-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(73)
الإرهاص لداود عليه السلام
كان في فلسطين على عهد موسى – ومن قبل موسى – طائفة من الوثنيين، لا يؤمنون بربهم، ولا يستجيبون لدعوة رسول، وقد أراد موسى جهادهم بأمر الله، ولكن أتباعه من بني إسرائيل عصوه وقالوا له: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24].
هؤلاء الوثنيون الجبارون ظلوا على كفرهم، حتى كانت النبوة من بعد موسى – بوقت ما – لرسول آخر يدعى «شمويل».
وقد أخبر هذا الرسول أمته أن الله اختار لهم – طالوت – ملكًا عليهم وهو الذي سينهض معهم بقتال الجبارين، وقد خرج طالوت يومًا بجيشه، واستقبل الجبارين تحت قيادة ملكهم – جالوت- وحينما رأى المؤمنون جيش الكافرين في كثرته وعتاده، حسبوا حسابه، ولكنهم اعتزوا على الكثرة بمعونة الله، وقالوا: ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ). وتهيئوا للقاء العدو، وكان في جيش المؤمنين غلام، لا عهد له بالحروب، ولا طاقة له بحمل السلاح والمقاومة، وهو غلام يرعى الغنم، ويحمل المقلاع والأحجار ليذود عن غنمه، ويجلب لها الكلأ، ويسقط أوراق الشجر ليطعمها.
نهض الغلام بمقلاعه، وقذف جالوت الملك القائد بحجر، فأصاب رأسه، وصرعه قتيلًا، ففر جيشه الكبير خوفًا من الجيش القليل، وأعز الله حينئذ طالوت، وكفى الله المؤمنين القتال، ثم حمل هذا الفتى – واسمه داود بن يسى – رأس جالوت، وذهب فخورًا بها إلى طالوت – الملك – فأعجب به، وأكبر شأنه، وزوجة ابنته، وأوصى له بالملك بعده.
ثم ظهر أن ذلك كله إرهاص لداود، إذ ظهر من حكمة الله أن اختاره للرسالة وأنزل عليه الوحي بها، وهو أول إنسان من بني إسرائيل اجتمع له سلطان الملك في الدنيا، وشرف الرسالة في الدين، وأقام الله به دينًا، ودولة.
فرمية الحجر بالمقلاع من غلام، وقتل الملك، وفرار جيشه، وانتصار المؤمنين في هوادة من غير تضحية، واندحار الجبارين في هوان بعد أن عاثوا في الأرض مفسدين زمنًا طويلاً.. كل هذه أحداث خارقة للعادة، وهي إرهاصات – ولا شك – لما تحقق لداود من شأن الرسالة.
وخاصة: بعد الذي عرفنا سابقًا من مهابة بني إسرائيل لحرب الجبارين وتخلفهم عن دعوة موسى إلى ذلك، وقولهم لموسى – عليه السلام - «إن فيها – القدس – قومًا جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها» وقولهم أخيرًا لموسى ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) [المائدة: 24].
وقد تحدث القرآن عن أصل القصة في سورة البقرة من آية (247) وختمها في قوله تعالى: ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) [البقرة: 251]، وهو داود أبو سليمان عليهما السلام (1) .
(1) الوحي إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد اللطيف السبكي، ص(20، 21)، ط: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (الكتاب الحادي والخمسون 1389هـ - 1969م).
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(74)
الإرهاص ليحيى بن زكريا عليه السلام
كان رسول الله زكريا – عليه السلام – غير منجب للذرية حتى بلغ من العمر مائة وعشرين سنة، وبلغت زوجه التسعين، وذلك أشبه بحال إبراهيم وسارة.
وكان زكريا كفيلاً على مريم في تربيتها، ورعايتها، لأنها فاقدة الأب، ولأن زكريا زوج خالتها، وبحكم تردده على مريم في محرابها الخاص بها كان يشهد مشاهد عجيبة من تكريم الله لمريم بنزول الطعام لها من عند الله.
وكان هذا التكريم يثير في نفسه الحنين إلى الذرية، ويغالبه الأمل في الله أن يرزقه ذرية طيبة ويدعو، ويكثر الدعاء في ذلك.
والقرآن يسوق لنا قصصه عن ذلك في مقامين، يعتبر كل منهما إرهاصًا ليحيى عليه السلام.
أحدهما: في سورة آل عمران إذ يقول الله تعالى: - «هنالك – يعني في موقف من مواقفه عند مريم – دعا زكريا ربه، قال: «رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ » [آل عمران: 38 – 39].
فانظر كيف يستجيب الله دعاء زكريا؟ وكيف تكون بشرى الملائكة له بمولود ذكر، وباسم المولود يحيى، وأنه سيكون جامعًا لصفات من الكمال، بل سيكون رسولاً، وسيكون حصورًا عن زواج النساء ليكون متفرغًا للرسالة والعبادة، على نحو ما كان التبتل قديمًا من العبادة.
هذه البشرى استعظمها زكريا، وكأنه رغب في التحقق منها: لا لشك عنده في خبر الملائكة – ولكن ليزداد سرورًا بسماع ما يؤكدها له من جانب الملائكة... فقال: « قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ » [آل عمران: 40].
يا رب: كيف أطمع في هذا بعد أن بلغت من الكبر ما بلغت.. ومع أن زوجتي عاقر لم يسبق لها حمل في زمن كان يرجى فيه حملها؟
ثم يتفضل الله على زكريا فيوحي إليه ما يزيده اطمئنانًا «اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ».
فيعود زكريا، ويلتمس من فضل الله علامة على ذلك، عندما يحين الموعد الكريم... فيوحي إليه الله أن علامة هذا: أنك تُمنع من كلام الناس بلسانك ثلاثة أيام بلياليها.. ولكنك تتفاهم معهم بالإشارات رمزًا، وعليك أن تكثر من ذكر ربك، وتسبيحه كل أوقاتك «قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً » [آل عمران: 41].
فهذا القدر من قصص القرآن إرهاص واضح بشأن يحيى – عليه السلام – من قبل أن يخلق، بل من قبل أن تحمل فيه أمه.
وهذا القدر المذكور قد يزداد وضوحًا لنا إذا ذكرنا المقام الثاني لهذه القصة من سورة مريم، ففي هذه السورة نرى تفصيلاً جميلاً لبعض الجوانب في القصة.
فزكريا يناجي في ضراعة خافية على الناس: يشكو ضعف جسمه واشتعال الشيب في رأسه لكبر سنه وأن هذه أخريات العمر، وامرأته عاقر لم تنجب له ولدًا، وأنه يخاف بعد وفاته على شريعة الله أن يعبث بها من يتولون الأمر بعده من بني إسرائيل كما هو دأبهم في التبديل، والتحريف.. وأنه يتعلق بالرجاء في الله أن يرزقه من فضله وليًّا يخلفه في الدعوة إلى الله ويكون وارثًا لأبيه، وللأخيار من آل يعقوب في البركة، والهداية، والإرشاد.. إلى آخر ما عرف من شأنه في هذا الاتجاه.
ويكون من فضل الله أن يستجيب له كما تقرر فيما أسلفنا من سورة آل عمران، وتصارحه البشرى في هذه المرة بأن اسم يحيى: لم يسبق لغير ولده، وهذا مما يزيده تفاؤلاً بابنه المرموق.. وتستغرق هذه القصة في سورة مريم أربع عشرة آية.. والشطر الأول منها في حكاية ما يقوله زكريا .. والشطر الثاني في تأكيد البشرى، وهو « يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ » [مريم: 7 – 9].
ونكتفي بهذا القدر من الإرهاصات في حياة الأنبياء السابقين وننتقل إلى الإرهاص في حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(75)
الإرهاص لمحمد صلى الله عليهوسلم
كما جرت سنة الله _ تعالى _ أن يكون لبعض الرسل إرهاصات سابقة على بعثتهم كان الشأن كذلك مع خاتم الرسل محمد صلى الله عليه و سلم فلم يكن محمد بدعا من الرسل في الإرهاص له , كما لم يكن بدعاً من الرسل في اختياره رسولاً إلى الناس , و إن زاغ عن ذلك أهل الإفك و الضلال ممن كفروا به , مفترين على الله و رسوله ما ليس لهم به علم .
وبقدر ما كانت رسالة سيدنا محمد خطيرة الشأن بعد غيرها من الرسالات الأولى كان الإرهاص لها أعمق في التاريخ , وأفسخ مدى في جوانبه العلمية ،ووجه ذلك : أن الحياة الدنيا قبل بعثة محمد صلى الله عليه و سلم كانت متصدعة في نظمها الاجتماعية و في قيمتها الأدبية .
و كانت الإنسانية في ظمأ شديد إلى تشريع سماوي جديد يشفى غلتها , و يسد ذلك الفراغ الشاغر في مجتمعها , و يكفل توجيه الناس إلى الخير المنشود و يرأب الصدوع التي أحدثها الجهل الفاشي في البيئات البدائية , والتي أثارها النزاع الطائفي بين أهل الكتاب حتى طمسوا أكثر معالم الرشد التي جاءت بها الكتب السماوية الأولى.
وحينئذ تكون الشريعة المرجوة تامة , و نهائية , لا تمهيدية , و حسب الدنيا ما مر بها من التجارب في عصورها الغابرة.
وحينئذ _ أيضا _ يكون الإرهاص لهذه الشريعة مدعوماً بوسائل البيان الواسع الذي يقوم عليه صرح الدعوة شامخاً , لا تنال منه محاولات المبطلين مهما بطل الزمن.
وإزاء هذه الاعتبارات كانت حكمة الله متجاوبة مع طموح البشرية إلى الهداية الكاملة ، وكانت متلاقية مع الأهداف المثالية للإنسانية بالتوجيه إلى تلك الرسالة عبر الإرهاصات و المعجزات التي خص بها صلى الله عليه و سلم و إليك الحديث عن هذه الإرهاصات .
أخذ الميثاق على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه:
من الإرهاصات التي سبقت ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وأعلنت عن عظيم قدره , ورفيع منزلته ، وإكرام الله له : أخذ الميثاق على الأنبياء و المرسلين أن يؤمنوا به و ينصروه إن أدركوه و لحقوه ، فإن لم يدركوا زمنه فليبشروا أممهم بمجيئه و ليعهدوا إليهم بالإيمان به و النصرة له , قال تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّه ُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[ سورة آل عمران /81 ، 82 ] .
و الميثاق في اللغة : عقد مؤكد بيمينو الميثاق : ــ العهد ــ وفيه معى الحلف ففي أخذه استحلاف لهم .
وأخذ الميثاق من المرء عبارة عن كون المأخوذ منه وهو المعاهَد ــ بفتح الهاءــ يلتزم للآخذ وهو المعاهِد ــبكسر الهاء ــأن يفعل كذا مؤكداً ذلك باليمين أو بلفظ من المعاهدة أو المواثقة .
و معنى ميثاق النبيين ما وثقوا به على أنفسهم من طاعة الله فيما أمرهم به و نهاهم عنه .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(76)
تفصيل الأخذ في الميثاق
وأخذ الميثاق يقتضى آخذاً و مأخوذاً له و مطلوباً للأخذ . فآخذ الميثاق : هو الحق تبارك و تعالى كما يدل عليه ظاهر اللفظ.
والمأخوذ عليه الميثاق تعددت فيه الأقوال :
ففريق قال : المأخوذ عليه الميثاق هم النبيون كما يدل عليه ظاهر اللفظ.
وفريق قال : بل المأخوذ عليه هم أولاد النبيين على حذف المضاف و المراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم.
وفريق قال : بل المأخوذ عليه أمة النبيين فقد ورد كثيراً في القرآن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم و يراد به الأمة كقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء) [ سورة الطلاق / 1 ].
وفريق قال : المرد من النبيين بنو إسرائيل و إنما سماهم الله بذلك تهكماً لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه و سلم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شأن فخان فيه ثم زعم الأمانة : يا أمين ماذا صنعت بأمانتي:؟.
وهذه الأقوال مبينة على إن الإضافة في قوله " ميثاق النبيين " من إضافة العهد إلى المعاهد منه .
وهناك نوع آخر من الإضافة ينبني على معنى آخر ( وهو أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثوق لا إلى الموثوق عليه كما تقول ميثاق الله وعهد الله , كأنه قيل : (وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم ).
والمأخوذ له الميثاق : هو سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كما قال الإمام علي و ابن عباس رضي الله عنهما ، واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلي معين كقوله " ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً"ــ إلى قوله تعالى ــ " وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ " ( سورة النحل من 112 -113)
ومطلوب الأخذ : هو الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم و النصرة له.
يقول العلامة الخازن في تفسيره " و ذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين :
أنه مأخوذ من الأنبياء.
أنه مأخوذ لهم من غيرهم.
فلهذا السبب اختلفوا في المعنى بهذه الآية ــ فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضاً , وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء و ينصره إن أدركه , وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه ، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، و من عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه و سلم ــ و هذا قول سعيد بن جبير و الحسن و طاووس"(1).
والحكمة من وراء ذلك : " أنه لما كان القصد من إرسالهم واحداً وجب أن يكونوا متكافلين متناصرين ، إذا جاء واحد منهم في زمن آخر آمن به و نصره بما استطاع , ولا يلزم من ذلك أن يكون متبعاً لشريعته كما آمن لوط لإبراهيم و أيد دعوته ، إذ كان في زمنه "(2)
و قيل أنما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلى الله عليه و سلم خاصة ــ وهو قول علي و ابن عباس و قتادة و السدى .
فعلى هذا القول اختلفوا : فقيل إنما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل إليهم النبيين و يدل عليه قوله : ( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّه ُ ) "وإنما كان محمداً صلى الله عليه و سلم مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين ، و إنما أطلق هذا اللفظ عليهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل كتاب و النبيون منا.
و قيل أخذ الله الميثاق على النبيين وأمهم جميعاً في أمر محمد صلى الله عليه و سلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الإتباع وهو قول ابن عباس.
