول: أن يداهم العدو مدينة من مدننا في حدوده، ميناء من موانئنا، فأهل المدينة أو المنطقة يجب عليهم أن يقاتلوا هذا العدو نساء ورجالاً حتى يردوه من حيث أتى، ويواصلوا قتالهم حتى يصلهم المدد، وفي الزمان الأول كان المدد يحتاج إلى عشرة أيام، لأنهم يسيرون ببغال وخيول وجمال، والآن في خمس ساعات، فأهل المنطقة التي هاجمها العدو بالليل أو بالنهار يجب أن يقاتلوا ولا يسقط الفرض عن أحدهم إلا عن عاجز، حتى يردوا العدو ويقهروه، أو يصل إليهم إمدادات المسلمين وحينئذ يسقط وما يصبح فرض عين، هذا موطن.الموطن الثاني: أن يعين الإمام المجاهدين، يقول: أبناء الخامسة والعشرين إلى الثلاثين كلهم في التعبئة، أو يقول: أصحاب الواحد والعشرين من أعمارهم إلى الثلاثين الكل يدخلون ويلتحقون بالجهاد، فلا يصح لواحد من هؤلاء أن يتأخر.وموطن آخر وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير، إذا رأى إمام المسلمين أن هذا العدو ما يكفي له عدد فالأمة كلها تدخل المعركة، كما حدث في غزوة تبوك ونزل: إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ [التوبة:39]، فلم يبق مؤمن إلا مريض أو من اعتذر بعذر باطل، وما تخلف إلا ثلاثة نفر بدون عذر، وحصل الذي حصل، وتاب الله تعالى عليهم.
حكم جهاد النفس
ذاك هو التعبئة العامة، وما عدا هذا فالجهاد فرض كفاية، إلا أن جهاد النفس -وهو أشق- فرض عين، لا يسقط عن مؤمن ولا مؤمنة، جاهد نفسك حتى لا تعبد إلا ربك، أي: لا تعبد هواك ولا دنياك ولا شياطينك، بل اعبد الله وحده، ومعنى هذا أن تحملها على النهوض بالتكاليف والواجبات بلا تردد، وتحملها على الابتعاد عن معاصي الله، وحاربها ليلاً ونهاراً، ما هو بعام أو عشرة أعوام، بل طول عمرك، فلهذا يقال: الجهاد الأكبر هو جهاد النفس، والجهاد الأصغر ضمنه، وورد في هذا حديث ضعيف لكن معناه صحيح، لما عادوا من غزوة قال لهم: ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ).وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] هذا يتناول أولاً جهاد النفس، يجاهد نفسه في ذات الله، أتدري لم نجاهد الكفار؟ لأجل أن يعبدوا الله أولاً، من أجل أن يعبدوا الله وحده ويدخلوا في الرحمة.إذاً: وجهادنا لأنفسنا لأجل ماذا؟ من أجل أن نعبد الله أولاً، وأن ندخل في رحمته، ولهذا فجهاد النفس ذكره الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري فقال: جهاد النفس هو أن تحملها وهي كارهة على أن تتعلم ما يُعبد به الله، وتعرف كيف تعبده. فتعلم العلم الضروري، تتعلم كيف تتوضأ، وتغتسل، وتتيمم، وتصلي،و تصوم، وتزكي، وتحسن.. وسائر هذه الضروريات، تحملها على أن تتعلمها وهي كارهة قطعاً، فهي ما تريد التعب ولا السهر، ثم تحملها على أن تعمل بكل ما علمته، ولا تتخلى أبداً عن فريضة عرفتها أو واجب علمته ولم تعمله، وهذا يحتاج إلى إكراه لها وضغط عليها، حتى تعمل بكل ما تعلمته، ثم تحملها على أن تُعلِّم ذلك، فهذا هو الجهاد الأكبر. نحن نغزو الكفار من أجل أن نعلمهم، وهذه المرتبة الثانية، إذ نحن أولاً نعبد الله ونستقيم على منهجه، فإذا كملنا وطبنا وطهرنا ننقل رحمة الله إلى غيرنا، هذا الجهاد هو جهاد النفس.
حكم المعاهدات مع الدول الكافرة في حالة ضعف المسلمين
أما جهاد الكفار فكما علمتم: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] بجيوشنا المدربة المسلحة في الحدود، وهي تراسل من حولها وتغزوهم، فإن ضعفنا فلا بأس أن نتخذ معهم معاهدات مؤقتة، فإذا ما استطعنا أن نقاتل فرنسا فإننا نتخذ معها عهداً لأربعين سنة، لثلاث سنوات.. لكذا، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة، لما نزل المدينة عاهد بني قريظة، عاهد بني النضير، عاهد بني قينقاع، ومن أخلف الوعد ومزقه فإنه يستوجب القتال، وما قاتلهم حتى نقضوا، فبنو قينقاع ماذا فعلوا؟ آذوا مؤمنة جاءت إلى حداد تصلح عنده سواراً أو خلخالاً أو كذا، وجلست تنتظر بنقابها، فجاء يهودي وهي جالسة يتهكم بها وأخذ ثوبها من ورائها ووضعه على رأسها لتبدو عورتها، وهم يضحكون، فصاحت فجاء مسلم فقتله، فاجمعوا على المسلم فقتلوه، وحينئذ أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتالهم؛ لأنهم نقضوا العهد بأذية المؤمنة، وشفع لهم ابن أبي وأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة بدون قتال، ولكن خرجوا ولم يبق منهم أحد.وبنو النضير تآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، كان بينه وبينهم معاهدة على أنهم يدفعون الدية باشتراك وتعاون، وكانت الدية كثيرة، فذهب الرسول مع أبي بكر وعمر إلى بني النضير يطالب بموجب الاتفاقية أن يساهموا في هذه الدية التي تحملها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مرحباً، وأنزلوه في ظل جدار وفرشوا له الفراش، ثم أخذوا يفكرون كيف يقتلونه، فهداهم الشيطان إلى أن يطلقوا عليه رحى من السطح، واتفقوا على هذا، وأوحي إليه صلى الله عليه وسلم بالمؤامرة بالهاتف الإلهي أن: قم، فجمع عليه ثيابه وقام ومشى وراءه أصحابه، ودخل المدينة وأمر بإعداد العدة لجهاد بني النضير، فخرج مع رجاله وعلى رأسهم الراشدون وطوقوا البلاد.ونزل فيهم قرآن: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]هؤلاء بنو النضير، فلما هاجمهم الأصحاب قطعوا نخلهم، كما قال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]، وإن كان بعض الصحابة تألم لقطع النخل أو إحراقه؛ لأنهم أصروا وأبوا أن ينزلوا، وبعد ذلك أعلنوا عن هزيمتهم وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحملوا أمتعتهم، فأذن لهم، فحملوا حتى الأبواب والأخشاب، وذهبوا ونزلوا بخيبر.وبنو قريظة آخرهم لما جاءت الأحزاب بالمؤامرات وتضامنوا مع أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن ثم أعلن عن قتالهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (125)
الحلقة (132)
تفسير سورة البقرة (90)
في سياق الأمر من الله عز وجل لنبيه ومن معهم من المؤمنين بقتال المشركين، وجههم سبحانه هنا بأن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم محرماً فليقاتلوه وهم محرمون، وهكذا الحرمات قصاص بينهم ومساواة، ومن اعتدى عليهم فلهم أن يعتدوا عليه بمثل ذلك، ثم أمرهم سبحانه بتقواه والإنفاق في سبيله لمجاهدة أعدائه سبحانه؛ لأن في ذلك نجاتهم، وفي التخلي عنه خسرانهم وهلاكهم.
تفسير قوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، بالإضافة إلى ذلكم الأمل الغالي المنشود لكل العقلاء من المؤمنين والمؤمنات، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).فحالكم كحال المجاهدين والحمد لله، هل يمكن أن نظفر بمثل هذا الخير في غير هذا المجلس؟ لا. وها نحن مع قول ربنا عز وجل: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:194-195].هذه الآية الأولى مع ما قبلها في سياق تشجيع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم، وتعليمهم أن من قتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام.
المراد بالشهر الحرام
إذاً: قوله جل ذكره: الشَّهْرُ الْحَرَامُ [البقرة:194] ما المراد بالشهر الحرام؟ الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد، أي: متوالية واحداً بعد واحد، وآخرها فرد ليس قبله ولا بعده شهر حرام، فالثلاثة السرد هي: القعدة، والحجة، ومحرم، ثلاثة أشهر سرد واحداً بعد واحد، والفرد هو: رجب، بين شعبان وجمادى الآخرة، ويقال فيه: رجب الأصم؛ لأنك لا تسمع فيه صوت السلاح وقعقعته، هدنة فرضها الله عز وجل على العرب في الجاهلية، إذا شاهدوا هلال رجب لم تسمع صوت السلاح أبداً، ويسود الجزيرة أمن لن تستطيع الأمم المتحدة أن تفرضه لو جلبت كل قواتها، ولكن تدبير الله.ويقال فيه: رجب الأصب؛ لأن الخير يصب فيه صباً، هذا الشهر صيامه مستحب، ولكن لا يكمل كرمضان، لا بد من الفرق بين الواجب والمستحب، فليصم ما شاء أن يصوم، ثم يفطر في أوله أو آخره.
المراد بكون الشهر الحرام بالشهر الحرام وكون الحرمات قصاصاً
فقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:194] أي: من قاتلكم في الشهر الحرام فقاتلوه في الشهر الحرام، أما أن يستحل هو القتال بالشهر الحرام ويقاتلكم وأنتم لا تستحلونه وتمدون أعناقكم لهم فسيدكم ما يرضى لكم بهذا. وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194] الحرمات: جمع حرمة، كظلمات وظلمة، والحرمة: ما يحرم تناوله أو أخذه أو إعطاؤه، الحرمات منها الشهر الحرام، منها البلد الحرام، منها الإحرام، فمن قاتلنا في البلد الحرام نقاتله، من قاتلنا في الشهر الحرم نقاتله في الشهر الحرم، من قاتلنا وهو محرم نقاتله ونحن كذلك محرمون، هذا تدبير الله لأوليائه.
معنى قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، هنا تأمل يا عبد الله وتأملي يا أمة الله، لا تفهمن أنك أنت مأمور بأن تعتدي على من اعتدى عليك، هذا لا يصح أبداً؛ لأن الفوضى انتهت وأصبحت الدولة الإسلامية قائمة بإمام المسلمين، والشريعة والقانون لا يحل لأحد أن يعتدي عليه آخر فيعتدي هو عليه، بل يجب أن يحمل أمره إلى الحاكم وهو الذي يقتص، وإلا فمعناه الفوضى على منتهاها، هذا بالنسبة إلى الفرد، أما بالنسبة إلى الأمة فنعم، والله يخاطب رسوله والمؤمنين: يا أمة الإسلام! الحرمات قصاص، من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى.أما الفرد المسلم فلأن يعفو ويصفح أفضل بكثير من أن ينقل أمره إلى الحكومة ويطالب بحقه فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، فإن كان ولا بد فليرفع أمره إلى المسئولين: كقضاة، أمراء، حكام، وهم الذين يقتصون له من عدوه. فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] أيتها الأمة الإسلامية، دولة من الدول أغارت واعتدت على شعب أو على قبيلة، أذن الله لنا في ذلك، أما الأفراد المؤمنون فإياكم أن تفهموا أن كل من ضُرب يضرب، وكل من أُخذ ماله يأخذ، فإنه إن كان هذا فلا حكم ولا حكومة ولا نظام إذاً، فأين الإسلام؟
حكم أخذ المرء مثل ماله من مال ظالمه
وهنا مسألة دقيقة من استطاع أن يفهمها فلا بأس، فإن لم تسطع فهمها فلا تحكها ولا تعمل بها، وهي أن محمد بن إدريس الشافعي الإمام من أئمة أهل السنة والجماعة، هذا القرشي المطلبي يرى أن المؤمن إذا سلبه أحد إخوانه مالاً، وتأكد أن فلاناً أخذ نعجته أو أخذ ثمرته، أو أخذ ثوبه، وهو متأكد أنه لو رفع أمره إلى الحاكم لا يستطيع الحاكم أن يعطيه حقه؛ ما هناك بينة ولا حجة، يقول الشافعي باجتهاد منه فقط: إذا كان في إمكانك يا عبد الله المسلم أن تأخذ من صاحبك بقدر ما أخذ، لا تزد ولا ربع تمرة، إذا كنت تقدر على أن تأخذ ممن أخذ منك بقدر ما أخذ أو أقل فلك ذلك، وإياك أن تزيد بأدنى شيء، فإن كنت قادراً على هذا الموقف وتستطيع ألا يعلم بك فتتهم بالسرقة ويقام عليك الحد بقطع يدك، فالموقف صعب، قد يتأتى لواحد ولا يتأتى لألف، لكن في بلاد ما فيها حكم عادل، فلان أنا موقن أنه أخذ مني نعجة، وأنا في حاجة، فإن كنت أعلم أنني سآخذ نعجة دون نعجته في السمن والجسم ولا يطلع علي أحد فلا بأس؛ لأني ما ظلمت، استرددت حقي فقط، ولكن من الخير أن تترك هذا، فوض أمرك إلى الله واعف واصفح والله يعوضك.فقوله: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] هذا خطاب لرسول الله والمسلمين، يخاطب الأمة والدولة وليس الأفراد، وهذا أيضاً منسوخ بآية الجهاد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] اعتدوا أو لم يعتدوا، انتهى أمر وجودهم في دار الإسلام.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله)
وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:194] هذا أمر إلهي لعباده المؤمنين بأن يتقوه، أي: يتقوا غضبه وسخطه وعذابه؛ لأنه إذا غضب، إذا سخط، إذا انتقم فهو شديد العقاب.وأنتم أيها المؤمنون تعرفون قدرة الله، يحول النعمة إلى نقمة، والسعادة إلى شقاء، والصحة إلى مرض، والحياة إلى موت، أمم يقلب عليهم الأرض، إذاً: فاتقوا الله، أي: لا تخرجوا عن طاعته، لا تفسقوا عن طاعته، امتثلوا أمره بفعله وامتثلوا نهيه باجتنابه.أوامر الله ونواهيه لا تتصور فقط في الصلاة والزكاة، هي في كل ما شرع لنا أن نأخذ به ونعمل به، فالجهاد فريضة الله وقد عرفنا حكمه وبيناه، هذا الجهاد لا بد له من عدة، فإن خرجنا نقاتل عدونا بدون عدة وبدون عدد يكافئه ويقاتله فما اتقينا الله، إذاً: فقد يصيبنا بالنكبة ويسلط علينا العدو بالهزيمة؛ لأننا ما اتقيناه، فلو اتقيناه لعملنا بقوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، فإذا كان عدونا يقاتلنا بالمدافع ونخرج بالعصي ونقول: عصاي أفضل من مدفع بريطانيا أو إسرائيل؛ فهذا موقف غير صحيح. وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:194] أي: خافوا نقمته، خافوا سننه أن تنعكس عليكم، إذاً: فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه، أطيعوا رسوله وأطيعوا قائدكم في المعركة، لا تفترقوا ولا تختلفوا عليه.
معنى قوله تعالى: (واعلموا أن الله مع المتقين)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] أمرهم أولاً بأن يتقوه، ثم أعلمهم أنه مع المتقين، ما قال: واتقوا الله واعلموا أن الله معكم، فمن يضمن أنهم اتقوا الله حتى يكون معهم؟ فلهذا قال: واعلموا أن الله مع المتقين له، الذين يعملون بسننه الكونية، ولا يفرطون أبداً فيما سن وقنن من قوانين الحياة، هؤلاء الله معهم بالنصر والتأييد، وما إلى ذلك من أنواع حب الله عز وجل للمؤمنين، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194].
أهمية العلم في تحصيل التقوى
وهنا لطيفة: لو قيل لنا: من هم المتقون؟ نقول: بنو هاشم، الأنصار؟ المتقون: الذين يفعلون ما أمر الله به ورسوله وينتهون عما نهى الله عنه ورسوله.ثم ما الذي أمر الله به ورسوله، وما الذي نهى الله عنه ورسوله؟ هنا الوقفة الطويلة: فـ(95%) من المسلمين والمسلمات ما يعرفون ما أمر الله به ولا ما نهى عنه، فكيف يتقونه إذاً؟ الذي ما يعرف ما أمر الله به كيف يتقيه فيه ويطيعه؟ لا يعرف ما نهى الله عنه فكيف يتقيه بتركه؟ هنا نبدأ بأول خطوة: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] بم بدأ؟ اعلم أولاً، اعرف الأوامر والنواهي بالتفصيل في المعتقد والقول والعمل والسلوك معرفة يقينية، ثم افعل ما أمر الله به واترك ما نهى الله عنه، وبدون معرفة لن يستطيع أحد أن يكون تقياً، يغش نفسه، من يريد أن يكون من المتقين وهو لا يعرف بم يتقى الله وما سأل كيف يتحقق له ذلك؟ومن هنا وجب طلب العلم قبل أية حركة، قبل أن تتوضأ وتصلي يجب أن تعرف كيف تتوضأ، وكيف تصلي، ومعنى هذا: أن على المسلمين أن يتعلموا.
كيفية تحصيل العلم الموصل إلى التقوى
وكيف يتعلمون يا شيخ وهم مشغولون، يطلبون العيش من الصبح إلى الليل فكيف يتعلمون؟ أما تجدون لنا حلاً أيها المؤمنون؟ كيف نتعلم ونحن في هموم الحياة ومتطلباتها؟ الجواب معروف مللناه بالتكرار: اعملوا أيها العمال في المزارع، في المصانع، في الدكاكين، حتى العمال في السماء صاعدين هابطين بالمظلات، وإذا دقت الساعة السادسة مساء أوقفوا دولاب العمل، تطهروا، البسوا ثيابكم الطاهرة النظيفة، ألقوا بثياب العمل، واحملوا نساءكم وأطفالكم إلى المسجد الجامع، وليجلس النساء وراء الستارة والأطفال دونهن، والفحول أمامهن، ويجلس لهم عالم رباني يعرف عن الله ورسوله، فليلة آية وليلة حديث، ليلة آية يتعلمون وليلة حديثاً طول الحياة، هذا نظام حياتنا؛ لأننا نتهيأ لنخترق السبع الطباق وننزل بالملكوت الأعلى، فلا يشق علينا أبداً أن ننقطع إلى الله ساعة ساعتين في بيته، ويتم لنا -والله- العلم الكامل، ما يبقى في القرية ولا في الحي رجل ولا امرأة لا يعرف ما أحل الله ولا ما حرم، ولا يعرف ما أوجب الله ولا ما حرم، بالسماع فقط. قد تقول: يا شيخ! لا يمكن أن نتعلم بالسماع هذا؟فأقول: وأصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم هل تعلموا بالقراطيس والأقلام؟ جلهم ما كان يقرأ ولا يكتب، هذا العلم ما يتطلب أبداً قراءة ولا كتابة، بل اعلم واعمل فقط، تعلمت مسألة فطبقها الليلة، فيرسخ العلم في جسمك كاملاً وفي كل حواسك، وإذا قلنا: ما نستطيع هذا، وأردنا أن ننفس عن أنفسنا إذا تركنا العمل وقلنا: نمشي إلى المقاهي ونريح أنفسنا كاليهود والنصارى؛ فإذاً: لا بأس، لكن لا ترفع رأسك إلى السماء ولا تطمع أن تدخل الملكوت الأعلى، كن كالهابطين إلى الدركات السفلى.
حكم الله تعالى بفلاح مزكي نفسه وهلاك مدسيها
قد تقول: يا شيخ! هذه مبالغة! فأقول: هل بلغكم حكم الله الصادر علينا؟ ما نص هذا الحكم؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] زكاها أي: نفسه، بم يزكيها؟ بالبقلاوة، بالأرز واللحم، بالرقص؟ بم يزكيها؟ بما شرع من هذه العبادات التي تؤدى على الوجه الذي شرعت لتنتج الزكاة والطهارة للنفس، وفي نفس الوقت يتخلى ويبعد عن كل ما من شأنه أن يدسي نفسه كالكذب والنظرة المحرمة وسائر المعاصي إلى الكفر والشرك.وجهاد متواصل حتى الموت، ما هو بالأمر الهين أن تغمض عينيك وأنت في الملكوت الأعلى مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.من أين لنا هذا؟ ولكن ضاعت قرون عديدة لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وهم كالبهائم، والآن هل أفقنا؟ ما زلنا، فثلاثة أرباع المسلمين ما يعرفون الله ولا مراده ولا محبته.فلم لا تبلغون هذا؟ حتى لا نلوم الغائبين: لم أنتم لا تبلغون؟ هذا الشيخ يبكي كل ليلة فأدى الواجب، وأنتم لم كل صاحب حي لا يقول لأهل الحي: تعالوا نصلي المغرب والعشاء في مسجدنا، نأتي ببناتنا ونسائنا ونتعلم كتاب الله وسنة رسول الله، حتى نخرج من ظلمة الجهل حتى نزكي أنفسنا، وأهل القرية كذلك. إن كلامي هذا كان المفروض أن رؤساء البلديات يطبقونه، وشيخ القرية يقول: يا معشر المؤمنين! أنتم ماذا تصنعون بعد نهاية العمل؟ تعالوا إلى بيت الرب فكلنا نتعلم الكتاب والحكمة، لنزكي أنفسنا، لنهذب أخلاقنا، لنتأدب بآداب نبينا، لنكمل، وإذا صلينا العشاء شبعنا، ما نبغي أغاني ولا لهواً ولا باطلاً، حتى الأكل، فوالله! لتفاحة تكفيك ليوم، وتنامون مع الملائكة.فإن قالوا: لا. قلنا: غنوا، زمروا، واعبثوا لتناموا مع الشياطين، هذا واقعنا المر رضينا أم أبينا، حتى نتوب إلى الله توبة الصدق ونعود إليه بحق.
أركان التقوى وحقيقة المتقين
قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] من هم المتقون؟ الذين عرفوا فيم يتقون الله من الفعل والترك، وفعلوا المأمور وتجنبوا المنهي، أولئك هم المتقون، أولئك الله معهم لن يخذلهم ولن يسلط عليهم عدوهم، ولن يكربهم ولن يحزنهم أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، للبيان السابق الذي أعلنه تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، اللهم اجعلنا منهم، فمن هم هؤلاء؟الجواب: المؤمنون المتقون هم أولياء الله، كأن سائلاً يقول: يا رب من هم أولياؤك؟ قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].
تفسير قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ...)
وقوله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] الإنفاق في سبيل الله إنفاق الطاقات، المال، العقل، البدن.وسبيل الله الإسلام الموصل إلى جوار الله في الملكوت الأعلى، سبيل الله أن يُعبد الله وحده، وتعبد البشرية كلها ربها حتى تصل إلى جواره في الملكوت الأعلى. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] التهلكة والهلكة والهلاك بمعنى واحد.
مناسبة نزول الآية الكريمة
هنا يروى أن أبا أيوب الأنصاري مضيف نبيكم صلى الله عليه وسلم أول ضيافة في المدينة قال: لما رأينا انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قلنا: هيا بنا يا أهل المدينة نعود إلى حقولنا ومزارعنا ننميها ونصلح من حالها، فقد أوقفنا العمل فيها لسنوات أربع أو خمس والآن الإسلام ظهر وانتصر، هيا نعود إلى أعمالنا الدنيوية، ما إن فاهوا بها ونطقوا في مجتمع خاص حتى فوجئوا بهذه الآية: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] لأن إيقاف الجهاد وإيقاف الاستعداد يجعل العدو ينظر إلينا على أننا ضعفة لا قدرة لنا فيكر علينا ويحطمنا.فلهذا رحم الله الشيخ رشيد رضا في مناره، قال: هذا يسمى بالسلم المسلح، على الأمة أن تعد العدة ما أمكنها، وإن كانت لا تنوي القتال، وليس هناك من يخامره فكر أن يقاتلها، معاهدات وأمن كامل كما هي أحوالنا، في هذا الوقت بالذات يجب أن تكون عدتنا أعظم عدة، أنواع السلاح على اختلافه، وأنواع رجالها، وإن كان ما لنا أمل في أن نقاتل، إذا شاهد العدو تلك القوة لا يفكر في الإغارة علينا ولا في قتالنا، أما إذا ميز وقدر وعرف كميات سلاحنا وما عندنا إذاً يدفعه الشيطان إلى أن يغير علينا، ولهذا قال لنا تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60] يعني: في حدود قدرتكم.ومن القدرة أنه إذا قيل: اسمعوا أيها المواطنون: من الآن لا نأكل أكلة الصباح أبداً، نكتفي بالغداء والعشاء، ونفقة الصباح كلها في ميزان الجهاد، فلا تصبح دولة أخرى أقوى منا، يعلن الإمام: اسمعوا: نكتفي بأكلة واحدة في الأربع وعشرين ساعة، وثمن تلك الأكلة في ميزانية الجهاد وإعداد العدة، والله! لكما تسمعون، وإلا فكيف يقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]؟ أي: ابذلوا ما تستطيعونه، وكوننا نحرم أكلة في اليوم مثلاً لأن نصبح أهل عتاد حربي ما هو بشيء أبداً في سبيل إبقائنا أحياء سعداء أطهاراً أتقياء، حتى لا يسلط علينا خبيث نجس كافر مشرك يذلنا ويهيننا ويفعل بنا العجب، وهل فعل أو لم يفعل؟ استعمرتنا بريطانيا، إيطاليا، أسبانيا، بلجيكا، هولندا.. العالم الإسلامي بكامله وضع تحت أقدام النصارى واليهود، واليهود حثالة البشر أذلونا، أهانونا، فعلوا بنا العجب، فلم؟ والله! إني لعلى علم، لقد أعرضنا عن الله فأعرض عنا ووكلنا إلى أنفسنا.وقد عرفنا قول أبي أيوب الأنصاري لما ظهر الإسلام وانتصر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قلنا لبعضنا: نحن الأنصار نعود إلى حدائقنا وأعمالنا وبساتيننا، فلم يرض الله تعالى ذلك لهم، فأنزل قوله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].
معنى قوله تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)
وقوله تعالى: وَأَحْسِنُوا [البقرة:195] من هم المخاطبون؟ المؤمنون، أحسنوا لا تسيئوا، الإحسان بمعناه الحقيقي هو ثلث الإسلام، الدين الإسلامي السبيل الموصل إلى الله يتكون من ثلاث خطوات: الإيمان، الإسلام، الإحسان.والخطوة الأخيرة -الإحسان- أعظم من الإيمان والإسلام، لم؟ إذا لم يحسن إسلامه ما انتفع به، فالإحسان معناه العام: الإحسان إلى الفقراء المساكين المحاويج، إلى الأقارب، إلى إخوانك المؤمنين بالابتسامة والسلام عليهم، والنصرة.. وما إلى ذلك، كله إحسان، لكن الإحسان الخاص هو أن تعبد الله عبادة من شأنها أن تنتج لك القوة والكمال والطهارة والنظافة والسعادة في الدنيا والآخرة، بمعنى: أن تطبق شرع الله تطبيقاً تاماً فينتج هذه الكمالات.ولا يتم لك ذلك إلا إذا كنت تعيش مع الله، لا تفارق الله أبداً، أنت مع الله، إذا أردت أن تقول كلمة فاستئذنه هل تقولها أو لا، فإن كانت حلالاً نافعاً أذن لك، وإن كانت حراماً ضالة قال: لا تقل، لا تنظر نظرة إلا بإذنه، لا تأكل لقمة إلا بإذنه، لا تمش خطوة إلا بإذنه، لا تنم ساعة إلا بإذنه، أنت مع الله، فالذين يعيشون مع الله والله معهم هؤلاء لن يضرهم شيء ما داموا مع الله، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ( أن تعبد الله كأنك تراه )، فإن ضعفت عن هذه المرتبة السامية ونزلت فاعبده وأنت تعلم أنه يراك، أما أن تعبده ولا أنت تراه ولا تعتقد أنه يراك فوالله لن تحسن العبادة، حتى ولو كان الوضوء فلن تتقنه.لا يمكنك أن تحسن العبادة حتى تنتج الطاقة الحقيقية من النور إلا إذا كنت تراقب الله في ذلك، مع مراقبة الله لا تستطيع أن تعبث أو تزيد أو تنقص أبداً، تؤديها كما هي، فإذا أديتها كما هي فإنها تولد النور الذي هو الحسنة. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، هل الذي أحبه الله يلقي به في أتون القاذورات والأوساخ؟ والله! ما كان، إذا أحبك الله أمنت يا عبد الله؛ لا لشيء إلا على طهر وصفاء وكمال، ومناعة من كل عدو وكل شيطان، والذين يرغبون في حب الله فمن الليلة يحسنون فقط والله سيحبهم، هل تريدون أن يحبنا الله حقاً؟ لنحسن أعمالنا فقط، صلينا ركعتين، صلينا ركعة، ذكرنا، قرأنا، مشينا، جلسنا.. نحسن أعمالنا، ولا يتم ذلك إلا بمراقبة الله كأننا بين يدي الله نستحي أن نزيد أو ننقص.هذا الإحسان يولد النور فتشرق النفس والقلب، ويشع ذلك النور على السمع والبصر والمنطق واللسان، فنصبح كأننا ملائكة أطهار، والله يحب المطهرين، الله لا يحب الخبث أبداً ولا يحب أهله، يحب الطهر، والطهور شطر الإيمان، فمن أراد أن يكون من أحباء الله فماذا يعمل؟ يحسن عمله، كيف يحسن عمله؟ يؤديه كما هو مطلوب، لا يزيد، ولا ينقص، لا يقدم، لا يؤخر، لا يضيع منه شرطاً من شروطه ولا ركناً من أركانه، هذا العمل يولد له الحسنات فتشرق نفسه وتطيب وتطهر، فيصبح بذلك أهلاً لأن يحبه الله؛ لأنه من المطهرين.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
لنستمع إلى شرح الآية في التفسير:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: الشهر الحرام: الشهر المحرم القتال فيه، والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد وواحد فرد، فالثلاثة هي: القعدة، والحجة، ومحرم، والرابع الفرد: رجب.الحرمات: جمع حرمة؛ كالشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام ] هذه حرمات.[ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194]: المتقون: هم المؤمنون الذين يتقون معاصي الله تعالى ومخالفة سننه في الحياة، وكونه تعالى معهم يسددهم ويعينهم وينصرهم.التهلكة: الهلكة، والهلاك مثلها.الإحسان: اتقان الطاعة وتخليصها من شوائب الشرك، وفعل الخير أيضاً ] كله إحسان.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيتين: الآية الأولى في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم، وتعلمهم أن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم، وهكذا الحرمات قصاص بينهم ومساواة، ومن اعتدى عليهم فليعتدوا عليه بمثل اعتدائه عليهم، وأمرهم بتقواه عز وجل وأعلمهم أنه معهم ما اتقوه بالتسديد والعون والنصر ]، فهو معهم ما اتقوه، أي: مدة ما هم متقون، بماذا؟ بالتسديد والعون والنصر.[ وأما الآية الثانية فقد أمرهم بإنفاق المال للجهاد لإعداد العدة وتسيير السرايا والمقاتلين، ونهاهم أن يتركوا الإنفاق في سبيل الله الذي هو الجهاد، فإنهم متى تركوا الإنفاق والجهاد كانوا كمن ألقى بيده في الهلاك، وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم وقاتلهم وانتصر عليهم فهلكوا قطعاً، كما أمرهم بالإحسان في أعمالهم كافة ]، حتى في الطبخ، فالذي ما يحسن طبخ قدر هل يؤكل طعامه؟ الشاي إذا لم تحسن طبخه لا يشرب، فكيف بمعراج السماء الصلاة، إذا لم تحسنها ما تنتج الطاقة ولا تولدها أبداً.[ وإحسان الأعمال: إتقانها وتجويدها، وتنقيتها من الخلل والفساد، وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم بتأييدهم ونصرهم، فقال تعالى : وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] ومن أحبه الله أكرمه ونصره وما أهانه ولا خذله ]؛ لأن الله لا يهين أحباءه ولا يخذلهم، فما ذلك من شأنه عز وجل.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيتين:من هداية الآيتين:أولاً: احترام الشهر الحرام وسائر الحرمات ]، فهيا نحترم الشهر الحرام، إذا دخل القعدة تركنا التدخين، دخل الحج فتركنا لعب الكيرم، دخل المحرم فتركنا السهرات، هذه أشهر حرم نحترمها، دخل رجب فما بقي فينا من يعصي الله، هذا شهر الله.[ ثانياً: جواز المقاصة والمجازاة لمن اعتدى بحيث يعامل بما عامل به سواء بسواء ].هذا في حق الحكومات لا في حق الأفراد، فـ( المرء مقتول بما قتل )، والقصاص لا يسقط إلا في شيئين: فجر فاجر بامرأة فماتت، فلا يقتل بالفجور به، وكيف يمكن ذلك؟ أو لاط لائط فقتل، فهل يقتل بطريق اللواط؟ كلا، أما إذا ضرب بعصا فإنه يضرب بعصا، أو سقى السم فإنه يسقى السم، أو قطع الرأس فإنه يقطع رأسه، المرء مقتول بما قتل، فالقصاص: المساواة.ففي الحديث: ( المرء مقتول بما قتل )، فالجارية التي قتلها اليهودي بحجر على رأسها أما قتله الرسول صلى الله عليه وسلم بالحجر أيضاً؟ هذا الحكم الشرعي، قتل برصاص يقتل برصاص، ذبح بسكين يذبح بسكين عندما يقام الحد عليه، إلا من قتل بزنا أو لواط فإنه لا يقتل بذلك، استثنى أهل العلم هذا الذي لا يمكن فيه المقاصة، فيقتل وكفى، فإن زنا حتى ماتت من زنا بها فإنه يقتل بها، أو لاط حتى مات من فعل به فإنه يقتل به، وفي باقي الأشياء المقاصة، كما لو أخذ منك نعجة فإنه تؤخذ منه نعجة، أخذ ألف ريال فيؤخذ منه ألف ريال، قطع يداً فتقطع يده، والذي يقوم بهذا هو الحاكم، أما أفراد الشعب والأمة فلا، ومن عفا وسمح وصفح فذلك أفضل له، وإن طالب بحقه فالقصاص، وقد سبق ما حكيناه عن الشافعي رحمه الله تعالى. [ ثالثاً: رد الاعتداء والنيل من المعتدي الظالم البادئ بالظلم والاعتداء ].هذا للدولة، يفعله إمام المسلمين إذا اعتدت دولة مجاورة، مع أن هذا منسوخ -كما قدمنا- بآية الجهاد، فالآن اعتدوا أو لم يعتدوا فنحن نعسكر أمامهم وندعوهم إلى الله ليدخلوا في رحمة الله، فهذه الآيات نزلت قبل آيات سورة التوبة.[ رابعاً: معية الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى والإحسان ].معية الله: كون الله معهم يؤيدهم وينصرهم ويفتح عليهم ويحبهم، من هم؟ أهل التقوى والإيمان والإحسان، أما المعية العامة فالله عليم بكل خلقه، إذا كانت السموات يطويها بيمينه فأين البعد بيننا وبينه؟ نحن بين يديه حيثما كنا، فقط جاء المدفوعون إلى تحطيم الإسلام والقضاء عليه فجعلوا الحلول مبدأ وقالوا: الله حل في كل شيء، والله منزه أن يحل في هذه الأجسام الغارقة الباطلة الهاوية، هذا الكون يحمله بيديه فكيف يحل فيه؟ وهذا المذهب مذهب شر، وأخزاهم الله وما بقي منهم أحد، فحين نقول: الله معنا بنصره وتأييده فنعم، والله مع الكل أينما كانوا؛ لأنهم بين يديه كالنملة بين يدي إنسان، لا يخفى من أمرنا على الله شيء ولا يبعد عن الله منا شيء.[ فضيلة الإحسان لحب الله تعالى للمحسنين ].الإحسان ذو فضل كبير؛ لأنه يرزقك حب الله، وأي شيء يقربنا من حب الله هو أحب الأشياء إلينا، فالإحسان يقرب من حب الله؛ فالإحسان فضيلة لا تساويها فضيلة، اللهم اجعلنا من المحسنين.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (126)
الحلقة (133)
تفسير سورة البقرة (91)
شرع الله عز وجل لعباده المؤمنين حج بيته الحرام، وجعل ذلك ركناً من أركان الإسلام التي يقوم عليها، فمن استطاع حج بيت الله وتوفر له زاده وراحلته وكفاية أهله وجب عليه الحج ولم يعذر بتركه، والحج يصاحبه أحياناً ما يمنع الحاج من إتمام حجه، لذا شرع الله له أن يشترط عند تلبيته بحج أو عمرة، حتى إذا ما أحصر ومنعه مانع من إتمام نسكه جاز له أن يتحلل في مكانه ويعود إلى بلده ولا شيء عليه.
تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، ورجاؤنا في الله أن يتحقق لنا ذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وها نحن مع قول ربنا تبارك وتعالى من سورة البقرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196].معاشر المستمعين والمستمعات! هيا بنا نتدارس هذه الآية.فقول ربنا جل ذكره: وَأَتِمُّوا [البقرة:196] يخاطبنا الله عز وجل والحمد لله، ومن نحن وما نحن حتى يخاطبنا رب السماوات والأرض ورب كل شيء ومليكه؟ فالحمد لله، بم فزنا -يرحمكم الله- بهذا الكمال؟ هل بشرف الآباء.. بالوطن، بم؟ بإيماننا؛ لأن المؤمن حي متهيئ لأن يخاطب ويسمع ويعي ويفعل ويترك، والكافر ميت، فالحمد لله أن أحيانا الله مرتين: أحيانا بأرواحنا وأحيانا بالإيمان، فأصبحنا أهلاً لأن يشرفنا بأمره ونهيه.إذاً: نحن مأمورون بهذا، فبماذا يأمرنا؟ قال تعالى: وَأَتِمُّوا [البقرة:196] أيها المؤمنون الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
كيفية إتمام النسك لله تعالى
والسؤال: كيف نتمهما لله يا شيخ؟ بين لنا ما الطريق؟ الجواب: أولاً: ألا يخطر ببالنا خاطر يلفتنا إليه ويتركنا بعيدين عن ربنا، بل نتمهما لله وحده لا شريك له، ومن هنا فلا رياء ولا سمعة ولا قصد تجارة ولا كسب ولا فائدة، لا هم لك يا عبد الله إلا أن تحج أو تعتمر. وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فلا يحل لك أن تدخل في حج ثم بعدما تأتي ببعض الفرائض تقول: يكفينا، أو: أنا شعرت بتعب فسأعود إلى أهلي، فإتمامهما من كلمة: لبيك اللهم لبيك إلى طواف الوداع، فلا يحل أن تنقص منهما واجباً ولا ركناً، هذا الإتمام، وأن يكون عملك خالصاً لله، لا تقل: أنا ذاهب إلى الحج وسأشتري بضائع من مكة فأربح فيها ما يشاء الله أن أربح، مع العلم أنك إذا ما نويت ثم وجدت بضائع في مكة أو في منى واشتريت للتجارة فلا حرج؛ لقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، لا تشرك التجارة في الحج أو العمرة، وإلا فما أطعت الله تعالى في أمره إياك بقوله: (وأتموا)، فقد نقصتهما وما أتممتهما.خلاصة ما نفهم به هذا ونقوله ونعمل به: أولاً: الإخلاص في هذه العبادة كغيرها، لا ليقال: حج فلان ولا اعتمر فلان، ولا لنشاهد البشرية أو نرى مظاهر الناس، لا يخطر هذا ببال، وإن خطر بباله لفظه وطرده، لا يريد إلا زيارة بيت الله والوقوف بعرفات يوم يباهي الله بعباده المؤمنين.ثم هذه النية -كما قدمنا- لا يخلط فيها عمله التعبدي بعمل دنيوي، لأنه تعالى قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] فإتمامهما كيف يكون؟أولاً: بالإتيان بكل منهما وافياً كاملاً، لا يسقط ركناً ولا فرضاً ولا واجباً.ثانياً: أن تكون الفريضة لله لا يتمها لغير الله، ومن ذلك: ألا يشرك التجارة فيها فيحمل النقود ويقول: أنا إذا فرغت من الحج أو العمرة سأشتري بضائع وأبيعها، بل ينفي هذا عن نفسه، وإن حصل له ذلك.
معنى قوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي)
وقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] الإحصار والحصر معناه: أن عدواً أحصرنا في الطريق وقال: لن تدخلوا مكة، كما فعل المشركون بالمؤمنين في عمرة الحديبية، إذ خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وأربعمائة معتمرين يلبون من ذي الحليفة، وعلمت قريش بخروجهم فأعدت عدتها وجهزت جيشها وقالت: لن يدخلوا، إذاً: فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن نزل بالحديبية، وجرت سفارة بينه وبين قريش، وانتهت بألا يعتمروا هذا العام ولهم أن يعتمروا العام المقبل، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك تسمى بعمرة القضاء أو القضية، وتمت الاتفاقية على صلح بارك الله فيه ونفع الله به المؤمنين نفعاً عظيماً، ومن ذلك إلقاء السلاح وإطفاء نار الحرب عشر سنين. فحين حصروا ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن أمر أصحابه بأن ينحروا ويذبحوا ما عندهم ويتحللوا.
حكم التحلل بحصر المرض
إذاً: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة:196] بسبب العدو أو بسبب مرض شديد مانع، وهنا يقف مالك وحده ومعه الشافعي فيقولان: المريض يبقى على إحرامه ولو بقي سنة لا يتحلل حتى يعود إلى مكة ويطوف، وفي هذا من الشدة ما فيه.ثم إنه ليس عندهم دليل، فالأمر قضية اجتهادية، فما دامت اجتهادية فالإحصار كما يكون بالعدو يكون بالمرض، سواء بالسيف أو بالأذى، وهل إذا ما استطاع أن يواصل العمرة أو الحج يبقى سنة وهو في مرضه على إحرامه يلبي؟ رحمة الله أوسع من هذا؛ فلهذا آثرنا هذا، فجعلنا الإحصار بالعدو وبالمرض الشديد، لا أن يبلغه أن امرأته ماتت أو حدث حادث في بيته فيرجع، هذا لا يسمى إحصاراً، الإحصار حقاً من الحصر والضغط، فما يستطيع، لمرض، أو عدو قال: لن تمر هذا العام، فما الحكم؟قال تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البقرة:196] فالواجب هو فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] إن استطعت، يعني: شاة أو بقرة أو بعيراً، الذي يتيسر لك، فَمَا اسْتَيْسَرَ [البقرة:196] أي: استسهل وخف وسهل، فاذبح وعد إلى بيتك. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] والهدي ما يهدى إلى الحرم لجيران الله عز وجل، فالواجب هو ما استيسر من الهدي.
معنى قوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله)
(( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ))[البقرة:196] إذا كان في الإمكان أن نبعث بالغنم.. بالبقر.. بالإبل إلى مكة فتذبح في الحرم، وحين نعلم أنهم وصلوا وانتهوا نحلق رءوسنا ونلبس ثيابنا ونعود، والمسافة ليست بعيدة، وإذا كان لا يتأتى أن نذبح في مكة فإننا نذبح في المكان الذي نحن فيه إذا كنا في قرية من القرى، فإن لم نستطع فإنا نذبح في أي مكان، أو نعود إلى المدينة ونذبح ونوزع على الفقراء والمساكين، (( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ))[البقرة:196]، وبعدما نذبح نحلق شعورنا ونعلن عن تحللنا.(( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ))[البقرة:196] ومحله الحرم، ليس مكة فقط ومنى، الحرم حدوده عشرين كيلو من الغرب وحوالي سبعة عشر من الشرق وكذا من الجنوب وسبعة كيلو من الشام؛ لأن ميقات عائشة هو التنعيم أو جبال التنعيم، هذه قريبة من مكة، والآن دخلت المباني وغطتها، لكن بقيت حراماً إلى يوم القيامة.
حكم التحلل بحصر الحوادث وحكم الاشتراط في الحج
وأما الحصر بالحوادث فالحوادث تختلف، أنا أصابني حادث وانقلبت بي السيارة وضربت في رأسي وبقيت محرماً في المستشفى حتى شفيت وعدت إلى مكة واعتمرت، فإذا كان الحادث خطيراً فحينئذ هذا هو المرض الخطير الذي يحصر به، وأما إذا كان جزئياً وأنت بوعيك، وإنما جراحات أو آلام فقط فلتصبر عليها بالعلاج حتى تشفى، هذا كله إذا لم يشترط المعتمر أو الحاج عند إحرامه، فإن اشترط وقال: لبيك اللهم لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة، وإن محلي حيث تحبسني من الأرض، فهذا الذي اشترط على ربه إذا أصابه حادث أو مرض أو منع من عدو فما عليه إلا أن يتحلل ويعود إلى دياره.هذه القضية خالف فيها مالك وحده، ولم يبلغه الاشتراط، ولكنه صح وثبت وعمل به الصحابة، فلا نلتفت إلى رأي إمام من الأئمة والحديث أمامنا، ولم نعمل نحن بالحديث، فقد عمل به أئمة من إخوان مالك، ونحن لا قيمة لنا.فلهذا من اشترط على ربه تعالى أن محله من الأرض حيث يحبسه، وحبس بالفعل بمرض أو بمانع آخر فليتحلل بحلق رأسه وليعد إلى بلاده، ولا حرج عليه. وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] أين محل الهدي؟ الحرم، إذا كان في الإمكان أن يبلغ، وإذا قالوا: لا يدخل شيء بلادنا، فماذا نصنع؟ نفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ نحر هناك في الحديبية، وإذا ما استطعنا لأنه ما عندنا شاة ولا بعير فإنا نعود إلى ديارنا وننحر وقد امتثلنا أمر ربنا عز وجل.
معنى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)
وقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] هذا حكم آخر، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ [البقرة:196] أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات مَرِيضًا [البقرة:196] به جراحات لا يستطيع أن يعري جسمه، لا بد من ثياب، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ [البقرة:196] لا بد أن يحلق شعره؛ لأن القمل آذاه، كما حدث للصحابي الجليل كعب بن عجرة . فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196] فليغط رأسه، فليلبس الثوب أو السراويل وعليه فدية، فالواجب فدية مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الصيام فقال: ثلاثة أيام، وفسر الصدقة: بإطعام ستة مساكين لكل مسكين كيلو ونصف أرز، والنسك: ذبح شاة أو بقرة أو بعير حسب قدرته، النسك هنا معناه: ذبح شاة لهذا الذي غطى رأسه أو لبس ثيابه لمرض أو لأذى في رأسه كالقمل ونحوه، هذه رحمة الله بعباده المؤمنين، وهذه الفدية على التخيير، إن شئت ذبحت أو صمت أو أطعمت.
معنى قوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] فرغنا من هذا الحكم، وبقي حكم آخر: فَإِذَا أَمِنتُمْ [البقرة:196] من العدو، وانتهت حرب الحديبية، فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] بمعنى: أحرم بعمرة من أجل أن يقضيها ويبقى في مكة فإذا جاء الحج أحرم به، فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] بأن يحرم في شوال في القعدة بالعمرة ويقصر شعره ويبقى في مكة، فيدخل الحج فيحج، فماذا عليه؟ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] فما الواجب؟ قال تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، الذي تيسر: شاة.. بعير.. بقرة، ويشترك سبعة في بقرة أو بعير.
معنى قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [البقرة:196] إما أنه ما وجد المال، أو ما وجد الشاة وتعذر وجودها، فالواجب ما هو؟قال تعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196] في مكة ومنى لا في جدة، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] فالمجموع عشرة كاملة، أحرم في شوال بالعمرة وجلس، ثم دخل شهر الحج وهو عازم على الحج، فإنه يصوم ثلاثة أيام: أول الحجة ثاني الحجة ثالث الحجة، أو ثاني وثالث ورابع، أو ثالث ورابع وخامس، أو خامس وسادس وسابع؛ لكن كونه أحرم بالعمرة في شوال وتحلل ينتظر الحج فقد لا يحج، فلهذا قال تعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196].قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] أي: إلى بلادكم ودياركم. تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196] فثلاثة وسبعة عشرة.والخلاصة أن من أحرم بالعمرة في أشهر الحج وبقي في مكة ينتظر الحج ليحج فماذا عليه إن حج؟ عليه هدي ذبح شاة أو أن يشترك في بعير مع سبعة أنفار هو السابع، فإن لم يجد المال أو الحيوان فما هو الواجب؟ صيام عشرة أيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، يصوم ثلاثة أيام في شهر الحج، فهو أحرم بالعمرة في القعدة وجلس، فما هناك حاجة إلى أن يصوم؛ لأنه لا يدري أيحج أو لا؟ لكن حين يدخل شهر الحج فمعناه أن المسألة قربت، فهنا ما دام ليس عنده نقود فإنه يصوم ثلاثة أيام، ولو نسي أو عجز يصوم حتى بعد العيد بثلاثة أيام، أيام التشريق يصح أن يصومها، يصوم السابع والثامن والتاسع أيضاً إلا العاشر، فيوم العيد لا يصومه، أو يصوم الثلاثة الأيام بعده، فإذا انقضت الأيام الثلاثة وما أصبح يسعه الصيام فعليه الهدي في ذمته.
معنى قوله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)
وقوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] هذا الذي سمعتم من حكم صيام عشرة أيام أو ذبح شاة على من تمتع، هذا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]، أما الذي يسكن في مكة وفي منى وفي الحرم بأهله فهذا لو اعتمر ألف عمرة ما عليه هدي، فهذا في بلده، والحكم لمن جاء من خارج الحرم من جدة من الطائف من المدينة من أسبانيا وجلس في مكة ينتظر الحج وقد دخل بعمرة في أشهر الحج، هذا الذي عليه الهدي، أما الذي يسكن في مكة فخرج إلى الطائف وإلى جدة ودخل بعمرة وحج من عامه، فهذا ليس عليه هدي أو صيام؛ لأن الله تعالى قال: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]. ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] أما من كان أهله نساء وأولاداً في مكة فإنه لو يعتمر عشرين عمرة ليس عليه هدي. ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]، أما من كان يسكن في داخل الحرم ولو ولم يكن في مكة بل حدود الحرم؛ فهذا إذا اعتمر في أشهر الحج وحج فلا هدي عليه ولا صيام.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب)
وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:196] انتبهوا خافوه فلا تفسقوا عن أمره وتخرجوا عن طاعته وتتصرفوا كما تشاءون، وإن كان هذا اللفظ عاماً في أوامر الله ونواهيه، ولكن بصورة خاصة هذه التعاليم لا يعبث بها أو يلعب بها كما علمنا.وهددنا فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196]إذا عاقب؛ فلهذا لا يحل التلاعب أبداً بالعبادة، تؤدى كما هي، وهذا لصالحنا؛ لأن العبادة لو بذلت فيها الملايين وجهدك بكامله وما أديتها على الوجه المطلوب لا تنتج لك حسنة واحدة، وأنت مطالب بها لأجل زكاة نفسك لتدخل الجنة.
الخلاف في اعتبار المعتمر في أشهر الحج متمتعاً إذا رجع إلى بلده
وهنا مسألتان:الأولى: اختلف في هذا الرجل إذا اعتمر في أشهر الحج وعاد إلى بلاده ثم حج من عامه هل يعتبر متمتعاً؟الصحيح الذي عليه أكثر الأئمة أنه ليس بمتمتع متى عاد إلى بلاده، حتى ولو كان في الطائف وجدة أو بحرة، وهذا الذي عليه أئمة الإسلام ونقول به.والقول الشاذ يقول: ما دام حج من عامه فهو متمتع، ولا نلتفت إلى هذا، هذه واحدة.ثم إن اليمني الذي جاء من الجنوب واعتمر ثم جاء إلى المدينة بالشمال هل يعتبر متمتعاً أو غير متمتع؟فنحن نقول: لو كان السفر سفراً كما كان فوالله! لا نقول: إنه متمتع أبداً، يأتي من مكة إلى المدينة في عشرة أيام على رجليه ويعود في عشرة أيام، فأين التمتع؟ تمتع بماذا؟ لا بنوم ولا براحة، ولكن المسألة الآن بالطائرة يسير ساعتين ويعود، فماذا نقول؟نقول: إن استطعت أن تعتبر نفسك متمتعاً فخير لك فصم أو اذبح، أما لو كان السفر كما كان فيأتي المدينة في عشرة أيام ويعود في عشرة أيام فأي شيء تمتع به؟ لا راحة ولا نوم، لكن المتمتع ذاته يستقر في مكة، يأكل ويشرب وهو نائم مستريح، وإذا جاء الحج حج، ويتمتع حتى بزوجته حين يأتيها. لكن هذا السفر إلى المدينة فيه مشقة؛ فلهذا ترانا إذا وجدنا الرجل ضعيفاً نرحمه فنقول: ما دمت قد تجاوزت الميقات لمسافة القصر فلا عليك شيء، وإن وجدناه سميناً نقول: خير لك أن تذبح شاة وتطمئن نفسك؛ لأن الجمهور على أن من خرج من الحرم مسافة قصر-يعني: مسافة ثمانية وأربعين كيلو أو خمسة وسبعين كما عند بعض الأئمة- فما أصبح متمتعاً، وهذا كله ملاحظ أيام كان الذي يمشي مسافة قصر على الأقل ثلاثة أيام ذهاب وثلاثة أيام إياب وهو في شقاء وتعب، أما اليوم فالحمد لله نطير كالملائكة. فمن هنا خذوا هذه ولكم أن تفتوا بها بعد موتي ولا تخافوا، فمن كان فقيراً ضعيفاً فلا تحملوه؛ فقد تجاوز مسافة قصر مرتين أو ثلاثاً، أليس كذلك؟ وهذا مذهب الجمهور، فقولوا: لا بأس، وإذا رأيتموه في استطاعته أن يذبح أو يصوم فقولوا: الأفضل لك لتطمئن أنك تصوم أو تطعم، هذه القضية الأولى.
المفاضلة بين أنواع النسك في الحج
الثانية: أي أنواع النسك أفضل: الإفراد أو التمتع أو القران؟الآية: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196] معناها: فمن لم يتمتع فلا شيء عليه، فالآية نص في مشروعية الحج بدون عمرة.فلهذا أئمة الإسلام وهداة المسلمين على أن أنواع النسك ثلاثة: الإفراد والتمتع والقران، إن شئت أفردت أو تمتعت أو قرنت، الكل جائز.وذهب بعض الذاهبين في متاهات فقالوا: لا إفراد أبداً! فيقال لهم: الله يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196]! فقالوا: ليس بصحيح، فقيل لهم: كيف وهذا تخفيف الله عز وجل؟ ولهم شبهة دحضها أهل العلم وانتهينا منها، الشبهة هذه أنه لما حج الرسول صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وهي الأولى والأخيرة، فرحمة بالمؤمنين الذين كانوا يسيرون على أرجلهم أو على البهائم، فرآهم تعبوا وشعثوا فقال: ( من ساق منكم الهدي فلا يحل، ومن لم يسق الهدي فليجعل حجه عمرة )، وبهذا أدى فائدتين:الأولى: رحمة بإخوانه المؤمنين الشعث الغبر من التعب، قال لهم: تحللوا، والآن بقي على الحج أربعة أيام أو خمسة فتمتعوا وأتوا حتى نساءكم.ثانياً: كان العرب لا يجيزون ولا يبيحون أبداً التمتع في أشهر الحج، لا يتمتعون إلا في صفر، فأبطل الرسول هذه البدعة التي كان عليها المشركون.ففهم من فهم أنه لا إفراد، أحدهم في قرن التابعين، والآخر في القرن الرابع وهو ابن حزم ، وآخر في القرن السابع، وآخر في القرن الرابع عشر، قالوا: ما هناك إفراد!ونحن سلمنا أن أنواع النسك ثلاثة، والله! إنها لثلاثة: الإفراد والتمتع والقران، يبقى: أيها أفضل؟ الجواب: إذا سقت الهدي من قريتك من دويرتك وأنت تلبي فالقران أفضل، وجه الفضل فيه: أن الله اختار لرسوله القران ولا يختار لرسوله إلا ما هو أكمل وأفضل، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ) قاله تطيباً لخواطر إخوانه؛ حتى لا يكربوا ولا يحزنوا، لكل مقام مقال، حتى تطيب خواطرهم، وإلا فالله لا يختار لرسوله إلا أكمل العبادات.أقول: من ساق الهدي من القصيم من نجران من تبوك من المدينة من الطائف، ساق جمله أو شاته وهو يلبي، هذا القران أفضل له، ومن لم يستطع سوق القران وحج قارناً فحجه مفضول. ومن استطاع أن يذهب إلى مكة معتمراً ويعود إلى بلاده ثم يعود فيحج من عامه فالإفراد أفضل بلا شك؛ لأنه أنفق نفقة في سفر خاص للعمرة وعاد إلى دياره وعاد إلى الحج بنفقة أخرى، فكيف يكون مفضولاً وقد أنفق نفقتين؟وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (127)
الحلقة (134)
تفسير سورة البقرة (92)
بعد أن بين الله عز وجل حكم الحج إلى بيته الحرام وفضل ذلك ذكر هنا الأشهر التي يكون فيها الإحرام بالحج، وهي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، وبين أن من أحرم فيها بالحج فيجب عليه أن يجتنب الرفث والفسوق والجدال، حتى لا يفسد حجه أو ينقص من أجره فيه، وانتدب سبحانه من أراد الحج أن يكثر من فعل الخيرات من صدقات وغيرها، وأن يتقي الله ربه، فالتقوى خير زاد.
تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل. وسنتلو هذه الآيات الثلاث، ثم نتدارسها بيننا؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، وأعظمه أن يذكرنا الله في الملكوت الأعلى.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:197-199].
المراد بأشهر الحج المعلومات
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ؟ هذا خبر، فمن المخبر؟ الله جل جلاله، كيف عرفنا أنه الله؟ لأن هذا كتابه، أنزله على من؟ على مصطفاه ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. هذا الخبر له شأن أم لا؟ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] ما معنى هذا الخبر؟ الحج الذي هو زيارة البيت، وأداء المناسك من الإحرام إلى الوقوف بعرفة إلى طواف الوداع، هذا الحج أشهر معلومات معروفات محفوظات، وما هو في حاجة إلى ذكرها؛ لأن العرب يعرفونها، ولأن رسوله صلى الله عليه وسلم ملزم ببيانها، لأنه لو قال: الحج أشهر معلومات هي شوال والقعدة والحجة فسيصبح القرآن لا يحفظ، ولا تحمله الإبل لطوله! فلهذا يأتي مجملاً والرسول يبينه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فصلوا عليه وسلموا تسليماً.إذاً: المراد من الأشهر المعلومات التي يحرم فيها العبد بالحج هي شهر شوال بعد رمضان مباشرة، والقعدة، وعشر ليال من الحجة، هذه الأشهر يحل لك أن تحرم بالحج من أول شوال، وتبقى تلبي وتذكر الله وتعبده شهرين وعشر ليال، وليس هناك من يلومك، لو أراد أحدنا أن يحرم من رمضان، أو من شعبان، أو رجب فلِم يرهق نفسه؟ ما الداعي إلى هذا؟ فالله عز وجل بين لنا الأشهر التي نحرم فيها ونلبي؛ فلهذا يكره للمؤمن أن يحرم بالحج في غير أشهره، وإن فرضنا أنه أحرم فإنا نقول له: تحلل بفدية، واخرج من هذه، وإن أصر فليبق يذكر ربنا الليل والنهار في العبادة، لأن المحرم لا يتأتى له العصيان، كيف يفسق؟ مربوط بربه، اتركوه محرماً.وهل يستطيع أحدنا أن يحج يوم العاشر من ذي الحجة، فيحرم ويأتي يلبي، ويدخل عرفة وحده ويرجع؟ كلا. فلو أحرم بالحج ليلة العيد وأدرك ووصل إلى عرفات في نفس الليلة قبل الفجر فيعتبر حاجاً وقد صح حجه، لكن إذا أحرم من الشام ومشى وتعطلت الدابة أو هبطت الطيارة وما وصل إلا بعد الفجر؛ فنقول: في العام الآتي تحج إن شاء الله، الحج الآن انتهى، فامش وطف بالبيت واسع وتحلل وانوها عمرة؛ وذلك لأن مولانا عز وجل علمنا فقال: الحج المعروف وتلك العبادة في أشهر معلومات.
معنى قوله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)
وقوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] هذا خبر آخر أم لا؟ وهو يحمل معه الإنشاء والتكليف، فمن فرض على نفسه في تلك الأشهر الحج، وقال: لبيك اللهم لبيك حجاً لا رياء فيه ولا سمعة فهذا دخل في العبادة، كالذي يحرم بالصلاة: (الله أكبر) ودخل في الفريضة والنافلة، فهل يجوز أن يضحك؟ يأكل؟ يشرب؟ ينادي أمه؟ يقول: أغلقوا الباب؟ لا كلام أبداً ولا ضحك ولا أكل ولا شرب؛ لأنه دخل في مناجاة الله، ولو تكلم بكلمة بطلت صلاته، فالحج إذا لبى العبد وقال: لبيك اللهم لبيك فقد دخل في هذه العبادة، ومن ثم فَلا رَفَثَ [البقرة:197]، الرفث بعبارة موجزة يطلق على الجماع: وطء الزوجة أو الجارية، ويشمل كل مقدمات الجماع من الغمز والمضاحكة والمجالسة، كل تلك المقدمات داخلة في الرفث.فمن لبى ودخل في الحج لا يحل له أن يجامع امرأته أبداً، ولا يحل له أن يغازلها أو يلمسها بشهوة؛ لأنه كالذي في الصلاة. فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] ما الفسوق؟ هو الخروج عن طاعة الله ورسوله بترك واجب أو بفعل حرام، فمن منا يعجز عن حفظ هذه الكلمة؟ من هو الفاسق؟ الذي يترك الواجبات ويغشى المحرمات، هذا الفاسق، على شرط أن يواصل ذلك، أما من ترك واجباً وندم ثم فعله فما يبقى فاسقاً. فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] لا معصية مطلقاً وأنت محرم، لا تحل أبداً، فهي كبيرة عظيمة، وإليكم مثالاً: سبك لفلان وأنت خارج الصلاة كبيرة عظيمة أم لا؟ لكن إذا قلت وأنت تصلي: يا ملعون فكيف يكون هذا الموقف؟ أهو بشع أم لا؟ فسبك للمؤمن وأنت وهو لستما في الصلاة حرام، كبيرة من كبائر الذنوب أم لا؟ لكن أرأيت لو سببته وأنت تصلي، كيف يصبح هذا؟ فكذلك الفسق مطلقاً حرام، ولكن أن يفسق وهو متلبس بعبادة فكيف يكون هذا؟! فلا رفث بالمرة ولا وجود له، ولا فسوق، وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] وكلمة: (في الحج) ليست عائدة على الجدال فقط، بل الرفث والفسوق والجدال الكل في الحج حرام وقبيحة من أكبر القبائح؛ لأن من أحرم بالحج أصبح في الحج، والحج ما هو بيوم واحد، بل شهران وعشرة أيام، أي: سبعون ليلة. فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] ما الجدال؟ الجدل، الخصومة، كل يريد أن يثني رأي الآخر ويغلبه، حتى ولو كان في المساومة في البيع، كأن يقول: بكم الكيلو من التفاح؟ قال: بريالين. فيقول: بريال ونصف! ويتجادلان، فهل يجوز لهما؟ لا يجوز.أو أن يسأل أحدهم: كم يوماً في الشهر؟ فهذا يقول: سبعة عشر، هذا يقول: ستة عشر، ويتجادلان وهما محرمان، لا يجوز مطلق الجدل. لا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] لم؟ لأن الحاج متلبس بعبادة، هو مع الله، كيف يتفرغ ويجادل الناس ويخاصمهم؟ عرفتم هذا؟
ثواب مجتنب الرفث والفسوق في الحج
واسمعوا الرسول الكريم يقول: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، هذه جائزة محمد صلى الله عليه وسلم، من ظفر بها؟! السابقون الأولون، ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) لا شيء عليه.وإن قلت: كيف؟ فالجواب: إذا وفقك الله لهذا فأنت مهيأ من قبل، إذا وفقت لأن تحج ولم تفسق ولم ترفث فأنت مهيأ لهذا الكمال من قبل، ثم يتوب عليك ويقبل توبتك، وبذلك يمحى كل ذنب سجل عليك، وتكون كأنك ما ارتكبت ذنباً، كأنك الآن خرجت من بطن أمك.وعندنا لطيفة: فهنا ميزان معرفة الطاقة، كيف نعرف أن فلاناً خرج من ذنبه كيوم ولدته أمه؟ نقول: إذا فرغ من الحج وودع، وركب دابته أو طائرته؛ فإن رأيناه يراجع الذنوب بترك الواجب وفعل المنكر والمحرم عرفنا أن هذا ما غفر له، ما زالت نفسه ملطخة عفنة لا نور فيها ولا إشراق، لكن إذا رجع من الحج لا ينطق بسوء، ولا يتلفظ ببذاءة، ولا يمد يده إلى ما حرم الله، ولا يتخلى عن واجب؛ فهذا هو والله العظيم، هذا الذي قبل؛ لأن نفسه مشرقة كأنفس الصبيان، ما يغشى كبيرة أبداً، والنور أمامه، فكيف يعصي؟ لكن إذا كان ما قبل في الحج وما غفر له، فمعناه أنه: بقيت الظلمة على النفس أم لا؟ والسيئات متراكمة ما زالت.إذاً: من السهولة أن يحلف بالكذب في المطار، وأن يدخن وهو في الطيارة، وأن يقرأ مجلة الدعارة والعهر وهو في المطار، في الطائرة. فهذه اللطيفة خير من ألف ريال هذه، وبلغوها: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) والحمد لله. فكيف نعرف أننا فزنا بهذه الجائزة المحمدية؟ قلنا: عندما نخرج من مكة ونبدأ نباشر في الحياة؛ إن اتحد سلوكنا وانتظم، وأصبحنا مع الله كما كنا في الحج، لا كذب ولا سرقة ولا فجور، ولا حسد ولا رياء ولا شرك ولا نفاق؛ فقد علمنا أننا قد قبلنا وغفر لنا، وإن كنا نبدأ من مكة في الذنوب والآثام فما حججنا.والتعليل واضح: فحين يغفر له تزول كل ظلمة عن النفس أم لا؟ تشرق نفسه أم لا؟ فصاحب النور هل يدوس حية؟ هل يجلس في المرحاض؟ كلا، فالنور أمامه، كيف يقع -إذاً- في المحرمات والنور بين يديه؟ لكن الذي لا نور له هو الذي يتخبط.