قال الإمام علي رضي الله عنه : " لم يبعث الله عز وجل نبياً , آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به و لينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ... " (3)
و قيل : إن المراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون العهد و الميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه و سلم أن يؤمنوا به و ينصروه ــ و هذا قول كثير من المفسرين .
و يؤكده أن الله تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين , و هذا الوصف لا يليق بالأنبياء و إنما يليق بالأمم.
وإلى هذا ذهب ابن عابس رضي الله عنهما _ فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال : قلت لابن عباس إن أصحاب عبد الله يقرءون ( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) و نحن نقرأ ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ) (آل عمران81) فقال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم ــ وأشار بذلك رضي الله عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين " .
(1) تفسير الخازن ( 1 / 373 ) ، وانظر : تفسير البغوي ( 1 / 374 ) ، حاشية الجمل ( 1 / 292 ).
(2) تفسير المنار ( 3 / 289 ).
(3) تفسير الطبري ( 6 / 555 )، والمحرر الوجيز ( 2 / 488 ) ، وتفسير الخازن ( 1 / 373 ) ، والبحر المحيط ( 2 / 509 ) ، والشفا (1/ 36 ) ، والوفا لابن الجوزي ( 1 / 37 ) وإسناد الحديث عند الطبري ضعيف من أجل سيف بن عمر ــ أحد رواته ــ قال عنه ابن عدي : بعض أحاديثه مشاهير وعامتها منكرة لم يتابع عليها ، التهذيب ( 2 / 470 ) . وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبري ( 5 / 556 ) وإسناده ضعيف ، فيه محمد بن حميد الرازي ، قال عنه ابن حجر في التقريب : " حافظ ضعيف وكان ابن معين حسن الرأي فيه " ، وفيه أيضا : محمد بن أبي محمد المدني ، قال عنه ابن حجر في التقريب ( 2 / 214 ) : مجهول .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(77)
القول الراجح في المأخوذ له الميثاق
والقول الذي أرجحه و يميل إليه قلبي و تستريح له نفسي : هو أن الله أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وأن ينصروه.
و معلوم بداهة أن الأخذ على المتبوع في طيه أخذ على الأتباع حيث إنهم مأمورون باتباع أنبيائهم فيما جاءوا به وأرشدوا إليه , وعليه فيكون أخذ الميثاق واقعاً على الأنبياء كفاحاً وعلى أممهم بالتبعية لهم.
روى الطبري بسنده إلى السدى قال في قوله ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ ). الآية " لم يبعث الله عز وجل نبياً قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد و لينصرنه إن خرج وهو حي,وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به و لينصرنه إن خرج وهم أحياء"(1) .
و قال ابن كثير : " قال علي بن أبي طالب و ابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به و لينصرونه "(2).
وقال ابن هشام : و كان الله ــ تبارك و تعالى ــ قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به , و التصديق له , و النصر له على من خالفه , وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم ، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيهم , يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ .....الآية )(3) .
ويقول بعض العارفين :- فآدم كانت أوامره بنصرته لأولاده لا تحصى , و نوح عهد إلى أتباعه باتباعه ووصى , و الخليل كان أكثرهم اجتهاداً في ذلك وحرصاً , و بنوه تواصوا و إسماعيل أكثرهم فحصاً , وتوراة موسى نطقت بنعته و صفاته , وأبانت عن معانيه وآياته , و أوضح برهان على ذلك و دليل ( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ) , وزبور داود أفصح بصدق معجزاته و أعرب عن ظهور بيناته ، وإنجيل عيسى شهد بأنه الخاتم الذي يشكر ويحمد , وصرح به قوله تعالى : ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (4).
و بناءً على هذه الأقوال يكون المقصود من قوله تعالى : (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ..... الآية ) رسولاً واحداً وهو محمد صلى الله عليه و سلم .
و بذا يضعف القول إلي ذهب إلى أن الميثاق إنما أخذ على كل نبي في النبي الذي يأتي بعده.
والذي يدعم ذلك و يؤكده وجوه :
الوجه الأول : أنه لم يرد في آية ولا في حديث صحيح أن الله تعالى أخذ العهد في شأن نبي غير نبينا صلى الله عليه و سلم , و يؤكده أن الميثاق في الآية مأخوذ من جماعة لمفرد " النَّبِيِّيْنَ , جَاءكُمْ " هذا في المأخوذ عليه أما المأخوذ له فقال " رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ".
الوجه الثاني : أن القرآن لم يصف نبياً بأنه مصدق لما بين يديه أو مصدق لما مع الأنبياء قبله ، غير نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لم يوصف كتاب بأنه مصدق لما بين يديه غير القرآن .
قال تعالى (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ)[ سورة البقرة / 89 ] .
و قال تعالى ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )[ سورة البقرة / 97 ] .
و قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)[ سورة المائدة / 48 ] .
و قال تعالى : (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[ سورة الأنعام / 92] .
و قال سبحانه في وصف النبي صلى الله عليه و سلم (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ)[ سورة البقرة / 101 ] .
و انظر كيف قال الله تعالى في حق عيسى عليه السلام (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ )[ سورة المائدة / 46 ].
و قال سبحانه (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) [ سورة الصف / 6 ] .
و يقول تعالى أيضاً (وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ )[ سورة آل عمران / 50 ] .
فعيسى الذي جاء متمماً لشريعة موسى عليهما السلام لم يكن إلا مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، والإنجيل الذي جاء به كان مصدقا لما بين يديه من التوراة فقط , ولكن التوراة التي جاء عيسى متمماً ومصدقاً لها لم تكن مصدقة لما أنزل على إبراهيم أو لوط أو شعيب عليهم السلام , لتباين الشرائع المنزلة , ولأن تصديق الكتب كلها و الهيمنة عليها من خصائص القرآن العظيم.
(1) تفسير الطبري ( 6 / 556 ) .
(2) تفسير ابن كثير ( 1 / 378 ) .
(3) السيرة لابن هشام ( 250 ) .
(4) إيثار الحق على الخلق ص 82 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(78)
بقية وجوه الترجيح في المأخوذ له الميثاق
الوجه الثالث : أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامة , و شريعته دائمة , فناسب أن يؤخذ العهد على الأنبياء ــ إن ظهر في زمانهم ــ أن يؤمنوا به و ينصروه لعموم دعوته التي تشملهم , بخلاف الأنبياء , فقد كان كل واحد منهم يبعث لقومه خاصة , وربما اجتمع في الزمن الواحد نبيان وثلاثة وأكثر , كل نبي في قرية كإبراهيم ولوط , و يعقوب ويوسف , وموسى والخضر عليهما السلام , و لم يثبت أن نبياً اتبع غيره و ترك قومه أو أمرهم بإتباع ذلك النبي , ولولا أن موسى ذهب يطلب الخضر ليتعلم منه بواطن الأمور التي أوحى بها إليه , ما قدر لهما أن يجتمعا , فلا يعقل أن يؤخذ عهد على نبي في نبي آخر لا يلزمه اتباعه و لا الاجتماع به .
و لا يرد على هذا قول الله تعالى في شأن زكريا ( فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ )
لأن الملائكة لم يبشروه بيحيى مصدقاً بعيسى باسمه و شخصه , كما بشرت التوراة و الإنجيل بنبينا باسمه ونعته , ولكن مصدقاً بكلمة من الله , أي بعيسى من حيث كانت ولادته آية كما قال الله تعالى (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)[ سورة المؤمنون / 50 ] .
و الحكمة في ذلك : الرد على النصارى لأنه إذا كان يحيى , وهو يوحنا المعمدان عندهم , يؤمن بأن عيسى كلمة من الله , أي أوجده بكلمة كن , كان ادعائهم فيه أنه ابن الله أو ثالث باطلاً لا ينبني على أساس.
الوجه الرابع: أن الله تعالى أخبر عن كبار الأنبياء أنهم بشروا بنبينا صلى الله عليه وسلم فقد دعا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فقالا ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ )[ سورة البقرة /129 ].
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية في قوله " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ " يعنى أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له: قد استجيب لك ، وهو كائن في آخر الزمان ، وكذا قال السدى وقتادة(1)
وقال تعالى مبيناً بشارة التوراة والإنجيل به صلى الله عليه وسلم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)[ سورة الأعراف / 157 ] .
ولم يأت هذا في شأن نبي غيره، ومن ثم آمن به تبع الأكبر وحبيب النجار وورقة بن نوفل وغيرهم قبل ظهوره،ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره كما قال الزمخشرى.
الوجه الخامس: أن الله أمد نبيه بالملائكة يقاتلون معه وينصرونه كما سيأتي وحيث وجب نصره على الملائكة الذين لم يتعبدهم الله بشريعة نبي قبله، لا في قتال، ولا في غيره، فمن المعقول جداً أن يجب نصره على إخوانه الأنبياء.
الوجه السادس: أن الله تعالى وصف صحابته في التوراة والإنجيل فقال: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..) [ سورة الفتح / 29 ]
فبهذه الوجوه وهى مأخوذة من القرآن تكون آية الميثاق نصاً في نبينا صلى الله عليه وسلم لا تحتمل غيره.
وقد ورد على هذا القول إشكال بناء على أن الميثاق قد أخذ على النبيين أنفسهم، وهو أن هذا الرسول ما جاء في عصر أحد منهم وكان الله تعالى يعلم ذلك عند أخذ الميثاق عليهم لأن علمه أزلي أبدى.
وأجيب عنه: بأنه مبنى على الفرض، أي إذا فرض أن جاءكم وجب عليكم الإيمان به ونصره، ويكون المراد منه بيان مرتبته صلى الله عليه وسلم مع النبيين إذا فرض أن وجد في عصرهم، وهو أن يكون الرئيس المتبوع لهم، فما قولك إذا في أتباعهم لا سيما بعد زمنهم .
وإنما كان له صلى الله عليه وسلم هذا الاختصاص، لأن الله تعالى قضى في سباق علمه بأن يكون هو خاتم النبيين الذي يجئ بالهدى الأخير العام الذي لا يحتاج البشر بعده إلى شئ معه سوى استعمال عقولهم واستقلال أفكارهم وأن يكون ما قبله من الشرائع التي يجيئون بها هداية موقوتة خاصة بقوم دون قوم(2)
(1) تفسير ابن كثير ( 1 / 184 ).
(2) تفسير المنار ( 3 289 ).
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(79)
أقوال للعلماء تؤيد الترجيح السابق
والقول الذي رجحته وذهبت إليه ليس تفرداً منى: بل إن العلامة الأوسي بعد أن ذكر آراء العلماء حول الآية يقول : " واختار كثير من العلماء القول الأول – وهو ما رجحته وانتهيت إليه- وهو أخذ الميثاق من النبيين له صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه قول الإمام على كرم الله تعالى وجهه، مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك، لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم، ورفعة الشأن، والتنويه بالذكر، ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظيم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان – كما عليه البعض.
ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به، ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) (1)
وفى معناه أخبار كثيرة وهى تؤيد بظاهرها ما قلنا – ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق، والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم" (2)
ويعلق العلامة ابن كثير على حديث أبى يعلى السابق بقوله: "وفى بعض الأحاديث: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي".
فالرسول محمد خاتم الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين – هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصص به صلوات الله وسلامه عليه"(3)
وللشيخ تقى الدين السبكى استنباط رائع استقاه من هذه الآية يقول الشيخ في كتابه "التعظيم والمنة في "لتؤمنن به ولتنصرنه" (في هذه الآية من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلى ما لا يخفى- وفيه مع ذلك أنه على تقدير مجيئه فى زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته ، ويكون قوله:( بعثت إلى الناس كافة ) (4)،لا يختص به الناس في زمانه إلى يوم القيامة بل يتناول من قبلهم أيضا.
فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، من ربه سبحانه وتعالى، فإذا عرفت ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الأنبياء ولهذا ظهر ذلك فى الآخرة ، جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته ، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل له، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه ــ فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه – وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فهنا لا توقف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد فى عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى فى آخر الزمان على شريعته وهو نبي كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدا من هذه الأمة – نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلناه من اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم – وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة وكل ما فيهما من أمر ونهى فهو متعلق به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء، ولذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم فى زمانه أو فى زمن موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم ويتفق مع شرائعهم فى الأصول لأنها لا تختلف – وتقدم شريعته صلى الله عليه وسلم فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ – أو لا نسخ ولا تخصيص – بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى تلك الأمم مما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة ــ والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات).
ولعمري إنه لاستنباط رائع وفهم جميل.
(1)الحديث أخرجه أحمد ( 3 / 387 ) وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني ، قال عنه ابن حجر في التقريب : ( 2 / 237 ) " ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره ، وقال في التنقيح : رجال أحمد رجال الحسن ، وعند أحمد وابن ماجه عن ابن عباس ، وإسناده حسن ، وعند ابن حبان عن جابر أيضا بإسناد صحيح ( بلوغ الآماني ( 1ذ / 175 ) وأخرج طرفا منه أبو نعيم في دلائله ( 1 / 8 ) ، وانظر : تفسير ابن كثير ( 2 / 56 ) .
(2) تفسير الألوسي ( 3 / 210 ).
(3) تفسير ابن كثير ( 2 / 56 ، 57 ) .
(4) أخرجه البخاري ، كتاب الصلاة ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( جعلت لي الأرض مسجدا ... ) ( 438 )
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(80)
تساؤل والإجابة عليه
فإن قيل قال الله تعالى: ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )[ سورة الأنعام / 90 ] فهذه الآية قد يشم منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع الأنبياء، وهو ينافى ما قرر سابقاً.