معنى قوله تعالى: (وما تفعلوا من خير يعلمه الله)
وقوله تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] ليست القضية قضية أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال فحسب، فهناك أيضاً مساعدات، افعلوا الخير وأنتم في الحج، هذا بالكلمة الطيبة، وهذا بتعليم أخيه، وهذا بتوجيهه، وهذا بإرشاده، وهذا بسد جوعته، وهذا بسقيه الماء، وهذا بإعطائه الدواء، فعل الخيرات في الحج تتضاعف حسناته فوق العادة، وما تفعلوا من خير في الحج يعلمه الله، وإذا كان يعلمه فإنه يثيب عليه، وما قال: يجزي به، ولكن لن يضيع المعروف أبداً عند الله.
معنى قوله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) وبيان سبب نزوله
ثم قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] هذا أمر أم لا؟ فمن الآمر؟ الله. من المأمور؟ المؤمنون، يقول تعالى: تزودوا، فمن كان عنده تمر يحمل تمره معه، أو خبز ولو جافاً، أو جبن، ما تطعمه في حجك تزود به، ولا تمد يدك للناس. على الحاج أن يحمل معه طعامه وشرابه، وما تطلبه أيامه وهو في الحج، لا يحرج الناس ويفتقر إليهم ويقول: أعطوني! وإذا ما كان عنده زاد ولا طعام فالحج ما هو بواجب عليه حتى يقوى عليه، أليس كذلك؟ فالاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة، والذي ليس عنده زاد لا يحج، كيف يحج وهو يسأل الحجاج ويؤذيهم؟ حرام هذا.أراد الله رفعتنا وإعلاء مقامنا، فكيف ونحن في ضيافته نسأل غيره ونذل للأغنياء ونسألهم ونحن أولياء الله؟ فما يريد الله لنا هذا.والآية كان لها سبب نزول، فبعض إخواننا من اليمن قالوا: نحن متوكلون، كيف نذهب إليه ونطلبه ونحمل الزاد ونحن ضيوفه؟ كيف ننزل عليه في بيته ونحمل الزاد؟! فلما وصلوا إلى الحج أخذوا يسألون الناس، فنزلت هذه الآية: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] فمن ثم ما أصبح حاج من الشرق أو الغرب يأتي أبداً إلا ومعه زاده، إما نقود يشتري بها، أو يحمل طعامه وشرابه، فإن لم يكن عنده قدرة لم يحج، فكيف ببعض الفقراء من العالم الإسلامي يحجون للسؤال؟! يحج لهذا الغرض! فهذه فاحشة أكبر من الأولى، لا يجوز هذا أبداً.وقوله تعالى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] أي: تزودوا بالطعام والشراب أو بالدنانير والدراهم لتأكلوا وتشربوا وتركبوا، واعلموا أن أفضل زاد هو تقوى الله عز وجل، لا تعتز بالريالات فقط في جيبك فتقول: أنا متزود، هناك زاد أعظم من هذا، وهو تقواه عز وجل، الخوف منه جل جلاله، يتمثل في طاعته وطاعة رسوله، بفعل ما يأمران به وترك ما ينهيان عنه، هذا أغلى زاد، فالزاد محمود وقد أمر الله به، لكن لا تعول عليه فقط، عليك بتقوى الله عز وجل، وهذه التعاليم الإلهية موجهة إلى المؤمنين، زادهم الله كمالاً.
معنى قوله تعالى: (واتقون يا أولي الألباب)
وقوله: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] أمرنا بتقواه أم لا؟ إياكم أن تعصوه، وتخرجوا عن طاعته، فإن الأمر صعب، إن أرواحكم بيده، أرزاقكم بيده، مصيركم إليه، فانتبهوا يا أصحاب العقول. والألباب: جمع لب، ولب الشيء: داخله، وأين يوجد العقل؟ في الباطن، أو في المخ، فيا أصحاب العقول! اتقوا الجبار، امتثلوا أمره في هذا وفي غيره.
تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ...)
ثم قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] ما هذه الجملة؟ ما هذا الخبر العظيم؟ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [البقرة:198] أي: إثم أو حرج أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، تبتغوا: تطلبون، فمن أين؟ أمن الأغنياء؟ أم من سيدي عبد القادر؟ كلا. بل من ربكم، خالقكم، مالككم، رازقكم، من إليه مصيركم.هذه الآية أذن الله تعالى فيها للمؤمنين في أيام منى وهم في ضيافة الرحمن عز وجل ثلاثة أيام بلياليها حتى يستردوا قواهم وطاقتهم التي ذهبت في الحج، وبعد ذلك ودع وسافر.في هذه الأيام إذا بعت شيئاً زائداً فاضلاً عندك فلا بأس، وجدت بضاعة نفيسة ولا توجد في ديارك فاشتريتها فلا بأس: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا [البقرة:198] أي: تطلبوا فضل رزق من ربكم، بأية واسطة؟ بدعائه وبالبيع والشراء، على شرط: ألا يخرج من بلاده يريد هذا، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، إنما لما فرغ من العبادة وانتهى من عرفات ومزدلفة وجلس في أيام المتعة والراحة، فإن اشترى بضاعة أو باع شيئاً من عنده يرى فيه فضلاً من الله فلا بأس. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] واضح هذا المعنى؟ وسبحان الله! هل أصبحنا كلنا مفسرين للقرآن؟! أي نعم، فهو ما نزل إلا ليفهمه الرجل والمرأة، ولو اجتمع عليه المسلمون في جد لفهموه، وأصبحوا علماء ربانيين، ولو لم يقرءوا ولم يكتبوا، هذه تعاليم تلقى إليهم فقط.
معنى قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام)
ثم قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] ما معنى هذا الكلام؟ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] كيف أفضنا من عرفات؟ أفضنا: تدفقنا كالماء، ولو شاهدت الحجيج مع أذان المغرب وهم مفيضون لرأيتهم كسيل وفيضان. فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] ووصلتم إلى مزدلفة حيث المشعر الحرام فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] ما هو المشعر هذا؟ مكان الإشعار، ومشعر على وزن مفعل، كمضرب حيث الضرب، فالمشعر: مكان الإشعار في مزدلفة، وهي بين عرفات ومنى، هذا المكان في جبيل، كان المشركون في الجاهلية يشعرون هديهم هناك، يأتي من الشرق من الغرب فيشعر ناقته أو بقرته ويعلمها، والإشعار: الإعلام، يعلم بأنها مهداة للحرم، إما أن يجرحها بالمبضع في سنامها فيسيل الدم ويلطخها به في الوبر، وإما أن يعلق فيها شيئاً، ليعلم الناس أن هذه ذاهبة إلى الله، مهداة إلى الله عند هذا المكان؛ فسمي بالمشعر الحرام، وهو داخل الحرم، ما هو بخارج الحرم، كمنى داخل الحرم.إذاً: فإذا أفضتم من عرفات، ونزلتم بمزدلفة فماذا تصنعون؟ هل تغنون؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ومن هنا فالمبيت في مزدلفة واجب، فمن تركه لغير عذر وجب عليه دم والتوبة بالبكاء والندم والاستغفار، ومن عجز عن المبيت فلا شيء عليه. ومن ذكر الله في مزدلفة أن نصلي المغرب والعشاء جمعاً، المغرب دخل علينا في عرفات، والعشاء ونحن مشاة، قد يؤذن قبل أن نصل، أو نصل ولم يؤذن، الكل واحد؛ فنصلي المغرب والعشاء جمع تأخير، وهذا من ذكر الله أم لا؟ الأذان والإقامة والتسبيح هذا هو الذكر. ثم استريحوا، وقبل الفجر قوموا، فيكون الأذان والصلاة ثم الدعاء ساعة كاملة إلى قبيل طلوع الشمس وأنتم واقفون بين يدي الله تسألون حاجاتكم، حتى إذا كان الإسفار مشيتم إلى منى، والتقطتم حصيات سبع لرمي الشيطان بها.
معنى قوله تعالى: (واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:198] أين؟ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] كنتم مشركين كفرة ضلالاً تعبدون الأصنام، وفي جاهلية، فمن هداكم؟ الله. فأصبحتم أفضل الخلق على الإطلاق في هذه الأرض.إذاً: اذكروه كما هداكم، اذكروا هدايته لكم، اشكروه عليها، وذلك بدعائه واللجأ إليه، وذكره وتسبيحه وحمده، وإفاضة الخير أيضاً على إخوانكم شكراً لله على هذه النعمة، فهذه نعمة عظيمة يعرفها من عاش في الجاهلية وعاش في الإسلام. وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] أي: الذين ضلوا الطريق ما عرفوه فهم في متاهات الحياة في الجهل والكفر والضلال، فكلام الله بين.
تفسير قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)
ثم قال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] فكيف هذا؟ كان الحمس -جمع أحمس، كحُمر واحدهم أحمر، والحمس: أشراف مكة من قريش- كانت لهم ميزة أنهم لا يقفون مع الناس في عرفة في وسطها، يقفون دونها، يقفون دون عرفة في مزدلفة، حتى إذا أذن المغرب وأفاضوا يصبحون هم الأولين، لا يصطدمون مع الناس ولا يؤذونهم؛ لأنهم أشراف! فلم يرض الله تعالى لعباده هذه الحالة، فقال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] من المكان الذي أفاض منه أهل الموقف أفيضوا أنتم، لا تتميزوا بمكان خاص تقولون: هذا مكان الأشراف، حتى لا تصطدموا بالمشاة والركبان من الحجاج، هذا تعليم الله تعالى، وأصبح القرشي والحبشي على حد سواء. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] عما سبق من ذنوبكم، ولهذا فالملك والمملوك والتاجر والغني والأبيض والأسود بمجرد أن يقول: لبيك اللهم لبيك كلهم سواء: الرءوس عارية، والنعال في الأقدام، والكفن على الأبدان إزار ورداء، ولو كنت تملك بنوك أمريكا كلها فهذا هو سبيلك، أليس كذلك؟ وكذلك الطواف بالبيت، لا تقل: أنا شريف، لا تزاحمني، وكذلك السعي واحد، والذهاب إلى منى، كل الحج صورة واحدة تتجلى فيه عبودية الله عز وجل.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
يقول تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] والطعام والشراب إذا استطعتم. وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] لا تأتوا من دياركم إلا ومعكم نقودكم ودراهمكم، لا تعولوا على الحجاج يطعمونكم ويسقونكم، من لم يستطع فلا يأت، وتزودوا لحجكم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] تأتي بالأموال ولا تطيع الرحمن، هل ينفعك ذلك؟ فهذا تنبيه عجيب.وقوله: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] خافوني يا عقلاء قبل أن نحيل نعمتكم إلى نقمة، وسعادتكم إلى شقاء. وكيف نتقيك يا رب؟! يقول: لا تعصني، نفذ أوامري هذه وطبقها، بهذا تتقيني، لا بالجبال ولا بالجيوش ولا بالحصون، يتقى الله بالإذعان له، بالتسليم له، وهل في الإذعان والتسليم له شقاء؟ والله! لا شقاء أبداً، ما فيه إلا زيادة كمال، لا تفهم يا غافل أن الله يأمر بتقواه لإهانتك والتحكم فيك، انزع هذا الباطل من ذهنك، والله! ما أمرنا إلا بما يسعدنا وينجينا من الشقاء والبلاء، ولا نهانا عن شيء إلا لأنه ضار بنا، مدمر لحياتنا، وهو الرحمن الرحيم.وما تراه من ضعف وهزال وشقاء وذل وهون فهو والله لعصيانه، لا بفعل أوامر وترك نواه، بل لخروجنا عن طاعته، كالذي نهاك أن تأكل السم فأكلته فإنك تموت، أنت الذي أمت نفسك. وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] ما هذه الجملة؟ ما هذا الخبر؟ أي: لا حرج إذا بعت واشتريت أيام منى، لكن لا أنك تأتي لهذا الغرض، ثم ماذا؟ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. هذا بيان أن النزول بمزدلفة والمبيت بها لذكر الله واجب، أمر الله به: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] والأذان والإقامة والصلاة ذكر، وأي ذكر أعظم من هذا؟ وقوله: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198] هل هذه تتلاءم مع الصحابة فقط؟ فنحن أما هدانا؟ من أمثالنا ملايين ضلال، بل مليارات البشر لا يعرفون الله ولا يقفون بين يديه، فهل هدانا نحن أم لا؟ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] أشراف مكة الحمس كانوا يقفون في مكان مستقل حتى يبتعدوا عن الاصطدام حين يفيض الناس، فقال تعالى: لا، أفيضوا مع الناس في وقت واحد من مكان واحد. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة:199] أستغفر الله .. أستغفر الله، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] من استغفره غفر له، ومن استرحمه رحمه، إذ هذه صفات الكمال لله تعالى، فاستغفروه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات:أشهر معلومات: هي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة، هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج ]، أما العمرة ففي أي يوم طوال السنة، لكن الحج في هذه الأشهر.[ فرض الحج: نوى الحج وأحرم به ]، فقوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197] يعني: فرضه على نفسه، أحرم به ودخل فيه.[ فَلا رَفَثَ [البقرة:197]: الرفث: الجماع ومقدماته ] التي تسبقه، وهل الجماع يقع بدون مقدمات؟ مستحيل هذا، كيف يتم؟ [ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197]: الفسق والفسوق: هو الخروج عن طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.الجدال: المخاصمة والمنازعة.الجنا : الإثم. تَبْتَغُوا فَضْلًا [البقرة:198]: تطلبوا ربحاً في التجارة من الحج. أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]: الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج، وذلك بعد غروب الشمس من اليوم التاسع من شهر الحجة.المشعر الحرام: مزدلفة، وذكر الله تعالى عندها هو صلاة المغرب والعشاء جمعاً بها، وصلاة الصبح ].
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات.ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة، فأخبر تعالى أن الحج له أشهر معلومة، وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة ]، يقال: الحِجة والحَجة والقِعدة والقَعدة، كلها جائزة.قال: [ فلا يحرم بالحج إلا فيها ]، أما العمرة فأحرم حيث شئت، [ وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال حتى لا يفسد حجه، أو ينقص أجره ]، إما أن يفسد بالكلية أو ينقص الأجر، كيف؟ أرأيتم من جامع امرأته وهو محرم هل فسد حجه أم لا؟ بالإجماع فسد حجه، ومن كذب كذبة أو قال باطلاً وهو في الحج هل يفسد حجه؟ والله! ما فسد، وإنما نقص أجره؛ لأن العبارة كما ترى: [ وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال؛ حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره ]، إذاً: يفسد بالجماع، وينقص بفعل الحرام.قال: [ وانتدب الحاج إلى فعل الخير من صدقة وغيرها، فقال تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197]، ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به، وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال، فقال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197]، وأرشد إلى خير الزاد وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم والعبد غير محتاج ]. فهناك من يسأل ويوفر في المال، فهو غير محتاج، أكثر المتسولين هكذا، عندما يموت يجدون عنده الألوف، لأنه ألف واعتاد، وإلا فالمؤمن ما يسأل أبداً، فإن جاع واشتد جوعه ما يقول: أعطني مائة ريال، يسأله أن يشتري له قرص عيش على قدر حاجته، أو يقول: أنا أتعشى معك الليلة، لا إله إلا الله! أين أمتنا من هذه الكمالات؟ قال: [ وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال، فقال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197]، وأرشد إلى خير الزاد وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم، والعبد غير محتاج، وأمرهم بتقواه عز وجل، أي: بالخوف منه؛ حتى لا يعصوه في أمره ونهيه، فقال: وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197] والله أحق أن يتقى؛ لأنه الواحد القهار، ثم أباح لهم الاتجار أثناء وجودهم في مكة ومنى، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] يريد: رزقاً حلالاً بطريق التجارة المباحة، ثم أمرهم بذكر الله تعالى في مزدلفة بصلاة المغرب والعشاء والصبح بها، وذلك بعد إفاضتهم من عرفة بعد غروب الشمس، فقال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلال الذي كانوا فيه، وانتدبهم إلى شكره، وذلك بالإكثار من ذكره، فقال تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198].ثم أمرهم بالمساواة ]، المساواة في عرفة في موقف واحد، لا الغني هنا والشريف هنا والفقير هنا، كلنا سواء، [ ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف في عرفة، والإفاضة منها كذلك، فليقفوا كلهم في عرفات، وليفيضوا منها جميعاً، فقال عز وجل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] وذلك أن الحمس كانوا يفيضون من أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلموا من الحطمة. وأخيراً أمرهم باستغفار الله، أي: طلب المغفرة منه، ووعدهم بالمغفرة بقوله: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]].عجب هذا القرآن! أهذا يقرأ على الموتى؟! فهل يتعلم الميت؟! من حول قراءة القرآن من الأحياء إلى الموتى؟ العدو، ذاك المركب من ثلاث حيات: اليهود، المجوس، النصارى.ووالله! إنهم إلى الآن يتآمرون على الإسلام بشتى أنواع المؤامرات، ومن جملة ما نجحوا فيه أن صرفوهم عن القرآن، بدل أن يجتمع اثنان أو ثلاثة يقرءون القرآن ويتدبرونه حولوه إلى الموتى، فتمر بمدن العالم الإسلامي في الشوارع فإذا سمعت القرآن يقرأ في بيت علمت أن فيه ميتاً! فلا إله إلا الله! وأصبح طلبة القرآن -والله- ما يتعلمون إلا ليقرءوه على الموتى؛ ليحصلوا على الطعام وشيء من الدراهم!وكانت هناك نقابة موجودة، فإذا مات لك ميت فاتصل، فيقولون: تريد كم طالباً؟ تقول: عشرة، فيقال: من فئة مائة ريال أو من فئة خمسين؟! ووالدتي رحمة الله عليها -وقد تابت إلى الله وعرفت، ماتت موحدة- كنت صغيراً في حجرها يتيماً وهي تقول: يا رب! اجعل ولدي طالباً أو جزاراً! لأن الجزار يذبح الشاة ويبيعها، فيأتي باللحم الذي يفضل، يأتي بالقلب بالرئة بكذا، تقول: يا رب! اجعل ولدي طالباً أو جزاراً؛ حتى يأتي باللحم، فاللحم ما نأكله إلا من الموسم إلى الموسم! وكذلك التي ابنها حافظ للقرآن يمشي ليقرأ على الموتى ويأتي باللحمة في منديله، ويقدمه لوالدته، فهي تطلب هذا.ووالله! لو كنا في ذلك الوقت لما استطاع شيخكم هذا أن يتكلم ويقول: قال الله. بل يرمونه بالحجارة، يقولون: أنت تقول: قال الله؟ هل تعرف كلام الله، حرام هذا؟ تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر، ويسد أذنيه، فحرموا المسلمين من تلاوة كتاب الله وفهمه والعمل به تماماً حتى هبطنا، لما هبطنا ركبوا على ظهورنا، استعمرونا، استذلونا، فعلوا فينا العجائب، وما زلنا سكارى إلى الآن لم نفق! وكم صرخنا على هذا الكرسي نقول: هيا نعود إلى الله تعالى بأيسر طريق وأسهله، نقول فقط: يا أهل القرية! لا يتخلف أحد من نسائكم ولا رجالكم ولا أطفالكم عن صلاة المغرب في هذا المسجد؛ لنتعلم الكتاب والحكمة، كل ليلة طول العمر؛ فهل يبقى جاهل في القرية أو جاهلة؟ وإذا انتفى الجهل وحل العلم فهل يقع الزنا؟ اللواط؟ السرقة؟ الكبر؟ الغش؟ الخداع؟ هل يبقى من يجوع وإخوانه شباع؟ ومن يعرى وإخوانه مكسوون؟ والله! ما يكون.ومع هذا هل أفقنا؟ هل استجبنا؟ لا شيء، فلا إله إلا الله!وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (128)
الحلقة (135)
تفسير سورة البقرة (93)
يشرع للحاج إذا قضى مناسكه من يوم النحر أن يكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى، وأن يسأل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة، ولا يكون كالجاهلين الذين كانوا يذكرون مفاخر آبائهم، وإذا سألوا الله عز وجل فإنهم يسألونه من خير الدنيا ومصالحها ولا يسألونه من أمور الآخرة شيئاً، فأولئك ليس لهم إلا ما سألوا، وأما أهل الإيمان الموحدون فإن الله يعطيهم من خير الدنيا فضلاً عما يدخره لهم من خير الآخرة ونعيمها.
تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، فلنحمد الله على هذا الإنعام وهذا الإفضال. وها نحن مع هذه الآيات المباركات، فاسمعوها وتأملوها قبل أن نأخذ في تدريسها وشرحها وبيان معانيها.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:200-203].هذا كلام من؟ كلام الله، فالحمد لله أن عرفنا الله وعرفنا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل علينا كتابه، فأصبحنا نتلو كلامه، ونسمع كلامه تعالى، وما رأيناه لضعفنا وقصور طاقتنا عن رؤية ربنا، إذ لو كشف الحجاب عن وجهه لاحترق الكون، ولكن الحمد لله فهذا كلامه نتلوه، ونتدبره، ونعمل بهداية الله فيه، فأية نعمة أعظم من هذه النعمة؟! والله! لا توجد، وفي الشرق والغرب ملايين البشر لا يعرفون الله عز وجل، ولا يسمعون به، ولا يعرفون له كلاماً، ولا شرعا، يعيشون كالبهائم، والله! لأشر من البهائم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، من هم شر البرية؟ لا تقل: الحيات والذئاب والثعابين. لا؛ تلك طاهرة، شر البرية من كفروا بربهم، وتنكروا له وأعرضوا عن ذكره، وخرجوا عن طاعته، وعبدوا الشهوات والأهواء والشياطين، ومثلوها في أصنام وتماثيل، أولئك شر الخلق.
أمر المؤمنين بذكر الله تعالى بعد فراغهم من مناسك الحج
فاسمع ما يقول تعالى لنا ونحن حجاج بيته يعلمنا ويرشدنا، يقول: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] أكملتموها، أتممتموها، أحرمتم وطفتم ووقفتم بعرفة، ونزلتم للضيافة الإلهية في منى ثلاثة أيام، للتهيؤ للعودة إلى الديار، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] فماذا تفعلون؟ قال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:200] اذكروا الله بألسنتكم: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الحمد لله، هذا ذكر الله. فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ [البقرة:200] أي: يا من كنتم تجتمعون في منى للمفاخرة والمباهاة وإنشاد الأشعار والتباهي بالقبيلة وزعمائها في عهد الظلام عهد الجاهلية! اذكروا الله كما كنتم تذكرون آباءكم، إذ كانوا كفرة مشركين لا يعرفون الله، فيذكرون آباءهم وأجدادهم: هذا فعل كذا، وهذا فعل كذا. أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] أي نعم، بل أشد ذكراً؛ لأن ذكر الله يرفعهم، وذكر الآباء والأجداد يهبط بهم، ولكن من باب أنكم كنتم أيام منى تتفاخرون ثلاثة أيام وتذكرون أجدادكم فالآن اذكروا ربكم أشد ذكراً.ومن ثم فطول الليل والنهار ونحن في ذكر الله، لا سيما عند رمي الجمرات: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر سبع مرات، وننزل إلى الثانية مثل ذلك، وإلى الثالثة مثل ذلك، وكلنا ذكر، وإذا صلينا الصلوات الخمس من ظهر يوم العيد إلى عصر اليوم الثالث ونحن في بيوت الله في الشرق في الغرب في كل مكان، ما إن نسلم من الصلاة حتى نقول جهراً: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ولله الحمد، ثلاث مرات في العالم بأسره. والحمد لله، فهل استجبنا لربنا أم لا؟ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] فماذا تفعلون؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200].
معنى قوله تعالى: (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق)
ثم قال تعالى مزيحاً الستار عن صورة: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [البقرة:200] طيلة ما هو في الحج وهو يسأل الله الزوجة، الولد، البقرة، الشاة، المنصب، الوظيفة، لا يسأل الله سوى هذه والعياذ بالله! هابط لاصق بالأرض، نسي الله والدار الآخرة مرة واحدة، همه حين يرفع كفيه: يا رب! زوجني، يا رب! انصرني على فلان، يا رب! أكثر إبلي وغنمي، وهل هذا موجود؟ والله! إنه لموجود، أيخبر الله تعالى وتشك؟! فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا [البقرة:200] ماذا؟ الذي بينت لكم، وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: من نصيب، همه الدنيا، تطلع الشمس أو يطلع النهار وتقبل البشرية على العمل و(95%) لا يسألون الله إلا الدنيا، مع أنها زائلة وفانية ومنتنة وعفنة، كلها بلاء وشر، ومع هذا فكل الطاقات والجهود للدنيا، وعلة هذا الكفر والجهل، الكافرون كافرون، والمؤمنون جهلة ما يعرفون.هذا إخبار العليم الحكيم أم لا؟ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أبداً، مصيره عالم الشقاء إلى الأبد.
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )
قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] اللهم اجعلنا منهم. والذي يسمع هذه الدعوة في المجلس وما كان يحفظها ولم يحاول أن يحفظها الليلة ويعود بها إلى بيته ويدعو بها؛ بشروه بأنه لا شيء، وأنه ميت، ولا تنزعجوا، فهذا الواقع.كيف بدعوة يعلمها الله أولياءه، ويبشرهم بقبولها وأنت لا تبالي بها؟ تقول: امش إلى المقهى خير لك! ما هذا مقامك.هذه الدعوة هي قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] حتى لو كانت على غير لغتك، فسهل عليك أن تحفظها، ما هي؟ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، لا دعوة أجمع من هذه الدعوة، إذا أعطاك حسنة الدنيا فلا تسأل عن الأبناء والزوجة والإخوان والصلاح والطهر، وإذا أعطاك حسنة الآخرة فالجنة، ووقاك النار وصرفك عنها، فماذا بقي لك؟ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يدخل الجنة يوم الحشر والحساب رجل قبله قط، أول من يدخل الجنة، لا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى، كان إذا طاف في عُمَره أو في حجه يختم الشوط بهذه الدعوة، يبدأ بالحجر الأسود ويطوف، عندما يقاربه يدعو الله بهذه الدعوة: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] في كل شوط، وهو مبشر بالجنة، هو صاحب المفتاح بإذن الله، ونحن نطوف ولا نذكرها! وَمِنْهُمْ [البقرة:201] اللهم اجعلنا منهم مَنْ يَقُولُ [البقرة:201] في تلك الأيام المشرقة أيام الحج: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
تفسير قوله تعالى: (أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب)
قال تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:202] الأشراف السامون الأعلون، لأنه أشار إليهم بكاف البعد، أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] لهم نصيب عظيم مما كسبوا من الصالحات، من الإيمان والعمل الصالح، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202] يعني: موقفهم في ذلك اليوم الذي طوله خمسون ألف سنة يدخلون الجنة في فترة كما بين الصبح والظهر؛ لأن الله سريع الحساب.
تفسير قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)
ثم يقول تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] هذا أمر الله أم لا؟ موجه إلى من؟ إلى كل مؤمن ومؤمنة، حتى ولو لم يكن في الحج، أما قدمنا أن تلك الأيام الثلاثة يذكر الله فيها في العالم بأسره بعد الصلوات الخمس؟ إذا سلمنا من صلاة الصبح نقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ثم نقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، والمسجد كله دوي بهذا في العالم بأسره ثلاثة أيام. وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] من بين العدد؟ الموكل ببيان كلام الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، معدودات عداً، يوم العيد ويومان بعده.
معنى قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم إليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى)
قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] بمعنى: تعجل السفر والعودة إلى أهله، أفاض وحلق واستراح، فيجوز له في ثاني يوم أن يرمي الجمرة ويودع، يطوف بالبيت ولا شيء عليه. وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203] إلى اليوم الثالث حتى رمى الجمرات بعد العصر أو بعد الظهر فليودع ويخرج. يقول تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] ما هي هذه الأيام المعدودات؟ أيام التشريق الثلاثة، لم قيل فيها: أيام التشريق؟ لأنا نشرق فيها الغنم نذبحها، فمتى نذبح الذبائح؟ أيام التشريق، وأيام التشريق هي يوم العيد وثلاثة أيام بعده.قال: وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203] ما استعجل فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] فلا إثم على الأول ولا الثاني، مع ملاحظة لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] لا يقل قائل: لقد نفى الله عني الإثم في هذا اليوم، فدعنا نفسق ونفجر! وإنما لمن اتقى الله، فلم يخرج عن طاعته، ولم يفسق عن أمره. فبعض الجهلة يقول: هذا اليوم ما فيه شيء، لا إثم علينا، ويشرب المحرم، أو يأكل الحرام، أو ينهش عرض المؤمن أو يسلب ماله، يقول: هذا اليوم ما فيه إثم! فهل انتبهتم لهذا الاحتراس أم لا؟
سبب الأمر بالتقوى في قوله تعالى: (واتقوا الله)
يقول تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:203] لم يأمر بالتقوى دائماً؟ لن تنتظم حياة البشرية على سطح هذه الأرض إلا على قانون تقوى الله عز وجل، إن اتقوا الله فلا سرقة، ولا خيانة، لا حرب، لا كذب، لا خداع، لا غش، لا باطل، لا ظلم، لا جور، لأن تقوى الله تورث هذا الكمال. وإن فسقوا فما اتقوا الله فيا ويلهم، حياتهم حياة الحيوانات والبهائم يأكل بعضها بعضاً، وهل يذكر السامعون منزلة التقوى؟ إن بها تتحقق ولاية الله للعبد، فالإيمان أولاً، وتقوى الله ثانياً، فأيما بشري على الإطلاق أبيض أو أصفر آمن حق الإيمان واتقى الله فقد أصبح من أولياء الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].إذاً: بم تتحقق ولاية الله؟ بالإيمان وتقوى الرحمن، هل يمكن أن يوالي الله عبداً ما آمن به ولا اتقاه؟ والله! ما كان.
سبب سعي العدو لصرف المسلمين عن مدارسة القرآن الكريم
الآن عرفتم أنتم ما لم يعرفه آباؤكم وأجدادكم، قبل هذه الحركة الإصلاحية كنت تدخل إلى القاهرة المعزية أو إلى دمشق أو كراتشي أو إسطنبول عاصمة العالم الإسلامي، تدخل وتلتقي بمواطن فتقول: يا أخي! أنا أتيت زائراً من بلاد بعيدة، فدلني من فضلك على ولي من أولياء هذه البلاد. فوالله! ما يقودك إلا إلى قبر عليه قبة وضريح، ولا يفهم أن في أسطنبول والقاهرة ولياً يمشي في الشارع! فهل فهمتم هذه؟ فالشيخ يحلف على علم، ما نعرف ولياً إلا من عبد فذبحت له الذبائح، وأقسم باسمه، والتف حوله النساء والرجال، وعكفوا عليه وزاروه، هذا هو الولي! ومن يكذب هذا فليرفع رأسه وليراجع التاريخ. وما هو السبب؟ من فعل بنا هذا؟ هل سيدنا علي ؟ هل الإمام مالك ؟ هل الإمام أبو حنيفة ؟ من فعل بنا هذا؟ الثالوث الأسود، ما الثالوث الأسود؟! ذاك المكون من المجوس واليهود والنصارى.لم تكون هذا الثالوث؟ للانتقام، فعرش كسرى أسقطه الإسلام، واليهود حرموا من آمالهم وما كانوا يأملونه، والنصارى غشيهم نور الإسلام، فصاح الرهبان والقسس وقالوا: ما بقي لنا وجود، فهيا نتعاون مع الموتورين، فوجدوا عبد الله بن سبأ الزعيم اليهودي، وفلاناً وفلاناً وكونوا منظمة عالمية لضرب الإسلام.ونجحوا، ومن مظاهر نجاحهم أن القرآن الكريم الذي هو روح ولا حياة بدونه، والله الذي سماه روحاً: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، وما حيي المسلمون في القرون الذهبية -والله- إلا على القرآن؛ لأنه روح، وما كانت تلك الأشعة وذلك الكمال البشري إلا على روح القرآن، فالقرآن روح حييت به هذه الأمة، وخاصة العرب الذين كانوا لاصقين بالأرض لا وجود لهم ولا قيمة. فقالوا: ماذا نصنع بالقرآن؟ لا يمكن أن نأخذه من قلوبهم أبداً، هذا يحفظه النساء والرجال، فما هناك حيلة أبداً إلا أننا نحتال عليهم حتى يتخلوا عنه ويتركوه للموتى، فلا يجتمع اثنان على قراءة آية وتدبرها وفهم مراد الله منها، ونجحوا، فمضت قرون عدة والعالم الإسلامي لا يجتمع فيه الناس على القرآن إلا على الموتى. أيها الأحداث! اسألوا كبار الشيوخ يعلموكم، لا يجتمع اثنان ولا عشرة على تلاوة آية وتدبرها، وفهم مراد الله منها؛ للنهوض والعمل بما فيها أبداً، إذا مررت بحي في طرف وسمعت القرآن يقرأ فاعلم أن ميتاً هنا فقط، فهل نجحوا أم لا؟ نجحوا، وإلا فكيف مزقونا واستبدوا بنا واستعمرونا وجهلونا واستغلونا وأذلونا، كيف ما نجحوا؟ هل سنن الله تتبدل؟ فالروح سلبوها فمتنا.الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول لـابن مسعود : ( اقرأ علي شيئاً من القرآن. فيعجب عبد الله فيقول: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري )، وأنتم أيها الحاضرون هل رأيتم رجلاً قال لأخيه: تعال اقرأ علي شيئاً من القرآن؟! تحت ظل شجرة، أو جدار أو في المسجد أو في المصنع؟ أبداً! لأننا ورثنا هذه القاعدة: القرآن تفسيره صوابه خطأ، وخطؤه كفر، فحرموا أمة الإسلام من الروح فماتت.فهذه مسألة واضحة أم لا؟ ولأن تتعلم هذا خير لك من خمسين ألف ريال تعود بها إلى بيتك أو إلى بلدك إن كنت ذا روح ترقى إلى السماء.
سبب سعي العدو في حصر الولاية في الموتى
والثانية: لماذا حصروا ولاية الله في الموتى؟ كيف تفسر هذه الظاهرة الاجتماعية السياسية؟ ما هو السر؟ حصروا الولاية في الموتى، أتدرون لماذا؟ أعلمكم بإذن ربي أنهم يريدون أن يستبيحوا فروج نسائنا وأموالنا وأعراضنا ودمائنا؛ لأنهم لا يخافون منا، فما نحن بأولياء! أما الولي فترتعد فرائصهم منه؛ لأن الله تعالى قال: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، حتى إن الرجل إذا فجر لا يمر بقبر الولي، يخاف، وتحلفه بالله فيحلف بالله سبعين مرة، وتقول: احلف بسيدي فلان فما يحلف، يخاف، حتى إن القضاة أصبحوا يحلفون بالأولياء، يقولون: دفاعاً عن حقوق الناس! يقول له: احلف بالله فيحلف سبعين مرة، ويقول: احلف بالسيد فلان فما يحلف، فماذا أصنع أنا القاضي؟ أنا مسئول عن رد الحقوق والمحافظة عليها.إذاً: فلما حصروا الولاية في الموتى فالأحياء ما هم بأولياء، سب، اشتم، مزق، قل، افعل بهم، احتل عليهم، امكر بهم، ولا تخف، فما هم بأولياء، فزال الأمن والطهر والإخاء والمودة والولاء، وأصبح المسلمون كالبهائم يأكل بعضهم بعضاً، إلا من رحم الله؛ لأنك لو عرفت أن هذا ولي فلن تستطيع حتى أن تفتح عينيك فيه، هذا ولي الله، والله يقول:( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فجاءوا فقلبوا الوضع وحصروا الولاية في الأموات، كما حصروا القرآن في الأموات، تمشي إلى الضريح فتجد الناس حوله ليلة الجمعة أو الإثنين وترى البكاء والتمرغ والدعاء والصياح أكثر من الطائفين بالبيت!وكم سنة ونحن نصرخ هذا الصراخ: لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تناديما زلنا في اضطرابات وشكوك وأوهام، وبعضنا يقول: هذا الشيخ عميل، هذا كذا، يقولون كلاماً يعجز عنه الشيطان وإن كان هو الذي يمليه، ولا شيء إلا لصرف النفوس عن الهدى؛ ليبقى الضلال والفساد كما هو.وا حر قلباه ممن قلبه شبم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
معاشر المستمعين والمستمعات! إليكم شرح هذه الآيات في الكتاب.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح كلمات: قضيتم: أديتم وفرغتم منها ]، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] كيف قضيناها؟ أديناها وفرغنا منها.[ المناسك ] في قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] واحدها منسك، [ جمع منسك، وهي عبادات الحج المختلفة ] من الإحرام إلى الرمل إلى الطواف، إلى الوقوف بعرفة، إلى المبيت بمزدلفة، هذه كلها مناسك أم لا؟ الواحد منسك، بمعنى: أنه مطهر، يطهر الروح البشرية، كلما تقوم بمنسك تطهر نفسك. [ الخلاق: الحظ والنصيب ]، وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: من نصيب.[ حسنة ] في قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [البقرة:201] [ الحسنة: كل ما يسر ولا يضر ]، عبارة لطيفة، كل ما يسر ولا يضر؛ فشيء يسر ويضر ما هو بحسنة، بل سيئة، ويوجد ما يضر ولا يسر بالمرة، وهذه أقبح سيئة، فالحسنة [ كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال، وحسنة الآخرة: النجاة من النار ودخول الجنان ].[ وَقِنَا [البقرة:201] ] يقال: وقاه يقيه وقاية، والوقاية: ما تقي به نفسك من الشمس أوالحر والبرد، فقنا بمعنى: [ احفظنا ونجنا من عذاب النار ].[ نصيب: حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح.الأيام المعدودات: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد. تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] بمعنى: رمى اليوم الأول والثاني وسافر ]، هذا معنى (تعجل)، ويوم العيد لا يحسب.[ وَمَنْ تَأَخَّرَ [البقرة:203]: رمى للأيام الثلاثة كلها. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203] أي: لا ذنب في التعجل ولا في التأخر. لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]: للذي اتقى ربه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه. (تحشرون): تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة ]. فقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203] من يحشرنا؟ الملائكة، فنحن مشتتون في الأرض، من يحشرنا ويقودنا إلى ساحة فصل القضاء والحكم الإلهي؟ الملائكة: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ:38] وهل هناك من يهرب؟ فهذه المفردات يستعين بها الطالب على الفهم اللغوي.
معنى الآيات
الآن تسمعون الشرح في الآيات، وهذا كتاب (أيسر التفاسير) هو أسهل التفاسير، أقول لكم: درسنا التفاسير وتصفحنا وعرفنا ولا يوجد تفسير بهذا المستوى في السهولة واليسر والبيان أبداً، ولا تقولوا: الشيخ يمدح كتابه، نقول هذا من أجل أن يفهم العالم الإسلامي، أما أنا فماذا أستفيد؟ فأجري عند الله.والله! إن المفروض أن يدرس هذا في كل العالم الإسلامي، إذ لابد من فهم مراد الله من كلامه، فإذا كان هذا التفسير يشرح بسهولة ويبين بيقين وسلامة العقيدة قبل كل شيء، لا خرافة لا ضلالة لا تدجيل لا حكايات لا قصص لا أعاجيب، فلم لا يجتمع عليه المسلمون؟ حين يحيون إن شاء الله سيتم هذا.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ بهذه الآيات الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج ]، هذا آخر كلام في الحج في هذه الآيات من سورة البقرة، [ ففي الآية الأولى -وهي رقم مائتين- يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة واستقروا بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات وعند الخروج من الصلوات ذكراً مبالغاً في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم وأحساب أجدادهم. وبين تعالى حالهم، وهي أن منهم من همه الدنيا وهو لا يسأل الله تعالى إلا ما يهمه منها، وهذا كان عليه أكثر الحجاج في الجاهلية، وأن منهم من يسأل الله تعالى خير الدنيا والآخرة وهم المؤمنون الموحدون، فيقول تعالى عنهم: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء الجامع والقصد الصالح النافع، فلله الحمد والمنة. وفي الآية الثانية بعد المائتين يخبر تعالى أن لأهل الدعاء الصالح -وهم المؤمنون الموحدون- لهم نصيب من الأجر على أعمالهم التي كسبوها في الدنيا، وهو تعالى سريع الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة. وفي الآية الثالثة بعد المائتين يأمر تعالى عباده الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق. ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى في اليوم الثالث، فقال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، فالأمر على التخيير، وقيد نفي الإثم بتقواه عز وجل، فمن ترك واجباً أو فعل محرماً فإن عليه إثم معصيته ولا يطهره منها إلا التوبة، فنفي الإثم مقيد بالتعجل وعدمه فقط ]، أما مع الإثم فما ينفى إلا بالتوبة، [ فكان قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203] قيداً جميلاً، ولذا أمرهم بتقواه عز وجل ونبههم إلى مصيرهم الحتمي وهو الوقوف بين يديه سبحانه وتعالى، فليستعدوا لذلك اليوم بذكره وشكره والحرص على طاعته ].
هداية الآيات
هذه الآيات بعد تفسيرها نستخرج منها درراً غالية، وهذا مما امتاز به هذا التفسير. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات:أولاً: وجوب الذكر بمنى عند رمي الجمرات؛ إذ يكبر مع كل حصاة قائلاً: الله أكبر.ثانياً: فضيلة الذكر والرغبة فيه لأنه من محاب الله تعالى ]، الله يحب الذكر، وكيف لا وقد أمر به فقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:203]؟ثالثاً: فضيلة سؤال الله تعالى الخيرين، وعدم الاقتصار على أحدهما، وشره الاقتصار على طلب الدنيا وحدها. رابعاً: فضيلة دعاء (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، فهي جامعة للخيرين معاً؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط ]، ولا تفهم أن هذا خاص بالطواف، كل يوم ندعو بهذا الدعاء ليلاً ونهاراً. [ خامساً: وجوب المبيت ثلاث ليال بمنى ووجوب رمي الجمرات؛ إذ بها يتأتى ذكر الله في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق.سادساً: الرخصة في التعجل لمن رمى اليوم الثاني. سابعاً: الأمر بتقوى الله وذكر الحشر والحساب والجزاء؛ إذ هذا الذكر يساعد على تقوى الله عز وجل ].أنا أقول دائماً: أتحدى أن يستطيع أحد أن يذكر الله بقلبه ولسانه ويمد يده ليسرق؟ هل يذكر الله بقلبه ولسانه وينظر إلى امرأة مرت بين يديه ويتابعها بالنظر؟ والله! ما كان. هل يستطيع أحد أن يذكر الله بلقبه ولسانه ويذبح أخاه؟ مستحيل، فلهذا لا حصانة أكثر من الذكر، ولن يقع في المعاصي والجرائم إلا تارك لذكر الله وناسيه. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (129)
الحلقة (136)
تفسير سورة البقرة (94)
ضرب الله عز وجل في كتابه الكريم مثلاً لأهل الإيمان الصادق وأهل النفاق، فضرب عز وجل لنبيه وللمؤمنين معه مثلاً لأهل النفاق بالأخنس بن شريق، وأنه يحسن كلامه حتى يعجب المؤمنين ويشهد الله على ذلك الكلام، لكنه إذا فارق مجالس المؤمنين تولى في الأرض بالمعاصي والموبقات والفساد الذي يؤدي لرفع رحمة الله عن العباد والبلاد، أما أهل الإيمان فقد ضرب لهم مثلاً في صهيب الرومي رضوان الله عليه؛ لأنه باع نفسه وماله في الدنيا لله عز وجل، وطلباً لرضوانه تعالى، وهذان المثلان هما لكل مؤمن صادق الإيمان، ولكل منافق مريض القلب والوجدان.
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وها نحن مع هذه الآيات القرآنية الكريمة من سورة البقرة:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:204-207].
ذكر من نزلت فيهما الآيات الكريمات
هذه الآيات الأربع نزلت في شخصيتين إحداهما ملعونة وثانيتهما مرحومة، الأولى شخصية الأخنس بن شريق من شياطين المشركين، والثانية في صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، فهيا نتأمل الكلمات الإلهية كلمة كلمة. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] من القائل؟ الله، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أتباعه صلى الله عليه وسلم يتناولنا الخطاب يتناولنا إذا آمنا حق الإيمان وأسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله. ومن الناس شخصية عفنة خبيثة منتنة، لأنه ما بعد الكفر وسخ ولا دنس، فكيف إذا أضيف إليه المكر والتمرد والكذب والنفاق؟ والصيغة صيغة تعجب: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] إذا تكلم في الدنيا: في الطبخ في التجارة في الحرب تعجب بكلامه لبراعته وطلاقة لسانه، كلامه عجب.
معنى قوله تعالى: (ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)
وإذا تكلم يشهد الله يقول: الله يشهد أني ما قلت إلا حقاً، يشهد الله أنه كذا وكذا وهو كاذب، وإنما يريد التمويه والتغطية والتضليل. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] بارع في الخصومة شديد قوي؛ لأن إبليس يمده بالطاقة. وقوله تعالى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204] استنبطنا منه أن المؤمن إذا قال: أشهد الله على كذا، الله يشهد أني كذا، الله يعلم؛ فاحذر يا عبد الله أن تكون كاذباً فتقع في هذه الهاوية، فلا تقل: أشهد الله على ما قلت، الله يشهد على ما قلت، الله يعلم أني كذا، ينبغي أن تكون صادقاً وإلا فهي الحالقة، لأن هذا المسلك سلكه الأخنس ، واسمع ما توعده الله. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] أي: إذا تكلم في أمور الحياة -اللباس الطعام الحكم الدولة- تعجب، بيان وفصاحة، ويؤكد أقواله وآراءه بكلمة: يشهد الله على كذا، أشهد الله، الله يعلم، حتى يموه ويغرق الناس في الأوهام والباطل، والله فضحه شر فضيحة.
تفسير قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ...)
وَإِذَا تَوَلَّى [البقرة:205] أو حكم وساد واستولى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205] الحرث كل ما يحرث ويزرع من الحبوب والثمار إلى غير ذلك، والنسل كل الحيوانات كالإبل البقر، المهم أنه يدمر الحياة. وأيضاً: وَإِذَا تَوَلَّى [البقرة:205] رجع من مجلسه وانصرف عنه وغاب عن حضرتك أهلك الحرث والنسل، فكيف إذا تولى بمعنى حكم وتسلط؟ يدمر الحياة كلها، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205] ويكرهه، وإذا كره الفساد كره المفسد من باب أولى، إذ هو الذي جر الفساد وأتى به، والفساد في الأرض يكون بالشرك والمعاصي، تتعفن وتصبح بلاء وشراً ولا خير فيها إذا ساد الشرك وعبد غير الله وعصي الله عز وجل بمخالفة أوامره ونواهيه. قرية يدخلها شخص يروج فيها الباطل والمنكر والبدعة والضلالة فإنه يفسدها، قرية يأتي تاجر يبيع فيها أشرطة الدعارة والخلاعة فقد أفسدها، وهكذا لا يتم فساد في الأرض إلا بالشرك والمعاصي، ومن قال: لا؛ فليتفضل ليرينا أرضاً طالحة لم يشرك أهلها ولم يعصوا الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ...)
وقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ [البقرة:206] يقول له من يعرفه، من ينصح له، من يوجهه من قريب أو زميل أو مسئول: اتق الله يا فلان، لا تقل هذا الكلام، لا تفعل هذا الفعل، فكيف يكون موقفه؟ قال: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206] وتعنتر وتعالى وغضب ورد عليه، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206] مصحوبة بِالإِثْمِ [البقرة:206] لأنه مريض الباطن ما يطيق ولا يتحمل، أما المؤمن فإذا زلت قدمه، إذا قال كلمة سوء، إذا تحرك حركة يكرهها الله، إذا قال قولاً لا يحبه الله وقيل له: اتق الله، أما تخاف الله؟ فعلى الفور يستغفر الله ويتطامن ويعتذر. أما هذا المريض بالشرك والكفر والفساد في الأرض فإذا قلت: اتق الله تأخذه العزة بطيارة الإثم وتعلو به في مجالات الفساد والدمار، لا يطيق كلمة (اتق الله).فخذ أنت هذا الميزان، إذا لاحظ أخوك خطأً منك وقال: اتق الله يا فلان، كيف تقول هذه الكلمة؟ فانظر إلى حالك: إن اشتد غضبك واحمرت عيناك وصحت فإنك من هذا النوع، وإن أنت قلت: أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله وأتوب إليه، علمت أنك من أهل الكمال، هذا ميزان. وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ [البقرة:206] هذا الجزاء يكفيه، أما يكفيه جهنم؟ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206] هي، تمهد له.
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد)
وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:207] من هذا؟ هذا صهيب الرومي ، قصة صهيب ستأتي، هذا أسلم في مكة، وكان -كما تعرفون- في جوار أحد أهل مكة؛ لأنه رومي من بلاد الروم، وأسلم، وتاقت نفسه إلى الهجرة وأراد أن يهاجر، فخرج فاعترضته قوات قريش في الطريق: إلى أين؟ قال: إلى محمد؟ قالوا: لن تخرج حتى تدلنا أين وضعت مالك، أما أن تخرج بنفسك ومالك فلا! فأطلعهم على كل دراهمه ودنانيره، وخرج لا يملك شيئاً، وما إن رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقبل بوجهه حتى قال: ( ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى )، باع كل الدنيا من أجل الله، وفيه نزل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي [البقرة:207] أي: يبيع نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207] أي: طلباً لرضا الله عز وجل، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]، ما تركه الله، أعزه وأكرمه وأصبح من خيرة الناس في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ). وجرب، فمنذ حوالي ثلاثين سنة لما بدأت فتنة الربا كان البنك الأهلي، وكانوا يعملون سراً، فقد كان الربا ممنوعاً، لكن كانوا يرابون بالحيلة، وانكشفت القضية لنا وكتبنا (رسالة إلى اللاعبين بالنار)، من هم اللاعبون بالنار؟ المرابون، وتململ الناس وانكشفت العورة، كانوا يعملون سراً. وكان أحد الطلبة في الحلقة موظفاً عندهم بأربعمائة ريال، فقال: إذاً: من الآن لن أعود، وانقطع وجاءنا بعد أيام وبشرنا بأنه أعطاه الله أفضل مما ترك، وقلنا: الحمد لله، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ) .
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
الآن أسمعكم الآيات مرة أخرى فتأملوا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] يعني: إذا قال في شئون الحياة الدنيا، قال: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204] أنه صادق وأنه يحبكم وأنه وأنه، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] فتميزت هذه الشخصية بين الناس الآن. وَإِذَا تَوَلَّى [البقرة:205] عن مجلسك وانصرف، أو تولى فحكم وأدار شيئاً سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205]، الآن يهلكون النسل، ليس نسل البهائم، يريدون أن يهلكوا نسل البشر، بتحديد الأولاد وتنظيم الولادة وكذا، هذا إهلاك للنسل البشري هو مثل إهلاك النسل الحيواني: الإبل والبقر والغنم، والقرآن عجب، فهذا النوع والله! ليوجد الآن، وهذه الشخصيات بالآلاف، يعجبك قوله في مسائل الدنيا، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204] أني صادق ومحب لكم وأريد خيركم وكمالكم وسعادتكم، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى [البقرة:204-205] استقل وأدار فإنه يسعى في الأرض بالفساد لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:205-206] لم يقل: أستغفر الله، ولا: أتوب إليه، ولا يندم أبداً، بل يبقى مصمماً، إذاً: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة:206-207] يبيعها، باع نفسه لله، يذبح يصلب يقتل يخرج من ماله من بيته من أهله لوجه الله: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207]، همه وطلبه أن يرضى الله عنه، هذه أسمى غاية وأعلى هدف. وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] معناه: أن الله لا يضيعه، هل ضيع صهيباً الرومي؟ خرج من مكة ليس معه إلا ثيابه عليه، وترك أمواله كلها في الخزانة أو صندوق ودلهم عليه فأخذوه، فما ضيعه الله عز وجل.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
الآن تسمعون شرح الكلمات لتزدادوا معرفة. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: يُعْجِبُكَ [البقرة:204]: يروق لك وتستحسنه ]، أعجبني كلامه: راق لي ومشى في جسمي واستحليته واستعذبته. [ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204]: إذا تحدث في أمور الدنيا ]، أما أمور الآخرة فليس لها بأهل ولا يعرف عنها شيئاً؛ لأنه لا يؤمن بما فيها، أما الدنيا فإذا تكلم عن التجارة والصناعة يبدع. [ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204] قوي الخصومة شديدها لذلاقة لسانه ] وانطلاقه، خريج كلية السحر أو كلية الأدب، كلية إبليس، كلية القانون. [ تَوَلَّى [البقرة:205]: رجع وانصرف، أو كانت له ولاية ]، والقرآن حمال الوجوه، هذه كلمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: (القرآن حمال الوجوه)، الآية تحمل وجهين وثلاثة وكلها حق ومراد الله عز وجل؛ لأنه موجز، ولو كانت تفسر الكلمة بما تحمله لأصبح القرآن لا يحفظ أبداً ولا تحمله إلا الإبل أو السفن؛ فلهذا فيه إجمال عجب، وأهل البصيرة والمعرفة والنور يستخرجون من الآية أنواراً،كـعلي بن أبي طالب ، فلهذا قال: (القرآن حمال الوجوه). فانظر إلى قوله تعالى: تَوَلَّى [البقرة:205]، فهو صالح لمعنى: رجع من عندكم، أو تولى ولاية وأصبح يدير بلداً أو قرية أو جماعة. [ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة:205]: الحرث: الزرع مطلقاً ]، النخل يزرع وكل الفواكه والخضار زرع، [ والنسل: الحيوان. أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206]: أخذته الحمية والأنفة بذنوبه، فهو لا يتقي الله. يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة:207]: يبيع نفسه لله تعالى بالجهاد في سبيله بنفسه وماله ]؛ إذ هاجر من مكة إلى المدينة ليجاهد مع رسول الله والمؤمنين.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيات ]، فهيا مع معنى الآيات نتدبرها مرة ثانية. قال: [ يخبر تعالى رسوله والمؤمنين ]، فيقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ [البقرة:204] يا رسولنا، ويعجبكم أيها المؤمنون من أتباعه صلى الله عليه وسلم إن كنتم على منهجه، [ يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن حال المنافقين والمؤمنين الصادقين ] في شخصية الأخنس وشخصية صهيب، وهو صالح لكل المنافقين ولكل المؤمنين، [ فقال تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن الناس منافق يحسن القول إذا قال يعجبك قوله لما عليه من طلاوة ورونق، وذلك إذا تكلم في أمور الحياة الدنيا، بخلاف أمور الآخرة فإنه يجهلها وليس له دافع ليقول فيها؛ لأنه كافر ]، ينافق بالإسلام يظهره ويبطن الكفر. [ وعندما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول ]، يقول: أشهد الله أني أحبك يا رسول الله وأني مؤمن من المؤمنين، وهذا النوع موجود أمثاله بالملايين. قال: [ وعندما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: يعلم الله أني مؤمن وأني أحبك، ويشهد الله أني كذا وكذا، وإذا قام من مجلسك يا رسولنا وانصرف عنك سعى في الأرض، أي: مشى فيها بالفساد ليهلك الحرث والنسل بارتكاب عظائم الجرائم، فيمنع المطر وتيبس المحاصيل الزراعية وتمحل الأرض وتموت البهائم وينقطع النسل، وعمله هذا مبغوض لله تعالى، فلا يحبه ولا يحب فاعله ]. ما معنى هذا الكلام؟ هذه المعاصي والذنوب إذا عمت وانتشرت ورضيها أهلها يعاقبهم الله عز وجل بالقحط والجدب وقلة المطر، فلا محاصيل زراعية، والبهائم تموت نقمة من الله عز وجل، فإذا أخذ الناس يعصون الله ويفجرون ويخرجون عن طاعته وطاعة رسوله يوماً بعد يوم فإنهم يستوجبون نقمة الله، وبذلك يكونون هم الذين أهلكوا الحرث والنسل، هم الذين أفسدوا الوضع بذنوبهم وآثامهم. وإن قلت: الكفار قد لا يمنعهم الله المطر؟ فالجواب: كم مرة منعهم، ففي سنة من السنين أجدبت فرنسا جدباً لا نظير له، والله! اضطروا إلى أن يقولوا للمسلمين: استسقوا لنا ليسقينا الله، واجتمع المسلمون وصلوا في مساجدهم وسقاهم الله. فإقبال الناس على المعاصي متحدين غير مبالين بما أحل الله ولا بما حرم، ويواصلون ذلك يجعلهم يتعرضون لنقمة إلهية، ويصبحون هم الذين أفسدوا في الأرض ودمروها، ولهذا قلنا: الشرك والمعاصي بهما يتم الفساد في البلاد والعباد. قال: [ كما أخبر تعالى أن هذا المنافق إذا أُمر بمعروف أو نهي عن منكر فقيل له: اتق الله لا تفعل كذا، اتق الله اترك كذا؛ تأخذه الأنفة والحمية بسبب ذنوبه التي هو متلبس بها، فلا يتقي الله ولا يتوب إليه، فيكفيه جزاء على نفاقه وشره وفساده جهنم يمتهدها فراشاً له يجلس عليها لا يبرح منها أبداً، ولبئس المهاد جهنم ]، والمهاد: الفراش والمهد للطفل، فجهنم مهاد له يجلس عليها. [ كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق ] هذا صهيب ، وهذه أمثلة فقط، فالأخنس انتهى وصهيب في الملكوت الأعلى، ولكن القرآن الكريم كتاب هداية، فلنحذر أن نسلك سبيل الأخنس أو نتخلى عن سبيل صهيب ، لنتبع سلوك صهيب ونبغض سلوك الأخنس بن شريق ، ولهذا فالقرآن يبقى ما بقيت الحياة ثم يرفعه الله لأن المهمة انتهت؛ إذ لا هداية بدون هذا الكتاب. قال: [ كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق فيقول: من الناس رجل مؤمن صادق الإيمان باع نفسه وماله لله تعالى طلباً لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلام ]، وهل بلغكم أن رائداً ارتادها؟ لقد ارتادها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجول في ساحاتها ووطئت أرضها قدماه الشريفتان، وشاهد أنوارها وقصورها وحورها حتى امرأة عمر أيضاً، لما قص الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر أنه رأى حوراء فقال: لمن هذه؟ قالوا: هذه لـعمر ، قال: فغضضت بصري وانصرفت، خفت من غيرتك يا عمر ، قال: أعليك أغار يا رسول الله؟إذاً: عمر كان غيوراً، لا يسمح لرجل أن ينظر إلى امرأته، والذين هبطوا يقدمونها: تفضل هذه المدام صافحها، وهبطوا حتى أصبح زوجها يجلس وهي ترقص في الحفل، فأين غيرة عمر ؟ ذهبت.فرسول الله صلى الله عليه وسلم أول رائد للسماوات، أما هؤلاء الرواد فكالذباب حول السماء هذه، فأنى لهم أن يخترقوا سماء واحدة والمسافة سمكها مسافة خمسمائة عام وأنت طائر. حتى كذبة صعود القمر انتهت وانفضحت، والله! ما وضعوا أقدامهم على القمر ولا وصلوا إليه، فالذي كانوا يزعمون صعوده كذبهم قبل أن يموت. قال: [ كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق في إيمانه فيقول: من الناس رجل مؤمن صادق الإيمان باع نفسه وماله لله تعالى طلباً لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلام ]، هل بلغكم أن الله تعالى يدعو إلى الجنة؟ في سورة يونس يقول تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] أن: هلموا عباد الله إلى الجنة، ما وكل بذلك ملكاً، هو بنفسه يدعو إلى دار السلام، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25] إلى صراط يصل به إلى الجنة، هو يدعو إلى الجنة فكيف نصل؟ لا بد من طريق، ما هذا الطريق؟ والله! إنه الإسلام، الطريق الموصل إلى الجنة والله! إنه للإسلام، ولا طريق آخر. وما دامت القضية عنده أنه يهدي من يشاء فكيف نصنع؟ لقد شرحنا هذا وبيناه، فالذي يشاء الله هدايته هو ذاك الذي يطلب الهداية ويبحث عنها ويرحل من أجلها ويترك طعامه للحصول عليها، هذا الراغب هذا الطالب هو الذي يشاء الله هدايته، أما المتكبر المستنكف الضاحك المستهزئ الساخر بالإيمان والمؤمنين فهذا الذي لا يشاء الله هدايته. لأنك قد تقول: إذاً: ما دامت المشيئة له فما هناك حيلة، لنترك الموضوع له! فلا تفهم هذا الفهم، فقد علمنا أنه من قرع بابه أدخله ومن استنكف وأعرض طرده، من طلب الهداية اهتدى ومن أعرض عنها فلن يهتدي، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، أي: الصراط الذي يصل إلى الجنة، فهو تعالى يدعو إلى الجنة، وطريقها هو الإسلام، فمن شرح صدره له وانفتح قلبه ولبى وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ مشى في الطريق، ومن أعرض أو لوى رأسه واستكبر لا يهديه الله. قال: [ فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] رحيم بهم، قيل: إن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاث هو الأخنس بن شريق ، وإن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة هو صهيب بن سنان الرومي أبو يحيى ]، هذا قول، قد لا يكون الأخنس بن شريق بالضبط ولا صهيباً بالضبط؛ لأن الله ما أخبر عنهما، قال: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:207] رجل في الأول والثاني، فلهذا قلت: (قيل) بصيغة التضعيف، ما فيها الجزم. قال: [ قيل: إن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاث هو الأخنس بن شريق ، وإن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة هو صهيب بن سنان الرومي أبو يحيى ؛ إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول وأصحابه قالوا: لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلن نسمح لك بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله، فأعطاهم كل ما يملك وهاجر، فلما وصل المدينة ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى )] من أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف اطلع؟ سبق الوحي، فقال: ( ربح البيع )، وهل صهيب باع؟ أما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي [البقرة:207] بمعنى: يبيع، شرى بمعنى: باع واشترى كذلك، يصح هذا وذاك، إلا أن شراه في البيع واشتراه في الشراء في الغالب، قال له: ( ربح البيع أبا يحيى ) وهنا يؤخذ منه أن الكنية الطيبة محمودة، فإذا رأيت رجلاً يحب الكمال فكنه بأبي جميل. وقد كانت كنية علي بن أبي طالب (أبو تراب)، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبو الحسن ، وإنما كناه بذلك لقصة لطيفة ظريفة؛ حيث طلب النبي صلى الله عليه وسلم صهره علياً زوج فاطمة لأمر ما، فقال: أي فاطمة ! أين علي ، أين بعلك؟ قالت: خرج، قد يكون في المسجد، ما هناك إلا المسجد، فـعلي لهمه اضطجع ونام في المسجد لا فراش وطاء، فعلاه التراب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( قم أبا تراب ) ، فكان علي يقول: لا أحب إلي من هذه الكنية أبداً؛ إذ كناني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا جنرال الرسول صلى الله عليه وسلم ومفتي المدينة والعرب بكلها ينام على الأرض في المسجد! فيا ويلنا: ننام على الأسرة ونجلس على الفرش ونصلي على هذا ولا حمد ولا شكر!فلابد من كلمة (الحمد لله) حارة تخرج من القلب على هذا الإنعام العجب كأننا في الجنة، انظر إلى هذه الكواكب فوق رءوسنا، وهذه الفرش التي تحتنا، هذه المراكب أمامنا نطير بها في السماء، كيف نحمد الله وكيف نشكره إن لم نظل طول يومنا على قول: الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله؟وأكثر من (95%) لا يذكرون النعمة ولا يعرفها أحدهم ولا يقول: الحمد لله، أكل شرب لبس ركب هبط نكح ولا يقول: الحمد لله، أموات وهم لا يشعرون، ما علة هذا؟ الجهل. وقد فاتتني كلمة في درس الصباح؛ حيث كان موضوع الدرس الجهاد: أسباب الجهاد وأركان الجهاد، فقلنا: على المسلمين أن يعدوا العتاد الحربي للجهاد، سواء كانوا دولة واحدة أو متفرقين، هذه فريضة الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، لكن لا بد أن يكون إعداد العدة والرجال والتدريب من أجل الله ليعبد الله وحده، لا من أجل المال والتراب والطين أبداً، فقط من أجل أن يعبد الله، فأولياؤه يحفظون حتى يعبدوا الله أحراراً، ويدخل الآخرون في رحمة الله تعالى. ثم قلت: لم ما يجتمع المسلمون في هذه الروضة؟ لو جاء الحكام واجتمعوا في روضة الرسول وبايعوا إمامهم وقالوا: أنت إمام المسلمين، وأخذوا الدستور في أيديهم وأخذوا يطبقونه، ونحن مستعدون أن نضع لهم الدستور في أربعين يوماً، ما يحتاجون إلى فلسفة ولا فكر هراء، وتصبح أمة الإسلام أمة واحدة. فقيل: هذا بعيد كالمستحيل، وقد طالبنا به وكتبنا رسالة وبعثناها للملوك والرؤساء منذ ثلاثين سنة فكأنما وزعت على المقابر، وبقي شيء: وهو أن هذا الاجتماع لن يتم -والله- ولن يكون إلا إذا أسلم شعوبهم ومحكوموهم قلوبهم لله تعالى.لن يأتي الحكام ويبايعون إماماً في روضة الرسول عاصمة الإسلام الأولى إلا إذا أسلم شعوبهم قلوبهم ووجوههم لله تعالى، فحينئذ يجدون أنفسهم متهيئين، أما والأمم والشعوب هابطة تعبد الهوى والشهوة لاصقة بالأرض تعبد الضلالة والخرافة، ومن يتكلم في الإسلام يبغض ويكره، فأنى لهم ؟ من سيدفعهم لهذا الاجتماع؟ مستحيل. وهل في الإمكان أن يطهر المسلمون ويصفوا في مدة سنة؟ عدنا إلى بيت القصيد، والله لو آمنوا حق الإيمان واجتمعوا في بيوت ربهم بنسائهم وأطفالهم كل ليلة فقط من المغرب إلى العشاء يدرسون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أربعة أشهر لمحيت الفوارق، لا وطنية ولا حمية ولا حزبية ولا مذهبية، ولأصبحوا كلمة واحدة بيتاً واحداً، وطهرت بلادهم وصفت وزالت تلك المخاوف، لا فقر لا خبث لا خوف لا هم لا كرب لا حزن؛ لأن الله نفى عن أوليائه ذلك: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، ولتغيرت الحياة، ولله ما هي إلا أيام بعد أن يبايعوا إمام المسلمين وتصبح البلاد الإسلامية كلها ولايات تابعة، ويصبح القانون واحداً، والأمة قلبها واحد لا مذهبية ولا عنصرية ولا طائفية، بل مسلم عنده قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. والفرص مواتية إلى أبعد حد، أصبح العالم كالبلد الواحد، قبل ثلاثمائة سنة يستحيل هذا، أما الآن ففي يوم واحد نطير في السماء، وكتاب واحد يطبع بملايين النسخ على قدر المسلمين ويوضع في كل مسجد. لقد هممت أن أقولها والآن جاءت الفرصة، يستحيل أن يجتمع حكام المسلمين على الحق والهدى والنور وشعوبهم هابطة لاصقة بالأرض، فإذا قامت الشعوب وقالت: الله ربنا، واستقامت وأخذت بمنهج الله عز وجل ورسوله ففي أربعين يوماً فقط يصبح المسلمون أمرهم واحد وعلى كلمة واحدة. قال: [ والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فـالأخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته، وصهيب مثل خير وكمال لكل من يتصف بصفاته ]، اللهم اجعلنا من جماعة صهيب .
هداية الآيات
والآن مع هداية الآيات، هذه الآيات الأربع لها هداية تقودك إلى الجنة. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات:[ أولاً: التحذير من الاغترار بفصاحة وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإيمان والإخلاص ]، أما إذا كان مؤمناً صادقاً مخلصاً وأوتي فصاحة وبلاغة فهذا خير كثير، لكن الفاسق والكافر والمنافق لا تغتر بفصاحته وبيانه.[ ثانياً: شر الناس من يفسد في الأرض بارتكاب الجرائم مما يسبب فساداً وهلاكاً للناس والمواشي ] أيضاً. [ ثالثاً: قول الرجل: يعلم الله، يشهد الله يعتبر يميناً، فليحذر المؤمن أن يقول ذلك وهو يعلم من نفسه أنه كاذب ]، قلت لكم: هذه احذرها، لا تقل: يعلم الله كذا أو يشهد الله إلا إذا كنت صادقاً؛ لأنها يمين. [ رابعاً: إذا قيل للمؤمن: اتق الله، يجب عليه ألا يغضب أو يكره من أمره بالتقوى، بل عليه أن يعترف بذنبه ويستغفر الله تعالى ويقلع عن المعصية فوراً ]؛ لأنه حي قادر على هذا. [ خامساً: الترغيب في الجهاد بالنفس والمال، وجواز أن يخرج المسلم من كل ماله في سبيل الله تعالى، ولا يعد ذلك إسرافاً ولا تبذيراً؛ إذ الإسراف والتبذير في الإنفاق في المعاصي والذنوب ]، فـصهيب خرج من كل ماله يريد الله والدار الآخرة، هل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أسرفت وبذرت، ما كان من حقك أن تفعل هكذا، اصبر يا صهيب ولا تعط مالك للكفار؟ ماذا قال؟ قال: ( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى )، اللهم اجعلنا من جماعة صهيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (130)
الحلقة (137)
تفسير سورة البقرة (95)
ينادي الله عز وجل عباده المؤمنين آمراً إياهم بالدخول في الإسلام دخولاً كلياً شاملاً، بحيث لا يتخيرون من أحكامه وشرائعه ولا يتشهون فيها، فما وافق أهواءهم ومصالحهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، ثم نهاهم سبحانه عن اتباع الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل لحم الإبل بحجة أن هذا ما كان عليه صلحاء بني إسرائيل، حيث أنساهم أن دين الإسلام جاء مهيمناً على كل ما قبله من أديان.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله القرآن العظيم، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). حقق اللهم لنا هذا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. وها نحن مع قول ربنا جل ذكره وعظم سلطانه من سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:208-210].هذه الآيات عظيمة الشأن أيها المستمعون والمستمعات، فهيا نكرر قراءتها ونتدبرها. يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208] لبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان لأننا أحياء؛ إذ المؤمنون أحياء والكافرون أموات، فالله لا ينادي الأموات ولكن ينادي الأحياء، الحمد لله أن كنا أهلاً لأن ينادينا الله الذي خلق كل شيء وملك كل شيء وبيده كل شيء، ذاك الذي يحيي ويميت ويعز ويذل ويرفع ويضع ويعطي ويمنع، ذاك الذي أمره أن يقول للشيء إذا أراده: (كن) فيكون. الله الذي خلقنا ووهبنا عقولنا وأوجد الحياة كلها من أجلنا، وأوجد دار السلام لنا وأوجد دار البوار لأعدائنا، هذا الله ينادينا، فكيف حال قلوبنا؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يتخلف منكم أحد، لهذا نادانا، نادانا لأن يأمرنا بأن ندخل في الإسلام نساءً ورجالاً أحرارً وعبيداً، لم؟ إذ لا كمال ولا سعادة إلا بالإسلام. ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا شعب ولا قبيلة، هذا سبيل نجاتكم وسعادتكم، فالحمد لله، فأعظم برحمة ربنا وحلمه! ينادينا ليأمرنا بما يسعدنا وينجينا من الشقاء والخسران الأبدي: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
ذكر المعنيين في الآية الكريمة وبيان مناسبة نزولها
ومن معاني هذه الكلمة -والقرآن حمال الوجوه كما علمنا عن علي بن أبي طالب -، من معانيها: ادخلوا في الإسلام كلكم لا يتخلف رجل ولا امرأة من الذين آمنوا. والمعنى اللطيف الآخر: طبقوا كل ما يأمر الله به وينهى عنه بفعل المأمور وترك المنهي، ولا ترغبوا عن شيء وتعرضوا عن آخر سواء كان أمراً أو نهياً. ويوضح هذا المعنى أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الحبر اليهودي الإسرائيلي الذي كان أول من أسلم من أهل الكتاب، ما إن دخل الرسول المدينة حتى جاء يمتحنه فطرح عليه ثلاثة أسئلة، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل قد أتاه بها الآن قبل مجيئك إلي، فما إن أجابه على الثلاثة حتى قال: أشهد أنك رسول الله، وكان بحراً في العلم. ومضت أيام وزين له الشيطان أن يعظم السبت كما كان يعظمه في شريعة بني إسرائيل، وقال: وما الفرق؟ تعظيم السبت طاعة لله عز وجل؛ إذ فرض هذا على عباده، فلنضف إلى تعظيم الجمعة تعظيم السبت! وسمع ذلك منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] لا يبقى شيء من الإسلام خارجاً عنكم أو أنتم خارجون عنه، لا تدخل في الإسلام ببعضه، تدخل في الإسلام وتبقى متعلقاً بتعظيم السبت الذي كان شريعة مضت ونسخها الله عز وجل. كما أن بعضهم أيضاً ممن أسلموا استمروا على عدم أكل لحم الإبل؛ لأنها محرمة على بني إسرائيل في الكتاب، فقالوا: نبقى على تحريمها أيضاً، فلا نأكلها، فكانت هذه الآية رادعة لهم عن هذه الخواطر والهواجس التي يمليها الشيطان، فلا يصح إسلامك يا عبد الله حتى تسلم قلبك ووجهك لله، حتى لا يبقى لك اختيار مع الله. والله عز وجل قد نسخ تلك الشريعة بكاملها فلم تتشبث ببعض ما فيها وإن كنت برغبة صادقة تريد أن تزيد حسناتك وأن يعظم أجرك؟ فكفوا عن ذلك وانتهوا.
معنى قوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] إذ هو الذي مشى أمامهم ووسوس لهم ومشوا وراءه حتى كاد يرديهم ويهلكهم، حتى كاد يوقعهم في الكفر والعياذ بالله، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] وعلل ذلك بقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] . أيعقل أن رجلاً يعرف أن آخر عدو له وفي يده سكين ليذبحه ويمشي وراءه؟ أمعقول هذا؟ مستحيل، عدوك الذي يريد أن يقتلك والخنجر أو السكين في يده أو البندقية ويقول: تعال إلى ما وراء الجبل، فهل هناك عاقل يمشي وراءه؟ فالشيطان عدو الآدميين عداوة أصيلة باقية لا تزول ما بقيت الحياة، لا يريد لهم سعادة ولا كمالاً أبداً، لا يريد لهم إلا الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة معاً، فكيف -إذاً- نستجيب لندائه ونمشي وراءه خطوة بخطوة؟! من مشى وراءه فوالله! لن ينتهي به إلا إلى فضيحة وإلى جريمة من جرائم الذنوب، فلهذا جاء نداء آخر لعامة المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، فكل فاحشة ارتكبت الشيطان هو الذي دعا إليها، وكل منكر فضيع أو غير فضيع ما فعله الآدمي إلا بدعوة الشيطان له وتحسينه له وتزيينه؛ لأنه عدو هذه مهمته، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] بين العداوة ظاهرها، ما ارتكبت جريمة على الأرض إلا وهو الداعي إليها والباعث عليها. ما يريد الآدمي أن يكمل ويسعد بحجة أنه شقي بسببه، وذلك يعود إلى أنه لما أمر بالسجود لآدم رفض وتعالى وتكبر فأبلسه الله وطرده، فقال: هذا الذي أبلست بسببه وطردت إلى النار وأبعدت من الجنة؛ إذاً: لأعملن طول حياتي على إفساده وإضلاله. وقد قالها واضحة: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، فانظر إلى عبد الله بن سلام المبشر بالجنة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه ووسوس وقال له: ما هناك شيء، فالسبت عظمه الله في التوراة فلنعظمه أيضاً، وهذا اللحم حرمه الله علينا في التوراة، إذاً: لا نأكله، وليس فيه ضرر، لكن فيه حنين وشوق إلى ما نسخه الله من الشريعة السابقة، وما أراد الله هذا. فكانت هذه الآيات تتناول هذه الحادثة بالذات، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لو أن مؤمناً في بريطانيا أو إيطاليا أو في اليابان أو الصين وقال: أنا سأدخل في الإسلام إلا أنني لا أستطيع ولا أقدر على ترك الخمر، هل يقبل إسلامه؟ ما يقبل، لو قال: أنا أسلم وسأفعل كل شيء إلا أنني ما أصلي صلاة الفجر، فهل يقبل إسلامه؟ وهكذا لو رفض مسألة واحدة من واجبات الإسلام ما صح إسلامه حتى يذعن ظاهراً وباطناً ويقبل ذلك، ونقرأ عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]. وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208] هذا لفظ أيضاً عام. يا معشر المستمعين والمستمعات! إن الشيطان يحسن لنا القبائح ويزين الفضائح، فلا نستجب له، لنطرده بكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لم؟ لأنه عدو لنا بين العداوة ظاهرها أصيل فيها، فكيف نتبعه؟
تفسير قوله تعالى: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم)
ثم قال تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209]، يقال: زلت قدمه، أي: زلق، يمشي في الماء والطين فزلق وسقط وتكسر، يصاب بانكسار في عظمه. فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209] أنتم ماشون في الطريق إلى الله على الصراط المستقيم، فمن زل أو سقط فاستحل ما حرم الله أو ترك وهجر ما أوجب الله فهذا الذي زل وسقط. فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209] بترك فرائض أو بارتكاب محرمات، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:209] التي يحملها القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، فما من حرام إلا وقد جاء في القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام، وما من واجب ولا فريضة إلا جاء في القرآن وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام. فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا [البقرة:209] ماذا نعلم؟ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209] عزيز لا يمانع في شيء أراده أبداً، عزيز غالب قاهر لكل شيء، حتى لا تظنوا أنكم بقبائلكم ورجالكم أو ما أنتم عليه يمكنكم أن تنجوا من نقمة الله، انزعوا هذا من أذهانكم، فإن الله عزيز غالب قاهر. وشيء آخر: أنه حكيم لا ينتقم إلا ممن يستحق النقمة، لا يعذب إلا من استحق العذاب، فلا يخلط ولا يخبط حتى تظن أنه يلتبس عليه الأمر ولا يراك وأنت تستر نفسك بمعصيتك، فهو القوي القادر الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه؛ إذ كل الحياة بين يديه، فهل هذا يُعصى؟ هل يحاول العاقل أن يهرب منه ويمشي وراء عدوه؟ لو كان عاجزاً فقد تقول: لا يستطيع أن ينزل البلاء بأمة كاملة، لو كان غير حكيم فستقول: ممكن أنه بدل أن يضربنا نحن العصاة يضرب آخرين، فلا والله ما كان ولن يكون.
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ...)
ثم قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ [البقرة:210]، فالكسالى المعرضون البطالون الشهوانيون المتعصبون المتزمتون، هؤلاء الذين استجابوا للشيطان عدوهم وأعرضوا عن ربهم فدخلوا في بعض الإسلام وخرجوا من البعض الآخر، فأحلوا بعضاً وحرموا الآخر، وقاموا ببعض وتركوا البعض، هؤلاء ماذا ينتظرون بعد هذا التهديد والوعيد: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:209] وعرفتم الحلال والحرام والواجب والمطلوب فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:209].إذاً: ما لهم تقاعدوا فما تحركوا، ماذا ينتظرون؟ هذا الوعيد الشديد: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] هل ينظر هؤلاء المعرضون عن الله المتكبرون عن طاعته الخارجون عن نظامه، هؤلاء السائحون بالباطل ماذا ينتظرون بعد هذا التهديد والوعيد؟ لم ما أسلموا ودخلوا في الإسلام بكامله، ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة أيضاً؟ وإذا جاء الله لفصل القضاء هل بقي أمل للآملين؟ واقرءوا من سورة الفجر: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:21-23]، ماذا ينفع؟ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:67-68] مرة أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ [الزمر:68-71]، ثم قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73]، وانتهت الحياة كلها واستقر أهل النعيم في نعيمهم وأهل الشقاء في شقائهم، إذ لا عالم ثالثاً، عالم علوي هو الجنة دار السلام وعالم سفلي هو النار دار الشقاء والبوار.
استبطاء المسلمين في تحكيم الشريعة والعمل بكامل الإسلام
سبحان الله! هذه الآية استبطأت العرب المسلمين، ماذا ينتظرون إلى الآن إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210]؟ حكموا وسادوا فلم ما يعبدون ربهم؟ لم لا يدخلون في الإسلام بكامله؟ يحلون البعض ويحرمون البعض، يقومون ببعض ويتركون البعض، من خيرهم في هذا؟ من أعطاهم الخيرة؟ لا إله إلا الله! يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام بكامله، حرموا ما حرم الله وأحلوا ما أحل الله وانهضوا بكل ما أوجب الله وتخلوا واتركوا كل ما نهى الله بكلكم، ليس هناك اختيار لا للفرد ولا للجماعة ولا للأمة، وإلا فالنقمة منتظرة. وقد يقال: كيف تقول للمسلمين هذا، وتقول: النقمة منتظرة؟ والله! إنها لمنتظرة، وهل سبق في تاريخ المسلمين أن أصابهم شيء؟ لما عبدوا سيدي عبد القادر وحجوا القبور وزاروا الأضرحة واستحلوا الحرام، وأصبح الذي لا يزني ليس له قيمة، يقول لصاحبه: أنت ما عندك صديقة؟ فيقول: لا، فيقول له: أنت ميت! وأصبح القرآن يقرءونه على الموتى ولا يجتمع اثنان على تلاوة آية يتدبرانها، وهبطت الأمة، فسلط الله تعالى عليهم الكفرة المشركين، فساموهم الخسف وأذاقوهم مر العذاب، استعمروهم استعبدوهم أذلوهم ترفعوا فوقهم وسادوهم، كيف تم هذا؟ لأنهم ما قبلوا الإسلام بكامله، اختل نظام الإسلام، نظام الإسلام نظام دقيق كالمركبات الكيماوية إذا اختل فيه جزء هبط فلم يفعل شيئاً. عطلوا حدود الله عز وجل وأوقفوها، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وفعلوا ما فعلوا، فضربنا الجبار تلك الضربة، والآن ننتظر متى تنزل النقمة، لم لا تقام الصلاة في العالم الإسلامي بكل دقة ولا يبقى عسكري ولا مدني ولا رجل ولا امرأة لا يشهد صلاة الجماعة إذا دقت الساعة؟ أما خلقنا لهذه؟ لم ما تجبى الزكاة ويعرض عن الضرائب إلا من حاجة؟ لم عطلت الزكاة؟ لم ما هناك من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؟ يقوم الرجل في المقهى فيكفر حتى تحمر السماء، ولا يجد من يقول: هذا لا يجوز، وامرأة تخرج سافرة عاهرة وليس هناك من يقول: هذا باطل أو منكر، فماذا نقول؟ إعراض كامل. وبعد فماذا يفعل الله بهم؟ يمهلهم على حسب علمه، فإذا دقت الساعة ضربهم، وقد قلت: كان نبينا صلى الله عليه وسلم على ذاك المنبر وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] ثم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى أخذه لم يفلته ). أين الأندلس؟ أين الجمهوريات الإسلامية في شرق أوروبا؟ انتقم الله تعالى، فهذه الآية هل درسها المسلمون، هل اجتمع عليها ثلاثة أو أربعة وتفكروا فيها؟ هل درسها مجلس الوزراء وتكلم فيها؟ والله! ما قرءوها ولا يريدون أن يقرءوها. المهم النجاة النجاة، يا عبد الله! اطلب النجاة لنفسك، عجل والتزم بما ألزمك الله به، كف لسانك لا تنطق إلا بما فيه رضا ربك، غض بصرك، طيب طعامك وشرابك وكساءك، ولا تبال بما عليه غيرك من الهابطين، والزم باب الله فإنك لن تذل ولن تخزى، ويجعل الله لك النجاة، أما أن تمشي مع ركب الهالكين فستهلك معهم في أي مكان من العالم. يقول تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] من هؤلاء؟ المتباطئون، ماذا ينتظرون وبعضهم في الإسلام وبعضهم خارج عنه والله تعالى يقول لهم: ادخلوا كلكم كافة، قبل أن يحين الحين وتدق الساعة، هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] إذا جاء الله لفصل القضاء وجاء الملك صفاً صفاً انتهت الحياة، وقضي الأمر وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210] إليه تعود كل القضايا والشئون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ شرح الكلمات: السلم: الإسلام.كافة ] في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]: [ جميعاً، لا يتخلف عن الدخول في الإسلام أحد، ولا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء ]. أما قلت: إن الآية تحمل وجهين مشرقين أم لا؟ أولاً: لا يتخلف عن الدخول في الإسلام أحد لا أبيض ولا أصفر ولا أسود في العالم البشري.ثانياً: لا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء، كل أحكام الله يجب أن تطبق وتنفذ، كل شرائعه يجب أن ينهض بها المؤمنون والمؤمنات.[ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:208]: مسالكه في الدعوة إلى الباطل وتزيين الشر والقبيح. فَإِنْ زَلَلْتُمْ [البقرة:209]: وقعتم في الزلل، وهو الفسق والمعاصي ]، الفسق عن طاعة الله ورسوله والخروج عنها ومعصية الله ورسوله.[ هَلْ يَنظُرُونَ [البقرة:210]: ما ينظرون، الاستفهام للنفي ] ما ينظرون إلا كذا فقط، إلا ساعة الحساب والجزاء.[ الظلل: جمع ظلة، ما يظلل من سحاب أو شجر ونحوهما.الغمام: السحاب الرقيق الأبيض ]، هذا الذي يتجلى فيه الله عز وجل.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآيتين الكريمتين:نادى الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين ] فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:208]، [ ناداهم آمراً إياهم بالدخول في الإسلام دخولاً شمولياً ] ما يبقى جزء لا من الناس ولا من الشريعة، [ بحيث لا يتخيرون بين شرائعه وأحكامه، ما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، وإنما عليهم أن يقبلوا شرائع الإسلام وأحكامه كافة، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل الإبل بحجة أن هذا من دين الله الذي كان عليه صلحاء بني إسرائيل، فنزلت هذه الآية فيهم تأمرهم وتأمر سائر المؤمنين بقبول كافة شرائع الإسلام وأحكامه، وتحذرهم من عاقبة اتباع الشيطان فإنها الهلاك التام، وهو ما يريده الشيطان بحكم عداوته للإنسان. هذا ما تضمنته الآية الثامنة بعد المائتين.أما الآية الثانية -وهي التاسعة بعد المائتين- فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر، وقد عرف أن الإسلام حق وشرائعه حق ]، وفي العالم الإسلامي من يصلي ومنهم من لا يصلي، منهم من يزكي ومنهم من لا يزكي، امرأة محجوبة متحجبة وأخرى سافرة، الربا مباح، البنوك نتكالب عليها، بيوت المؤمنين من صلاة العشاء تغني فيها العواهر ويزغردن ويرقصن، وفيها صور الفساق والفجار والكفار يتبجحون بالكلام وأهل البيت ينظرون، هل كفروا بعد إيمانهم؟ آلله أذن لهم في هذا؟ هذا هو الإسلام؟ ولولا حلم الله وإنظاره وإمهاله لكانت هذه موجبة لنقمة الله منا، بيوتنا شأنها شأن بيوت الرب لا تسمع فيها لغواً ولا باطلاً ولا كلمة سوء، ولا ترى فيها منظراً يسيء بحال من الأحوال؛ لأن المؤمنون أولياء الله، كيف تصبح كبيوت اليهود والنصارى وأخبث؟ أين يذهب بعقولنا؟ يا شيخ! لا تلمنا لأننا ما علمنا! أي نعم ما علموا، والله! ما علموا، ومن علمهم؟إذاً: الطريق هو أن نعلم أم لا؟ والله الذي لا إله غيره! لا طريق إلى إقامتنا واستقامتنا وتحقيق ولاية ربنا إلا بالعودة إلى الكتاب والحكمة في بيوت الرب تعالى، وأعطوني وزراء الإعلام ووزراء التعليم ووزراء الدولة فإن غلبوني فاذبحوني، والله لا سبيل إلى النجاة مما يتوقع في يوم ما من الخراب والدمار إلا بالعودة إلى بيوت الله عز وجل، ففي الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، لا مقهى ولا متجر ولا مصنع ولا مزرعة ولا ملهى، ونحمل نساءنا وأطفالنا وقد تطهرنا وتطيبنا إلى بيوت ربنا، ما هي بيوت الله؟ المساجد حيث الطهر الكامل، ونصلي المغرب كما صليناه الآن ونجلس كما جلسنا الآن، فالنساء وراء الستارة والفحول أمامهن، وليلة آية وأخرى حديثاً، ندرس كتاب الله وسنة رسول الله، فلا نزال نسمو ونعلو ونرتفع، والعلم نور وهداية، فنطهر، فلا غش ولا خداع ولا كذب ولا شح ولا باطل ولا إسراف ولا ترف ولا كسل ولا قعود عن العمل، وبعد سنة واحدة يصير أهل القرية كأنهم أسرة واحدة من أسر الصحابة رضوان الله عليهم. ومن غير هذا فوالله الذي لا إله غيره! لا يتحقق الكمال، وجربنا، أما عندكم مدارس وكليات وجامعات، أين آثارها؟ أين هي؟ السرقة والتلصص والإجرام والخيانة والكذب وشهادة الزور والربا؛ لأننا ما علمنا، ما عرفنا، أعرضنا فأعرض الله عنا.وعندنا بشرى قد يفرح بها بعض المؤمنين، وهي: أننا -كما علمتم- لسنة كاملة وزيادة ونحن نصرخ هذا الصراخ ونبكي هذا البكاء ونقول: هيا بنا نعود إلى ربنا ليرحمنا، فقط من المغرب إلى العشاء، المصانع تشتغل والمدارس وكل الأعمال طول النهار، وفيما بين المغرب والعشاء فقط نأتي بيت ربنا بأطفالنا ونسائنا ونبكي بين يديه ساعة وندعوه ونستمطر رحماته ونطلب ألطافه وإحسانه، ونخرج شباعاً مستنيري القلوب والبصائر، وهذا كل ليلة، فلا تمضي سنة إلا ونحن علماء، ليلة نحفظ آية ونفهم معناها وغداً نطبقها على الفور ونعمل بها، وفي الليلة بعدها حديث من أحاديث الرسول الشارحة للقرآن المفسرة المبينة له، يحفظ الحديث ويعمل به، وبعد سنة أو سنتين كيف تكون تلك الأمة؟ كأنهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، لا غيبة، لا نميمة، لا كبر، لا غش، لا خداع، لا شح، لا بخل، لا كبر، كل مظاهر السوء والباطل تنتهي؛ لأنها سنة الله في خلقه.وندلل على هذا ونقول: هيا يا علماء الفلسفة والنفس، فعندنا شيء واقع: أعلمنا بالله وأعرفنا به وبمحابه أتقانا لله عز وجل، في أي بقعة، هل هناك من يرد هذا؟ أعرفنا بالله أتقانا لله، أقلنا سوءاً وباطلاً ومنكراً، وأجهلنا أكثرنا ضلالاً وظلماً وشراً وفساداً، أمر واضح كالشمس، فمن يرده؟ ثم أكبر برهان أن القرون الذهبية الثلاثة لما كانت الأمة فيها مقبلة على الكتاب والسنة لا تعرف غيرهما أين وصلت؟ والله! ما عرفت الدنيا لهم نظيراً ولا مثيلاً.ثانياً: لما هجرنا الكتاب والسنة وأحيل القرآن إلى الموتى وتركت السنة وأهملت أين وصلنا؟ إلى الحضيض. وهل تطالب بدليل وبرهان؟ تفضل امش إلى قرية واجمع نساءها وأطفالها وعلمهم ليلة آية وليلة حديثاً وانظر العاقبة كيف تتم؟ ففي سنة واحدة فقط نسبة الفساد تقل أكثر من خمسة وتسعين في المائة. وهذه البشرى أزفها إليكم؛ حيث وردنا اليوم كتاب يقول صاحبه: حضرنا دروسكم في المسجد النبوي وقرأنا معكم كتاب (المسجد وبيت المسلم)، وقد حملنا الفكرة كما هي في قرية في مدينة صحراء الديار الجزائرية البعيدة، يقول: نحن الآن إذا جاء المغرب لن تجد رجلاً ولا ولداً ولا امرأة في الشارع، كلهم في المسجد، ونقرأ ليلة آية وليلة حديثاً كما في الكتاب، وضاق المسجد بنا ما اتسع لنا فوسعناه فاتسع. هذه ظاهرة ككوكب لاح في سماء المسلمين، فلو عمل العلماء وأخذوا بهذه لانتشر هذا النور في الشرق والغرب، ولكن ما وفقوا. قال: [ أما الآية الثانية -وهي التاسعة بعد المائتين- فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر، وقد عرف أن الإسلام حق وشرائعه حق، فقال تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:209] يحملها كتاب الله القرآن الكريم ويبينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سينتقم منكم؛ لأنه تعالى غالب على أمره، حكيم في تدبيره وإنجاز وعده ووعيده. وأما الآية الثالثة فقد تضمنت حث المتباطئين على الدخول في الإسلام؛ إذ لا عذر لهم في ذلك حيث قامت الحجة وظهرت ولاحت المحجة ] أي: الطريق، [ فقال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ [البقرة:210] أي: ما ينظرون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210] وعند ذلك يؤمنون، ومثل هذا الإيمان الاضطراري لا ينفع حيث يكون العذاب لزاماً بقضاء الله العادل، قال تعالى: وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210] أي: إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وانتهى الأمر إليه فحكم وانتهى كل شيء، فعلى أولئك المتباطئين المترددين في الدخول في الإسلام المعبر عنه بالسلم -لأن الدخول فيه حقاً سلم، والخروج منه أو عدم الدخول فيه حقاً حرب ] والعياذ بالله عليهم [ أن يدخلوا في الإسلام، ألا إلى الإسلام يا عباد الله ] عجلوا، أسلموا قلوبكم ووجوهكم لله، إذا أحل شيئاً فأحلوه، وإذا حرم شيئاً فحرموه حتى النظرة والكلمة، وإذا أوجب واجباً فقوموا به، وإذا نهى عن شيء فاتركوه، هذا هو الإسلام؟
هداية الآيات
هاتان الآيتان تضمنتا خمس هدايات. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات:من هداية الآيات:أولاً: وجوب قبول شرائع الإسلام كافة وحرمة التخير فيها.ثانياً: ما من مستحل حراماً أو تارك واجباً إلا وهو متبع للشيطان في ذلك.ثالثاً: وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام؛ لئلا يكون أمناً من مكر الله.رابعاً: إثبات صفة المجيء للرب تعالى لفصل القضاء يوم القيامة.خامساً: حرمة التسويف والمماطلة ] والتراخي [ في التوبة ].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (131)
الحلقة (138)
تفسير سورة البقرة (96)
لقد أخبر الله عز وجل عن بني إسرائيل وبين حالهم مع أنبيائهم ومع رسالات ربهم، حيث إنه لم يرسل الله إلى أحد من خلقه من الرسل بقدر ما أرسل إلى بني إسرائيل، لكنهم لفرط طغيانهم وتمردهم كذبوا كل رسول جاءهم، وطلبوا الآيات المعجزات الدالة على صدق الرسالة، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم تخبت قلوبهم لربهم، وإنما أمعنوا في الضلال فكذبوا المرسلين حتى إنهم قتلوا فريقاً منهم، فاستحقوا بذلك غضب الله وأليم عقابه.
تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل وكلنا أمل ورجاء في أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).ولا ننس تلك البشرى أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وها نحن مع قول ربنا جل ذكره وعظم سلطانه من سورة البقرة: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:211-212].هاتان الآيتان نوران وكوكبان، من يهتدي بهما وعليهما؟معاشر المستمعين والمستمعات! يا من يتدارسون كتاب الله! قوله تعالى: سَلْ [البقرة:211] هذه بمعنى: اسأل، فحذفت الهمزتان للتخفيف؛ لأن هذا القرآن يحفظ عن ظهر قلب، فمن هنا يسره الله وسهله، وقد أخبر بذلك في غير آية: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، ففرق بين: (اسأل) و(سل).
ذكر بعض خبر إبراهيم عليه السلام الذي انحدر من نسله بنو إسرائيل
يقول تعالى: سَلْ [البقرة:211] من المأمور بأن يسأل؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هم بنو إسرائيل؟ إنهم ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ويعقوب هو الملقب بإسرائيل، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أولاد يعقوب انتشروا وتكونت منهم أمة بني إسرائيل إلى الآن. وهل تعرفون عن إسحاق ويعقوب شيئاً؟لما هاجر إبراهيم من أرض بابل من دياره وديار آبائه وأجداده، فكانت هجرته أول هجرة في التاريخ البشري، هاجر لأنه دعا إلى الله في أمة تعبد الأوثان والأصنام، فلم يجد من يصغي إليه أو يسمع أو يستجيب، ووقف والده آزر في حلقه وشدد عليه، وأصدرت الحكومة حكمها بالإعدام عليه وبأبشع صورة في قتل الآدمي؛ إذ حكموا بإحراقه بالنار، وقد علمنا أنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، ولكنه الظلم البشري، وشاء الله أن يريهم آية من آياته ومعجزة من معجزاته الخارقة للعادات، أججوا النيران وأوقدوها وأسهم كل واحد بحزمة حطب، والحيوانات ما أسهمت في هذه النار إلا الوزغ، فالوزغة كانت تنفخ بفمها لتؤجج النار، ولهذا سن النبي صلى الله عليه وسلم قتلها في البيوت في المدينة، وكانت لأمنا عائشة الصديقة جريدة من جريد النخل في حجرتها، فكلما رأتها قتلتها.لما أرادوا أن يلقوه في ذلك الأتون من النار ما استطاعوا أن يقتربوا من النار، فكيف يصلون بإبراهيم إلى تلك النار الملتهبة كأعظم تنور في التاريخ؟ فما كان منهم إلا أن أرشدهم الشيطان بواسطة أوليائه بأن يصنعوا منجنيقاً أو ما يسمى بالمقلاع، وهو موجود عندنا كنا نرمي به الحجارة، فصنعوا المقلاع ووضعوا فيه إبراهيم ودفعوه؛ لأن الطير ما كان يمر فوقها، كان يحترق من النار.لما رموا به عرض له جبريل يمتحنه: يا إبراهيم! هل لك حاجة؟ وهو في أشد الحاجة، فلحظات وستلتهمه النيران، فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. هذه قالها إبراهيم وقالها المهاجرون والأنصار في هذه الدار بعدما تمت هزيمتهم في أحد، سبحان الله! هل هزموا وهم الأنصار والمهاجرون؟ إي ورب الكعبة، لم؟ لتأديبهم وتربيتهم، لأنهم مهيئون لأن يضيئوا الدنيا بنور الله، فلو سامحهم وعفا عنهم وقد خالفوا نظام الحرب والقتال لقالوا: من الآن لا خوف علينا ولا حزن، نفعل ما نشاء، نحن أولياء الله! وقد ذكرت لكم رؤيا رآها الشيخ محمد عبده أو تلميذه رشيد رضا، ذكرت في تفسير المنار لهما قالا: تكلمنا في هذه القضية ونمنا، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته قادماً من أحد وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة. ليوافق ربه عز جل؛ لأن الرماة -وكانوا خمسين رامياً- أجلسهم القائد صلى الله عليه وسلم في مركز وألزمهم بالثبات ألا يتحركوا حتى ولو تتخطفهم الطير، ولكن العدو إبليس لما انهزم المشركون وجرى وراءهم أبطال الإيمان يسلبون ويأخذون الغنائم قال لهم: الآن ما بقي حاجة إلى البقاء في هذا المركز، الهزيمة تمت للمشركين، فنزلوا إلا قائدهم ونفر، قال: أمرنا رسول الله أن نثبت فلنثبت. ما إن نزلوا من الجبيل الموجود إلى الآن حتى جاءت خيل المشركين يقودها خالد بن الوليد ، فاستحلوا المركز وأرسلوا عليهم نبالهم وسهامهم، فوقعوا بين فكي المقراض، فكانت هزيمة، يكفي أن تكسر رباعية الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وأن يشج وجهه وتسيل دماؤه، يكفي أن يستشهد عمه حمزة بن عبد المطلب ومعه سبعون مؤمناً، لمخالفة لا نعدها نحن مخالفة أبداً ولا معصية، ونريد أن نعيش على طول الخط مخالفين لرسول الله وفي كل شيء وننتصر ونعتز ونسود، والله! ما كان ولن يكون.ثم إن أبا سفيان لما انتصر وعاد بجيشه وتجاوز الروحاء فكر في العودة لاستئصال البقية الباقية، قالوا: ما حققنا الهدف الحقيقي، هيا نرجع. فبلغ رسول الله وأصحابه أن أبا سفيان يريد الكر عليهم من جديد، فقالوا قولة إبراهيم: حسبنا الله ونعم الوكيل. وسجلها الله في كتابه العزيز، واقرءوا: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:171-173]، والله! لقد خرج الرجل يحمل أخاه جريحاً كسيراً ليشهد المعركة من جديد، ما هي إلا ليلة واحدة وحمل المؤمنون أنفسهم وخرجوا لقتال جيش أبي سفيان ، ولكن الله صرف أبا سفيان وأبعده، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174].فإبراهيم عليه السلام قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجاه الله، إذ قال الله تعالى للنار المتأججة الملتهبة التي جمع لها الحطب أكثر من أربعين يوماً وهي تشتعل، صدر أمر الله تعالى إليها وهو قوله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وهل النار تعقل؟ أيكلمها خالقها ولا تعقل ولا تفهم؟ ما الفرق بينك وبينها؟ ما الفرق بينك وبين السحاب والرياح؟ الكل مخلوق فقط. يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] لولا قوله تعالى: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لمات إبراهيم من شدة البرد، لكن قال تعالى: وَسَلامًا [الأنبياء:69] فسلم، والله! ما احترق من الخليل إلى كتافه الذي يشد به يداه ورجلاه فقط، وخرج وجبينه يتفصد عرقاً، ومن ثَمَّ هاجر، فلا ضرورة تستدعي بقاءه هنا، فمن خرج معه؟ زوجه بنت عمه سارة وابن أخيه لوط عليه السلام، هذه هي حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة من السنين، فخرج، وتجول في أرض الشام إلى أن انتهى إلى مصر كما تعلمون.
البشارة بإسحاق الذي كان من ذريته بنو إسرائيل
وخلاصة القول في إسحاق: أنه لما أرسل الله تعالى لوطاً إلى سدوم عمورة، مدن كبيرة هي الآن تسمى بالبحر الميت، حتى الحوت لا يوجد فيه، لأنه منتن، إذ قلب جبريل تلك المدن عاليها سافلها.إذاً: لما أرسل الله تعالى لوطاً إلى تلك الأمة العاتية الطاغية المتحضرة المتمدنة التي استزلها الشيطان وأسقطها إلى حضيض الوسخ، وأراد الله عز وجل إهلاكها؛ لأنها بدلت نعمة الله كفراً؛ كان إبراهيم عليه السلام في أرض فلسطين، وإذا بوفد من ثلاثة رجال من خيار الرجال وأحسنهم، إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، نزلوا عليهم ضيوفاً فأهل وسهل ورحب، وفجأة مال إلى وراء بيته وجاء بعجل ذبيح سمين وقربه إليهم، فلهذا لقب بأبي الضيفان، وقربه إليهم وقال: ألا تأكلون؟ وهنا لطيفتان كثيراً ما قلناهما: اللطيفة الأولى: أنه قربه إليهم، ما وضعه في الغرفة وقال: تعالوا ليسوقهم كالأغنام، بل أدناه منهم وقربه إليهم.الثانية: ما قال: كلوا كأنه يأمرهم ويتحكم فيهم، بل قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] ألا: أداة عرض، أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] قالوا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه. قال: إذاً: كلوه بحقه. قالوا: وما حقه؟ قال: أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره.يا معشر الآكلين والآكلات والمزدردين والمزدردات للطعام كل يوم! افتتحوه بباسم الله واختموه بحمد الله وإلا فأكلكم باطل وما أكلتم حلالاً، ما حق الطعام؟ البسملة في أوله وحمد الله في آخره، باسم الله وتشرع في الأكل، فإذا ختمت فالحمد لله، هذا هو الثمن، وإلا أكلت ما لا ينبغي لك، ما هو حقك. وهنا نظر جبريل إلى ميكائيل أو مكائيل إلى جبريل وقال: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً! أي: وجب وثبت للرجل أن يتخذه ربه خليلاً، هل بعد الخلة حب؟ كل أنواع الحب الخلة فوقها؛ لأنها تتخلل شرايين القلب وتملؤه، فمن خليل الرحمن؟ هل جاء بعده لله من خليل؟ أي نعم. رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ) معناه: أنه اتخذ الله خليلاً. إذاً: وعرف أنهم ملائكة، وكانت البشرى، فقد كانت السيدة سارة هذه زعيمة نساء العالم عليها ألف سلام إلى يوم القيامة، كانت تباشر مع زوجها، ساعدته على تقديم الطعام وهي واقفة، فبشروها بغلام، فصكت وجهها متعجبة: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72] فصكت وجهها على عادة ربات الحياء وقالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73].قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] لما قدم تلك الضيافة أكرمه الله: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] هذه البشرى لن يقوى عليها كائن من الخلق، بشروه بإسحاق، فشعرت بالولد في بطنها وقد كانت عقيماً ما تلد وكبرت سنها وإبراهيم تجاوز المائة والعشرين، لكن كونه يحيا إسحاق ويولد له ويسمى بيعقوب هذا هو الذي ذكرنا، هذا يعقوب هو إسرائيل، وإسرائيل كعبد الله، كعبد الرحمن، لأن (إيل) بمعنى: الله.
إعراض بني إسرائيل مع كثرة ما رأوه من الآيات البينات
يقول تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211] عرفنا من هم بنو إسرائيل؟ أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ولم يقول الله تعالى لمصطفاه: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211]؟ ليخفف عنه آلامه، ليخفف عنه أتراحه وأحزانه مما يعاني من المشركين والمنافقين واليهود. سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211] يخبروك كم شاهدوا من آيات وما آمنوا ولا انقادوا ولا أسلموا ولا أطاعوا، أما شاهدوا عصا موسى تتحول إلى ثعبان تلتهم وادياً كاملاً بما فيه؟ أما شاهدوا آية أخرى هي يد موسى يخرجها من جيبه وكأنها فلقة قمر؟ أما شاهدوا البحر كيف ينقسم إلى اثني عشر قسماً وكل قبيل يدخل في قسمه؟ أما شاهدوا في تيههم أنه ينزل اللحم المشوي وأن العسل ينزل من السماء؟ آيات، هل نفعتهم تلك الآيات؟ إذاً: لا تحزن يا رسول الله إذا لم يستجيبوا لك ولم يقبلوا دعوتك، كما أن في الآية أيضاً: تأنيباً وتعنيفاً للذين ما زالوا مصرين على الكفر من اليهود والمشركين. سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة:211] وهنا (كم) للتكثير، والآيات جمع آية، وهي العلامة الدالة على الشيء، ولكنها هنا خارقة للعادة.مثالها: أنهم لما قتل أحدهم عمه ليرثه ورفعت القضية إلى موسى وما عرفوا من القاتل، وكل ادعى كذا وأخذ القتيل ووضعوه عند باب الآخر، فقال تعالى لهم: اذبحوا بقرة وخذوا قطعة من لحمها واضربوه فإنه يحيا وينطق ويقول: قتلني فلان، والله! لكان ذلك، إذاً: أية آية أعظم من هذه الآية؟ أما كان عيسى ينادي من على النعش وهو محمول إلى المقبرة: يا فلان بن فلان، فيرفع عن نفسه الكفن ويقول: لبيك يا روح الله، يقول: ضعوه، امش إلى أمك!آيات، فهل آمنوا عليها؟ ما آمنوا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان له آية انفلاق القمر وانشقاقه فلقتين، أية آية أعظم من هذه؟ القمر مثل الأرض أو أكبر ينقسم قسمين أمامهم ما بين جبل أبي قبيس ورأوه أمامهم، هل آمنوا؟ آيات الرسول بلغت ألف آية، منها أنه حان الأذان يوماً وأخذ الناس يتوضئون فما وجدوا الماء، إذاً: فجيء بركوة فيها ماء فغمس فيها الرسول أصابعه وإذا بها تفيض بالماء، فتوضأ منها سبعون رجلاً أو ثمانون. وفي الحديبية كان العمار ألفاً وأربعمائة معتمر، عطشوا أيضاً وانقطع الماء وخافوا من العطش والموت، فأتوا بركوة أيضاً فوضع فيها أبو القاسم يده فصارت كعين فوارة، فسقوا وملئوا قربهم وأزودتهم وتوضئوا وشربوا والماء يفور، أية آية أعظم من هذه؟ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة:211] واضحة كالشمس دالة على وجود الله ووجوب عبادته وحده دون من سواه، وعلى نبوة النبي وصدق دعواه فيما يدعو إليه.
معنى قوله تعالى: (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب)
قال تعالى: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ [البقرة:211]، اسمع هذا الخبر العظيم: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] ما الذي يحصل؟ الانتقام، التدمير، التخريب، الإذلال، الإهانة، التمزيق؛ لأن الله شديد العقاب، إذا عاقب وأخذ بعد الإثم أو الذنب فعقابه شديد. والآن كيف أمسيتم؟ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ [البقرة:211] ما هي نعمة الله؟ النعم كثيرة لا تحصى، إذ قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، لكن في هذا الموطن بالذات، في هذا الموقف، في هذا السياق الكريم نعمة الله هنا الإسلام وشرائعه، أما قال تعالى من سورة المائدة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]؟ نعمة الله هنا الإسلام وشرائعه، الموصل أهله إلى عز الدنيا وكرامتها، إلى السيادة والريادة والقيادة على الطهر والصفاء، إلى الغنى، وفي الآخرة إلى دخول دار الأبرار الجنة دار السلام، فكيف تبدل نعمة الله؟ اليهود بدلوها بالكفر والشرك، فأصابهم الذل والإهانة آلاف السنين وهم يعيشون في الذل والهون والدون. هنا يجب أن نتدبر، عرفنا قول ربنا: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211] والله! لا نعمة أجل ولا أبرك ولا أطيب ولا أنفع من نعمة الإسلام، الإسلام بشرائعه وقوانينه، إذ هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.
الاستعمار عقوبة استبدال المسلمين العقيدة بالخرافة
وقد استبدل المسلمون من القرن السابع بالعقيدة الربانية السليمة الصحيحة الخرافات والأوهام والضلالات، إذاً: فعاقبهم الله -كما علمتم- فسلط عليهم الغرب والشرق فأذلوهم، أهانوهم، حكموهم، فعلوا فيهم الأعاجيب، ويكفي أنهم أورثوا فيهم صفات الدون والهون، الآن نحن نصلي المغرب والرجل ببرنيطته -والله- كأنه يهودي مر بين أيدينا، أعوذ بالله! لأن الغرب لما غلب وساد وانتصر وأذلنا وأهاننا أصبحنا نعشق حياته في المأكل، في المشرب، في الملبس، في الفهم، في كل شيء كشأن المغلوب يتأسى بالغالب.
إعراض المسلمين عن إقامة دعائم الإسلام بعد الاستقلال
والآن جاءت محنة جديدة، استقل العالم الإسلامي من أندونيسيا إلى موريتانيا استقلالاً، لا تعترض علي وتقول: ما استقلوا، والله! استقلوا، الآن يديرون أمورهم بأيديهم، وإذا كان هناك خبراء أو كذا من غير المسلمين فهذا لا حرج فيه ولا ضيق، فهم مستقلون، فماذا فعلوا؟ أين تطبيق شريعة السماء في الأرض؟ ابتدئوا بالقواعد الأربع البسيطة التي لا تكلف ديناراً ولا درهماً، وهي دعائم الدولة الإسلامية، وقد تكررت وقرأناها، إلا أن السورة التي فيها هذه الدعائم ما تقرأ على الموتى، فهي طويلة، لو كانت كالكهف أو (يس) لعرفها المسلمون، أنها سورة الحج، فما هذه الدعائم؟ يقول تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ما معنى: مكناهم، ومكنا لهم؟ أي: حكموا، سادوا. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ماذا فعلوا؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] ما معنى: أقاموها؟ لم يسمح لمواطن ذكراً أو أنثى، عزيزاً أو ذليلاً، غنياً أو فقيراً أن يؤذن المؤذن وهو في الشارع يلعب أو في دكانه يبيع ويشتري، الكل إلى بيت الرب عز وجل، ومن ضبط وهو لا يصلي فإنه يستتاب ثلاثة فإن تاب وإلا أعدم، إذ خلقنا للصلاة، خلقنا لأي شيء؟ والله! للصلاة، إذ مظاهر العبادة كلها في الصلاة، وإليكم بعض بيانها: المصلي قبل أن يأتي إلى بيت الرب يطهر ثيابه ويغسل بدنه ويزيل الحدث عنه ويمشي إلى بيت الرب، هذا التطهر، هذا الغسل، هذا الوضوء لوجه الله، فهو عبادة، ثم يدخل بيت الرب فيستقبل بيته لا يحرف وجهه لا شرقاً ولا غرباً، ولكن إلى بيت ربه، ويقف بين يديه وقفة الذليل المنكسر ويرفع يديه: الله أكبر، فما يبقى في العالم من هو أكبر من الله يخافه أو يرهبه أو يلتفت إليه أو يفكر في حاله وشأنه.ويقرأ كتاب الله، يتملقه بآياته التي أنزلها، وفجأة ينحني، يركع بين يديه وإن كان فلان بن فلان، ينكسر ويذل ويركع بين يدي الله، ويأخذ في تسبيحه لله: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة أو إحدى وعشرين، ثم يرفع رأسه بين يدي ربه قلاً: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ثم يخر إلى الأرض ساجداً على التراب يعفر أعز عضو في أعضائه وأطهرها وأصفاها وهو الوجه، هل بعد الوجه شيء؟ وضعك قدمك على الأرض غير مهم، ووضع كفيك غير مهم، ووضع ركبتيك غير مهم، لكن وضع وجهك على الأرض، يضع جبهته وأنفه الذي يشمخ به علواً وكبرياء، يذل بين يدي الله ويأخذ في هذه العملية الساعة والساعات، أية عبادة أعظم من هذه؟ فلهذا فالذي لا يصلي كافر لا يدخل الجنة أبداً، وليس من أهل الإيمان ولا الإسلام. إذاً: هذه العبادة التي خلقنا من أجلها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] لا لشيء آخر أبداً، ما هو في حاجة إليهم أبداً، ما خلقهم إلا ليسمع ذكرهم له ويرى شكرهم له عز وجل.وقد عايشنا -والحمد لله- الاستقلالات استقلالاً بعد استقلال، كلما يستقل إقليم نكبر في نادي الترقي: الله أكبر، طلع الإسلام من جديد، وخاصة يوم استقلت إندونيسيا وباكستان، اعتقدنا أن الإسلام طلع كوكبه، والآن سيسود العالم، فكان يستقل الإقليم ويمكنهم من الله، فبدل أن يقيموا الصلاة يقيموا حفلات الرقص وشرب الخمر والصياح، ولا إله إلا الله! كأنهم ما عرفوا الله ولا سمعوا به. وإياكم أن تفهموا أن هذا الشيخ يقول ما لا يعلم أو يكذب عليكم، انزع هذا من ذهنك، لقد أقاموا حفلات استقلال، والله يقول: أقاموا الصلاة. ورحم الله مسعودنا وأخاه، مضيا وسبقانا إلى دار السلام، لما استقلت الجزائر قالا: هيا بنا نمشي نصلي في قباء على أرجلنا شكراً لله تعالى، وفعلا، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا [الحج:41] ماذا؟ الصَّلاةَ [الحج:41]. وأعطوني علماء النفس والاجتماع والسياسة نتكلم معهم دقيقة، والله العظيم! لو أقيمت الصلاة في بلد في إقليم لساده الأمن الذي لو وضعوا أمام كل باب بوليساً بالرشاش ما حققوه، إذا أقيمت الصلاة بالمعنى الذي يقول الله: أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] على علم وبصيرة، ذلك البلد ينتهي منه الخبث، ذاك الخبث الذي لو تبذل الملايين على إزالته ما يزول إلا بإقامة الصلاة، وما ينفق على إبطال المنكر وما لا يتلاءم مع الأمة ودينها لو يبذلون المستحيل فلا يمكن أن يزول، ولكن يزول بإقام الصلاة. ومن قال: برهن يا شيخ ودلل؛ قلنا: هل دولة الرسول وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي كان عندهم بوليس وشرط؟ لا، هل عرفت الدنيا أمناً وطهراً كما عرفته يومئذ؟ الجواب: لا، لأنهم أقاموا الصلاة، كل مؤمن بوليس، هل تعرفون هذا أم لا؟ أيام أحداث جهيمان خاف بعض أهل القرى إذا أردنا أن نتكلم معهم، فقلت لهم: لا تخافوا أبداً، أتدرون من نحن؟ كل واحد منا هو في المباحث وهو بوليس، هل فينا من يرى منكراً ويسكت؟ يرى باطلاً ويشجع عليه؟ يجوز هذا؟ ما هي مهمة البوليس إذاً؟ أهي مقاومة الفساد أم لا؟ فهيا أروني مؤمناً يشاهد منكراً ويرضى وتطمئن نفسه؟ إذ كل مؤمن باستقلاله آمر بالمعروف ناه عن المنكر، هو سيد البوليس في العالم، ولكن أبوا أن يجعلوا للصلاة شأناً، فمن شاء صلى ومن شاء غنَّى. والبرهنة ما سأقول، وقد يقول لكم إبليس: هذا الشيخ يتملق الحكومة السعودية، عميل، ذنب، فلعنة الله على إبليس، والعجب: كيف يقبل العقلاء هذا الكلام؟ هذا الكلام نقوله ونردده ويا ليتنا أسمعناه كل مسلم في الأرض، هذه براهين أنوار الله في كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
دولة عبد العزيز وتباطؤ الحكام عن ضم الأقاليم المستقلة إليها
لما أقام عبد العزيز باسم الله هذه الدولة فوالله العظيم! لقد ساد هذه البلاد أمن لم تحلم به ولم تره بقعة في العالم، إلا على عهد القرون الذهبية الثلاثة، كان الرجل يمشي من أقصى المملكة إلى أقصاها لا يخاف إلا الله، أبعد هذا يقولون: كيف؟ ما يريدون هذا؟ لأنهم لا يريدون أن تقام الصلاة ويؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا الله واضع هذه القواعد: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشرت في هذه المملكة انتشاراً عجباً، أريكم منها صوراً وعندي من ينطق.كان رجل الهيئة وهو إمام المسجد يقرأ في صلاة الصبح قائمة: إبراهيم بن عثمان، صالح بن زيد، علي بن فلان، من هو الذي تخلف عن صلاة الصبح؟ فيذهبون إليه، إن كان مريضاً واسوه أو داووه، وإن كان غائباً حرسوا بيته، وإن كان تأخر أدبوه وجروه بعمامته وأدبوه تأديباً كاملاً، فأقيمت الصلاة وجبيت الزكاة، ويجبون ماذا؟ صاع الشعير والعنز، هل هناك غير هذا؟ لا بترول ولا فضة، بل حفنة التمر والشعير والعنز، جبيت الزكاة طاعة لله عز وجل، إذاً: فساد هذه الأرض طهر لم تعرفه إلا أيام الصحابة وأحفادهم وأحفاد أحفاهم، ثلاثة قرون. فلم حين كان يستقل الإقليم من فرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا ويمكن الله للعباد البلاد؛ لم لا يأتون عبد العزيز ويقولون: أنت دولتك أول دولة في هذا العهد، أعطنا قضاة يطبقون الشريعة، ونتعاهد معكم؟ وسوف تعرفون هذا يوم القيامة.كان المفروض أنه أول إقليم يستقل -وأظنه سورية من فرنسا- يجب أن يأتي أهله ويضمون سورية إلى السعودية، والله! إنه لواجب، وامتناعهم هو الذي دمرهم وحرمهم الإسلام، لو انضمت سورية وطبق فيها شرع الله فستصبح كالجنة. واستقل الإقليم الآخر فيأتي رجاله: لقد خرجت بريطانيا، فهيا باسم الله تعالى، ابعث والياً وقضاة، وهكذا، فما تمضي ثلاثون سنة أو أربعون إلا وأمة الإسلام دولة واحدة، وشريعة الله تطبق، فلماذا ما فعلنا؟ ما نريد الإسلام ولا شرائعه ولا قواعده ومن ثَمَّ كان البلاء، وأعطانا الله آية عجيبة، فاللهم لك الحمد، الحمد لله، الحمد لله أن أرانا آية من آياته، وهي: أن أوجد تلك الحفنة من اليهود وأذلنا بهم إذلالاً عجباً، لما دخلوا فلسطين وأخرجوا الأردن جمعوا قناصل وسفراء العرب على جدار وبالوا عليهم! فمن أذلنا؟ الله، لا الغرب ولا الشرق ولا أمريكا ولا الهند، هو جل جلاله وعظم سلطانه، هو الذي أرانا آياته ومع هذا أعمينا أنفسنا عنها وأبينا أن ننظر إليها، واستمر العرب والمسلمون على الإلحاد والباطل والزيغ، لا صلاة ولا زكاة ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ولا وتطبيق لشرع الله وهكذا، فهذا كفر أم ماذا؟ ما هذه الآية؟ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211] معناه: سيعاقب أشد العقاب وآلمه في الدنيا وفي الآخرة معاً، فهل فهمتم هذه؟ هل يسمعها العرب والمسلمون؟ هل رجال العلم والصحافة يكتبون؟ لا، أمة ميتة حتى يحييها الله عز وجل، اللهم أحينا يا ربنا، اللهم أحينا يا ربنا، يا من يحيي العظام وهي رميم أحي هذه الأمة بعد موتها يا رب العالمين.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (132)
الحلقة (139)
تفسير سورة البقرة (97)
إن إبليس عليه لعنة الله أخذ عهداً على نفسه أن يضل العباد، فهو يزين للذين كفروا الحياة الدنيا، ويصور لهم متاعها على أنه المتاع الدائم الذي لا يحول ولا يزول، ويزهدهم في الآخرة فلا يريدون سماع خبرها ولا الكلام عنها، فعاقبهم الله عز وجل بأن وكلهم إليها وجعل متاعها هو جل ما يجنون، وهم في الآخرة محرومون مطرودون، ويرفع المؤمنين فوقهم يوم القيامة بما كانوا يسخرون منهم في الدنيا.
تابع تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فكيف نظفر بهذا الخير لولا توفيق ربنا وهدايته لنا، حيث جمعنا على كتابه في بيته نتلوه ونتدارسه؟ وها نحن مع هذه الآيات المباركات، وهما آيتان من سورة البقرة انتهى الدرس إليهما.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:211-212].
الأمر بسؤال بني إسرائيل عما جاءهم من الآيات
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211]؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، خالق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، خالقنا ورازقنا، واهبنا عقولنا وطاقاتنا وقدراتنا، هذا الذي يقول لرسوله ومصطفاه: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:211] عرفتم من الآمر؟ الله جل جلاله، الذي اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم وأرسله رسولاً للعالمين. سَلْ [البقرة:211] أي: اسأل، وحذفت الهمزة -كما قدمنا- مع همزة الوصل للتخفيف، لقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]؛ فإن قولك: (اسأل) فيه صعوبة، أما (سل) فتخفيف من ربكم، سل يا رسولنا، يا مصطفانا، سل بني إسرائيل أهل الكتاب اليهود، أولاد إسرائيل هم أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، إذ يعقوب يكنى بإسرائيل واسمه يعقوب.
بشارة سارة بإسحاق عليه السلام
وتذكرون أن سارة امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد مع عقمها وكبر سن زوجها قالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72]، قالت الملائكة: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73]. سارة التي هاجرت وفارقت ديارها مع زوجها إبراهيم الخليل عليهم السلام، ولما دقت الساعة لتدمير حواضر ما حلمت الدنيا بمثلها -سدوم وعمورة- جاء الوفد الذي يقوم بهذه المهمة وعلى رأسهم جبريل، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، نزلوا ضيوفاً على إبراهيم، فلما نزلوا عليه ضيوفاً ماذا فعل؟ قال تعالى: فَرَاغَ [الذاريات:26] مال إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:26-27] هذا الكرم، ولهذا كني إبراهيم بأبي الضيفان على لسان سيد المرسلين، فجاء بعجل حنيذ، مشوي باللهجة اليمنية، وقربه إليهم، ثم ما قال: كلوا، فما ينبغي أن يكون فوقهم، من آدابه السامية الرفيعة أنه قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] عرضٌ عرضه لا أمرٌ أمرهم به. فقالوا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه. قال: كلوه بحقه. قالوا: فما حقه يا إبراهيم؟ قال: أن تسموا الله في أوله وأن تحمدوه في آخره. والحمد لله؛ فنحن نأكل الطعام صباح مساء بحقه، لا نأكل طعاماً ولا نشرب شراباً بدون أن ندفع القيمة، والحمد لله، القيمة أن تقول: باسم الله، فإذا شبعت قل: الحمد لله، فقد أديت الثمن المطلوب. إذاً: فلما قال إبراهيم: كلوه بحقه، وسألوه: ما حقه؟ قال: أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوه في آخره؛ التفت جبريل إلى ميكائيل وقال: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً! هو أهلٌ للخلة، حق للرجل أي: ثبت وتعين أن يتخذه ربه خليلاً.إذاً: وعرف أنهم ملائكة، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، فقالوا: جئناك لمهمة، ومع هذا تلطف إبراهيم وقال: إن فيهم لوطاً، قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّه ُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت:32] خبيثة منتنة، وأما لوط وبناته فسوف نستلهم استلال الشعرة من العجين، فقلبت تلك العواصم وانقلب ظاهرها باطنها وباطنها ظاهرها، وتحولت بمرور الأيام إلى بحيرة منتنة تسمى الآن بالبحر الميت، هذا البحر ما يوجد فيه حوت ولا ضفادع.
ذكر بعض الآيات التي أريها بنو إسرائيل
إذاً: سل بني إسرائيل يا رسولنا كم آتيناهم من آية بينة، عشرات ومئات الآيات، وهل آمنوا؟ ما آمنوا؛ إذ من الجائز أن الرسول صلى الله عليه وسلم تتوق نفسه للمعجزات أو يطالبه أصحابه أو بعض الناس، لكن المعجزات لن تكون سبباً للإيمان، فكم من معجزات خارقة للعادة يسخر منها الكافرون ويستهزئون. إذاً: فاصبر يا رسولنا وتحمل واثبت، وسل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة كالشمس دالة على أنه لا إله إلا الله وأن موسى رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسول الله وما آمنوا. ومن أظهر الآيات -كما عرفتم- العصا، عصا موسى كان يرعى بها الغنم فأمره تعالى أن يلقيها فألقاها فإذا هي حية تسعى تهتز كأنها جان، وابتلعت وأدخلت في جوفها ذلك الوادي المليء بالحبال التي يتصورها ويشاهدها المتفرجون أنها حيات وثعابين، فهذه أعظم آية.وانفلاق البحر، ضربه موسى باسم الله فانفلق اثنتي عشر فلقة، كل طائفة أو قبيل من بني إسرائيل تمشي في طريق واحد خاص بها، فهل أسلموا؟ ما أسلموا، إذاً: فاصبر يا رسولنا وتحمل واثبت.
تخويف المسلمين من تبديل نعمة الله تعالى
ثم قال له: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] هذه الآية لو تتلى على العالم الإسلامي في ساعة واحدة ويسمعونها ويرزقهم الله إيماناً لبكوا منها إلى طلوع النهار، ولتابوا إلى ربهم ورجعوا إليه، لما فيها من الوعيد الذي لا يقادر قدره ولا يطاق، حيث قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]، إذ العقوبة لا تستطيعونها. وَمَنْ يُبَدِّلْ [البقرة:211] (من) من ألفاظ العموم يدخل فيه الواحد والواحدة والاثنان والاثنتان والجماعة والأمة، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] وشاهدها؛ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]. وإن أردتم صورة فماذا حل باليهود؟ ماذا أصابهم؟ ما عرفت أمة من الأمم الذل والهون والدون والصغار والاحتقار في العالم كما عرف اليهود،كان المسيحي لا يفتح عينيه في اليهودي بغضاً له وكرهاً له، ما ينظر إلى وجهه، وكانوا يقلونهم كالسمك في قدور الزيت بدعوى أنهم قتلوا إلههم، وتشردوا وتمزقوا وسلط الله عليهم البابليين فساموهم الخسف وسلطوا عليهم ما لا يطاق، ثم تجدد لهم العهد من جديد وظهرت دولتهم وسادت لما رجعوا إلى الله، ثم ما إن فسقوا وخرجوا عن طاعة الله ولبس نساؤهم الكعب العالي حتى أخذوا يهبطون، فاستباحوا الخلاعة والدعارة والزنا والربا، فضربهم وسلط عليهم الرومان فساموهم الخسف والعذاب، شتتوهم، مزقوهم، أهانوهم، فشردت جماعات منهم إلى هذه المدينة، وما زالوا في الهون والدون حتى هبط العالم الإسلامي فظهروا.هبط العالم الإسلامي وذهبت منه السيادة والقيادة وإرادة الخير للبشرية، ولصق بالأرض وأخلد إليها، حينئذ ظهر اليهود من جديد، وظهروا بالمكر والخديعة، مكروا فوضعوا المذهب الشيوعي، اجتمعوا عليه وفكروا فيه ونظموه وقعدوه وأصلوه وعرضوه، فاجتاح ذلك المذهب أوروبا السامية العالية، فثلاثة أرباعها أصبحوا لا يؤمنون بالله ولا لقائه، يقولون: لا إله والحياة مادة! ومن ثم استولوا على قلوب أوروبا، ذاك العدو الألد الذي لا يفتح عينيه في اليهود أصبح يركع لليهود وينحني لهم، ووضعوا فتنة الربا والبنوك وساسوها وتحكموا فيها وسادوها، فوضعوا العالم تحت أرجلهم.ولا ينقذ العالم من اليهود إلا المسلمون فقط، وهل نحن أولئك المسلمون؟ لا، فنحن كفرنا بنعمة الله: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211]، فالعقاب لا يقادر قدره ولا يقوم به شيء؛ لأن الله إذا عاقب فهو شديد العقاب، ها هو ذا قد أذلنا وأهاننا وأفقرنا وشتتنا ورمانا في متاهات لما كفرنا نعمة الإسلام، ما اعتززنا بها ولا التففنا حولها، ولا عشقناها ولا قمنا بها ولا دعونا البشرية إليها، بل أصبحنا نجري وراء الكفر ونتمثله ونعمل ما استطعنا على أن نكون مثلهم، أواقع هذا أو لا؟ والله! إنه لواقع، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211].إذاً: من يؤدب اليهود؟ هم المسلمون، والله! إن ساعتهم لآتية، لكن هذا الجيل منا ما هو بأهل لذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم المتكلم بالغيب المخبر عن الله بما يوحيه إليه، وكم من غيب أعلنه وتحقق كما أخبر بلا زيادة ولا نقصان، فاسمعوه يقول: ( لتقاتلن اليهود )، وهذه الكلمة يقولها في أصحابه، وهل بقي يهود يستحقون القتال؟ بنو قينقاع شردوا عن آخرهم، بنو النضير شردوا إلى الشام، أين اليهود؟ ذهبوا إلى الروم ليذلوهم، فكيف يصبحون أمة ويقاتلهم المسلمون؟ ولكن الغيب لله، ( لتقاتلن ) بلام القسم ( اليهود فتقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود )، تعرفون شجر الغرقد؟كان البقيع كله غرقداً أيام الأمطار، شجر ذو شوك، وفي بلد المغرب موجود عندنا الآن، فلم يقدِّس اليهود هذا الشجر؟ لعلمهم أنهم إذا اختبئوا تحت الشجرة وجاء مسلم يطاردهم لا تعترف الشجرة بأن اليهودي عندها، وسلوا إخوانكم الفلسطينيين عندما يحجون ويعتمرون فسيعطونكم فكرة كاملة عن شجر الغرقد والعناية به كالتفاح والعنب بل أشد، هم به أكثر عناية من التفاح والتمر.إذاً: هل الشجر والحجر يكذب؟ يقول: يا مسلم وما هو بمسلم؟ لا يكذب، فلهذا نحن لسنا بأهل لذلك، ليس معنى هذا أن هذا مستحيل وما يمكن، والله العظيم! لو نسلم لله أربعاً وعشرين ساعة فقط نعلن (لا إله إلا الله) ويصير أمرنا واحداً على شرع الله لمات اليهود من الخوف والفزع، فما الذي يمنعنا من أن نسلم؟ لا شيء.ليجتمع حكامنا في الروضة بالطيارة، الذي في أقصى الشرق وأقصى الغرب تأتي به الطائرة في ست ساعات، ويبايعون خليفة لهم ويأخذون الدستور ويطبقونه، فتقام الصلاة.. تجبى الزكاة.. يؤمر بالمعروف .. ينهى عن المنكر، ينتشر ظل الآداب والأخلاق، وبعد أربعين يوماً وأمة محمد هي الأمة الرائدة القائدة، وتأخذ الدول تسقط، تمد أيديها للإسلام وتعتنقه، وهذا اليوم سيأتي أيضاً، ليأتين يوم لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل في الكرة الأرضية بكاملها، والمقدمات موجودة، فهيا نسلم.