فالجواب:- ( بأن هداهم من الله وهو شرعه صلى الله عليه وسلم ، أي الزم شرعك الذى ظهر به نوابك من إقامة الدين وعدم التفرقة فيه ، ولم يقل الله "بهم اقتده" وكذا قال تعالى " ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً" [ سورة النحل / 123 ] وهو الدين فهو صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع الدين، فإن أصل الدين إنما هو من الله تعالى لا من غيره – وأين هذه فى قوله صلى الله عليه وسلم "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني" فأضاف الاتباع إليه ، وأمر هو صلى الله عليه وسلم باتباع الدين لا باتباع الأنبياء – فإن السلطان الأعظم إذا حضر لا يبقى لنائب من نوابه حكم إلا له، فإذا غاب حكم النواب بمراسيمه فهو الحاكم فى الحقيقة غيبة وشهادة
فإنك شمس والملك كواكب إذا ظهرت لم يبد منهن كوكب
وأنت مصباح كل فضل فما تصدر إلا عن ضوءك الأضواء
هذا وقد حقق القطب الرازى فى حواشية على الكشاف:- "أنه يتعين أن الاقتداء المأمور به ليس إلا فى الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة : كالحلم والصبر والزهد وكثرة الشكر والتضرع ونحوها ، ويكون فى الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل منهم قطعاً ، لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك النبيين عليهم السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال، وحيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدى بهداهم جميعاً، امتنع للعصمة أن يقال إنه لم يمتثل، فلابد أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التى في جميعهم، فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقاً فيهم، وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعاً كما أنه أفضل من كل واحد منهم، وهو استنباط حسن"
ولعله من نافلة القول أن ننقل كلام الخازن، ففيه توضيح وتفصيل لما حققه القطب الرازي.
يقول الإمام الخازن:- " احتج العلماء بهذه الآية – أى آية الأنعام السابقة – على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
بيانه: أن جميع خصال الكمال وصفات الشرف كانت متفرقه فيهم، فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه، وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل ومجاهدة فى الله عز وجل، وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن، وكان داود عليه السلام وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة، قال الله فيهم: "اعملوا آل داود شكراً" وكان أيوب صاحب صبر على البلاء، قال الله فيه: "إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب" وكان يوسف قد جمع الحلتين يعنى الصبر والشكر، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد فى الدنيا، وكان إسماعيل صاحب صدق، وكان يونس صاحب تضرع وإخبات.
ثم إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدى بهم، وجمع له جميع الخصال المحمودة المتفرقة فيهم، فثبت بهذا البيان أنه صلى الله عليه وسلم كان أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التى كانت متفرقة فى جميعهم والله أعلم (1)
لكن قد يقال إن المزية لا تقضى الأفضلية ولذا قال أشياخنا المحققون: إنه وإن كان جامعاً لجميع ما تفرق فى غيره فتفضيله من الله لا بتلك المزايا، فقد فاقهم فضلاً ومزايا(2)
(1) تفسير الخازن ( 2 / 157 ) .
(2) حاشية الصاوي ص 10 ، 11 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(81)
دعوة أبيه إبراهيم
من الإرهاصات التي سجلتها السنة النبوية وقررها القرآن الكريم لنبينا صلى الله عليه وسلم ضراعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند البيت العتيق ببعثته صلى الله عليه وسلم
روي الإمام احمد وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه :" قال قلت : يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك ؟ قال دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام "(1)
وروي ابن حبان واحمد وغيرهما من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنهما قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمهات النبيين صلوات الله عليهم) (2)
وقد نص القرآن الكريم علي هذه الدعوة وذلك إذ يقول تعالي:( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم)[ سورة البقرة / 127 ــ 129 ]
فقوله تعالي:" :( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل..)حاو للحال التي كان عليها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت ويدعوان الله بما دعواه به في قولهما ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك) وقد استجاب الله لهما فجعل منهما أمة محمد صلى الله عليه وسلم وامتن الله علي تلك الأمة بهذه النعمة حين قال:( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل)[ سورة الحج /78 ]
ثم كان من دعائهما قولهما ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)وقد استجاب الله لهما فبعث النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم.
(1)المسند (5/262) والطبراني في الكبير (7729) والبيهقي في الدلائل(1/84) وابن سعد في الطبقات (1/102) وقال الهيثمي في المجمع (8/222) وإسناد احمد حسن وله شواهد تقويه. " قلت ومن شواهده حديث العرباض التالي وحديث خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر شبيها بهذا بزيادة ، أخرجه الحاكم في المستدرك (2/600) وقال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) موارد الظمآن (2093) والمسند(4/127، 128) والطبراني في الكبير( 18/252) والبيهقي في الدلائل(1/80) والبزار كما في كشف الأستار( 3/112، 113) رقم (2365) وقال الهيثمي في المجمع(8/223) :"رواه احمد والطبراني والبزار وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان.
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(82)
لماذا كان الدعاء خاصاً بنبينا دون غيره ؟
وقد يقول قائل: لما نعتبر هذا خاصا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وقد كان بعد إبراهيم عليه السلام أنبياء كثيرون أتوا من بعده ؟؟
والجواب : أننا نعتبر ذلك خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم لأسباب:
الأول: أن الدعاء كان من إسماعيل مع إبراهيم والأمة التي انحدرت منهما هي أمة العرب وأما غير العرب فلم يكونوا منسوبين إلي إسماعيل وإن كانوا منسوبين إلي إبراهيم عليه السلام .
الثاني : كان دعاء إبراهيم وإسماعيل في أم القري – مكة المكرمة- قلب الأمة العربية ومهوي أفئدتهم .. والرسول الذي كان من العرب وولد في هذه البقعة وبعث فيها بعد إسماعيل هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الثالث: أن القرآن نفسه يوضح هذا المعني ويؤكده في قول الحق تبارك وتعالي:( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)[ سورة البقرة /151 ]
وفي قوله تعالي:( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[ سورة آل عمران / 164 ]
وفي قوله تعالي:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)[ سورة التوبة / 128 ]
وفي قوله تعالي:( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[ سورة الجمعة / 2 ]
والذي لا ريب فيه أن في هذه الآيات تفسيرا واضحا لهذا الإرهاص ولتلك البشري وهذه الدعوات التي جاءت علي لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .
الرابع: ما رواه واحمد والحاكم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنهما قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى قومه ، ورؤيا أمي التي رأت انه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام..."(1)
وأراد صلى الله عليه وسلم أثر دعوته أو مدعوه أو عين دعوته – علي المبالغة ولما كان إسماعيل عليه السلام شريكا في الدعوة كان الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة إسماعيل عليه السلام أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته وكونه أصلا في الدعاء ووهم من قال : إن الاقتصار في الحديث علي إبراهيم يدل علي أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسماعيل عليهما الصلاة والسلام .
وفي الأثر: أنه لما دعى إبراهيم قيل له : قد أستجيب لك وهو يكون في آخر الزمان "(2)
الخامس: أنه إجماع المفسرين وهو حجة(3)
(1) المستدرك للحاكم(2/656) وقال حديث صحيح الاسناد، ووافقه الذهبي، المسند4/127.
(2) روح المعاني 1/386
(3) انظر تفسير الفحر الرازي (4/72)،غرائب القران (1/456)تفسير الالوسي(1/386) التحرير والتنوير (1/722)
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(83)
أوصاف المدعو له
وإذا تبين من خلال الأسباب السابقة أن المراد بدعاء الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره فإنهما قد ذكرا في دعائهما لهذا الرسول أوصافا أربعة وهي :
1 ــ "يتلو عليهم آياتك" أي يقرأ عليهم ما توحيه إليه وهو القران الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن الذي كان يتلوه عليهم هو القرآن فوجب حمله عليه
2 ــ "ويعلمهم الكتاب " يعني معاني الكتاب وحقائقه ، لأن المقصود الأعظم تعليم ما في القرآن من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام الشرعية فلما ذكر الله تعالى أولا أمر التلاوة- وهي حفظ القران ودراسته ليبقي مصونا عن التحريف والتبديل- ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره .
3 ــ "والحكمة" أي ويعلمهم الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل ولا يسمي الرجل حكيما إلا إذا اجتمع فيه الأمران، وقيل الحكمة معرفة الأشياء بحقائقها ، وقيل: الفقه في الدين أو السنة المبينة للكتاب نفسه.
4 ــ "ويزكيهم" أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي، وهو إشارة إلي التحلية كما أن التعليم إشارة إلي التخلية وقيل: ويزكيهم من التزكية أي يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ(1)
فهذه الأوصاف الأربعة قد استوفت منابع الدين أصولا وفروعا، لأن تلاوة الآيات وحفظها بألفاظها كما نزلت والتعرف علي بلاغتها وروعة أساليبها ووجوه إعجازها- كل هذا- داع إلي تفهم معانيها وتعقل مراميها ، فإذا جمع الإنسان بين التلاوة والفهم كان أحري وأجدر بتقبل الحكمة النبوية التي ظهرت في حياة رسول اللهصلى الله عليه وسلمقولا وعملا ، فإذا ما ارتقي إلي هذه الدرجة زاد خيره وعم نفعه وطهر قلبه وخلص لمولاه ونظفت جوارحه مما يغضب الله تعالى.(2)
يقول الطاهر ابن عاشور:" وقد جاء ترتيب هذه الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن ، ثم يكون تعليم معانيه قال تعالى :( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)[ سورة القيامة / 18 ــ 19 ]
وقال الدكتور طنطاوي:" وقد جاءت ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه ، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطهر من كل ما لا يليق التلبس به في الظاهر، أو الباطن "(3)
(1) تفسير الخازن 1/82،روح المعاني 1/387
(2) التفسير الوسيط1/196
(3) التفسير الوسيط 1/275
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(84)
العلاقة بين التزكية والتعليم
ومما يلاحظ في الدعاء أنه قد جمع بين التزكية والتعليم غير أن التعليم – وهو تحلية- تقدم علي التزكية- وهي تخلية- في دعوة إبراهيم عليه السلام فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وامتن الله به علي هذه الأمة وتحدث عن أوصافه قدمت التزكية علي التعليم يقول تعالى:( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)[ سورة البقرة / 151 ]
ويقول تعالى:( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة..)[ سورة آل عمران / 164 ]
ويقول تعالى:( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة..)[ سورة الجمعة / 2 ] فما الحكمة من ذلك؟
والجواب: رهن بمعرفة الفرق بين التزكية والتعليم؟
وأقول: التزكية: هي تنظيف النفس البشرية من رواسبها الجاهلية سواء كانت من نوع الأفكار الباطلة أو المعتقدات الفاسدة أو الأخلاق السيئة.
وكلمة التزكية مشتقة من الزكاة وهي الطهارة وأساس التزكية تقوية الإرادة البشرية وتحرير النفس من الأهواء والشهوات.
بينما التعليم هدفه إضافة المعارف الجديدة للإنسان لدفع عجلة البشر إلي الأمام وهو يعتمد علي طاقة العقل الكامنة فيه.
فالعلاقة بين التزكية والتعليم تشبه إلي حد بعيد العلاقة بين تنظيف ماكينة السيارة وبين وضع الوقود فيها إذا التنظيف يغسل المواد الضارة والوقود يضيف مواد جديدة.
فوقود الإنسانية في مسيرتها الحضارية العلم ، ولكن هذا الوقود لا ينفع بدون تنظيف ماكينة الإنسان من الأخلاق الفاسدة والأفكار الباطلة ، من هنا تكتمل عملية التزكية بعملية التعليم وتأتي الواحدة تتمة للأخرى.
ولما كان ظاهر دعوة إبراهيم عليه السلام أن البعث في الأمة المسلمة كانوا إلي تعليم ما ذكر، أحوج منهم إلي التزكية ، فإن أصلها موجود بالإسلام ، فأخر قوله :"ويزكيهم" أي يطهر قلوبهم بما أوتي من دقائق الحكمة ، فترتقي بصفائها ولطفها من ذروة الدين إلي محل يؤمن عليها فيها أن ترتد علي أدبارها وتحرف كتابها كما فعل من تقدمها.
ولما ذكر سبحانه وتعالى في سورة الجمعة :" بعثه في الأميين عامة" اقتضي المقام تقديم التزكية ، التي رأسها البراءة من الشرك الأكبر، ليقبلوا ما جاءهم من العلم ، وأما تقديمها في آل عمران مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال بالمعاتبة علي الإقبال علي الغنائم التي كانت سبب الهزيمة لكونها إقبالا علي الدنيا التي هي أم الأدناس "
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(85)
الحكمة في الجمع بين الخليل والحبيب في تشهدنا في الصلاة
ولما كانت دعوة إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة وإجابة الله له نعمة من نعم الله الكبرى علي هذه الأمة كان حقا علي هذه الأمة أن تشكر هذه النعمة وأن تقابل الحب بحب والجميل بجميل ، لذلك أجرى الله على ألسنة أبنائها ذكر الخليل مقترنا بذكر الحبيب في كل صلاة حيث يقول المصلي"اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"
والحكمة في ذلك كما يقول الفخر الرازي:
1 ــ أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد صلى الله عليه وسلمحيث قال : ( رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك ) فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له: قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة.
2 ــ أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله :( واجعل لي لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخرين) يعني ابق لي ثناء حسناً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته.
3 ــ أن إبراهيم كان أب الملة لقوله : ( مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم) ومحمد كان أب الرحمة ، وفي قراءة ابن مسعود :" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم" وقال في قصته :( بالمؤمنين رَءوفٌ رَّحِيمٌ)وقال عليه السلام : ( إنما أنا لكم مثل الوالد)(1) يعني في الرأفة والرحمة ، فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة.
4 ــ أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج :( وَأَذّن فِى الناس بالحج) وكان محمد عليه السلام منادي الدين :( سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان) فجمع الله تعالى بينهما في الذكر (2) .
(1) الحديث أخرجه ابو داود في سننه كتاب الطهارة باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة والنسائي في سننه كتاب الطهارة باب النهي عن الاستطابة بالروث وابن ماجه في سننه كتاب الطهارة وسننها باب الاستنجاء بالحجارة
(2) تفسير الفخر الرازي 4/72
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(86)
تبشير الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(1)
لقد جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة مجموعة من النصوص تدل دلالة واضحة على أن الأنبياء السابقين قد بشروا أممهم ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا عليهم العهد بالإيمان به والنصرة له .
كما تؤكد هذه النصوص بأن الكتب السابقة قد اشتملت على نصــوص تدل دلالة صريحة على اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفتــه وبلــده ومهاجره وغير ذلك من أخباره .