ضرر تبديل العبد نعمة الله تعالى عليه
إذاً: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] ويبددها، أعطاك الله مالاً فأنفقته في الحشيشة، أنفقته في العهر، أنفقته في أكل الحرام، هذا بدل نعمة الله كفراً أم لا؟ ويعاقبه الله، ويذله ويهينه إلا أن يتوب عليه، أعطاك نعمة السمع والبصر والعقل وأنت البشر المسلم؛ إذا لم تشكر الله على هذه النعمة فإن عقاب الله شديد، وهكذا كل ذي نعمة إذا لم يشكر الله تعالى ولم يعترف بها لله خالقها وواهبها؛ هذا الذي كفر نعمة الله وجحدها وغطاها وسترها يتوقع له عذاب شديد لا يطاق، وأبرز نعمة وأظهرها هي الإسلام، هل هناك نعمة أعظم من الإسلام؟ الكفار حيوانات وبهائم إلى جهنم، فما هذه الحياة؟ والمسلمون بحق سادات الكون في هذه الحياة، طهر وصفاء وآداب وأخلاق وعز وكرامة، قل ما شئت من الكمالات، لا خوف ولا حزن ولا هم ولا كرب، إنه الإسلام.ومع الأسف قد بدل المسلمون نعمة الإسلام بالكفر، من إندونيسيا إلى موريتانيا، باستثناء هذه البقعة، لا يلتفتون إلى الشريعة، القوانين الغربية المستوردة المستوحاة درَّسوها ودرَسوها، بعثوا أولادهم فتعلموا في إيطاليا وأوروبا والإسلام مسكوت عنه، ومن تكلم خافوا منه وقالوا: اسكت لا تزعجنا، اعبد الله إن شئت.
الوعيد بالعذاب لمن بدل نعمة الله تعالى
إذاً: صدق الله العظيم: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]، دول الخليج كانوا شحاتين فقراء لاصقين بالأرض، يصيدون السمك في البحر، لا عنب ولا زرع، فأغدق الله علينا نعمة المال، فهل سنشكر أم لا؟ والله! إننا لتحت النظارة، ومن يعش سيرى ومن يمت سيسمع أيضاً ويبلغه، إما أن يشكروا وإما أن تسلب هذه النعمة، ما لهم ميزة على باقي البشرية أبداً، كلهم عبيد الله، من كفر نعمة الله سلبها منه وإن كان ابن الرسول. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] ما هذا العذاب؟ ما يقادر قدره فيطاق، يكفي فيه قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211]، والعقاب سمي كذلك لأن الإنسان يؤخذ من عقبه وهو هالك.معاشر المستمعين! من أوتي نعمة فليشكر الله، على الأقل يقول: الحمد لله .. الحمد لله، ربنا لك الحمد، أنعمت وأفضلت وأحسنت، اللهم لك الحمد، فالله يحب هذا، هيا نتملقه، ثلاثة أرباعنا لا يقولون: الحمد لله عند الطعام والشراب ولا اللباس ولا الركوب، كأنهم هم خالقو النعمة وموجدوها، فهذا كفران للنعمة، أينعم الله علينا بهذه النعم ثم ما نذكرها له، ولا نشكره من أجلها، ولا نحاول أن نرد إفضاله بشكر فنصلي بين يديه ركعتين على الأقل شكراً له على نعمته؟آية عجب: وَمَنْ [البقرة:211] من أبيض وأسود، في الأولين وفي الآخرين، في أي جنس، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ [البقرة:211] وأصبحت بين يديه وأكلها أو شربها، أو لبسها وعمل فيها، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211].هذه الآية الأولى واضحة، فهل استفدنا شيئاً؟ الآن أصبحنا ننظر إلى العالم بين أيدينا، وأنه يتوقع له الإبادة والدمار.
تفسير قوله تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا ...)
ثم يقول تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، من الذي زينها لهم؟ ما قال: زين الشيطان لهم، ولا قال: زينا لهم، قال: (زُيِّن)، من الذي يزين الحياة الدنيا؟ إبليس أبو مرة العدو، يزين للكفار الذين هم كالأموات، الذين يعيشون في الظلماء، الذين فقدوا الحواس وأصبحوا كالبهائم لانقطاع النور عن قلوبهم لكفرهم بالله وكتابه ولقائه، هؤلاء يزين لهم الشيطان الحياة الدنيا، امش إلى إيطاليا.. إلى بلجيكا.. إلى هولندا.. إلى أمريكا.. إلى روسيا، إلى أي بلد كافر وانظر إلى الكفار ماذا يفعلون؟ همه الدنيا، لا هم له سوى أن يأكل ويشرب ويلبس وينكح، لا هم له أبداً إلا كيف يتجمل.. كيف يتحسن.. كيف يحسن لباسه طعامه شرابه منزله فراشه مركوبه، كل طاقاته مسخرة هنا، زينت لهم الحياة الدنيا، فجروا وراءها، يجرون من الساعة السابعة أو الثامنة وهم في العمل النساء والرجال، فإذا انتهى العمل أقبلوا على الأكل والشرب والنكاح واللهو والباطل، وهكذا، من فعل بهم هذا؟ الشيطان؛ لأنهم رضوا به موجهاً وسائساً وقائداً ورائداً، دعاهم فاستجابوا، ناداهم فقالوا: لبيك أبا مرة لبيك، عرض عليهم الإيمان والإسلام وشرائع الله فرفضوها وقبحها لهم الشيطان وحسن لهم الشرك والمعاصي والجرائم.أزيدكم وضوحاً: كل من يأتي كبيرة من كبائر الذنوب فوالله! إن الشيطان هو الذي زين له، وهل الله يزين الفواحش؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، هل الملائكة تحسن اللواط والجرائم؟ والله! ما كان، فهذه الجرائم المنتنة القبيحة من يزينها للناس؟ الشيطان، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14]، من يزين؟ العدو.
نماذج من إقبال الناس على زينة الدنيا ونسيان الآخرة
يقول تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212] لا يرون الآخرة، ولا يريدون أن يسمعوها، ولا أن يتحدثوا عنها، ويشمئزون، ومن يذكر الآخرة أو ما يتم فيها يقولون: أنت تريد أن تنغص علينا معيشتنا أو حياتنا، اترك الآخرة.لعلكم شاهدتم هذا، إذا جرى حديث عن الآخرة في جماعة من هذا النوع يغضبون، يجتمعون على اللعب: الكيرم.. الدمنو، ويضحكون ويدخنون ويكفرون ويسب بعضهم بعضاً وكأنهم ما عرفوا لا إله إلا الله، والله! لهذا هو الواقع، ويجلس الرجل مع بناته وامرأته وشاشة التلفاز أمامه أو الفيديو، وعاهرة ترقص وتلوح بيديها وبرأسها وثديها بارز والحمرة في وجهها وشفتيها وهم يضحكون، كأنهم أموات لا يشعرون، أما يستحي أحدهم؟ لو كان فيه إيمان لذاب بين يدي الله، هل هذا هو الطريق الموصل إلى الله؟ أليس هذا المميت للقلوب والمهيج للشهوات والنزعات؟ آهٍ! وامصيبتاه.ما هي مصيبتنا يا مسلمون؟ أعرضنا عن ذكر الله، أعرضنا عن القرآن، وأصبحنا لا نجتمع عليه إلا ليلة الموت، من منكم يقول: أنا قلت مرة لأخ لي ونحن في العمل وتعبنا وجلسنا لنستريح تحت ظل شجرة أو كذا: اقرأ علي شيئاً من القرآن أتدبره؟ هل حصل هذا؟ أو جلس ثلاثة يتحدثون عن أمور دنياهم أو ينتظرون الأكل فيقول أحدهم: أي فلان! أسمعنا شيئاً من القرآن؟ هذا ما عرفناه إلا عند باز هذه الأمة، عند الشيخ عبد العزيز بن باز ، إذا جلسوا للأكل ينتظرون يقول: من منكم يسمعنا شيئاً من كلام الله؟ وعرفت مؤمناً وأنا صبي أحفظ القرآن قبل البلوغ يأتي يقول: أبا بكر ! أسمعني شيئاً من القرآن. والله! ليعمل هكذا ويصغي وهو أمي ما يفرق بين الباء والتاء، لكنه تلميذ خريج هذه المدينة، يجيء يقول لي: أسمعني، اقرأ علي. أما غيره في ذلك العالم فما واحد يقول: أسمعني شيئاً من كلام ربي أبداً، كل ما في الأمر إذا مات الميت ادعوا طلبة القرآن فيحضرون، فإن كان غنياً فسبع ليال، وإذا كان فقيراً فثلاث ليال، وعندهم الأربعين أيضاً عند الأغنياء.وفي سورية بالذات عملوا نقابة، فبالتلفون تقول: ألو! نريد عشرة من طلبة القرآن، مات عندنا ميت، فيقول النقيب: من فئة المائة ليرة أو الخمسين؟ فإن كان غنياً فمن فئة مائة، وإذا كان فقيراً فمن فئة خمسين، هذا القرآن من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يجتمع عليه اثنان ولا يتدبرون ولا يتفكرون فيما خاطبهم الله به ودعاهم إليه أو نهاهم عنه أبداً، ومن كذبني فليقل لي: هل استعمرت بلاد العالم الإسلامي من قبل الكفار أم لا؟ إذاً: انقطع الكلام، لو كانوا أهل قرآن فهل سيستغلون ويستعمرون؟ معاذ الله.
تولي الشيطان تزيين الحياة الدنيا
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، ولم -ونحن مؤمنون- نقبل تزيين الشيطان لنا ونتنافس فيها؟ وأعظم ما حدث عندنا البنوك، كم من بنك في المدينة يرحمكم الله؟ لتكن عشرة، فهل بالمدينة يهود؟ هل هناك يهود ساكنون هنا؟ هل فيها نصارى أو مجوس؟ كلا أبداً، بل مسلمون، إذاً: مسلمون ويقلدون اليهود ويفتحون البنوك، ومن يعمرها؟ أتظن أنه تأتي الأموال من الخارج وتوضع فيها؟ والله! لمن جيوبنا نحن المواطنين؟ من زين هذا لنا؟ الشيطان، والله! إنه للشيطان، ما جاءنا أبداً عالم من علمائنا ولا سيد من ساداتنا وخطب فينا وقال: اسمعوا: ساهموا، فالبنوك ترفع مقاماتكم وتعزكم، هل فعل هذا أحد؟ إذاً: لم نعمرها؟ الشيطان هو الذي زين. وهو الذي زين اللواط وهو أخبث خبث عرفته البشرية، وأصبحت له أندية في العالم، هو الذي يزين هذه الجرائم والموبقات.وقولو صدق الله العظيم: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:212]، ما الذي زين لهم؟ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة:212]، عشقوها أحبوها جروا وراءها فنسوا الآخرة نسياناً كاملاً، لم يخطر ببالهم شيء اسمه الدار الآخرة، همهم الدنيا والدرهم؛ لأجل الفحش والإقبال على الشهوات، فقولوا: صدق الله العظيم.
معنى قوله تعالى: (ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212] يستهزئون، رأيناهم بأعيننا، يسخرون من المؤمنين، يقولون: هؤلاء متأخرون متخلفون، أو رجعيون، أو أصوليون! سخرية كاملة، هذا أصولي، هذا رجعي متخلف، هذا من القرون الوسطى. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212] في هذه الدنيا ويستهزئون بهم، ويحتقرونهم ويذلونهم ويهينونهم، يرهبون أصحاب المال والسلطان، أصحاب الدنيا يجرون وراءهم، أما المؤمنون فسخرون منهم، لأنهم فقراء ضعفاء معرضون عن الشهوات والأطماع والأهواء.وأخيرا اسمع خاتم الله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212] بكم هذه الفوقية تقدرونها؟ كم هي مليون كيلو متر؟ إذا كانت دار السلام الجنة التي ارتادها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بإذن الله وعاش فيها ساعة من الزمن ورأى قصورها وحورها وأنهارها، إذا كانت المسافة إليها سبعة آلاف وخمسمائة عام لو قدر لك أن تعيش سبعة آلاف سنة وخمسمائة عام، فهل هناك من يعيش هذه الفترة؟ مستحيل! ولا عاشها أحد، أطول من عاش عاش ستمائة سنة وسبعمائة وألف سنة، من آدم إلى اليوم، تحتاج إلى سبعة آلاف وخمسمائة عام وأنت طائر حتى تدخل الجنة، والهبوط كذلك: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5] في سجين. إذاً: الذين اتقوا فوق الكافرين يوم القيامة.
حكمة ذكر وصف التقوى في الآية الكريمة
وهنا القرآن كما علمتم -زادكم الله علماً- كتاب هداية، كتاب تربية وإصلاح، كتاب تنمية للمعارف والآداب والأخلاق، فلاحظوا هنا أنه ما قال: والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة، كان المفروض هو هذا، اسمع: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:212] فهل قال: والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة؟ كلا. قال: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا [البقرة:212] آمنا بالله، ما قال: والذين آمنوا، لو أراد مجرد الإيمان لقال: زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا وهم فوقهم يوم القيامة، ولكن الآية: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]، دعوة إلى التقوى أم لا؟ إي ورب الكعبة، فما التقوى هذه؟ التقوى: أن لا سرقة ولا خيانة ولا غش ولا خداع ولا كبر ولا سخرية ولا استهزاء ولا نفاق ولا كفر، إذا اتقى أهل الإقليم أو البلد أو القرية ربهم سموا وأصبحوا كالملائكة في السماء، بخلاف الإيمان.وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا [البقرة:212] اتقوا ربهم، بم يتقونه وبيديه كل شيء يقول للشيء:كن فيكون؟ كيف يتقى الجبار الذي يكور الليل على النهار والنهار على الليل؟ كيف يتقى يا عباد الله؟الجواب: يتقى بالخوف منه، خوف من شأنه أن يجعلك ما تفكر في معصيته ولا يخطر ببالك الخروج عن طاعته، فهذا الخائف من جلال الله وسلطانه وجبروته أنه يحيي ويميت، هذا الخائف يبحث طول حياته عما يقربه من الله ويدنيه منه، دلوني عما يحب ربي حتى أفعله له، دلوني على ما يكره مولاي حتى أبتعد عنه وأجتنبه، فيطلب محاب الله ويرحل من إقليم إلى إقليم من قرية إلى قرية من بلد إلى بلد يسأل عن محاب الله ليفعلها تقرباً إليه وتزلفاً، وليعلم مساخط الله ومكارهه ليتجنبها، ليرحل من ساحتها، ليبتعد من دورها وأهلها، هذا هو المتقي، فأين يسكن المتقون؟ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34].
التقوى وسيلة الولاية
المتقون هم الأطهار الأصفياء اليوم، المتقون هم العلماء العارفون الربانيون اليوم، هيهات هيهات أن يكون جاهل ولياً لله يحبه الله ويحب الله.قد تقول: يا شيخ! بالغت في هذا الكلام! فأقول: عندنا كلمة حفظناها عن أهل العلم، وهي: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، إذ لا يتخذه ولياً وهو جاهل، الجاهل بما يحب الله وبما يكره يعاكس أمر الله أم لا؟ الله يحب كذا وهو يكرهه، فهل يغضب الله أو لا يغضبه؟ الله يحب الذكر، وهو يحب الأغاني وكلام العاهرات، هل عاكس مراد الله أم لا؟ كيف يكون ولياً؟ فلهذا من شرط الولاية: الموافقة، وهذه كلمة تزن مليارات الدولارات، ما هي ولاية الله؟ الموافقة، وافقه فأنت وليه وهو وليك، وخالفه فوالله! لأنت عدوه، والموافقة فيما يحب، أي: أحبب ما يحب واكره ما يكره فأنت وليه، فإن كنت لا تعرف ما يحب ولا ما يكره فمستحيل أن تكون وليه.وكيف نعرف ما يحب الله وما يكره؟ اسأل أهل القرآن ليعلموك، اقرع أبواب العلماء كل يوم: علموني مسألة يحبها ربي لأحبها من الآن وأحققها له، علموني ما يكره مولاي وسيدي من الكلام أو الأعمال أو الصفات حتى أتجنبها، فلهذا إياك أن تفهم أن جاهلاً يصبح ولي الله، وليس المقصود من العالم أن يقرأ ويكتب، أكثر الصحابة ما كانوا يقرءون ولا يكتبون، فقط سأل أهل العلم وجالسهم ورحل إليهم فتعلم محاب الله وكيف يفعلها، وتعلم مكاره الله وكيف يتجنبها، فأحب ما أحب الله وكره ما كره الله، وقدم المحبوب لله تقرباً وتزلفاً إليه، وابتعد عن المكروه وأبعده، فهو ولي الله، لو رفع كفيه إلى الله ما ردهما صفراً ولا خائبتين.قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]، وهل يستطيعون أن يشاهدوهم؟ أنت في علياء السماء وعدوك مشرك في قعر الجحيم، فهل ممكن أن تتصل به؟ قبل اليوم كان المسلمون يقولون: آمنا بالله، ما يقولون: مستحيل، أما اليوم فالذي ينكر هذا أحمق ومجنون لا قيمة له، لم؟ أنت الآن تشاهد أمريكا في الشاشة أم لا؟ فحافظوا على البقية الباقية من الإيمان، وإلا فسيأتي يوم قريب ما يقبل فيه الإيمان، ما بقي غيباً أبداً.اسمع هذه الصورة العجيبة ما قال فيها تعالى فيها: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:50]، لما جلسوا على الأرائك والأسرة الحريرية الذهبية في دار السلام إذ الأكل والشرب والنكاح وذكر الله، لا مسحاة ولا آله ولا عمل ولا شغل ولا عرق، عرقك طيب وأطيب من الطيب، لا خرء ولا بول ولا غائط، كله جشاء أطيب من ريح المسك، هذا عالم الخلد ما هو عالم الفناء، اسمع: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:50-51] أيام كنا في الحزب الشيوعي أو الاشتراكي، في الجامعة البريطانية، كان لي قرين يسخر مني ويستهزئ بي ويقول: أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:52]، جماعة تقول: إنك لمن المصلين، هذا من المصلين، جماعة العلم المطاوعة.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (133)
الحلقة (140)
تفسير سورة البقرة (98)
كان الناس ما بين آدم ونوح عليهما السلام فترة طويلة أمة واحدة على دين الإسلام، لم يعبد بينهم إلا الله وحده، حتى زين الشيطان لبعضهم عبادة غير الله فكان الشرك والضلال، فبعث الله نوحاً لهدايتهم فاختلفوا إلى مؤمن وكافر، وموحد ومشرك، ثم توالت الرسل تحمل كتب الله، المتضمنة الحكم في كل ما يختلفون فيه، فكانت سنة الله في المختلفين أن هدى عباده المؤمنين إلى الحق، وحققت الضلالة على من حملهم الحسد وحب الرئاسة فردوا الكتاب.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع قول ربنا تبارك وتعالى من سورة البقرة: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].لا مانع من أن نذكر أنفسنا بالآيتين السابقتين في ليلة مضت، ثم نذكر هداية الآيتين تعليماً وتذكيراً، أما الآيتان فهما قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:211-212].
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيتين:من هداية الآيتين:أولاً: التحذير من كفر النعم ]، حذرنا الله بهذه الآية من أن نكفر نعمه، أي: نجحدها، ولا نعترف بها لله، ولا نشكره عليها، حذرنا ربنا تعالى من كفر النعم، وما يترتب عليه من سلبها والانتقام من الكافرين بها.[ التحذير من كفر النعم؛ لما يترتب على ذلك من أليم العذاب وشديد العقاب، ومن أجلِّ النعم ] وأفضلها وأعظمها [ نعمة الإسلام ]، نعمة الدين الإسلامي، [ فمن كفر به وأعرض عنه فقد تعرض لأشد العقوبات وأقساها، وما حل ببني إسرائيل من ألوان الهون والدون دهراً طويلاً شاهد قوي ] على أن من أعرض عن دين الله استوجب غضب الله ولعنه الله وأذله وأخزاه، [ وما حل بالمسلمين يوم أعرضوا عن الإسلام واستبدلوا به الخرافات ثم القوانين الوضعية شاهد أكبر أيضاً ]، عسى المستمعون يعون هذه المسائل العلمية.[ ثانياً: التحذير من زينة الحياة الدنيا والرغبة فيها والجمع لها ونسيان الدار الآخرة وترك العمل لها، فإن أبناء الدنيا اليوم يسخرون من أبناء الآخرة، ولكن أبناء الآخرة أهل الإيمان والتقوى يكونون يوم القيامة فوقهم درجات، إذ هم في أعالي الجنان والآخرون في أسافل النيران ].تلك هداية الآيتين الكريمتين، فهيا بنا مع هذه الآية، وهي واحدة ولكنها طويلة.
دلالة الآية القرآنية على وحدانية الله تعالى ونبوة رسوله
معشر المستمعين! هل بينكم من لم يفهم أو يعرف معنى الآية؟ ما معنى آية؟الآية في لغتنا: العلامة، القرآن فيه ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، كل آية علامة على وجود الله وربوبيته وإلهيته وصحة شرعه ودينه، وعلى صحة نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.ووجه ذلك: أن من أنزل هذه الآية هل يكون معدوماً؟ هذه الآية التي تحمل الهداية الكاملة للبشرية هل صاحبها يكون جاهلاً؟ مستحيل، والذي نزلت عليه وقرأها وكتبها أصحابه ألا يكون رسول الله؟ مستحيل! كيف لا يكون رسور الله وقد أوحى إليه بالآيات وأنزلها عليه؟فلهذا كل آية في القرآن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولن يستطيع ذو منطق أو عقل أو فلسفة أن ينقض هذه، والله! لا يقدر، فالآية من أنزلها؟ هل هناك من ادعى نزولها وقال: أبي أو جدي، أو قال: بنو فلان؟ سكتت البشرية وطأطأت رأسها وسلمت أن هذا وحي الله وإنزاله وكتابه، إذاً: فهل يكون منزل الوحي والكتاب غير موجود، أو يكون جاهلاً، أو يكون ضعيفاً؟ مستحيل، ومن نزلت عليه هو رسول الله قطعاً، إذاً: فكل آية تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ...)
زمن أول تحول في البشرية من التوحيد إلى الشرك
يقول تعالى -واسمع العلوم التي ما وصلت إليها فهوم البشر ولا أدركتها عقولهم-: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213]، من هم الناس؟ بنو آدم أبيضهم وأصفرهم على حد سواء، كان الناس في وقت ما في ظرف بعيد، هذا الوقت هو ما بين آدم أبي البشر نبي الله عليه السلام ونبي الله نوح عليه السلام، ولكن في هذا تجوُّز؛ إذ ذلك الوقت من آدم إلى قبل نوح بزمن، كان الناس كلهم على ملة الإسلام، ليس فيهم كافر ولا مشرك ولا يهودي ولا نصراني، كلهم على الإسلام أمة واحدة، لا مذهبية ولا فرقة حوالي ألف سنة، ثم مكر بهم الشيطان ودس لهم دسائس الخبث واستطاع أن يحولهم من موحدين إلى مشركين، فلما أشركوا استلزم ذلك وجود وحي وكتاب وتعليم، ثم انقسموا ما بين مؤمن وكافر، أما الفترة من آدم إلى ما قبل نوح بزمن فكانت البشرية كلها أمة واحدة، لا فرقة بينها ولا خلاف.وعلم الله تعالى بداية الفتنة، وهي أن إبليس عدو آدم وبنيه ما أعجبه أن تستمر البشرية دائماً في انتظام وإسلام وطهر لتدخل الجنة كلها، فزين لمن قبل نوح، أي: قبل البعثة، زين لهم أن يضعوا تماثيل لخمسة رجال من الصالحين، هؤلاء الرجال الصالحون زين لهم وضع تماثيل لهم، حتى إذا نظروا إليهم أحبوهم ورغبوا في صلاحهم وما كانوا عليه، ويأخذون في زيارتهم فترة من الزمن، وبعد فترة من الزمن مات من عرفوا هذه القضية، فزين لهم عبادة تلك الأوثان أو تلك التماثيل الخمسة، فعبدوهم بحجة الاستشفاع والتقرب بهم إلى الله، فلما عبدوهم وأشركوا بربهم أرسل الله تعالى إليهم رسوله نوحاً عليه السلام، هؤلاء الصالحون الخمسة جاءوا في سورة نوح بلفظ بين واضح؛ إذ قال تعالى عنهم: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23] التي تعبدونها، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، قالوا: هذا من باب التوصية والتحذير: إياكم أن تغتروا بهذا الرجل وما يقوله لكم فتتخلوا عن آلهتكم وعن الصالحين من أولياء الله، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23] أي: لا تتركن آلهتكم، وبخاصة: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح:23-24].
معنى قوله تعالى: (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)
إذاً: الآن كان الناس أمة واحدة، في أية فترة؟ ما بين آدم ونوح بإجمال، فلما ظهر فيهم الشرك والكفر واختلفوا قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة:213] نبياً بعد نبي ورسولاً بعد رسول في أوقات مختلفة بحسب حالة الناس وحاجاتهم، مهمتهم: مُبَشِّرِينَ [البقرة:213] المؤمنين المستقيمين برضا الله وجنته، وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] الكافرين بغضب الله وعذابه، إذ ليس لهم مهمة إلا هذه، يعلمون الهدى فمن أجاب نجا ومن أعرض خسر وهلك. كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: على ملة التوحيد، فلما اختلفوا ودس العدو بينهم الشرك والضلال، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ [البقرة:213] للمستقيمين، وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] للمنحرفين. وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:213] والكتاب هنا اسم جنس، فـ(أل) للجنس، أي: الكتب، فصحف إبراهيم كانت عشر صحف، وصحف موسى، وصحف شيث كانت ستين صحيفة.إذاً: وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:213]، تحمل تلك الكتب من أجل ماذا؟ قال: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213].من الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من عقائد وشرائع وآداب؟ الله عز وجل منزل الكتاب ومنبئ النبي ومرسل الرسول هو الذي فعل هذا.
معنى قوله تعالى: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم)
ثم قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213].هنا في الكلام إجمال، وأنزل الكتاب أيضاً على مصطفاه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أنزله بالحق أيضاً؛ إذ قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ.. [النساء:105] الآية.إذاً: أنزل مع الرسل -كموسى عليه السلام- الكتب، لم؟ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فيبين صاحب الحق من صاحب الباطل، والمؤمن من الكافر، والسعيد من الشقي.ثم قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ [البقرة:213] أي: في الكتاب، وهو صالح لأن يكون الإنجيل والقرآن، إذ اليهود اختلفوا في الإنجيل وأنكروه وكذبوا به، وقالوا في عيسى: ساحر وابن زناً، إذاً: فاختلفوا، فمن الذين اختلفوا؟ أهل الكتاب من اليهود، اختلفوا في شأن عيسى والإنجيل، واختلفوا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [البقرة:213] أي: الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213] والأدلة والمعجزات القاطعة كالشمس تقرر نبوة عيسى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم وقف هؤلاء اليهود هذا الموقف؟قال تعالى: بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213] لأنهم رؤساء ومسئولون ومسيطرون وقادة والبشرية دونهم، فإذا تنازلوا عن مراكزهم الدنيوية التي تحمل شعار الدين والمعرفة والعلم أصبحوا كسائر الناس، فعرفوا هذا فأصروا على البغي والعدوان؛ حتى لا ينزلوا من مراكزهم، ومن مظاهر ذلك أنهم صرحوا غير ما مرة في المدينة بصحة الإسلام وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: إذا اتبعناه انتهى وجودنا، ما بقي لنا وجود أبداً في العالم، ذبنا في الإسلام، ويشهد لهذا: أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا من الأوس والخزرج، ويقولون لهم: إن نبياً قد أظل زمانه وسنؤمن به ونتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم، فحين يقع شجار أو نزاع بين الأوس والخزرج واليهود يقولون لهم هذا، قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ [البقرة:89-90].إذاً: يقول تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ [البقرة:213] في الكتاب الذي أنزلناه على عيسى وعلى محمد صلى الله عليه وسلم إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213] من هؤلاء؟ اليهود، وذلك بَغْيًا [البقرة:213] أي: من أجل البغي بينهم.
معنى قوله تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213] فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه أهل الكتاب اليهود مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213]، وهنا هذه الآية تحمل أيضاً معنى آخر واضحاً بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو: أن يوم الجمعة، هذا اليوم الذي خلق الله فيه آدم، وأهبطه إلى الأرض فيه، وهو الذي تقوم فيه الساعة، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة، هذا اليوم عرض على اليهود فرفضوه وردوه على أنبيائهم واختاروا السبت فكان لهم السبت، فكانوا يعبدون الله فيه بعبادات مشروعة مبينة من قبل الشارع، وجاء النصارى من بعد فرفضوا الجمعة ورفضوا السبت ورضوا بالأحد، فعالم النصارى عالم الصليب يقدس الأحد، والكل يعبدون الله بتلك العبادة الباطلة في كنائسهم يوم الأحد، فهذا اليوم الفاضل العظيم اختلفوا فيه فهدى الله أمة الإسلام إليه، قال تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213]، من الذي هدانا؟ الله عز وجل. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213] والصراط المستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه، هو الذي ينتهي بالسالكين إلى دار السلام، إنه الإسلام، والله يهدي من يشاء هدايته إلى أين؟ هل إلى المسيحية أو اليهودية أو المجوسية؟ إلى الإسلام، وسماه الصراط المستقيم، وعلمنا كيف ندعو الله ونقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: ثبتنا على سلوكنا ومشيتنا وسيرنا على الإسلام حتى ننتهي إلى دار السلام.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
مرة ثانية تأملوا هذه الآية الكريمة قبل أن نأخذ في شرحها من الكتاب.يقول تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] على الإسلام وعلى التوحيد، في بداية أمر الحياة قرابة الألف سنة، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] لم؟ لما اختلفوا وتناحروا وظهر الكفر بعث الله تعالى النبيين، كان الناس أمة فاختلفوا فبعث الله النبيين، أو فضلوا فبعثهم لهدايتهم، إذ ذلك من رحمة الله تعالى بعباده، وهو أرحم بهم من أنفسهم لا يريد لهم البلاء ولا الشقاء ولا الأذى، يريدهم أن يذكروه ويشكروه، وهذه علة خلقه لهم، فلو سئلت: لم خلق الله الجنة والنار؟ لم خلق الله السماوات والأرضين؟ لم خلق الله هذه العوالم؟فالجواب : خلقها للإنسان، والإنسان لم خلقه؟ ليذكره ويشكره، أراد الله عز وجل أن يذكر ويشكر فأوجد هذه العوالم لابن آدم، وأوجد الجنة لأوليائه والنار لأعدائه لعلمه أنهم سيعادونه ويحاربونه، وشرع لهم الذكر والشكر، فقال: خلقتكم لهذه المهمة، وفي القرآن: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، والجن تابعون للإنس لا يستقلون، وفي حديث قدسي: (يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي)، وماذا يفعل الله بنا؟يريد منا أن نذكره ونشكره، نذكره في قلوبنا وألسنتنا طول الحياة، ونشكره بطاعتنا له، بفعل الأوامر وترك النواهي، وفعل الأوامر من شأنه تزكية نفوسنا وتطهيرها، وترك النواهي من شأنه أن يبقي لنا طهرنا وصفاءنا، فعل الأوامر به تنتظم حياتنا في المأكل والمشرب والملبس والمركب، وترك النواهي من شأنه أن يبقى صلاحنا في حياتنا في طعامنا في لباسنا، ما خلق الله شيئاً عبثاً، تعالى الله علواً كبيراً عن اللهو والعبث: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39].
نهاية قوم نوح عليه السلام
يقول تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] إذاً فاختلفوا، ظهر الشرك وبدأ بقوم نوح، نوح عاش فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو إلى الله ويلون الدعوة فمرة يسر ومرة يعلن، مرة يدعوهم مجتمعين ومرة يدعوهم متفرقين، ألف سنة كانت الحصيلة فيها ثلاثة وثمانين امرأة ورجلاً على قدر حمل تلك السفينة، ثلاثة وثمانون رجلاً وامرأة في ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعابوه وقالوا فيه وفعلوا العجب، لولا حماية الله لقتلوه، وأما القول فلا تسأل عن أقوالهم، كان إذا تكلم معهم ماذا يفعلون؟ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [نوح:7]، ما نريد أن نسمع ولا نرى وجهك، يدخلون أصابعهم حتى ما يسمعون، يغطون وجوههم بثيابهم هكذا حتى لا يشاهدوه، ما نريد أن نرى وجهك اذهب عنا، اتركنا، لتسعمائة وخمسين عاماً.ولما دقت الساعة وأراد الله أن ينتقم، والله يملي ويزيد ويفسح المجال للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].إذاً: فما كان منه تعالى إلا أن أمره بأن يصنع فلكاً، وجبريل يساعده أو ميكائيل، وكانوا يمرون عليه ويسخرون به: يا نوح! تأتي بالبحر هنا أو تنقل هذه إلى البحر! كلما مر سخروا منه واستهزءوا: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38].والشاهد عندنا: أنه لما دقت الساعة قال تعالى: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود:40] وقضاء الله وقدره فيه كابنه كنعان ؛ فإنه هالك، ورست السفينة على جبل الجودي، وقد عثر عليها في قرون متأخرة.والشاهد عندنا: أنه تعالى أملى لهم ألف سنة تقريباً والدعوة بينهم وهم يسخرون ويضحكون ويستهزئون، والرسل الآخرون ما أعطاهم هذه الفترة.
عاقبة قوم عاد
قوم عاد كانوا جبابرة في الأرض، واقرءوا: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8]، كان طولهم قريباً من ستين ذراع كأبينا آدم عليه السلام؛ لأن آدم لما خلقه الله كان طوله ستين ذراعاً ولا يزال الخلق ينقص إلى اليوم، فنحن بالنسبة إلى آدم أقزام، وفينا من هو مثلي قزم تماماً. فعاد كانوا في القرون الأولى، إذاً: كانوا عجباً، ولكن ما فعل الله بهم؟ عاصفة في سبع ليال وثمانية أيام فقط، والمساحة التي خرجت منها قالوا: كعين الإبرة فقط، فما تركت داراً ولا بناء، تركتهم كالنخيل الخاوية: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:7-8]، حتى إن عجوزاً دخلت في غار في الجبل وظنت أنها نجت، فدخلت الريح كاللولب وأخرجتها وصرعتها على الجبل، وما زال المؤرخون يقولون عن بعض الأيام: هذه قرة العجوز، هذه الأيام معروفة عند العرب، القرة من البرد، وقرة العجوز آخر يوم من السبعة الأيام.
عاقبة قوم ثمود
ثم كانت ثمود، وديارهم شمال المدينة على بعد ستمائة كيلو، لما نجا المؤمنون مع هود عليه السلام نزحوا إلى الشمال واستقروا في تلك الأماكن وطالت الحياة وأصبحت أمة كأمة عاد، وحسبك أن تشاهد آثارهم في تحويل الجبال إلى منازل وقصور، أين الآلات التي كانت عندهم؟ فلما أعرضوا عن ذكر الله وتعالوا وتكبروا وسخروا من صالح أيضاً وقالوا: يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:77]، وقالوا: إن كنت تزعم أنك رسول فاسأل ربك أن يخرج لنا ناقة من هذا الجبل، في تحد واضح، فقام يصلي ويدعو فتصدع الجبل وخرجت منه ناقة عشراء لم تر الدنيا مثلها، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف:73]، وجعل الماء قسمة بينهم لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155] حتى لا تختلطوا معها، فيوم الخميس للناقة ويوم الجمعة لكم وهكذا، فما كان منهم إلا أن تمالئوا وتآمروا وعقروها، فلما عقروها دقت الساعة، واقرءوا من سورة الشمس: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [الشمس:11]، المال والقوة، فلهذا الفقر دائماً خير من الغنى، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:11-12]، هذا قدار بن سالف ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13] انتبهوا! ناقة الله احذروها واتركوها واتركوا سقياها معها، فلما أبوا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس:14]، حولهم إلى خبر كان بصيحة واحدة أيضاً، ولكن على ثلاثة أيام: فيوم الأربعاء اصفرت وجوههم، ويوم الخميس احمرت وجوههم وهم جاثمون ما بقي من يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، جاثمون على الأرض، ويوم الجمعة اسودت وجوههم اسوداداً كاملاً، وفي صباح السبت بعد الفجر مباشرة كانت الصيحة فصعقوا عن آخرهم، بقوا جثثاً على الأرض تأكلها الطيور والحيوانات، أمة كاملة؛ لأن آية صالح الناقة هذه عجب عجاب.والشاهد عندنا: أنه بعث الله النبيين لهداية البشر بعدما ضلوا واختلفوا، ومهمتهم أنهم مبشرون من يستجيب لهم ويمشي وراءهم ويتبع خطاهم فيطيعهم ويطيع ربهم، يبشرونه بالسعادة المطلقة في الدنيا والآخرة، ومنذرون لمن يعرضون ويتكبرون أو يعاندون ويحاربون، وأنزل معهم الكتاب أيضاً بالحق يحمله من أجل ماذا؟ ليحكم بين الناس فيعطي كل ذي حق حقه، قال تعالى: وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة:213].اليهود اختلفوا مع النصارى في عيسى عليه السلام، واختلفوا مع المؤمنين في محمد صلى الله عليه وسلم، لم؟ لأن البغي أصبح طبعاً لهم، ما يستريحون إذا لم يظلموا ولم يحسدوا. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:213] وهم المسلمون، هداهم للذي اختلف فيه اليهود والنصارى، من جملة ذلك الجمعة، الجمعة اختلفوا فيها، عرضت على اليهود على ألسنة رسلهم فرفضوها، عرضت على النصارى فرفضوها، إذاً: ونحن الآخرون السابقون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآية
والآن معنى الآية الكريمة في الشرح. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة:يخبر تعالى أن الناس كانوا ما بين آدم ونوح عليهما السلام في فترة طويلة أمة واحدة على دين الإسلام لم يعبد بينهم إلا الله تعالى، حتى زين الشيطان لبعضهم عبادة غير الله تعالى فكان الشرك والضلال ].والشيطان هذه مهمته، أما زين لقوم لوط -كما علمتم- أفحش فاحشة ما عرفتها الدنيا قط؟ ومع هذا علمهم إياها فكانوا يأتونها في أنديتهم أمام بعضهم والعياذ بالله.قال: [ فبعث الله تعالى لهدايتهم نوحاً عليه السلام فاختلفوا إلى مؤمن وكافر وموحد ومشرك، وتوالت الرسل تحمل كتب الله تعالى المتضمنة الحكم الفصل في كل ما يختلفون فيه.ثم أخبر تعالى عن سننه في الناس ] وطريقته فيهم، [ وهي أن الذين يختلفون في الكتاب -أي: فيما يحويه من الشرائع والأحكام- هم الذين سبق أن أوتوه وجاءتهم البينات، فهؤلاء يحملهم الحسد وحب الرئاسة والإبقاء على مصالحهم على عدم قبول ما جاء به الكتاب ].فاليهود لم رفضوا القرآن ونبيه؟ جاء بالهدى، ولكن معناه: أن يسلبهم مناصبهم ومراكزهم، وينتهي ما كان يعبدون الله به، وهذا لا يريدونه، وقد أفصحوا وتجلت هذه الحقيقة، فهم يعملون على إعادة مجد بني إسرائيل وحكمهم ودولتهم، فالدين مجرد تمسح فقط، وإلا فالاتجاه الحقيقي أن يعود لهم ملكهم ودولتهم، هذا السبب الوحيد الذي رفضوا به قبول الإسلام وإن لم يصرحوا به، قالوا: نحن في غنى عن الإسلام، عندنا دين الله وكتاب الله لسنا في حاجة إلى هذا، لكن الواقع أنهم يريدون أن يعيدوا مملكة بني إسرائيل، وظهر هذا الآن واتضح بعد ألف وأربعمائة سنة حيث ظهرت دولة إسرائيل في أعظم مركز من مراكز العالم الإسلامي في القدس؛ فلهذا لا يسلمون ولا يقبلون الإسلام.قال: [ واليهود هم المثل لهذه السنة، فإنهم أوتوا التوراة فيها حكم الله تعالى وجاءتهم البينات على أيدي العابدين ] الكثيرين [ من أنبيائهم ورسلهم، واختلفوا في كثير من الشرائع والأحكام، وكان الحامل لهم على ذلك البغي والحسد، والعياذ بالله ] تعالى، [ وهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما اختلف فيه أهل الكتابين اليهود والنصارى، فقال تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:213] ]، أي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم المسلمون، هداهم للإيمان بكل الكتب وسائر الرسل ونجاهم مما اختلف فيه من قبلهم والحمد لله.قال: [ فقال تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:213] لما اختلف فيه أولئك المختلفون من الحق، هداهم بإذنه ولطفه وتوفيقه، فله الحمد وله المنة.ومن ذلك الحق الذي اختلف فيه أهل الكتاب من قبلنا وهدانا الله تعالى إليه:أولاً: الإيمان بعيسى ]، فعيسى اختلف فيه اليهود والنصارى، اليهود قالوا: ساحر ودجال وابن زناً، وكفروا به، وعزموا على قتله وقتلوا من شبه لهم به، وجعلوه كما تعرفون، والنصارى قالوا: هو الله وابن الله وثالث ثلاثة مع الله، وتاهوا في متاهات لا حد لها، هذا اختلاف واضح، وهدى الله هذه الأمة فقالوا: عيسى عبد الله ورسوله، والله! إنه لعبد الله ورسوله، ما هو بالله ولا ابن الله ولا بساحر ولا بدجال ولا بكذاب.إذاً: [ الإيمان بعيسى عبد الله ورسوله حيث كفر به اليهود وكذبوه واتهموه بالسحر وحاولوا قتله، وألَّهه النصارى وجعلوه إلهاً مع الله، وقالوا فيه: إنه ابن الله، تعالى الله عن الصاحبة والولد.ثانياً: يوم الجمعة وهو أفضل الأيام، أخذ اليهود السبت والنصارى الأحد، وهدى الله تعالى إليه أمة الإسلام ]، وقد جئنا بعدهم، فالمفروض أنهم الذين يأخذونه.[ ثالثاً: القبلة قبلة أبي الأنبياء إبراهيم ]، ما هي قبلة إبراهيم؟ الكعبة، أليس هو الذي بناها، إذاً: [ استقبل اليهود بيت المقدس، واستقبل النصارى مطلع الشمس ] إلى الآن، [ وهدى الله أمة الإسلام إلى استقبال البيت العتيق قبلة إبراهيم عليه السلام، والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم ].لو شاء الله هدايتهم لهداهم، أي: اليهود والنصارى، لكن لما تمردوا وكفروا واحتالوا ومكروا لم يشأ هدايتهم، ورأى هذه الأمة مقبلة على الله تريد رضاه فهداها إلى القبلة الحق، إذ صلى النبي صلى الله عليه وسلم هنا حوالي سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، وكان يتطلع إلى قبلة الكعبة، حتى أنزل الله قرآناً واضحاً في هذا: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، حتى إن بني سلمة في مسجدهم صلوا العصر ركعتين إلى بيت المقدس وجاء من قال لهم: إن القبلة تحولت فصلوا الركعتين الأخيرتين إلى الكعبة.إذاً: عرفنا الأمور التي اختلف فيها أهل الكتاب وفزنا بها نحن: الأمر الأول: عيسى عليه السلام، قال اليهود فيه: ساحر وابن زناً، وحاولوا قتله وقتلوا من شبه به، فحكمه حكم من قتل؛ لأن الذي تمثل به قتلوه وصلبوه.الثاني: الجمعة، اختلفوا في أفضل الأيام وأقدسها وأطيبها، فأخذ اليهود السبت والنصارى والأحد، والمسلمون هداهم الله تعالى إلى الجمعة، أتدرون ما يوم الجمعة؟ فيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ويسأل الله شيئاً إلا أعطاه، وهات أكتب لك بذلك صكاً، ساعة لا يوافيها مؤمن يصلي ويدعو الله وسأل الله شيئاً إلا أعطاه، هذه فقدها الفريقان اليهود والنصارى.الثالث: القبلة، اختلفوا فيها، فالنصارى قبلتهم مطلع الشمس واليهود بيت المقدس، وهدى الله المسلمين إلى قبلة أبيهم إبراهيم، فالحمد لله.
هداية الآية
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآيات: من هداية الآيات:أولاً: الأصل هو التوحيد والشرك طارئ على البشرية ]، عبد الله آدم وأولاده وأحفادهم ألف سنة ليس هناك شرك، فالأصل هو التوحيد، والشرك طرأ بوسوسة الشيطان وتزيينه.[ ثانياً: الأصل في مهمة الرسل ] أمران: [ البشارة لمن آمن واتقى، والنذارة لمن كفر وفجر ]، مهمة الرسل ما هي؟ تتجلى في أمرين: البشارة والنذارة، البشارة لمن آمن واتقى، والنذارة لمن كفر وفجر، [ وقد يشرع لهم قتال من يقاتلهم فيقاتلونه كما شرع ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم.ثالثاً: من علامات خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار: أن تختلف في كتابها ودينها، فيحرفون كلام الله ويبدلون شرائعه طلباً للرئاسة وجرياً وراء الأهواء والعصبيات، وهذا الذي تعاني منه أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم، وكان سبب دمار بني إسرائيل ].وهذا واقع أم لا؟ مذاهب متعددة هابطة في الأمة.[ رابعاً: أمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] ].فأمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة، الكتاب القرآن والسنة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، وذلك عقيدة وعبادة وحكم، هذه هي الأمة المعنية بقوله تعالى في هذه الآية: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].[ خامساً: الهداية بيد الله، فليطلب العبد دائماً الهداية من الله تعالى بسؤاله المتكرر ] ليل ونهاراً [ أن يهديه دائماً إلى الحق ]، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:213] فمن هو الذي يشاء الله هدايته؟ الطالبون الراغبون الملحون الذين يقرعون باب الله يسألونه الهداية، هم الذي يهديهم، والمعرض والمتكبر لا يهتدي.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (134)
الحلقة (141)
تفسير سورة البقرة (99)
إن دخول الجنة واستحقاقها ليس بالأمر السهل الهيّن، فإن من سنة الله في خلقه أن يتعرض عباده المؤمنون لأيام شدة ولأواء، ويمتحنوا في ذات الله، ويبتلوا في أنفسهم وأموالهم، وقد أنكر الله عز وجل على المؤمنين ظنهم أن يدخلوا الجنة دون امتحان وابتلاء، وقبل أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من البأساء والضراء والزلزال، حتى يستبطئ النبي ومن معه نصر الله من شدة ما يلاقون.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، اللهم آمين.الآية التي درسناها في الدرس السابق كنا ما وفيناها حقها مما ينبغي أن نعرفه منها ونفهمه، فلهذا أذكركم بها أولاً تلاوة وتأملوا مضمونها، ثم نذكر مضمونها في الشرح.
بعثة الرسل بعد ظهور الشرك في الناس
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213].فعلمنا أن البشرية أو الإنسانية مرت بها فترة طويلة من عهد آدم عليه السلام إلى أن بعث الله تعالى نوحاً، كانت تعيش على التوحيد، لا شرك ولا كفر، فلما اجتالتها الشياطين، ونفخت فيها روح الإلحاد والشرك والكفر، وأصبحوا يشركون بربهم ويكفرون به؛ بعث الله تعالى رسوله نوحاً، فكان أول الرسل يحمل الرسالة للبشارة والنذارة، يبشر المؤمنين المتقين، وينذر الكافرين الفاجرين، دل على هذا قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: على ملة التوحيد، إذ الأصل التوحيد، إذاً: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] بعدما ارتبكت الحالة واختلطت، وأصبح فيها الشرك والفسق والباطل والشر، فحكمة الله تقتضي أن يرسل رسلاً يحملون هدايته إلى عباده، فمن أجاب فآمن واستقام بشروه بوعد الله الصادق بالنجاة من النار ودخول الجنة، ومن أصر على الشرك ومشى وراء الشياطين فإنهم ينذرونه بعذاب الله اللازم له.
إنزال الكتب على المرسلين لهداية الخلق
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة:213] بعدما اختلفوا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ [البقرة:213]، فإبراهيم كان معه ثلاثون صحيفة، وشيث كان معه ستون صحيفة، وموسى معه عشر صحف، وهكذا التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب، فلفظ الكتاب هنا اسم جنس، يدخل فيه كل ما أنزل الله من الكتب، وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:213] لعلة أن يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من شأن التوحيد والشرك، والكفر والإيمان، وطاعة الرحمن عز وجل.
اختلاف أهل الكتاب في الحق
ثم أخبرنا تعالى أن الذين اختلفوا فيه هم الذين أوتوه من قبل، وهذه تنطبق على اليهود انطباقاً كاملاً، هم الذين اختلفوا في رسالة عيسى؛ لأنه كان بين أيديهم التوراة، ويتلونها ويعملون ببعض ما فيها، فالمفروض أن يؤمنوا بالإنجيل، ويدخلوا تحت راية عيسى لينجوا، فاختلفوا، واستمر خلافهم حتى بعث الله النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لسنا في حاجة إلى دين جديد ولا إلى كتاب جديد! وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213] حال كونهم بغاة، من أجل البغي والحسد فقط، وإلا فكتاب الله هو كتاب الله، ورسول الله هو رسول الله، أنزل الله كتاباً ونسخه بآخر، فنأخذ بالناسخ ونترك المنسوخ، لكن البغي النفسي والحسد والبغض هو الذي حملهم على هذا.
هداية المؤمنين لما اختُلِف فيه من الحق
وقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] قطعاً هم المؤمنون المحمديون، هداهم الله تعالى لما اختلف فيه اليهود والنصارى، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:213] بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم، هداهم الله عز وجل للذي اختلف فيه أهل الكتاب، وقد حصرناه في ثلاث مسائل:أولاً: اختلف اليهود والنصارى في عيسى، اليهود قالوا: ابن زناً والعياذ بالله، وقالوا: ساحر، حين كانوا يشاهدون المعجزات يقولون: سحر، والنصارى قالوا فيه: ابن الله، واختلفوا، وقال المؤمنون المسلمون بحق: هو عبد الله ورسوله، عبد الله من سائر عبيده اصطفاه بالرسالة فأرسله، فهو عبد الله ورسوله، ولهذا نشهد أن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله.ثانياً: اختلفوا في يوم الجمعة مع ما له من فضل، هذا اليوم خلق الله فيه آدم، وأنزله فيه إلى الأرض، وهو يوم تقوم فيه الساعة، وهو أفضل الأيام، وحسبنا أن فيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ويدعو الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه.فاليهود عليهم لعائن الله قالوا: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهي: الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة واستراح يوم السبت، فقالوا: هذا هو اليوم الذي نستريح فيه نحن، وهذا من تزيين الشيطان، وأبطل الله هذه الفرية في آية من سورة (ق)، إذ قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، أي: نصب أو تعب، فأبطل فريتهم.وجاء النصارى فاختاروا الأحد، وجاء المسلمون بعدهم أتباع النبي الخاتم فهداهم الله إلى يوم الجمعة، فلنا يوم الجمعة ولليهود السبت، وللنصارى الأحد، هدانا الله لما اختلفوا فيه، فالحمد لله.ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فترة الحياة من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة هي بمثابة طلوع الشمس إلى غروبها، كيوم واحد، فتلك الأمم توالت وجئنا، فنحن الآخرون الأولون، وقتنا: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، هكذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن الآخرون الأولون.
اختصاص الله تعالى بالهداية
إذاً: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] لا هداية بدون إذن الله، فلهذا من طلب الهداية يطلبها من الله بإلحاح، ولا يفهم أنه في إمكانه أن يهتدي إلى الصراط المستقيم؛ إلى محاب الله فيعملها، وإلى مكاره الله فيتركها، هيهات هيهات إذا لم يكن الله عوناً له وهادياً له، وحسبنا في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد ويصلي يقول هذا الدعاء: ( اللهم رب جبريل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، هذا الرسول حامل راية الهداية، وهو داعيها، ومع هذا كل ليلة يتضرع بين يدي الله ويسأله أن يهديه لما اختلف فيه الأولون من الحق بإذنه.
أهمية ديمومة سؤال الله تعالى الهداية
فمن هنا قول ربنا: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:213] ويحب إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213] يجعلنا نضطر أنفسنا إلى أن نسأل الهداية طول حياتنا، لسنا بأهدى من رسول الله، ومع ذلك يقول: ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ). وكثيراً ما أقول للمستمعين والمستمعات: من هم الذين يشاء الله هدايتهم؟ بنو الأصفر، العرب، بنو كذا؟ من هم؟ الجواب -معشر المستمعين والمستمعات-: هم الذين قرعوا باب الله ولازموه، واستمروا طول حياتهم يدعونه الهداية، هم الذين شاء الله هدايتهم، أما المتنكبون والمعرضون -فضلاً عن الساخرين والكافرين- فهؤلاء لا يشاء الله هدايتهم؛ لأنه عليم حكيم، فالذي أقبل على الله في صدق يتضرع إليه ويسأله الهداية حاشا لله أن يحرمه إياها أو يخيبه في دعائه، والذي يقرع الباب مرة ومرتين ثم يتأخر ما ينتفع، لا بد من ملازمة، وحسبنا هذا الحديث، كلما قام في الليل يتهجد ويبكي يتوسل إلى الله بهذه الوسيلة العظيمة: ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، فلا بد من سؤال الله الهداية طول الحياة.إذاً: ومما اختلف فيه الأولون وهدى الله إليه المؤمنين: القبلة، كان اليهود يستقبلون بيت المقدس، والنصارى يستقبلون مطلع الشمس ومشرقها، فهدانا الله نحن إلى الكعبة، وهي قبلة إبراهيم وإسماعيل والأنبياء حتى هود وصالح، فاختلفوا في القبلة فاستقبل اليهود بيت المقدس، واستقبل النصارى طلوع الشمس، وهدانا الله نحن إلى كعبته التي بناها لآدم لما هبط إلى الأرض، فاختلفوا وهدانا الله، فالحمد لله.
تابع قراءة في تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ...) من كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
تلك الآية فيها هدايات:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية:من هداية الآية:أولاً: الأصل هو التوحيد والشرك طارئ على البشرية ] كما قدمنا؛ لأن آدم خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وأخرج من ضلعه الأيسر حواء امرأته وأهبطهما إلى الأرض، فآدم نبي الله، يعلم عن الله ويوحي الله تعالى إليه، وأولاده تناسلوا، كلما يولد مولود يعرف الحق ويعرف التوحيد ويعبد الله، وقد قص الله تعالى علينا قصة قابيل وهابيل، وهما ابنا آدم عليه السلام، وقتل قابيل هابيل حسداً، ولهذا فالحسد أخطر ما يصاب به البشر، قل لأخيه: لم يقبل الله صدقتك ولا يقبل صدقي؟ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، والعلة في قبول الله هذا ورفض هذا أن هابيل قدم خير ماله وأفضل ما يملك لربه، والآخر جمع أشياء فاسدة ما له حاجة إليها، وتقدم بها قربناً لله، وهكذا الصدقة إذا كانت مما فيه رداءة وعدم صلاحية لا قيمة لها، أنت تتقرب إلى الله وتقدم إليه بما لا تريده! كيف يصح هذا؟ كيف تواجه الله عز وجل؟ ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ).إذاً: واستمر التوحيد في أحفاد آدم وأحفاد أحفاده إلى أن حدث الشرك بدعوة إبليس وفتنته، إذاً: لما انتشر الشرك أرسل الله نوحاً، فدعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.[ ثانياً: الأصل في مهمة الرسل البشارة لمن آمن واتقى والنذارة لمن كفر وفجر ]، الأصل في مهمة الرسل ما هي؟ أن يبشروا من آمن واتقى، وينذروا من كفر وفجر، ثم المهام الأخر من العبادات إلى الجهاد تابعة، يقوم بها المؤمنون الصادقون.[ ثالثاً: من علامات خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار أن تختلف في كتابها ودينها، فيحرفون كلام الله ويبدلون شرائعه طلباً للرياسة وجرياً وراء الأهواء والعصبيات، وهذا الذي تعاني منه أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم، وكان سبب دمار بني إسرائيل ]. من علامات الخذلان أن يختلف الناس في دين الله، فلهذا على العلماء أن يعملوا ما استطاعوا على أن لا يفتحوا باب الخلاف للمسلمين، ولو قام بهذا الواجب العلماء لما ظهر الخلاف، الخلاف كله شر لا خير فيه، الأمم التي اختلفت تدمرت وخسرت حياتها.إذاً: فالآية تحمل هذا التنبيه: لا تختلفوا في كتابكم، فإن من اختلفوا في كتابهم هلكوا.[ رابعاً: أمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] ]، أي: لما اختلف فيه أهل الكتاب: اليهود والنصارى.[ خامساً: الهداية بيد الله، فليطلب العبد دائماً الهداية من الله بسؤاله المتكرر أن يهديه دائماً إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ]، وقد قدمنا الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان كل ليلة يسأل الله أن يهديه لما اختلف فيه الناس من الحق، ويهديه إلى صراط مستقيم.
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ...)
كانت تلك الآية، والآن معنا آية أخرى، هي قول الله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]. قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] هذا الاستفهام معناه: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة أيها المؤمنون. وهذه كانت أيام الشدة، أيام البأساء واللأواء؛ المدينة محاصرة من جهاتها، حرب الخندق، حرب أحد، الجوع، وحسبنا ما علمنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يشبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متوالية، حسبنا أن أبا هريرة كان يصرع في المسجد من شدة الجوع، فيأتي أطفال المدينة يركبون على ظهره ويقولون: جن أبو هريرة ! قال: وما فيَّ من جنون، ولكن الجوع.هذه الآية تحملهم على الصبر والثبات والشجاعة، حتى يفرج الله الهم ويزيل الغم ويرفع البلاء، وفعلت هذه الآية ما فعلت فيهم، صبروا ثبتوا، فهو يقول لهم: أحسبتم أن تدخلوا الجنة دار السلام بدون بلاء؟ ما هو بمعقول أبداً.
دخول التكاليف في الابتلاء الممحص لدخول الجنة
والبلاء والابتلاء منه التكليف، فالغسل من الجنابة في الليلة الباردة من هذا، وإخراج زكاة مالك وإعطائها لغيرك من الابتلاء، شهودك بيت الله خمس مرات في الأربع والعشرين ساعة تسجد وتركع بين يديه مع إخوانك المؤمنين هذا ابتلاء، الإمساك عن الطعام والشراب شهر رمضان من الابتلاء، بر الوالدين، طاعة إمام المسلمين.. هذه كلها من الابتلاء، ويجب أن تصبر، وهي عوامل تزكية النفس وتطهيرها، فهل يدخل المرء الجنة ونفسه خبيثة؟ والله! ما كان أبداً، إذا لم يزكها بأدوات التزكية التي وضعها الله لها، ثم مات ونفسه خبيثة كأرواح الشياطين والكافرين فهيهات هيهات أن يدخل الجنة دار السلام. وحسبنا أن لا ننسى حكم الله الصادر علينا، أبيضنا وأسودنا أولنا وآخرنا؛ ذلكم الحكم العظيم الذي أقسم الجبار عليه لتطمئن النفوس وتسكن إليه، إذ قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كثيراً ما نقول: هنا تقرير المصير، لا تفهم أن مصيرك تقرره يوم القيامة، لا والله، المصير يتقرر هنا، فمن آمن وحقق إيماناً سليماً صادقاً يقينياً، ثم اتقى الله فلم يفسق عن أمره ويخرج عن طاعته في الفعل والترك فقد زكى نفسه بهذه العبادات وطهرها من تلك الأرجاس والأنجاس، إذ ابتعد عن الشرك والكفر والخبث والفسق والفجور، فإذا جاء ملك الموت وجد نفسه مشرقة، والله! إنه ليحييه ويسلم عليه ويبشره وهو على سرير الموت: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، ما مالوا يميناً ولا شمالاً، أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، ونهضوا بما أوجب الله من الجهاد والرباط إلى الصيام والصلاة، هؤلاء: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] في ساعة الاحتضار، وفود الملائكة تبشرهم وتهنئهم، اللهم اجعلنا منهم.أما الذين يموتون وأرواحهم خبيثة منتنة بالإلحاد والشرك والكفر والعياذ بالله فقد أعلمنا الله بحكمه فيهم، ما ننسى آية من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، إذ المجرمون أجرموا على أنفسهم، لوثوها وأخبثوها بما أفرغوا عليها من أطنان الذنوب والآثام، ولا توبة ولا تراجع، الظالمون هم المشركون، ظلموا أنفسهم، بدل أن يطيبوها ويطهروها أخبثوها وعفنوها، وبين الرسول هذا بياناً شافياً، عندما يحتضر المؤمن التقي ولي الله، وتأتي الملائكة يسفر وجهه ويستبشر ويبتسم وهو يعالج بقبض روحه، ثم يعرجون بها ويستأذنون من أهل السماوات فيؤذن لهم إلى أن يقفوا بها عند العرش، ويكتب اسمها في عليين، ثم تعود إلى الأرض لفتنة القبر، ثم تعود إلى الجنة دار السلام، وأما الروح الخبيثة فوالله! ما يؤذن لها ولا تعرج إلى السماء ولا تصل إلى دار السلام، وتعود إلى الأرض لفتنة القبر، ثم تعود إلى أسفل سافلين في الدركات التي ما يخطر في البال أين هي. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، التكذيب بالآيات هو التكذيب بالوضوء والغسل، هو التكذيب بالصلاة والزكاة، الذي كذب بالآيات كيف يعبد الله؟ الآيات هي حاملة للشرائع والعقائد والآداب والأخلاق والعبادات، والمستكبر كالمكذب، قال: أنا مؤمن، لكن يمنعه الكبر أن يغتسل من جنابة أو يصلي، فهل ينفعه هذا الإيمان؟وضربنا لهذا مثلاً قديماً: مريضان بأشد المرض، زرناهما فقدمنا للأول أدوية وعقاقير للعلاج، فقال: مع الأسف أنا لا أؤمن بهذه الخرافات والضلال، لا أقبل هذا العلاج الذي تقولونه. فهذا كذب به فمات، انتهى، فمشينا إلى الثاني فقلنا: مرحباً، أهلاً وسهلاً، جئناك بعلاج، فقال: جزاكم الله خيراً، نعم أنا مريض والعلاج نافع وأنا مؤمن بنفعه، ولكن مع الأسف ما عندي رغبة في هذا، تركه استكباراً فمات، فما الفرق بين المكذب والمستكبر؟ كلاهما هلك، فالذي يكذب بآيات الله ولا يقول بها ولا يعترف كالذي يقول: آيات الله ودين الله الإسلام حق ولا يريد أن يطبق شيئاً كبرياء، هل بينهما فرق؟ لا فرق. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، تعرفون سَم الخياط؟ سَم الخياط: عين الإبرة، التي كنا نخيط بها ثيابنا قبل الآلات، هل تستطيع أن تدخل حبلاً في عين الإبرة؟ فكيف بالجمل؟!إذاً: من أراد أن يدخل الجنة ونفسه خبيثة طلب المستحيل، كالذي يريد أن يدخل حبلاً في عين الإبرة، أو جملاً في عين الإبرة، هذا يقال فيه: التعليق على المستحيل، فهو مستحيل.وهكذا القرآن يخاطب العرب والعجم والعالم والجاهل بألفاظ قريبة جداً، هل من المعقول أن يدخل الجمل في عين الإبرة؟ مستحيل، كذلك النفس الخبيثة بالشرك والجرائم، هذه النفس يستحيل أن تدخل الجنة أو تفتح لها أبواب السماء أبداً، لا تعود إلا إلى الدركات السفلى في الكون في سجين.
معنى قوله تعالى: (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ...)
يقول تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] أيها المؤمنون المحاصرون الجائعون، وَلَمَّا [البقرة:214]، (لما) بمعنى:لم، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214]، وفيه إشارة إلى أنه سيأتيهم البلاء والامتحان والشدائد؛ لأن (لما) تفيد الوقوع في المستقبل، ولما يأتكم صفة وحال الذين من قبلكم، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ [البقرة:214]، شدة البأس والبلاء، وَالضَّرَّاءُ [البقرة:214] الأمراض وما إلى ذلك، وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] زلزالاً يهز قلوبهم، والخوف من الأعداء يطوقونهم، ولو شاهدنا غزوة أحد فقط كيف كانت أو غزوة الخندق، خاصة غزوة الخندق هذه، أهل المشرق تجمعوا وزحفوا، أهل الجنوب كذلك، وطوقوا المدينة، ما كان من الرسول إلا أن أمر رجاله أن ينزلوا كلهم في سفح جبل سلَّع، وتركوا الأطفال والنساء في المدينة؛ لأن العدو ما جاء للأطفال والنساء، جاء لقتل الرسول وإنهاء وجوده، ومضت خمسة وعشرون يوماً، والبرد الشديد، ولا تسأل عن الطعام والشراب، فلا شيء، إذاً: مسهم مثل ما مس الذين خلوا من قبلهم من الأمم المؤمنة الصالحة، لا بد أن تتعرض لهذا، والمسلمون اليوم في غنى وفي سعادة، في كمال، ومعرضون عن الله، يريدون أن يدخلوا الجنة بالقوة! أَمْ حَسِبْتُمْ [البقرة:214] أحسبتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [البقرة:214] هكذا بالاستراحة الدائمة؛ بالأكل والشرب والركوب والأمن ثم يقال: ادخلوا الجنة! فهذا التساؤل معناه: الإنكار عليهم، انزعوا من آذانكم هذا، لا بد إذاً أن تبتلوا -كما قدمنا- بالصلاة بالزكاة بالصيام بالحج بصلة المعروف، بالبر بالإحسان، بكلمة الحق، بالرحمة بالعدل، هذه التي تزكي النفس، فإذا ما عملتم والنفوس خبيثة فكيف تدخلون الجنة؟ وقد تصابون أياماً بحصار عدو وحرب تدخلون فيها معه، وبجوع، وقحط، ولا يتبدل فيكم شيء، قلوبكم مع الله وألسنتكم ذاكرة، وقلوبكم ذاكرة شاكرة، هذا هو الطريق. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214] أي: حالهم وصفتهم، مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] زلزالاً، وتزلزلت المدينة في حرب أحد لما انكسر المؤمنون وانهزموا، كل بيت فيه من يصرخ ويبكي، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] هذا مع الرسل السابقين، وحتى مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، يقولون: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]؟ والله يقول لهم: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] لا تستبطئوه.
التربية بالرد النبوي على شكاية المضطهدين في مكة
ولنذكر حديثه صلى الله عليه وسلم عندما كان متكئاً تحت البيت مستظلاً بجدار الكعبة، فجاءه من يبكي ويقول: ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا يا رسول الله؟ من أولئك المضطهدين المعذبين المنكل بهم، يقول: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فيقول له: ( لقد كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على رأسه فيقسم نصفين، ويمشط ما دون لحمه وعظمه بأمشاط الحديد لا يرده ذلك عن دينه، ثم قال: والله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه )، وتم هذا، فلم الاستعجال؟ لو تعرفون حياة الصحابة والذين ما عاشوا حتى الفتوحات فسنستحي أن نقول: نحن مؤمنون أمامهم.إذاً: ها نحن الآن مبتلون فقط بالتكاليف، هيا نتخلى عن الربا، لا يراني الله واقفاً أمام بنك ربوي، وصاحب البنك يغلقه أيضاً ويرمي بالمفتاح، ويطلب رزق الله حتى من الحمالة أو من أي شيء، نطهر قلوبنا من النظر إلى غير الله، من التعلق بغير الله، ونجعل قلوبنا خالصة لله، لا نلتفت إلى نبي ولا ولي، ما لنا إلا الله عز وجل، نطهر أنفسنا من اللغو والكلام الباطل، هذه الغيبة والنميمة والأضاحيك، نطهر بيوتنا، عجلوا قبل أن تنزل المصيبة، بيوت المؤمنين فيها عاهرات يغنين، والمؤمن وامرأته وأولاده يشاهدون، أهذا هو الإيمان؟ أين الحجاب؟ وقد بلغنا اليوم خبر من نقمة الله، أحد الغافلين سقط الدش على رأسه فكسر رأسه، هل من معتبر؟ الأحياء يعتبرون والأموات لا يعتبرون، على الأقل نقلل من هذا الإسراف في الطعام والشراب، وإذا توافر ريال أو عشرة نسد به خلة محتاج أو نساعد به مؤمناً، أو نضعه في خير من الخيرات، لم التكالب على هذه الأوساخ مادمنا في أمن ورخاء، لم ما نتنزه عن هذه القاذورات والأوساخ؟ كأننا نسينا أن الله بالمرصاد، ونحن نريد أن ندخل الجنة، هل نحسب أن ندخل الجنة؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] إلى حد أن يقول الرسول والمؤمنون معه: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] يستبطئون هذا، والرسول يقول ذلك لأن الأعراض البشرية عامة في الرسل وفي غيرهم، يقولون: متى نصر الله؟ والرسول يقول: اثبتوا واصبروا فستنفرج: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
صيحة نذير بترك الدخان وإعفاء اللحية
نصرخ بين المؤمنين في التدخين فقط طول أربعين سنة: يا عبد الله يا أمة الله! الذي يذكر الله بفمه وقلبه كيف يخبث فمه برائحة كريهة؟ أسألكم بالله يا علماء: هل الذي يأخذ اسم الله في ورقة ويدسه في عذرة هل تحكمون بكفره أو لا؟ والله! ما بقي له من الإيمان شيء، ارتد وكفر.إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يسلم عليه أحد أصحابه وهو على غير وضوء، فيعمد إلى جدار من جدران المدينة من لبن وتراب، ويتيمم من أجل أن يرد السلام؛ لأن في الرد اسم الله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أي: من أجل أن يذكر الله، ما استطاع أن يذكر الله بدون وضوء، وشرع لنا السواك لم؟ قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )؛ لأنهم يذكرون الله عز وجل، هذه الأفواه مجاري ذكر الله أو لا؟ كيف تذكر الله بدون فمك وحلقومك ولسانك؟ هذا الموضع حرام أن يتلوث، أما الكافر الذي لا يذكر الله فيجعل في فمه حتى الخرء ما يضره ذلك، أرني مؤمناً تمضي عليه ساعة ما يذكر الله، ما هو بمعقول أبداً، فهو يرد السلام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويقال له: كيف حالك، فيقول: الحمد لله، ويقف: باسم الله، ويجلس: باسم الله، دائماً يذكر الله، كيف يلوث فمه؟ وما استجبنا، وما عرفنا، كأننا مشدودون بالأرض. وكذلك اللحية، قلنا: يا عباد الله! أنتم عسكر محمد صلى الله عليه وسلم، أنتم جيش الله، لا بد أن تكون لكم سمات خاصة لا تشتبه بسمات الكفار والمشركين والفاسقين أبداً، ما هي الميزة التي تميزكم؟ هي لحاكم، اليهود والنصارى والكفار لا لحى لهم، وجيش محمد له لحية أو لا؟ يحرم أن يكون مثلهم، وقد قلنا لهم: الجندي في اليابان، في الصين، في الأمم الهابطة، في الراقية، العسكري لا يستطيع مدني أن يلبس لباسه، فإنه يسجن أربع سنوات ويؤدب، كيف تلبس لباس جندي وأنت مدني؟ هذا معروف في العالم أو لا؟ ورجال الإسلام كلهم عسكر محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً: فلباسهم يجب أن يتميز عن لباس الكافرين والمشركين، ومن أكبر الميزات الذي وضعها الرسول اللحية، فأعفوا لحاكم، فالمشركون والكافرون يحلقون، وصرخنا في باب الحجاب. المهم أننا -والله- لبالمرصاد، ما ندري متى يغضب الجبار، سئل أحدهم: أين الله؟ فقال: بالمرصاد، أتعرفون المرصاد أو لا؟ ذاك الذي يجلس على جبل ويترقب الغزلان أو الطيور متى تنزل ليضرب. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]، فإما أن يتوب المسلمون فوراً بعجالة، ويظهروا في مظهر إسلامهم الحق، وإلا فسوف تنزل بهم الويلات والنكبات ويخسرون دنياهم وآخرتهم إلا من رحمه الله، هكذا قيل لأصحاب الرسول أو لا؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214] ما هو؟ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] من شدة البلاء والكرب، ونحن -والحمد لله- لا كرب ولا بلاء، أحدثنا الكروب والبلاء بأنفسنا، مزقنا صلات الروابط والعلاقات الطيبة علاقات الإيمان، وأخذ الحسد يمزقنا والكبر يشتتنا، وأثارت الشياطين الخلاف بيننا، وتمزقنا بأنفسنا، إلى أين مصيرنا؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآية
والآن مع شرح هذه الآية الكريمة. قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ معنى الآية الكريمة: ينكر تعالى على المؤمنين وهم في أيام شدة ولأواء ] ينكر عليهم [ ظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون امتحان ولا ابتلاء في النفس والمال، بل وأن يصيبهم ما أصاب غيرهم من البأساء والضراء والزلزال، وهو الاضطراب والقلق من الأهوال، حتى يقول الرسول والمؤمنون معه استبطاءً للنصر الذي وُعدوا به: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]؟ فيجيبهم ربهم تعالى بقوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]].
هداية الآية
هذه الآية فيها أربع هدايات:قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:[ هداية الآية الكريمة:من هداية الآية:أولاً: الابتلاء بالتكاليف الشرعية -ومنها الجهاد بالنفس والمال- ضروري لدخول الجنة ]، الابتلاء والله لا بد منه لدخول الجنة، والذي يريد أن لا يبتلى ولا يكلف ويعيش كالحيوان مصيره معروف إلى عالم الشقاء النار والعياذ بالله.[ ثانياً: الترغيب في الائتساء بالصالحين والاقتداء بهم في العمل والصبر ]؛ إذ قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214] إذاً: ائتسوا واقتدوا أيضاً، فاصبروا كما صبروا، وإن كان زلزالكم وبلاؤكم أقل أو أكثر فلقد سبقكم أمم من الصالحين وصبروا على هذا.[ ثالثاً: جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق ]، فالرسول رسول، ولكن يقلق، يستبطئ النصر، يتألم، لماذا؟ لأنه بشري ما هو بملك، فيه صفات البشر، والإنسان يحزن، يكرب، يخاف، يجوع، ويعطش، لا بد من هذا، وإن كان نبياً ورسولاً، فهذه الآية دلت على هذه.[ جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظاراً له.رابعاً: بيان ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شدة وبلاء أيام الجهاد وحصار المشركين لهم ] في مكة، وفي المدينة أعظم، في مكة ابتلوا من المشركين، فهذا يضربونه، وهذا يقتلونه وهذا يفعلون به كذا، وما ننسى أبداً أن سمية وزوجها ياسر قتلا على مرأى ومسمع بين الناس.معاشر المستمعين! هل من توبة إلى الله، هل من رجعة إلى الله قبل فوات الوقت، والله! إننا لتحت النظارة، والبلاء ينتقل من بقعة إلى بقعة، فالمؤمنون إذا ثبتوا وصبروا كان هذا القلق والاضطراب رفعاً لدرجاتهم، وأما العذاب فيمسهم منه ما يمس غيرهم، والذين تهوكوا وهبطوا وأعرضوا عن الله وذكره فمصيرهم معروف، والله تعالى أسأل أن يحسن عاقبتنا وعاقبة كل مؤمن ومؤمنة.ندعو لإخواننا المصابين بالبلاء في الأفغان والديار الجزائرية، إذ ما نملك إلا الدعاء، فنحن ندعو الله عز وجل والله لا يخيب داعياً يدعوه في صدق وإخلاص.فاللهم يا ولي المؤمنين، ويا متولي الصالحين، ويا رب العالمين، إن عباداً لك مؤمنين في الديار الأفغانية والجزائرية قد أصيبوا بكرب عظيم وخلاف شديد، واشتعلت نار الفتنة بينهم فقتل بعضهم بعضاً، ونكل بعضهم ببعض، اللهم فرج ما بهم، اللهم فرج ما بهم، وأطفئ نار الفتنة بينهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين، ربنا إنه لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء وأنت السميع العليم، كما نصرت نبيك ورسولك محمداً والمؤمنين في غزوة الخندق بعد الحصار الشديد، فانصر عبادك المؤمنين على أنفسهم وعلى شياطينهم وأهوائهم؛ ليعودوا إليك ويتوبوا إلى صراطك لينجوا من هذه الإحن والمحن والفتن يا رب العالمين، وق ديارنا هذه من مثلها وديار المؤمنين يا رب العالمين، وتب على الجميع إنك رب الجميع.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير آل عمران- (1)
الحلقة (142)
تفسير سورة آل عمران (1)
بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام، وأنزل عليه القرآن مصدقاً لما بين يديه، كما أنزل التوراة والإنجيل من قبل على موسى وعيسى، وهذا القرآن الذي أنزل على محمد أنزل عليه بالحق، لا يفارقه ولا ينفصل عنه، فلو اجتمع علماء الأرض ومثقفوها ليثبتوا ورود خطأ واحد في القرآن، لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
بين يدي سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) فالحمد لله أن أهلنا الله لهذا الخير!ووراء ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، ووراء ذلك: ( لا يزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظر التي بعدها، ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مسجده: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث ). فهذه غنائم باردة لا تكلفنا شيئاً، ومع هذا أعرضنا عنها وأدبرنا فحرمنا تزكية أنفسنا وطهارة أرواحنا، وحرمنا العلم الذي يرفع تعالى أهله درجات، وساد الجهل وخيم في ديارنا، ولهذا نبكي ونتباكى!لم لا نعود إلى ما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحفادهم وأبناءهم؟أما بلغنا قول الله عز وجل وإبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة وهما يتقاولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]؟أما استجاب الله لهما وبعث في ذرية إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس لأصحابه رجالاً ونساء كباراً وصغاراً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم؟!بلى. وقد امتن الله تعالى بهذه النعمة علينا في آيتين من كتابه إذ قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]. زكاهم. أي: طيبهم وطهرهم، حتى أصبحوا لا يماثلهم بشري على سطح هذه الأرض مما عدا أنبياء الله ورسله.فكيف زكوا وطابوا وتعلموا؟ هل تنقلوا من جامعة إلى أخرى؟ لا. بل كانوا يجلسون في بيت ربهم ويتعلمون الكتاب والحكمة، وما زالوا يتعلمون حتى أصبحوا علماء ربانيين؛ فاختفى كل مظهر من مظاهر الشر والخبث والفساد والظلم في حياتهم، فهيا نعود إلى ما كان عليه أسلافنا!أما تستطيعون أن تجتمعوا كل ليلة في جامعكم الذي يجمعكم ساعة ونصف بين المغرب والعشاء؟ يا أهل المدن! إن لكم أحياء تعيشون فيها فاجتمعوا في جامع حيكم بنسائكم وأطفالكم ورجالكم كل ليلة وطول الحياة من المغرب إلى العشاء! أتعجزون عن هذا؟ فكيف إذاً تخترقون السبع الطباق وتنزلون بالملكوت الأعلى وتجتازون مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام؟أين يذهب بعقولكم؟نريد ألا نرى مظهراً من مظاهر الظلم والفسق والفجور والخبث، وألا نرى فقراً ولا مرضاً ولا تعاسة ولا ظلماً ولا جوراً، ولكن هذا لا يتأتى بالكلام فحسب، بل لا بد من العمل. ووالله أنه لا سبيل إلى نجاتنا إلا هذا الطريق، وإلا فإننا سنتمزق ونخسر خسراناً أبدياً، فإن لله تعالى سنناً لا تتبدل ولا تتغير: الطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، تلك سنن لا تتبدل، الكتاب والحكمة يطهران وينظفان ويعلمان ويرفعان إلى الملكوت الأعلى!خذوها من باب التعليم الواضح! ألسنا نقتدي بالأوروبيين حتى في الزي واللباس، فلم لا نقتدي بهم في هذه القضية؟ هم إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل، فلبسوا أحسن ثيابهم وأخذوا بناتهم ونساءهم وأولادهم إلى الملاهي والمراقص والمقاصف ودور السينما، فلماذا نحن لا نوقف العمل عند أذان المغرب ونذهب إلى بيوت الرب لنتعلم الكتاب والحكمة لتزكو أنفسنا ونأخذ صك الفلاح من ربنا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]؟هذا الكلام يا أهل الدرس مكرر سئمتموه ومللتموه، ولكن هل بلغكم أن أهل قرية قالوا: آمنا واجتمعوا في جامعهم يتعلمون الكتاب والحكمة، النساء وراء ستارة، والأطفال دونهن، والفحول أمامهن، ومعلم الكتاب والحكمة بين أيديهم، ليلة آية، وأخرى حديثاً، طول العام؟تصور إذا دقت الساعة السادسة لم يبق دكاناً مفتوحاً ولا مقهى ولا متجراً ولا فلاحاً بيده مسحاة.. ولا ولا، فجميع أهل القرية في بيت ربهم! الله أكبر! أي شرف هذا؟ فلو يجلسون فقط يبكون بين يديه سبحانه لرحمهم ورفعهم إلى الملكوت الأعلى، فضلاً على أنهم يتعلمون الكتاب والحكمة لتزكية نفوسهم، ثم لتطهير أرواحهم، ثم للتأدب بالآداب التي لا يساويها أدب في هذا العالم.والآن مع سورة آل عمران ثالثة السور القرآنية من الكتاب العظيم القرآن الكريم، فالسورة الأولى الفاتحة وبها افتتح الله كتابه، والثانية البقرة ذات الألف حكم، والثالثة (سورة آل عمران) على الحكاية، و(آل) بمعنى: أهل. (عمران) من أعلام بني إسرائيل.وعدد آيات هذه السورة: مائتا آية بلا خلاف، كل آية كالشمس تضيء الحياة، وكل آية علامة على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن لقاء الله حق ثابت لا ينكره إلا أحمق أو مجنون.
تفسير قوله تعالى: (الم)
يقول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:1-6].فما معنى: الم [آل عمران:1]؟الجواب: هذا من المتشابه الذي امتحن الله به عباده، واستأثر تعالى بعلمه ومعرفته، فقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، آمنا به، فكل من المحكم المتشابه من عند ربنا!وقد قرأنا في البقرة وقلنا: لهذه الحروف فوائد عجيبة عظيمة، فعندما تريد أن تفسرها فقل: الله أعلم بمراده بها، فوض الأمر للعليم الحكيم.
فوائد الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن
إن سئلت عن فوائد الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن الكريم فقل:أولاً: لما أعرض المشركون في مكة عن سماع القرآن، وأصدروا أوامرهم بمعاقبة من ضبط يسمع القرآن، كما بين ذلك الله تعالى في سورة فصلت فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]. أي: إياكم أن تسمعوا، وإذا أخذ يقرأ صيحوا أنتم وضجوا وصفروا حتى لا يسمع أحد! هذا حفاظاً على الوطنية، فأيام الحزبية والوطنيات كان إذا قام رئيس حزب يخطب قام أعداؤه من الحزب الثاني يفعلون كما فعل حزبه فيصيحون ويصفرون حتى يحجبوا كلامه.إذاً: لما منعت قريش سماع القرآن جاءهم الله عز وجل بهذه الحروف التي ما عهدوها، ولا سمعوا بهذا النغم وهذا الصوت، فما عرفوه أبداً طول حياتهم هم وأجدادهم وآبائهم، فكان أحدهم إذا سمع: طسم [الشعراء:1] يضطر اضطراراً إلى أن يستمع ليعلم ما وراء ذلك. وإذا سمع: المر [الرعد:1] سمع نغماً جديداً فيصغي ويسمع، حتى ولو كان من جنودهم وزبانيتهم فلا يبالي، وإن أخذ أجرة وتعهد ألا يسمع. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمعهم القرآن حول الكعبة، فلا يستطيعون أن يحضروا، فما إن يعتم الظلام حتى يتسللون إلى مكان بجوار النبي صلى الله عليه وسلم فيسمعون ترنمه بالقرآن وهو يصلي، حتى إذا التقى بعضهم ببعض لاموا أنفسهم وتعاهدوا أن لا يفعلوا ذلك مرة أخرى، وقد جاء هذا في سورة الإسراء إذ قال تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الإسراء:47]. وأما نحن فقد صرفنا عن القرآن بالحيلة الأدبية.. بالأغاني، وهذا أسلوب جديد من مكر أعداء الدين، فأصبح أهل البيت المسلم بدل أن يجتمعوا حول كتاب الله قبيل تناول طعام العشاء أو بعد صلاة العشاء فيتلون آية ويبكون وتنشرح صدورهم وتسمو آدابهم، بدل هذا أصبحوا يطربون للأغاني، وهذا أسلوب شيطاني وضعه بنو عمنا اليهود، وانجذبنا ومشينا وراءهم، فما أصبحت تسمع قرآناً في بيت إلا إذا كان فيه ميت فقط، أما أن يجتمعوا على أن يتلوا آياته ويتأدبوا بآدابه ويتعلموا أحكامه فلا يوجد ذلك أبداً، وهذه الحيلة أكثر خطراً من قانون أبي سفيان وزمرته فقد كانوا لا يسمحون للناس بالسماع ومع هذا هم يسترقون السمع ويتسمعون شوقاً ورغبة، أما بيوت المسلمين اليوم فقد تركت للأغاني والمزامير؛ وذلك حتى يعرضوا عن ذكر الله فيهلكوا ويتمزقوا فيتمكن اليهود من أن يسودوا ويحكموا. هذه الفائدة الأولى من الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن الكريم.الفائدة الثانية: لما حاج المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا ليس بقرآن إنما هو شعر، هم في حقيقة أمرهم يعلمون أنهم يكذبون، فما هو بالشعر، وقالوا سحر وما هو بسحر، وكل ذلك ليدحضوا الحق بالباطل، فتحداهم الحق عز وجل بهذه الحروف، فهذا القرآن مؤلف من هذه الحروف: كهيعص [مريم:1]، يس [يس:1]، طه [طه:1]، ق [ق:1]، فألفوا مثله أو اعترفوا بأنه كلام الله وتوبوا إليه.إذاً: تحداهم الله بهذه الحروف وطالبهم أن يأتوا بسورة فقط، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23] أي: شك مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ [البقرة:23] ممن تعولون عليهم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]، ما قال: أعدت لكم بل قال: (للكافرين)؛ لأن العبرة بالكفر.قال أهل البصيرة: قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] هذه الكلمة لا يقدر على قولها إلا الله. وقالوا: هيا بنا إلى اليابان أهل الصناعة هل في بإمكان اليابان أن تنتج آلة من الآلات أو مركباً من المراكب أو حتى ملعقة وتقول لك: أتحدى العالم الإنساني سبعين سنة أن يوجدوا مثلها؟ هل يمكن أن تفعل اليابان هذا؟ أمريكا؟ ألمانيا؟ لا، يملكون أن يحتفظوا بهذا النوع من الصناعة إلى بعد سبعين سنة أو مائة سنة ثم يوجد من يصنع مثله، فلا يقولون هذا أبداً. أما الله فقال: (ولن تفعلوا) وقد مضى من السنين ألف وأربعمائة وخمسة عشر سنة فهل استطاع أحد أن يأتي بسورة من مثل هذا القرآن؟ لم يستطيعوا، فدل هذا على أنه كلام الله.
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)
قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]. (الله) لفظ الجلالة اسم للرب تبارك وتعالى، يخبر تعالى عن نفسه بأنه: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] وحده لا شريك له.أيها الملاحدة والمبطلون والسحرة هل تستطيعون أن تجدوا إلهاً مثل الله يخلق ويرزق مخلوقه ويدبر حياته من أولها إلى نهايتها؟والله لو تجتمع الدول الصناعية بأكملها على أن يخلقوا من لا شيء حيواناً ولو ذبابة والله ما قدروا، ووالله ما استطاعوا! قد يقول قائل: يا شيخ! صنعوا الطيارة تحمل خمسمائة نسمة، وهذا المسجد يتسع لهذا العدد، فأقول له: هذه صناعة علمهم الله إياها وأقدرهم عليها وأوجد إمكانياتها، فهم ما خلقوا شيئاً، فالطين لله والحجارة والحديد والنار والعمال كلهم خلق الله وتذليله، فماذا فعلوا؟
معنى قوله تعالى: (لا إله إلا هو)
لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] فلا تفهم من (لا إله) هذا أنه لا رب إلا هو، ولكن معناه: لا معبود يستحق أن يعبد إلا هو سبحانه، فلا معبود في الكائنات العلوية أو السفلية يستحق أن يعبد فتوضع الجباه له على الأرض وترفع إليه الأكف ويستغاث به وينادى في ظلمات البر والبحر فيغيث ويجيب إلا هو سبحانه وتعالى، لا يوجد والله إلا الله. هل يوجد من ينقض هذه الحقيقة؟ لا أحد.قلنا: هيا بنا إلى مؤتمر الشيوعية في موسكو، البلشفية الحمراء، أهل الإلحاد ومبدأ: (لا إله والحياة مادة)، انعقد المؤتمر وحضره أتباع الشيوعية من الصين إلى البرازيل وكذا أهل الشيوعية من العرب الذين مازالوا على شيوعيتهم بعد أن هبطت الشيوعية وتمزقت، فما زال المغفلون الأغبياء يتكلمون بالشيوعية! اجتمعوا في مؤتمرهم وقالوا: ( لا إله والحياة مادة). فنقول لهم : اسمعوا بما أوتيتم من البصيرة والعلم والمعرفة في الحياة كلها! اعلموا أنه لا إله إلا الله، وأما أنتم فسفهاء حمقى! قف أنت يا مسيو! حضرت المؤتمر ولكن نريد أن نسألك هذا السؤال البسيط: أنت موجود أو غير موجود؟ يا مسيو هل أنت موجود أم لا؟ فإن قال: أنا غير موجود غير مخلوق قلنا: أخرجوه، فهذا أحمق مجنون. وإن قال: نعم. كيف ذلك، أنا موجود. نقول: من أوجدك؟ من هو موجدك؟ عندها يقول: هاه! يفغر بها فاه! أين معنى: (لا إله والحياة مادة) التي تتشدقون بها وتضللون الناس بها؟ أيها المسحورون! قد سحرتكم اليهودية والمسيحية، وإلا فالبشرية منذ أن كانت تفقد النور تفقد الأنبياء تفقد العلم لا تنكر وجود الله أبداً، بل تثبت وجود الله بالفطرة.المشركو العرب قال الله عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] فلا يقولون: الحياة مادة. من خلق السماوات والأرض؟ العزيز العليم. فالحمد لله أن انطفأت شعلة الشيوعية وتمزقت ببركة جهاد المسلمين في الأفغان.إذاً: كلمة (لا إله) نفي، أي: لا إله بحق، فالإله الحق موجود، وهذه العوالم كلها أوجدها الإله الحق سبحانه.فكيف يأتي هذا الإنسان الضعيف وينفيه؟ أنت لو وجدت كأس حليب أو شاي أو لبن أو ماء على طاولة هل تستطيع أن تقنع الناس بأن هذا وجد من نفسه؟ قد تسحر ألفاً أو ألفين وباقي الناس سيقولون: أين هذا المجنون؟ كيف يوجد هذا الكأس هنا بدون موجد؟ من وضع فيه الماء أو اللبن؟ كيف يوجد هنا تلقائياً؟ مستحيل. فكيف إذاً بالشمس؟ من أوجد هذا الكوكب العظيم والنار الملتهبة التي تكبر الأرض بمليون ونصف مليون مرة كما قرر ذلك علماء الإسلام قبل أن يعرفه العالم الغربي؟ لو أخذت البشرية وجعلت في زاوية من زوايا كوكب الشمس والله لا تسدها، فكيف لهؤلاء أن ينكروا النار وعذاب الآخرة؟! هذه الشمس فقط هذا اتساعها وهذا كبرها، أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون وهي كوكب له فلك ويدور، ويوم يأذن الله بهبوطه يتكور ويسقط على الأرض، من خلقه؟ إنه الله خالق كل شيء.أسوأ مخلوق الذي ينفي وجود الله، بل هذا لا يعتبر إنساناً أبداً، والحيوانات لا تنفي وجود الله، وأما الشيوعية ولا إله والحياة مادة فهي من مكر يهود، أرادوا أن يستعجلوا بتحقيق مملكتهم من النيل إلى الفرات ثم العالم أجمع فوضعوا خططاً عجيبة من بينها الشيوعية، حولوا أوروبا الصليبية المسيحية التي كان يوجد فيها الرحمة والعدل.. وو، حولوها إلى بلاشفة، ثلاثة أرباع أوروبا لا يؤمنون بالله، وانتقل ذاك الظلام إلى العالم الإسلامي ففعل ما فعل.إذاً: الله موجود، والصليبيون يقولون بثلاثة آلهة، ولهم مؤتمر في روما يجتمع فيه رؤساء الدين المسيحي فنقول لهم: لا إله إلا الله، هل تستطيعون نقضها؟ إما أن تقولوا: (لا إله) وهو مذهب الشيوعية وقد انهزمت ولله الحمد.أو أنكم تقولون: الآلهة ثلاثة، من هم عيسى. فنقول: كيف يكون عيسى إلهاً وأنتم تزعمون أن اليهود صلبوه وذبحوه وقتلوه؟ هل الإله يقتل؟ من يدير الكون والحياة كلها إذاً ؟ وإن كنا نحن المسلمون قد أعلمنا الله أن عيسى والله ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، لكن أنتم أيها المسيحيون تعلقون الصليب في أعناقكم وفي دبر سيارتكم تعبدونه؛ لأن عيسى صلب، فأنتم مجانين. يقتل إلهكم ويصلب وأنتم تسخطون على اليهود وتبغضونهم ولا يفتح النصراني عينيه في اليهودي لأنه يعتقد أنه قتل ربه، فكيف تعبدون من يصلب ويقتل؟ومن آيات الله: منذ حوالي خمسة عشر سنة أعلن بولس الثامن علناً: أن اليهود برآء من دم السيد المسيح. إيه الآن فقط عرفوا ذلك، أما نحن فقد عرفنا هذا من قبل ألف وأربعمائة سنة، إذ قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]! كذبتم الإسلام والمسلمين هذه القرون والآن ظهر لكم أن اليهود برآء؛ لأنهم سحروكم! سمعتم هذه الفضيحة! أجيال عبر قرون عديدة تعتقد هذه القضية وبعد تنقضونها لا لشيء إلا لسحر اليهود!إذاً: بطل أن يكون عيسى إله.وأم عيسى ذات الرحم الذي حملت عيسى ببطنها هل تصلح أن تكون إلهاً؟ ماتت مريم أم لا؟ نعم، ماتت. إذاً: مات الإله، مات عيسى وماتت مريم وماتت الأقانيم، فأين الإله؟ ليس هناك أضحوكة ولا سخرية أعظم من اعتقاد النصارى، اعتقاد هابط إلى أبعد حد.وقد جاء وفدهم المكون من ستين فارساً من نجران يجادلون الرسول صلى الله عليه وسلم ويحاجونه في شأن عيسى، فنزلت هذه السورة، نزل أولها وفيه نيف وثمانون آية كلها في إبطال النصرانية، إبطال تأليه عيسى وأمه عليهما السلام، وانهزموا.إذاً: لا معبود يستحق أن يعبد إلا الله، فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح.. ولا ولا ولا يستحق العبادة من دون الله. يا عباد الله! أنتم تذكرون الله بلا إله إلا الله لا إله، ووالله لا ينقضها عاقل؛ لأن نقضها إما أن يكون بدعوى: لا إله وأن الحياة كلها عدم، أو بوجود أكثر من إله، وهذه خرافة باطلة.ولما جهلونا وأبعدونا عن المساجد وكتاب الله وهو الروح وفيه الحياة وهو النور وفيه الهداية أصبح أحدنا المسبحة في يده يذكر: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، فلما ينام وتسقط السبحة من يده يقول: يا سيدي فلان! فهل هذا صادق أم كاذب؟ أنت تصرخ لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، فلما تعثر دابتك تصرخ: يا سيد عبد القادر! فأين الله؟ذات مرة راكب إلى جواري أحد الناس فخرج السائق بالسيارة عن الطريق فقال هذا الراكب: يا رسول الله! يا رسول الله، ولو مات مات مشركاً. معناه: اعترف بإله غير الله؛ لأن الذي تناديه في الغيب وتعتقد أنه يسمع صوتك ويمد يده لإنقاذك لن يكون هذا إلا الله، فمن دعوت وناديت واستغثت به وصفته بصفات الإلهية، وأعطيته صفات الرب الحق وجعلته إلهاً من دون الله وأنت لا تشعر. فكل ما عبد من الأحجار والأصنام والفروج يسمى إلهاً، والفروع والله تعبد في الهند، الذكر والخصيتين من الحديد أو النحاس ، حتى العرب فيهم عبدة الفروج. والشاهد عندنا: كل من عبد يطلق عليه إله، واسمع كلمة كفار قريش مع ما هم عليه من البصيرة، قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، كيف يجعل الآلهة كلها إلهاً واحداً مع أن في كل بيت صنم يعبد؟ تعجبوا! أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، هذه مؤامرة خارجية وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:5-7]! أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [القمر:25-26]، لاقوها في بدر، لاقوها في مكة يوم طأطئوا رءوسهم وخنعوا ودخل البدر الإلهي: ( يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، الكمال المحمدي أسوتنا، ولو عقلنا وفهمنا نكون مثله.لما كنا نحارب الاستعمار البريطاني والإيطالي والأسباني لبلادنا كانوا يدعون الناس الجهاد الجهاد، فأخذوا أموال النساء والرجال، فلما كان الاستقلال ذبحوا إخوانهم، فتكوا بهم، فعلوا العجب نقمة منهم بحجة أنهم عملاء. فقلنا لهم: أنتم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؟! محمد صلى الله عليه وسلم حاربته قريش عشر سنوات ولما حكم وساد ودخل مكة قال: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ). لكن المسلمون العرب أيام الاستعمار كان يقتل بعضهم بعضاً بالمناشير، فلا إله إلا الله! والله العظيم -واشهد يا رب- منذ سنين بلغني عن سجون العرب بالذات والله إن عذاباً يتم في سجونهم لا يتم يوم القيامة، لا يوجد في النار! آه! ما العلة؟إنه الجهل، والله ما عرفوا الله حتى يحبوه، ما عرفوا الله حتى يخافوه، ومن لم يحب الله ولم يخفه فأنى له أن يطيعه فيمتثل أمره ويجتنب نهيه؟ مستحيل! عرف العدو من أين تؤكل الكتف فقال: جهلوهم تسودوا وتحكموا. وجهلونا وسادوا وحكموا وارتفعوا! قد يقول قائل: يا شيخ! عندنا المدارس في كل قرية وفي كل مكان! فأقول له: أين آثار ذلك العلم؟ الكذب موجود، خلف الوعد والخيانة موجود، والزنا موجود، الزنا والله يزني بعض المسلمين بنساء إخوانهم المؤمنين، فما عرفوا الله حق معرفته! وأما إذا نشدوا التغيير فيسلكون طريق الثورة والانقلابات فيحصل الذبح والقتل. فإذا كلموا في ذلك يقولون: ما الحل يا شيخ؟الحل قل: أنا مسلم، وابحث عن محاب ربك، تعلمها وقدمها له، واسأل أهل القرآن والسنة عن مباغض الله ومكارهه فاعرفها واجتنبها، والزم طريقك حتى تلقى ربك، والله لا حل إلا هذا بالنسبة إلى الأفراد، أما بالنسبة إلى الأمة فلا حل لها إلا أن تعود إلى بيوت ربها تبكي بين يديه، وتتعلم الكتاب والحكمة فلا مذهبية ولا عنصرية ولا قبلية ولا وطنية.. ولا ولا، مسلمون طريقنا واحد، صراط الله المستقيم، فلا تقل: حنبلي ولا ولا زيدي ولا أباضي ولا رافضي، بل قال الله، قال رسوله، أسلم قلبك ووجهك لله، واسأل عن محاب ربك فافعلها بإذعان وانقياد وحب فيه، واسأل عن مساخط الله ومكارهه وتجنبها ولو كانت شهوة في نفسك فما هو بصعب، ولا يكلف دماء ولا أموالاً.. ولا ولا! فقط إمام المسجد يوم الجمعة ينادي يا أهل القرية!من الليلة إن شاء الله ما يتخلف منكم واحد، هاتوا نساءكم وأولادكم إلى بيت الله! سيقولون: يا شيخ نساءنا فيهن الحيَّض. فيقول لهم: الحائض تبقى عند جدار الباب ومكبر الصوت يصل إليها. هاتوا أطفالكم فلا يبقى ولد في الشارع، وينظمون جلسة يحضرها الأطفال والرجال ويصلون المغرب في تلك الصفوف الربانية ويسلمون وقلوبهم مع الله، ويجلسون أمام المربي فيتعلمون آية واحدة، ومن الغد حديثاً واحداً، حفظاً وفهماً وإرادة للتطبيق والعمل، ولا يزالون يسمون ويرتفعون، ولو كادهم أهل الأرض كلهم والله ما زحزحوا أقدامهم.فيقول قائل: يا شيخ وأين الصناعات وأين عمل الدنيا ؟ فيقول: وهل هذا مانع؟ عندما يفقهون ويفهمون تصبح نتائجهم الدنيوية والله لا تساويها نتائج أخرى في الشرق والغرب، فقد عمهم الصدق والعزم، فما بقي لهو ولا باطل ولا عبث ولا سخرية، ارتفعت هممهم إلى الله عز وجل يرشدهم ويهديهم إلى ما يكملهم ويعزهم. لم ما نفعل؟ ما ندري! مسحورون! من سحرنا؟ بنو عمنا اليهود، أعظم شعب عرفته الدنيا بالسحر! لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] أي: لا معبود بحق إلا هو سبحانه.
معنى قوله تعالى: (الحي القيوم)
قال الله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] الحي بلا بداية وبلا نهاية، حي لا يموت، ولن يسبقه عدم، كان الله ولم يكن شيء قبله هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]، الحي الكامل الحياة، مستلزمة كل القدرات والطاقات: السمع والبصر واليد والقدم، كل ذلك من صفات الأحياء، ولكن تعالى الله أن يشبه مخلوقاته لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فإذا قال الرسول الكريم: ( يبسط الله يده ) فلا تفهم أنها يد كيد المخلوقات! انتبه! أيخلقها وتكون مثل يده؟ هل يد النجار مثل يد الكرسي؟ هل يقاس النجار بالكرسي؟ النجار له سمع وبصر وعقل والكرسي أصم أبكم، فآمنوا بصفات الله كما هي، وهي مستحيلة أن تشبه صفات المخلوقات؛ لأن المخلوق مربوب. الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] الذي أمر السماء والأرض قائم عليه، والله لولا قيوميته لسقطت الشمس من آلاف السنين، ما تبقى هكذا. من يضبطها في هذا الكون؟ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2].
تفسير قوله تعالى: (نزل عليك الكتاب بالحق ...)
قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3]. أي: القرآن العظيم. من نزله؟ إنه الله! هل هناك من يقول غير الله؟ مائة وأربعة عشر سورة فائت أيها الملحد بسورة فقط كأصغر سورة، ثلاث آيات: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3].لا يستطيعون! فالقرآن كلام الله، حوى علوم الأولين والآخرين، تعرض للذرة والمجرة، للآداب والأخلاق، للقوانين، فلا إله إلا الله! ينطق به أمي لا يعرف الياء ولا الباء، لم يجلس بين يدي معلم أبداً، فلا إله إلا الله!والعجيب كيف يكفر بهذا الكلام؟ يكفر به للحفاظ على المنصب وعلى الشهوة والهوى، أما عقلاً فمستحيل أن تفهم أن هذا الكتاب العظيم الذي عجزت البشرية عن محاكاته في أقصر سوره يأتي من أمي ما قرأ وما كتب، مستحيل هذا، هذا أنزل عليه، تلقاه آية وآية وسورة في ظرف ثلاثة وعشرين عاماً حتى اكتمل نزوله. (نزل عليك) أي: نزل عليك يا رسول الله. إذاً: محمد رسول الله؟ إي والله. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:3] نزل عليك القرآن لتبلغه للناس لهدايتهم وإصلاحهم وإرشادهم، فالكتاب هنا هو القرآن العظيم، و(أل) هنا للعهد وللتفخيم والتعظيم.بِالْح قِّ نزل القرآن مصحوباً بالحق لا يفارقه في كل كلمة. اقرأ القرآن والله لو يجتمع علماء الدنيا على أن يثبتوا أن آية فيها باطل والله ما كان، وإذا ضلت العقول وفهموا أن فيه آية من الباطل يأتي أرباب العقول فيبينوا فيردوهم إلى الصواب، أين ذهبت عقولكم؟ ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، كل آية تقرر مبدأ لا إله إلا الله محمد رسول الله، كل آية من أنزلها؟ الله، على من نزلت؟ على محمد. إذاً: الله موجود، ومحمد رسول الله، وهذه كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم). نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3] فالحق مصاحب له لا يفارقه، فلا يستطيع أحد أن يثبت آية فيها باطل، بل ولا كلمة واحدة، نزل بالحق، لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
تصديق القرآن بالكتب السماوية السابقة
قال تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3]. أي: للكتب الذي تقدمته كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى وإبراهيم، وصحف شيث، فكل الكتب السابقة القرآن مصدق لها. هل كذب القرآن بالتوراة أو بالزبور لأنها عند اليهود؟ هل كذب بالإنجيل لأنه كتاب النصارى؟ والله ما كذب بكتاب من كتب الله، بل صدق وقرر أنها كتب الله عز وجل، بل فضح ما فيها من الزيغ والزيد والنقص والبطلان والتقديم والتأخير واتباع الأهواء والشهوات والأطماع، أما أن ينفيها فيقول: لا. ما نزلت، فهذا لم يرد في القرآن أبداً.وَأَنْزَل التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ [آل عمران:3-4].من الذي أنزل التوراة والإنجيل؟ إنه الله رب العالمين، الله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم والنبيين من قبله، والتوراة في لسان العبريين معناها الشريعة، والإنجيل بلسان النصارى معناه التعليم، أي: كتاب التعليم، وهذا غير مهم، فهو علم لا ينفع والجهالة به لا تضر، أما الذي ينفع فالعلم بأن التوراة كتاب الله، وأن الإنجيل كتاب الله، ولكن اليهود عمدوا إلى تحريفهما والزيادة والنقص فيهما، فهذا عبد الله بن سلام لما حضر اليهود بالتوراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليهود يغطي على الكلمة المرادة فيضع يده عليها فقال عبد الله بن سلام : مره يا رسول الله يرفع يده، فالتوراة فيها آيات كالشمس تشهد أن محمداً رسول الله، والإنجيل والله كذلك، ولكن الأحبار والرهبان حرفوا وبدلوا تكبراً وعناداً للحفاظ على رئاستهم ومكانتهم.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير آل عمران- (2)
الحلقة (143)
تفسير سورة آل عمران (10)
بعث الله رسله ليبلغوا دينه، ويقيموا الحجة على عباده، وأيدهم بالآيات والمعجزات، فكان من الناس من آمن بالله وصدق برسالاته، ومنهم من كفر بآيات الله وكذب رسله وآذاهم، حتى بلغ ببعضهم أن قتلوا رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، وقتلوا أتباعهم ممن يأمرون بالقسط من الناس، فتوعدهم الله عز وجل بالعذاب الأليم والخزي يوم القيامة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير، وربنا على كل شيء قدير.أذكركم معشر المستمعين والمستمعات بالآيات الثلاث السابقة، إذ لها نتائج وعبر نريد أن نمر بها إن شاء الله لنجتني عبرها ونعود بنورها في قلوبنا وأبصارنا، اللهم حقق لنا ذلك.الثلاث الآيات التي سبقت دراستها قبل اليوم تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:18-20].
هداية الآيات
هذه الآيات الثلاث نتائجها كما قال المصنف: [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: اعتبار الشهادة والأخذ بها إن كانت قائمة على العلم وكان الشاهد أهلاً لذلك بأن كان مسلماً عدلاً ]. الشهادة تعتبر شهادة ويحتفل بها وتقبل إذا كانت قائمة على العلم، وكل شهادة لم تقم على مبدأ العلم وكون الشاهد عدلاً مسلماً فإنها لا تقبل شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، شهادة الله لأنه العليم بكل الكائنات وهو خالقها، فلم ير من هو أهل لأن يعبد معه فأعلن عن شهادته، شهد الله أنه لا معبود إلا هو، والملائكة يشهدون؛ لأنهم يطوفون بالعوالم كلها، فلو كان هناك من يستحق أن يؤله فيعبد مع الله لعرفوا، فشهدوا والله أنه لا إله إلا الله، وأولوا العلم وعلى رأسهم الرسل والأنبياء والعلماء شهدوا أيضاً، ومن فضيلة شهادتهم أن عطفها الله على شهادته وشهادة ملائكته.قال: (أولوا العلم) والذي لا علم لا قيمة لشهادته، تشهد بأن فلان قال أو فعل وأنت لا تعلم شهادتك باطلة، تشهد وأنت غير عدل ولا مستقيم منحرف معوج لا يوثق في شهادتك.هل تذكرون تلك اللطيفة؟ وهي: أن العلماء اختلفوا هل تقبل شهادة المقلد أو لا تقبل؟قال: سمعت الناس يقولون: لا إله إلا الله فقلت: لا إله إلا الله، ما عندي علم، قد يوجد إله آخر، فهل هذه الشهادة شهادة المقلد تنفع؟ ما تنفع، لا بد وأن يكون بنى شهادته على علم يقيني، وأقل ما يكون: أن نظر إلى الخليقة فوجدها كلها كانت في عدم وأصبحت موجودة، كيف يوجد فيها إله مع الله؟ ينظر فقط إلى المخلوقات العلوية والسفلية هل هناك من خلق سوى الله؟ لا أحد، لا خالق إلا الله، فلا بد إذاً من أن نخرج بشهادتنا من دائرة التقليد الأعمى.ثم ماذا أعطانا الله؟ أن تقول يا عبد الله: أنا لا أقرأ ولا أكتب ولا أستطيع أن أفكر أو أستنتج وأعتبر، أنا حسبي أن ربي شهد فأنا أشهد بشهادة الله، وأن الملائكة شهدوا فأنا أشهد بشهادتهم إذ يستحيل أن يكذبوا، وأن أولوا العلم شهدوا فأنا أشهد بشهادتهم، فهذه في صورة تقليد وفي الواقع والله على علم، فأيما مؤمن يقول: ما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو والملائكة كذلك وأولوا العلم ومنهم الأنبياء والرسل الكل شهدوا فأنا أشهد بشهادة الله وملائكته وأولي العلم. هذه تنهي التقليد.هل تذكرون تلك اللطيفة؟ أن من أخذ يقرأ سورة آل عمران وانتهى إلى هذه الآيات الثلاث، وقال: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودعك اللهم هذه الشهادة فهي لي عندك وديعة ردها إلي يا ربي يوم القيامة، هذا يجاء يوم القيامة به ويقول: إن عبدي كذا وأنا أحق من يفي أدخلوه الجنة.إذاً: إذا كنت تقرأ سورة آل عمران وانتهيت بالتلاوة إلى قول الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] فقل: وأنا أيضاً وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودعك اللهم هذه الشهادة فهي لي عندك يا ربي وديعة؛ يردها الله تعالى إليك يوم القيامة وتدخل الجنة.وقد ذكرت لكم ما روي: أن أحد الطلبة نزل على عالم وسمعه يتلوا هذه الآية ويقول ذلك، فقال: علمني وأطلعني على سرك. فقال: لا أطلعك حتى تمضي عليك سنة وأنت معنا تتعلم، وحبس نفسه عاماً كاملاً، ونحن نعطاها هكذا ولا نبالي؛ لأننا هبطنا، كانوا في علياء السماء ونزلنا إلى الأرض. [ ثانياً: شهادة الله ] تعالى [ أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والأحكام وتليها شهادة الملائكة وأولي العلم. ثالثاً: بطلان كل دين بعد الإسلام وكل ملة غير ملته ] وذلك [ لشهادة الله تعالى بذلك في قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] ] أي: ومن يطلب غير الإسلام ديناً يدين به يجزيه به ويثيبه على عبادته فهو باطل. وإن قلت: كيف كان الأولون يدينون به لله ويكرمهم وينعم عليهم ويدخلهم الجنة؟الجواب: أولاً: تلك الأديان وهي اليهودية والنصرانية.. وما إلى ذلك داخلها الفساد بالزيد والنقصان والتقديم والتأخير فبطل مفعولها فلا تنفع.ثانياً: الذي نسخها بهذه الشريعة وأبطل مفعولها وتأثيرها هو الله عز وجل، أوجد في المادة الفلانية فائدة كذا ثم بعد قرون سلبها فأصبحت لا تنفع.وأوضح من هذا: أن الحكومة تسن قانوناً للمواطنين فيلتزمونه ويعملون به، ومن يخطئ يعاقب عليه، ثم تمضي سنوات وتنسخه، ويبقى من يعمل به سوى مجنون أو أحمق. مادة كانت تعمل بها الدولة وبعد عشرين سنة رأت عدم صلاحيتها فنسختها وأبطلتها، فلا يحتج المواطن ويقول: هذا كان دين، كان شرع في الماضي إلا أن يكون مجنوناً إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]. [ رابعاً: الخلاف بين أهل العلم والدين يتم عندما يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فيتورطون في المطاعم والمشارب، ويتشوقون إلى الكراسي والمناصب، ويرغبون في الشرف، يومئذ يختلفون بغياً بينهم وحسداً لبعضهم بعضاً ].سنة الله: الخلاف يقع بين أهل العلم وسببه: البغي والحسد، الطمع في الدنيا، التكالب عليها، يختلفون، هذا يحلل وهذا يحرم، هذه سنة الله عز وجل في خلقه وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، ففي اليهود من آمن أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومنهم من كفر فاختلفوا، فالذين كفروا كفروا حفاظاً على مناصبهم ومكانتهم بين مواطنيهم وإخوانهم. والنصارى دخل في الإسلام مئات الآلاف من علمائهم واستمر آخرون على النصرانية لأجل المناصب والدنيا.[ خامساً: من أسلم قلبه لله وجوارحه وأصبح وقفاً في حياته على الله فقد اهتدى إلى سبيل النجاة والسلام ].من أسلم وجهه وجوارحه لله، الكل لله، (وأصبح وقفاً في حياته على الله) كلامه لله.. سكوته لله.. أكله لله.. بناءه لله.. هدمه لله، كل حياته لله وقف، من وقف هذا الموقف نجا وسلك سبيل السلام.[ سادساً: من علق قلبه بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ] لأن العبادات من شأنها أن تصرف عن كثير من أمور الدنيا[ ضل في حياته وسعيه وحسابه على الله وسيلقى جزاءه ] دل على هذا قول الله عز وجل: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20]، تولوا عن دعوة الحق وأعرضوا عنها يريدون الدنيا وما فيها.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين...)
معنا هاتان الآيتان الكريمتان تلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:21-22]. تأملوا هاتين الآيتين: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21] وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فبشرهم يا رسولنا بعذاب أليم. والتعقيب: أُوْلَئِكَ [آل عمران:22] البعداء في الخسران والضلال حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:22] فلم ينتفعوا بها ولم يستفيدوا منها شيئاً وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22]، فمن أذله الله من ينصره؟ ومن هزمه الله من ينصره؟تأملوا آيات الله نتدارسها: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21] هؤلاء فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران:21] يا رسولنا، فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران:21] أيها السامع، بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:21-22] لم ينتفعوا بها وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22] لا يوجد لهم من ينصرهم إذا كان الله قد هزمهم وخذلهم وأذلهم.
رواية ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين...)
لكي يتضح معنى الآيتين إليكم الرواية الآتية: أخرجها ابن جرير الطبري في تفسيره فتأملوها يتضح لكم هذا المعنى.قال: [ روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي عبيدة رضي الله عنه ] أحد العشرة [ قال أبو عبيدة : قلت: ( يا رسول الله! أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ ) ] أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا رضي الله عنهم يسألونه، بل كان صلى الله عليه وسلم يفتح لهم المجال للسؤال، قال: قلت: ( يا رسول الله! أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ ) لأن العذاب فهم وهو أنه بحسب الجرائم، وهو كذلك، فيعظم ويسهل بحسب الإثم، قال: قلت: ( يا رسول الله! أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ ) نستمع إلى جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلقاه غضاً طرياً وحياً من الملكوت الأعلى، ماذا أجابه [ قال صلى الله عليه وسلم: ( رجل قتل نبياً ) ] رجل قتل نبياً من الأنبياء، والنبي ذكر من بني آدم أوحي إليه من الله عز وجل، فمن قتل نبياً فهو أشد الناس عذاباً يوم القيامة [ ( أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر وقتل ) ] سواء بين من يقتل نبياً وبين من يقتل غير نبي ولكنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر [ ( ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21] ) ] والقسط هو العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الخير، ثم قال: [ ( يا أبا عبيدة ) ] وجه هذا النداء رسول الله إلى أبي عبيدة [ ( يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة ) ] بنو إسرائيل في عهد من عهودهم لما هبطوا وآثروا الدنيا عن الآخرة قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً في أول النهار في ساعة واحدة، قطعوا رقابهم [ ( فقام مائة وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله تعالى ) ].في هذه الآية، أن المائة والسبعون قاموا وقالوا للذين قتلوا الأنبياء: لم تقتلوهم؟ أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم عن آخرهم، فتجاوز القتل في ذلك اليوم مائتي نبي وولي من أولياء الله، فلهذا فالآية منطبقة عليهم تمام الانطباق: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].
رواية القرطبي في تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين...)
قال: [ وذكر القرطبي في تفسيره الرواية التالية: كل بلدة ] أو إقليم [ يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء ] أيما مدينة أو قرية أو بلد يوجد فيه أربعة رجال فأهله معصومون من البلاء، محفوظون بحفظ الله، لا يصيبهم بلاء في دنياهم فضلاً عن أخراهم، أربعة، فمن هم يا ترى؟قال: [إمام عادل لا يظلم ] أولاً: حاكم.. أمير.. شيخ، المهم في ذلك البلد حاكم عادل لا يظلم أحداً. هذا أول الأربعة: إمام عادل.ثانياً: [ وعالم على سبيل الهدى ] عالم يعلم الناس الخير ويدعوهم إليه ويساعدهم عليه، متى وجد هذا الشخص أيضاً فأهل القرية مع الإمام العادل ناجون من البلاء سالمون من المحن.ثالثاً: [ ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحرسون على طلب العلم والقرآن ].أولاً: إمام عادل. ثانياً: عالم على سبيل الهدى يوضح الطريق وينصر أعلام الهداية. ثالثاً: مشايخ من أهل العلم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحرسون على العلم والقرآن الكريم. رابعاً: [ ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ] متى وجدت هذه الأربع فبشر أهل بلادهم بأنهم آمنون من البلاء.هل في بلاد العالم الإسلامي هؤلاء الأربعة؟ موجودون عندنا، والله موجودون عندنا في المملكة:أولاً: إمام عادل، فهل هناك من يرفع يده ويقول: عبد العزيز أو ابنه فيصل أو خالد أو فهد أخذوا مالي، سلبوني، ظلموني؟ ما بلغنا، وما كان، وهذا هو العدل.ثانياً: عالم على سبيل الهدى، فما خلت هذه البلاد من علماء كـمحمد بن إبراهيم وكـابن حميد وكـالباز يدعون على سبيل الهدى. ثالثاً: مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وها هي هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل قرية وكل بلد مشايخ بعمائمهم ولحاهم.رابعاً: نساؤهم مستورات لم يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، أنتم ما عرفتم هذا والعدو والله لقد عرف هذا من سنين، وهو يعمل جاهداً على أن ينتهي العدل من هذه البلاد، ويعمل جاهداً والله العظيم على أن لا يبقى علماء من هذا النوع جاهدين على أن ينتهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يكتبون ويتقززون من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الحجاب الذي تنعم به هذه الأمة وفقد في العالم إلا من رحم الله فيعملون بكل الوسائل على أن تكشف المرأة السعودية وجهها، ومظاهرات تمت حتى بجدة. هذا القرطبي في القرن الرابع يقول: أربع إذا وجدوا في بلد أمن أهله من الفتن والمحن والبلايا:الأولى: إمام عادل، سواء كان حاكماً أو شيخاً أو أميراً في القرية، إذا كان عادلاً فهذا أول الخير.الثانية: عالم يبين للناس الطريق ويزيل عن أعينهم الغشاوة والعمى؛ ليعرفوا الطريق إلى الله، فبدون علم كيف ننجو ونسلك؟ هذا ضروري.الثالثة: مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحرصون على العلم والقرآن العظيم؛ حتى ما يفقد ويضيع.رابعاً: نساء مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.لعلكم ما اطمأنت نفوسكم إلى ما قلت لكم، والله لكما أقول، انزع من ذهنك معنى الجهل وعدم البصيرة، يعملون ليل نهار أن لا يبقى هذا الحجاب في نسائنا، بالوسائل المتعددة، من الأفلام إلى الأقلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يوجد في العالم إلا في هذا البلد، وهم يجرون بالوسائل ولولا الله لكانوا أسقطوا الهيئة، ما يريدونها، فالحمد لله، نقول هذا ليبلغ عنا الخبراء أن على هذه الحكومة أن تحافظ على هؤلاء الأربعة ليستمر أمنها وطهارتها وصفاؤها.أولاً: العدل في كل من يلي أمر البلاد، حتى شيخ القرية يجب أن يكون عادلاً.ثانياً: أن لا يخلو بلد من عالم رباني يعلم الناس الهدى ويرشدهم إلى ما فيه رضا الله عز وجل.ثالثاً: لا بد من رجال يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في كل قرية وفي كل مدينة، مهمتهم إذا رأوا منكراً غيروه، وجدوا معروفاً متروكاً أمروا به حتى يفعل.والأخيرة: الحجاب، يتغنون يكيدون يمكرون فلا نسمع، فالمرأة لا تخرج كاشفة عن وجهها ولا محاسنها، وإن غضب العالم بأسره.وهناك ما رواه غير واحد: [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل: ( يا رسول الله! متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ) ] صاحب سأل كما سأل أبو عبيدة : ( من أشد الناس عذاباً يوم القيامة؟ )، هذا قال: ( متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا رسول الله؟ )، الجواب [ ( قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم من قبلكم ) ].إذا ظهر فيكم أيها المسلمون ما ظهر في الأمم من قبلكم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصدق رسول الله فمن إندونيسيا إلى بريطانيا انتهى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأننا استغربنا وأصبحنا غربيين، ما نسمح لرجل يقف أمامي يقل لي: صل، أو: يا فلانة غط وجهك، ما نسمح بهذا؛ لأن الغرب ما يفعل هذا، وكأن رسول الله شاشة أمامه يشاهد أحداث العالم فيها، عجب.[ قال: ( يا رسول الله! متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم من قبلكم. قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ ) ] يتابعونه سؤال وجواب [ ( قلنا: يا رسول الله! وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: الملك في صغاركم ) ] الحكم في أيدي صغاركم؛ لأن الحاكم يصدق أن يكون تجاوز الخمسين على الأقل، المفروض ستين وسبعين، أما حدث ما زال يلعب ويسند إليه الأمر لا يفلح [ ( قال: الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم ) ] الكبار يزنون ويفجرون [ ( الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم ) الرذالة: كحثالة ] العلم يوجد في حثالة الناس. إذا حصلت هذه انتهى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووقع هذا فعلاً، وهو غيب يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وتمضي القرون متتالية ولا بد وأن يتحقق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
معنى قوله تعالى: (يكفرون بآيات الله)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21] هذا خبر إلهي جاء بالمضارع في (يكفرون، ويقتلون، ويؤمرون)، فلم ما قال: (إن الذين كفروا بآيات الله وقتلوا)؟الجواب: لنتصور الواقع كأنه حاضر بين أيدينا، ولعلم الله تعالى أن هذا سيتكرر على مدى الحياة، (إن الذين يكفرون) اليوم أو غداً أو بعد ألف سنة. فما معنى: (يكفرون بآيات الله)؟ وما هي آيات الله؟علمنا أولاً: أن هذا اللفظ يشمل المعجزات التي يظهرها الله على أيدي نبيه، إذ كل معجزة آية، أي: علامة بارزة على أن من ظهرت على يده فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جحد الآيات اليهود والنصارى بالمدينة وأبوا أن يؤمنوا بالمعجزات المحمدية.ثانياً: الآيات التنزيلية القرآنية سواء في التوراة أو الإنجيل أو القرآن، تلك الآيات علامات على الحق والعدل وعلى وجود الله عز وجل وألوهيته الحاملة لشرائعه وأحكامه. إذاً: الكفران به معناه جحودها والتكذيب بها وبما تحمله من هدى، فالذي يكذب بآية واحدة من كتاب الله كفر ومأواه جهنم وبئس المصير، والذي يكفر بحكم واحد يقول: لا أعترف بالزكاة. والله كفر، أو يقول: لا أعترف بهذا الصيام. كفر، أو يقول: لا أعترف بقطع يد السارق ولا أقره. كفر. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:21] هذه الجريمة الأولى. والثانية: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:21].وهل هناك نبي قتل بحق؟ مستحيل، فهو معصوم فكيف يرتكب ذنباً يقتل به، ولكن من باب تقبيح قتل الأنبياء. الجريمة الثالثة: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]. من هم الذين يأمرون بالقسط من الناس؟ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، العلماء العارفون بآيات الله وشرائعه، إذا أمروا بالعدل والحق والخير والمعروف قتلوهم كما فعل بنو عمنا اليهود، وفعله المسلمون في شتى العصور.
معنى قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم)
قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ من الذي يبشرهم؟ وهل العذاب بشرى تزف إليهم؟ هذا فيه معنى التهكم وهو أشد لذاعة وآلم في النفس من ضرب الجسد؛ لأن هؤلاء موجودون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فبشرهم يا رسولنا بخبر من شأنه أن يغير بشرة وجوههم فتسود وتكلح فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران:21] بماذا نبشرهم يا رب؟ قال: بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].أتدرون ما العذاب؟ العذاب: كل شيء يزيل عذوبة حياتك فهو عذاب، موت أبيه عذاب يزيل عذوبة طعامه وشرابه في تلك الأيام، وكل ما يزيل عذوبة الحياة فهو العذاب، الذي يزيل ويبعد عذوبة الماء الحلو هو العذاب أو الطعام الشهي هو العذاب.والأليم الموصوف بشدة الإيلام والإيجاع، أي: شديد الإيلام والإيجاع، هذا صالح أن يكون في الدنيا وفي الآخرة، وقد تم لهم في الدنيا أيضاً، فالذين كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين وقتلوا الآمرين بالمعروف نزلت بهم البلايا، أما في اليهود فلا تسأل، وفي النصارى أشد أيضاً.فبشرهم بعذاب موجع أولاً في الدنيا وأخيراً وثانياً في الآخرة، ولو أراد الآخرة لقال: فبشرهم بعذاب أليم يوم القيامة، لكن أطلق؛ لأن هذا يناله الناس في دنياهم وأخراهم.قد تقولون: بين لنا وأعطنا صورة يا شيخ؟فأقول: لما حكمتنا بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وفعلوا بنا الأعاجيب كان ذلك عذاباً بسبب ذنوبنا، فهو عذاب في الدنيا، وينتظرنا آخر غداً إن لم نرجع إلى الطريق السوي ونسلك سبيل الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين)
قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22]. قوله تعالى: أُوْلَئِكَ [آل عمران:22] أشار إليهم بلام البعد (أولئك) أي: البعداء في الشقاوة والخسران.. في الضلال والكفران أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [آل عمران:22].
معنى قوله تعالى: (حبطت أعمالهم)
ما معنى: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [آل عمران:22]؟ بطلت، ما نفعتهم أعمالهم في الدنيا من البناء والتعمير والأموال، كل ذلك ما أفادهم شيئاً في الآخرة، كفرهم وشركهم وعباداتهم كلها بطلت ولم تنفعهم شيئاً. حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:22] معاً، ولذا كان العذاب أيضاً في الدنيا والآخرة.
إحباط الشرك للعمل في الدنيا والآخرة
هل تدرون ما الذي يحبط العمل في الآخرة؟ بلا شك هو الشرك بالله عز وجل، فالشرك مبطل للعمل محبط له، لو يعبد صاحبه ربه ألف سنة وهو راكع ساجد صائم قائم ثم يفعل شركاً اعتقده أو قاله أو عمله يبطل ذلك العمل كله ويتبخر ويتلاشى. ما الدليل؟أولاً: قول الله عز وجل على لسان عيسى بن مريم، عيسى ابن البتول عليه السلام يخطب الناس من بني إسرائيل في حفل عظيم كما حكاه الله عنه في سورة المائدة فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. سبحان الله! كيف بلغنا هذا؟ عيسى خطب في بني إسرائيل واعظاً معلماً فمن نقل إلينا هذا؟ قولوا: الله! فالحمد لله، هذا كتابه المشتمل على كل المعارف في الدنيا والآخرة، كأننا حاضرون مع بني إسرائيل، بيان رسمي ألقاه عيسى، اسمعوا: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، فأي ظلم أعظم من الشرك؟ ما وجه ذلك؟أنت تظلم أخاك فتأخذ دابته، تظلم أخاك فتفسد عليه زوجته لتتزوجها، تظلم أخاك فتسلب ثوبه، هذا ظلم والذي يأخذ حق الله بكامله ويصرفه لمخلوق من مخلوقاته فأي ظلم أبشع من هذا؟ يعلم أن الله ما خلق الخلق إلا ليعبد، فهو سر وجود الحياة بكاملها، علة الوجود بكامله أنه أراد تعالى أن يذكر ويشكر، والعبادة ما خرجت عن الذكر والشكر، فخلق الجنة والنار والعوالم كلها، وخلق الإنس والجن من أجل أن يذكر ويشكر، فإذا ترك العبد ذكر الله وشكره خسر خسراناً أبدياً، لن يخرج من عالم الشقاء أبداً؛ لأن جريمته قومناها، جريمته كأنما نسف الكون كله. تعرفون جريمة من لم يعبد الله؟ القضاة بكم يقدرونها؟ جريمته كأنه نسف السماوات ومزق الأرض والخليقة والجنة والنار كل ذلك أبطله. هذه جريمته. كم يعذب من مليار سنة؟ فلهذا أهل الشرك خالدين فيها أبداً، فما هو قتل نفس ولا جماعة أو إحراق مدينة، هذا الخلق كله دمره؛ لأن الله ما خلق هذا الخلق إلا ليذكر هو ويشكر.إذاً: أعظم الظلم هو الشرك؛ لأنك تسلب حق الله وتعطيه للشيطان، فأعوذ بالله منك يا عبد الله! تأخذ حق الله الملك الحق وتعطيه لعدو الله؟!عرف هذا ذاكم العبد الحبشي النوبي لقمان الحكيم، عرف هذا ولم نعرفه يا أهل القرآن، أجلس طفله بين يديه يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] هذه قالها لقمان من بلاد الحبشة. ولما نزلت آية الأنعام واحتار الصحابة وارتبكوا: ( من منا لم يظلم يا رسول الله؟ ) وهي قوله تعالى: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81] فأي الفريقين نحن أم أنتم أيها المشركون أحق بالأمن من عذاب الله فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81] أجاب الله بنفسه فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا [الأنعام:82] أي: لم يخلطوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]فهم أحق بالنجاة من النار، الذين آمنوا ثم لم يلبسوا إيمانهم بظلم. لما نزلت هذه الآية احتار الصحابة وجاء وفدهم إلى رسول الله وقال: ( أينا لم يظلم نفسه يا رسول الله؟ ) إذا كان لا نجاة إلا لمن لم يظلم نفسه فأينا ما يظلم؟ فقال: ( ليس الأمر كما علمتم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان الحكيم: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] )، فالظلم المانع من دخول الجنة هو ظلم الله، أن تأخذ حق الله الذي أوجبه بخلقك ورزقك وحياتك وتعطيه لغيره.