وسوف نعرض ذلك في الصفحات التالية وفق هذا الترتيب ، إخبار القرآن ببشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم ، الأحاديث المصرحة بالبشارات والمعلنة عن معرفة أهل الكتاب به صلى الله عليه وسلم ، بشارات التوراة والإنجيل به صلى الله عليه وسلم
أولا : إخبار القرآن ببشارة الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم :
1ـ قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) [ سورة البقرة / 89 ].
يقول ابن كثير رحمه الله : " كان اليهود من قبل مجيء هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بــهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على المشركين إذا قاتلوهم ، يقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم(1) .
وروى أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس : " أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه .
فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا ، وقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ، وإنا أهل الشرك تخبرون بأنه مبعوث وتصفونه بصفته . فقال سلام بن مشكم : ما هو الذي كنا نذكر لكم ، ما جاءنا بشيء نعرفه " (2) .
يقول الإمام ابن تيمية : " وهذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام ، حيث بايعوه من غير رهبة ولا رغبة " (3) .
وروى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصارى عن رجال من قومه ، قالوا : " ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ، أنا كنا نسمع من رجال يهود وكنا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا ، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : " قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم " فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم . فلما بعث الله رسوله أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به ففينا وفيهم نزلت هذه الآية .
(1) تفسير ابن كثير ( 1 / 124 ) .
(2) دلائل النبوة ص 44 .
(3) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح جـ 3 ص 283 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(87)
تبشير الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(2)
2ـ قال تعالى :( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[ سورة البقرة / 146 ] .
يخبرنا سبحانه وتعالى أن علماء اليهود يعرفون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة تامة كما يعرف الواحد منهم ولده الذي لا يشك فيه ، لكنهم يكتمون ذلـك بغيا وحسدا .
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار :" إنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ، ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره وبما ظهر من آياته وآثار هدايته كما يعرفون أبنائهم الذين يتولون تربيتهم حتى لا يفوتهم من أمرهم شيء "(1) .
ثم إن الذين أطلعوا على التوراة يعترفون بأن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة فيـها وأنها تنطبق عليه تماما ، لذا سارعوا للدخول في الإسلام كأمثال عبد الله بن سلام وزيد بن سعنه وغيرهما كثير .
يروى أن عمر رضي الله عنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنا أعلم به منىي بابني . قال : ولما ؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدته خانت " فقبل عمر رأسه (2).
3ـ قال تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[ سورة الأعراف / 157 ] .
فهذه الآية الكريمة تؤكد أن صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة في كتب الأنبياء السابقين الذين بشروا أممهم به ليؤمنوا به ويتبعوه ، ولا تزال هذه الصفات مدونة في كتبهم يعرفها علماؤهم إلا أنهم يتواصلون بكتمانها أو يؤولونها تأويلات فاسدة .
لذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى اتباعه ويقيم عليهم الحجة بما هو مدون في كتبهم من نعته ومبعثه ، لكنهم يعاندون ويكابرون وتأخذهم العزة بالإثم عن اتباعه .
يقول الإمام الرازي في تفسيره : " وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل ، لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات ، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله وينفر الناس عن قبول قوله ، فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكورا في التوراة والإنجيل وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته "(3) .
(1) تفسير المنار جـ2 ص 20 .
(2) الكشاف للزمخشرى جـ 1 ص321 ، تفسير ابن كثير 1/ 194 .
(9) التفسير الكبير ، جـ15 ص 23 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(88)
تبشير الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(3)
4ـ قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ)[ سورة الصف / 6 ] .
يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حقيقة دعوة عيسى عليه السلام وهي أنه جــاء مصدقا لما في التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد ، فهذه بشارة صريحة من نبي الله عيسى لرسولنا عليه السلام ، سواء وجدت هذه البشارة في الأناجيل أم طمست من قبل الحاقدين الحاسدين .
وقد جاء في الحديث الصحــــــيح أن من أسمــــاء الرسول صلى الله عليه وسلـــم ( أحمد ) كما ورد في هذه البشــــارة .
روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ) (1) .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبر أصحابه أنه دعوة أبيه إبراهيم وبشارة أخيه عيسى عليهم الصلاة والسلام .
روى الإمام أحمد عن لقمان بن عامر قال : " سمعت أبا أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك ؟ قال : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام "(2).
ثم إن الأخبار قد تواترت عن الرهبان والملوك عند النصارى بأن النبي عيسى عليه السلام بشر بالرسول صلى الله عليه وسلم ، باسمه وصفته ومبعثه وأن كل ذلك ثابت في الأناجيل ، إلا أنهم فعلوا كما فعل اليهود من قبلهم ، فعمدوا إلى إخفائها أو تأويلها تأويلات تبعد بها عن الحقيقة .
لكن هناك الكثير منهم أراد الله له الهداية ، فصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم معلنا أنه مبشر به صلى الله عليه وسلم من قبل عيسى عليه السلام ، أمثال النجاشي والجارود وغيرهما كثير .
جاء في كتاب دلائل النبوة للبيهقي : " أن جماعة من العرب التقوا براهب من الرهبان في الشام فأخبرهم بأنه سوف يبعث نبي من العرب وأمرهم باتباعه وأخبرهم أن اسمه محمد فلما رجعوا إلى أهلهم ولد لكل واحد منهم غلام فسماه محمدا "(3).
وهذا يدل على أن أهل الكتــــــاب كانوا يعرفون اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلـــك مدون في كتبـــهم .
(1) صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم جـ4 ص 162 وقوله : " وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه " قال ابن حجر : أي على إثرى ، أي أنه يحشر قبل الناس " وهو موافق لقوله في الرواية الأخرى " يحشر الناس على عقبي " وقوله : " وأنا العاقب " أي الذي ليس بعده نبي . انظر : فتح الباري جـ 6 ص 557 .
(2) مسند أحمد ( 5 / 262 ) ، وقد سبق تخريجه .[2]
(3) دلائل النبوة ( 1 / 378 ) .[3]
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(89)
تبشير الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(4)
5ـ قال تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّه ُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) ]آل عمران81[.
تفيد هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخذ العهد على أنبيائه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام أنه مهما أتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من الإيمان بمن بعث بعده ونصرته .
عن علي وابن عباس رضي الله عنهم قالا : " لم يبعث الله نبيا ـ آدم فمن بعده ـ إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه "(1) .
ويقول الإمام الرازي : " أعلم أن المقصود من هذه الآيات تقرير الأشيـاء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم ، ومن جملتها ما ذكره الله في هذه الآية وهو أن الله تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه وأخبر أنهم قبلوا ذلك "(2) .
6ـ قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ* أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ )[ سورة الشعراء / 196 ، 197 ] .
تقرر الآية الكريمة أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وما جاء به ثابت في الكتب السابقة وأن علماء بني إسرائيل يحيطون بذلك علما .
والله سبحانه وتعالى يخاطب في هذه الآية المشركين ويقـيم عليهم الحجة بقوله : " أولم يكن لهم آية .. " أي أو لم يكن علم علماء بني إسرائيل بنعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به وهو القرآن دليلا على صحة القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيقلعوا عن تكذيبه ويبادروا إلى اتباعه علما بأن الكثير من علماء بني إسرائيل صرحوا بهذا الأمر وسمع المشركون منهم مرات كثيرة قبل أن يبعث النبي وبعد أن بعث لأنهم كانوا يخالطونهم ويأنسون إليهم ، والروايــات التاريخية خير شاهد على ذلك .
يقول الإمام الرازي : " المراد منه ذكر الحجة الثابــــــتة على نبوته عليه الســــلام وصدقــــه " .
وتقريره : أن جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا نصوا على مواضع في التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته ونعته وقد كان مشركوا قريش يذهبون إلى اليهود ويتعرفون منهم هذا الخبر، وهذا يدل دلالة ظاهرة على نبوته لأن تطابق الكتب الإلهية على نعته وصفته يدل قطعا على نبوته(3) .
وهكذا فالآية فيها شهادة من الله على بني إسرائيل ، إذ بينت أن علماءهم يعرفون تماما بأن محمد صلى الله عليه وسلم نبي وأن ما جاء به هو الحق ، صرح بذلك من آمن منهم ، وأسر به من لم يؤمن لمن يأنس إليه ، وسيأتي بيان ذلك عما قريب .
(1) فتح القدير ( 1 / 357 ) .
(2) تفسير الفخر 8 / 114 .
(3) تفسير الفخر 24 / 169 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(90)
تبشير الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(5)
7ـ قال تعالى " ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )[ سورة الأحقاف / 10 ] .
تتضمن هذه الآية الكريمة شهادة حبر من أعظم أحبار اليهود ومن أوسعهم علما ، شهد له بهذا قومه أمام المصطفى صلى الله عليه وسلم ، إنه عبد الله بن سلام الذي من الله عليه بمعرفة الحق واتباعه بما أتاه الله من العلم ، فلما سمع القرآن علم أنه الوحي الناطق بالحق ، وإنه من جنس ما نزل على الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
جاء في فتح القدير : " وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على مثله ( أي القرآن ) من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من حيث إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ ، فآمن الشاهد وهو عبد الله بن سلام بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله ومن جنس ما ينزله الله على رسله "(1) .
وقصة إسلام هذا الحبر مشهورة ، فعندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة نظر ابن سلام إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة فاحصة متأملة ، فأضاء الله بصيرته فتحقق أنه النبي المنتظر وأن وجهه ليس بوجه كذاب .
جاء في رواية البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : " بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبرني بهن آنفا جبريل ، قال : فقال عبد الله : ذاك عدو اليهود من الملائكة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له ، وإذا سبق ماؤها كان الشبه له . قال : أشهد أنـك رسول الله . ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك ، فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : أعلمنا وابن أعلمنا ، وأحبرنا وابن أحبرنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرأيتم إن أسلم ؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله إليهم ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه "(2).
وروى سعد ابن أبي وقاص قال : " ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام " (3).
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام قال : " نزلت في آيات من كتاب الله ، نزلت في : (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ونزلت في :( قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(4) .
(1) فتح القدير 5 / 16 .
(2) صحيح البخاري ، كتاب الأنبياء ، باب خلق آدم وذريته 4 / 102 ، 103 .
(3) صحيح البخاري ، كتاب الأدب ، باب من أثنى على أخيه بما يعلم 7 / 87 ، وصحيج مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عبد الله
(4) سنن الترمذي ، كتاب المناقب ، باب مناقب عبد الله بن سلام .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(91)
تبشير الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(6)
8ـ قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)[ سورة القصص / 52 ، 53 ] .
تصف الآية الكريمة حال طائفة من أهل الكتاب ( النصارى ) استجابت للدعوة الجديدة ، فآمنت بالنبي الأمي إيمانا عميقا جعل الدموع تجري من العيون من شدة تأثرهم بالحق الذي سمعوه من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول الإمام البيضاوي في تفسيره : " نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب ، وأن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ ، وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإسلام قبل نزوله أو تلاوته باعتقادهم صحته في الجملة "(1).
روى ابن إسحاق في السيرة قال : " قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا من النصارى وهو بمكة حين ظهر خبره بالحبشة ، فوجدوه في المسجد فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم ، فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أرادوا دعاهم إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابه من أمره ، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال : خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لترتادوا لهم فتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ، ما نعلم ركبا أحمق منكم . فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لم نأل أنفسنا خيرا "(2) .
وبمثل هذه الآية التي أتحدث عنها جاء في سورة المائدة قوله تعالى :( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[ سورة المائدة / 83 ] .
وهاتان الآيتان نزلتا في النجاشي وأصحابه ، قال بهذا الزهري والنسائي والطبراني وغيرهم .
يقول عطاء : " ما ذكر الله به النصـــــارى من خـــير فإنما يراد بـــه النجــــاشي وأصحابه "(3).
9 ـ قال تعالى :( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)[ سورة الفتح / 29 ] .
ففي هذه الآية الكريمة ينص القرآن على اشتمال التوراة والإنجيل على وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
أخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر : " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه ، المصدق لما جاء به موسى ، ألا إن الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة : وإنكم تجدون ذلك في كتبكم : ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ....)) إلى آخر السورة "(4) .
(1) تفسير البيضاوي 4 / 140 .
(2) تفسير ابن كثير 3 / 393 ، 394 .
(3) فتح القدير 2 / 69 .
(4) الدر المنثور للسيوطي 6 / 82 ، 83 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(92)
ثانيا : الأحاديث التي تثبت تبشير الكتب السابقة ومعرفة أهل الكتاب به صلى الله عليه وسلم(1)
روى البخاري عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن :" يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح به أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا "(1) .
وهذه الصفات التي حكاها عبد الله بن عمرو بن العاص عن التوراة ، جاءت موافقة للصفات التى أتى بها القرآن الكريم :
فقوله:"يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " هو نفسه ما جاء في آية الأحزاب : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا )[ سورة الأحزاب / 45]
وقوله :" ليس بفظ ولا غليظ " موافق لقوله تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) [ سورة آل عمران/ 159]
وقوله :" ولا يدفع السيئة بالسيئة " موافق لقوله تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )[ سورة فصلت /34]
وقوله :" ولكن يعفو ويغفر " موافق لقوله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [ سورة الأعراف / 199] وقوله تعالى : ( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين )[ سورة المائدة / 13]
(1) صحيح البخاري ، كتاب البيوع ، باب كراهية السخب في الأسواق ، ( 2125 ) .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(93)
ثانيا : الأحاديث التي تثبت تبشير الكتب السابقة ومعرفة أهل الكتاب به صلى الله عليه وسلم (2)
وروى الطبراني عن أبي مريم رضي الله عنه قال : " أقبل أعرابي حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده خلق من الناس ، فقال: الا تعطيني شيئا اتعلمه وأحمله وينفعني ولا يضرك ؟ فقال الناس : مه ، اجلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوه ، فإنما يسأل الرجل ليعلم فأفرجوا له حتى جلس ، فقال : أي شيء كان أول نبوتك ؟ قال: ( أخذ الله الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم ، ثم تلا : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) [ سورة الأحزاب / 45 ]
وبشّر بي المسيح ابن مريم ، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام ..)(1) .
وعن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين ).
وفي رواية : ( سأحدثكم بتأويل ذلك ، دعوة إبراهيم دعا ( وابعث فيهم رسولا منهم )، وبشارة عيسى بن مريم قوله ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ).."(2) .
وإذا كانت الأحاديث السابقة قد نصت على بشارة الأنبياء السابقين به ، ووجود نعوته وصفاته صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، فهناك أحاديث أخرى دلت على شهادة الأحبار بنبوته وتبشيرهم به صلى الله عليه وسلم مما ترتب عليه إسلام بعضهم ، بل وعداوة البعض الآخر حسدا وبغيا ، وهذا ما سنعرض له في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.
(1) المعجم الكبير للطبراني ( 22 / 333) ورجاله وثقوا ، كما ذكر الهيثمي في المجمع ( 8 / 227 ) .
(2) الحديث أخرجه أحمد بأساتيد والبزار والطبراني بنحوه ، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد ، وقد وثقه ابن حبان . مجمع الزوائد ( 8 / 226 ) ، والحديث سبق تخريجه .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(94)
ثانيا : الأحاديث التي تثبت تبشير الكتب السابقة ومعرفة أهل الكتاب به صلى الله عليه وسلم (3)
تبشير اليهود به صلى الله عليه وسلم .
لقد سبق وأن أشرنا في نهاية الحلقة السابقة إلى أن أحبار اليهود لوقوفهم على بشارات الكتب السابقة برسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بعض أحبارهم بنبوته صلى الله عليه وسلم وبشر به مما ترتب عليه إسلام البعض وعداوة البعض الآخر حسدا وبغيا ، فمن ذلك :
ما جاء عن كعب الأحبار أنه قال : " إني أجد في التوراة مكتوبا : محمد رسول الله ، لا فظ ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادون ، يحمدون الله في كل منزلة ، ويكبرونه على كل نجد ، يأتزرون إلى أنصافهم ، ويوضئون أطرافهم ، صفهم في الصلاة ، وصفهم في القتال سواء ، مناديهم ينادي في جو السماء ، لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل ، مولده بمكة ، ومهاجره بطابة ، وملكه بالشام "(1)
وعن سلمة بن وقش رضي الله عنه ــ وكان من أصحاب بدر ــ قال : " كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال : فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، فوقف على مجلس عبد الأشهل ، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا عليّ بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي ، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان ، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت .
فقالوا له : ويحك يا فلان ، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، ويجزون فيها بأعمالهم ؟ قال : نعم ، والذي يحلف به ، ولَوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور ــ فرن ــ في الدنيا يحمونه ، ثم يدخلونه إياه ، فيطبق عليه ــ أي يغلق عليه ــ ، وأن ينجو من تلك النار غدا .
قالوا له : ويحك ، وما آية ذلك ؟ قال : نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن .
قالوا : ومتى تراه ؟ قال : فنظر إلي ــ وأنا من أحدثهم سنا ــ فقال : إن يستنفذ ــ أي يعيش ــ هذا الغلام عمره يدركه !"
قال سلمة :" فوالله ما ذهب الليل والنهار ، حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به ، وكفر به بغيا وحسدا ، فقلنا : ويلك يا فلان ، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ، وليس به "(2) .
(1) أخرجه الدارمي ، المقدمة ( 1 / 4، 5 ) من طريق الأعمش عن أبي صالح قال : قال كعب الأحبار . ورجاله ثقات .
(2) أخرجه ابن هشام في السيرة ( 1 / 212 ) من طريق ابن إسحاق قال حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة به ، فصرح ابن إسحاق بالتحديث فانتفت شبهة التدليس ، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه أحمد في المسند ( 3 / 467 ) والحاكم في المستدرك ( 3 / 417 ، 418 ) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والطبراني في الكبير ( 6327 ) وقال الهيثمي في المجمع ( 8 / 230 ) رواه أحمد والطبراني ، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق ، وقد صرح بالسماع . فالحديث صحيح .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(95)
ثانيا : الأحاديث التي تثبت تبشير الكتب السابقة ومعرفة أهل الكتاب به صلى الله عليه وسلم (4)
وروى أبو نعيم وغيره عن صفية بنت حيي أنها قالت :" كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولهما إلا أخذاني دونه ، قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ونزل فناء بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، قالت : فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس ، قالت : فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا ، قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الهم ، قالت : فسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي : أهو هو ؟ قال : نعم والله ، قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم ، قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ما بقيت أبدا ! " (1)
وهكذا أضمر اليهود العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولى ، مع علمهم الجازم بأنه النبي الحق الذي تنطبق عليه الصفات التي تحدثت عنها الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى .
وإذا كان هذا شأن الأغلبية من أهل الكتاب ، فإن فريقا منهم أبصر الحقيقة حين وقف على نعوته وصفاته ، ومن ثم آمن به وربح خيرا ، والله تعالى يقول : ( لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)[ سورة آل عمران / 113 ]
روى الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي أنه قال : " حدثني رجل من الأعراب قال : جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله فلما فرغت من بيعتي ، قلت : لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ، قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم في أقفائهم ــ أي مشيت خلفهم ــ حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت ــ أي قارب الموت في حالة الاحتضار ولم يمت بعد ــ كأحسن الفتيان وأجمله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة ، هل تجد في كتابك ذا صفتي ومخرجي ؟ فقال برأسه هكذا ، أي : لا ، فقال ابنه : إني ــ والذي أنزل التوراة ــ إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال : أقيموا اليهود عن أخيكم ، ثم ولي كفنه وحنطه وصلى عليه "(2) .
(1) دلائل النبوة ص 39 ، سيرة ابن هشام مع الروض الأنف ( 2 / 257 ).
(2) المسند ( 5/ 411 ) وقال ابن كثير في تفسيره ( 2 / 251 ) : هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح عن أنس . قلت : والشاهد أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الجنائز ،باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه ، وهل يعرض على الصبي الإسلام ( 1356 )
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(96)
بشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(1)
من المعلوم أن الكتب السماوية السابقة طرأ عليها التحريف والتغيير بأيدي علماء من أهل الكتاب ، وهذا ما شهد القرآن الكريم عليهم به ، قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)[ سورة البقرة / 79 ] ، وقال تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[ سورة البقرة / 75 ]، وقال تعالى : (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِم ْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ.. )[ سورة النساء /46]، وقال تعالى :(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )[ سورة آل عمران /71 ]
والواقع يشهد بهذا أيضا فالخلاف الظاهر بين نسخ التوراة والإنجيل وطباعتها قديما وحديثا يؤكد أن هذه قد حرفت وبدلت .
جاء في الجواب الفسيح :" وأنت تعلم إذا نظرت أيضا إلى التوراة التي طبعها الكاثوليك تراها متخالفة متغايرة ، وكل نسخة لا توافق الأخرى ، وكذا أناجيلهم وعهدهم الجديد لا توافق بين نسخها وطباعتها ، وهذا الحال مستمر في جميع فرقهم على سائر الأزمان ، وظاهر ظهور الشمس للعيان "(1).
ومن ضمن النصوص التي تعرضت للتحريف النصوص التي تتحدث عن البشارة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والشاهد على هذا أن علماء المسلمين المتقدمين نقلوا نصوصا في كتبهم من النسخ التي كانت في عصرهم تنص صراحة على اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وجادلوهم بهذه النصوص ، ومن هؤلاء العلماء : الماوردي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام الرازي والإمام القرطبي وغيرهم .
أما في هذا العصر فلا وجود لهذه النصوص التي تذكر اسم النبي صراحة ، ولكن على الرغم من هذا التغيير والتحريف فما تزال هناك الكثير من النصوص التي تذكر صفات النبي وصفات أمته ومكان بعثته وغير ذلك .
(1) الجواب الفسيح لأبي البركات الألوسي ( 1/ 4 ).
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(97)
بشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(2)
تأصيل للاستشهاد بما عند أهل الكتاب :
يجوز للمسلم أن يحتج على أهل الكتاب بما جاءهم من عند الله من كتاب ، أما أهل الكتاب فلا يصح لهم الاحتجاج بما جاء في القرآن كما يفعل كثير منهم ، وذلك لأننا نؤمن بالرسل جميعهم ولا نفرق بين أحد منهم ، قال تعالى : (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [ سورة البقرة / 136 ، 137 ]
ونؤمن بما جاءهم من عند الله من كتاب ، ولا يجوز لهم أن يحتجوا بالقرآن لأنهم فرقوا ولم يؤمنوا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن النقل عن أهل الكتاب والاحتجاج عليهم يحتاج إلى إلى شروط ثلاثة ، أو كما سماها شيخ الإسلام ابن تيمية ثلاثة مقدمات :
أحدها : ثبوت ــ النقل ــ عن الأنبياء عليهم السلام .
الثانية : صحة الترجمة .
الثالثة : تفسير ذلك الكلام تفسيرا صحيحا ومعرفة المراد منه .
فلهذا كان المسلمون لا يردون شيئا من أقوال الرسل ، ولكن قد يكذبون الناقل عنهم ، أو تفسير المفسر عنهم على وجه الغلط ، وهذا بخلاف ما عليه أهل الكتاب فإنهم يكذبون نفس النبي ، وهذا كفر صريح ، فمتى قالوا بكذب كلمة واحدة أخبر بها الرسول بطل احتجاجهم بأي كلمة يحتجون بها يزعمون أنها تدل على مذهبهم في أي مسألة من المسائل(1).
خطورة إنكار البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم :
قد لا يعي المكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم أن البشارات به من المتواتر في الكتب السابقة ، وخطورة التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه يؤدي إلى تكذيب تلك الكتب التي اشتملت على تلك البشارات ، فقد مضى وقت طويل جدا لا يعهد مثله في أنبياء بني إسرائيل ولم يظهر من تنطبق عليه تلك الصفات المبشر بها إلا عليه صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك فلا يزال اليهود والنصارى يمنون أنفسهم بظهور من يصدق تلك البشارات ، وهم في الوقت نفسه يصعرون خدودهم ويستغشون ثيابهم ويجعلون أصابعهم في آذانهم ، مما رأوا وسمعوا وعرفوا من الحق .
ولعلنا نستشهد هنا بما جاء في كتبهم الموجودة بين أيدينا ، مما لا يحتمل التأويل ، إذ قد استدل الأولون بلفظ ( الفارقليط ) والتي تعني ( محمد ) وهي لفظة قد حذفت تماما من الطبعات الجديدة من الكتاب المقدس ، ولكن مهما حاولوا أن يحرفوا من الألفاظ ويخفوا من الكتاب يأبي الله إلا أن يبقي من النور الذي جاء به موسى وعيسى بقية تهدي الناس إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الخاتم
(1) انظر : الجواب الصحيح 1 / 132 ــ 138 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(98)
بشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم(3)
أولا : بشارات التوراة ــ العهد القديم .
التوراة هي الكتاب الذي أنزله الله على نبيه موسى عليه السلام يتضمن العقيدة والشريعة لبني إسرائيل ، وقاصرة في وقتنا الحالي على أسفار موسى الخمسة ، وهي : التكوين والخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع .
وقد حافظ على هذه الكتب الخمسة اليهود السامريون ، إلا أن اليهود العبرانيين ألحقوا بتلك الكتب الخمسة أسفارا أخرى سموها أسفار الأنبياء ، وليست منها ، وإليك أخي القارئ الكريم بعض البشارات التي سجلتها التوراة ــ العهد القديم ــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
البشارة الأولى :
إن من أهم البشارات وأصرحها : تلك البشارة الواضحة والناصعة بأن الله سيجعل من نسل إسماعيل ، هذا الذي أمه هاجر أمة عظيمة جدا جدا تكون لها الغلبة الباقية في الأرض على جميع الأمم .
جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين :" وأما ساراي [ سارة ] امرأة إبرام [ إبراهيم ] فلم تلد له ، وكانت له جارية مصرية اسمها هاجر ، فقالت ساراي لإبرام : هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة ،دخل على جاريتي ،لعلي أرزق منها بنين ،فسمع ابرام لقول ساراي .. وأعطتها لإبرام زوجة له ،فدخل على هاجر فحبلت ،ولما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينيها ،فقالت ساراي لإبرام ظلمي عليك، أنا دفعت جاريتي إلى حضنك ، فلما رأت أنها حبلت صغرت في عينيها ،يقضي الرب بيني وبينك ،فقال إبرام لساراي : هو ذا جاريتك في يدك افعلي بها ما يحسن في عينيك . فأذلتها ساراي ، فهربت من وجهها ، فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية .. وقال : يا هاجر جارية ساراي : من أين أتيت وإلى أين تذهبين ؟ فقالت : أنا هاربة من وجه مولاتي ساراي ، قال لها ملاك الرب : ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يدها ،وقال لها ملاك الرب : تكثيرا أكثر نسلك [ أي أكثر نسلك تكثيرا ] فلا يعد من الكثرة،وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلى فتلدين ابنا ،وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك ، وإنه يكون إنسانا وحشيا يده على كل واحد ، ويد كل واحد عليه ،وأما جميع إخوته يسكن "(1)
وجاء في خطاب الله لإبراهيم : " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه : ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا ،اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة "(2)
وفي موضع آخر من التوراة جاء فيه :" ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح ، فقالت لإبراهيم اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحق ،فقبح الأم جدا في عين لإبراهيم لسبب ابنه ، فقال الله لإبراهيم : لا يقبح في عينيك لأجل الغلام ومن أجل جاريتك ، في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنه بإسحق لك نسل، وابن الجارية أيضا سأجعله أمة نسلك، فبكر إبراهيم صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء ، وأعطاهما لهاجر واضعا إياها على كتفها والولد وصرفها ، فمضت وتاهت في برية بئر سبع ، ولما فرغ الماء من القربة، طرحت الولد تحت إحدى الأشجار ، ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس ،لأنها قالت لا أنظر موت الولد ، فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت، فسمع الله صوت الغلام ، نادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها : ما لك يا هاجر؟ ،لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو ،قومي احملي الغلام وشدي يدك به ،لأني سأجعله أمة عظيمة ،وفتح الله عينيها فأبصرت ماء ، ذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام ،وكان الله مع الغلام فكبر ،وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس ،وسكن في برية فاران .. "(3).