صور من الشرك
معشر المستمعين! هل تعرفون عن الشرك شيئاً؟ لا تعرفون، إذاً: أعلمكم؟تسأل أحدهم: هذه النخلة لمن؟ فيقول: هذه نخلة سيدي عبد القادر . لم؟ حتى يبارك البستان بما فيه. تسأل: هذا التيس لمن؟ فيقول: هذا التيس لسيدي عبد القادر .عبدوا عبد القادر والبدوي وإدريس .. وكل الأولياء، وفاطمة والحسين أيضاً، فكل من يعطي حق الله لمخلوق فقد عبد ذلك المخلوق وأشرك بعبادة الله هذا المخلوق. الذي يقف ويقول: يا سيدي عبد القادر .. يا رسول الله .. يا فاطمة .. يا رجال البلاد، أنقذوني، أنا أستشفع بكم، فقد جعلهم مثل الله يسمعون كلامه ويعرفون حاله ويقدرون على إلجائه أو إعطاء سؤاله، سواء بسواء. ومن قال: لم؟ نقول: كيف ينادي بقلبه ولسانه ويطلب وتقول: لا لا، هذا تناقض ، فالذي يقول: يا سيدي فلان المدد المدد، والعوام يقولون حتى لرسول الله، لو كان بينهم لأدبهم أو سلط عليهم عمر ، يقولون: يا رسول الله المدد! الغوث أغثنا. انصرفوا عن الله وأقبلوا على غيره، فكيف يرضى الله بهذا وهو ما خلقهم إلا لعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].اسمعوا! في تلك الحجرة الطاهرة كان النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من الصحابة بجواره في المسجد، وكان منافق يتسلط عليهم في بداية الإسلام في السنة الأولى أو الثانية، فقالوا: هيا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الكافر المنافق، فسمعهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم: ( إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله )، واقرأ في القرآن: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9].وهذا رجل يتكلم فقط مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله، قال: لا، ما زدت أن جعلتني لله نداً قل: ما شاء الله وحده )، الرجل بنيته قال: ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فغضب الرسول وقال: لا تقل هذا، قل: ما شاء الله وحده، فكيف تسوي مشيئة الله بمشيئة العبد؟ سمعهم يحلفون بالسيد فلان وحقي ورأس كذا، فصعد صلى الله عليه وسلم على المنبر فخطب وقال: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ). ومرة أخرى قال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ). ومرة قال: ( فقد كفر ). كيف هذا يا رسول الله؟الجواب: نسيت ربك، نسيت من بيده أمرك، نسيت من رزقك بيده، نسيت العليم الحكيم، نسيت العليم الخبير.. نسيت نسيت، وتقول: على المخلوق، وتقول: أحلف به، أين ذهب بعقلك؟ ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أي: في تعظيم الله فعظم سواه، كفر لأنه غطى الله وجحده ولم يحلف به وحلف بمخلوق من مخلوقاته.ولما رآهم متورطين لحداثة إيمانهم وإسلامهم بين لهم أنه ما يشرع لأحد أن يقول: (واللات). آخر يقول: (والعزى)، عاش خمسين عاماً يحلف بهما والآن يتوب، ففي يوم واحد لا يستطيع يبقى يجري على لسانه. وآخر يقول: تعال أقامرك، جماعة مكة؛ لأنهم يعيشون على القمار، تعال أقامرك، فيجري على لسانه، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحادثة كيف يعالجها؟ هم لا يقصدون ذلك ولكن تجري على ألسنتهم؛ لطول ما لازموها، فوضع قاعدة نفعنا الله بها وانتفع بها المؤمنون الذين يحضرون هذه الحلقة كثيراً وهي اسمع: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله تمحها ). أنت تعودت أن تحلف بسيدي عبد القادر ، جرى على لسانك ولا تقصد فقل: لا إله إلا الله تمحها. ( ومن قال لأخيه: تعال أقامرك فليتصدق )، بريال.. بحفنة تمر تمحو ذلك؛ لأنه لا يريد أن يقامر، لكن لطول ما لعب القمار يجري على لسانه: تعال أقامرك، فالعلاج صدقة، وما حددها لتكون نافعة من الكبير والصغير، ( ومن حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله ).إذاً: إخواننا المصريون ونحن معهم اعتادوا على قول: (والنبي)، يجيء الرجل يسألني وأنا على الكرسي فيقول لي: (والنبي) ما قلت كذا؟ يقول: والنبي ما نزيد، والنبي لا أزيد مرة ثانية. فلم ينفعنا شيء أكثر من هذه القاعدة، من قال: (والنبي) يقول: لا إله إلا الله؛ لأن الإنسان إذا اعتاد شيئاً لا يتركه بسهولة، بل يحتاج إلى زمن، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة: من حلف بغير الله فليقل: لا إله إلا الله تمحو تلك السيئة، ومن قال لأخيه: تعال نلعب القمار يتصدق بصدقة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير آل عمران- (3)
الحلقة (144)
تفسير سورة آل عمران (11)
أوجب الله على الناس التحاكم إلى كتابه عند الاختلاف، وقد كان اليهود من شأنهم أنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله تولوا وأعرضوا مستهزئين بأمر الله زاعمين أنهم لن يعذبوا بسبب مخالفتهم لأنهم أبناء الله وأحباؤه، وحتى لو أدخلهم النار فلن يزيد بقاؤهم فيها على أيام معدودة، لكن الله عز وجل هو من سيحكم عليهم في الآخرة وسيدخلهم النار جزاء رفضهم لحكمه في الدنيا.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم اجعلنا من هؤلاء المؤمنين الذين فازوا بهذا الأجر العظيم.وها نحن مع تلاوة هذه الآيات الثلاث بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:23-25]. وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات أذكركم بنتائج الآيات السابقة التي درسناها أمس بإذن الله.
الكفر والظلم من موجبات الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة
عرفنا أن الكفر والظلم من موجبات هلاك الدنيا ولزوم عذاب الآخرة، فالكفر والظلم من موجبات ومقتضيات ومستلزمات هلاك الدنيا وعذاب الآخرة.وتذكرون ذلكم الحديث، حديث أبي عبيدة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ فأجابه الحبيب صلى الله عليه وسلم: رجل قتل نبياً )،فهذا من أشد الناس عذاباً يوم القيامة ( رجل قتل نبياً بغير حق، ورجل أمر بالمعروف أو نهى عن منكر فقتلوه )؛ لأن الله قال: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:21]، والقسط هو العدل، والعدل يدور حول ما أمر الله به وما نهى عنه، فمن أمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه ما زاد أبداً على العدل.ثم ذكر محنة بني إسرائيل أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً في الصباح، ولما قام العباد الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ونهوهم وأمروهم قتلوهم، وكان عددهم مائة وسبعة وسبعين. والله عز وجل توعد من يفعل ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].
خصال أربع تمنع البلاء
هل تذكرون تلك الكلمات الطيبة التي رواها القرطبي في تفسيره وهي تنطبع تماماً على هذه الدولة أو هذه البقية الباقية في العالم الإسلامي. ماذا قال؟ كل بلدة يكون فيها أربع خصال أو أمور فهي آمنة من البلاء، بعيدة من الشقاء. أول هذه الخصال الأربع: إمام عادل. أي: حاكم لا يظلم ولا يجور، لا يعتدي على أعراض الناس ولا أموالهم ولا على أبدانهم، ويحكم بينهم بما حكم الله به ورسوله. هذه واقية من أعظم الواقيات الأربع.الثانية: رجل على سبيل الهدى. أي: عالماً يعلم الناس الخير والهدى ويدعوهم إليه، فإذا وجد في البلدة عالم قائم بواجب البيان والهداية فالأمن حاصل.الثالثة: مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، مشايخ من أهل العلم يأمرون أهل البلدة بالمعروف إذا تركوه، وينهونهم عن المنكر إذا فعلوه، فهم وقاية عجيبة.الرابعة من الواقيات من البلاء: نساء متسترات غير متبرجات تبرج الجاهلية الأولى. وهذه ما إن ظهرت هذه الدولة على يد عبد العزيز حتى ظهرت فيها هذه الوقايات الأربع، وإن شئتم حلفت لكم بالله، واستمر النور والهداية والأمن والطهر وعرف هذا العدو من اليهود والنصارى والمشركين وما عرفه المسلمون، فأعداء الإسلام إلى هذه الساعة يعملون بجد واجتهاد على إبطال هذه الأربع الواقيات وإبعادها لتهبط هذه البقية الباقية إلى مستوى العالم الإسلامي، فلا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا حجاب ولا تستر، ولا عدل ولا رحمة، ومن الأسف أننا نحن أهل البلاد ما عرفنا هذا، فمن الحين إلى الحين تظهر ظاهرة دعوة إلى السفور، إلى كشف وجوه النساء. وإذا تبرجت النساء وخرجن واختلطن بالرجال كاشفات الوجوه فعلى الطهر السلام، يحل محله الخبث، ولازم الخبث غضب الرب وسخطه وبذلك يحل العذاب.وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه الهيئات تسمع من ينقد، تسمع من يطعن، حاولوا أن يكتبوا أيضاً وكتبوا متقززين: كيف تقام الصلاة ويخرج الناس من دكاكينهم وأعمالهم؟ تألموا لذلك ولا هم لهم إلا إطفاء هذا النور الباقي.
دعائم الدولة الإسلامية
نقول بالعلم الذي تقرر عندنا: إن الدولة الإسلامية -بلغوا المسلمين- لا تقوم على مقام يرضاه الله ويثمر الطهر والأمن والصفاء إلا إذا أقيمت على أربع دعائم وضعها الله العليم الحكيم، وجاء هذا واضحاً بيناً، من سمع الآية فهم، من قرأها علم، فلا لبس ولا غموض، ولا تقديم ولا تأخير، وإليكم هذه الآية الكريمة من سورة الحج المدنية المكية، إذ قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: حكموا وسادوا.
الأولى: إقامة الصلاة
الأولى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] هذه واحدة أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] ما قال صلوا، بل قال: أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] وإقام الصلاة: إذا أذن المؤذن ونادى أن حي على الصلاة وقف دولاب العمل وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم كالمظاهرة الغربية التي يتعشقها الغافلون، المظاهرات في أوروبا يزحف النساء والرجال والأطفال فيسدون الشوارع والطرقات يشتكون، ونحن معنا تلك المظاهرة الربانية خمس مرات في أربع وعشرين ساعة، إذا نادى منادي الصلاة لصلاة الظهر وقف العمل نهائياً وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم ليناجوا مولاهم ويتملقوه ويتزلفوا إليه بذكره ودعائه ورفع شكاتهم إليه. وإذا انتهت الصلاة عاد العمل كما كان وأحر مما كان، لأنهم أهل إيمان، لأنهم أحياء تمام الحياة، فإذا نادى منادي صلاة العصر وقف العمل وخرجت الأمة إلى ربها، إذ لهذا خلقها، فلا تفهم غير هذا، فوالله ما خلقنا إلا لهذه، فكيف نحاول أن نتملص ونخرج ونشرد ونقول: صل حيثما وجدت،فإذا أذن المغرب وأذن العشاء خمس مظاهرات ربانية يلتقي المؤمنون بعضهم ببعض في بيوت ربهم في مظهر من مظاهر الدين الحق.أما أن يؤذن المؤذن فمن شاء أن يغلق دكانه ومن شاء أن يفتحه، من شاء أن يغني ومن شاء أن يصلي، من شاء ومن شاء.. فأين الربانية إذاً؟ أين مظاهر العبودية لله؟ وقد مكن الله عز وجل العالم الإسلامي في الحكم بعد أن استدل واستعبد واسترق على أيدي أعدائه الكافرين من مستعمري الشرق والغرب فخلصهم ليبتليهم، فتستقل الدولة والإقليم ولا تقام بينهم صلاة، وأنا أعجب، من صرفهم؟ هل اشترطت عليهم بريطانيا : اسمعوا! أعطيكم الاستقلال، نخرج من دياركم على شرط أن لا تصلوا؟ والله ما كان هذا أبداً ولا تفعله بريطانيا أو فرنسا، فلم ما أقمنا الصلاة وقد مكننا الله في الأرض وسودنا وحكمنا؟! من ثَمَّ المسلمون في بلاء وشقاء وتعاسة وآلام إلى اليوم، فأين ثمار الاستقلال ونتائجه الطيبة؟ أين الأمن؟ أين الطهر؟ أين الإخاء؟ أين المودة؟ ما الذي حصل؟ حال لا نشكوها إلا إلى الله.
الثانية: إيتاء الزكاة
الدعامة الثانية: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41] إقام الصلاة هي الدعامة الأولى، والثانية: وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41] الزكاة التي بينها الله في كتابه وبينها رسوله من حيث المقادير، والأنصبة، ومن حيث الحول والشروط. الزكاة هي قاعدة الإسلام الثالثة، ولكننا ما علمنا وما بلغنا أن إقليماً استقل أهله عن بلجيكا أو بريطانيا أو فرنسا فأجبروا المواطنين على إخراج الزكاة، فهل اشترطت عليهم فرنسا وقالت: نخرج من دياركم على شرط أن لا تجبوا الزكاة حتى يتحطم الإسلام؟ لا والله.ومن العجيب ونحن أطفال صغار كانت تأتي ضرائب تسمى غرامة من الدولة الحاكمة فرنسا، والله تسميها الزكاة، وتذكرنا نحن المستعمرين بالزكاة، لا تلوموا ولا تبكوا إذا أخذنا منكم هذا القدر لأنكم أنتم تؤدون الزكاة، والله بعيني أقرأ كلمة زكاة، وكأنما تذكرنا بالإسلام، ولما جاء رجالنا وأبناؤنا مسحوها فليس هناك زكاة بل الضريبة حتى ينسى المؤمنون الزكاة، فأي ظلم أعظم من هذا؟ وما زلنا نرقص لأننا نمشي إلى الهاوية، لم تخطئ سنة الله بشراً إما أن نتوب وإما أن تنزل البلايا والرزايا. سئل أحدهم: أين الله؟ قال: بالمرصاد، يشير إلى قوله تعالى لما دمر عاداً وثمود وفرعون قال: إِنَّ رَبَّكَ [الفجر:14] يا محمد لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] فلسنا بأفضل من قوم عاد أو قوم صالح وثمود أو فرعون. إذاً: جباية الزكاة فريضة الله، ودعامة الدولة. ولما كون عبد العزيز تغمده الله برحمته هذه الدولة، جعل نوابه في القرى وأخذوا يجمعون الناس على الكتاب والسنة، ويقرأ قائمة في كل صلاة صبح، إبراهيم بن عيسى، عثمان بن خالد، زيد بن إبراهيم، نعم نعم، كلهم حضروا، وإذا غاب واحد يمشون إليه: لم غبت؟ فإذا كان مريضاً يدعون الله أو يداوونه، وإن كان غائباً بلا عذر يعرفونه، فإن أبى أن يحضر يؤدبونه بالعصا، فأقيمت الصلاة بمعنى الكلمة. وقولوا لي: ما الذي تبع إقام الصلاة؟ تبعها أن انتهى الخبث ومظاهر الشر والباطل والفساد، وهذه سنة الله عز وجل.
الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
القاعدة الثالثة: وجود مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ إذ قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] نحن نكون رجال الأمن وقوى الأمن، ما حاجتنا للبوليس والدرك والجند والشرط، ولكن شيخ بلحيته يأمر بالمعروف في القرية.. في السوق. أسألكم بالله! من صرفهم؟ أنا قلت لكم: ما بلغنا وقد خبرنا الحياة ظاهرها وباطنها ما بلغنا أن دولة مستعمرة اشترطت على ذاك الشعب المستعمر عند استقلاله أن لا يصلي أو أن لا يؤتي الزكاة أو أن لا يأمر بالمعروف.. أبداً، فما الذي صرفنا لتنزل بنا المحنة ويحل بنا البلاء والشقاء والعذاب؟! الله الله في هذه الأيام أيام هذه الاختراعات العجيبة والفتوحات الربانية، لو أسلمنا لدخل البشر كلهم في الإسلام، لكن نحن صرفنا الشرق والغرب عن الإسلام لأنهم ينظرون إلينا ونحن أشد هبوطاً منهم، لا وفاء ولا صدق ولا حرم ولا كرامة ولا ولا. إذاً: يتقززون من حالنا، ينظرون إلينا وإلى الإسلام من خلال سلوكنا، والآن لا نستطيع أن نصلي صلاة الظهر في العالم الإسلامي مع بعضنا البعض، فنؤخر نحن ويقدم الآخرون في وسطها ونصلي الصلاة في ساعة واحدة. أما الصيام أما العيد فلا تسأل! فهل نحن أمة واحدة، إذاعتها واحدة.إذاً: القاعدة الثالثة: هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذه دعائم الدولة الإسلامية، فأيما شخص يفكر في إقامة دولة ولم ير فيها ما رأى الله ولم يقيم على ما أراد الله والله إن سلكها لهاو وإنها لساقطة ولن ينتفع أهلها بها، ولا كرامة ولا طهر ولا صفاء ولا سعادة.لم لا يتكلم بهذا العلماء والكتاب والمربون؟قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] لم يشأ الله أن تقوم دولة على هذه القواعد فتسند هذه الدولة وتشد من عضدها أبداً.إذاً: قال القرطبي في ما يرويه: أربع إذا وجد في بلد أمنت من البلاء والدمار والعذاب.الأولى: إمام عادل، عدل الإسلام لا عدل الاشتراكية الذين سلبوا أموال الأغنياء وأراضيهم ومزارعهم وأعطوها للفقراء والشعب، وقالوا: عدل كبير هذا، أي عدل هذا؟ هذا أبشع أنواع الظلم، هذا تقرير قاعدة بلشفية حمراء روسية وضعها اليهود من أجل تدمير العالم والقضاء على الروح الإنسانية. أيضاً: الضرائب ففي بعض البلاد النافذة عليها ضريبة، كيف تفتح نافذة في الشارع؟ ادفع ضريبة. والضرائب: أكل أموال الناس بالباطل، لم يأذن الشارع فيها إلا في حالة ضرورية قصوى، كأن يكون إمام المسلمين مضطر لظروف دعت إلى ذلك، أما أن تصبح فريضة بدل الزكاة ويحجب معنى الزكاة ولفظها فهذا والله لظلم عظيم، وآثاره واضحة.ثانياً: عالم على سبيل الهدى، وليس عالماً خرافياً صوفياً، وقد جئناكم بمجموعة من الكتب نسمعكم كل يوم إن شاء الله منها، بعث بها إلينا رجل عالم من نيجيريا، جمع كتب المتصوفة كلها وجمع العجائب من كل كتاب عجيبة، وهذا يتفق مع آيتنا الآن. ثالثاً: مشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يا أهل القرى! اجتمعوا في مسجدكم وإن كانت الحاكمة بريطانية وكونوا لجنة من صلحائكم، تجولوا في القرية فإذا رأيتم طفلاً يقول الباطل، أو رجلاً يرتكب حماقة أدبوه وعلموه، فهذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يرضى الله عنا ولا يسخط.
الرابعة: تستر النساء وعدم التبرج
والأخيرة: نساء مستورات غير متبرجات، والدعوة الآن إلى كشف الوجوه عندنا قائمة، ولولا لطف الله عز وجل لانتشر السفور بيننا، ونحن نندد بهذا السلوك والجماعة تغضب، قلنا لهم: بناتكم علموهن ست سنوات في الابتدائية، فإذا كملت السنة السادسة وأصبحت تعرف الله بأسمائه وصفاته، أصبحت تعرف كيف تتملق إلى الله بذكره، عرفت كيف تبر أباها وأمها، عرفت كيف تربي أولادها، تقول لها: حسبكِ يا بنية، الزمي البيت، ساعدي أمكِ على مهامها وغداً تتزوجين وتصبحين ربة بيت، أعانكِ الله، لهذا خلقتِ. إياكم والمتوسطة والثانوية والجامعة وأخيراً: الوظيفة! وحلفت لهم بالله في رسالة قديمة بعنوان (الإعلام بأن العزف والغناء حرام) أنكم إذا فتحتم الابتدائيات كانوا يطالبون بالثانوية.جريدة البلاد: تكتب وتقول: المرأة السعودية في ديجور من ظلمات الجهل.. كذا، وهم مدفوعون بدوافع الشيطان وأوليائه. قلنا: والله! إن فتحتم الابتدائيات لتطالبن بالثانويات يومئذ، ولتفتحن الثانويات ولتطالبن بالجامعات، ووقع هذا، وكان هذا قبل خمس وثلاثين سنة. والآن الوظيفة شريفة أو خبيثة؟ ما دام هذا النور فليس بمسموح أن المرأة تتوظف مع الرجال، وهم يتألمون لماذا؟ آه! أين أولوا البصائر والنهى؟ هيا بنا ندرس الحياة بكاملها؟ أخلقنا لهذه؟ من قال نعم قل له: لا تمت، ولم مات أبوك وماتت أمك؟ أين يذهبون؟ إذاً: ما دمت عاجزاً على أن تفرض بقاءك على الله فاعلم أنك لم تخلق لهذه بل خلقت لغيرها، فتهيأ للملكوت الأعلى حتى تسكن السماوات العلى، والشاهد عندنا: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123] سنة الله، السم يقتل، الطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، الكفر يوجب غضب الرب وعذابه، الفسق يقود إلى الهاوية وزوال النعم، وهكذا، لن تتبدل سنن الله. فإن قال قائل: علل يا شيخ لهذه المحنة؟ الجواب معروف، الجهل، جهلونا، أبعدونا عن الله ومعرفته فأصبحنا كالبهائم يسوسوننا كما شاءوا ويركبوننا كما أرادوا، فهيا نخرج من هذا المضيق؟فإن قال قائل: يا شيخ! ما نستطيع، نحن مسحورون، نقول: سبحان الله! لماذا لما تسحر امرأتك لا تأتي بمن يقرأ عليها حتى تشفى؟ هل ترضى أن تكون مسحوراً؟ حاول أن تخرج نفسك من هذا السحر.فإن قال: بماذا؟ نقول: أن نتعاهد لربنا بأننا عدنا وله أسلمنا قلوبنا ووجوهنا، وأننا من اليوم إذا دقت الساعة السادسة مساءً أوقفنا العمل، إن كنا في مقهى أغلقنا بابها، دكان كذلك، متجر، مصنع، كل عمل، وأخذنا نساءنا وأطفالنا طاهرين إلى بيت ربنا، إلى المسجد مسجد القرية ونجتمع فيه، ونبكي بين يدي ربنا الساعة والساعة والنصف ونحن بين يديه منطرحين نتعلم الكتاب والحكمة، يوماً بعد يوم حتى تلوح الأنوار وحتى تتصدع الصدور بتلك الأنوار ونصبح لا نرى إلا ما يرى الله، ولا نسمع إلا ما يسمع الله، ولا نعمل إلا بما أذن الله، ويومها لو أراد أهل الأرض أن يزلزلوها من تحت أقدامنا ما استطاعوا. ولا تسألني عن النتائج المادية، ينتهي كل مظهر من مظاهر الجريمة، فلا غش، لا خداع، لا كذب، لا باطل، لا خيانة، لا لا.. بل حل محل ذلك الأمن، الطهر، الولاء، المحبة، الغنى، والله ما يبقى في القرية من يشكو جوعاً وإخوانه شباع، ولا من يتألم للبرد وإخوانه مكسوون، ينتهي هذا نهائياً. ستقولون: آه! ما نستطيع هذا يا شيخ، فأقول لكم: ما يمنعكم؟ لو كانت تحكمنا بريطانيا وأردنا هذا والله ما تمنعنا. أقسم بالله لو كانت تحكمنا إيطاليا والله ما تمنعنا من هذا، فهذا يساعدهم على أن يستقر الوضع وتهدأ الأحوال ويستغني الناس وينتهي التلصص والجريمة والخيانة، فلم يمنعوننا إذاً؟ هذا الكلام يشهد الله أننا قد رددناه مئات المرات، فهل من واعٍ يعي هذا؟ لا أحد. هل من سامع؟ لا أحد. لماذا؟ نرد الأمر إلى الله، بهذا قضى الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ...)
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23].
سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب...)
روى ابن جرير الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية: عن ابن عباس قال: ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله ) دخل عليهم وهم مع علمائهم ليعرض عليهم الإسلام ( فقال له: نعيم بن عمرو والحارث بن زيد ) أي: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ( على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه ) ، أي:أنا على دين إبراهيم، وهو والله كذلك، فالتوحيد ملة إبراهيم، وتبقى القوانين توجد بحسب أحوال البشر، يحل اليوم شيء ويحرم غداً؛ لأن المربي العليم الحكيم هو الذي يقنن ويشرع، أما الملة فلا إله إلا الله، لا يعبد إلا الله وبما شرع الله. ( فقالا: فإن إبراهيم كان يهودياً ). أي: كيف تقول أنا على ملة إبراهيم وإبراهيم كان يهودياً، إذاً: ادخل أنت في اليهودية حتى تكون كما تقول على ملة إبراهيم، فإبراهيم كان يهودياً، ( فقال صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم )، أي: بيننا وبينكم التوراة، هاتوا التوراة، ومعلوم أن التوراة نزلت بعد وجود إبراهيم بمئات السنين، التوراة نزلت على موسى وبين موسى وإبراهيم قرون عديدة ( فأبيا عليه ) لما عرفوا أن التوراة ليس فيها يهودية ولا نصرانية، رفضوا إتيان التوراة والنظر فيها والعمل بما فيها ( فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23] ) . فكانت الآية منطبقة عليهم، واتضح معنى الآية تماماً. هنا قالت العلماء: إذا دعوت مؤمناً إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله ورفض دخل مع هذه الجماعة الملعونة! إذا دعوت مؤمناً حاكماً كان أو مواطناً إلى التقاضي إلى الكتاب والسنة والتحاكم إليهما فرفض لأنه خائف من الحق أن يخرج من جيبه فهو ممن قال الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23] غير ملتفتين إلى التحاكم إلى كتاب الله التوراة.هذه الآية وحدها يقرؤها النساء والرجال من المؤمنين والمؤمنات ولو كانوا يقرءونها ويفهمون معناها لم يتحاكم مؤمن ولا مؤمنة عند بريطانيا ولا الأمم المتحدة، والآن يتحاكمون في مجلس الأمن، نزاع بين دولتين إلى مجلس الأمن.هذه مظاهر الجهل بالله، ما عرفنا الله معرفة تثمر لنا حبه في قلوبنا، ولا الرغبة والخوف منه في نفوسنا، فلهذا لا نبالي أن نتحاكم إلى اليهود والنصارى، ونحن أهل العدل، أهل الكتاب والحكمة.
معنى قوله تعالى: (أوتوا نصيباً من الكتاب)
وقوله: أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:23] أي: قطعة من الكتاب. لم والتوراة بين أيديهم؟ لأن التوراة لم يبق فيها ما تسمى به التوراة على الحقيقة، همشوا وحشوا وزادوا ونقصوا وبدلوا فأصبحت كلمات الله فيها كالكواكب هناك كوكب وآخر هنا والباقي كله خرافات وأباطيل. إي نعم. من فعل هذا؟ علماؤهم، ساداتهم، أرباب السلطة والجاه عندهم. ونحن أهل الإسلام جرينا وراءهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع إلا أن الله عز وجل حفظ لنا كتابه، فما استطاع شرقي ولا غربي أن ينقص منه حرفاً واحداً أو يزيد كلمة، وذلك لتعهد الله تعالى به؛ إذ قال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فما أسنده إلى الأشراف ولا إلى العلماء ليحفظونه، بل تولى عز وجل حفظه بنفسه، فلهذا حاول النصارى واليهود محاولات متعددة على إسقاط حرفي (قل) فعجزوا. مؤتمرات انعقدت في السودان وفي روسيا وفي العالم يبحثون: كيف يسقطون كلمة (قل) من القرآن فما استطاعوا؛ لأن كلمة (قل) ترغم أنوفهم أن هذا كلام الله. الرسول نفسه يقول لنفسه: قل؟ هل هناك متحدث يقول لنفسه: (قل)؟ مجنون هذا. إذاً: من الذي قال له: قل يا أيها الكافرون، قل هو الله أحد، قل يا أيها الناس؟ من؟ سلطة عليا، إذاً: هذا الله هو الذي يأمره. فقالوا: لو استطعنا أن نسقط كلمة (قل) لقلنا هذا كلام محمد فقط وليس بكلام الله ولا بتنزيله، فعملوا المستحيل فما استطاعوا، وكيف يستطيعون والله العزيز تولى حفظ كتابه بنفسه؟ لما أسند الله التوراة والإنجيل إلى أهلها ما استطاعوا أن يحفظوها، فالإنجيل حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً، ولما انكشفت عورتهم اجتمعوا اجتماعات متعددة وصفوا تلك الأناجيل وغربلوها وجمعوها في خمس كتل: إنجيل لوقا، إنجيل برنابا، إنجيل مرقس، إنجيل يوحنا، خمسة أناجيل، والشيطان هو الذي يدعو إلى الكفر والضلال.
معنى قوله تعالى: (يدعون إلى كتاب الله)
قوله: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ [آل عمران:23] من دعاهم يرحمكم الله؟ رسول الله يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ [آل عمران:23] والمقصود بكتاب الله هنا: التوراة والإنجيل والقرآن، فالكل كتاب الله، ولو جاءوا القرآن لا يجدون إلا التوحيد، والإنجيل كذلك وإن كانت الحادثة هنا في التوراة لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى [آل عمران:23] فكروا وبعد قالوا: لا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23] لماذا ما قال: ثم تولوا فريق؛ لأن منهم من آمن وعرف الحق كـعبد الله بن سلام وأخيه وفلان وفلان، وهم معرضون عازمون أن لا يرجعوا إلى الله ولا إلى دينه ورسوله، و ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24].
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات... )
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]يعني: نفجر، نكفر، نفسق، نفعل ما شئنا، فنحن آمنون من النار، لن تمسنا إلا أربعين يوماً، وهي الأيام التي كفر فيها أسلافهم على عهد موسى وعبدوا العجل أربعين يوماً، قالوا: نؤاخذ بتلك الأيام فقط. وهذا مرض وجنون، كيف تؤاخذون بعمل أسلافكم؟ كيف هذا؟ وإذا كان أسلافنا كفار وأسلمنا ندخل النار لأن أسلافنا كفار؟ هذا هبوط، هذا أسوأ الفهوم، كون أسلافكم عبدوا العجل وضربهم الله وقتل منهم أربعين ألفاً وانتهت أنتم تؤاخذون بذلك؟ نحن لا يعتقد الرجل أنه يؤاخذ بذنب أبيه أو ولده أبداً، لكنهم جهال في ظلام يعيشون، قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ . وفي سورة البقرة قال تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] بهذا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:80-81] صفعتهم صفعة واحدة، جهلة ضلال، قل أفاتخذتم عهداً عند الله أنه لا يعذبكم إلا أربعين يوماً؟ هل عندكم عهد من الله بذلك؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] لا تستحون، تكذبون على الله؟ ثم بين لهم أن الأمر ليس كمزاعمكم وضلالاتكم بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81] أبيض أو أسود، يهودي أو نصراني أو مسلم ، كل من كسب سيئة وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81] عجب هذا القرآن! قطع ألسنتهم. وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:80-81] وفي قراءة: (خطاياه).أما نحن فقد عرفنا لو كنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزك نفسك بهذه العبادات حتى تطهر وتطيب والله لن تدخل الجنة، ولن يشفع لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كنت ابن رسول الله ولو كنت أباً رسول الله خاتم الأنبياء والله ما شفع لك ولا دخلت الجنة إن مت على خبث النفس وتدسيتها. وهذا رجل يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان أبوه من أهل الفترة فسأله أين أبي؟ فقال: ( أبوك في النار ) متزمت ما فهم، فسأل: أين أبي؟ فقال له: في النار، مات مشركاً، فتململ الرجل فقال له صلى الله عليه وسلم: ( أبي وأبوك في النار )، مات على الكفر، فنفسه خبيثة مدساة مظلمة منتنة، من يدخله دار السلام؟ كيف يرقى ويخترق السبع الطباق؟ إبراهيم عليه السلام هل هناك من هو أكرم من إبراهيم؟ أرحم من إبراهيم في الدنيا؟ سمي بالأب الرحيم، وفي عرصات القيامة يسأل ربه: ( رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم القيامة يوم يبعثون وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي يا رب؟ فيقال له: إبراهيم! انظر تحت قدميك وكان رافع رأسه إلى الله، انظر، فإذا أبيه آزر عليه لعائن الله في صورة ذكر الضباع ملطخ بالدماء والقيوح بين يديه، فما إن يراه حتى يقول: سحقاً سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في أتون النار ) . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] هذا حكم من الله، عرفتموه، فلم إخوانكم ما عرفوه في الشرق والغرب؟ لأنهم لا يجتمعون على كتاب الله وسنة رسول الله. صدر حكم الله على البشرية كلها، فيا ويلها من هذا الحكم، إنه صارم، حكم ذي الجلال والإكرام؛ وهو قوله تعالى بعد الإقسام العظيم والحلف الكبير: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] أي: نفسه. من يراجع الله وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، سنن لا تتبدل، فهيا نزكي أنفسنا. بم نزكيها يا رب؟ بما شرعنا لكم من صلاة وصيام وذكر وعبادات وقربات. بم تتدسى النفس يا رب وتخبث؟ بما حرمنا عليكم من النظرة إلى اللقمة الحرام، فكل معصية تعود آثارها على النفس بالخبث والظلمة والنتن، فاعرفوا عبادة الله فاعبدوه بها تزكوا نفوسكم وتطيب، أما كوننا أتباع الزعيم الفلاني أو أولاد الأشراف أو أبناء السادة الفلانية فهذه ضلالات عجب. قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ [آل عمران:24] خدعهم فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24] من الأكاذيب والأباطيل التي حرفوا بها الكتاب وحشوا وهمشوا وشرحوا وبينوا، هي التي أوقعتهم في هذا وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24].
تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ... )
قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:25]. فَكَيْفَ [آل عمران:25] الحال إِذَا جَمَعْنَاهُمْ [آل عمران:25] كلهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:25] ألا وهو يوم القيامة، كيف يكون حالهم؟ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [آل عمران:25] أي: ما عملت وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:25] لأن القاضي الحاكم الله ذو العدل والرحمة والإحسان.
خرافات وبدع وضلالات التيجانية
الآن نقرأ هذه الأوراق -وهذا من تدبير الله- التي بعث بها هذا الرجل ونحن لا نعرفه، بعث إلي بهذه الأوراق من بلاد نيجيريا، فقال: ( من إبراهيم علي تشاد إلى الشيخ أبو بكر جابر الجزائري).
بعض كتب التيجانية
قال: ( بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وسلم.وبعد: فهذه أسماء كتب أهل الطرق كتبتها نصيحة ليحذر منها المسلمون لما فيها من الضلالات، أعاذنا الله).أولاً: يذكر الكتاب والمؤلف مثلاً: (الفتح الرباني لـمحمد الطفطفاوي بالقاهرة، الياقوتة الفريدة لـمحمد النطيفي ، جيش الكفيل لـمحمد الصغير).أيضاً: يذكر: إيقاظ الهمم، الطبقات الكبرى، الفوز والنجاة، أورد أسماء الكتب وأسماء مؤلفيها والبلاد التي كتبت فيها، والأعجب من هذا: ما يذكره عنهم من أقوالهم وبدعهم.
زعمهم أن الصلاة في زاوية الشيخ مقبولة قطعاً
قال: ( يقولون: الصلاة في زاوية الشيخ مقبولة قطعاً). أي: الصلاة في زاوية الشيخ سيدي فلان مقبولة قطعاً بلا جدال، بمعنى لا تذهبوا إلى لمساجد فيفسدون عليكم سلوككم، بل صلوا في الزاوية. انتبهتم أم لا؟ يقولون: الصلاة في زاوية الشيخ مقبولة قطعاً، ونحن نقول ولو في كانت في الكعبة فهي غير مقبولة قطعاً حتى تستوفي أركانها وشروطها.
زعمهم أن للتيجاني مقام أربعين نبياً في الجنة
ثانياً: ( قال أيضاً: يقولون: للتجاني مقام أربعين نبياً في الجنة). يقولون: للشيخ التجاني مقام أربعين نبي في الجنة، وليس مقام نبي واحد، وآباؤنا وأمهاتنا لما يسمعون هذا يبكون، فانظروا كيف يصنع الجهل؟!
زعمهم أن معرفة الولي أصعب من معرفة الله
ثالثاً: ( يقول: لا يلتفتون إلى ما يقوله الفقهاء، بل ينصرفون عن الكتاب والسنة فيقولون: معرفة الولي أصعب من معرفة الله). وهذا معناه: أن الولي أعظم من الله.
زعمهم أن أحمد البدوي يغمض عينيه كي لا يموت الكفار
رابعاً: قال: (يقولون: أحمد البدوي يغمض عينيه كي لا يموت الكفار). أي: حتى لا يموت الكفار يغمض عينيه، ولو فتحهما لمات كل الكفار. إذا خاطبه كافر أو وقف بين يديه يغمض عينيه ولو لم يفعل فإن الكافر يموت، فلهذا الشيخ يغمض عينيه.
زعمهم أن الولي يخرج من القبر ليقضي الحاجة لمن توسل به
خامساً: يقول: ( يقولون: يخرج الولي من القبر ليقضي الحاجة لمن توسل به). أي: إذا أتيت الولي المدفون تستشفع به وتتوسل يخرج من قبره ويقضي حاجتك ويعود. والعجيب أنه آمن بهذا بلايين المسلمين، ويبكون، والله رأيناهم خاشعين متعجبين يبكيون! وتجد بعضهم والله يأتي من المغرب ليزور عبد القادر في بغداد بالطائرة.كم يكلف ذلك؟ من المغرب الأقصى يأتي يزور قبر عبد القادر الجيلاني ؟ لم؟ لوجه الله؟ ما السبب؟ لتقضى حاجاته.
زعمهم أن الصلاة على النبي ليست مختصة بما علمناه من النبي صلى الله عليه وسلم
سادساً: قال: ( يقولون: الصلاة على النبي ليست مختصة بما علمناه من النبي صلى الله عليه وسلم). ونحن نقول: من لم يعتقد أنها من كلام الله لم يصح له الثواب.
زعمهم أن صلاة الفاتح تعدل ستة آلاف ختمة من القرآن
سابعاً: قال: ( ويقولون: إن صلاة الفاتح تعدل بستة آلاف ختمة من القرآن). أي: صلاة الفاتح التجانية تعدل بست آلاف ختمة من القرآن. أسألكم بالله! الذي يفهم هذا هل سيقرأ القرآن؟عام كامل ولا يختمه، فيقول: أصلي مرة واحدة بستة آلاف ختمة. ووالله لقد فهم هذا آباؤكم وأجدادكم وأمهاتكم وكبرنا وهللنا وقلنا: إيه، هكذا، فهم لا يفهمون كما تفهمون الآن حيث انتشر النور والهداية، ولو قلت: هذا باطل يضربونك بالعصي.
زعمهم أن التيجاني هو خليفة النبي وبه يبقى الوجود
ثامناً: قال: ( ويقولون: التجاني هو خليفة النبي، وبه يبقى الوجود). الله أكبر! التجاني هو خليفة النبي وبه يبقى الوجود؟! من هو التجاني هذا؟ وأين هو؟ هذا في صحراء الجزائر، ارتقى إلى هذا المستوى، وأصبح صيته من إسطنبول إلى نيجيريا؛ لأن الشياطين تريد إطفاء نور الله وتريد إهلاك البشر وإقحامهم في جهنم، والتجاني هذا هو أحمد التجاني .
زعمهم أن من قرأ السيدي يكون ولياً متصرفاً في الغيب
تاسعاً: قال: ( ومن قرأ السيدي كذا يكون ولياً متصرفاً في الغيب). هذا كتاب أو ذكر أو دعاء يسمونه بالسيدي.
زعمهم أن كل كتاب يدعو إلى خدمة التيجاني فاق ملء الأرض ذهباً
عاشراً: قال: ( يقولون: كل كتاب يدعو إلى خدمة الشيخ فاق ملء الأرض ذهباً). كل كتاب يدعو إلى خدمة الشيخ سيدي أحمد التجاني فاق ملء الأرض ذهباً.
زعمهم أن هناك دعاء من قرأه يجد ثواب أربعة من الأنبياء
الحادي عشر: زاد عليها وقال: يقولون: ( وهناك دعاء من قرأه يجد ثواب أربعة من الأنبياء). أي: هذا الكتاب فيه دعاء الذي يقرأ هذا الدعاء يفوز بثواب أربعة من الأنبياء. وهذا كله كفر والعياذ بالله.
زعمهم أن حب التيجاني واجب على كل مسلم
الثاني عشر: قال: ( يقولون: حب التجاني واجب على كل مسلم، فعضوا على التجانية بالنواجذ). مما عرفناه: أن فرنسياً دخل مدينة فاس أو مكناس المغربية ودخل في طريقة أربعين سنة وهو ينشر في تلك الطريقة من هذا النوع والناس يهللون ويكبرون، وبعدها عاد إلى فرنسا ولبس الكرفات والبدلة والبرنطية وقال: أنا شيخ تلك الجماعة. إياك أن تفهم هذا فهو باطل. والبرهنة القاطعة: كيف حكمتنا فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبريطانيا لولا أننا هبطنا وتمزقنا ومتنا؟ وكيف يعلو الكفر على الإيمان والله يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]؟
زعمهم أن النبي وأصحابه يحضرون عند قراءة جوهرة الكمال
الثالث عشر: قال: ( يقولون: يحضر النبي وأصحابه عند جوهرة الكمال، وعلى الذاكر أن يصور شيخه أو مقدمه). اسمع كيف الكفر، يحضر النبي وأصحابه الأربعة عند جوهرة الكمال. يا معشر المستمعين من الزوار! من منكم عنده جوهرة الكمال؟ يجحدونها، موجودة، يقرءونها في الليل وفي النهار، جوهرة الكمال عبارة عن قصائد وترنمات.يقول: جوهرة الكمال على الذاكر أن يصور شيخه أو مقدم الشيخ -الواسطة- خادم التجاني ، ثم يأخذ في الذكر ولا بد أن يتخيل أن الشيخ بين يديه، وإذا ما استطاع أن يتخيل الشيخ فالمقدم يسمونه وهو النائب عن الشيخ.
زعمهم أن خادم التيجاني يشفع لألف ألف عند الله
الرابع عشر: قال: ( ويقول: خادم التجاني يشفع لألف ألف عند الله). أي: الذي يخدم سيدي أحمد التجاني يشفعه الله في ألف ألف، الكل يدخلون الجنة ويخرجون من النار.
زعمهم أن قضاء الوظيفة واجب
الخامس عشر: قال: يقولون: ( قضاء الوظيفة إذا فاته واجب). إذا وظيفتك نسيتها وعجزت عنها وما انتبهت وفاتتك يجب أن تقضيها، فقضاء الوظيفة واجب عنهم، فمن أوجب هذا؟ وما هي الوظيفة؟ نعوذ بالله من الخسران!
زعمهم أن صلاة الفاتح كالحديث القدسي
السادس عشر: قال: ( يقولون: صلاة الفاتح كالحديث القدسي؛ لأن الرسول في اليقظة أعطاها للشيخ). فالحمد لله الذي عافانا! الحمد لله الذي طيبنا وطهرنا! الحمد لله الذي علمنا! الحمد لله الذي ردنا بعد غيبتنا إلى كتابه وهدي رسوله. اللهم احفظ لنا هذا النور ولا تمحه يا رب العالمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير آل عمران- (4)
الحلقة (145)
تفسير سورة آل عمران (12)
الله عز وجل هو خالق الخلق ومصرف أمورهم، وأعلم بما ينفعهم وما يضرهم، ومن تمام حكمته أن جعل الملك فيمن شاء من عباده، وحرم آخرين منه، ويسر الأرزاق لمن شاء من عباده، وقدرها على من شاء منهم، وهذه من مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية؛ فمن عرف قدرة الله عز وجل وحكمته عبده، ومن جهلها آل به الأمر إلى الكفر بربه فخسر خسراناً مبيناً.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) . اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.أعيد إلى أذهاننا جميعاً هداية الآيات الثلاث التي تدارسناها بالأمس، وتلاوة الآيات تلك بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:23-25].
هداية الآيات
قال المصنف غفر الله لنا وله ورحمنا وإياه [ هداية الآيات: من هداية الآيات: أولاً: من الإعراض عن الدين والكفر به: رفض التحاكم إلى كتاب الله عز وجل ] مما يدل على أن فلاناً أو الجماعة الفلانية أو الأمة الفلانية معرضة عن دين الله عدم تحاكمها إلى كتاب الله عز وجل [ إذ قال تعالى وقوله الحق: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] ]. وقال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59] فوفد نجران رفضوا أن يرجعوا إلى كتاب الله والتوراة كالإنجيل تحملان صفات رسول الله ونعوته بصورة تكاد تنطق، ولما دعوا إلى ذلك رفضوا.[ثانياً: أفسد شيء للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها: الافتراء فيها -على الله- والابتداع عليها والقول فيها بغير علم]. الأديان الإلهية يفسدها الافتراء على الله والكذب وإضافة ذلك إلى كتاب الله والابتداع في دين الله. وعلى سبيل المثال: من أين لليهود أن النار لن تمسهم يوم القيامة إلا أربعين يوماً؟ والله لهو الافتراء والكذب على الله. من وضع لهم هذه؟ علماؤهم ليسهلوا عليهم طرق الفساد والشر ومواصلة الكذب والنفاق، وآية البقرة فضحتهم أيما فضيحة؛ إذ قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة:80] هاتوا عهد الله الذي عهد إليكم أنه لن يمسكم العذاب إلا أربعين يوماً أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] وهذه أسوأ، بل تقولون على الله ما لا تعلمون. ثم قال تعالى: بَلَى [البقرة:81] أي: ليس الأمر كما زعمتم أو كما تعتقدون الباطل مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، وقد وقع المسلمون في هذه الورطة بالذات، فكتب العلماء وهمشوا وحشوا وكتبوا وأضافوا إلى دين الله ما ليس منه، فوقعت أمتنا في ما وقعت فيه الأمم السابقة إلا من رحم الله.[ ثالثاً: مضرة الاغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحدثين على الكتب الدينية من الحكايات والأباطيل بحجة الترغيب والترهيب، فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا ] وقد قرأنا أمس نبذة من كلام المشايخ رؤساء الطرق كيف يكذبون على هذه الأمة. [ رابعاً: فضيلة ذكر أهوال يوم القيامة وما يلاقي فيها أهل الظلم والشر والفساد ] لأن الله قال: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:25]. هذه هداية الآيات الثلاث السابقة.
تفسير قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء...)
الآن مع الآيتين الكريمتين لهذه الليلة وهما قول الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].
معنى قوله تعالى: (اللهم)
أولاً: كلمة (اللهم) قل يا رسولنا (اللهم)، وأصلها: الله، ثم إذا نودي الله عز وجل بحرف النداء يقال: يا ألله، فلما كان الله عز وجل أقرب إلينا من أنفسنا فلا ينادى بـ (يا) لقربه، فتنادي بياء النداء البعيد: يا إبراهيم، يا عثمان، أما إذا كان بين يديك فتقول: إبراهيم، عثمان اسمع ما أقول. وعوضت عن ياء النداء مع اسم الجلالة الأعظم الميم المشددة في آخر اسم الجلالة: (اللهم)، هذه الميم المشددة عوض عن ياء النداء، وهذا مما اختص الله به عز وجل، (اللهم) كأنك تقول: يا ألله. ويروى عن السلف: أن هذا الاسم بهذه الميم اشتمل على كل أسماء الله الحسنى، فمن سأل الله بقوله: اللهم هب لي كذا فكأنما دعاه بأسمائه كلها؛ لأن اسم الجلالة الأعظم (الله) يدل على تلك الأسماء: العليم والحكيم واللطيف والخبير والرءوف والرحيم وغيرها.إذاً: فلنكثر من دعاء الله عز وجل ولنفتتحه بكلمة: (اللهم).
فضل قراءة هاتين الآيتين
وذكر أيضاً أبو نعيم في الحلية: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه -وهو الصاحب المعروف- تأخر يوماً عن صلاة الجمعة فلم يشهدها، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: لم ما شهدت صلاة الجمعة؟ فقال: إن لفلان اليهودي ديناً علي، وقد رصدني عند باب بيتي، فمنعني هذا الرصد والانتظار من الخروج، فعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بهذه الآيات كل يوم، فإن الله يقضي عليه دينه ولو كان ملء الأرض ذهباً. كيف يصنع؟ يقول: ( اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب، رحمان الدنيا والآخرة، يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع من تشاء، اقض عني ديني ) . لازمها يا عبد الله إن كنت مديناً، لا تفتر تقولها يومياً، فإن الله سيقضي عنك دينك ولو كان ملء الأرض ذهباً.وكان في الحلقة أحد الصالحين أقسم بالله لقد كان عليه سبعون ألف ريال دين وقضيت في أيام، ونحن لا نمتحن ربنا -معاذ الله- ولكن بلغنا هذا فقلنا به. يا أصحاب الديون! يا من يشتكون ديوناً للغير هذا باب قضائها وسدادها قد انفتح لكم، لا تفتر صباح مساء. نحن نقولها والحمد لله دبر كل صلاة، فادع الله بهذا الدعاء وكلك يقين بأن الله سيقضي عنك دينك، تقرأ هاتين الآيتين ثم بعد ذلك تقول: رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما اقض عني ديني، ترزق من تشاء، اقض عني ديني. وكررها كل يوم، فإن الله عز وجل سيقضي عنك دينك. والحديث هكذا كما ذكره القرطبي . ونص الحديث كما أخرجه أبو نعيم في الحلية: ( أن معاذاً حبس يوماً من صلاة الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عما حبسه، فقال: كان علي دين لـيوحنا اليهودي، فوقف عند بابي يرصدني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحب أن يقضى عنك دينك؟ قال: قلت: نعم. قال: اقرأ كل يوم: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] إلى قوله: بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]... الآيتين. ثم قل: رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ) أي: يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ( تعطي منها من تشاء وتمنع من تشاء، اقض عني ديني، فلو كان عليك ملء الأرض ديناً لأداه عنك ) . كيف ترون هذه الفائدة؟ يا أيها المدينون! هذا باب قضاء دينكم قد انفتح فلا تحرموه، ما يمنعك أن تتملق ربك مرة في الليلة ومرة في النهار: ( اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منها من تشاء وتمنع من تشاء، اقض عني ديني ) . وكرر هذا الالتجاء الصادق وكلك يقين في أن الله سيؤدي عنك هذا الدين فإنك والله لن تحرم. أو نترك هذا ونذهب إلى البنوك وبيع السيارات؟! ستقولون: يا شيخ! ما علمنا هذا، ما عرفناه إلا اليوم وإلا ما وقعنا في ذلك.إذاً: افتح المصحف تجد هاتان الآيتان، وإذا كنت لا تعرف القراءة فاجلس إلى بنتك أو ابنك يقرأ وتعلم عنه الآيتين وتحفظهما، فإذا حفظت الآيتين بقي نص الحديث: ( رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء وتمنع من تشاء، اقض عني ديني ) وكرر هذا اليوم بعد اليوم حتى تنفرج عنك الحال ويقضى دينك.وأهل العلم يرغبون في تلاوة هاتين الآيتين دبر كل صلاة، نقرأ آية الكرسي ونضيف إليها: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] و: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] فهذا ذكر رباني، كلام الله نتملق به ونتزلف إليه سبحانه.
قرب الله تعالى من عباده
إذاً: عرفتم معنى (اللهم) وأن معناها: (يا ألله)! وعدلنا عن (يا ألله) إلى (اللهم)؛ لأن الله قريب منا ليس ببعيد مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] والقريب لا نناديه بياء النداء. فإذا كان أخوك بين يديك فإنك لا تقول: يا إبراهيم، بل تقول: إبراهيم صب الماء، إبراهيم قم لكذا، وأما إذا كان بعيداً فتحتاج إلى أن تقول: يا إبراهيم. ولما كان الله أقرب إلينا من حبل الوريد منا جاءنا بهذه الكلمة الطيبة منة منه وفضلاً، بلغتنا عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم).الله يعلم رسوله: (قل اللهم) إلا إذا قلنا: (قلِ اللهم) حسب القراءة حركنا اللام الساكنة قلنا: (قلِ اللهم)؛ لأن اسم الله إذا سبق بحرف جر يلين ويرقق ولا يفخم، كأن تقول: بسم الله، وتقول: وصلى الله. أليس كذلك؟ تقول: هذا من فضل الله، وتقول: هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.إذاً: اسم الجلالة إذا سبقه حرف جر يأتي بالترقيق، بسم الله، من فضل الله، وإن سبقه رفع أو نصب يفخم، قال الله جل جلاله. كذلك: قل اللهم، لكن إذا حذفنا قل ستقول: اللهم. أي: يا ألله.
مناسبة هذه الآية
قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] من الآمر بهذا؟ الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا. ما المناسبة؟ المناسبة: أن اليهود رفضوا الدخول في الإسلام على علم، لا يريدون الإسلام؛ طلباً للملك، وطلباً للسيادة، طلباً للعزة والدولة والسلطان. كيف يطمعون في هذا الطمع وهم شراذم ممزقة هنا وهناك؟ ما يئسوا، قالوا: إذا دخلنا في الإسلام وأصبحنا أتباعاً للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انتهى أملنا في إيجاد مملكة بني إسرائيل نهائياً. والأمر واضح، إذا دخلوا في الإسلام هل سيكونون مملكة في الإسلام لبني إسرائيل؟ هذا ليس بمعقول أبداً، فآثروا الدنيا على الآخرة، انتبهتم، وغرر بهم علماؤهم وقالوا: إن كفرتم بمحمد ودينه رجوتم أن يعود إليكم ملككم ودينكم أما النار إن عذبتم بها فلن تزيد مدة العذاب على أيام معدودات، فاصبروا إذاً على الكفر. هل فهتم هذه الحقيقة؟ وما زال اليهود إلى الآن يعملون بكل الإمكانيات لتحقيقها، يضحون بأعراضهم، بدمائهم، بوجودهم من أجل أن يقيموا مملكة بني إسرائيل كالتي كانت لهم على عهد داود وسليمان، لكن لحمقهم وجهلهم وضلالهم أرادوا أن يكونوها من حيث لا تكون، لأن الذي يعطي الملك هو الله، لا أن تعلن الحرب على الله ليعطيك الملك، أنت أحمق. قل يا رسولنا: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء. والنصارى كذلك، والمجوس كاليهود حاربوا الإسلام من أجل الملك ولبقاء الدولة والسلطان، وإن شئتم حلفت لكم بالله، رفضوا الإسلام لبقاء دولتهم وسلطانهم، إذ الإسلام إذا دخلوا فيه عمتهم رحمة الله وأصبحوا عابدين لله مسلمين، ليس هناك عنتريات وتعال وعزة وسلطان. هكذا يعلم الله تعالى رسوله أن يقول: اللهم مالك الملك، ولفظ الملك يشمل كل مملوك، فلا تفهم منه فقط الدولة، فكل ما نملك يسمى ملكاً، تقول: هذه الدار ملكي، هذه السيارة ملك فلان.
معنى قوله تعالى: (مالك الملك)
قوله: مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26] من هو مالك الملك كله؟ إنه الله، ناده باسم الجلالة وبهذه الصفة الخاصة به، يا مالك الملك، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] تعطي الملك ما يملك من كل الموجودات والمملوكات من تشاء، فإنك المالك الحق للدنيا والآخرة، فمن أراد أن يطلب ملكاً فليطلبه ممن يملكه، أما من صنم وحجر وعيسى ومريم والأباطيل فهذه خطأ لا يعقل. تطلب الملك ممن لا يملك؟! يجوز ذلك؟ هل يصح أن تأتي إلى فقير وتقول له: من فضلك أعطيني سيارة؟ من أين يعطيك سيارة؟ لو كان يملكها فمعقول أن تقول له: أعطيني سيارة، إما إذا كان فقيراً فأنت تضحك على نفسك.
معنى قوله تعالى: (تؤتي الملك من تشاء)
قوله: مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، لنعلم أن مشيئة الله ليست مشيئة أحمق ولا جاهل، ولا غافل، بل مشيئة الله تابعة لحكمه سبحانه.إياك أن تفهم أن الله يشاء أن يعطيك شيئاً وأنت لست بأهل له، لا يفعل هذا؛ لأنه عليم حكيم، يضع كل شيء في موضعه، فلا تفهم أنك تحاربه ليل نهار وتقول له: أعطني ملكاً أسود به وأحكم به فيعطيك، هذا خطأ.إذاً: اطلب ما تطلب يا عبد الله من الله، إذا هو الملك الحق، واعلم أنه يعطيك إذا كنت أهلاً لهذا العطاء، فإن لم تكن متأهلاً له لا يعطيك؛ لأنه الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، تيقن أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.إذاً: الجأ إلى الله عز وجل واعمل برضاه، وبالسنن التي وضعها وسنها وقننها للوصول إلى الملك، فإن الله لا يحرمك، أما أن تطلب ذلك من غيره، أو تطلبه من سنن ما وضعها وقوانين ما سنها وتريد أن تصل إلى مطلوبك فلا والله، إلا إذا كنت ما آمنت بالله ولا بسلطانه وملكه. فيا بني إسرائيل! إذا أردتم الملك والسيادة والعز فادخلوا في رحمة الله تصبحون سادة البشر وأئمة.
معنى قوله تعالى: (وتنزع الملك ممن تشاء)
قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، كم من مالك نزع الملك منه؟ كم من مالك نزع ما يملك؟ والتاريخ شاهد والوقع أكثر شهادة، فهيا بنا إذاً نفزع إليه سبحانه، ما بقي عيسى ولا مريم ولا عزير ولا سيدي عبد القادر ولا مولاي إدريس ، فمن أراد أن يملك دابة وامرأة فالمالك الحق هو الله، فليقرع باب الله عز وجل، وليسأله في ضراعة، وليستقم على منهج الله حتى يتحقق له مراده ورضاه، أما أن تطلب ما ليس عندك من غير الله فهيهات هيهات أن تحصل عليه! أو أن تطلب من الله وأنت كافر معرض عن سنن الطلب وطرق الوصول إلى الخير فهيهات هيهات أن تحصل عليه! تأملوا هذه! اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] أي: من عبادك وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ [آل عمران:26] وتأخذه مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26] لأنه ما أهل لذلك. وهل فعل الله هذا؟ نعم فعله مع بني إسرائيل. أين تلك الإمبراطورية العظمى؟ أين مملكة سليمان من أقصى الشرق إلى الغرب فقد حكم الإنس والجن؟ زالت، لما تبرجت نساؤهم، وكشفن عن وجوههن، ولبسن الكعب العالي.السفور من نشره في العالم؟ رجال الكنيسة؟ لا والله العظيم. فمن؟ إنهم اليهود، بنو عمنا؛ لأنهم يريدون أن نسقط من علياء السماء، وأن ننزل إلى الأرض بنفس الطريق الذي هبطوا به هم. كيف سقطت دولة بني إسرائيل؟ أخبرنا أبو القاسم، بدأت بالكعب العالي والسفور، وهم اليوم يصنعون الكعب العالي لنسائنا ونسائنا يتبخترن به. أما تعرفون الكعب العالي هذا؟ سبحان الله! هو الحذاء يجعلون له كعب رقيق طويل، لما تلبسه المرأة تصبح تتمايل، في الشارع في السوق تتمايل، تجذب قلوب أصحاب الشهوات ليقعوا في الفجور.أيضاً:كشف الوجوه لنساء البشر ما كان معروفاً أبداً حتى سن هذا القانون اليهود؛ لإيقاع الأمة في الفجور والفسق ثم الهبوط، حتى يتمكنوا من أن يعودوا كما كانوا سادة مالكين حاكمين.والعالم الإسلامي، كيف هبط؟ ما سبب هبوطه؟ هو إعراضه عما عن الله عز وجل، وطلب ما ليس لهم بحق، فهبطنا وحكمنا الشرق والغرب.
معنى قوله تعالى: (وتعز من تشاء وتذل من تشاء)
قوله: وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، ما بقي ولي يدعى ولا عيسى ولا مريم ولا البتول ولا الحيل ولا السحر ولا ولا.. يا من يريد العزة اطلبها من الله، يا من يخاف الذل افزع إلى الله، يا طالب الملك اقرع باب الله، فلا إله إلا الله. ماذا فعل الله باليهود والنصارى؟ أذلهم وأزال ملكهم. وأما العرب الذين كانوا يطالبون بالملك علمهم من أين يأتى الملك وكيف يطلب، إلى الآن من أراد أن يعز فليطلب العز من الله.ما هو سبيل العز؟ هل هو المال والقوة والسلطان؟ والله ليذل. أين روسيا؟ أذلها الله وأنتم أحياء تشاهدون، وقد مضت فترة إذا خطب خطيب في موسكو تهتز أوروبا من الفزع والخوف، فأين هي؟ قالوا: لا إله والحياة مادة، فما مضى عليها ثمانون سنة. أين عزها؟ مجموعة من الشيشان أذلتهم وأخزتهم وحطمتهم. أبعد هذا نطلب العزة من غير الله؟!ستقولون: يا شيخ! علمنا كيف نطلب العز من الله؟ هل بالدعاء فقط؟ أو بالأخذ بالأسباب والسنن؟ الجواب: بالدعاء، وبالأخذ بالأسباب، أول شيء أن تعرف أن العز يملكه الله، وأنه لا يطلب إلا من الله، ثم تقبل على الله طالباً سائلاً ضارعاً، آخذاً بالأسباب التي وضعها لأن تعز وتسود، والأمر عندنا سهل، فقط رجعة صادقة إلى الله، وخلال أربع وعشرين ساعة لا أعز من المسلمين في الأرض.
معنى قوله تعالى: (بيدك الخير)
قوله: بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران:26] لا بيد سواك يا رب! بيدك الخير تعطيه من تشاء وتمنعه ممن تشاء، مفاتيح الكون بيدك، وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو. افزعوا إلى الله، ما بقي والله بيننا من يقول: يا سيدي عبد القادر أبداً، ولا يا رسول الله ولا يا فاطمة بعد الليلة، ولا يا حسين ولا إدريس ! عرفنا يا رب أنه لا ملك إلا أنت، أنت الملك الحق، بيدك الملك تهبه من تشاء، وتمنعه ممن تشاء، تعز من تشاء وتذل من تشاء، ولو عرف المؤمنون والمؤمنات هذا والله ما قالوا يا رجال البلاد، أو يا مولى بغداد، يا راعي الحمراء، يا عيدروس ، يا حسين ، لكنهم ما عرفوا!ثم الذين يريدون أن يطلبوا ملكاً كيف يطلبونه؟ مثلاً: بلد من بلاد المسلمين أراد شبانها أن يطلبوا الحكم، أن يصبحوا الحاكمين، ما الطريق؟ الطريق أن يفزعوا إلى الله ويطرحوا بين يديه يبكون الليل والنهار، يزكون أنفسهم ويطهرونها، حتى تصبح كأرواح الملائكة؛ فحينئذٍ إذا رفعوا أكفهم إلى الله أن يزول من شاءوا أن يزول والله لأزاله الله، أما فقط بالعنترية والكلام الفارغ والمتفجرات فهذا هراء تابع لهراء.ستقولون: لا تلمهم يا شيخ! ما عرفوا. إي والله ما عرفوا. من عرفهم؟ ما تربوا في حجور الصالحين، لا أعواماً قليلة ولا كثيرة. بِيَدِكَ [آل عمران:26]، لا بيد غيرك، الخير والشر أيضاً، ولكن لا حاجة إلى ذكر الشر؛ لأننا نريد أن نسأل الخير، لا نريد أن تسقط دولتنا أو نمرض أو نصاب بالفقر.
معنى قوله تعالى: (إنك على كل شيء قدير)
قوله: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، ذكر السيوطي في تفسيره عند نهاية سورة المائدة، وهي مختومة بقوله تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، قال: على كل شيء قدير إلا على إيجاد إله مثله. فهل يقال مثل هذا الكلام؟! قال: على كل شيء قدير باستثناء أنه لا يوجد إله مثله. أقول تنبيهاً: هذا الكلام لا يقال؛ لأن الله يخاطبنا بما تعارفنا عليه وما تعايشنا فيه من أمور دنيانا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، أن يملك، وأن يعز، يحيي، يميت، يعطي، يمنع، يدخل الجنة، يدخل النار، على كل شيء قدير، فلم نستثني إلا ذاتاً كذاته، أي داع إلى هذا، فقوله: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] هذه الجملة تعليلية.كيف تقول: رب إنك على كل شيء قدير ارزقني أولاداً صالحين وأنت تأبى أن تتزوج؟ عرض عليك والدك الزواج فقلت لا أتزوج وتقول: رب ارزقني أولاداً صالحين، هل يجوز هذا الدعاء؟ أو تقول: يا رب إنك على كل شيء قدير فاجعلني نبي آخر هذه الأمة، هل يجوز الكلام هذا وأنت تعرف عن النبوة ختمها؟ أو تقول: رب أعلم أنك على كل شيء قدير فأخرج مني عنصراً من الذهب نعيش عليه؟ ما جرت سنة الله بهذا، فلابد وأن تطلب الله الذي على كل شيء قدير ما جرت به سنته في خلقه، فلا تناقض سنن الله. اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، مثلاً: أراد ملك أن يدوم ملكه، ويسأل الله عز وجل بدون ما يأخذ بأسباب البقاء يستجاب له؟ لا. إذاً: يدوم الملك بالعدل، وإقامة الشرع، وعبادة الرحمن عز وجل. أي طاعة الله في كل ما أمر به ونهى عنه ومن ذلك إعداد العدة للجهاد والقتال والتسلح وصناعة ذلك.
تفسير قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل...)
قال تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27].