ما الذي تشير إليه هذه البشارات ؟
هذا ما سنقف عليه في الحلقات القادمة بإذنه تعالى .
(1) سفر التكوين ، الإصحاح ( 16 ) من 1 ــ 12 .
(2) سفر التكوين ، الإصحاح ( 17 ) : 20 .
(3) سفر التكوين ، الإصحاح ( 21 ) : من 11 ــ 21 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(99)
بشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه وسلم (4)
بشارات التوراة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
وعدنا فيما سبق بذكر بشارات التوراة المبشرة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وها نحن في هذه الحلقات وما يليها نفي بهذا الوعد:
البشارة الأولى :أهم بشارات التوراة وأصرحها ، تلك الشارة الواضحة والناصعة بأن الله سيجعل من نسل إسماعيل ، هذا الذي أمه هاجر "أمة عظيمة جدا جدا" تكون لها الغلبة في الأرض على جميع الأمم:
جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين" وأما ساراي امرأة إبرام ( إبراهيم ) فلم تلد له. وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر . فقالت ساراي لإبرام : هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة. ادخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين. فسمع إبرام لقول ساراي ... وأعطتها لإبرام رجلها زوجة له . فدخل على هاجر فحبلت . ولما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينيها . فقالت ساراي لإبرام : ظلمي عليك أنا دفعت جاريتي إلى حضنك، فلما رأت أنها حبلت صغرت في عينيها. يقضي الرب بيني وبينك . فقال إبرام لساراي: هوذا جاريتك في يدك. افعلي بها ما يحسن في عينيك. فأذلتها ساراي ، فهربت من وجههافوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية .... وقال: يا هاجر جارية ساراي، من أين أتيت ؟ وإلى أين تذهبين ؟. فقالت: أنا هاربة من وجه مولاتي ساراي . فقال لها ملاك الرب : ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها . وقال لها ملاك الرب : تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة
.وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلى، فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك . وإنه يكون إنسانا وحشيا، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن"(1) .
وجاء في خطاب الله لإبراهيم :" وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه : ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا . اثني عشر رئيسا وأجعله أمة كبيرة "(2) .
وفي موضع آخر من التوراة جاء فيه : "ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لابراهيم يمرح. فقالت لإبراهيم اطرد هذه الجارية وابنها. لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحق. فقبح الكلام جدا في عيني ابراهيم لسبب ابنه. فقال الله لابراهيم لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها. لأنه بإسحق يدعى لك نسل. وابن الجارية أيضا سأجعله أمة نسلك(3). فبكر إبراهيم صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر ، واضعا إياهما على كتفها والولد وصرفها. فمضت وتاهت في برية بئر سبع. ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الاشجار. ومضت وجلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس. لأنها قالت لا أنظر موت الولد. فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت. فسمع الله صوت الغلام. ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ما لك يا هاجر. لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو. قومي احملي الغلام وشدي يدك به. لأني سأجعله أمة عظيمة. وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء. فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام. وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران"(4) .
(1) سفر التكوين ، الإصحاح ( 16 ) من 1 ــ 12 .
(2) سفر التكوين ، إصحاح ( 17 ) : 20 ، هذا وقد أنجب إسماعيل اثني عشر ابنا ( انظر : سفر التكوين ، الإصحاح 25 : 13 ــ 15 ) وهذا العدد كان كفيلا بحمد الله بأن يجعل من نسل إسماعيل أمة مباركة كبيرة فيما بعد ..
(3) وعند ابن ربن الطبري : " إني جاعل ابن أمتك أيضا لأمة عظيمة لأنه من زرعك " الدين والدولة ص132 .
(4) سفر التكوين ، الإصحاح ( 21 ) " 11 ــ 21 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(102)
بشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه ( 6 )
البشارة الثانية من بشائر التوراة :
وقفنا فيما سبق مع البشارة الأولى من بشائر التوراة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذه الصفحات نعرض لبقية البشارات فإلى البشارة الثانية بتوفيق الله تعالى :
البشارة الثانية من بشائر التوراة:
جاء في سفر التثنية ( 33: 2 ) : قال موسى عليه السلام في آخر وصاياه قبل موته: " أقبل الربّ من سيناء، وأشرق عليهم من سعير، وتألّق في جبل فاران ، جاء محاطا بعشرات الألوف من الملائكة وعن يمينه يومض برق عليهم".
وجاء في طبعة الكتاب المقدس الفرنسي لسنة 1860 ما تعريبه: " جاء الربّ من سيناء وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران وخرج من بين العشرة آلاف من القدّيسين. ومن يمينه خرجت نار الشريعة تجاههم. "
وجاء في الترجمة الانجليزية لمخطوطات البحر الميت تثنية( 33: 2 )(ترجمة وتعليق مارتن أبيج ، وبيتر فلنت ، وأوجين أولريش ، ص 193:
ما تعريبه: " جاء الربّ من سيناء، وأشرق عليهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران، وجاء من العشرة آلاف قدّيس، وبيمينه شرعة نارية لهم. "
وقد اعتبر القسيس المهتدي إلى الإسلام" إبراهيم خليل" أنّ هذه النبوءة تتطابق مع قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [ سورة التين/ 1- 3]
فالله قد أقسم بنفس الأماكن الثلاثة التي ذكرت في التوراة نظرا لأهميتها:
فالقسم بالتين والزيتون: مجاز عن منابتهما في فلسطين، حيث سكن عيسى عليه السلام، وتقابل ساعير.
والقسم بطور سينين: قسم بالجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام.
والقسم بالبلد الأمين: مكّة المكرمة ، وتقابل فاران.
لقد جاء الحديث عن التين كتشبيه لبني إسرائيل في الكثير من المواضع في الكتاب المقدس.
فقد قال النبيّ هوشع: " وجدت إسرائيل كعنب في البرية، ورأيت آباءهم كباكورة ثمر شجرة التين في أول موسمها" (هوشع 9: 10) .
وقال النبيّ إشعياء: " وتضحى زهرة جمالها المجيد التي تكلّل رأس الوادي الخصيب كباكورة التين قبل موسم الصيف التي يراها الناظر فيقتطفها ويبتلعها" (إشعياء 28: 4) .
وجاء ذكر" الزيتون" كعلامة على النمو والارتقاء في بني إسرائيل:
فقد ورد في المزمور 52: 8 أنّ داود قال: " أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله وثقت برحمة الله إلى الدهر والأبد".
وقال النبيّ إرمياء: " قد دعاك الربّ مرّة زيتونة خضراء ذات ثمر بهيج المنظر ... " (إرمياء 11: 16، هوشع 14: 6) .
وموسى وعيسى عليهما السلام من بني إسرائيل، أمّا سيّد البلد الأمين فهو محمد" الفاراني" صلّى الله عليه وسلّم.
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(103)
بشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه ( 7 )
الأماكن الثلاثة وعلاقة الأنبياء الثلاثة بها:
لا إشكال في أنّ سيناء مرتبطة بموسى عليه السلام، إذ أنّ التوراة قد أنزلت عليه في أرض سيناء في جبل الطور.
كما لا إشكال في ربط ساعير بالمسيح ، فقد كان المسيح من سكان الشام، وقد جاء في قاموس الكتاب المقدس لجون ل. ماك ص 783 : أنّ ساعير مرتبطة بسلسلة جبال شمال البحر الميت وغربه تمتد عبر القدس وبيت لحم وقد امتدت فيما بعد حتى الجبال في الجهة الشرقية.
وجاء في دائرة عارف البستاني (النصراني) طبعة 1887 ج 9 ص 623 أن سعير أو أرض سعير أو سير هي سلسلة جبال ممتدة في الجهة الشرقية من وادي عربة من البحر الميت إلى خليج العقبة ، وسميت كذلك نسبة إلى سعير الحوري.
الإشكال الوحيد، يتعلّق ب" فاران". وأهل الكتاب لم يجادلوا في تحديد مكان ( فاران ) إلا رغبة منهم في إبهام هذه النبوءة وطمس دلالاتها العظيمة. فهم يزعمون أنّ" فاران" لا تقع في بلد العرب وأنّ" فاران" و" سيناء" و" ساعير" هي مناطق متقاربة.
والردّ هو:
قال الإمام القرافي في كتابه" الأجوبة الفاخرة ... " ص 165: " وفاران مكّة باتفاق أهل الكتاب".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في" الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح":
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ - وَاللَّفْظُ لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ - لَيْسَ بِهَذَا خَفَاءٌ عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ وَلَا غُمُوضٌ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ اللَّهِ مِنْ طُورِ سَيْنَا: إِنْزَالُهُ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مِنْ طُورِ سَيْنَا، كَالَّذِي هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَنَا وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِشْرَاقُهُ مِنْ سَاعِيرَ إِنْزَالُهُ الْإِنْجِيلَ عَلَى الْمَسِيحِ، وَكَانَ الْمَسِيحُ مِنْ سَاعِيرَ - أَرْضِ الْخَلِيلِ بِقَرْيَةٍ تُدْعَى (نَاصِرَةَ) - وَبِاسْمِهَا يُسَمَّى مَنِ اتَّبَعَهُ نَصَارَى.
وَكَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِشْرَاقُهُ مِنْ سَاعِيرَ بِالْمَسِيحِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْلَانُهُ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ: إِنْزَالُهُ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجِبَالُ فَارَانَ هِيَ جِبَالُ مَكَّةَ.
قَالَ: وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خِلَافٌ فِي أَنَّ فَارَانَ هِيَ مَكَّةُ، فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّهَا غَيْرُ مَكَّةَ، فَلَيْسَ يُنْكَرُ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمْ وَإِفْكِهِمْ.
قُلْنَا: أَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَسْكَنَ (هَاجَرَ) وَ (إِسْمَاعِيلَ) فَارَانَ؟ .
وَقُلْنَا: دُلُّونَا عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْلَنَ اللَّهُ مِنْهُ وَاسْمُهُ فَارَانَ، وَالنَّبِيِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا بَعْدَ الْمَسِيحِ أَوَلَيْسَ (اسْتَعْلَنَ) وَ (عَلَنَ) وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ؟ وَهُوَ مَا ظَهَرَ وَانْكَشَفَ.
فَهَلْ تَعْلَمُونَ دِينًا ظَهَرَ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ وَفَشَا فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فُشُوَّهُ؟(1).
(1) الجواب الصحيح ( 3 / 300 ) .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(104)
بشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه ( 8 )
كلام قيم لابن القيم في تأكيد هذه الحقيقة:
وقال ابن القيم :" قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: - يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ الْجِبَالَ الثَّلَاثَةَ، وَحِرَاءُ الَّذِي لَيْسَ حَوْلَ مَكَّةَ أَعْلَى مِنْهُ، وَفِيهِ ابْتِدَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ، وَحَوْلَهُ جِبَالٌ كَثِيرَةٌ، وَذَلِكَ الْمَكَانُ يُسَمَّى فَارَانَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَالْبَرِّيَّةُ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَطُورِ سَيْنَاءَ تُسَمَّى بَرِّيَّةَ فَارَانَ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ بَعْدَ الْمَسِيحِ نَزَلَ كِتَابٌ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ وَلَا بُعِثَ نَبِيٌّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِاسْتِعْلَانِه ِ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ إِلَّا إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ سُبْحَانُهُ ذَكَرَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ، فَذَكَرَ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ ثُمَّ الْإِنْجِيلِ ثُمَّ الْقُرْآنِ، وَهَذِهِ الْكُتُبُ نُورُ اللَّهِ تَعَالَى وَهِدَايَتُهُ، وَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: جَاءَ، وَفِي الثَّانِي: أَشْرَقَ، وَفِي الثَّالِثِ: اسْتَعْلَنَ، وَكَانَ مَجِيءُ التَّوْرَاةِ مِثْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَنُزُولُ الْإِنْجِيلِ مِثْلَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، وَنُزُولُ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ الشَّمْسِ فِي السَّمَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهَرَ بِهِ نُورُ اللَّهِ وَهُدَاهُ فِي مَشْرِقِ الْأَرْضِ وَمَغْرِبِهَا أَعْظَمَ مِمَّا ظَهَرَ بِالْكِتَابَيْن ِ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ، كَمَا يَظْهَرُ نُورُ الشَّمْسِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا إِذَا اسْتَعْلَتْ وَتَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى سِرَاجًا مُنِيرًا، وَسَمَّى الشَّمْسَ سِرَاجًا وَهَّاجًا، وَالْخَلْقُ يَحْتَاجُونَ إِلَى السِّرَاجِ الْمُنِيرِ أَعْظَمَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ، فَإِنَّ هَذَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَأَمَّا السِّرَاجُ الْمُنِيرُ فَيَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَعَلَانِيَةً.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذِهِ الْأَمَاكِنَ الثَّلَاثَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) وَهُوَ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي بُعِثَ مِنْهَا الْمَسِيحُ، وَأُنْزِلَ فِيهَا الْإِنْجِيلُ ( وَطُورِ سِينِينَ ) وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَكْلِيمًا، وَنَادَاهُ مِنْ وَادِيهِ الْأَيْمَنِ مِنَ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ فِي الشَّجَرَةِ الَّتِي فِيهِ، وَأَقْسَمَ بِـ (الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) وَهُوَ مَكَّةُ، الَّتِي أَسْكَنَ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ فِيهِ وَهُوَ فَارَانُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَمَّا كَانَ مَا فِي التَّوْرَاةِ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ، فَقَدَّمَ الْأَسْبَقَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ أَقْسَمَ بِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَإِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَآيَاتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فَأَقْسَمَ بِهَا عَلَى وَجْهِ التَّدْرِيجِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، فَبَدَأَ بِالْعَالِي، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ، ثُمَّ أَعْلَى مِنْهُ، فَإِنَّ أَشْرَفَ الْكُتُبِ الْقُرْآنُ، ثُمَّ التَّوْرَاةُ، ثُمَّ الْإِنْجِيلُ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ الثَّلَاثَةُ"(1).
(1) هداية الحيارى ص 66 ، 67 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(105)
بشارات الكتب السماوية السابقة به صلى الله عليه ( 9 )
سبب الإشكال:
لقد كان الأمر محلّ اتفاق في الماضي لكن مع تقلّص المسافات بين الأمم، وظهور الطباعة، وبروز كتابات إسلامية عن النصرانية بلغة أهل التثليث، ظهر المراء بالباطل عند الحديث عن" فاران"!
لكن الطبعات القديمة للتوراة تؤكد أن فاران بمكة:
فقد نقل فديارتي في كتابه" محمد في الأسفار العالمية "ص 70- 71 (الطبعة الأمريكية) عن الترجمة العربية للتوراة السامرية التي صدرت في سنة 1851، أنّ اسماعيل" سكن بريّة فاران وتزوج امرأة من أرض مصر"- وقد حذف التعليق الوارد بين قوسين في الترجمة السامرية، في الطبعات التالية بعد أن اعتمده المسلمون لتوضيح البشارة!!!
نقل فديارتي ص 71 من كتابه السابق عن موسوعة الكتاب المقدس ، ما أوردته عن اثنين من أشهر رموز الكنيسة في القرنين الرابع والخامس: جيروم وأزوبيوس من" أنّ فاران بلد عند بلاد العرب على مسيرة ثلاثة أيام إلى الشرق من إيله".
قال الإمام ابن القيم في كتابه" إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان": " وهم يعلمون أنّ جبل سيعير هو جبل السراة الذي يسكنه بنو العيص الذين آمنوا بعيسى ويعلمون أنّ في هذا الجبل كان مقام المسيح ويعلمون أنّ سيناء هو جبل الطور.
وأما جبال فاران فهم يحملونها على جبال الشام وهذا من بهتهم وتحريف التأويل، فإنّ جبال فاران هي جبال مكّة وفاران اسم من أسماء مكة وقد دلّ على هذا نص التوراة: أنّ إسماعيل لّما فارق أباه سكن بريّة فاران وهي جبال مكة ولفظ التوراة أنّ إسماعيل أقام في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر. "
ويعتبر هذا النص من أوضح النصوص المبشرة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث ذكر المكان الذي أنزل الله عليه فيه القرآن الكريم ، وهو فاران التي هي مكة عند جميع أهل العلم .
قال الإمام الماوردي :" وفاران هي جبال في مكة في قول الجميع "(1).
ورحم الله الإمام الشهرستاني إذ يقول ملاحظا الترتيب في إيراد هذه الأماكن في البشارة:" ولما كانت الأسرار الإلهية، والأنوار الربانية في الوحي، التنزيل، والمناجاة، والتأويل؛ على مراتب ثلاث: مبدأ، ووسط، وكمال؛ والمجيء أشبه بالمبدأ، والظهور أشبه بالوسط، والإعلان أشبه بالكمال؛ عبرت التوراة عن طلوع صبح الشريعة والتنزيل: بالمجيء من طور سينا، وعن طلوع الشمس: بالظهور على ساعير، وعن البلوغ إلى درجة الكمال بالاستواء والإعلان على فاران، وفي هذه الكلمات: إثبات نبوة المسيح عليه السلام، والمصطفى محمد صلى الله عليه وسلم"(2).
(1)أعلام النبوة ص 129 .
(2)الملل والنحل 213 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(106)
تابع بشائر التوراة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
البشارة الثالثة :
قال صاحب كتاب خير البشر فى بيان تبشير التوراة بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام:
قرأت فى ترجمة للتوراة لموسى عليه السلام، جاء فيها، "والله ربك مقيم نبيا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربك فى حوريب يوم الاجتماع حين قلت: «لا أعود أسمع صوت ربى لئلا أموت، فقال الله تعالى لى. نعم ما قالوا. وسألتم لهم نبيا من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه، فيقول لكم كل شيء آمره به وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه».
" وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به ، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي ، وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب ، فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب ، بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه "
ونلاحظ هنا أنه ذكر أن الرسول سيكون من إخوة بنى إسرائيل، لا منهم، ولا تكون هذه الأخوة إلا من بنى إسماعيل، أخى إسحاق الأكبر، فإن هؤلاء هم الذين يقال لهم إخوة، وعيسى ومن قبله داود، وسليمان وغيرهما، لا يقال لهم إخوة بنى إسرائيل إنما يقال عنهم أبناء إسرائيل، لأنهم من يعقوب ابن إسحاق(1).
إذن فالنبي الذي سيبعث من أخوة بني إسرائيل هو من بني إسماعيل تحقيقا لوعد الله إبراهيم عليه السلام بالبركة في نسل إسماعيل عليه السلام .
ويبين النص ان النبي المبعوث مثل موسى عليه السلام ، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم مماثل لموسى عليه السلام في كثير من الأمور ، من أهمها أنه أتى بشريعة ذات احكام وفرائض ، وأنه مأمور بالجهاد وبالطهارة للصلاة ، وأنه عبد الله ورسوله مثل موسى عليه السلام . قال تعالى : ( إنا أرسلناإليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا )[ سورة المزمل م 15 ]
ويبين النص أيضا أن النبي المبعوث أمي يحفظ ما يسمع لقوله :" أجعل كلامي في فمه " ومعلوم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان كذلك .
كما يبين أيضا أن بني إسرائيل مطالبون بالسماع له وباتباع ما جاءهم به من الله وإلا سيعرضون أنفسهم إلى نقمة الله ورسوله لقوله :" ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي أنا أنتقم منه " أي لعدم سماعه من النبي الذي بعثه الله إليهم ، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعث إليهم وإلى الناس كافة ودعاهم إلى اتباعه ، وعندما رفضوا انتقم الله منهم على يده حيث قتل من قتل منهم ، وأجلى بعضهم عن ديارهم،وسلبت أموالهم،وذلك بسبب غدرهم وخيانتهم.
يقول الشيخ رحمت الله الهندي ": ليس المراد بالانتقام من العذاب الأخروي الكائن في جهنم ، أو المحن والعقوبات الدنيوية ، لأن هذا الانتقام لا يختص بإنكار نبي دون نبي بل يعم الجميع ، فحينئذ يراد بالانتقام الانتقام التشريعي ، فظهر منه أن هذا النبي يكون مأمورا من جانب الله بالانتقام من منكره "(2). وفي هذا دلالة على أن النبي المبعوث مأمور بجهاد المنكرين وهذا ما جاء به سيد المرسلين لإعلاء كلمة الله في الأرض .
ويدل هذا النص أيضا على أن شريعة الإسلام ناسخة لشريعة التوراة لكونهم مأمورين باتباعه كما هو واضح من النص .
كما أن النص يبين أن مصير النبي الذي يطغى ويكذب على الله أو يتكلم باسم آلهة أخرى فإنه يموت أي : يقتل . والنبي صلى الله عليه وسلم حفظه الله من القتل رغم المحاولات الكثيرة لقتله وأنزل الله في حقه " ( والله يعصمك من الناس )[ سورة المائدة/ 67 ]، فلو كان كاذبا أو يتكلم باسم آلهة أخرى ــ حاشا لله ــ لما حفظه ولأمكن من قتله ، وهذا يدل دلالة واضحة على أنه النبي الذي وعد به موسى عليه السلام .
ثم يبين النص علامة النبي الكاذب من الصادق ، فالذي يتحدث عن أمور غيبية مستقبلية ولم تحث فهو نبي كاذب ، والصادق خلاف ذلك تماما ، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أخبر بالكثير من الأمور الآتية وحدثت وفقا لما تحدث به صلى الله عليه وسلم .
لذا فهذا النص من أوضح النصوص دلالة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكل ما ذكر فيه منطبق عليه ، ويؤكد أنه النبي الذي وعد الله موسى أن يرسله في آخر الزمان .
(1) خير البشر لابن ظفر ص 11
(2) إظهار الحق ص 242 .
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(107)
تابع بشائر التوراة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
زعم بعض الأحبار أن هذه البشارة ليست لمحمد صلى الله عليه وسلم والرد عليه:
ولكن بعض الأحبار يقولون : إن هذه البشارة بيوشع بن نون ، والبعض الآخر يقولون : إنه لم يأت بعد النبي المبشر به في النص ، والنصارى يقولون : إن هذه البشارة بعيسى عليه السلام .
والجميع ليسوا على صواب لأن النص يذكر أن النبي الآتي آخر الزمان ليس من بني إسرائيل ، بل من إخوتهم ، ومعلوم أن يوشع وعيسى من بني إسرائيل ، فدل ذلك على أنهما ليسا هما المقصودين .
ويؤكد ذلك أيضا أن اليهود في زمن عيسى عليه السلام كانوا ينتظرون هذا النبي المشار إليه في هذه البشارة .
يقول الستاذ غبراهيم خليل أحمد :" فسر اليهود هذا النص بمجيء رسول منهم لا من ولد إسماعيل ، وكأن الله تعالى جعل هذه العبارة مجملة وألهمهم هذا التفسير حفظا لهذه البشارة ، لأنهم لو عرفوا أن الرسول المبشر به سيكون من ولد إسماعيل لأخفوها ، وقد أثبتت الأيام أن الرسول المبشر به هو محمد صلى الله عليه وسلم "(1)
ثم إن النص يذكر أن النبي الآتي مثل موسى عليه السلام ، ومعلوم أن يوشع ليس مثل موسى عليه السلام ، لأن موسى صاحب شريعة ، ويوشع تابع لشريعة موسى ، وهذا لا ينطبق على عيسى عليه السلام ، لأنه لم يات بشريعة جديدة ، وإنما كان تابعا ومكملا لشريعة موسى عليهما السلام ، وقد صرح بذلك في قوله :" لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس "(2)
وعلى زعم النصارى أن عيسى عليه السلام إله ــ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ــ فهو إذن ليس مثل موسى ، لأن موسى عبد الله ورسوله ، ثم إن التوراة تؤكد أنه لا يقوم مثل موسى في بني إسرائيل .
فقد جاء في سفر التثنية ، الإصحاح الرابع والثلاثين:" ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه "
ثم إنه ورد في النص لفظ " يقيم "في المستقبل ، ويوشع كان حاضرا مع موسى نبيا في ذلك الوقت .
وعلى زعم النصارى أن عيسى قتل وصلب ، فهذه البشارة لا تنطبق عليه ، لأن النص يذكر أن النبي الصادق لا يقتل ، بل يحفظه الله ، ولكن الله برأه مما قالوه فلم يقتل ولم يصلب(3)
تلك بعض بشارات التوراة بنبينا محمد صلى اللله عليه وسلم ، ولله در من قال :
طوبي لموسى حين بشر باسمه ولسامع من قوله ما قيلا
وجبال فاران الرواسي إنها نالت على الدنيا به التفضيلا
من مثل موسى قد أقيم لأهله من بين إخوتهم سواه رسولا
تا الله ما كان المراد به فتى موسى ولا عيسى ولا شمويلا
إذ لن يقوم لهم نبي مثله منهم ولو كان النبي مثيلا
من غير أحمد جاء يحمد ربه حمدا جديدا بالمزيد كفيلا
فالأرض من تحميد أحمد أصبحت وبنوره عرضا تضيء وطو
(1) محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص 39
(2) إنجيل متى : الإصحاح الخامس
(3) إظهار الحق ص 250
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(108)
بشارات الإنجيل بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
الإنجيل يقصد به الكتاب الذي أنزله الله على عيسى بن مريم عليه السلام إبان رسالته إلى بني إسرائيل ، يقول عنه العالم الألماني " أكهارن " :" إنه كان في ابتداء الملة المسيحية توجد رسالة مختصرة يجوز أن يقال إنها هي الإنجيل الأصلي ، وإنها وضعت للمريدين الذين كانوا لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم ولم يروا أحواله بأعينهم ، وكان هذا الإنجيل بمنزلة القلب ، وما كانت الأحوال المسيحية مكتوبة فيه على الترتيب "
ومن ذلك يتبين احتمال أن هذه الرسالة كانت المرجع لجميع الأناجيل التي كانت رائجة في القرن الأول والقرن الثاني الميلادي ، والتي وصلت إلى اكثر من سبعين كتابا أو إنجيلا ، ومنها الأناجيل الأربعة التي اختارها مجمع نيقية المسكوني سنة ( 325م ) أي في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي ، والمتداولة بين النصارى حاليا ، لكن هذه الرسالة الأصلية فقدت ولم يعثر لها على أثر وبقيت الكتب التي اعتمدت على رسالة الإنجيل الأصلي ، لذلك نسب كل منها إلى من حرره" (1)
وإليك بعض البشارات التي وردت في بعض الأناجيل :
البشارة الأولى :
" قال يوحنا الإنجيلي: قال يسوع المسيح في الفصل الخامس عشر من إنجيله: "إن الفارقليط روح الحقّ الذي يرسله أبي هو يعلمكم كلّ شيء"(2).
(فالفارقليط) هو: محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بعد المسيح، وهو الذي علّم الناس كلّ شيء، قال يهودي لرجل من الصحابة(3): علمكم نبيّكم كلّ شيء حتى الخراء؟ فقال أجل: "لقد نهى أن يستقبل أحدنا القبلة ببول أو غائط"(4) .
وقد سماه المسيح (روح الحقّ) وذلك غاية المدحة وأعلى درجات المنحة.
وقد اختلف النصارى في تفسير لفظة الفارقليط على أقوال: فقيل: إنه (الحماد). وقيل: (الحامد). وقيل: (المعز). وأكثر النصارى على أنه (المخلِّص). فإن فرّعنا عليه فلا خفاء بكون محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلِّصاً للناس من الكفر والمعاصي والجهل. ومنقذهم من دركات الهلاك بإرشادهم إلى توحيد الله وعبادته.