معنى إيلاج الله لليل في النهار والنهار في الليل
قوله: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [آل عمران:27]، أين الليل يا إخواننا الآن؟ في بطن النهار أدخله الله فيه وبعد ساعات يذهب نهارنا فيدخله الله في بطن الليل.إذاً: إيلاج الليل في النهار هو إدخال الليل في النهار والنهار في الليل ولا تقل الشمس ولا.. كله هراء يصرفك عن تعظم الله والخوف والرهبة منه والحب فيه، والشمس من أدارها في فلكها حتى تكون الليل والنهار؟ انظر أمامك وأنت في رابعة النهار أين الليل؟ أمك وأبوك طرداه؟ أهل البلاد زجروه؟ انظر هذا! الآن يدخل الظلام الحالك ويعم البلاد بكاملها فأين النهار؟ من ذهب به؟ لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يذهبوا به دقيقة ما استطاعوا، فهذه عظمة الله، حكمة الله، جلال الله، قدرة الله، فقل: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله..الشيطان يعبث بالقلوب ويبعدها عما أراد الله لها من الهداية والخير، يفكرون كيف الليل والنهار، أما سمعت الله يقول: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [آل عمران:27]. هل هناك من قال: نحن بني فلان نولجه؟ لا. وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [آل عمران:27]، فأهل الإقليم ليلهم ليل، ونهارهم نهار، في كل أنحاء العالم، من يفعل هذا سوى الله؟ كيف فعله؟ بحسب قوانينه وسننه وتدبيره في ملكوته وخلقه، فلا ولي من الأولياء ولا نبي من الأنبياء، ولا عبد صالح ولا عيسى ولا مريم يستطيع هذا. وهذه صفعات لوفد نجران الذين يقولون: عيسى هو الله، فقال الله لهم: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [آل عمران:26-27]. هل هناك من يشارك الله في هذا؟الجواب: لا. إذاً:لم يشاركونه في دعائهم والذبح والنذر لهم، والتزلف والتقرب إليهم وهم لا يملكون شيئاً؟وأخرى: والله لو يجتمع أهل الأرض على أن يغيروا نظام الليل والنهار والله ما استطاعوا أبداً، ثم لو أخبرهم الله وأراد إهلاكهم وغيروا لخرب العالم وهلكوا أجمعين.
معنى قوله تعالى: (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي)
قوله: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [آل عمران:27]، ما وجه ذلك؟ البيضة ميتة ميتة، والدجاجة حية لها صياحها.إذاً: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [آل عمران:27]، البيضة ميتة، وتكفش فوقها أمها كذا ليلة وإذا بها تفقسها وإذا بحي خرج منها، وهذا مشاهد في هذه الحيوانات، وإن قال علماء الكون وعلماء الحياة: قالوا: النواة حية، فالبيضة فيها عنصر حي، كالمني، مني الفحول أيضاً فيه مادة الحياة. نقول: هذا لا يتلفت إليه؛ لأنه لا يفقه ولا يفهم ولا تدعى إليه البشرية لتفهمه، حتى ترهب الله وتحبه، فالقرآن يخاطب الصغير والكبير، والبصير والأعمى والأول والآخر، أشياء مشاهدة، فلا نبحث عن خيالات، نحن نشاهد أن البيضة ميتة، تخرج من الحي، وأن الكتكوت أو الفرخ يخرج من البيضة الميتة فهذه آية من آيات الله، لو اجتمع أهل أوروبا بل أهل الأرض على أن يخرجوا من ميت حي لا يستطيعون والله ولا ذبابة، لو تجتمع البشرية على خلق ذبابة ما تستطيع. إذاً: من يستحق التأليه والعبادة والرجوع إليه سوى الله؟وهناك أيضاً معنى مراد في الآية: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95]، عكرمة بن أبي جهل قائد، بطل الرباني، خرج من صلب أبي جهل ، وأبو جهل مات أسوء موتة، والكافرون أموات: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]، فالكافر ميت، وهذه حقيقة.نقول: الإيمان الحق بالله ولقائه وكتابه ورسوله هذا الإيمان بمثابة الروح، بمنزلة الروح للإنسان إذا آمن الآدمي حيي، وأصبح حياً، وإذا لم يؤمن فهو ميت، وأصبح حكمه حكم الميت. والدليل والبرهنة: نحن أهل راية لا إله إلا الله، إن وجد بيننا يهودي أو نصراني أو مجوسي ذمياً تحت رايتنا نؤمن حياته ونحفظه من كل ما يسئ إليه، هذا والله لا نأمره بأن يصوم معنا، والله لا نأمره أن يشهد الصلاة معنا، والله لا نسمح له أن يدخل الجيش ليجاهد معنا. لم؟ لأنه ميت، فهل الميت يفعل شيئاً؟ أهل الذمة في بلاد المسلمين هل نقول لهم: صوموا، رمضان غداً فصوموا معنا؟ والله ما يجوز أن نقول ذلك، ميت فكيف تكلف ميتاً؟ انفخ فيه الروح فإذا حيي فكلفه فإن يقدر على أن ينهض ويفعل، أما وهو ميت فلا.من عرف الله عز وجل وعبده بما شرع فهذا حيي حياة كاملة، يقدر أن يقول الخير ويسكت عن الشر، يقدر على أن ينهض بالواجب ويتخلى عن المكروه؛ لوجود حياة فيه، أما من لا إيمان له فلا يكلف حتى يؤمن؛ لأنه كالميت. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [يونس:31] كم من إنسان صالح مؤمن رباني يخرج من صلبه ابن فاسد، كافر ميت؟! يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [يونس:31]، هذا فعل من؟ فعل الله. هل هناك من يشارك الله في هذا؟ الجواب: لا. إذاً: لا إله إلا الله، هذا مسك الختام، لا إله إلا الله والله العظيم، لا يوجد إله يعبد بحق إلا الله. من رفع لنا معبوداً ننظر إليه: هل خلق شيئاً؟ الجواب: لا. إذاً: من لا يخلق لا يعبد. هل رزق شيئاً؟ لو تتفق البشرية على إيجاد غذاء ما أوجده الله وتعرض عن اللحم، والخضار فهل تستطيع ذلك؟ والله ما تستطيع.إذاً: الخالق الرازق المدبر للحياة بالإحياء والإماتة والإعطاء والمنع والإعجاز والإذلال هو الله جل جلاله، فلا يعبد إلا هو، فلهذا أكبت الله وفد نجران وألقمهم حجراً وانهاروا وانهزموا؛ لأنهم جاءوا يجادلون رسولنا في أن عيسى ابن الله، وأنه إله مع الله، فبكتهم الله في ثلاث وثمانين آية وأسكتتهم وذهبوا مرتعدين خائفين.
معنى قوله تعالى: (وترزق من تشاء بغير حساب)
قوله: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27] يا رب! أنت مالك الملك، أنت ذو الجلال والإكرام ترزق من تشاء من عبادك.. من مخلوقاتك، من تشاء رزقه ترزقه وتوفر رزقه وتعطيه بدون حساب وليس بالعد، قنطار لحم أو صاع شعير، بل ترزق من تشاء رزقاً بغير حساب، فليس هناك من يحسب عليك أو يحاسبك: لماذا أنفقت كذا أو أعطيت كذا؟ وَتَرْزُقُ [آل عمران:27] أيضاً مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]، فتعطيه العطاء الوافي الذي ما يحتاج إلى عد ولا حساب.هذه مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية، فمن عرف الله عبده، ومن لم يعرفه صرف عن عبادته وهرب منها؛ ليخسر خسراناً أبدياً في الحياتين الأولى العاجلة والآخرة الآجلة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات] فهيا إلى ما في الآيتين من هداية [ من هداية الآيات:أولاً: فضل الدعاء بهاتين الآيتين بأن يقرأهما العبد ثم يقول: ( رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء، وتمنع من تشاء اقض عني الدين). فإنه يقضى بإذن الله تعالى ويعطى إن سأل حاجة له من حوائج الدنيا والآخرة ] إن شاء الله هذه حفظناها والذين لم يحفظونها يحفظونها من الآن ويضيفون إليها: ( رحمان الدنيا الآخرة) أي: يا رحمان الدنيا.. ولا نناديه بياء البعيد ( رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما من تشاء، وتمنع من تشاء، اقض عني الدين). تقولها يومياً في الليل والنهار حتى يقضى دينك. وإياك أن تمل، تقول: آه! دعوت وما استجيب لي، إياك! فقد حذرنا رسول الله من هذا، فإياك أن تسأل الله وتقول: آه! سألت فما أعطاني، فتلك والله الحالقة، انتبهوا! اثبت وكلك يقين على أن يقضي الله عنك دينك ويسدده.ثم اسأل بها غير الدين، توسل إلى الله عز وجل بها لما تختمها: اللهم اكشف ما بي من هم وكرب، اللهم اشف مريضي، وتكون قد توسلت إلى الله بأسمائه وصفاته.قال: [ثانياً: استجابة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنجازه ما وعده في أمته ]. تدرون أن الرسول يوم الخندق أيام كان يحمل التراب على كتفه الطاهر وهم يحفرون الخندق كبر: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر فسألوه، قال: ( لاح لي ملك أمتي في بلاد فارس شرقاً وغرباً )، فضحك المنافقون واستهزءوا وقالوا: أحدنا لا يستطيع أن يتغوط خارج بيته وهو يقول: ( ملك أمتي سيبلغ كذا وكذا ). وضحك لها اليهود، وتعاونوا مع المنافقين، وإذا بهذه تتحقق كما أراد الله، والله لقد ملكت هذه الأمة مملكة فارس والروم، وتحقق ما ذكر الله عز وجل وأراه رسوله صلى الله عليه وسلم، سيبلغ ملك أمتي كذا وكذا، انتهى إلى ما وراء نهر السند وإلى ما وراء الأندلس، تحقق هذا: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، فنزع ملك فارس والروم ووضعه في أيدي المسلمين أصحاب رسول الله، وأحفادهم وأولادهم.قال: [ ثالثاً: بطلان ألوهية عيسى عليه السلام، وثبوت عبوديته لله ورسالته وكرامته ]، أما الألوهية فله لا إله إلا الله، وأما كونه عبد الله ورسوله ووليه فنعم.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (5)
الحلقة (146)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تفسير سورة آل عمران (13)
الله عز وجل ولي المؤمنين، والمؤمنون أولياء بعض، ومن تمام هذه الولاية ألا يصرفوا شيئاً منها للكافرين، لا بمحبة ولا بنصرة؛ لأن الله عز وجل يحب المؤمنين وبذلك تكون موالاتهم واجبة، ويبغض الكافرين فتكون معاداتهم واجبة، ومن فعل غير ذلك فقد خرج من ولاية الله وصار عدواً له، وعرض نفسه لسخطه وأليم عقابه حين يصير إليه الخلائق يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم، ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين. وها نحن مع هذه الآيات الثلاث وما زلنا مع سورة آل عمران، تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:28-30].
النهي عن موالاة الكافرين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]؟إنه الله ربنا، منزل كتابه علينا، باعث رسوله فينا، الذي خلقنا ورزقنا، الذي أوجدنا بعد العدم، فأحيانا ثم يميتنا ثم يحيينا، الله الذي رفع السماء بغير عمد، وبسط الأرض على الماء فجمد، آياته الدالة على وجوده لا تعد ولا تحصى، فكل ذرة في الكون موجودة الله هو الذي أوجدها.اسمع هذا الخبر العظيم! لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، هذا نهي واضح صريح من الله لعباده المؤمنين -جعلنا الله تعالى منهم- أن نتخذ الكافرين أولياء لنا نحبهم وننصرهم، ونعرض عن المؤمنين أو نخذلهم ولا ننصرهم.(لا): ناهية، لا يحل أبداً لمؤمن ولا مؤمنة أن يتخذ كافراً أو كافرة، منافقاً أو منافقة، يهودياً أو نصرانياً، أن يتخذه ولياً له، ويترك المؤمنين لا يحبهم ولا ينصرهم. وهذا واضح بين. أيعقل يا عاقلين! أن نتخذ الكافرين أولياء نحبهم ونقف إلى جنبهم وننصرهم ونترك المؤمنين فلا نحبهم ولا ننصرهم؟ أيعقل هذا؟ كيف يتم هذا؟ لما كان الضعف البشري متأصلاً فالله عز وجل علمنا هذا، انتبهوا! لا يحل لمؤمن ولا مؤمن ولا مؤمنة أن يتخذ كافراً أو كافرة ولياً له. أي: يحبه بقلبه وينصره ويترك المؤمنين فلا يتخذ منهم ولياً ولا نصيراً.
معنى الموالاة
وتأملوا! (( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ))[آل عمران:28]، لا يحل، لا يجوز، ممنوع، حرام.يبقى: هل تذكرون أننا فسرنا البراءة والولاء؟ بلى تذكرون، وقد فسرنا ذلك: بالحب والنصرة، بالحب: والحب موطنه القلب، ومظاهره: الابتسامة، واللين والعطف والرحمة والعون والمودة.إذاً: والنصرة تكون بالسكين والرمح، بالكلمة والمال، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يوالي كافراً أو كافرة، حتى ولو كان الكافرة هو أبوه، ولو كانت الكافرة هي أمه، ولو كان الكافر شقيقه أو ابن أبيه أو أمه. لا يحل لك يا عبد الله المؤمن أن تحب بقلبك من كرهه الله وأبغضه الله وسخط عليه وإلا تناقضت مع سيدك ومولاك.. مع ربك وإلهك، فهو يكره أبا جهل وأنت تحبه؟! أليس هذا هو التناقض؟ أعلنت الانفصال عنه وما اعترفت به سيداً لك ولا مولى. الولاء والبراء: يجب أن نوالي المؤمنين وأن نتبرأ من الكافرين، ليس لهذه الآية وحدها، بل لآيات كثيرة متفرقة في هذا الكتاب الإلهي، منها: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ))[النساء:144]. ومنها: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:51] غيرها آيات كثيرة.إذاً: يجب أن نعلم: أن حب الله وحب ما يحب الله واجب، وأن كره ما يكره الله واجب، فإذا عرفت أن زيداً أو عمراً يبغضه الله ويكرهه؛ لأنه سب الله وكفر بالله، ولأنه حارب أولياءه، فيقيناً أن الله يكرهه، فإياك أن تحب هذا الكافر المبغض لله وإن كان أقرب قريب كالأبوين فلا أقرب منهما. وقوله من سورة المجادلة: (( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ))[المجادلة:22]، فما ترك بياناً بعد هذا. فهل أنتم مستعدون؟ قولوا: نحن عافانا الله ما عندنا يهود ولا نصارى بيننا، ولا مجوس ولا صابئة ولا مشركون.أقول: ومع هذا احذروا أن تحبوا من يكره الله، اعزم في صدق أنك لا تحب إلا من يحبه مولاك، وأنك لا تكره إلا من يكرهه مولاك، وعلى هذا تنتظم حياتك الربانية الصحيحة.
معنى قوله تعالى: (فليس من الله في شيء)
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]، الحب والنصرة، أحبوا المؤمنين وانصروهم على أعدائهم الكافرين، واكرهوا الكافرين ولا تنصروهم على إخوانكم المؤمنين.ثم جاء الاستثناء، فقال تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، لكن قبلها قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [آل عمران:28] منكم أيها المؤمنون فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، وولايتهم قطعت صلتها، كان ولياً لله بالإيمان به وتقواه، فلما والى أعداءه انقطعت ولاية الله عنه، وأصبح عدواً لله وليس ولياً له، فليس من الله في شيء، ما بقيت له صلة بالله؛ لأنه أحب ما يكره الله، ونصر من يخذل الله، ووقف موقفاً مضاداً لله. إذاً: ماذا بقي له مع الله؟ لا شيء.وأنتم تعلمون أن ولاية الله لنا تتم بشيئين: الإيمان الصحيح، والتقوى العامة، فمن والى أعداء الله ضد أولياء الله فقد انقطعت صلته بالله، ولم يبق له شيء فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28].اسمعوا الآية! يقول تعالى وهو يخاطبنا في صورة الغيب، لأن المؤمنين لا يحضرون كلهم في يوم واحد لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [آل عمران:28]، أي: يواليهم دون المؤمنين فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، ما بقيت له صلة بالله، وولايته التي كانت تربطه بالله انقطعت أسبابها وأصبح عدواً لله.
معنى قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)
قوله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، وقرئ: (إلا أن تتقوا منهم تقي)، التقى: بمعنى التقية، بمعنى: التقوى، إلا أن تتقوا أذاهم أو شرهم أو بلاهم بصورة من الصور الجائزة المسموح بها، هذه الصور الجائزة ليس معناها أنك تترك الصلاة، أو تشرب معهم الحشيش أو الخمر، وتقول: أنا اتقيت بلاءهم بهذا، وأن تساكنهم أو تعاشرهم، ما قال بهذا ذو علم أو بصيرة، بل تتقي منهم بالكلمة اللينة والعطف والعمل المادي، لا بأس أن تقدم إليه ماءً أو طعاماً، لا بأس أن تساعده على إصلاح دابته أو سيارته حتى ما تحمله على ضربك أو قتلك أو منعك من فعل الخير أو عمل صالح.
الفرق بين المداهنة والمدارة
تعرفون أن هناك فرقاً بين المداهنة والمدارة، يوجد فرق كبير بين المداهنة والمداراة، والعامة تقول: دارهم ما دمت في دارهم، ففرق ما بين المداهنة،والمدا راة، فالمداهنة حرام، والله يقول: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، فلا مداهنة بينك وبين الظلمة والكفرة، والفجار والمشركين.أما المداراة فتدخل تحت: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، هيا نعود بهذه الكلمة الليلة إن شاء الله، وهي أننا عرفنا كيف نداري وكيف لا نداهن؛ لأن المداهنة موت. والمدارة جائزة دل على هذا قول ربنا: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، نتقي أذاهم، شرهم، بلاءهم بالمدارة، بالمصانعة والمجاملة المعروفة عند الناس.قال الحكماء: المداهنة: أن تتنازل عن شيء من دينك. انتبه! تتنازل عن شيء من دينك لتحصل به على شيء من دنياك، تتنازل عن شيء من دينك يسقط عنك ويخرج منك؛ من أجل أن تحفظ شيئاً من دنياك، هذه هي المداهنة وهي محرمة.وأما المداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظ شيئاً من دينك.مثاله: جلست مع كافر وأنت مضطر إلى أن تجالسه؛ لأنك في بلاده وبين رجاله، وأنت بعيد الدار وغريب، وما تستطيع أن تفعل شيئاً. إذاً: اعمل بقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. كيف تصنع؟ إذا قال لك: يا فلان! أغلق الباب تقوم فتغلق الباب! يا فلان! أصلح لي السيارة؛ تقوم وتصلحها! يا فلان! أعد لي نعلي؛ فتعد له نعله وتحضره له. فأنت بهذا تداريه، فتتنازل عن شيء من دنياك. يا فلان! أقرضني ألفاً، أعطيني كذا فتعطيه من أجل أن تحفظ دينك، تعطيه من دنياك ما استطعت، وتداريه به من أجل أن تحفظ عليك دينك. هذه هي المدارة. أما أن تشرب معه الخمر المحرم في مجلسه، أو يسب الله والرسول فتضحك وتقول مثل ما يقول، فهذه ليست والله بمداراة، بل هي مداهنة. إذاً: المدارة جائزة، أذن الله فيها، وهي: أن تتنازل عن شيء من بدنك.. من مالك؛ لتدفع به عن دينك وتحفظ به دينك. والمداهنة: أن تتنازل عن شيء من دينك من أجل أن تحفظ شيئاً من بدنك ومالك.إذاً: المداهنة والمدارة غالباً ما تكون في ديار الكفر، أما بين المسلمين فليس هناك كافر تداريه أو تداهنه. نعم! قد يوجد بعض الفساق، بعض الفجرة أغنياء وأنت في حاجة إليهم فيحملك الضعف على أن تداريهم، لكن لا تداهنهم للحفاظ والحصول على ما تريد من المال فتشرب معهم الخمر، وتلعب معهم الكيرم والورق، ويسبون العلماء والحكام فتسب معهم حتى ما يفصلوك عنهم وحتى لا يحرموك، فهذه مداهنة فقد تنازلت عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك، وظيفتك أو مالك أو كذا.. ولا يحل هذا أبداً.أما أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظك دينك فنعم، هذا الفاسق الطاغية أصلح له نعله.. أصلح له سيارته، قدم له نعله ليلبسه، لا حرج، فهذا شيء من دنياك وليس من دينك تتنازل به، حتى تحفظ به شيئاً من دينك؛ وهذه هي المداراة. أما أن نتنازل عن شيء من ديننا لنحفظ شيئاً من دنيانا فهذه هي المداهنة الحرام: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، فلا مداهنة عندنا أيها المؤمنون، بل المداراة وهي المجاملة المصانعة، تتنازل عن أكلك وتعطيه يأكله حتى تقوم تصلي ولا حرج، أما أن تتنازل عن الصلاة لتأكل معه فلا نأكل أبداً ولكن نصلي.
جواز التعامل مع الكفار دون مودتهم ونصرتهم
نعود إلى الآية الكريمة نستنير بنورها، قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]. نعود إلى الوضع العام، هل يجوز لنا أن نتعامل مع بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا أو مع اليهود أو مع الأمريكان؟ أو مع الروس؟ لا. لا يجوز. لم؟ لأن الروس بلاشفة حمر، ملاحدة، يقولون: (لا إله). لا خير فيهم ألبتة، بخلاف أهل الكتاب والمشركين فهم يقرون بالله وبربوبيته.وهنا أذكر أن فضيلة للإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمة الله عليه لم يعترف بروسيا ولم يتبادل معها بسفارة في مملكته حتى تمزقت واحترقت. فلم ما فعل المسلمون هذا؟ جهال ما عرفوا. لم تعرف روسيا هذا البلد بسفارتها وقنصليتها حتى سقطت الآن واحترقت.أما أهل الكتاب كاليهود والنصارى فلا نتخذهم أولياء نحبهم وننصرهم دون المؤمنين لن يكون هذا، لكن نتبادل المنافع معهم، فهذا أمر مأذون فيه ومسموح به ولا جدال فيه ولا خصومة. إذاً: نتعامل معهم بالتجارة، بيعاً وشراء، نتعامل معهم بصناعة، كل هذا واسع وليس بمغلق أبداً، مع المحافظة على بغضهم لله، وعدم حبهم، ثم عدم نصرتهم على مؤمن أو مؤمنة. عندنا معاهدة بيننا وبين الإيطاليين نوفي لهم بمعاهدتنا، لكن لو حاربوا المؤمنين ننقض المعاهدة ونقاتل مع المؤمنين عدوهم الذي بيننا وبينه معاهدة. وانظروا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم -وقد درسنا هذا في السيرة النبوية- كانت بينه وبين اليهود معاهدة، جليلة -سبق وأن قرأنا بنودها- في هذه المدينة، بنو النظير، بنو قريظة، بنو قينقاع، عاهدهم وصالحهم، لكن ما إن نقضت قبيلة العهد حتى ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أول من نقض العهد هم بنو قينقاع.كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة سلم وعدم حرب، وتعاون بالمال على أداء الديات وما إلى ذلك، فلا ظلم، ولا اعتداء، ولا ولا.. فلما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في بدر في السنة الثانية من هجرته طاشت سهامهم، وامتلأت قلوبهم من الغيظ والحقد، وقالوا: يا محمد! لا تفهم أننا مثل العرب الجهال، تحاربنا وتنتصر علينا. هددوا، سكت صلى الله عليه وسلم. وإذا بمؤمنة جلبت شيئاً إلى السوق فباعت ومرت بصائغ يهودي تريد أن تشتري مصاغ ذهب أو فضة وإذا باليهود يسخرون بها، ويأتي يهودي من ورائها فيرفع خمارها حتى بدأت عورتها فصاحت: يا للمسلمين! فجاء مسلم فقتل اليهودي، وكشف اليهود عن عدائهم وعن تمزيق المعاهدة، وما هي إلا ساعات وقد طوقتهم رجال الله، واستسلموا، ورماهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج الجزيرة كلها، لأنهم نقضوا العهد، فلو بقوا على عهدهم إلى اليوم لا يضرهم شيء، ولكنهم نقضوا العهد.أيضاً: بنو النظير، بموجب المعاهدة الرسمية خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منهم مالاً حسب الاتفاقية أنهم يشتركون في الديات، وهم أيضاً لو أصيبوا بديات فالرسول يساهم فيها، وقد قتل مؤمن جهلاً وخطأ، فطلب أهله الدية، فخرج يطالبهم بشيء منها، فأجلسوه في ظل دار من دورهم على البنايات القديمة، وأخذوا يتآمرون عليه، كيف يقتلونه ويستريحون منه، وبالفعل جاءوا برحى مطحن، وصعدوا بها إلى السطح دورهم، وأرادوا أن يلقوها على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأعلم الله من طريق الوحي نبيه بذلك، فأخذ رداءه ومشى هو ورجاله ومن ثم نقضت بنو النظير عهدها ونقضوا عهدهم وأصبحوا حرباً، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن طوقهم، وبالتالي أذعنوا للجلاء عن المدينة، واقرءوا سورة الحشر ففيها هذا البيان: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2]، فما إن خرجت خيل الله حتى استسلموا.إذاً: خرجوا وحملوا أموالهم وأولادهم ونساءهم حتى أخشاب المنزل كانوا يأخذونها، الأبواب أخذوها. المهم اذهبوا أيها المخذولون والتحقوا بالشمال من خيبر إلى الشام.أيضاً: بنو قريظة اتفاقيتهم ثابتة حتى جاءت الأحزاب، وفهموا أن الأحزاب سوف ينتصرون على الرسول والمؤمنين، وجاء من راودهم وطمعهم فما هي إلا ليلتان أو ثلاث ونقضوا العهد، وانتهت الحرب مع الأحزاب وأجلاهم الله وأبعدهم بتلك الآية العجيبة: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا [الأحزاب:9]، اقتلعت الخيام وأكفأت القدور، وما كان من المشركين إلا الهرب، فلما هربوا وعاد الرسول مع رجاله، ما زالوا يغتسلون من التراب والغبار والآلام خمسة وعشرين يوم وهم في البرد والجوع والآلام، وإذا بجبريل على فرس يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ( أو ضعت السلاح يا محمد؟ نحن ما وضعنا السلاح فهيا إلى بني قريظة، وأذن مؤذن رسول الله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ) فلما طوقهم الرسول بجيشه وحاصرهم احترقت قلوبهم من الغيظ، واستسلموا ورضوا بحكم سعد بن معاذ ، قالوا: رضينا بحكمه، ولو رضوا بحكم الله عز وجل ما كانوا يقتلون، قالوا: لا رضينا حكم سعد فينا؛ للصلة التي كانت بينهم في الجاهلية، فحكم سعد رضي الله عنه بقتل رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لقد حكمت بهم بحكم من في السبع )، فوق سبع سماوات. هنا وأظن في طرف المسجد حفر لهم حفرة كبيرة وكان يضرب الرأس ويلقى في الحفرة سبعمائة رجل، والنساء رحمة الله بهن والأولاد أصبحوا مسلمين.إذاً: المعاهدة، نحن أحق بالوفاء بها من اليهود والنصارى، والكافرين والمشركين؛ لأننا أحياء ربانيون، وهم أموات شياطين مخذولون، لن نكون مثلهم في الخيانة.أقول: المعاهدة إذا احتاج إليها إمام المسلمين بل حتى قائد معركة، إذا احتاج إلى مهادنة.. إلى مصالحة.. إلى مدة محدودة.. معاهدة، فقد أذن الله تعالى فيها وأذن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن مع ذلكم الشرط العظيم، لا حب ولا نصرة أبداً، لا نحب يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً ولو كان هاشمياً قرشياً أبداً؛ لأن قلوبنا لله فيها حب الله، فلا يجتمع مع حب الله حب أعدائه، فلا حب ولا نصرة على المؤمنين. بيننا وبين بريطانيا معاهدة سلم وعدم حرب وبيننا تجارات و.. و.. فلو أعلنت بريطانيا الحرب ضد شعب مسلم تنقطع تلك الصلة، ونقاتلها مع إخوننا المؤمنين.وهكذا يا أبناء الإسلام! اعلموا أنه لا يحل للمؤمنين أن يحبوا الكافرين ولا أن ينصروهم، هذا حرام، أما أن تتعامل مع يهودي أو نصراني فلا شيء في ذلك أبداً. تذكرون الولد اليهودي الذي يخدم نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمرض فزاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه الإسلام ( قل: أشهد أن لا إله إلا الله تنجو من النار. فخاف من والده، فقال له والده: أطع أبا القاسم )، لو كان حب الكافر يجوز لأحببت أنا هذا اليهودي، لبصيرته، أطع أبا القاسم، عرف أنه إذا شهد شهادة الحق دخل الجنة، ومع هذا هو مصر على الكفر فقال له: أطع أبا القاسم، فتشهد الغلام وفاضت روحه، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار ).إذاً: عرفتم المداهنة والمدارة، وعلمتم أن الجائزة هي المدارة، وأن الممنوعة هي المداهنة.الجائز هي المداراة، والمدارة حقيقتها: أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظ شيئاً من دينك. تخدم الكافر، تقدم له الطعام الشراب، تحمله على ظهرك لتصل به إلى المستشفى، من أجل أن تبقي دينك. أما المداهنة: أن تتنازل عن دينك ليحبك الكافر أو يكرمك أو لا يضر بك أو لا يهينك، وهي محرمة.هكذا نعيد تلاوة الآية الكريمة، ونواصل دراستها، قال تعالى وقوله الحق: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] خاصة معينة مدارة للإبقاء على جسمك سليماً ودينك معافى.
معنى قوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير)
ثم قال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]، يا عباد الله! الموقف خطير ليس بهين، فالله بعد هذا البيان يحذرنا أن نعصيه ونتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28] إن سلمتم اليوم من بلاء أو شقاء فمرجعكم إلى الله وينزل بكم العذاب، فلا تعتزوا اليوم بقوتكم فإلى الله لا إلى غيره مصيركم ومرجعكم. الأمر عظيم! يحذركم الله نفسه أن تعصوه وتخرجوا عن طاعته وتوالوا الكافرين وتتركوا المؤمنين، فموالاتنا يجب أن تكون للمؤمنين، أولياء الله، نحبهم ونقاتل معهم وننصرهم، لا أن نحب الكافرين ونقاتل معهم ضد المؤمنين والمسلمين.
حكم إعانة الكافر المعاهد في قتاله مع عدو آخر كافر
تنبيه: لو كان بيننا وبين دولة اتفاق أن نقاتل من يقاتلها، وتقاتل من يقاتلنا، وأعلنت الحرب بينها وبين دولة أخرى، ننظر إذا كانت الدولة مؤمنة انتهت العقدة وانحل الرباط ولا نقاتل معها إخواننا، بل نقاتل معهم إياها، لكن لو قاتلت دولة كافرة اعتدت عليها بلجيكا اعتدت على هولندا، ونحن بيننا وبين بلجيكا عهد، فلا مانع أن ننفذ الاتفاقية ونعاونهم على عدوهم؛ لأنه كافر وليس بمسلم، لكن إذا كان بينهم وبين المؤمنين عرباً أو عجماً فلا موافقة ولا متابعة.
تفسير قوله تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله...)
قال تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29] .يزيد تعالى فيقول اسمعوا! قُلْ [آل عمران:29] لهم يا رسولنا قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:29] من حب الكافرين والمشركين أو تظهروه يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]. أمر عجب! يا عبد الله! طهر قلبك من حب الكفار وإن كانوا من أقاربك، ولا تتظاهر بأنك تكرههم وأنت تحبهم فالله مطلع على قلبك. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:29] من حب وبغض أَوْ تُبْدُوهُ [آل عمران:29] وتظهروه، يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]، لا يعجز الله شيء. ما رأينا ممنوعاً تتابعت الآيات فيه كهذا؛ لأن حبك الكافر والله يحملك على أن تكفر، أقسم بالله إذا أحببتهم وداهنتهم لابد أن تصبح مثلهم يقيناً، فلهذا الحد الفاصل هو: لا حب ولا ولاء لهم أبداً.
تفسير قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً...)
يقول تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].انتقلوا عن هذه الدار الضيقة إلى الدار الواسعة، لا تفهموا أنكم مضطرون وأنكم وأنكم.. فتداهنون الكفار، وتنسون لقاء الله عز وجل، وتبطنون الحب وتظهرون البغض لهم، فالله مطلع على ما في القلوب ما ظهر وما بطن. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران:30] بين يديها، وقد عرفنا أن المرء إذا قتل ظلماً وعدواناً يرى نفسه أمامه وفي يده مسدسه أو رصاصة ليقتل به لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، الآن شاشات الفيديو والتلفاز نهت هذه المشكلة العويصة لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، فاعل الخير يرى نفسه هكذا يفعله، وفاعل الشر يرى نفسه وهو يباشر الشر ويفعله، فكيف ينكر والله يقول: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ [آل عمران:30] بيضاء أو سوداء، في الأولين أو الآخرين، مؤمنة أو كافرة مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]،أي: مسافات لا تعد، كل نفس عملت سوء تود عندما تشاهد ذلك السوء أن لو كان بينها وبينه آماد لا حد لها.يقول تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، ما زال السياق متصلاً، يحذركم الله من نفسه، احذوا الله، خافوا عقابه وعذابه، وقد يكون في الدنيا وقد كان، وقد يكون في الآخرة وسيكون. وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، نعم هذا المختم الذي ختمت به الآيات، لو ما قال هذه، لكانت القلوب تطير من الخوف والفزع، لكن قوله: رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، رءوف بالعباد رحيم، ومن آثار رحمته ورأفته بهم: هذه التعاليم، فلو تركنا نوالي الكافرين ونودهم ونتعايش معهم فنصبح مثلهم، ويصبح مصيرنا مصيرهم، إلى جهنم، لكن رحمة الله ورأفته أنه يخاطبنا، يبين، يفسر، يؤكد، كل هذا من مظاهر رحمته، ولو أراد شقاءنا وعذابنا لا ينزل هذه الآيات ولا يبين فيها حكمه.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
الآن نعود إلى الآيات، قال تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28] انقطعت صلته بالله عز وجل ويا ويله يومئذٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، وهي المداراة، وهذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يدخل عليه المنافق، فيحاول أن يبتسم في وجهه فلما قالت له عائشة لم؟ قال: ( إنا لنكشر في وجوه قوم وقلوبنا تبغضهم ). إنا لنكشر في وجوه أناس وقلوبنا تبغضهم؛ لأنهم منافقون، يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، لكن لابد من هذا، ما أعلنوا عن كفرهم، يبتسم في وجوههم وهو لا يحبهم، وهذا شأن المؤمنين مع الفساق والفجار والظلمة والمعتدين، قد تضطر إلى أن تبتسم وتلين له القول له، ولكن قلبك ليس فيه حبهم ولا ولاؤهم، إذا لا تحب إلا ما يحب الله. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ [آل عمران:29]، هذا عام في الخير والشر، إياك أن تفهم أنه بإمكانك أن تخفي حبك أو بغضك، انتبه! فإن قلبك يقلبه الله، وهنا فلنذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء )، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم في السجود: ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى دينك )، فلا يحفى على الله شيء، تستطيع أن تخفي عن الناس ما تخفيه لكن بالنسبة إلى الله فمن المستحيل هذا، فهو خالق قلبك، بل عرف ما تريد أن تخفيه قبل أن يوجدك قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]، وإذا علمه يجازي به وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]، إذا يوجد بعض المرضى يوالون بعض العائلات والأسر الكافرة ويضحكون معهم ويشربون، ويتركون الصلاة، مداهنة لهم، ويظنون أن المسلمين لا يعرفون عنهم، ولا يدرون، ولكن الله يدري والله مطلع؛ إذ يعلم ما في السماوات وما في الأرض.انتبهوا! قد توجد أسر بيننا من أهل الذمة فيأتيهم المؤمن ويضاحكهم ويسب معهم وكذا.. ويقول: من يعلمني؟ فالله عليم، فوق ذلك يقول يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30]، تدرون ما السوء هذا؟ كل ذنب هو سوء، كل ما يسيء إلى نفسك فيصبها بالظلمة أو بالعفن والنتن فتكون كأرواح الشياطين، فهو ذلكم السوء يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ [آل عمران:30] تحب لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]، لا يراه ولا تراه.معاشر المؤمنين! الآن قد عرفنا المداراة والمداهنة فإياك يا عبد الله وإياك يا أمة الله أن تداهني، لكن لا بأس أن نداري؛ لأن المدارة أن نتنازل عن شيء من بدننا من مالنا؛ لنحفظ ديننا، أما أن نتنازل عن شيء من ديننا، أصلي بدون وضوء، أشرب الخمر مع اللاهين، أسب العلماء والصالحين مع السابين من أجل الإبقاء على وظيفتي أو على كرامتي بينهم؛ لا لا.. فالمداهنة هي الموت، والآية كما سمعتم وَدُّوا [القلم:9] منهم؟ المشركون لَوْ تُدْهِنُ [القلم:9] يا رسولنا، أي: تداهن فيداهنوك، فلا تداهنهم، ما كان أبو القاسم يداهن مشركاً أو كافراً، وما يتنازل عن شيء من دين الله من أجل إرضاء فلان أو فلان. إذاً: الحمد لله، عرفنا شيئاً كبيراً.
أحكام زكاة الفطر
وجوب زكاة الفطر
عندنا سؤال: ما حكم صدقة الفطر؟الجواب: الوجوب، للحديث الصحيح في الموطأ، يقول ابن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ). هل عرفنا فائدة في القرآن تتعلق بزكاة الفطر وصلاة العيد؟ الجواب: نعم، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، فهذا اللفظ القرآني يشمل والله زكاة الفطر وصلاة العيد، والتكبير من المنزل إلى المصلى، فلا تفوتنا هذه، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15].
مقدار زكاة الفطر
هل عرفتم مقدار زكاة الفطر؟الجواب: صاع. ما هو الصاع هذا؟ الجواب: ما يعادل كيلوين وربع، وأصل الصاع أربع حفنات بحفنة الرجل الفحل، ما هو القزم القصير مثلي.إذاً: الصاع أربع حفنات بحفنة الرجل الفحل أو على الأقل المتوسط، أربع حفنات مملوءة، زنها في الميزان تجدها كيلوين وربع، وقد يختلف الوزن، لأن هناك أشياء خفيفة وأشياء ثقيلة فالتمر ثقيل والشعير خفيف. من أي طعام تخرج زكاة الفطر؟أبو القاسم بين أنها من التمر.. الشعير.. الأقط -وهي الزبدة اليابسة، أو اللبن الجاف وهو من المطعومات- ولم يذكر القمح لأنه ليس عندنا قمح فقال: ( من تمر، أو شعير، أو أقط ) أو أرز القمح في بلاد الشام، لكن لو وجد القمح فهو أولى، لكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والرز من باب أولى، الآن موجود وسهل وهين، أغلب القوت الرز. والفقهاء يقولون : تخرج من غالب قوت أهل البلد، تخرج زكاة الفطر من غالب قوت أهل البلد، والرز عندنا هو الغالب.إذاً: عرفتم من أي شيء تخرج الزكاة، من التمر، القمح، الشعير، الأرز، الأقط.
حكم إخراج زكاة الفطر من النقد
وهنا سؤال: الدراهم والدنانير دراهم الفضة، ودنانير الذهب، هل تخرج منها ؟ الجواب: يوم أن أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحكم ونشره بين رجاله يوجد عندهم دينار درهم يوجد قطعاً، والله موجود، لكن -أولاً- ما كان يومئذ بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم مطاعم أبداً، ولا مخابز، فإن أنت أعطيته ربع درهم أو ربع دينار ماذا يصنع بها؟ سيظل جوعان لا مطعم ولا خبز ولا ولا.. كيف يصنع؟ إذاً: أعطه التمرات يتغدى ويتعشى بها، أعطه الخبز والدقيق، الشعير يطحنه، فمن ثم عدل أبو القاسم ورجاله عن الدينار والدرهم إلى التمر والشعير.فمن هنا أفتى العلماء وهو ما نقرره: إذا كان المسلم في بلد لا يقبل فيها رز ولا تمر ولا بر ولا شعير ولا أقط، يتعين عليه أن يخرجها بالدينار والدرهم، ولا يقول: مع الأسف، ما وجب علينا شيء؛ لأن الذي فرض الرسول صلى الله عليه وسلم ما عندنا، سقطت عنا زكاة الفطر. الجواب: ما سقطت، بل وجبت، أخرج قيمتها ديناراً أو درهمين. أما في البلد التي يوجد فيها الطعام فلا نستبدل بها الدينار والدرهم عملاً بتوجيه رسول الله وهدايته. ومن جهة أخرى: زكاة الفطر مطهرة للنفس، وورد أن الصيام معلق قبوله بها، فمن هنا فهي عبادة لا تزكي النفس إلا إذا كانت كما بينها الشارع ووضعها، فهذا هو الذي ينبغي أن نقوله ونعمل به.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (6)
الحلقة (147)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تفسير سورة آل عمران (14)
محبة الله عز وجل ليست أمراً يدعيه كل أحد دون أن يقدم عليه الأدلة والبراهين، وقد بين الله عز وجل أن من أدلة محبته سبحانه وتعالى اتباع ما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى والرشاد، فمن فعل ذلك فهو محب لله سبحانه وتعالى، بل ومستحق لمحبة الله، ومن تولى وأبى فإن الله لا يحب القوم الكافرين.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنين الكافرين أولياء من دون المؤمنين ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن ضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وقد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين ونحن ما زلنا مع آيات سورة آل عمران، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31-32].وقبل الشروع في دراسة هاتين الآيتين المباركتين أعيد إلى أذهانكم ما جاء في الآيات قبل هاتين، وإليكم تلاوة الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس ، ونتذاكر ما سبق أن علمناه منها، قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أي: السوء أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:28-30].
هداية الآيات
إليكم هداية هذه الآيات الثلاث:قال المؤلف غفر الله لنا وله:[ من هداية الآيات: أولاً: حرمة موالاة الكافرين مطلقاً] حرمة موالاة الكافرين سواء كانوا من أهل الكتاب أو المشركين، فموالاتهم محرمة تحريماً مطلقاً بلا قيد. هل تعرفون معنى الموالاة المحرمة؟الموالا ة المحرمة: هي حب الكافر ونصرته، فمن أحب الكفار بقلبه كما يحب نفسه وربه وأولياء الله المؤمنين ثم نصرهم على المؤمنين، فهذه موالاة محرمة، بل هي كفر.وهذه هي عقيدة الولاء والبراء التي يتغنى بها كثير من الناس ولا يعرفون معناها، والولاء: الحب والنصرة، فلا يحل لمؤمن أن يحب كافراً ولو كان أباه، ولو كان ابنه، ولو كان أحد أفراد عشيرته، فإن أحبه رحل حب الله من قلبه، وقد قال تعالى في سورة المجادلة: ((لا تَجِدُ)) يا عبد الله لو كنت طالباً (( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ))[المجادلة:22]. وهذا كلام الله، فلو بحثت بما أوتيت من قدرة على العلم ما وجدت ولن تجد عبداً آمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان يواد من يحاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب.إذاً: من هداية الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس كما قال المؤلف غفر الله لنا وله:[ أولاً: حرمة موالاة الكافرين مطلقاً] وموالاتهم ليس معناه: أن يجوع أحدهم فتطعمه، أو يعطش فتسقيه، أو يمرض فتداويه، أو يتعب فتحمله، لا، فهذه ليست هي الموالاة، ليس من الموالاة أن تتعاون معه في سفر من الأسفار أو تبني معه جداراً، أو تغرس معه بستاناً.. ليست هذه الموالاة، بل الموالاة: أن تحبه وتنصره على الله والمؤمنين. هذا هو الولاء والبراء.قال: [ ثانياً: موالاة الكافرين على المؤمنين ردة وكفر وبراءة من الله تعالى] الذي يقف إلى جنب اليهود ويقاتل معهم المسلمين كافر، والذي يقف إلى جنب بريطانيا أو روسيا وهم يقاتلون المؤمنين ويقاتل معهم المؤمنين كافر مرتد ليس بمؤمن.وهنا -للعلم- إن كانت بيننا وبين أمة كافرة معاهدة -كما عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة ضد قريش- إن كانت بيننا وبين دولة كافرة معاهدة سلم وعدم اعتداء وحرب، وكان من بنود المعاهدة: أننا نقف إلى جنبهم إن اعتدى عليهم معتد ويقفون إلى جنبنا إن اعتدى علينا معتد، هنا إذا كان الذي اعتدى عليهم كافر قاتلنا معهم هذا الكافر وفاء بالعهد الذي بيننا وبينهم، وإن قاتلهم مؤمن أو قاتلوا مؤمنين فلا يسمح لنا ربنا بهذا، بل نقف، ومن أراد أن يقف على هذه فليقرأ خاتمة سورة الأنفال، وكذلك ما جاء في سورة التوبة، وفي سورة النساء يقول الله: (( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُم ْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ))[النساء:90].وهذا إذا اضطررنا إلى أن نصالح كافراً كتابياً أو مشركاً، وقد صالح الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً صلحاً لمدة عشر سنوات، وتنازل فيه عن أشياء يغمى علينا لو نذكرها، ليحفظ لهذه الأمة دينها ولتنتشر دعوة ربها بين الناس، وهي معاهدة صلح الحديبية وسماها الله فتحاً، تنازل فيها عن بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن ممثل قريش وسفيرها سهيل بن عمرو رضي الله عنه لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل : لا، ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم، فضج الصحابة ، فقال: اسكتوا أنا رسول الله، وكتب باسمك اللهم.رفض بسم الله الرحمن الرحيم هذا الكافر وتنازل الرسول؛ لأن التنازل لا يضر شيئاً فالله هو الرحمن الرحيم يقولونها أو لا يقولونها؛ وذلك ليتم صلح ترفع به تلك الشدة وذاك الحصار على المؤمنين، فيتجولون في الجزيرة، ويتاجرون، ويبقى الباب مفتوحاً لمن أراد أن يعرف الإسلام فيدخل المدينة ويتعرف لذلك. ولما قال له: اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله. قال سهيل : لو عرفناك رسول الله ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله. وتنازل رسول الله، وكتب: محمد بن عبد الله.وهذه الأمور يرجع فيها إلى كتاب الله وسنة رسول الله لا للأفكار والأوهام والتخمينات، فموالاة الكافرين على المؤمنين ردة. كيف تقف إلى جنب الكفار تضرب المؤمنين وتطعن وتقتل وتقول أنك مؤمن؟! من يقبل منك هذا الإيمان؟! قال: [ ثالثاً: جواز التقية في حال ضعف المؤمنين وقوة الكافرين].والتقية والتقية: كلمات تتقي بها ظلم هذا الكافر.. كلمات تقولها تلين بها جانبه وترقق بها عواطفه. قل لهم: يا سيادة فلان ولا حرج، وبالإنجليزي (مستر)، لا بأس، أما أن تناديه: يا كلب فسيصفعك وستصرخ ولن ينجدك أحد، فكل من حولك يهود ونصارى. لم هذا؟ لتتقه، أصلح له نعله.. سيارته وقفت فتدفعها معه.. أو تفتح له حتى باب السيارة، هذه تعاليم رب العالمين، (( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ))[آل عمران:28] تقون بها أنفسكم بلاء الكفار وعذابهم ونقمهم؛ لأنهم لا قلوب لهم، أموات غير أحياء لا يرحمونكم، فإذا كنت بينهم ضعيفاً فاتقهم بشيء، لكن ليس بأن تسب الله أو رسوله، أو تسخر من كتاب الله، أو تترك الصلاة، أو تشرب الحشيش والخمر، أو.. أو..، وإنما تتقيهم بما هو جائز أن تتقي به، تغضبهم وتسخطهم في قلبك، ولكن لا تسبهم ولا تسب دينهم، لا.. لا، وهكذا حتى لا يؤذوك ويذروك وأنت عاجز. من شرع هذه التقية؟ ربي رحمني وعرف ضعفي، فإذا كنت بين كفار علمني أنه لا بأس أن نتقيهم بالكلمة والحركة المحمودة، أما في حالة التعذيب فذلك شيء آخر، فلو قالوا لك: اكفر بالله نرفع عنك السيف، أو المنشار الذي ننشر به فيجوز أن تقول كلمة الكفر باللسان وقلبك لا يتغير، وقلبك مطمئن بالإيمان.وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بـعمار بن ياسر وهم يعذبونه ويقولون له: اذكر آلهتنا بالخير، واذكر محمداً بسوء نطلقك ونرفع العذاب عنك، فيأبى أن يقول: فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أعطهم يا عمار . ونزل في ذلك قرآن يتلى إلى اليوم إذ قال تعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ))[النحل:106] الآية.قال: [ رابعاً: وجوب الحذر من عذاب الله تعالى وذلك بطاعته].كيف تحذر عذاب الله؟ بأي شيء؟ بالسور أم بتحت الأرض؟ الجواب: بالطاعة، فمن أطاع الله فيما أمره ونهاه نجا من عذاب الله ومقته وغضبه. أما قال تعالى: (( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ))[آل عمران:28] كيف نحذر إذاً؟ نطيعه، قال: صم، صمنا، قال: أفطر، أفطرنا، هذه هي الطاعة.[ خامساً: خطورة الموقف يوم القيامة، ووجوب الاستعداد له بالإيمان والتقوى؛ إذا قال تعالى: (( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ))[آل عمران:30]].إن شاء الله علمنا الآن ووالله لهو خير من خمسين ألف ريال، من عرف هذه الحقائق الشرعية العلمية لأن يعود بها واعياً بصيراً عازماً على العمل والدعوة خير له من خمسين ألف ريال فليس هناك فرق كبير بين قرص العيش وحفنة التمر، وبين المشوي والمطلي والمصلي.. فالمقصود هو امتلاء البطن ليقوم البدن بواجبه، وهو عبادة الله بذكره وشكره.
الفرق بين المداراة والمداهنة وذكر حكمهما
نضيف إلى هذا العلم: الفرق بين المداراة والمداهنة، والمداراة جائزة والمداهنة ممنوعة، ويكفي في منع المداهنة قول الله تعالى من سورة القلم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9] إذاً: فلا تدهنوا أنتم حتى يداهنوكم هم.والفرق بين المداراة والمداهنة:أن المداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظ شيئاً من دينك، وهنيئاً لك.تتنازل وتعطي شيئاً من دنياك من أجل أن تحفظ به دينك، تعطيهم دارهم ما دمت الدارهم موجودة ولا حرج.. تتنازل عن شيء من دنياك فتعطيهم البترول كاملاً من أجل أن تحفظ دين الله عندك، والله جائزة وهي مداراة وليست مداهنة.والمدارا هي المصانعة والمجاملة بلغة العصر، وحقيقتها: أن تتنازل عن شيء من دنياك ذهباً كان أو فضة، طعاماً أو شراباً، مركباً أو كذا من أجل أن تحفظ دينك، فهذه جائزة ؛ لأننا خلقنا للدين فكيف نضيعه؟ والمداهنة الحرام: أن تتنازل عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك، وقد مثلنا لذلك بالرجل يريد وظيفة، وصاحب العمل سكّير -مثلاً- فيأتيه وبراد الخمر بين يديه ليعمل عنده فتداهنه أو تشرب معه فلا تقول: حرام ولا ولا.. خشية أن يغضب عليك ولا يوظفك! فتشرب معه وأنت تضحك مطمئن النفس، وإذا دقت الساعة حي على الصلاة.. حي على الصلاة المؤذن يؤذن وتقوم تصلي فيغضب عليك فلا تصلي، وتقول: أقضيها..هنا تنازلنا عن شيء من ديننا من أجل دنيانا، وهذه هي المداهنة الحرام.والمداهن ممقوتة فكيف تتنازل عن دينك من أجل أوساخ دنياك؟! أما المداراة فجائزة فلك أن تتنازل عن دنياك بكاملها من أجل دينك، لا بأس، بل فزت لأن الدين هو عماد حياتك وسلم رقيك إلى الجنة دار السلام.معاشر المستمعين والمستمعات! لما سمعت أنا هذه من عالم رحمة الله عليه، لا تستطيعون أن تقدروا ما شعرت بأنني غنمته، والله لن تستطيعوا. إذاً: عرفنا الفرق بين المداهنة والمداراة فنداري للحفاظ على ديننا، ولا نداهن من أجل أن نحفظ دنيانا، لا والله لو خرجت كلها ما نكفر من أجلها.
تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ...)
قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].وهذا خطاب لوفد نجران من النصارى، وفي بداية السورة علمنا -نحن الذين نحضر هذا النور زادنا الله منه- أن هذه السورة نزل آخرها قبل أولها، سورة آل عمران آخرها نزل قبل أن ينزل أولها، ولا حرج، تنزل السورة ويبقى منها آيات وبعد سنتين أو ثلاث سنين تنزل الآيات وتوضع فيها، وتوافق اللوح المحفوظ بلا تقديم ولا تأخير بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22] كما هو الآن هو هناك.هذه الآيات في هذه السورة وهي نيف وثمانون آية من الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2] إلى آخر آية تتعلق بوفد نجران، هذه الآيات نزلت في وفد نجران، نجران منطقة معروف في المملكة تقع إلى جنوب مكة، كان فيها نصارى مسيحيون متصلبون وعلماء يستمدون قواهم من الروم، على صورة المسيحية.وقد جاء وفدهم المكون من ستين راكباً على الخيول أبهة؛ لأن من ينظرون إلى العرب وهم جهلة كفار تحت أقدامهم وهؤلاء أقوياء، نزلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وما يوجد فندق ولا مطعم فوزعهم على أهله وإخوانه ليستضيفوهم وسمح لهم أن يصلوا في المسجد أيضاً.وهنا نستطرد: كان في السوربون جامعة في باريس عالم من الرهبان يسمى طرطار، وكنا يومها في الدعوة في باريس، فكتب كلمة في جريدة لوموند العالمية الفرنسية يشتكي بالمملكة ويتألم ويقول: لم يمنعون إخواننا من إقامة شعائر دينهم في المملكة ونحن نسمح بالمساجد في كل مكان في ديارنا؟يعني: العمال الموجودين في المملكة من الفرنسيين ما تسمح لهم الحكومة بإيجاد كنائس ونحن سمحنا بالمساجد، وفرنسا فيها ثلاثة آلاف مسجد والحمد لله.فرددت عليه بالعربية وترجمت وقلت له: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83].فقلت له: اسمع! المملكة تعتبر بيضة الإسلام وقبته، تعتبر مسجداً، أما خارج المملكة فتوجد كنائس في الشام.. في العراق.. في مصر.. في الجزائر.. في بلاد العالم، وأهل ذمة لهم كنائسهم، لكن المملكة تعتبر مسجداً.أيعقل يا مستر طرطار أن تبنى كنيسة في مسجد؟! أو يبنى مسجد داخل كنيسة؟من يقول بجواز هذا؟! فأفحمته، وعرف أن هذا غير معقول، فالمملكة عبارة عن مسجد؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ممنوع ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) خارجها توجد أديان. فكتب مرة ثانية -وهو الشاهد- وقال: وفد نجران سمح لهم رسولكم أن يصلوا في المسجد. احتج بهذه.فقلنا له: أذن لهم لأنه يستألفهم وينظر ماذا يبدو منهم، علهم يسلمون. هذا من جهة.ومن جهة أخرى: الشريعة نزلت في ظرف ثلاث وعشرين سنة ويوجد حكم اليوم وينسخ غداً، فنسخ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بقوله قبل وفاته: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) فنسخ ذلك الحكم. وقلت له: لا تغضب. فكتب في المرة الثالثة يقول: إخوان لنا في جدة قاموا بقداس في بيت أحدهم فطوقتهم الهيئة وحاصرتهم، وسفروهم، فقلت له: لا. هذا ليس بغريب، فإخواننا المسلمون الموحدون أهل لا إله إلا الله إذا ضبطوا في بدعة طوقتهم الهيئة وسفرتهم، وليسوا الفرنسيين فقط. المهم انقطع مستر طرطار، وسليناكم قليلاً والمناسبة هي ذكرنا وفد نجران فهيا مع وفد نجران.اسألهم: لم أنتم تعبدون عيسى وأمه؟ سيقولون: لا. نحن بجلناهم، عظمناهم، ألهناهم من أجل أن يحبنا الله لا لذاتهم، نحن نعرف أن مريم مخلوقة، وعيسى كذا.. ولكن من أجل أن نظفر ونحصل على حب الله عز وجل العليم الحكيم قدسنا عيسى وأمه.فكان الله مع رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: تعال اسمع: قل يا رسولنا قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] أنتم تقولون أنكم ما قدستم مريم ولا عيسى إلا من أجل أن يحبكم الله ومن أجل الظفر بحب الله فإليكم الطريق الواضح أطيعوا رسولنا يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم أيضاً.
الحكمة من الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. الآمر: هو الله. والمأمور بأن يقول ذلك: هو رسوله صلى الله عليه وسلم. والقول: إن كنتم -كما تزعمون- ما عبدتم عيسى وأمه إلا من أجل حب الله فإليكم الطريق الموصل إلى حب الله وهو: أن تطيعوا الله ورسوله، وأن تتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم فيحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. وقد تقول: أراد الله أن يرفع من شأن نبيه ففرض على من يحبه أن يطيعه ويتابعه، فنقول: لا لا يا بني، فاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشي وراءه باعتقاد ما يعتقد وقول ما يقول وفعل ما يفعل، هذا الاتباع من شأنه أن يطهر الروح البشرية ويزكي النفس الإنسانية، فإذا زكت الروح طابت النفس وأحبها الله.ليست القضية أنه أراد أن يذل الناس لرسوله حتى يتابعوه، والله ما هي هذه، بل أراد أنكم إن اتبعتم رسولنا فعبدتم الله بما شرعنا زكت نفوسكم وطابت أرواحكم، والله طيب يحب الطيبين.هذا هو سرها، لم تفرض عليهم متابعة الرسول إلا ليحبهم الله من أجل أن تطهر أرواحهم وتزكو نفوسهم، فإذا طابت وطهرت وزكت أحبها الله؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.فإن كنت تريد أن يحبك الله فوالله لا طريق لك إلا أن تزكي نفسك فيحبك. هل تزكيها بالماء والصابون؟ بماذا تزكيها؟ بالبدع والخرافات، بالرقص والشطح؟ تزكي النفس بماذا؟ بالمواد التي وضعها الحكيم العليم، إن استعملتها بالكمية المعروفة والعدد المحدود والزمان والمكان المخصص أنتجت لك طيبة نفسك وطهارتها، ويستحيل أن تطيب نفسك بغير ما جاء به رسول الله من هذه العقائد الصحيحة والعبادات المشروعة، فتأملوا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فعبدتم المسيح وأمه لأجل ذلك فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31]فأنا رسول الله يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].ما السر في كونهم إن تابعوه أحبهم الله؟ من يبين لنا؟ الذي ما عرف هذه لا يحل له أن يخرج من المسجد الليلة حتى يعرفها فليست صعبة.الجواب: لأن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لازم حتى يحبك الله، والله إن لم تتبعه ما أحبك الله أبداً، وإن أردت أن يحبك الله فاتبع رسوله بأن تسير وراءه لا أمامه ولا عن يمينه ولا شماله، بل وراءه تقول ما يقول، وتفعل ما يفعل، وتترك ما يترك، وتنام كما ينام، وتصلي كما يصلي.. فهذا هو الاتباع وإن شاء الله تكونون قد فهمتم هذه والحمد لله.
ليس الشأن أن تُحِب بل الشأن كل الشأن أن تُحَب
عندنا لطيفة أخرى وهي: ليس الشأن أن تُحِب، إنما الشأن أن تُحَب.. ليس الشأن كل الشأن أن تُحِب أنت، بل الشأن أن تُحَب، فإذا أنت تحب الله بكل قلبك وهو لا يحبك ما استفدت شيئاً، بل في جهنم مع أعدائه، فليس الشأن أن تُحِب أنت وإنما الشأن أن تُحَب.ومن أمثلة العرب: أنت تتغنى بحب ليلى وليلى لا تلتفت إليك، فلا يجديك حبك هذا، بل يحرقك، تتغنى وليلى تكرهك فما استفدت، فليس الشأن أن تُحِب، إنما الشأن أن تُحَب.وهنا الغافلون والجاهلون يتغنون بحب الله ويرقصون ويأتون بالبدع والخرافات، ويقولون: نحب الله! وهذا باطل، فليس هذا هو الذي يحبكم الله من أجله، فأنتم تحبونه وهو لا يحبكم فماذا استفدتم؟! إن أردتم أن يحبكم الله فزكوا أنفسكم وطهروها بما شرع من العقائد والعبادات من أقوال وأعمال ثم يحبكم الله وحينها تظفروا بحب الله.فمن هنا معاشر المستمعين والمستمعات يا عشاق حب الله اعلموا أن حب الله لن ينفعكم ولن تظفروا به وتحصلوا عليه إلا إذا زكيتم أنفسكم، فهذا الوفد حاء مكوناً من ستين راكباً وهو ملعون مبغوض لله، وهو يقوم بالعبادات الليل والنهار لكنها عبادات ما شرعها الله.. عبادات لا تزكي النفس ولا تطهرها فلا تنفعهم. فقال الله لهم: اتبعوا رسولنا يحصل لكم حب ربكم يا طلاب حب الله؛ لأن المتابعة من شأنها تزكية النفس وتطهيرها، فإذا زكت نفسك أفلحت وفزت وانتقلت إلى الملكوت الأعلى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].وهناك جماعات يحبون رسول الله بالقصائد والمدائح والأناشيد والحفلات والبقلاوة والشاي، وهم يعصونه في كل طريق، والشاعر الحكيم يقول:تعصي الإله وأنت تزعم حبههذا لعمري في القياس بديعلو كان حبك صادقاً لأطعتهإن المحب لمن يحب مطيعمن أدبكم؟ تقف أمام رسول الله تبكي وأنت حالق للحيتك، ولو كان الرسول أمامك لقال: أخرجوه عني.تأتي من الهند والسند والشرق تدعي حب الرسول وعلبة السيجارة في جيبك فتجيء تسلم على الرسول، أهذا حب رسول الله؟ماذا حل بنا؟ الجواب: حل بنا أمر عظيم، وعلته والله الجهل، فلا نلوم إخواننا ولا آباءنا وأمهاتنا، فالجهل ما عرفنا الله، ما عرفنا الطريق إليه، ما علمونا، ما عكفنا على طلب الهدى، يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه، فهيهات هيهات أن تجد ربانياً عبداً صالحاً وهو يعص الله ويعيش على معصيته، فهيا بنا نعد إلى طلب العلم. وهنا قد يقول قائل: يا شيخ المدارس عندنا والكليات، والجامعات، فماذا تريد منا؟الجواب: نريد أن ندلل أننا أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله، فإذا دقت الساعة السادسة مساء حملنا أطفالنا ونساءنا وذهبنا إلى بيوت ربنا نصلي المغرب ونشرع في تلقي العلم والحكمة إلى صلاة العشاء، وذلك كل ليلة طول العام، فلا يبقى في القرية ولا في المدينة أحد فمع غروب الشمس الكل في بيوت ربهم يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم. هذا هو العلم، وهذا هو الطريق، والجهل هو الفتنة.
حقيقة الولاية لله
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) أي: أعلنت الحرب عليه. من هو هذا؟ الذي يعادي أولياء الله. والمشكلة هنا: من هم أولياء الله؟ هل هم: سيدي عبد القادر، البدوي، عيدروس، مولاي إدريس، إبراهيم كذا؟ هل هؤلاء هم الأولياء فقط؟اسمعوا نبكي، لو نمشي معك الآن وندخل القاهرة المعزية ونزلنا من المطار ودخلنا القاهرة وأستثني أن هذه السنين التي قضيناها في المسجد النبوي فقد انتشرت الدعوة وفهم الناس، ولكن لو تجد واحد وتقول له: يا سيد أنا جئت من بعيد أريد أن أزور ولياً من أولياء الله في هذه البلاد، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القاهرة أولياء يمشون في السوق. أيضاً: لو تدخل دمشق وتقول لأول من تلقاه في الشارع: أنا غريب وأحب أن أزور ولياً من أولياء الله، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى قبر، فلا يفهم أن ولياً حياً. وقل هذا في مراكش وباكستان واسطنبول والعالم كله لمدة أكثر من خمسمائة سنة لا يفهم أن ولياً حي أبداً.وهنا قد يقول قائل: يا شيخ ما تقول هذا غير صحيح؟فأقول: نسألكم: هل في دياركم مؤمنون يزنون بنسائكم؟ كيف مؤمن ويزني بامرأة مؤمن؟ هل فيكم من يسرق، ويخون، ويغش ويخدع أم لا؟! هل فيكم من يكذب أم لا؟ إذاً: لو كنا علمنا أن الله قال: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، ما نستطيع أن نفجر بامرأة ولي الله، ولا أن نسلبه ماله ولا أن ننتهك عرضه، ولا أن نهينه ولو بنظرة شزراً وهو ولي الله. ولكن العدو -أولاً- مسح هذا من أذهاننا فلا ولي إلا من مات ودفن وبنيت القبة على قبره، ذاك الولي، أما الأحياء فأعداء الله، اسرق، اضرب، كل، العن ليس فيها شيء، فلا تخاف من الله، لأنهم ليسوا أولياء!!أما الله فيقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فكيف تؤذي ولياً من أولياء الله ولو بكلمة نابية يا عبد الله؟! عرف هذا الخصوم من المجوس واليهود والنصارى فصرفوا من قلوبنا وأذهاننا أن المؤمنين أولياء الله، أبداً، وحصروا الولاية لمن مات وإن كان كافراً، وإن كان حماراً، فكم وكم من حمار عبد، وقصة (سيدي أبو حمارة) معروفة عندنا، مات حمار في الطريق فدفنوه وبنوا عليه مزاراً ليزورونه ويأخذ الزيارات، حتى يصبح المسلمون يأكل بعضهم بعضاً لا تقدير، لا حب، لا احترام.. لا ولا؛ لأنهم كلهم ما هم أولياء الله. إذاً: أين أولياء الله؟ سيدي فلان، المبني عليه قبة ويعبد مع الله وتذبح له الذبائح ويحلب عنه ويزار، وينقل إليه مرضى وهو ميت.. وهذا وقع فينا ورب الكعبة، بل في كل ديار العالم الإسلامي.من فعل بنا هذا؟إنه الثالوث الأسود: اليهود، المجوس، النصارى.. وهم متعاونون إلى الآن، ونحن في غفلة وتيهان.