قال عليه السلام: "إني آخذ بحجركم وأنتم تقحمون في النار"(5)
وبذلك سمّى المسيح نفسه في الإنجيل؛ إذ قال: "إني لم آت لأدين العالم بل لأخلّص العالم"(6).
والنصارى يقرؤون في صلاتهم: "يا والدة الإله لقد ولدتي لنا مخلّصاً". وإذا كان المسيح مخلّصاً لا بدّ من مخلص آخر لأمته.
فأما على بقية الأقوال، فليس لفظ أقرب إلى محمّد من الحامد والحماد. فقد وضح أن (الفارقليط) هو: محمّد عليه السلام(7) .
(1) بشائر الرسالة المحمدية للمستشار محمد عزت الطهطاوي ، ط : مكتبة النور ـ
(2) ورد النّصّ في الإنجيل14/26،كالآتي:"وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كلّ شيء ويذكركم بكلّ ما قلته لكم". وقد وردت بشارات الأناجيل المصرخة بلفظ(الفارقليط)ف ي المراجع الآتية:الدين والدولة ص174،185، أعلام النبوة ص211-213، الجواب الصّحيح 4/6-8، هداية الحيارى ص 117-134، تحفة الأريب ص 267-270، الإعلام بمناقب ص 203، للعامري، الإعلام ص 268-270، للقرطبي، النصيحة الإيمانية ص 319-320، مقامع هامات ص 550، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 219، 229، عبد الأحد داود، محمّد صلى الله عليه وسلم ص 72، إبراهيم خليل، الرسالة السبعية بإبطال الديانة اليهودية ص 40، للمهتدي إلى الإسلام الحبر إسرائيل ابن القطان شموئيل الأورشليمي، الفصل في الملل والنحل1/195،الأجوبة الفاخرة ص165،168، السيرةالنبوية1/295، لابن هشام.ـ
(3) هو سلمان الفارسي رضي الله عنه. والقائل له ذلك هو: رجل من المشركين وليس من اليهود كما ذكر المؤلِّف
(4) أخرجه مسلم ، كتاب الطهارة ، باب الاستطابة ( 262 ) وأبو داود ، كتاب الطهارة ، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة ( 7 )، والترمذي ، كتاب الطهارة ، اللستنجاء بالحجارة ( 16 )وقال : حديث حسن صحيح .
(5) أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب الانتهاء عن المعاصي ( 6483 )
(6) يوحنا 47 / 12 .
(7)إن الطبعات الحديثة للأناجيل لا توجد فيها لفظة: (فارقليط). وأبدلت بألفاظ أخرى مثل: (المُعزي، المحامي، المعين، المخلص، الوكيل، الشافع). علماً بأن كلمة (الفارقليط) كانت موجودة في الترجمة العربية للأناجيل المطبوعة في لندن سنة 1821م، 1831م، 1844م. وقد وقفت على مخطوطة لترجمة التوراة والزبور والإنجيل في إسطنبول بمكتبه عاطف أفندي تحت رقم: (7). وفيها ذكرت لفظة (الفارقليط). ومعلوم لدينا أن اليهود والنصارى يسعون إلى إخفاء البشارات بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من كتبهم المقدسة لديهم أو تحريف معناها. وذلك مما أخبرنا الله عزوجل عنهم فقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 146]. فما معنى كلمة: (فارقليط) التي اخلف النصارى في معناها؟ إن (فارقليط) معربة من كلمة: (بيركليتوس) اليونانية) التي تعني اسم: أحمد، صيغة المبالغة من الحمد. والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1- شهادة العلامة علي بن ربنّ الطبري - الذي كان مسيحياً فأسلم - في القرن الثالث الهجري بذلك في كتابه: الدين والدولة ص 184.
2- إن هذه الكلمة كانت سبباً في إسلام القس الأسباني: أنسلم تورميدا في القرن التاسع الهجري بعدما أخبره أستاذه القسيس (نقلاً ومرتيل) - بعد إلحاح منه - أن الفارقليط هو اسم من أسماء محمّد صلى الله عليه وسلم. فكان ذلك سبباً في إشهار إسلامه وتغيير اسمه إلى عبد الله الترجمان وتأليف كتابه: تحفة الأريب في الرّدّ على أهل الصليب، وذكر فيه قصته مفصلة. ر: ص: 65-75.
3- شهادة القسيس (دافيد بنجامين كلداني) - الذي هداه الله إلى الإسلام وغيّر اسمه إلى: (عبد الأحد داود) - في كتابه القيم: (محمّد في الكتاب المقدس) بذلك فقد وضح فيه أن الفارقليط ليس هو الروح القدس وليس أي شيء يدعيه النصارى، وإنما هو اسم محمّد صلى الله عليه وسلم. وبيّن ذلك بأدلة من نصوص الأناجيل وقواميس اللغة اليونانية. (ر: ص: 207-229 من كتابه المذكور).
4- ذكر الأستاذ عبد الوهّاب النجار في قصص الأنبياء ص 397، 398، أنه كان في سنة 1894م زميل دراسة اللغة العربية للمستشرق الإيطالي. (كارلو نالينو) وقد سأله النجار في ليلة 27/7/1311هـ ما معنى: (بيريكلتوس)؟. فأجابه قائلاً: إن القسس يقولون إن هذه الكلمة معناها: (المعزي). فقال النجار: إني أسأل الدكتور كارلونالينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اليهود باللغة اليونانية القديمة.ولست أسأل قسيساً.فقال:إن معناها:"الذي له حمد كثير".فقال النجار: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟ فقال الدكتور: نعم. فقال النجار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسماء (أحمد) فقال الدكتور: يا أخي أنت كثيراً ثم افترقا. (ر: للتوسع في المزيد من الأدلة: إظهار الحق ص 511-514، دراسة الكتب المقدسة ص 125-129، موريس بوكادي).
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
الحلقة(109)
تابع بشارات الإنجيل بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
البشارة الثانية :
" قال يوحنا التلميذ أيضاً لتلاميذه: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطاً آخر يثبت معكم إلى الأبد. روح الحقّ الذي لم يطق العالم أن يقبلوه؛ لأنهم لم يعرفوه. ولست أدعكم أيتاماً لأني سآتيكم عن قريب"(1) .
قد نقلنا تفسيرهم (للفارقليط) وأنه على صحيح أقوالهم: (المُخلِّص) وقد ذكر المسيح أنه لا بدّ من (فارقليط) آخر يثبت إلى الأبد. وثبوت النبي إلى الأبد ممتنع. فلم يبق إلاّ حمل الكلام على الشريعة التي جاء بها النبيّ. وهذه شريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم باقية على أس قويم ومنهج من الحقّ مستقيم. لا تنقض بوفاقه ولا تنقرض ولا يتخلل الخلل خلالها ولا يعترض. وذلك نظير قوله تعالى: ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّين ). [سورة الأحزاب، الآية: 41]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا نبي بعدي )(2)
فالنصارى في ذلك بين أمرين:
وهو إما أن يقولوا: إنه محمّد رسول الله.
وإما أن يقولوا: إن المسيح أخلف قوله ولم يفِ بوعده وتركهم أيتاماً بغير نبيّ يتكفل بأمورهم ولم يأتهم عن قريب كما وعد، بل إنما أراد أن هذا النبيّ المخلص هو الذي يأتيهم عن قريب.
ولم أر أحداً من النصارى يحسن تحقيق مجيء هذا (الفارقليط) الموعود به. إذ بعضم يزعم أنه ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ(3)ففعلوا الآيات والعجائب.
وذلك خلاف ما أخبر به المسيح؛ إذ المسيح ذكر (فارقليطاً) آخر. وذلك يشير إلى أوّل تقدم لهم. وهذه الألسن لم يتقدم محيؤها ولم تعرف أوّلاً.
ثم ذلك كذب من قائله؛ إذ سِير التلاميذ تشهد بأنهم بعد المسيح امتهنوا تقتيلاً وعذبوا بأنواع العذاب. وذلك تكذيب لمن زعم أنه نزل عليهم من السماء ألسن من نار تؤيدهم على أعدائهم.
ثم المسيح يقول: إن هذا (الفارقليط) الآخر يأتي بعده ويدوم مع الناس إلى الأبد ويعلّم الخلائق كلّ شيء. وأنه قد سمي روح الحقّ. فكيف تقول النصارى إنه هو هذا الذي يزعمون أنه ألسنة من نار نزلت ثم انقضت ومضت ولم تدم إلى الأبد ولم تعلّم أحداً شيئاً؟!.
هل هذا إلاّ جهل من قائله، وحمل لكلام الأنبياء والرسل على الخلف والكذب؟!
فقد وضح أن هذا الموعود به على لسان المسيح إنما هو محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وصفه المسيح: "بأنه لم يطق العالم أن يقبلوه؛ لأنهم لم يعرفوه".
يريد أنه يأتي في زمن الغالب على أهله عبادة الأوثان وتعظيم الصلبان وسجر النيران، قد نبتت على ذلك أجسادهم وثبتت عليه آباؤهم وأجدادهم فما راعهم إلاّ رسول قد جاءهم من التوحيد بما لم يعرفوه، وهاجم جمعهم بفطم ما ألفوه فقالوا (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)[ سورة القصص / 36 ]. وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)[ سورة ص /5 ]. فلذلك لم يقبلوه والنبيّ على الحقيقة لا يعرفه إلاّ من فاض عليه من فيضه، وارتاض في فسيح روضه.
(1) يوحنا 15 / 14 ــ 19
(2) أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل ( 3455 ) وغيره
(3) أعمال الرسل 1 / 2 ــ 4
-
رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله
السيرة النبوية والشمائل المحمدية
السيرة والشماثل
د. منى القاسم
الحلقة(110)
كلامه - صلى الله عليه وسلم -
عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: " ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلّم بكلام بيّن فصل، يحفظه من جلس إليه"(1).
عن أنس بن مالك قال:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه"(2).
تطالعنا كتب السنة الشريفة بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من الأحاديث في الأحكام والأخبار بلسان عربي مبين، سهل الألفاظ، واضح المعاني، جزل العبارة، لا تمله المسامع، ولا تأنفه الخواطر، في سلاسة طبع، وجودة لسان، وغزارة بيان، وإيجاز مع إعجاز.
لقد أوتي جوامع الكلم، وبدائع الحكم، وبلاغة القول، بما جمع له - صلى الله عليه وسلم- من أصالة المنشأ القرشي، وقوة عارضة البادية وجزالتها، ورقة ألفاظ الحاضرة، إضافة إلى جريان الآي القرآني المبارك على لسانه، والعصمة الربانية التي لا تنبغي لأحد من بعده.
وكان الصحابة - رضي الله عنهم- أحظى هذه الأمة بسماع سنته من فِيْهِ الشريف، وأصدقهم نقلا لصفة كلامه - صلى الله عليه وسلم-، وحسن منطقه، وجودة عبارته.
وهذا الحكم الذي نقلوه عنه ذو دلالات عظيمة منها:
أنهم- رضي الله عنهم- مورد اللغة العربية، ومنهل الفصاحة والبيان، وأهل الخبرة والمعرفة باللسان العربي، لم يتسرب إليهم الفساد في اللفظ، ولم يخلّطوا الكلام، فكان المصطفى - صلى الله عليه وسلم- بشهادتهم في الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة، ومن أحاديثه الجزلة - قليلة المباني عظيمة المعاني- قوله - صلى الله عليه وسلم-:" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"(3).
أنهم لم يحكموا على خطبه أو مواعظه أو نصائحه على حدة في ساعة مؤقتة، أو فترة محددة، فربما نمّقها، وأولاها عنايته واهتمامه، ولكنه وصف عام دائم لا ينفك عن منطقه، ولا يتخلف عن قوله، على سائر أحواله من إقامة وسفر، وجهاد ودعوة، مذ كَرَّمَهُ ربه تبارك وتعالى بآياته، واختاره لختم رسالاته.
منطقه البهيّ، وحديثه النديّ مكّن أصحابه - رضي الله عنهم- من حفظ سنته في الصدور، ونقل دقيقها وجليلها لمن بعدهم على الوجه الذي سمعوه من فِيه - صلى الله عليه وسلم-.
كما أن أسلوبه الحديثي الخاص يكشف لمن اعتاد سماعه ما ألصق به من الروايات الباطلة، والأحاديث الموضوعة، وتمييز الصحيح من السقيم، بما تنفر أسماعهم منه لركاكته، وضعف بنائه، وسخف مراده.
أحب الصحابة - رضي الله عنهم- النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأحبوا كلامه العذب، فكان ملأ السمع، ولذّة القلب، وراحة المشاعر، وعاه من جلس إليه من كبير أو صغير، ورجل أو امرأة، متقدم في العلم أو مبتدئ فيه، وكذا الحاضر والبادِ.
ويأتي دورنا في الاقتداء به في دروسنا ومواعظنا وحياتنا كلها؛ لنتعلم منه فنّ الحديث الطيّب المحبّب، والأسلوب الجذّاب المهذّب، والحوار البناء، والجواب العلمي المقنع، والإنصات الحكيم، وغيرها من فنون الكلام المستفادة من سنته - صلى الله عليه وسلم-، إضافة إلى التنور بأمثاله البديعة، وحكمه الجامعة المنيعة، والاستشهاد بها في المواقف المناسبة، كقوله:" لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك "(4).
في نفي عائشة - رضي الله عنها- أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم- يسرد الكلام ويلقيه تباعًا، تنبيه إلى حاجة الخطيب والداعية إلى المواعظ الجزلة، والدروس الموجزة، والدعوات الجامعة، وتجنب الإطالة المقيتة، والتفاصيل الدقيقة، اتباعًا لهديه - صلى الله عليه وسلم-:" إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه "(5)
( مئنة ) أي علامة.
تكتب هذه السلسلة
د/ منى القاسم
(1) - سنن أبي داود ( 4839) و الشمائل النبوية ( 223) قال الألباني: صحيح.
(2) - سنن الترمذي (3640 ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث عبد الله بن المثنى.
(3) - صحيح البخاري (16).
(4) - سنن الترمذي (2506) وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .
(5) - صحيح مسلم (869 ).