وسائل التقرب إلى الله وكسب محبته
ثم يقول تعالى: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) فتح الباب: يا من يريدون أن يحبهم الله! باسم الله، تقربوا.. تقربوا واتصلوا بأداء الفرائض ( ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) وضح الطريق والحمد لله. ( وما يزال عبدي يتقرب إلي ) أي: يتملقني ويتزلف إلي بالنوافل بعد الفرائض ( حتى أحبه ). فإذا أحبه الله فقد جاء في الحديث أنه سبحانه يقول لجبريل: ( يا جبريل! إني أحب فلان ابن فلان فأحبه، فيحبه جبريل، وينادي في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلان ابن فلان فأحبوه، فيحبونه، ويلقي له القبول في الأرض، فلا يراه عبد مؤمن إلا أحبه، وإن كان أعمش أرمش.. قل ما شئت.وإذا أبغض الله عبداً قال: يا جبريل! إني أبغض فلان ابن فلان فأبغضه، فيبغضه، ثم ينادي في السماء: يا أهل السماء! إن الله يبغض فلان ابن فلان فأبغضوه فيبغضونه، ويلقي له البغضاء في الأرض، فلا يراه عبد رباني مؤمن إلا أبغضه ) .فإذا عرفنا أن نعرف هل نحن محبوبون أم لا فلنسمع هذا البيان: يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، ولئن استنصرني لأنصرنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روحه، يكره الموت وأكره مساءته ).إذا كنت لا تستطيع أن تسمع كلمة فيها سخط الله فاعلم أنك مشيت في الطريق الصحيح! إذا كنت لا تستطيع أن تجلس مجلساً تسمع فيه كلاماً باطلاً فتقوم فاعلم أنك مشيت في الطريق الصحيح! إذا كنت لا تستطيع أن تسمع صوت عاهرة تغني أبداً، يمزق قلبك وما تستطيع فاعلم أنك مشيت في الطريق الصحيح! إذا كنت لا تستطيع أن ترتاح لسماع غيبة أو نميمة أو كذب أو خرافة أبداً ولا تطيقه؛ فذلك لأن سمعك ملكه الله، فلا يستخدمه ضده. وإذا أصبحت لا تقوى على أن تنظر إلى شيء منع الله النظر إليه.. امرأة أجنبية، أمرداً، صورة، تمثالاً.. فاعلم أنك قبلت. ويدك وأنت البطل الذي تبطش بالفارس وتضرب به الأرض إذا أصبحت لا تستطيع أن تمدها لتلطم مؤمناً في خده أو لتتناول شعرة من جلده وكأن يدك ما تقوى على شيء، فلأن الله ملكها فلا يستخدمها في غير رضاه. رجلك.. كنت أيام عداوة الله تمشي أربعين كيلو لتغني وتزمر معاهم، بل تمشي ألف كيلو إلى مكة، ولما هبطت ما تستطيع تمشي ولا شبراً واحداً إلى المسجد إذا قبلت كنت تمشي أربعين كيلو إلى المعصية، والآن تمشي ألف كيلو إلى الطاعة، تصبح رجلك والله ما تستطيع أن تمشي خطوة واحدة في سخط الله، ما تقدر، لو تدعى إلى معصية عشر خطوات لا تستطيع، كأنك مشلول؛ لأن الله ملك هذه الحواس، فقال: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ) إذا شعرت بهذا فتعال أصافحك فأنت محبوب. ويبقى بعد ذلك العطايا الإلهية ما سألته إلا أعطاك، ولا استعذته إلا أعاذك، ولا طلبت نصرته إلا نصرك، فكيف وهو وليك وأنت وليه؟ أنتم أولياء الله حرام أن نسبكم.. أن نشتمكم.. أن نأكل أموالكم.. أن نفجر بأعراضكم.. أن نهينكم.. أن نذلكم؛ لأنكم أولياء الله. والله تعالى أسأل أن يزيدنا نوراً وعلماً وبصيرة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (7)
الحلقة (148)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تفسير سورة آل عمران (15)
عداوة إبليس لآدم عليه السلام وذريته لا تنتهي إلا بانتهاء الدنيا، ودخول آدم والمؤمنين الجنة، ودخول إبليس ومن تبعه من الخلق النار، وقد ذكر الله قصة هذه العداوة في كتابه العزيز، محذراً عباده من اتباع خطوات الشيطان، ومذكراً إياهم بمكره بآدم وحواء ليخرجهما من الجنة، حسداً منه لهما ولذريتهما من المؤمنين من بعدهما.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وقد تم لنا هذا الموعود، فقف يا عبد الله وانظر إلى هؤلاء المؤمنين في هذه الحلقة فإنك تشاهد السكينة، ولو كان هذا الاجتماع في غير هذا المكان لكنت تسمع اللغط، والقول، والكلام، والضحك، والالتفات، والقيام والقعود، فما لنا ساكنين؟ لأن السكينة نزلت، والرحمة غشيتنا في هذه الساعة، في هذه اللحظة، فلا شر ولا أذى ولا ظلم ولا، فأية رحمة أظهر من هذه؟!وأما الملائكة فيحفوننا، والله إنهم ليحفون بالحلقة ويطوفون بها ويستمعون الذكر وإن كنا لا نراهم لضعف أبصارنا، فلا قدرة لنا على رؤيتهم وإلا فهم يحفون بهذه الحلقة، وأما ذكر الله لنا في الملكوت الأعلى فهو ثابت بإذن الله وإن كنا لا نرى ولا نسمع، والحمد لله.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:34-37] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
الفرق بين المداهنة والمداراة
هنا أضع بعض الأسئلة:الأول: ما الفرق بين المداهنة والمداراة؟ وما الممنوع منهما وما الجائز؟الجواب: المداهنة حرام؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، والمداهنة: أن نتنازل عن شيء من ديننا لنحفظ به شيئاً من دنيانا والعياذ بالله. أما المداراة والمصانعة والمجاملة فهي: أن نتنازل عن شيء من دنيانا لنحفظ به شيئاً من ديننا، وهذا محمود.
سبب تآمر المجوس واليهود والنصارى على أمة الإسلام
السؤال الثاني وهو ذو أهمية: لماذا تآمر علينا الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، وقلبوا الأوضاع علينا فجعلوا أحياءنا أعداء لله وأمواتنا أولياء لله، وحصروا الولاية فيمن مات فقط فضربت على قبره القباب ووضعت التوابيت والأخشاب، وسيق إليه قطعان البقر والغنم، وحلف به وعظم وبجل كالله، وأما الأحياء فلا يوجد ولي فينا! حتى قال أحد المحشين على متن خليل بن إسحاق المالكي : من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة!وجواب ذلك: أن هذا أمر عظيم، وقد روى الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، ومعنى هذا: أيما قرية، أيما جماعة، أيما مؤمنون أو مؤمنات بلغهم هذا وعرفوه فقد انتهى الأذى من بينهم، فلا سب، ولا شتم، ولا تعيير، ولا تقبيح، ولا ضرب، ولا سلب.ومن يقدر على أن يؤذي ولي الله؟ لا نقدر؛ لأننا إذا آذينا ولي الله أعلن الله الحرب علينا، وانهزمنا وانكسرنا، بل وخسرنا؛ لأن الله يقول في هذا الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فلكي يأكل المؤمنون بعضهم بعضاً ويسخرون من بعضهم ويستهزئون ويأكلون أموالهم ويفجرون بنسائهم، فامرأة مؤمن يفجر بها مؤمن، وبنت مؤمن يفجر بها مؤمن؛ إذاً: نقول: لا ولي لله إلا من مات وبني على قبره ضريح، ووضعت التوابيت والأزر الحريرية عليه وعكف حوله النساء، وسيق إليه المرضى! ذاكم الولي، أما أنتم الأحياء فلا ولي فيكم، هذه هو قصد هؤلاء.
صفات أولياء الله تعالى
معشر المستمعين والمستمعات! من هم أولياء الله؟ الجواب: كل مؤمن تقي هو لله ولي، أبيض أو أسود، عربياً كان أو أعجمياً، غنياً أو فقيراً، شريفاً أو وضيعاً، كل مؤمن ومؤمنة اتقى الله عز وجل -أي: خافه- فلم يترك ما أوجب عليه ولم يرتكب ما حرم عليه؛ فهو ولي الله، ومن آذاه فقد أعلن الله تعالى الحرب عليه، وهل يفلح من أعلن الله الحرب عليه؟لا والله لا يفلح، فمن هنا كان مجتمعنا الإسلامي مجتمع الطهر والصفاء والعدل والمحبة والولاء، فلما عرف الأعداء هذا احتالوا علينا في عصور الظلمة والجهل، وهم الذين جهّلونا ومنعونا من أن نقول: قال الله، تعيش بين علماء لا يقول أحدهم: قال الله ولا قال رسول الله، بل قال الشيخ الفلاني، وقال سيدي فلان! فحرمونا حتى من ذكر الله.والقرآن هو الروح، تلك الروح التي -والله- لا حياة بدونها! القرآن حولوه إلى المقابر والمآتم وليالي البكاء، يقرأ على الموتى فقط، ولا يجتمع اثنان في ظل شجرة أو جدار ويقول أحدهما للثاني: أسمعني شيئاً من كلام الله.. اقرأ علي من كلام ربي شيئاً. لن يكون هذا أبداً! وزادوا المحنة الأخيرة التي ذكرنا، وهي: من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة! إذاً: هل أقول: أنا عدو الله! أعوذ بالله.الآن ما بقي من السامعين والسامعات من يؤذي أحداً منا بنظرة ولا بكلمة نابية، ولا بسلب مال وإن قل، ولا ولا بهتك عرض وإن صغر، لأننا أولياء الله، والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).عند باب المنزل جاءني شاب يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: أنا حارس هذا المنزل، فإذا جاء الرجل بسيارة قلت له: ضع السيارة هكذا، فأول كلمة يقولها لي: ما هو بحق أبيك، من أنت! ويسبونني، فهل هؤلاء مؤمنون؟ أهذا هو الولاء يتركون المؤمن يبكي؟معاشر المستمعين! أعود فأقول: من هو ولي الله؟ هل سيدي عبد القادر ؟ لقد عايشناه وعاصرناه، عرفنا عنه، مولاي إدريس عرفنا عنه، سيدي العيدروس، البدوي، سيدي أحمد التجاني.. عرفنا أنهم أولياء؟ فكيف عرفنا؟ لقد عرفنا ما لا ينبغي أن يعرف، وجهلنا ما يجب أن يعلم ويعرف.أولياء الله هم المؤمنون والمؤمنات الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، كل مؤمن تقي هو لله ولي، فمن هنا لا غيبة، لا نميمة، لا كذب، لا خيانة في مجتمعنا الإيماني مجتمع أولياء الله، على هذا نحيا وعليه إن شاء الله نموت.
سبيل تحقيق ولاية الله تعالى
كيف نحصل على ولاية الله؟ نحصل على ذلك بإيمان وتقوى؛ إذ قال تعالى في تقرير هذه الحقيقة التي جهلها ملايين من المسلمين، قال تعالى من سورة يونس: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب الذين لا خوف عليهم ولا حزن؟ فيجيب تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] أولئك أولياء الله لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، لا يموت أحدهم حتى يبشر بالجنة، برؤيا صالحة يراها أو ترى له.
الاتباع سبيل الفوز بمحبة الله تعالى
نعود إلى نتائج وعبر وهداية الآيتين اللتين شرحناهما بالأمس، وهما قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31-32].تذكرون أن وفد نجران النصراني لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة النبوية وجاء يجادل، وادعوا أنهم ما ألهوا عيسى وأمه إلا من أجل أن يحصلوا على حب الله! يقولون: عظمنا مريم أم عيسى، وعظمنا عيسى إلى حد التقديس والتجليل والإكبار والعبادة، من أجل أن نحصل على حب ربنا عز وجل!قالوا: ما عبدناهما لذاتهما، ولكن من أجل أن يحبنا الله ربنا وربهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية يقول فيها لرسوله: يا رسولنا! قل لهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، ومعنى هذا: إن كنت تحب الله والله لا يحبك فماذا استفدت إلا الحزن والكرب والألم، أنت تحب الله وهو لا يحبك، فماذا استفدت يا محب سوى الكرب والهم والحزن؟ إذ ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تُحب.يا عقلاء! أليس الشأن أن تُحَب لا أن تَحِب، فما دمتم تريدون أن يحبكم الله فحبه لا يأتيكم من طريق عبادة غيره وتأليه مخلوقاته، وأنا أرشدكم إلى الطريق الذي يصل بكم إلى أن يحبكم الله، فتسعدوا بحبه وتكملوا، ألا وإنه اتباع رسوله النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، اتبعوه يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، هذه من اليقينيات، وهل يتم حب للعبد من الله بدون أن يمشي وراء خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم؟ والله ما ظفر به ولا حصل عليه أبداً.معشر المستمعين والمستمعات! من أراد أن يظفر بحب الله تعالى له فليمش وراء رسوله، يرفع رجله كما يرفعها رسول الله ويضعها كما يضعها رسول الله، ويتناول اللقمة كما يتناولها رسول الله، ويركب ويهبط على نهج رسول الله، وينام ويستيقظ على نهج رسول الله، ويقضي ويحكم بما حكم وقضى به رسول الله، هذا الذي يظفر بحب الله، ومن طلب حباً لله من غير هذا المسلك فوالله ما ظفر به ولا حاز عليه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وقد شرحنا هذا الموضوع.
سر جلب اتباع رسول الله محبة الله تعالى للعبد
كيف كان اتباع رسول الله يجلب حب الله ويحققه للعبد؟ ما السر في هذه القضية؟إن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه العقائد والعبادات والآداب والأخلاق من شأنها أن تزكي نفس العبد وتطهر روحه، فإذا زكت روح العبد وطابت وطهرت أحبه الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيبين، وقد أصدر حكمه على الخليقة كلها بقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه. وتزكية النفس تتم بماذا؟ هل بالماء والصابون؟! يا عبد الله! بم تزكي نفسك؟ زكها بهذه العبادات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدها كما بينها فتنتج بحمد الله زكاة نفسك، وتطيب روحك، وتصبح بين الصالحين طاهر النفس، ويدل على ذلك أنه لا خبث ولا تلوث ولا ظلم، ولا شر ولا فساد؛ لأن النفس طابت وطهرت، فكل ظلم وخبث وشر ناتج عن خبث النفس أولاً. وقد رمز إلى هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، فمحط الطهر والزكاة في القلب والقلب مقر النفس.إذاً: متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الخراءة، تبول كما كان يبول رسول الله، تتابعه في كل شيء، فهذه المتابعة تنتج للعبد المتابع بصدق زكاة روحه وطهارتها، ويومها يحبه الله عز وجل، ويصبح من أحباء الله، ومن أحبه الله أسعده والله وما أشقاه؛ إذ كيف يشقي أولياءه؟!
قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات] أي: نتائج هاتين الآيتين [ من هداية الآيات: أولاً: محبة العبد للرب تعالى واجبة وإيمان ]، محبتنا نحن لله واجبة علينا، وإنسان لا يحب سيده ملعون يقطع رأسه، فمولاك وسيدك لا تحبه! كيف ذلك وهو يغدق عليك نعمه الليل والنهار؟! فحب الله فريضة على كل مؤمن ومؤمنة. [ محبة العبد للرب تعالى واجبة وإيمان؛ وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني بحب الله ) ]، أحبوا الله أيها المؤمنون لما يغدق عليكم من الطعام والشراب والأمن والصحة والعافية، وكيف تنسى هذا الإنعام ولا تحب صاحبه؟وقد قلت لكم غير مرة: إذا خلوت بنفسك فضع رأسك بين ركبتيك وتذكر ما أنعم الله به عليك، فلا تلبث لحظات إلا وعيناك تذرفان الدموع وجسدك يرتعد وأنت في شوق إلى الله وحب له، والذي يعيش السنين العديدة ما يذكر لله نعمة كيف يحبه؟ مع أن طبعك يا ابن آدم أنك تعطى كأس اللبن أو الماء فقط وأنت في حاجة إليه فتحب من أعطاك وتثني عليه وتذكره بخير، والذي يغدق عليك نعمه كل لحظة تنساه ولا تحبه؟!والعلة هي الجهل، ما عرفنا الطريق إلى الله، أبعدونا عنه، وإلا فهذا الحديث الصحيح كافٍ شافٍ، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني أنا بحب الله )، ألستُ رسوله؟ ألست نبيه؟ ألست المبلغ عنه؟ فكيف لا تحبونني؟ أحبوني بحب الله عز وجل، إذا أحببتم سيدكم ومولاكم فأحبوا من يحبه هو، وهذا هو الحب الصحيح: أن نحب ما يحب ربنا ونكره ما يكره.قال: [ ثانياً: محبة الله تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولو العلم في هذه الحياة ]، حب الله غاية نعمل الليل والنهار من أجل أن نفوز بها، أن نصبح من أحباء الله. وقد ادعى اليهود هذه وادعاها النصارى وما فازوا بها، إذ قال تعالى عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18]، العبرة بما قبل هذه الدعوى؛ إذ محبة الله تنتج طاعة الله الكاملة، ومن ادعى حب الله وهو لا يطيعه فهو كاذب لا تصدقوه في دعواه، وقديماً قال الحكيم:تعصي الإله وأنت تزعم حبههذا لعمري في القياس بديعلو كان حبك صادقاً لأطعتهإن المحب لمن يحب مطيعفهيا نعمل على أن نمسي أحباء لله بالنية، عزمنا على ألا نعصي ربنا، فنحن أولياؤه، ونمتحن بأوليائه، إياك أن يراك الله الليل أو غداً تؤذي مؤمناً أو مؤمنة ولو بكلمة! انتبه! أولياء الله يحميهم الله، وأولياؤه يحمونهم أيضاً. [ ثالثاً: طريق الحصول على محبة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان بما جاء به، وباتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره، لقول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، إذ ليس الشأن أن تُحِب وإنما الشأن أن تُحَب ].وقصة مجنون ليلى معروفة، فـمجنون ليلى تائه في الصحاري والأودية والجبال من حب ليلى وهي تكرهه، فماذا استفاد؟ الفائدة: أنك تُحَب لا أن تُحِب فقط، فمن أراد منا أن يحبه الرحمن فليطهر نفسه فقط من أدران الذنوب وأوضارها بالبكاء والتوبة بين يديه فيصبح محبوباً لله.وبقيت زهرة اقتطفناها، وقلنا: هي خير من خمسين ألف ريالاً، حيث قلنا: من منا يعرف أنه محبوب لله؟ لو يجتمع أهل الدنيا والسماء غير الله لا يستطيعون أن يعطوك الجواب، فكيف تعرف أنك محبوب؟ لكن الله عز وجل علمنا، فمن أراد أن يعرف أنه محبوب لله فإنه يعرف، كما في حديث أبي هريرة : ( من عادى لي ولياً )، فقد قال فيه: ( وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل ) بعد الفرائض قطعاً، وما يزال يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام ( حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ). قلت: إذا أصبحت يا أمة الله لا تطيقي أن تسمعي كلمة سوء فاعلمي أنك قبلتِ! وأنت يا عبد الله إذا أصبحت لا تستطيع أن تسمع كلمة من كلمات السوء فكذلك، ابدأ بالأغاني وانته بالغيبة وسب الناس، إذا أصبحت لا تستطيع ولا تقدر على ذلك فاعلم أن سمعك قد ملكه الله فهو لا يستخدمه ضده أبداً، ولا يستخدمه إلا في رضاه.ثانياً: إذا أصبحت لا تستطيع أن تملأ عينيك نظراً إلى ما حرم الله عليك فاعلم أنك قبلت وأنك محبوب، فإن أصحبت تملأ عينيك وتنظر إلى النساء غاديات رائحات مكشوفات ومستورات وتجد لذاذة في ذلك فوالله ما قبلت، وبصرك يستخدمه الشيطان لا الرحمن، فما هو ملك لك الآن! إن أصبحت تشعر كأن اللهب والنار في وجهك لا تقوى على أن تنظر فاعلم أن بصرك مملوك لله، ولا يستخدمه إلا فيما يرضيه ويحبه.أيضاً: يدك التي تبطش بها بطشاً، تختطف الرجل من على صهوة جواده، هذه اليد إذا أصبحت لا تستطيع أن تمدها لتأخذ إبرة من مال مؤمن حرمه الله عليك فاعلم أنها مملوكة لله، ما تقدر أن تلطم بها جسم المؤمن؛ لأنه ولي الله وأنت وليه، فلا تقدر أبداً أن تؤذي بها مؤمناً أو مؤمنة.إذاً: أصبحت اليد ليست لك بل ملكها الله، فهو لا يستخدمها إلا في رضاه، فتستطيع أن تستخدمها وتصفع عدو الله من الكافرين أو الفساق أو الفجار وأنت كالأسد، لكن كونك تنال بها سوءاً من مؤمن أو مؤمنة لا تستطيع، كأنك ألين الناس وأرقهم وأجبنهم.وكذلك رجلك، تستطيع أن تمشي إلى مكة بها حافياً، تمشي بها إلى أبعد المساجد، تمشي بها إلى أبعد المزارات كالأقرباء والمرضى ومن إليهم، وتعجز أن تخطو خطوة واحدة في معصية الله، لا تقدر أبداً، فهنا اعلم أنك ولي الله محبوب له، فزت بحب الله.والمرحلة الثانية: إن سألته أعطاك، والله لا يخيبك، اللهم إلا أن تسأل شيئاً ليس لك فيه خير، فيصرفه عنك ولا يعطيكه ويعطيك عوضه فوق ما تتصور: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته )، آمنا بالله! العبد يكره الموت والله يكره إن يسيء إلى عبده، ولكن لابد منه! هذا هو الحبيب، هذا الرحمن الرحيم، أحبوه بما يغذوكم من النعم يحببكم.قال: [ رابعاً: دعوى محبة الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة، وصاحبها خاسر لا محالة ].
تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)
الآن مع هذه الآية العجيبة العظيمة، واسمعوا هذا الإعلان وهذا الخبر، وأنتم تعرفون الأخبار وأخبار لندن تهتزون لها، ولكن هذه أخبار الله التي كلها صدق ومحال أن يصاحبها غير الصدق. اسمع هذا الإعلان: قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]، من أخبر بهذا الخبر؟ إنه الله. وكيف وصلنا هذا؟ من طريق كتابه ورسوله، كتابه الذي أنزله، ورسوله بينه لنا وعلمناه.
بيان ما يسلكه المنحرفون من تحريف الألفاظ القرآنية عن مواضعها
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ [آل عمران:33]، ومن هو آدم؟ يقول بعضهم: هو السيد أحمد التجاني ! كيف تقول هذا؟ يقول: لأي فائدة يذكر آدم، المراد سيدي أحمد التجاني ! يقول بعضهم مثل هذا لما أعلمناكم من أنهم يحرفون كلام الله، وسبقهم إلى هذا اليهود والنصارى، لا يتركون صفة على حقيقتها أبداً إلا ويؤولون ويحرفون ليبقى الظلام وتبقى الأمة في جهالتها ويسودونها.وها هو السيد واقف يجادلني، قال: كيف تقول في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]: إنه أبوه، هذا عمه! قلت: الله يقول: أبوه، وأنت تقول: عمه! قال: نعم. وشاعت عند المفسرين ، فلِم هذا؟ ما حملني على هذا؟ الله يقول: أبوه، وتقول: لا، قل: عمه! كيف هذا؟ قالوا: هذا جار على لسان لغة العرب، يطلقون العم على الأب، والأب على العم!قلنا له: يا بني! هذه القضية درسناها وعرفناها، من أراد أن يظهر في مظهر عال ويسمو في درجة ليكون الناس دونه فإنه يفتري الكذب ليقبل الناس عليه، لقد قال مفسر: الناس غالطون؛ ليس هذا بأبيه، هذا عمه، إذ كيف يدخل أبوه النار! فيفوز هذا العالم بهذه الشطحات يلتقطها، يأتي بغرائب الألفاظ والمعاني ليظهر في المجتمع، وأحدثكم حديث علم: إن رغبة الآدمي في التفوق والعلو تحمله إذا انفصل عن ولاية الله على أن يفتري ويكذب على الله.
تحريف الشيعة ومخالفتهم النصوص الثابتة
والروافض الشيعة تعرفون عنهم، قالوا: أبو طالب في الجنة، فهو عم الرسول، فكيف يدخل النار؟ ويعلمون هذا نساءهم وأطفالهم: أبو طالب في الجنة! أبو الرسول في الجنة، أم الرسول في الجنة، لِم؟ لأن أهل الحق أهل السنة والجماعة المؤمنون بعلم يعرفون أن أبا الرسول في النار، الرسول أخبر بهذا، قال للرجل: ( أبي وأبوك في النار ) ، وأن أبا طالب في النار، أخبر رسول الله عنه، قال: ( إنه في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه )، إذ عرض عليه كلمة التوحيد وهو على سرير الموت فرفض، وقال: هو على ملة عبد المطلب ، فمات على الكفر.إذاً: لكي يفارقون جماعة المسلمين ليعملوا على إعادة مملكة الساسانيين ومجدهم وتاجهم لا بد أن يضعوا في كل مسألة فاصلاً بيننا أهل السنة وبينهم، تتبعناهم فوجدنا كل عبادة فيها فاصل، حتى النكاح، فهم يتناكحون بنكاح المتعة، وأهل السنة والجماعة أعلمهم رسول الله بحرمة هذا النكاح وأعلن هذا في مكة، وأعلنه عمر ، إذاً: لكي ينفصلوا ويتكتلوا وحدهم تزوجوا بنكاح في المتعة حتى في المدينة.فلا توجد عبادة بدون فاصل، يقولون: حتى نخرج من دائرة أهل السنة والجماعة علنا نعود من جديد إلى مملكتنا ودولتنا، هذه هي السياسة، فالوضوء يسمح فيه على رجله، وهل فيكم من يمسح في الوضوء على رجله ويعتبره غسلها، وأنه أطاع الله؟فلا توجد عبادة إلا ووضع أئمتهم فاصلاً لها، هل خوفاً من الله؟ والله ما هو من ذلك، هل رغبة في الجنة؟ العلة: أن توجد تلك الأمة التي هدم عرشها عمر .إذاً: ما عساي أن أقول؟! إن العلماء من النصارى واليهود والمجوس والمسلمين عندما يتورطون في حب الجاه والمنصب يخترعون ويبتدعون ليتفوقوا ويظهروا، ومن جملة هذا اعتقادهم أن آزر هذا عم إبراهيم وليس بأبيه، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث بهذا عشرات المرات في القيامة وفي الدنيا، وقال: أبوه، فقالوا: لا. لا، أنت قل: عمه، ما السر؟ حتى لا نقول: أبوه في النار، نقول: في الجنة.
العمل الصالح طريق الفوز والعمل السيئ سبيل الهلاك
والنسب لا قيمة له بالمرة، كن ابن من شئت أو أباً لمن شئت، أو من قبيل أو عشيرة من شئت، فوالله لا عبرة عند الله بالنسب، أما قال تعالى: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، نكذب الله لنؤمن بقول فلان؟!وفي القرآن الكريم أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10].فأبو إبراهيم آزر كابن نوح كنعان ، هل نفعتهم الأبوة أو البنوة أو النسب؟ ما نفعت، ونحن عندنا الآن علم وبصيرة، فقد عرفنا أن دخول الجنة بزكاة أنفسنا وطهارة أرواحنا، لقد أقسم الجبار بأعظم إقسام: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8] كم يميناً هذه؟ ثمانية. يقسم تعالى على النفس فيقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ [الشمس:9-10] وخسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، فهل بقي الآن كلام، هل بقي جدال أو خصومة؟ أيحلف الله ويقسم بأعظم أيمان وإقسامات ويقول: حكمنا بكذا، وتقول: لا! من يقول هذا القول؟ والله ما هي إلا رحمة الله، إن زكيت نفسك يا عبد الله بهذه المواد الطيبة الطاهرة المزكية فزت وإن كنت ابن فرعون، وإن أنت لوثتها وغفلت عنها وشغلتك الدنيا وشهواتها ومت وهي خبيثة فلن تفلح وإن دفنت في البقيع؛ لأن حكم الله صدر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن يراجع؟ هل بلغكم أن الله إذا حكم يعقب على حكمه في هيئة استئناف؟! لقد قال تعالى من سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، انتهى الأمر.
ذكر ما فضل الله تعالى به آدم عليه السلام وحسد إبليس له
ونعود إلى آدم عليه السلام، فآدم سمي آدم من الأدمة، والأدمة هو لون بين البياض الصقلبي الروسي وبين السواد، هذه الأدمة، هذا آدم، وهو مخلوق خلقه الله عز وجل من الطين، من التربة، وتخمرت فأصبحت حمأة، ثم يبست فأصبحت صلصالاً، ومن كرامات آدم: أن الله عز وجل خلقه بيديه عز وجل، لا صانع ولا ماء، وهل نعرف يدي الله؟ والله ما نعرفهما، ومستحيل أن نعرفهما، ومن نحن حتى نعرف ذات الله؟!نبينا موسى ما إن تجلى الله تعالى للجبل حتى أغمي عليه وصعق، فكيف تستطيع أن تنظر إلى الله وتعرف ذاته؟! فالله تعالى خلق آدم بيديه ونفخ فيه من روحه، أول روح هي روح آدم من الله عز وجل.وتعرفون كيف أكرمه في دار السلام، وأوجد له عروسه، فزوجه ليست من طين، بل من لحمه ودمه، حواء جدتنا من أين خُلقت؟ من ضلع آدم الأيسر، خرجت وأحبها آدم، وسكن إليها وسكنت إليه، وهما في دار السلام ينعمان بالنعيم الدائم، وإذا بالعدو إبليس، والله ما زنى زانٍ ولا فجر فاجر، ولا كذب كاذب ولا سرق سارق، ولا قتل قاتل، ولا قال سوءاً قائل إلا بنزغته، فكل الشر الذي تشاهده هو علامة وجود إبليس، بعد هذا أيبقى عاقل يقول: أين هو؟ هذا الذي يتشحط في دمه من قتله؟ إنه إبليس، هذا العدو الأصيل.اغتم وكرب وحزن عندما قال تعالى للملائكة بعد أن خلق آدم: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34]، أي: حيوه بتحية السجود، والركوع والسجود بمعنى واحد، فما كان منهم إلا أن قالوا: الله أكبر وسجدوا. وإبليس كنيته هي أبو مرة، فكل مرارة هو والدها! فحينئذ قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]؟ قال الله تعالى له: اسجد، فقال: لا أسجد؛ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، قالت العلماء: أساء إبليس في القياس، فقياسه فاسد، ادعى أن النار خير من الطين وهذا خطأ، الطين ينبت البقلاوة والحلاوة والبر والنار ولا تنبت، تحرق كل شيء، فهذا القياس باطل، فلما أبى أبلسه الله وطرده فأخرج من دار السلام.إبليس هذا هو من عالم الجن، والعوالم الأربعة التي أصبحت معرفتها من الضروريات عندنا: عالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم الإنس، وعالم الحيوانات، إذاً: إبليس من عالم الجن، وكان يعبد الله مع الملائكة، إذ الاتصال بين الجن والملائكة ثابت، فالجن مخلوقون من النار والملائكة من النور، وما الفرق بين النار والنور إلا أن هذه تحرق وهذه لا تحرق.
مكر إبليس لإخراج آدم وحواء عليهما السلام من الجنة
إذاً: أخبر تعالى عن هذه الحقيقة بقوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] أطاع، فأبلسه عز وجل وأيأسه.وازداد الكرب بعد الإبلاس والهم، وأراد الإغواء قبل وجود اللاسلكي، فالمؤمنون المحمديون يقولون: أخبر الله تعالى فقط، فلا بد أنه وقع، والجاهلون والمتخبطون قالوا: إبليس دخل في صورة أفعى، ومن يسمح لها أن تدخل الجنة؟ قالوا: بعدما أبلس وأخرج دخل بحيلة. ما هذه الحيلة، قالوا: دخل في صورة أفعى! ويقبل هذا المفسرون والعلماء!لأنهم أبوا أن يقولوا: آمنا بالله، حيث أخبر تعالى أنه اتصل بآدم وحواء في الجنة اتصالاً أراده الله، ولما عجزوا قالوا: دخل في صورة حية، فهل الجنة فيها حيات!والآن يوسوس باللاسلكي، خلق الله في قلب كل مؤمن محطة صالحة للتلقي والإرسال، واقرءوا: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:4-5]، المحطة الموجودة في صدر آدم وحواء، اتصل بهما إبليس بمحطته وراسلهما، وقال: هل أدلكما على شجرة في الجنة إذا أكلتما منها لن تموتا وستخلدا. فآدم تحرج وتردد، وحواء قالت: ها أنا آكل، فالنساء شجاعات إذا كنّ يدلين إلى الهاوية، قالت: ما بي شيء فكل أنت.ولهذا أنصح لكم ألا تستجيبوا لنسائكم إلا إذا كنّ ربانيات صالحات طاهرات، أول امرأة خانت في الدنيا حواء خانت أبانا آدم، أخبر بهذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.فلما أكلا من الشجرة انكشفت سوأتهما، وقبل كانا مستورين بأنوار الله، ما يخطر ببالهما شيء اسمه فرج ولا شهوة ولا جسم أبداً، سبحان الله! كالطفل الرضيع، طفلك الرضيع هل يعرف شهوة أو لذة أو عورة؟ لا أبداً، غافل تماماً.فكذلك هما كانا في دار الخلد لا يشعران بشيء أبداً، ما إن زلت القدم وسقط الحجاب حتى تاها، أخذا يضعان ورق الشجر على فرجيهما بالفطرة: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122].قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ [آل عمران:33] متى؟ بعد أن تاب عليه وهدى، اجتباه، فنبأه وأضفى عليه من الكمالات، ليحمل رسالة الله ويبلغها إلى أبنائه وأبناء أبنائه وأحفاده، فكان ممن اصطفى الله آدم، مع أنه سبقت له زلة لكن تاب، و( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) ، خذوا هذه القاعدة: من تاب من ذنبه أصبح كمن لا ذنب له، والتوبة: هي الإقلاع الفوري عن الزلة والاستغفار والبكاء والعزم على أن لا عود أبداً، فيمحى ذلك الأثر بإذن الله.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (8)
الحلقة (149)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تفسير سورة آل عمران (16)
إن الله عز وجل يتفضل على من يشاء من عباده، وينعم على من يشاء من خلقه، ويختص بعض خلقه بالكرامات كما اختص آل عمران وفضلهم واصطفاهم على العالمين، وأكرم مريم بنت عمران فجعل لها ولداً من غير زوج، واختص هذا الولد بالرسالة والنبوة، كما أكرم زكريا عليه السلام بأن وهبه على الكبر يحيى، وجعله سيداً وحصوراً ونبياً كأبيه، فضلاً منه ونعمة والله ذو الفضل العظيم.
تابع تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ...)
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.وها نحن مع سورة آل عمران ومع هذه الآيات المباركات الكريمات، والتي سبق أن تلوناها ولنتلها الآن ولنتأمل ولنتدبر ولنتفكر، ولنتذكر بما حملته من أنوار الهداية الإلهية عسى الله أن يهدينا إليه صراطاً مستقيماً.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:33-37].
ذكر حادثة نزول آيات خبر عيسى وأمه وبيان عظيم دلالتها
أعيد إلى أذهانكم -معاشر المستمعين والمستمعات- أن وفد نجران المكون من ستين فارساً جاء ليحاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى.ونبينا لا يعرف عن عيسى شيئاً ولا عن أمه ولا عن جدته، عربي في هذه الديار ما تنصر ولا تمجس ولا تهود، ولا قرأ ولا كتب، عاش في مكة.إذاً: هنا أنتم تجادلونني في شأن عيسى، اسمعوا أحدثكم عن جدة عيسى، لا عن عيسى بالذات وأمه، أحدثكم عن جدة عيسى، وبذلك أنا أعلم منكم، وما تحملونه من علوم علوم باطلة مزيفة كلها افتراءات وكذب، استحوا خيراً لكم واخجلوا. وبالفعل ذابوا، من أين لمحمد العربي الأمي أن يحدثهم عن جدة عيسى لا عن عيسى، وعن ولادتها وكفالة ابنتها؟ ومن ثم يقول الله تعالى له: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]. ما يسعنا يا عقلاء إلا أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
مكانة آدم عليه السلام في اصطفاء الله تعالى له
اسمعوا هذا الخبر الإلهي العظيم، يقول تعالى مخبراً معلماً: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ [آل عمران:33]. وقد عرفنا الاصطفاء: الاختيار، الاجتباء، الانتقاء، أخذ الصفوة، آدم أبو البشر اصطفاه الله بإفضالات وإنعامات لا يقادر قدرها، وكيف وقد خلقه تعالى بيديه من طين لازب، من حمأ مسنون، ونفخ فيه من روحه عز وجل، ثم أسجد له ملائكته، الملائكة النورانيون، يصدر أمر الله خالقهم إليهم بأن يسجدوا لآدم فيسجدون، ومن تمرد ورفض لم يكن إلا فردا واحدا، ألا وهو إبليس، فقد أبلسه الله من رحمته وأيأسه من الخير، ومسحه مسحاً من كل كمال من كمال الإنس أو الجن. اصطفى آدم، وقد عرفتم كيف فتنه إبليس، وكيف اتصل به، وكان سبب إخراجه من دار السلام وهبوطه إلى الأرض دار البلاء والشقاء: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف:20]، وقد أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: أن حواء هي التي غررت بزوجها، هي التي بادرت بالأكل من الشجرة، وقالت: انظر آدم ما أصابني شيء. ولنترك هذا، وحسبنا أننا من ذريتهما نعاني الآلام والأتعاب والمحن في دار البلاء والشقاء، آه لو بقينا هناك.وتذكرون حجاج موسى مع آدم، قال موسى الكليم: ( يا آدم! أنت أخرجتنا من الجنة -يلومه- فقال له آدم: أتلومني على شيء كتب عليّ قبل أن أخلق بخمسين ألف سنة؟! فحج آدم موسى ) شاء الله هذا، وقد درسنا وعرفنا يا أهل العلم: أن سر الحياة وعلة الوجود كله أن يذكر الله ويشكر، علة الوجود، سر الحياة بكاملها، بعبارة أوضح: ما علة وجود النار والجنة والسماوات والأرضين، وما أوجد الله فيهما، ما السر؟ أراد الله أن يذكر ويشكر، فخلق هذا الكون وأوجدنا ليسمع ذكرنا ويرى شكرنا، وإلا فإنه يغضب علينا ويسخط ويردينا ويخسرنا في عالم لا نرى فيه طعم الحياة أبداً.
إفضال الله تعالى على نوح عليه السلام وآل إبراهيم وآل عمران باصطفائهم
إذاً: تدبير الله عز وجل، اصطفى آدم واصطفى نوحاً، ونوح من آيات الاصطفاء له: أنه بعثه وأرسله في أمة لا تعرف الله، يعيشون على عبادة الأوثان والأصنام، ومن آلهتهم التي عرفناها ما جاء في سورته عليه السلام، إذ قالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، اثبتوا على عبادة آلهتكم، ولا تسمعوا لهذا الرجل ما يقول.ومن آيات إفضال الله عليه: أن استجاب دعوته في الكافرين فأغرقهم أجمعين: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27]، فأغرق الله البشرية كلها إلا نوحاً ونيفاً وثمانين رجلاً وامرأة، وهم المؤمنون، حملهم في سفينة كان جبريل يعلمه صنعها، فلما نزلت السماء وفاضت الأرض فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12]؛ حمل نوح أهله في السفينة، وابنه وامرأته هلكا معاً.نوح عاش ألف سنة، هذا اجتباء الله واختياره أم لا؟ عمر تسعمائة وخمسين وهو يدعو إلى الله، ونبئ في الأربعين، وحسبه أن من جاء من الأنبياء والرسل من بعده من ذريته، هذا اجتباء واصطفاء الله لنوح، واصطفى آل إبراهيم. من أين لأمي لا يقرأ ولا يكتب أن يحدث علماء النصارى بهذه العلوم والمعارف؟ وآل إبراهيم: ذريته وأتباعه على التوحيد إلى اليوم، أول ذريته إسماعيل، ثم إسحاق ثم أولاده إلى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.محمد من آل إبراهيم أم لا؟ من آل إبراهيم، فمنهم الأنبياء والرسل بالألوف، اجتباء الله واختياره لهم، واجتبى آل عمران، وعمران هذا رجل صالح من صلحاء بني إسرائيل، وذريته أهله، حنة امرأته، مريم ابنته، عيسى حفيده، وكل مؤمن صالح من آل عمران في ذلك الزمن.
معنى قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم )
ثم قال تعالى بعدما أخبر عمن اصطفاهم واجتباهم واختارهم، وأهلهم للكمالات الروحية، قال: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]، يطلق لفظ (الذرية) على الآباء والأولاد، نحن ذرية آدم أم لا؟ وهكذا.هؤلاء الذين اجتباهم ذرية بعضهم من بعض على سمت واحد، على نمط واحد في الإيمان وسلامة القلوب وزكاة الأرواح والعمل الصالح كأنهم جسم واحد: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]. وَاللَّهُ سَمِيعٌ [آل عمران:34] لأقوال من يقولون، بل لحركات ما تحرك في الكون، الله عز وجل يسمع كل شيء حتى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.(سميع) وإن أردت أن تعرف سمع الله؛ فهذه الأسماع من خلقها؟ من وهبها؟ من أعطاها؟ أيهبها ويخلقها ويكون أقل منها أو دونها؟ يجب أن يكون لا شبيه لسمعه أبداً، أسماع الخلائق محدودة، سواء أسماع الملائكة أو الجن أو البشر، أما الله عز وجل فسميع لكل حركة في العالمين. عَلِيمٌ [آل عمران:34] لا يجهل شيئاً، لا يخفى عنه شيء من الذرة إلى المجرة، من حملة العرش إلى ملك الموت إلى هذه الخليقة والبشرية: سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34] سميع بـحنة ، وعليم بحالها.
تفسير قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني ...)
ولنبدأ القصة: قال تعالى: قال تعالى: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35].
ذكر قصة امرأة عمران ورغبتها في الولد ودلالتها على عظيم قدرة الله تعالى
قوله: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ [آل عمران:35] وهي حنة بنت رجل من بني إسرائيل تزوجها عمران ، وكانت لا تلد، والآن يوجد بيننا من يقول: يا شيخ ادع الله لنا أن يرزقنا ولداً. امرأته عقيم وعاقر ما تلد.وحنت إلى الولد وتاقت نفسها واشتاقت والتهب ذاك الشوق لما رأت عصفوراً يزق أفراخه في حديقتها، عصفور يأتي بالطعام أو الماء إلى عش ووكر أولاده أفراخه، ويفتح الفرخ فاه، ويصب فيه العصفور الطعام والشراب، من علم الطير هذا؟ إنه الله تعالى.فليتكلم البلاشفة الحمر والملاحدة الشيوعيون، أهي الطبيعة؟! يا عميان ما هي الطبيعة؟ الطبيعة ذات عقل، ذات إرادة، ذات قدرات، ذات معارف؟! لا.. لا، ما هي؟ تفاعلات كيماوية، هذه هي الطبيعة! وفضحهم الله، انعقد مؤتمر للبلاشفة وحضره علماء الحق، وناقشوهم، وهذه ما بلغت العرب الذين ما زالوا يحبون الشيوعية.ناقشوه ، وأخيراً لما هزموهم قالوا: اسمعوا: إذا لم نقل الطبيعة نقول: الله؟ إذا قلنا: الله قلتم: صلوا، فلن نقولها إذاً، وانكشفت عوراتهم، وتمزقت أوصالهم، والله ما جحدوا وجود الله إلا هروباً من أن يستقيموا على منهج الله، على أن يحلوا ما أحل الله ويحرموا ما حرم الله، أعرفتم هذه الحقيقة أو تشكون فيها؟إن الشمس أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فهل الطبيعة تكوكب هذا الكوكب النهاري، وتحشوه بالنار الملتهبة، ويعيش القرون العديدة؟ هل الطبيعة تفعل هذا؟ أية طبيعة هذه؟ عمياء، صماء، بكماء، لا عقل لها كيف تبدع وتتفنن؟! وعباد الهوى والشهوات والفروج يجرون وراء هذا حتى لا يعبدوا الله فقط.وإلا فنقول له وهو في بهو جامعة موسكو منبت الإلحاد: قف. يقف، نقول: أنت موجود أو غير موجود؟ فإن قال: غير موجود وأنكر وجوده قلنا: أخرجوه، هذا مجنون، وإن قال: موجود - اسم مفعول - قلنا: من أوجدك؟ هاه لا أدري، إذاً: أوجدك الله يا هذا، أنت ما تعرف؟ تعلم، أوجدك موجد الكون كله، الله جل جلاله، أنت تعرف هذا ولكن تنكر لا تريد أن تعبد الله.
منشأ رغبة امرأة عمران والسبب الداعي لتمني حصول الولد
إذاً: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ [آل عمران:35] هذه المرأة الصالحة كانت لا تلد وتاقت نفسها وجاش صدرها، لما شاهدت العصفور يغذي أفراخه، رفعت يديها إلى ربها، وقالت: ربّ هب لي من لدنك ذرية، هب لي من لدنك ولداً وأجعله لك، حتى أشعر بالغبطة والسرور والفرح وأنا لا أنتفع به أبداً، نذرته لك يعبدك ولا أستأنس به ولا يخدمني أبداً، المهم أن تطيب نفسي، وأن أحمل ولداً وألد. واستجاب الله لها، وحملت، وقبل أن تلد مات بعلها رحمة الله عليه، وتركها حبلى، مات زوجها، وتمت أيام الحمل وجاء الطلق ووضعت، وإذا بها تضع أنثى، فتتألم لذلك وتتحسر، الأنثى كيف تخدم ربها؟ تريد أن هذا الولد يخدم بيت المقدس، يحرس، يدعو، يربي، ينظف.. كذا، ويعبد الله عز وجل، الأنثى ما تستطيع، محجوبة، هي قالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35] خالصاً لك، لا يعمل معي شيئاً، من ساعة ولادته أعطيه غيري، حتى لا أستأنس حتى الأنس به.إذاً: وضعتها أنثى فقالت متحسرة متألمة: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران:36]، لا أنها تخبره وإنما تتحسر، تتأسف أنها فقدت تلك الأمنية، كانت تريد ذكراً يقوم بالعبادة في المسجد الأقصى، يعلم، يربي، يقوم، يحرس، أما الأنثى فما تستطيع. إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ [آل عمران:35] أي: يا ربّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35] أي: خالصاً فَتَقَبَّلْ مِنِّي [آل عمران:35] هذا النذر إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، السميع لقولي العليم بحالي، إذاً: فتقبل مني.
تفسير قوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى...)
قال تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].
ذكر ما ورد على امرأة عمران بظهور المولود أنثى مع قصدها كونه ذكراً لخدمة بيت المقدس
قوله: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا [آل عمران:36] ولدت، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ [آل عمران:36] أي: يا ربّ، إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى [آل عمران:36] فات الغرض، ما وصلت إلى الهدف، كنت أريده ولداً ذكراً يقوم بما يقوم به الرجال، أما المرأة ففي بيتها مقصورة على شغل المنزل، كيف تخدم الله في بيته؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، وهذا من قولها، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]؛ لأن الأنثى -كما عرفتم- يغمرها الحياء ويسترها، وتعيش في بيتها تنجب البنين والبنات وتربي الأولاد وتعبد الله عز وجل، ما هي بأهل لأن تجاهد ولا لأن تغرس ولا تحصد ولا تزرع ولا تبني، هكذا أوجدها الله لمهمة يعجز الرجال عنها، أم لا يعجزون؟ لو يجتمع الرجال كلهم والله ما أنجبوا ولداً ولا بنتاً، أو يستطيعون؟إذاً: فهذه الكثرة الكاثرة من أين تأتي؟ من بطون الأمهات أم لا؟ أي وظيفة أعظم من هذه؟ وأخرجوها للمصانع والمقاهي والملاعب، يستخدمونها ويقولون: هذا تشريف للمرأة! هم أذلوها وخانوها وأفقدوها كمالها، قالوا: هذه مساواة، ووالله إنها لمكرة اليهود وخديعتهم، وهم يعرفون هذا.إذاً: وليس الذكر كالأنثى فيما تقوم به هي وما يقوم به هو؟ وحنة تريد ولداً يخدم الله في بيت المقدس بيت الله: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:36]، ومعنى مريم باللغة العربية الفصيحة: خادمة الله.مريم معناها: خادمة الله، كعبد الله، عبد الله ما هو خادم الله، ويقولون: ماري، يقولون ما شاءوا من لغات مضطربة وداخلها الزيادة والنقص، وحسبنا أن ينطق الله بهذا، لو جاءوا بألف كلمة ما نقبلها، عيسى جاءوا له بأسماء يتخبطون فيها، والله خالق عيسى وأمه قال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [الصف:6]، أقول: هذا يوجد في الأناجيل وعند اليهود، هذه الأسماء محرفة وفيها التقديم والتأخير والسين شين.. وما إلى ذلك، ولا قيمة لهذا، أم له قيمة؟ أيقول الله ونقبل قول فلان وفلانة، أين يُذهب بعقولنا.
تسمية امرأة عمران ابنتها وتعويذها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، تذكرون الحكاية هذه؟ درسناها أربعين سنة، نساؤنا، أمهاتنا، جداتنا، عرفنا هذا وتعرفونه وتجحدون، بمجرد ما يخرج الولد من بطن المرأة: هات الحديدة وضعيها عند رأسه حتى تعوذه من الجن! ما إن يوضع الولد حتى يقال: هات السكينة. ضعوها عند رأسه. هذه المحمدية المسلمة، وهذه اليهودية المؤمنة! انظر الفرق بين هؤلاء وهؤلاء، هذه قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، والمسلمة الجاهلة: هات الحديدة.. هات السكين ضعيه عند رأسه.إنه الجهل، فلِم نبقى جهالاً؟ أما عندنا نور الله، أما عندنا هداية رسول الله؟ نحن الذين رضينا بهذا الجهل. ويعلقون في عنق الولد خيطاً وفي رأسه حرزاً، وكأن الله لا يعرفونه، ما يسألون الله ولا يتوسلون إليه، لا إله إلا الله، صحيح هذا أو كذب؟ومن قال: ما ندري؛ نقول: هل حكمنا الشرق والغرب واستعمرونا أم لا؟ تنكرون هذا، كيف يستعمروننا ويستغلوننا ويستذلوننا؟ لو كنا كما أراد الله لنا فمستحيل ذلك، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] ، لكن هبطنا وأشركنا بالله، عبدنا كل شيء سوى الله عز وجل، عرفنا الكثير ولم نعرف الله، هذا وضع العالم الإسلامي في قرون الظلام من الثامن إلى أمس، ما ننكر هذه الحقائق. هذه الإسرائيلية امرأة رجل صالح، عالمة هذه، هذه نذرت ما في بطنها بعد الشوق والاحتراق إلى الحمل، لما حصل جعلته لله: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، لما حان الحين ووضعتها ووجدتها أنثى تأسفت وتحسرت؛ لأن الأمل فقد في كونها بنتا وليست بولد، ومع هذا لجأت إلى الله وقالت: ربّ إني أحصنها بك وأحصن ذريتها من الشيطان الرجيم، حتى لا يعبث بها الشيطان أو بولدها فيعبد سواك يا رب العالمين، عرفتم هذه التعويذة؟ واستجاب الله لـحنة فتقبلها ربها، استجاب الله لـحنة فحفظ ابنتها مريم ، وحفظ ابنها عيسى، إذ قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا [آل عمران:36] هي ما تدري، قالت: ممكن أن تلد بنتي هذه. وولدت عيسى.
أثر تعويذ امرأة عمران ابنتها وذريتها على عيسى عليه السلام
هذا أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع، يقول صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود ) بصيغة العموم: ( ما من مولود يولد إلا نخس الشيطان في خاصرته فيشهق، إلا ما كان من ابن مريم ) ، عيسى عليه السلام، ما من مولود بمجرد ما يسقط من فرج أمه قبل أن يقع على الأرض، يعلمه ليكون من أتباعه أو من تلامذته، كأنه طابع، ينخسه نخسة، فيشهق الولد، سمعتم هذا أو لا تعرفونه؟ اذهبوا إلى مستشفى الولادة ليعلموكم، ما إن يخرج حتى فيشهق ، لماذا ما زهق أيام كان في بطن أمه؟استجاب الله لهذه المؤمنة الربانية المرأة الصالحة حنة امرأة عمران : ( ما من مولود يولد إلا ينخس الشيطان في خاصرته فيشهق إلا عيسى بن مريم ).
خبر طلب الخليقة من الأنبياء الشفاعة إلى الله تعالى لفصل القضاء ودلالته على امتناع ذرية مريم على الشيطان
وإليكم برهنة أخرى ودليل قاطع من أبي القاسم، ما يقال هذا بالرأي ولا بالهوى:ساعة ما تكون البشرية كلها على صعيد واحد، تنتظر حكم الله فيها إما بالإنعام أو الإشقاء في عرصات القيامة وساحتها، ويطول الموقف، ويطول الزمان، واليوم طويل: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] والله العظيم خمسون ألف سنة! اليوم عند الله في أيامنا هذه بألف سنة، ألف سنة من أيامنا بيوم واحد فقط.الآن نحن أمة محمد لنا يوم ونصف عند الله، من يوم ما وجد نبينا ووجدنا معه إلى الآن يوم ونصف تقريباً فقط، ما كمل يوم ونصف: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، نحن نعد بحساب هذا الكوكب الموجود في هذه القريبة منا.إذاً: فتأتي البشرية إلى آدم: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند الله، يفصل بيننا وينهي هذا الموقوف، طال الوقوف. فيعتذر آدم، ويبعثهم إلى نوح فيعتذر نوح، يبعثهم نوح إلى إبراهيم فيعتذر، يبعثهم إلى موسى فيعتذر، يبعثهم إلى عيسى.محل الشاهد: أن آدم يقول: كيف أكلم ربي وقد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وأنا نهاني عن أكل شجرة فأكلت، ما عندي وجه أقابل به ربي.نوح يعتذر بهذه الدعوة العامة: أنا دعوت على البشرية كلها بالهلاك، وهذا عيب ما ينبغي، ما أستطيع أن أكلم ربي، أما قال: لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]؟اذهبوا إلى إبراهيم، إبراهيم قال: أنا كذبت ثلاث كذبات، كيف أكلم ربي؟ كم كذب إبراهيم؟ ثلاثا، نفضح أنفسنا أم لا؟ كم كذب شيخكم؟ والله ما أذكر أني كذبت كذبة، لكن لا شك أنني كذبت، هذه دهور، لكن على علم ما عندي، إذاً: ثلاث كذبات، استحى أن يخاطب الله عز وجل، وكذبات إبراهيم خير من صدقنا نحن، عرفتم أم لا؟ كذباته الثلاث خير من صدقنا؛ لأنه كذب لله لا لهواه ولا لدنياه، ولا لشهوة، كذب من أجل الله. قال لـسارة لما أمر الملك الظالم بإدخالها عليه: إن سألك فقولي أخي. حقاً هو أخوها، وقال: لا يوجد على الأرض إلا أنا وأنت، ولكن اعتبرها كذبة لأنها زوجته.الثانية: لما كاد لجماعة الأصنام وجلس، هيا لتخرج معنا عيد الفصح، نظر نظرة في النجوم وقال: إني سقيم، أنا مريض، تركوه، لما ذهبوا مال إلى أصنامهم وحطمها، هذه الكذبة لمن؟ لله أم لا؟الكذبة الثالثة: لما حاكموه وجاءوا به: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:62-63]، يشير إلى أصبعه الكبيرة.إذاً: كسر بهواً كاملاً من الأصنام: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ [الأنبياء:58]، ترك هذا الكبير الإله الأكبر عندهم! فلما جاء التحقيق قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65]، إذاً: كيف تعبدونهم وهم لا ينطقون؟والشاهد عندنا: أن إبراهيم قال: ما أستطيع أن أكلم ربي وقد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وقد كذبت، عليكم بموسى.يأتون موسى، وما ندري أيأتون في ساعة، في عام، في ألف سنة، يا موسى! أنت كليم الله، أنت رسول الله، اشفع لنا عند الله يقضي بيننا ويحكم فينا، ما أطاقوا الموقف حفاة عراة تغلي أدمغتهم، العرق إلى أفواههم، فيقول: وكيف أخاطب ربي وقد غضب، وأنا قتلت نفساً؟ هل قتله عمدا؟ لا أبداً، لا يؤاخذ عليه، مر باثنين يتقاتلان قبطي وإسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي: تعال يا موسى. فجاء فضرب بجمع كفه فمات، وأعلن عن توبته: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]، ولكن يقول: عليكم بعيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى فلا يذكر سيئة، ما يذكر خطيئة، ما عمل خطيئة، كيف؟ ما عاش ثلاثا وثلاثين سنة، بل عاش ستين سنة، سوف يكمل أيضاً ثلاثين أخرى هذه الأيام، تعرفون أم لا؟ والله ليأتين عيسى ويتمم عمره، يعيش كنبينا ثلاثا وستين سنة؟من أخبرنا بهذا الكلام يا أبناء الإسلام؟ رسول الله، ما هي بأحاديث حسان ولا ضعاف، أحاديث كالمتواترة من أنكرها يكفر، من أخبر رسولنا بهذا؟ لقد تلقاه من علم الله ووحيه، عيسى ما يذكر ذنباً قط، استجابة الله لجدته، انظر إلى هذه البركة، هذه المرأة الصالحة دعت دعوة استجابها الله في بنتها وفي ذريتها، عيسى عليه السلام ما أذنب ذنباً قط، محفوظ بحفظ الله؛ لأن الشيطان لا مجال له أبداً عنده؟ ما يقربه، وكيف حالنا نحن مع الشيطان، كل كذبة، كل سرقة، كل عمل سيء هو منه، لا يمكن أن يوجد عمل باطل على الأرض إلا بدعوة إبليس ودفعه، فمن قاومه ولجأ إلى الله في صدق واستعاذ به ولم يترك ذكر الله أبداً لا يقوى الشيطان عليه، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غير فجه، تعرفون الفج أم لا؟ الشارع الواسع، أما الضيق فلا يمكن، الواسع لا يمشي معه فيه، يحترق، كيف حصل عمر على هذا؟ بطهارة روحه، ما أصبح الشيطان يجد مكاناً لأن يدخل فيه، تحرقه أنوار قلبه.إذاً: قالت عليها السلام: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، استجاب الله لها أم لا؟عيسى ما ذكر ذنباً، قال: ( عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنا لها، أنا لها ) عندي موعد سابق، ما ذكر ذنباً ولا غيره، قال: أنا لها؛ لأن الله أعطاه هذا وعلمه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، هذا هو، يحمده عليه أهل الموقف أجمعون، (أنا لها)، قال: ( وآتي فأخر ساجداً تحت العرش فيلهمني ربي محامد أحمد الله بها، وأثني عليه بها، ولا أزال كذلك حتى يقول لي: يامحمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع )، فصلوا عليه وسلموا تسليماً.اسمع الصديقة ، تقول لك: في ليلة شاتية من ليالي البرد في المدينة، أيام كان البرد له معناه، ما هناك مكيفات ومدفآت، قالت: ( التمست رسول الله في فراشه فلم أجده -في تلك الليلة الباردة المظلمة- فبحثت عنه فوجدته قد اغتسل بالماء البارد، وهو يصلي ويبكي ودموعه تسيل على الحصير، فقلت: أي رسول الله! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة ! أفلا أكون عبداً شكوراً )، اسمع: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115] الآية، حتى قال له: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]، التهجد إزالة الهجود وهو النوم والسكون، نافلة، عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، بعثه أم لا؟ هو هذا المقام يحمده عليه أهل الموقف كلهم، ثم يأخذ الله عز وجل في فصل القضاء فيكون الميزان والصحف تتطاير وأهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
ذكر بعض ما يعاذ به الأطفال من التعويذات النبوية
قالت: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].عرفتم بم نعوذ أطفالنا أم لا؟ بالصالحين؟ بتراب مولاي فلان؟ اسمعوا هذه التعويذة، عوَّذ بها إبراهيم إسماعيل وهو صغير، ووصلت إلى أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فعوَّذ بها الحسن والحسين ، ووصلتنا الآن فنعوذ بها أولاد المؤمنين، لكن لا أفتح الباب لكل واحد يأتي بابنه يقول: يا شيخ عوُّذه لي، نعم الآن كل واحد يأتي بالماء والشيخ يرقي، احفظوها وعوذوا بها أولادكم وأولاد المؤمنين: ( أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة )، ضع يدك على رأس الغلام أو الفتاة: ( أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ) ثلاث مرات، يحفظ بإذن الله، (أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة) الهامة الحيوانات القاتلة، (ومن كل عين لامة)، أي عين هذه؟ عين الحسود التي تدخل الجمل القدر والرجل القبر.( أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ) قال: هذه عوذ بها إبراهيم إسماعيل، وهو يعوذ بها الحسن والحسين ، وعوذوا بها أنتم أولادكم وأولاد المؤمنين.هكذا ضع يدك اليمنى على رأس الغلام وقل: ( أعيذكَ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة )، وإن كانت بنتاً: ( أعيذكِ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة )؛ لأنك تخاطب أنثى: (أعيذكِ)، والولد: (أعيذكَ).وأما جمع مجموعة ليرقيهم مرة واحدة فلا، بل كل واحد تضع يدك وترقيه، هذه فكرة جديدة، بعض الطلبة يأتي بكذا إناء ويقرأ عليها مرة واحدة وينفث، أنا ما تطيب نفسي لهذه، كل واحد ترقيه على حدة.
تفسير قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا...)
قال تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].قوله: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران:37] تقبل مريم بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران:37].أولاً: لما ولدتها لفتها في القماطة، والقماطة خرقة بيضاء نظيفة يلف فيها الولد قبلما يكون له ثوب ولا سروال، لفتها في قماطتها وبعثت بها إلى مجتمع صلحاء بني إسرائيل، قالت: هذه نذيرة الله ليس لي فيها شيء، وتنافس الصلحاء من يكفلها لا لأنها تدر عليه الرزق ويحصل على المال بل لإنها يتيمة أبوها مات ما ترك لها شيئاً، فمن يكفلها، تنازعوا كل يقول: أنا، يريد أن يظفر بهذه النذيرة؛ لأنها نذيرة الله لتتربى في بيته، فلما أخذها زكريا استأجر لها ظئراً سنتين على حسابه، استأجر لها مرضعاً عامين كاملين، هكذا يقول ابن عباس ، فلما أراد كل أن يأخذها قالوا: الحل الوحيد القرعة، والقرعة العوام يعرفونها في البدو والحضر وطلبة العلم يعرفونها، وهي: الاستهام، هاتوا أقلامكم، هات يا زكريا قلمك الذي تكتب به. هات يا فلان قلمك، هذه الأقلام ما هي أقلام أدبائنا اليوم ولا أقلام رجالات الصحافة.وقد عثرت اليوم على ورقة على قدر كفي في البيت، ووجدت فيها كاتباً صحافياً جزائرياً يقول: الشيخ الجزائري أثبتوا له التابعية وطرد.وذلك لأنهم لما قال الهابطون الروافض: يا سعودي يا يهودي، ركبنا السيارة، فطلع في السيارة مداح بالدف ومنشد يجمعون الفلوس بالأغاني، وهذه عادة قديمة ما زالت في بلاد العرب.. من مظاهر الهبوط عرفناها يتغنون بسب الملك سعود رحمة الله عليه بنسبته لليهود. أهذه أقلام الإيمان والإسلام؟ أهذه الأقلام لها قيمة؟ لا والله بل أقلام تكتب الباطل والكذب، ونحن أتباع محمد كما تعرفون لا نقول الكلمة حتى نزنها ونقدرها ونعرف أتنفع أم تضر، فإن كانت حقاً تنفع قلناها، وإن كانت تضر والله ما نقولها: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، حدثت بهذه الكلمة ففهموها على العكس وقالوا: الشيخ الجزائري طرد من المملكة وسحبت منه التابعية.. وجدتها في صحيفة. فأين يذهب بنا؟ صلحاء بني إسرائيل علماء ربانيون يتنازعون أيهم يكفل مريم؟ من يفوز بها؟ فلما تنازعوا فيها وكل رغب في أن تكون في بيته ألجأتهم الحال إلى الاقتراع، هاتوا أقلامكم.. وهل أقلامهم كانت تكتب الباطل.. تكتب الشر.. تدعو إلى الفجور إلى الكذب إلى الفتن؟ لا والله، صلحاء، ومن هنا جمعوها وقالوا: نطلقها قلماً بعد قلم، والقلم الذي يقف في الماء ولا يغرقه الماء ذاك الذي يفوز بها صاحبه. أخذوا الأقلام: ارم القلم يدحرجه الماء، ارم القلم يعبث به الماء في النهر، رموا بقلم زكريا فوقف، الله أكبر! خذها يا زكريا. من الذي كفله إياها؟ الله: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، قراءة سبعية: (وكفَلَها زكريا) أيضاً؛ لأن زكريا تحته خالتها أخت أمها، زكريا امرأته أخت حنة ، وهذا تدبير الله.
معنى قوله تعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً...)
قال تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:37].كبرت وارتفعت وأصبحت تأكل وتشرب وأصبحت تستطيع أن تعبد الله، بعد أربع أو خمس سنين ماذا يصنع زكريا وهي نذيرة لله، فما كان منه إلا أن وضعها في المحراب، المحراب عبارة عن مقصورة لاصقة بالمسجد وبابها مفتوح إلى المسجد ويصعدون إليها بدرجتين أو ثلاث، يتعدد فيها العباد، وضعها هناك تعبد الله عز وجل إذ هي لله لا يحل لها أن تكنس ولا أن تطبخ ولا أن تعطي، مهمتها أن تعبد الله عز وجل.فكان عليه السلام يأتيها بالطعام والشراب من بيته، يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الصيف والشتاء، عجب، الآن اختلط الأمر وأصبحت الفواكه في كل وقت، هيأ الله أسبابها، قبل سبعين سنة لا يمكن أن تجد طعام الشتاء في الصيف.المهم: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37] تجيبه قائلة: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، كيف لك هذا؟ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، وتعلل فتقول: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].رأيت اليوم أحد المفسرين يحاول أن ينكر هذه الحقيقة، قلنا: هذا خبيب مسجون في مكة في بيت امرأة ينتظرون إعدامه خارج الحرم، فكانت المرأة تحلف بالله أنها كانت تجد عنده العنب في الشتاء يأكله، من أين هذا؟ ما هو بنبي، هذا خبيب .ويدل لهذا أن زكريا لما شاهد العجب قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38].كان يظن أن سنة الله ما تنخرق، ما دام شيخًا كبيرًا وامرأته عقيم وهو عاقر فما هناك ولد، ولما شاهد العجب: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].لما شاهد قال: إذاً لله تعالى أن يعطي ما يشاء، لا قيمة للسنن أبداً عند الله، يخرقها ويبطلها.ونترك هذا للدرس القادم إذا عشنا إن شاء الله.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg