-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 71)
شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها(1)
الشبهة الثانية
زعم أعداء السنة المطهرة أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السنة، واحتجوا لذلك بقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[ سورة الحجر /9 ] وقالوا : لو كانت السنة حجة ووحياً مثل القرآن؛ لتكفل الله عز وجل بحفظها؛ كما تكفل بحفظ القرآن الكريم.
والجواب عن هذه الشبهة فيما يلي :
مما لا شك فيه أن منشأ هذه الشبهة فى كلمة (الذكر) حيث اقتصر فهم المنكرين لحجية السنة المطهرة على أن المراد بكلمة الذكر فى الآية هو "القرآن الكريم" وحده دون السنة، وأن الضمير فى قوله تعالى "له" عائد على القرآن، وأن الآية فيها حصر بتقديم الجار والمجرور وهذا الحصر يفيد عندهم قصر الحفظ على القرآن وحده دون ما عداه (1) .
ونقول رداً على ذلك : إن رب العزة قد تكفل بحفظ ما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والعقل، والتاريخ(2) .
أولاً : أما الدليل من كتاب الله عز وجل على تكفل الله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ كتابه الكريم :
1- قوله تعالى:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)[ سورة النحل / 44 ].
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور محمد السيد ندا:" فى الآية الكريمة إخبار من الله تعالى : بأن السنة مبينة للقرآن، وقد تكفل الله بحفظه فى قوله تعالى : (إنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[ سورة الحجر / 9 ] ، فيلزم من هذا أن يكون قد تكفل أيضاً بحفظ السنة؛ لأن حفظ المبين يستلزم حفظ البيان للترابط بينهما.
2- وقال تعالى :(إنا عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)[ سورة القيامة 17ــــ19]. فإنه نص صريح يدل على أن الله قد تكفل بحفظ السنة على وجه الأصالة والاستقلال لا على طريق اللزوم والتبع؛ لأنه تكفل فيه ببيان القرآن فى قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }. أى بيان القرآن، والبيان كما يكون للنبى صلى الله عليه وسلم يكون لأمته من بعده،وهو يكون للنبى صلى الله عليه وسلم بالإيحاء به إليه ليبلغه للناس، وهو المراد فى الآية السابقة :( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [ سورة النحل /44] وقوله تعالى :( وماأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ)[ سورة النحل / 64 ] فالسنة النبوية على هذا منزلة من عند الله عز وجل (بوحى غير متلو).
يقول فضيلة الدكتور محمد السيد ندا : "فهذان دليلان على أن الله تكفل بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن، وتحقيقاً لهذا الوعد الكريم من الله عز وجل هيأ الأسباب لحفظها، والذود عن حياضها؛ فأثار فى نفوس المسلمين عوامل المحافظة عليها، والدفاع عنها؛ فكانت موضع اهتمامهم ومحل تقديرهم ورعايتهم منذ أن أشرقت شمسها إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"(3) .
(1) السنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص25.
(2) انظر : السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام 1 / 203 ــ 216 .
(3) المؤتمر العلمي الرابع للسيرة والسنة 2 / 531 ، 532 . بتصرف .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 72)
شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها(2)
الدليل الثالث من القرآن على تكفل الله سبحانه بحفظ السنة
3- ويذكر الإمام ابن حزم دليلاً ثالثاً من كتاب الله على تكفله جل علاه بحفظ السنة فى قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )[ سورة النساء / 59 ]
يقول الإمام ابن حزم : "هذه الآية الكريمة جامعة لجميع الشرائع أولها عن آخرها، وذكرت أصولاً ثلاثة وهى قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ). فهذا أصل وهو القرآن،ثم قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ). فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: ( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ). فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه.
وصح لنا بنص القرآن، أن الأخبار هى أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }. والبرهان على أن المراد بهذا الرد؛ إنما هو إلى القرآن،والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا، وإلى كل من يخلق ويركب روحه فى جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس؛ كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لو شغب مشاغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكنه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمكنه هذا الشغب فى الله عز وجل، إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى؛ فبطل هذا الظن، وصح أن المراد بالرد المذكور فى الآية التى نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى، وهو القرآن، وإلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيلاً بعد جيل، وأيضاً فليس فى الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلاً، ولا دليل عليه، وإنما فيه الأمر بالرد فقط، ومعلوم بالضرورة؛ أن هذا الرد إنما هو تحكيم أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر .
والقرآن والخبر الصحيح بعض من بعض وهما شيء واحد فى أنهما من عند الله تعالى، وحكمها حكم واحد فى باب وجوب الطاعة لهما للآية المذكورة وقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ؛ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)[ سورة الأنفال / 20، 21]
وكلام النبى صلى الله عليه وسلم كله وحى لقوله تعالى :( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[ سورة النجم /3،4] والوحى ذكر بإجماع الأمة كلها، والذكر محفوظ بالنص قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله فى الدين وحى من عند الله عز وجل؛ لا شك فى ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة فى أن كل وحى نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحى كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه؛ فمضمون ألا يضيع منه، وألا يحرف منه شيء، أبداً تحريفاً لا يتأتى البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك؛ لكان كلام الله تعالى كذباً وضمانه خاسئا، وهذا لا يخطر ببال ذى مسكة عقل، فوجب أن الدين الذى أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولى الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتى أبداً إلى انقضاء الدنيا، قال تعالى :(لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)[ سورة الأنعام 19] فإذا كان ذلك كذلك؛ فبالضرورى نتيقن أنه لا سبيل ألبته إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عند أحد من الناس بيقين، إذ لو جاز ذلك؛ لكان الذكر غيرمحفوظ، ولكان قول الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } كذباً ووعداً مخلفاً،وهذا لا يقوله مسلم
فإن قال قائل : "إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده، فهو الذى ضمن تعالى حفظه دون سائر الوحى الذى ليس قرآناً . قلنا له وبالله تعالى التوفيق : "هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى :( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[ سورة البقرة / 111] فصح أنه لا برهان له على دعواه، فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحياً يبين بها القرآن، وأيضاً فإن الله تعالى يقول : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )[ سورة النحل / 44 ] فصح أنه عليه الصلاة والسلام مأمور ببيان القرآن للناس .
وفى القرآن مجمل كثير؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، ولكن بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بيانه - عليه الصلاة والسلام - لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه؛ فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها، وما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب، ومعاذ الله من هذا"(1) .
(1) الإحكام في أصول الأحكام 1 / 96 ، 117 ، 118 بتصرف يسير .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 73)
شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها(3)
الدليل الرابع من القرآن على تكفل الله بحف السنة
4- ويذكر الإمام ابن قيم الجوزية : دليلاً رابعاً من كتاب الله عز وجل على تكفله -جل جلاله- بحفظ السنة فى قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )[ سورة المائدة / 3 ] وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ )[ سورة آل عمران / 85 ] . وقال تعالى :(إن الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ )[ سورة آل عمران / 19 ].
يقول ابن قيم الجوزية : "فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله به نبيه من بيان شرائع الإسلام غير محفوظ، وأنه يجوز فيه، التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطاً لا يتميز أبداً، أخبرونا عن إكمال الله تعالى لنا ديننا، ورضاه الإسلام لنا ديناً، ومنعه من قبول كل دين سوى الإسلام .
أكل ذلك باق علينا ولنا وإلى يوم القيامة؟
أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط؟
أولا للصحابة ولا لنا؟ ولابد من أحد هذه الوجوه .
فإن قالوا : لا للصحابة ولا لنا؛ كان قائل هذا القول كافراً لتكذيبه الله جهاراً، وهذا لا يقوله مسلم .
وإن قالوا : بل كل ذلك لنا وعلينا وإلى يوم القيامة؛ صاروا إلى قولنا ضرورةً، وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة والنعمة بذلك علينا تامة .
وهذا برهان ضرورى وقاطع على أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الدين، وفى بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به ما ليس منه أبداً .
وإن قالوا : بل كان ذلك للصحابة فقط، قالوا : الباطل، وخصصوا خطاب الله بدعوى كاذبة، إذ خطابه تعالى بالآيات الكريمة التى ذكرها عموم لكل مسلم فى الأبد، ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا، والله تعالى رضى لنا منه ما لم يحفظه علينا وألزمنا منه ما لا ندرى أين نجده، وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة . ووضعوه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيهم صلى الله عليه وسلم - وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام، بل هو إبطال لدين الإسلام جهاراً، ولو كان هذا - ومعاذ الله أن يكون - لكان ديننا؛ كدين اليهود والنصارى الذين أخبر الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا : هذا من عند الله، وما هو من عند الله .
ونحن قد أيقنا بأن الله تعالى هو الصادق فى قوله :( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ )[ سورة البقرة / 213 ] وأنه تعالى قد هدانا للحق، فصح يقيناً أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، هدانا الله تعالى له، وأنه حق مقطوع به حفظه الله تعالى، وقد قال تعالى : { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا }[ سورة فاطر / 43 ]
وقال تعالى :(لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ )[ سورة يونس / 64 ] . فلو جاز أن يكون ما نقله الثقات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقول بأنه سنة الله وبيان نبيه يمكن فى شيء منه التحويل أو التبديل؛ لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لها تبديل ولا تحويل كذباً، وهذا لا يجيزه مسلم أصلاً؛ فصح يقيناً لا شك فيه أن كل سنة سنها الله عز وجل لرسوله، وسنها رسوله لأمته، لا يمكن فى شيء منها تبديل ولا تحويل أبداً، وهذا يوجب أن نقل الثقات فى الدين؛ يوجب العلم بأنه حق كما هو من عند الله عز وجل"(1) أ.ه
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2 / 543 ، 544 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 74)
شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها(4)
أدلة السنة على تكفل الله بحفظ السنة
ثانياً : أما الدليل من السنة النبوية الصحيحة على تكفل الله عز وجل بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(1)
وقوله صلى الله عليه وسلم ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله وسنتى، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض )(2).
ففى هذه الأحاديث وغيرها - يخبر النبى صلى الله عليه وسلم؛ أن له سنة مطهرة تركها لأمته، وحثهم على التمسك بها، والعض عليها بالنواجذ؛ ففى اتباعها الهداية، وفى تركها الغواية، فلو كانت سنته المطهرة غير محفوظة، أو يمكن أن يلحقها التحريف والتبديل؛ فلا يتميز صحيحها من سقيمها، ما طالب أمته بالتمسك بها من بعده، فيكون قوله مخالفٌ للواقع، وهذا محال فى حقه صلى الله عليه وسلم، فأمره بالتمسك بها، يدل على أنها ستكون محفوظة تأكيداً لقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ). فدل ذلك على إخبار بالغيب صادق فى الواقع .
(1) أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في لزوم السنة ( 4607 ) والترمذي ، كتاب العلم ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع ( 2676 ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وابن ماجه ، المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ( 42 ، 43 ) .
(2) جزء من حديث أخرجه مسلم ، كتاب الحج ، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم ( 1218 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 75)
شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها(5)
الدليل العقلي على تكفل الله بحفظ السنة:
ثالثاً:الدليل العقلى على تكفل رب العزة بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
يقول الدكتور رؤوف شلبى : "ليس بلازم فى الاحتمالات العقلية أن يكون المراد من الذكر القرآن الكريم وحده، لأمرين :
1- أنه لو كان المراد من الذكر القرآن الكريم وحده؛ لصرح المولى عز وجل به باللفظ، كما صرح به فى كثير من الموضوعات كما فى قوله تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )[ سورة الإسراء / 9 ] . وقوله تعالى : ( بل هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ )[ سورة البروج / 21 ، 22 ] وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ )[ سورة القمر / 17 ] .
2- لو كان المراد بالذكر القرآن لعبر عنه بالضمير ( إنا نحن نزلناه ) إذ افتتاح السورة فيه نص وذكر للقرآن ( تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ )[ سورة الحجر / 1] والتعبير بالضمير فى نظر اللغة أجود؛ لأن العَلمَ فى المرتبة الثانية من الضمير، إذ هو أعرف المعارف، وهو عمل يتفق مع منزلة القرآن، وتعتمده الصناعة الإعرابية .
وإذن : فليس بالحتم أمام فهم العقل أن يكون المراد من الذكر هو القرآن فقط دون غيره، بل إن تفسير الذكر بالقرآن فقط احتمال بعيد فى نظر العقل؛ لعدم وجود مرشح لهذا التفسير يقوى على مواجهة الأمرين السالفين اللذين يقويان بالمنزلة والعرف النحوى .
وإنه لأقرب من هذا التفسير أحد الاحتمالين :
الأول : أن يكون المراد من الذكر الرسالة والشرف الذى استحقه الرسول صلى الله عليه وسلم واتصف به بنزول النبوة والقرآن عليه، ويقوى عندنا هذا الاحتمال أمام نظر العقل افتتاحة سورة "الحجر" حيث صورت مقالات الكافرين المعتدين على النبوة بأوصاف مفتراه ذكرها رب العزة فى كتابه حكاية على لسانهم( وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[ سورة الحجر / 6 ـــ 9 ] .
فالآيتان الأوليان تصوران اتهامات الكافرين الكاذبة، والآيتان التاليتان ترد على هذه الاتهامات، وتعد بحفظ الرسالة والشرف الذى نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويرشح لهذا الاحتمال قوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ )[ سورة الزخرف/ 44] فعود الضمير فى الآية "إنه" على ما ذكر قبلاً فى قوله تعالى : ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ )[ سورة الزخرف / 43 ] دليل على أن التصريح به مراد الشرف، لا سيما ومن قبل ذلك قال تعالى : ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ )[ سورة الزخرف / 31 ]. فذكر القرآن بالنص أولاً، وذكره بالوحى ثانياً، ووصف ذلك بأنه ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم ولقومه، مما يقوى الاحتمال العقلى، أن المراد من الذكر فى سورة الحجر هو الرسالة والشرف .
الثانى : أن يكون المراد من الذكر الشريعة مطلقاً، ويرشح لهذا الاحتمال ما تناولته السورة بعد الآية التى معنا فى ذكر موقف الأمم السابقة مع رسلهم، يقول الله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ )[ سورة الحجر / 10 ــ 13 ] .
والأنبياء يكلفون الأمم بالشرائع، والشريعة : كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والذى يستعرض حالات الأمم مع الأنبياء يتضح له أن محاجاة الكافرين مع الرسل، تدور كلها حول التكليف الذى مصدره ما ينزله الله بالوحى المعبر عنهما بالكتاب والسنة.
وتكون الآية التى معنا قد نبهت على أمر خطير : هو أنه إذا كان الأمر فى الأمم السالفة ينتهى إلى إلغاء الشريعة بعد معارك عنيفة بين الرسل وأممهم؛ فإن هذه الشريعة قرآناً وسنة سيحفظها رب العزة إلى قيام الساعة من كيد أعدائه وأعداء دينه كما وعد فى قوله تعالى: ( إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[ سورة الحجر / 9 ] وعلى ذلك فإن الذكر فى الآية مراد به الشريعة، ويكون الضمير فى قوله "له" عائد على الشريعة بمصدريها الأساسين القرآن الكريم، والسنة المطهرة(1) .
قلت : ومما يرشح لهذا الاحتمال الثانى : تفسير الإمام الشاطبى للحفظ المضمون فى الآية الكريمة؛ بأنه حفظ أصول الشريعة وفروعها فيقول : "من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه . فهذه ثلاثة أقسام :
القسم الأول : هو الأصل والمعتمد، والذى عليه مدار الطلب، وإليه تنتهى مقاصد الراسخين وذلك ما كان قطيعاً أو راجعاً إلى أصل قطعى . والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة فى أصولها وفروعها؛ كما قال الله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التى بها يكون صلاح الدارين : وهى الضروريات والحاجيات، والتحسينات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها وهى أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعى على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال فى أنها علم أصل، راسخ الأساس، ثابت الأركان(2) .
(1) السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين ص 25 ـــ29 بتصرف .
(2) الموافقات ( 1 / 32 ، 70 ) ( 2 / 368 ــ 371 ) .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 76)
شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها(6)
تساؤل والرد عليه :
ثم يقول الدكتور رؤوف شلبى : "لكن بقى أن يقال:كيف يعود الضمير على القرآن والسنة معاً، ولم يذكر إلا القرآن وحده؟ ولكننا نجد فى القرآن الكريم نفسه استعمالاً للضمير استناداً على ما يفهم من السياق، و مدلولات الحديث، يشهد لهذا قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنّ َ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنّ َ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا )[ سورة الواقعة / 35 ــ 37 ] .
فتلك صفات الحور العين مع أنه لم يجر لهم ذكر فى قسم أصحاب اليمين فى سورة الواقعة، ولكن السياق العام للسورة وما ذكر فى الأقسام السابقة يجعل الذهن يدرك أن الضمير عائد على أمر مفهوم الفحوى والسياق والأسلوب .
كذلك يقوى هذه الشهادة فى استعمال القرآن الضمير على ما يستند على الأسلوب النحوى، قوله تعالى : ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ )[ سورة ص / 32 ] .
ففى قوله : "توارت" ضمير فاعل يعود على الشمس مع أنه لم يجر لها ذكر فى السورة بالنص، ولكن السياق العام يجعل الذهن يدرك أن الضمير عائد على الشمس . وما معنا فى آية الحجر من هذا القبيل والكل استعمال قرآنى تزكيه اللغة، ويقويه الإعراب القرآنى، فليس هناك وجه للاعتراض، وعليه يسلم تفسير الذكر بالشريعة قرآناً وسنة (1)
(1) السنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين ص 29 ، 30 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
* ﺃﺗﻰ ﺭﺟﻞ ﻣﻦ " ﺍﻟﺨﻮﺍﺭﺝ " ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺍﻟﺒﺼﺮﻱ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ :
ﻣﺎ ﺗﻘﻮﻝ ﻓﻲ " ﺍﻟﺨﻮﺍﺭﺝ " ؟
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺤﺴﻦ : " ﻫﻢ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺩﻧﻴﺎ ."
ﻗﺎﻝ : ﻭ ﻣﻦ ﺃﻳﻦ ﻗﻠﺖ ﺃﻧﻬﻢ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺩﻧﻴﺎ ﻭ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﻤﺸﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺮﻣﺎﺡ ﺣﺘﻰ ﺗﺘﻜﺴﺮ ﻓﻴﻪ ؟ ! ﻭ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﺃﻫﻠﻪ ﻭ ﻭﻟﺪﻩ؟ !
ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺤﺴﻦ : ﺣﺪﺛﻨﻲ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ! * ﻫﻞ ﻣﻨﻌﻚ ﻣﻦ ﺇﻗﺎﻣﺔ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭ ﺇﻳﺘﺎﺀ ﺍﻟﺰﻛﺎﺓ ﻭ ﺍﻟﺤﺞ ﻭ ﺍﻟﻌﻤﺮﺓ؟؟ *
ﻗﺎﻝ : ﻻ .
ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺤﺴﻦ : * ﻓﺄﺭﺍﻩ ﺇﻧﻤﺎ ﻣﻨﻌﻚ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، *
* ﻓﻘﺎﺗﻠﺘﻪ ﻋﻠﻴﻬﺎ * ...
* | [ [ ﺍﻟﺒﺼﺎﺋﺮ ﻭﺍﻟﺬﺧﺎﺋﺮ، ﺝ ١ / ﺹ ١٥٦ ]
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 77)
شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها(7)
تنزل مع المعاندين في الرد:
ونسلم لكم أيها المعاندون لحجية السنة أن المراد بالذكر؛ هو القرآن الكريم وحده، وأن الضمير فى قوله تعالى : "له" عائد على القرآن المراد منه الذكر، ولكن الحصر الذى تستدلون به على أن السنة النبوية لم تدخل فى دائرة الحفظ لقصره على القرآن فقط، وترتبون على هذا الحصر عدم صحة الاحتجاج بالسنة، وأنها ليست مصدراً من مصادر التشريع .
هذا الحصر ليس حصراً حقيقياً؛ بل هو حصر إدعائى، والدليل على ذلك؛ أن رب العزة قد حفظ أشياء كثيرة مما عداه منها :
1- حفظه جل جلاله للسماوات والأرض أن تزولا كما قال عز وجل ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )[ سورة فاطر / 41 ] .
2- حفظه جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم من القتل كما قال عز وجل : ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )[ سورة المائدة / 67 ] .
وإذا فسدت حقيقة القصر؛ فقد فسد المترتب عليها : وهو عدم الاعتراف بحجية السنة المطهرة(1).
يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق: "والحصر الإضافى بالنسبة إلى شئ مخصوص، يحتاج إلى دليل وقرينة على هذا الشئ المخصوص، ولا دليل عليه سواء أكان سنة أم غيرها .
فتقديم الجار والمجرور ليس للحصر، وإنما هو لمناسبة رؤوس الآى . بل:لو كان فى الآية حصر إضافى بالنسبة إلى شيء مخصوص: لما جاز أن يكون هذا الشيء هو السنة؛ لأن حفظ القرآن متوقف على حفظها،ومستلزم له بما أنها حصنه الحصين،ودرعه المتين، وحارسه الأمين، وشارحه المبين؛ تفصل مجمله، وتفسر مشكله، وتوضح مبهمة، وتقيد مطلقه، وتبسط مختصره، وتدفع عنه عبث العابثين، ولهو اللاهين، وتأويلهم إياه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما يمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم . فحفظها من أسباب حفظه، وصيانتها صيانة له .
ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن فلم يذهب منها - ولله الحمد - شيء على الأمة؛ وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة"(2) .
(1) السنة الإسلامية ص 30 ، 31 بتصرف .
(2) حجية السنة ص 390 ، 391 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 78)
شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها(8)
الدليل التاريخي:
رابعاً : الدليل التاريخى على تكفله جل جلاله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن الكريم :
أنه لو تتبع أعداء الإسلام الحوادث والتاريخ، وتتبعوا السيرة النبوية العطرة؛ لظهر لهم بكل جلاء ووضوح وبما لا يدع مجالاً للشك؛ أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نالت من العناية والاهتمام لدى المسلمين ما لم تنله سيرة أى عظيم من العظماء، ولا بطل من الأبطال، ولا رئيس من الرؤساء، ولا ملك من الملوك . ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى واقع الأمر ليس إنساناً عادياً، ولا رسولاً عادياً، ولا قائداً يشبه فى أخلاقه وصفاته الإنسانية أحداً، "فهو أفق وحده لا يدانيه أفق" ولذلك كان هو الأسوة، وهو النبراس المضيء .
أدرك هذه الحقيقة أصحابه وتابعوهم، والمسلمون من بعدهم فعكفوا على نقل، وتدوين وحفظ، وتطبيق كل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، حتى الحركات والسكنات، وبالجملة . نقلت حياته برمتها وكلياتها وجزئياتها فى عباداته ومعاملاته، فى سلمه وحربه، وفى نومه ويقظته، فى أدق الأمور، وفيما نعده من أسرار حياتنا كمعاشرته، إلى غير ذلك بصورة لم تحظ بها سيرة أحد غيره من البشر .
وهذا يمثل إشارة قوية إلى أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذه السنة بما هيأ لها من رجال أفنوا أعمارهم فى ضبطها والسهر عليها، وتدوينها، وحفظها، وشرحها، وتمييز صحيحها من سقيمها؛ فنقشوها فى صفحات قلوبهم الأمينة، وفى كتبهم الواعية، فكان تكفله عز وجل بحفظ كتابه فى قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) . يشمل السنة النبوية حيث قيض الله لها من الرواة الثقات والأئمة الأعلام، ما قيض لكتابه العزيز من ثقات كل قرن، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها .
ولولا إرادة المولى عز وجل بحفظها، لاندثرت مع تعاقب الدهور لكثرة ما وجه إليها من طعون، ولكثرة ما صادفت من أعداء أضمروا لها شراً، وأرادوا بها سوءاً، فجعلهم الله الأخسرين بما قيض لها من الرجال الأوفياء فى كل عصر، وفى كل جيل، وفى كل مكان(1) .
وأخيراً فإننا لا نستطيع إلا أن نرتاب فى أمر هؤلاء الناس الذين قرروا إطلاق أنفسهم من ربقة القرآن الكريم وأحكامه، قبل أن يقرروا إطلاقها من مقتضيات السنة وأحكامها . ولكن شق عليهم أن يواجهوا الناس بخروجهم على القرآن الكريم وتعليماته، فأضافوا إلى القرآن الكريم ما لا مضمون له إلا ما تهواه أنفسهم ويتفق مع رغائبهم وأغراضهم … وكان غرضهم الوحيد من ذلك هو أن يبعدوا السنة عن طريقهم ويقطعوا ما بينها وبين القرآن الكريم من علاقة التفسير والتكامل والبيان .
وقد سبقهم إلى ذلك - فى عصور سالفة - بعض الزنادقة والمارقين . فما كان حالهم فى الظهور والافتضاح إلا شراً ممن جاهروا بالكفر والعصيان ومحاربة كتاب الله عز وجل وغدت الأمة الإسلامية تتقى شرهم أكثر مما تتقى مجاهرة الكافر بكفره، والفاسق بفسقه (2) .
"نعم" إن الاقتصار على الكتاب رأى قوم لا خلاق لهم، خارجين عن الطريقة المثلى، وخارجين عن السنة المطهرة، فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله فضلوا وأضلوا(3) أ.هـ.
(1) انظر : مؤتمر السنة النبوية ومنهجها في بناء المعرفة والحضارة 2 / 58 ــ 560 ، 602 ، وراجع هنا مبحث " الحديث النبوي تاريخ الإسلام " ص 56 .
(2) المصدر السابق 2 / 462 .
(3) الموافقات ( 4 / 401 ، 432 ) بتصرف ، وانظر : السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام 1 / 203 ــ 216 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 79)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (1)
مقدمة:
إن أعداء السنة المطهرة بعد أن تحايلوا على بعض آيات من القرآن الكريم ليحوروا معانيها، ويستدلوا بهذا التحوير على عدم الاحتجاج بالسنة النبوية ــ كما ذكرنا فيما سبق ــ نجدهم هنا باسم السنة ونصوصها يستشهدون بها أيضًا على إنكار حجيتها، ويتظاهرون بحرصهم على السنة، بل هم بإنكارهم حجيتها أشد حرصًا على السنة من المؤمنين بحجيتها(1).
وهكذا عكس المشاغبون القضية ، ونظروا في السنة النبوية المطهرة، فما وافق دعواهم منها قبلوه ، واعترضوا به على منازعيهم واحتجوا به مع وضعه أو ضعفه سندًا ودلالة، وهذا العمل مع جهالته أخطر منطق عكسي في التدليل على فساد الشيء بمادته، نصًّا وأسلوبًا ؛ لأنه إذا كان من الخطأ والخطل والخطر قبول الأحاديث الباطلة والموضوعة، وعزوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ، فمثله في البطلان رد الأحاديث الصحاح الثابتة بالهوى والعجب والتعالم على الله ورسوله، وسوء الظن بالأمة وعلمائها وأئمتها في أفضل أجيالها ، وخير قرونها .
إن قبول الأحاديث المكذوبة يدخل في الدين ما ليس منه ، أما رد الأحاديث الصحيحة، فيخرج من الدين ما هو منه ، ولا ريب أن كليهما مرفوض مذموم: قبول الباطل ورد الحق
ولأعداء السنة المطهرة شبهات على عدم حجية السنة بنوها على أحاديث مكذوبة، وضعيفة، وأخرى صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به . وسوف نذكر تلك الشبهات تباعا في هذه الحلقات مع دحضها والرد عليها.
أولا : أحاديث عرض السنة على القرآن .
1 ــ ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام ، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ، فخطب الناس فقال : ( إن الحديث سيفشوا عني ، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني ، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني ) .
2 ــ قوله صلى الله عليه وسلم ( إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه ) وفي رواية ( لا يمسكن الناس علي بشيء فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله ، ولا أحرم إلا ما حرم الله )
3 ــ ومن ذلك أن بعض الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ سأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل يجب الوضوء من القيء ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم :( لو كان واجبا لوجدته في كتاب الله تعالى ).
4 ــ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( السنة سنتان : سنة في فريضة وسنة في غير فريضة ، السنة التي في الفريضة أصلها في كتاب الله ، أخذها هدى وتركها ضلالة ، والسنة التي ليس لها أصل في كتاب الله ، الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة ).
(1) انظر : السنة ودورها في الفقه الجديد لجمال البنا ص 267 فقد قال في خاتمة الكتاب ( نحن أحرص على السنة منكم )
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 80)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (2)
وجه دلالة الروايات على ما احتج به أعداء السنة :
وحجة المنكرين لحجية السنة النبوية من الروايات السابقة : أنها تفيد عرض السنة على القرآن فما وافق القرآن فهو من السنة ، وتكون السنة في هذه الحالة لمحض التأكيد ، ولحجة هو القرآن فقط ، وما خالف القرىن بإثبات حكم شرعي جديد فهو ليس من السنة ، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا حجة فيه .
يقول محمد نجيب : " فإذا كانت سنة الرسول وحديثه متفقة مع سنة الله وحديثه ، فاتباعها حكم من متبعها أنها أحسن من سنة الله، وأنها حديث خير من حديث الله، وليس في هذا إلا تكذيب لله القائل : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم)[ سورة / الزمر/23 ] وهذا يحتم عدم الأخذ بسنة غير الله، وحديث غير الله، ولو كان متفقًا مع كلام الله فاتباعه خلط لدين الإنسان ، وخروج عن الدين الخالص لله وحده ، إذ بذلك يكون الدين خليطًا .
أما إذا كانت السنة والحديث غير متفقة مع كلام الله، وحديث الله، وسنة الله، فلا يمكن أن يعمل بها مسلم، أو أن يقبلها(1) .
ويقول الأستاذ جمال البنا : "هناك أحاديث جاءت بما لم يأت به القرآن ، نحن نحكم عليها في ضوء القرآن ، فما لا يخالف القرآن يقبل، وما يخالفه يستبعد، فتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها . وتحريم لحم الحمر الأهلية، أمور لا نرى مانعًا فيها ، ونجد فيها قياسًا سليمًا(2).
وهكذا اتخذ أعداء السنة من منهج عرض السنة على القرآن الكريم قاعدة ينطلقون منها للتشكيك في حجية السنة المطهرة وهدمها . وهم يصرحون بتلك الحقيقة وأهدافها .
ومن قاعدة عرض السنة على كتاب الله عزَّ وجلَّ ، انطلق أعداء الإسلام من الرافضة والزنادقة يشككون في حجية السنة المطهرة وتابعهم دعاة الفتنة وأدعياء العلم؛ أمثال الدكتور أحمد صبحي منصور، وإسماعيل منصور ، ومحمود أبو رية ، ومحمد نجيب، وقاسم أحمد وغيرهم
وفي الحلقات القادمة ــ إن شاء الله تعالى ــ سنجيب عن شبهتهم تلك
(1)الصلاة ص 278 ، 279 .
(2) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 254 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 81)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (3)
وجه الاستدلال للمنكرين لحجية السنة من الروايات السابقة:
وحجة المنكرين لحجية السنة النبوية من الروايات السابقة: أنها تفيد عرض السنة على القرآن فما وافق القرآن ؛ فهو من السنة، وتكون السنة في هذه الحالة لمحض التأكيد، والحجة هو القرآن فقط، وما خالف القرآن بإثبات حكم شرعي جديد؛ فهو ليس من السنة ، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم . ولا حجة فيه .
يقول أحدهم في: " فإذا كانت سنة الرسول وحديثه متفقة مع سنة الله وحديثه فاتباعها حكم من متبعها أنها أحسن من سنة الله، وأنها حديث خير من حديث الله، وليس في هذا إلا تكذيب لله القائل : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم)[ سورة الزمر / 23 ] وهذا يحتم عدم الأخذ بسنة غير الله، وحديث غير الله، ولو كان متفقًا مع كلام الله فاتباعه خلط لدين الإنسان ، وخروج عن الدين الخالص لله وحده إذ بذلك يكون الدين خليطًا .
أما إذا كانت السنة والحديث غير متفقة مع كلام الله، وحديث الله، وسنة الله، فلا يمكن أن يعمل بها مسلم، أو أن يقبلها(1).
ويقول الأستاذ جمال البنا : "هناك أحاديث جاءت بما لم يأت به القرآن ، نحن نحكم عليها في ضوء القرآن ، فما لا يخالف القرآن يقبل، وما يخالفه يستبعد، فتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها . وتحريم لحم الحمر الأهلية، أمور
لا نرى مانعًا فيها ، ونجد فيها قياسًا سليمًا(2) .
وهكذا اتخذ أعداء السنة من منهج عرض السنة على القرآن الكريم قاعدة ينطلقون منها للتشكيك في حجية السنة المطهرة وهدمها ، وهم يصرحون بتلك الحقيقة وأهدافها .
يقول جمال البنا :" وإذا كان تطبيق هذا المعيار ــ يعني معيار عرض السنة على القرآن بمفهومه هو وأمثاله ــ يودي بمئات الأحاديث أو أكثر ، من الأحاديث التي احتفظ بها المجتمع الإسلامي لألف عام ، فقد لا يكون من المبالغة القول : إن هذا الاحتفاظ كان من أكبر أسباب تخلف هذا المجتمع ، وأنه لن يتقدم إلا عندما يتخلص من هذ ه الأحاديث التي تخالف القرآن ، أو تفتات عليه وتودي بالمسلمين إلى متاهات تبعدهم عما يحييهم ويحقق لهم العزة والكرامة "(3) .
ويقول في موضع آخر :" وقد تتملكنا الدهشة عندما نرى إعمال هذا المعيار سيجعلنا نستبعد قرابة نصف الأحاديث المتداولة بين الناس "(4) .
ومن قاعدة عرض السنة على كتاب الله عزَّ وجلَّ ، انطلق أعداء الإسلام من الرافضة والزنادقة يشككون في حجية السنة المطهرة وتابعهم دعاة الفتنة وأدعياء العلم؛ أمثال الدكتور أحمد صبحي منصور، وإسماعيل منصور ، ومحمود أبو رية ، ومحمد نجيب، وقاسم أحمد وغيرهم.
(1) كتاب الصلاة لمحمد نجيب ص 278 ، 279 .
(2) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 254 .
(3) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 7 .
(4) المصدر السابق ص 248 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 82)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (4)
الجواب عن هذه الشبهة:
أولا : الجواب عن الحديث الأول :
أما الحديث الأول : ( إن الحديث سيفشو عني ... إلخ ) والذي يجحد به أعداء الإسلام تسعة أعشار السنة التي تلقاها العلماء بالقبول في جميع الأعصار والأمصار على حد قول الدكتور محمد أبو زهوــ رحمه الله تعالى.
هذا الحديث لا وزن له عند نقاد الحديث وصيارفته فقد روي من طرق كلها ضعيفة ، وإلى القارئ الكريم تخريج الحديث وكلام العلماء حوله.
تخريج الحديث :
هذا الحديث روي من طرق كلها ضعيفة عن علي وأبي هريرة وابن عمر وثوبان رضي الله عنهم أجمعين .
أما حديث علي فقد أخرجه الدارقطني في السنن ، كتاب الأقضية والأحكام ، باب كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري ( 4/ 208رقم 20 ) وقال الدارقطني " والصواب عن عاصم عن زيد عن علي بن الحسين مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم "
وقال العلامة العظيم آبادي في التعليق المغني على الدارقطني ( 4 / 208،209) : "الحديث فيه جبارة بن المغلس ، ضعفه ابن معين ، وقال البخاري مضطرب الحديث ، وقال السخاوي : وقد سئل شيخنا ــ يعني ابن حجر ــ عن هذا الحديث فقال : إنه جاء من طرق لا تخلو عن مقال" .
وأما حديث أبي هريرة فقد رواه الدارقطني أيضا في نفس المكان السابق برقم ( 17 ) وقال عقبه :" فيه صالح بن موسى لا يحتج بحديثه "
وأما حديث ابن عمر وثوبان فقد أخرجهما الطبراني في الكبير ( 12/ 316رقم 13224) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( 1/ 170 ) :" حديث ابن عمر فيه أبو حاضر عبد الملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث .
وحديث ثوبان فيه يزيد بن ربيعة وهو متروك منكر الحديث "
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 83)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (5)
كلام العلماء حول هذا الحديث:
لقد تكلم العلماء عن هذا الحديث كلامًا يستلزم أن يكون من أشد الموضوعات أو الضعيف المردود ونختار من أقوالهم ما يأتي :
قال الإمام الشافعي : " ما روي هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر .. وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء"(1) .
ويعلق الأستاذ أحمد شاكر في تحقيقه لكتاب الرسالة على هذا الحديث فيقول: "هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن، بل وردت فيه ألفاظ كثيرة، كلها موضوع، أو بالغ الغاية في الضعف، حتى لا يصلح شيء منها للاحتجاج أو الاستشهاد" (2).
وقد كتب الإمام ابن حزم في هذا المعنى فصلا نفيسا جدا في كتابه (الإحكام ) روى فيه بعض ألفاظ هذا الحديث المكذوب ، وأبان عن عللها فشفى ، فأثبت أن منها : ما هو متهم بالزندقة ، أو كذاب ساقط لا يؤخذ بحديثه ، أو مجهول ، أو ضعيف ، ومنها ما هو مرسل ، ومنها ما جمع بينهما .
ثم قال :" أول ما نعرض على القرآن الحديث الذي ذكرتموه ، فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه ، قال الله تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[ سورة الحشر / 7 ] ، وقال تعالى :( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ )[ سورة النساء / 80 ] وقال تعالى :( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ) [ سورة النساء / 105 ]
وقال الإمام البيهقي :" والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح ، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان ، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن"(3) .
وقال الإمام بن عبد البر: " وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بطاعته واتباعه أمرًا مطلقًا مجملاً لم يقيد بشيء، كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ، قال عبد الرحمن بن مهدي : الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث ... وهذه الألفاظ لاتصح عنه صلى الله عليه وسلم . عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم، وقالوا : نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه معارضا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به ، والأمر بطاعته ، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال " (4)
وقال فضيلة الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف معقبًا على تقوية ابن عراق للحديث(5)، تبعًا للسيوطي(6): "الحديث باطل منكر جدًا، كما قال العقيلي وغيره، ومحاولة المؤلف تبعًا للسيوطي تقويته غلط، فإن الحديث من وضع بعض الزنادقة للتلاعب بالسنة، وغفل السيوطي، ثم المؤلف _ رحمهما الله _ عن هذا المقصد الخبيث"(7) .
(1) الرسالة ص225 .
(2) الرسالة ص 224 .
(3) دلائل النبوة 1 / 27 .
(4) جامع بيان العلم وفضله 2 / 190 ، 191 .
(5) تنزيه الشريعة ( 1/ 157 ، 158 )
(6) الللآلئ المصنوعة ( 1 / 195 ) .، والنكت البديعات على الموضوعات رقم 23 .
(7) تنزيه الشريعة ، هامش ( 1 / 265 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 84)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (6)
ثانيا : الجواب عن الحديث الثاني .
أما الحديث الثاني: (إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ... إلخ)
فأخرجه الشافعي في الأم ، كتاب الصلاة ، باب صلاة المريض ( 1 / 80،81 ) ، وكتاب جماع العلم ، باب الصوم ( 7 / 288 )، والبيهقي في كتاب المدخل إلى السنن والآثار ، كتاب السير ، باب الرجل يموت في أرض العدو قبل الغنيمة ( رقم 17742) من طريق طاووس بن كيسان اليماني رضي الله عنه.
وقال الإمام الشافعي: هذا منقطع، وكذلك صنع صلى الله عليه وسلم . ، وافترض عليه أن يتبع ما أوحي إليه، ونشهد أن قد اتبعه صلى الله عليه وسلم . وما لم يكن فيه وحي فقد فرض الله في الوحي اتباع سنته، فمن قبل عنه فإنما قبل بفرض الله قال تعالى ( وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[ سورة الحشر / 7 ] .
وقال البيهقي : وقوله في الحديث : "في كتابه" إن صحت هذه اللفظة فإنما أراد فيما أوحى إليه، ثم ما أوحى إليه نوعان؛ أحدهما وحي يتلى، والآخر وحي لا يتلى(1).
ويشهد لما قاله البيهقي في أن المراد بكلمة "في كتابه" أعم من القرآن ، ويشمل الوحي بنوعيه، المتلو ، وغير المتلو قوله صلى الله عليه وسلم لوالد الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم : "والذي نفسي بيه لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد ، وعلى ابنك جلد مائة ، وتغريب عام"(2).
(1) مفتاح الجنة ص 42 ،43.
(2) أخرجه البخاري ، كتاب الحدود ، باب الاعتراف بالزنا ( 6827 ، 6828) ومسلم ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنا ( 1697 ، 1698 ) واللفظ له .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 85)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (7)
كلام العلماء حول الحديث:
قال الحافظ ابن حجر: المراد بكتاب الله ما حكم به وكتب على عباده، ويؤيده رواية (القرآن ) وهو المتبادر.
وقال ابن دقيق العيد : الأول أولى ؛ لأن الرجم والتغريب ليسا مذكورين في القرآن إلا بواسطة أمر الله باتباع رسوله، قيل وفيما قال نظر لاحتمال أن يكون المراد ما تضمنه قوله تعالى:( أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا)[ سورة النساء / 15 ] فبين النبي صلى الله عليه وسلم : أن السبيل جلد البكر ونفيه، وجلد الثيب ورجمه، فيما رواه الإمام مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا . البكر بالبكر جلد مائة جلة مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب. جلد مائة والرجم"(1) .
قال الحافظ ابن حجر قلت: وهذا أيضًا بواسطة التبيين"(2) .
قلت ــ القائل أخونا الدكتور عماد الشربيني ــ : حتى لو صحت هذه اللفظة "في كتابه" وحملت على المتبادر منها وهو القرآن الكريم. فلا حجة في الحديث للمنكرين لحجية السنة، فالحديث عليهم لا لهم؛ لأن ما يحرمه أو يحله الرسول صلى الله عليه وسلم ، هو حرام أو حلال في كتاب الله عزَّ وجلَّ الذي أمر بطاعته، ونهى عن مخالفته صلى الله عليه وسلم . . ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح السنة من حديث المقدام بن معد يكرب الكندى رضي الله عنه ؛ أن رسول صلى الله عليه وسلم . قال: "يوشك الرجل متكئا على أريكته، يحدث بحديث من حديثي ، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله عزَّ وجلَّ، فما وجدنا من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم . مثل ما حرم الله عزَّ وجلَّ (3) .
قال الإمام الشافعي معقبًا : فقد ضيق رسول الله على الناس أن يردوا أمره بفرض الله عليهم اتباع أمره(4).
وقال الإمام البيهقي : وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه فوجد تصديقه فيما بعده صلى الله عليه وسلم(5) .
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الحدود ، باب حد الزنا ( 1690 ).
(2) فتح الباري ( 12 / 142 ــ 144 ).
(3) أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في لزوم السنة ( 4604) والترمذي ، كتاب العلم ، باب ما نهي أن يقال عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 2664 ) وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، وأخرجه ابن ماجه ،المقدمة ، باب تعظيم حديث رسول الله والتغليظ على من عارضه ( 12 ) وابن حبان في صحيحه ( الإحسان ( 12 ) والحاكم في المستدرك ( 371 ) وسكت عليه هو والذهبي ، وصححه الشيخ شاكر في هامش الرسالة للشافعي ص 90 ، 91 .
(4) الرسالة ص 226 .
(5) دلائل النبوة ( 1 / 25 ) .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 86)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (8)
الجواب عن الحديث الثالث :
أما الحديث الثالث الذي استشهد به خصوم السنة في ضرورة عرض السنة على القرآن الكريم وقد أوردناه فيما سبق وهو :
سؤال بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم :هل يجب الوضوء من القيء ؟ قال صلى الله عليه وسلم ) لو كان واجبا ،لوجدته في كتاب الله)
أولا : تخريج الحديث .
هذا الحديث رواه صاحب كتاب الانتصار يحيي بن حمزة الحسيني اليمني في كتابه الانتصار(1)، وصاحب كتاب البحر(2)وغيرهما من أئمة الشيعة من حديث ثوبان بلفظه السابق وقد عزاه إليهم الإمام الشوكاني في كتابه نيل الأوطار(3).
وأخرجه الدارقطني في سننه عن ثوبان أيضا قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في غير رمضان ، فأصابه غم أذاه ، فتقيأ ، فقاء ، فدعاني بوضوء فتوضأ ، ثم أفطر ، فقلت ، يا رسول الله أفريضة الوضوء من القيء ؟ قال : لو كان فريضة لوجدته في القرآن ... "
قال الدارقطني : لم يروه عن الأوزاعي غير عتبة بن السكن ، وهو منكر الحديث (4) .
ثانيا : الجواب عن الحديث .
الحديث ضعيف جدا ، وعلى فرض صحته فالجواب عنه معلوم من الحديث السابق ( إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ) ورواية ( لا يمسكن الناس علي بشيء .. ) وقد سبق الكلام في ذلك ، ويأتي مزيد من الإجابة في الحديث التالي ( السنة سنتان : سنة في فريضة .. إلخ )
أما قول الدكتور توفيق صدقي: "فهذا الحديث صح أو لم يصح فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ للمسلمين لايحيدون عنه"(5) فسيأتي الرد على ذلك في (شبهة عرض السنة على العقل).
(1) مخطوط ( 986 ، 991 ، 994 ).
(2) ( 1 / 88 )
(3) ( 2 / 196 ).
(4) سنن الدارقطي ، كتاب الطهارة ، باب في الوضوء من الخارج من البدن كالرعاف والقيء والحجامة ونحوه ( 1 / 151 ).
(5) انظر : مجلة المنار ( 9 / 515 رقم 913 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 87)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (9)
الجواب عن الحديث الرابع:
أما الحديث الرابع الذي استشهدوا به وهو:(السنة سنتان : سنة في فريضة ، وسنة في غير فريضة .. ).
أولا : تخريجه .
الحديث أخرجه الدارمي في مسنده مقطوعا عن مكحول ، ولفظه : ( السنة سنتان : سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر ، وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيره حرج )(1)وأخرجه الطبراني في الأوسط(2)عن أبي هريرة مرفوعا ، وفيه عبد الله بن الرومي ضعفه غير واحد ووهاه ، وقال الذهبي : روى خبرا كذبا(3).
ثانيا : الجواب عن الحديث .
والحديث على فرض صحته فلا حجة فيه للخصوم ، لأن الحديث إنما يشير إلى السنة بمعناها عند علماء الأصول، وهي " كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو كتابة أو إشارة مفهمة أو هم مصحوب بالقرائن أو غير ذلك مما يثبت الأحكام ويقررها ، مما لم ينطق به الكتاب العزيز(4).
والسنة بهذا المعنى الأصولي تعتريها الأحكام الخمسة :
1- الوجوب
2 - الحرام
3- المكروه
4 - المباح
5 - المندوب
فتارة تكون السنة واجبة ( فريضة ) وأصلها في كتاب الله عز وجل ، وذلك كثير مما جاءت به السنة المطهرة ، مؤكدة لما جاء في القرآن الكريم من العبادات ، والمعاملات ، والحدود ، والأحوال الشخصية .
(1) مسند الدارمي ، المقدمة ، باب السنة قاضية على كتاب الله ( 589 ) .
(2) المعجم الأوسط ( 4011 ) وقال الطبراني :" لم يرو هذا الحديث عن محمد إلا عيسى تفرد به عبد الله " وعزاه الهيثمي في المجمع ( 1/ 172 ) :للطبراني في الأوسط ، وقال : لم يروه عن أبي سلمة إلا عيسى بن واقد ، تفرد به عبد الله الرومي ، ولم أر من ترجمه "
(3) انظر : ميزان الاعتدال ( 2 / 422 رقم 4317 .
(4) انظر : الإحكام للآمدي ( 1 / 127 ) وإرشاد الفحول ( 1/ 155) وأصول الفقه للخضري ص 250 ، 251 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 88)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (10)
أمثلة السنة الواجبة والسنة المحرِّمة :
مثال ذلك : وجوب الوضوء للحدث الأصغر ، والغسل للحدث الأكبر ، والتيمم للحدثين على حد سواء عند فقد الماء .
يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :(لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )(1)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي ؟ فقال : (من المذي الوضوء ، ومن المني الغسل )(2)
وعن عمران بن حصين قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس ، فإذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، قال : ( ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟ ) قال : أصابتني جنابة ولا ماء ؟ قال
:( عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك )(3)
وأصل هذه السنة الواجبة في كتاب الله قوله تعالى في سورة المائدة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
وحد الحرابة واجب في السنة في قوله صلى الله عليه وسلم ):من حمل السلاح فليس منا )(4)وقوله صلى الله عليه وسلم :( من خرج على الطاعة وفارق الجماعة ومات ، فميتة جاهلية )(5)
وأصل هذا الحد في كتاب الله في قوله تعالى في سورة المائدة :( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
ومثال السنة المحرمة: قوله صلى الله عليه وسلم. ( لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها )(6)
فأصل ذلك التحريم في الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، قوله تعالى في سورة النساء : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَف)[ الآية: 23 ] .
فأمثال هذه السنة سواء كانت (واجبة أو محرمة) الأخذ بها هدى وتركها بعدم فعلها إذا كانت واجبة، وفعلها إذا كانت محرمة (ضلالة) كما في الحديث، وهو ما يتمشى مع تعريف الواجب والحرام عند الأصوليين.
فالواجب: مرادف للفرض عند الجمهور، هو ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم بحيث يأثم تاركه.
وقال الآمدي: "والحق في ذلك أن يقال: الوجوب الشرعي عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سببًا للذم شرعًا في حالة ما"(7).
أما الحرام فهو ضد الواجب: قال الآمدي: والحق فيه أن يقال: هو ما ينتهض فعله سببًا للذم شرعًا بوجه ما من حيث هو فعل له(8).
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الوضوء ، باب لا تقبل صلاة بغير طهور ( 135 ) ومسلم ، كتاب الطهارة ( 225 ).
(2) أخرجه الترمذي ، كتاب أبواب الصلاة ، باب ما جاء في المني والمذي ( 114 ) وقال : هذا حديث حسن .
(3) أخرجه البخاري ، كتاب التيمم ، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء ( 344 ) ومسلم ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ( 682 ).
(4) أخرجه البخاري ، كتاب الفتن ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " من حمل السلاح فليس منا " ( 7071 ) ومسلم ، كتاب الإيمان ( 100).
(5) أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ( 1848 ) .
(6) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:أخرجه البخاري ، كتاب النكاح، باب لاتنكح المرأة على عمتها ( 5109) ومسلم ، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، رقم 1408.
(7) البحر المحيط للزركشي 1/ 181 _ 184، والإحكام للآمدي 1/ 92، وأصول الفقه للخضري ص 39.
(8) الإحكام للآمدي 1/ 106.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 89)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (11)
المراد بقوله :( وسنة في غير فريضة ):
أما قوله صلى الله عليه وسلم. في الحديث: ( وسنة في غير فريضة)؛ فالمراد بذلك السنة المباحة والمندوبة وقوله: "الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة" أي في فعلها ثواب، وليس في تركها عقاب، وهذا هو "المباح والمندوب" عند أهل الأصول.
فالمندوب: هو ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، أو هو ما طلب الشارع فعله طلبًا غير حتم(1).
وقال الآمدي: فالواجب أن يقال: هو المطلوب فعله شرعًا من غير ذم على تركه مطلقًا(2) ومن أسمائه: النافلة، والسنة، والمستحب، والتطوع وذلك عند الجمهور(3).
ومثاله: الرواتب مع الفرائض، وصلاة العيدين، والاستسقاء، والكسوف، وصدقة التطوع ... إلخ
والأصل في ذلك حديث الأعرابي الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم. شرائع الإسلام وفرائضه، وأنه ليس عليه غيرها إلا أن تطوع " فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله على شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفلح إن صدق. أو دخل الجنة إن صدق )(4).
والمباح: هو ما خير الشارع المكلف فيه بين فعله وتركه من غير مدح ولا ذم(5).
وقال الأمدي: والأقرب في ذلك أن يقال: هو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه الفعل والترك من غير بدل(6).
ومن أسمائه: الحلال، والمطلق، والجائز (7)، ومثاله قوله تعالى: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَة) [ سورة النساء / 101 ].
وقوله: "لحمزة بن عمرو الأسلمي لما سأله عن الصيام في السفر: ( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)(8).
فأمثال هذه السنن المباحة والمندوبة الأخذ بها فضيلة ويثاب ويمدح الإنسان على فعلها، وإن تركها لم يكن مخطئًا، ولا عقاب ولا لوم عليه.
وأصل هذه السنن في كتاب الله قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[ سورة الأحزاب / 21 ].
فهذا هو معنى الحديث على فرض صحته، فأين الدلالة فيه على عدم حجية السنة ووجوب عرضها على كتاب الله؟!!
(1)أصول الفقه للخضري ص 54، وانظر: أصول الفقه للشيخ خلاف ص 111.
(2) الإحكام للآمدي 1/ 111.
(3) البحر المحيط للزركشي 1/ 284.
(4) متفق عليه من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ، أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإٍسلام ، رقم 46، ومسلم ، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التى هي أحد أركان الإسلام ، رقم 11.
(5) أصول الفقه الحضرى ص 60، وانظر: أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص 115.
(6) الإحكام للآمدى 1/ 115.
(7) البحر المحيط للزركشى 1 / 276.
(8) متفق عليه من حديث عائشة _ رضى الله عنها _ أخرجه البخاري ، كتاب الصوم، باب الصوم في السفر والإفطار ،رقم 1943، ومسلم ، كتاب الصوم، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر ، رقم 1121.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 90)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (12)
تعليق على ما سبق :
هذا ما قاله أهل العلم في أحاديث عرض السنة المطهرة على القرآن الكريم، التي أسس عليها أعداء الإسلام منهجًا خاصًا بهم في الحكم على صحة السنة بوجوب عرضها عل الكتاب.
فما وافقه؛ فهو حجة، وما خالفه ولو مخالفة ظاهرة يمكن الجمع بينهما؛ فباطل مردود ليس من السنة.
وهذا منهج باطل، مردود، عماده الكذب والخديعة: لأنه يفضي إلى نفي حجية السنة النبوية التي لها دور في بيان الكتاب وتفسيره، أو التي أفادت حكمًا مستقلاً: لأن كلاً من النوعين غير موجود فيه، فتكون وظيفة السنة مقصورة على تأكيد القرآن فقط، وبالتالي الحجة فيه وحده، ولا حجة في السنة على أي حكم شرعي بذاتها؛ لأنها لو كانت حجة على شيء لما توقف ذلك على ثبوت الشيء بحجة أخرى، وهذا كلام باطل لا يصح؛ لأن أحاديث العرض عند عرضها على كتاب الله وجدناها مخالفة لما فيه؛ لأنه لا يوجد في كتاب الله أن لا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا ما وافق كتاب الله بل يوجد في كتاب الله إطلاق التأسي به، والأمر بطاعته مطلقة من غير تقييد، والتحذير من مخالفة أمره جملة على كل حال.
وكما سبق من قول الأئمة: البيهقي، وابن عبد البر، وابن حزم ومن ثم فقد رجعت أحاديث العرض على نفسها بالبطلان، ثم إنه ورد في بعض طرقها عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.: ( إنه سيأتيكم منى أحاديث مختلفة، فما أتاكم موافقًا لكتاب الله وسنتي فهو مني، وما أتاكم مخالفًا لكتاب الله وسنتي فليس مني )(1).
قال البيهقي: تفرد به صالح بن موسى الطلحي، وهو ضعيف لا يحتج بحديثه(2).
قال السيوطي: قلت: ومع ذلك فالحديث لنا لا علينا: ألا ترى إلى قوله: ( موافقًا لكتاب الله وسنتي)(3).
(1)أخرجه الخطيب في الكفاية ص 603، وانظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالنسة ص 38.
(2) انظر: تقريب التهذيب 1/ 433 رقم 2902، والكاشف 1/ 499 رقم 2364، والمجروحين 1/ 369، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 136 رقم 314، والضعفاء لأبي زرعة الرازي 2/ 627 رقم 154، وخلاصة تهذيب الكمال ص 172.
(3) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالنسة ص 39.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 91)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (13)
الموقف العملي للمحدثين من هذه الأحاديث:
ومع أن أحاديث عرض السنة على القرآن الكريم لا وزن لها سندًا عند أهل العلم كما سبق، إلا أن معناها صحيح وعمل بها المحدثون في نقدهم للأحاديث متنًا فجعلوا من علامات وضع الحديث مخالفته لصريح القرآن الكريم والسنة النبوية والعقل.
إلا أنهم وضعوا لذلك قيدًا وهو استحالة إمكان الجمع والتأويل، فإذا أمكن الجمع بين ما ظاهره التعارض من الكتاب أو السنة أو العقل _ جمعًا لا تعسف فيه يصار إلى الجمع والقول معًا ولا تعارض حينئذ، وإن كان وجه الجمع ضعيفًا باتفاق النظار، فالجمع عندهم أولى(1) .
وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، وإلا فلنتعرف على الناسخ والمنسوخ فنصير إلى الناسخ ونترك المنسوخ، وإلا نرجح بأحد وجوه الترجيحات المفصلة في كتب الأصول وعلوم الحديث(2) ،والعمل بالأرجح حينئذ متعين، وهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسًا، جهلاً به أو عنادًا كما قال الشاطبي(3).
وإن لم يتمكن العالم من ذلك للتعادل الذهني فاختلفوا على مذاهب منها:
1 - التخيير
2 - تساقط الدليلين والرجوع إلى البراءة الأصيلة
3 - الأخذ بالأغلظ
4 - التوقف.
ومعلوم بأن التوقف هنا حتى يمكن الجمع أو التأويل أو الترجيح.
وكل ما سبق قال به من المعتزلة صاحب المعتمد في أصول الفقه في باب الأخبار المعارضة، وباب ما يترجح به أحد الخبرين على الآخر"(4).
قال الحافظ ابن حجر: "فصار ما ظاهرة التعارض واقعًا على هذا الترتيب الجمع إن أمكن، فاعتبار الناسخ والمنسوخ، والترجيح إن تعين، ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين، والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط، لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر، إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفى عليه وفوق كل ذي علم عليم"(5)
ولا أعلم نقلاً عن أحد من العلماء برفض ورود الحديث بمجرد المخالفة الظاهرية مع القرآن الكريم، أو السنة، أو العقل مع إمكان الجمع، أو التأويل، أو الترجيح، حتى من نقل عنهم الأصوليون إنكار الترجيح وردوا عليهم إنكارهم، قالوا عند التعارض: يلزم التخيير أو الوقف(6) .
نعم لم ينقل رد السنة وجحدها بمجرد المخالفة الظاهرية إلا عن أهل البدع والأهواء كما حكاه عنهم الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام (7)، وتابعهم ذيولهم في العصر الحديث من أصحاب المذاهب اللادينية.
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول: "والدليل القاطع ضربان: عقلي، وسمعي فإن كان المعارض عقليًا نظرنا فإن كان خبر الواحد قابلاً للتأويل كيف كان أولناه فلم نحكم بردة " انظر: المحصول في أصول الفقه 2/ 210.
(2) انظر: إرشاد الفحول 2/ 369 _ 408، والمحصول في أصول الفقه 2/ 434 _ 488، والإحكام للآمدي 4/ 206، والموافقات للشاطبي 4/ 640، والمستصفى للغزالي 2/ 392، والإبهاج في شرح المنهاج 3/ 208، والبحر المحيط 6/ 108 _ 194، والمعتمد في أصول الفقه 2/ 176 _ 178، وأصول السرخسي 2/ 145، 249، وفتح المغيث للعراقي ص 337 _ 339، وتدريب الراوي 2/ 198 _ 203، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص 59 _ 90، وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 172، 173.
(3) الاعتصام باب في مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1/ 200، 201، وانظر: الإحكام لابن حزم 1/ 161.
(4) المعتمد في أصول الفقه 2/ 176، 188، وانظر: البحر المحيط 6/ 115، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص 449.
(5) نزهة النظر ص 35، وانظر: فتح المغيث للسخاوي 3/ 73، وتدريب الراوي 2/ 202.
(6) الإبهاج في شرح المنهاج 2/ 209، وفتح المغيث السخاوي 3/ 73.
(7) الاعتصام باب في مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1/ 199.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 92)
شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها (14)
السنة الصحيحة لا تخالف كتاب الله أبدا :
وقصاري القول: إن أهل العلم مجمعون على أن السنة الصحيحة لا تخالف كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا تخالف سنة أخرى صحيحة مثلها، ولا تخالف العقل، وما يبدوا حينًا من تعارض هو من سوء الفهم لا من طبيعة الواقع، كما قال فضيلة الشيخ محمد الغزالي _ رحمه الله تعالى _: لا يتعارض حديث مع كتاب الله أبدًا، وما يبدو من تعارض هو من سوء الفهم لا من طبيعة الواقع "(1).
وعن دعوى تعارض الأحاديث مع بعضها يقول الحافظ ابن خزيمة: "لا أعرف أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديثان بإسنادين صحيحين متضادين، فمن كان عنده فليأتي به لأؤلف بينهما "(2).
قال الإمام ابن حزم: ليس في الحديث الذي صح شيء يخالف القرآن الكريم ولا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلاً، وكل خبر شريعة فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته، وإما مستثنى منه لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث. فإن احتجوا بأحاديث محرمة أشياء ليست في القرآن قلنا لهم: قد قال الله عزَّ وجلَّ (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[ سورة الأعراف/157 ] فكل ما حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثل الحمار الأهلي، وسباع الطير، وذوات الأنياب ، وغير ذلك؛ فهو من الخبائث، وهو مذكور في الجملة المتلوة في القرآن ومفسر لها، والمعترض بها يسأل: أيحرم أكل عذرته أم يحلها؟ فإن أحلها خرج عن إجماع الأمة وكفر، وإن حرمها؛ فقد حرم ما لم ينص الله تعالى على اسمه في القرآن، فإن قال هي من الخبائث قيل له: وكل ما حرم عليه السلام؛ فهو كالخنزير، وكل ذلك من الخبائث. فإن قال قد صح الإجماع على تحريمها، قيل له: قد أقررت بأن الأمة مجمعة على إضافة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. من السنن إلى القرآن الكريم، مع ما صح عنه صلى الله عليه وسلم. قال: ( لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )(3).
فهذا حديث صحيح بالنهى عما تعلل به هؤلاء الجهال(4).
ويقول ابن حزم في موضع آخر: "إذا تعارض الحديثان، أو الآيتان، أو الآية والحديث، فيما يظن من لا يعلم، ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك، لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض، ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله، ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها، وكل من عند الله عزَّ وجلَّ، وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق"(5)
ويتأيد ما قاله ابن حزم بما قال الإمام الشاطبي عند كلامه على حديث العرض: ( ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله ... الحديث )
قال: "إن الحديث إما وحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة، وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله؛ لأنه _ عليه الصلاة والسلام _ ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أ. هـ.(6)
(1) مائة سؤال في الإسلام 1/ 244، وانظر: المكانة العلمية لعبد الرازق في الحديث النبوي لفضيلة الأستاذ= =الدكتور إسماعيل الدفتار 2/ 626 مبحث (حقيقة التعارض إنما هي في الفهم) . ومختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين للدكتور نافذ حسين حماد ص 125 _ 188.
(2) علوم الحديث لابن الصلاح ص 173، وتدريب الراوي 2/ 196، وفتح المغيث للعراقي ص 336، وفتح المغيث للسخاوي 3/ 71.
(3) أخرجه أبو داود في سننه كتاب السنة، باب لزوم السنة ، رقم 4605، والترمذي في سننه كتاب العلم، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم. ، رقم 2663، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتغليظ على من عارضه ، رقم 13 من حديث أبى رافع رضي الله عنه.
(4) انظر: الإحكام في أصول الأحكام 2/ 215، 216 بتصرف، وانظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي فصل "الأحاديث النبوية وربطها بالقرآن" 2/127.
(5) الإحكام في أصول الأحكام 1/ 161.
(6) انظر : السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام 0 1 / 235 ــ 239 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 93)
شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(1)
مدخل:
لم يكتف أهل الزيغ والهوى بعرض السنة المطهرة على القرآن الكريم للحكم عليها قبولاً أو رفضًا، وإنما سلكوا مسلكًا آخر في الحكم عليها والتشكيك فيها بعرضها على العقل (الصريح) ، فما وافقه قبل ولو كان آحادًا - صح أو لم يصح - وما لم يوافقه - حتى ولو مع إمكان التأويل - ردوه ولو كان متواترًا صحيحًا.
وهذا المسلك والمنهج: عرض السنة على العقل بالمفهوم السابق من أصول أهل الكفر والبدع والأهواء كما حكاه عنهم الأئمة: ابن قيم الجوزية، وابن أبي العز، وابن قتيبة، والشاطبي.
يقول ابن قيم الجوزية: " وبالجملة فمعارضة أمر الرسل أو خبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار"(1) .
ويقول ابن أبي العز:" كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله، واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تقويضًا، أو حرفه وسمى تحريفه تأويلاً (2) .
ويقول الشاطبي في باب (مأخذ أهل البدع بالاستدلال) : "ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ويدعون أنها مخالفة للعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل، فيجب ردها، ولما ردوها بتحكم العقول كان الكلام معهم راجعًا إلى أصل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث إن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه(3) .
(1) مختصر الصواعق المرسلة 1 / 121 .
(2) شرح العقيدة الطحاوية 2 / 80 .
(3) الاعتصام 1/ 186،187- 2/589 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 94)
شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(2)
القائلون بهذه الشبهة :
وبهذه الشبهة قال أهل الزيغ والهوى قديما مثل المعتزلة ، وحديثًا: مثل محمود أبو رية (1)،وعبد المتعال الصعيدي(2)وقاسم أحمد(3) ،وسعيد العشماوي(4) ،ومحمد شحرور(5)، وإسماعيل منصور(6) ،وجمال البنا(7) ،ونصر أبو زيد(8)وغيرهم.
يقول الشيخ عبد المتعال الصعيدي معبرا عن هذا الاتجاه :" لا شك أن إخضاع دليل النقل لدليل العقل ، فيه من الحرية العلمية كل ما تتسعه هذه الكلمة من معنى ، ومما يعطي العلماء سلطة واسعة أمام الجامدين من رجال الدين فلا يكون لأولئك الجامدين سلطان عليهم أصلا ، ولا يكون لهم أن يسلكوا سبيل التعسف معهم ، إنما هو قرع الدليل بالدليل ، وما أضعف دليل الجمود أما دليل التجديد " (9)
ومن الأحاديث التي يستشهد بها خصوم السنة المطهرة في وجوب عرضها على العقل، ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.:( إذا حدثتم عني بحديث تعرفونه ولاتنكرونه، قلته أو لم أقله، فصدقوا به، وإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني بحديث تنكرون، لا تعرفونه، فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ) (10).
ووجه استدلالهم من هذا الحديث: أنه يفيد في نظرهم وجوب عرض ما نسب إلي النبي صلى الله عليه وسلم. على المستحسن المعروف عن الناس _ حتى ولو كانوا أهل زيغ وضلالة _ فما وافق عقول هؤلاء الناس؛ فهو من السنة حتى ولو لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم. فعلاً، وما خالف تلك العقول، فكذب ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.، ولم يقله حتى ولو جاء متواترًا صحيحًا فالحجة عندهم في تلك العقول لا في السنة النبوية المطهرة.
(1) أضواء على السنة ص19 ، 43 .
(2) حرية الفكر في الإسلام ص 32 .
(3) إعادة تقييم الحديث ص 59 .
(4) حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص 91 ،92 .
(5) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص726.
(6) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص659.
(7) السنة ودورها في الفقه الجديد ص86 ،161 .
(8) نقد الخطاب الديني ص 101، 103 ، 131 ، 132 .
(9) حرية الفكر في الإسلام ص32 .
(10) أخرجه الدارقطني في سننه كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك باب، كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبى موسى الأشعري 4/ 208 رقمي 18، 19، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول الأصل الرابع والأربعون فيما يعدونه صدق الحديث 1/ 357 واللفظ له. وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير 1/ 32، 33 رقم 14، والخطيب في تاريخه 11/ 311 رقم 6268، والبخاري في تاريخه 3/ 473 رقم 1585.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 95)
شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(3)
الجواب عن هذه الشبهة :
المحور الأول : الجواب عن هذا الحديث
هذا الحديث الذي استشهد به خصوم السنة المطهرة روي من طرق مختلفة كلها ضعيفة لا يصلح شيء منها، بل ولا بمجموعها للاحتجاج والاستشهاد. وكشف عن ذلك علماء الحديث.
فقال الإمام البيهقي: "قال ابن خزيمة: في صحة هذا الحديث مقال، لم نر في شرق الأرض ولا غربها أحدًا يعرف خبر ابن أبي ذئب من غير رواية يحيي بن آدم، ولا رأيت أحدًا من علماء الحديث يثبت هذا عن أبي هريرة. وهو مختلف على يحيي بن آدم في إسناده ومتنه اختلافًا كثيرًا يوجب الاضطراب، منهم من ينكر أبا هريرة، ومنهم من لا يذكره ويرسل الحديث، ومنهم من يقول في متنه: "إذا رويتم الحديث عنى فاعرضوه على كتاب الله"(1).
وقال البخاري في تاريخه: وقال يحيى بن آدم عن أبى هريرة وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة (2).
وفي علل ابن أبي حاتم قال: قال أبي: هذا حديث منكر، الثقات لا يرفعونه(3).
وقال العقيلي في الضعفاء: ليس له إسناد يصح(4).
والحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات(5).
وبالجملة: فالحديث بطرقه وشواهده - كما قرر العلماء - لايصلح للاحتجاج والاستشهاد.
وقد توسع العلامة المعلمي في نقد الحديث وشواهد في تعليقه على الفوائد المجموعة فأفاد وأجاد (6).
وقال الإمام الشوكاني: "فهذا الحديث بشواهده لم تسكن إليه نفسي، وإني أظن أن ابن الجوزي قد وفق للصواب بذكره في موضوعاته"(7)
(1) مفتاح الجنة ص39.
(2)التاريخ الكبير 3/ 474 .
(3) العلل 2 / 310 .
(4)الضعفاء الكبير 1 / 32 ، 33 رقم 14 .
(5)الموضوعات 1/ 257 ، 258 .
(6)الفوائد المجموعة ، هامش ص 279 وما بعدها .
(7)الفوائد المجموعة ص 281 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 96)
شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(4)
بقية الجواب عن الحديث:
ويشهد لبطلان الحديث ما فيه من إباحة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.:" قلته أو لم أقله فصدقوا به". وفي لفظ: "ما بلغكم عنى من قول حسن لم أقله فأنا قلته".
قال ابن حزم:" وهذا هو نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.؛ لأنه حكى عنه أنه قال: " لم أقله فأنا قلته" فكيف ما لم يقله أيستجيز هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق(1)؟.
وعلى فرض صحة الحديث، فلا دلالة فيه على عدم حجية السنة النبوية، فكل ما يدل عليه أنه من أدلة صدق الحديث أن يكون وفق ما جاءت به الشريعة من المحاسن، فإن جاء على غير ذلك كان دليلاً على كذبه، ونحن نقول بذلك على ما هو مقرر عند المحدثين من علامات وضع الحديث، تكذيب الحس له .
ويقول الحكيم الترمذي في تأويل الحديث: " قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا حدثتم عنى بحديث تعرفونه، ولا تنكرونه" فنقول من تكلم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. بشيء من الحق، وعلى سبيل الهدي؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم سابق إلى ذلك القول وإن لم يكن قد تكلم بذلك اللفظ الذي أتى به من بعده، فقد أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بأصله مجملاً كما ثبت في صحيح السنة من حديث ابن مسعور صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: " ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه" (2) .
فلذلك قال: " فصدقوا به قلته أو لم أقله"، أي إن لم أقله بذلك اللفظ الذي يحدث به عنى فقد قلته بالأصل والأصل مؤد عن الفرع، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم. بالأصل، ثم تكلم أصحابه والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين من بعده بالفروع، فإذا كان الكلام معروفًا عن المحققين غير منكر؛ فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم - قاله أو لم يقله، يجب علينا تصديقه - وخاصة إذا لم يكن مما يقال من قبل الرأي ولم يرفعوه؛ لأن الأصل قد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. وأعطاه لنا، وإنما قال ذلك لأصحابه الذين عرفهم بالحق، فإنما يعرف الحق المحق بهم، وهم أولوا الألباب والبصائر رضوان الله عليهم أجمعين(3).
فهذا قول أهل العلم في حديث: "إذا حدثتم عني بحديث تعرفونه ولا تنكرونه ... إلخ" وشواهده وتبين لنا أنه لا حجة فيه لأعداء السنة وفي منهجهم بعرض السنة على العقل حيث الحكم عليها بالقبول أو الرفض.
(1) أخرجه ابن حزم في الإحكام 2/ 213 بسند فيه اشعث بن بزار، وقال فيه: كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه، وبسند آخر فيه الحارث والعرزمي وعبد الله بن سعيد، وضعف الأولين وقال في الثالث كذاب مشهور. وانظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ص 39، 40.
(2)أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب البيوع 2/ 5 رقم 2136، وسكت عنه هو والذهبي، وأخرجه من حديث جابر، وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي، ومن وجه آخر عن جابر وصححه الذهبي على شرط مسلم.
(3)نوادر الأصول 1 / 360 ، 361 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 97)
شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(5)
المحور الثاني في الرد على هذه الشبهة:
ونقول أيضًا في بيان تهافت وبطلان شبهة: "عرض السنة على العقل" سائلين القائلين بها:
أيهما الحاكم على الآخر النقل أم العقل؟
ما المراد بالعقل الصريح الذي ترددونه؟ وما حدوده؟ وما مدى الاتفاق عليه؟
وهل يتعارض النقل مع العقل؟ وإذا تعارضا فأيهما أحق التقديم؟
وأخيرًا هل أهمل المحدثون - حقًا - العقل في قبولهم للحديث وتصحيحه كما تدعون؟
والجواب :
1 - ذهب جمهور علماء الأصول إلى أنه ( لا حاكم سوى الله، ولا حكم إلا ما حكم به) وفرعوا على ذلك خلافًا للمعتزلة: "أن العقل لا يحسن ولا يقبح، ولا يوجب شكر المنعم، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع"(1) .
ثم إن الله عزَّ وجلَّ جعل للعقول في إدراكها حدًا تنتهى إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري عزَّ وجلَّ في إدراك جميع ما كان، وما يكون، وما لا يكون، إذا لو كان كيف يكون.
فمعلومات الله لا تنتاهي، ومعلومات العبد متناهية، والمتناهي لا يساوى ما لا يتناهي، وهذا قول ابن خلدون: "واعلم أن الشارع أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا؛ لاطلاعه على ما وراء الحس، والعقل يقف عاجزًا عن إدراك عالم ما وراء الطبيعة، ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسفه رأيه في ذلك، وأعلم أن الوجود منحصر في مداركه لايعدوها(2) .
ويقول الشاطبي مبطلا زعم من قال: إن مصالح الدنيا تدرك بالعقل، في قوله: "إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع ، وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات".
قال الشاطبي ردًا: "أما إن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع فكما قال، وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه، بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض ، ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة، تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام ومن أجل هذا القصور في تلك العقول وقع الإعذار والإنذار كما قال عزَّ وجلَّ: ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[ سورة النساء / 165 ] .
ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق، لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة، خاصة وذلك لم يكن، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا والآخرة معًا.
وإن كان قصده بإقامة الدنيا والآخرة، فليس بخارج عن كونه قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا، حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة، وقد بث في ذلك من التصرفات، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية، ما لا مزيد عليه.
فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها، بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه"(3) .
ومن هنا وجب أن يقدم ما حقه التقديم - وهو الشرع - ويؤخر ما حقه التأخير وهو نظر العقل؛ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكمًا على الكامل؛ ولأنه خلاف المعقول والمنقول، ولذلك قال: اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك، تنبيها على تقدم الشرع على العقل(4) .
(1)انظر : المستصفى 1/ 8 ، والإحكام للآمدي 1/ 76 ــ 90 ، والإبهاج في شرح المنهاج 1/ 43 ، 135 ، وإرشاد الفحول 1/ 56
(2)المقدمة ص508 .
(3)الموافقات 2/ 360 .
(4)الاعتصام 2/ 568 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 98)
شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(6)
المحور الثالث في الرد على هذه الشبهة:
ومن قدم العقل على الشرع لزمه القدح في العقل نفسه؛ لأن العقل قد شهد للشرع والوحي بأنه أعلم منه، فلو قدم عليه؛ لكان ذلك قدحًا في شهادته، وإذا بطلت شهادته؛ بطل قبول قوله، بل إن من قدم العقل على الشرع؛ لزمه القدح في الشرع أيضًا.
يقول الإمام الشاطبي:
أولاً: "إنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل، لم يكن الحد الذي حده النقل فائدة، لأن الفرض أنه حد له حدًا، فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل، فما أدى إليه مثله.
ثانيًا: ما تبين في علم الكلام والأصول، من أن العقل لايحسن ولا يقبح، ولو فرضناه متعديًا لما حده الشرع، ولكان محسنًا ومقبحًا، وهذا خلف. ثالثًا: أنه لو قدم العقل على النقل؛ لجاز إبطال الشريعة بالعقل، وهذا محال باطل.
وبيان ذلك: أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودًا في أفعالهم، وأقوالهم، واعتقاداتهم وهو جملة ما تضمنته. فإن جاز للعقل تعدى حد واحد، جاز له تعدى جميع الحدود؛ لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وتعدى حد واحد هو بمعنى إبطاله، أي ليس هذا الحد بصحيح، وإن جاز إبطال واحد، جاز إبطال السائر، وهذا لا يقول به أحد، لظهور محاله"(1)، فكان تقديم العقل على النقل - لا لشيء إلا لأنه عقل - يتضمن القدح في العقل والنقل - كما مر وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
(1)الموافقات 1 /78 ، 79 . وانظر : مختصر الصواعق المرسلة 1 / 110 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 99)
شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(7)
المحور الرابع في الرد على هذه الشبهة :
ويقول الدكتور مصطفى السباعي :" وللنظر إلى المسألة من ناحية أخرى:
لنفرض أن تحكيم العقل في الأحاديث هو الصواب، فنحن نسأل: أي عقل هذا الذي تريدون أن تُحَكِّمُوهُ؟
أعقل الفلاسفة؟ إنهم مختلفون، وما من متأخر منهم إلا وهو ينقض قول من سبقه.
أعقل الأدباء؟ إنه ليس من شأنهم، فإن عنايتهم - عَفَا اللهُ عَنْهُمْ - بالنوادر والحكايات.
أعقل علماء الطب، أو الهندسة، أو الرياضيات؟ ما لهم ولهذا؟
أعقل المُحَدِّثِينَ؟ إنه لم يعجبكم، بل إنكم تتهمونهم بالغباوة والبساطة.
أعقل الفقهاء؟؟ إنهم مذاهب متعددة، وعقليتهم - في رأيكم - كعقلية المُحَدِّثِينَ.
أعقل المُلْحِدِينَ؟ إنهم يرددون أَنَّ إيمانكم بوجود الله، جهل منكم وخرافة.
أعقل المؤمنين بوجود الله؟ تعالوا نَرَ طوائفهم:
إن منهم: من يرى أن الله يحل في إنسان فيصبح إلهاً!
ومنهم: من يرى أن روح الله تتقمص في جسد، فيكون إلهاً!
ومنهم: من يرى أن الله ومخلوقاته في وحدة كاملة!
ومنهم: من يرى أن الله ذو ثلاثة أقانيم في ذات واحدة!
ومنهم: من يرى البقر والفأر والقرد يجب أن يتوجه إليها بالعبادة!
ستقولون: إننا نريد تحكيم عقل المؤمنين بإله واحد في دين الإسلام.
فنحن نسألكم: عقل أي مذهب من مذاهبهم ترتضون؟
أعقل أهل السُنَّة والجماعة؟ هذا لا يُرْضِي الشِيعَةَ، ولا المعتزلة.
أم عقل الشِيعَةِ؟ هذا لا يرضي أَهْلَ السُنَّةِ، ولا الخوارج.
أم عقل المعتزلة؟ إنه لا يرضى جمهور طوائف المُسْلِمِينَ!
فأي عقل ترتضون؟(1) .
فمجرد الاتفاق على طبيعة العقل الحاكم غير واردة.
يقول ابن قيم الجوزية: " فإن قالوا: إنما نقدم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه، وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح هذا وقد شهد الله وكفى بالله شهيدا، وشهد بشهادته الملائكة وأولوا العلم؛ أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي الطريقة البرهانية للحكمة كما قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُم ) [ سورة النساء / 174 ]. وقال تعالى: ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم ) [ سورة النساء / 113 ] فالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي كتابًا وسنة معظمة للرشد ، داعية إلي الخير، والطريقة العقلية - التقليدية التخمينية هي المأخوذة من رجل - من يونان - وضع بعقله قانونا من مقدمتين ونتيجة - يصحح بزعمه علوم الخلائق وعقولهم، فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شيء من علوم بنى آدم، بل ما وزن به علم إلا أفسده، وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان(2) .
(1)السنة ومكانتها في التشريع 39 ، 40 .
(2) مختصر الصواعق 1/ 112 ، 113 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 100)
شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها(8)
المحور الخامس في الرد على هذه الشبهة:
ونقول لمن حكموا عقولهم في شرع الله عزَّ وجلَّ، وقدموها عليه : إن تحكيم العقل وهو مخلوق في خالقه بحيث يقولون: يجب عليه بعثه الرسل، ويجب عليه الصلاح والأصلح، ويجب عليه اللطف، ويجب عليه كذا، وكيف يجوز هذا في حق الله عزَّ وجلَّ مما ورد في صفاته وأسمائه جل جلاله ــ في كتابه العزيز وسنة نبيه المطهرة؟ وكيف المعجزة؟ وكيف اليوم الآخر، وما فيه من حساب، وعقاب، وجنة، ونار، وميزان، وصراط، وشفاعة ... ؟ إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء (الإلهيات والنبوات والمعجزات للأنبياء والسمعيات الغيبية).
نقول: إن قولكم بعقولكم في تلك الأمور ــ اعتراضًا ــ هذا يجب، هذا يستحيل، كيف هذا. هذا منكم اجتراء على الله عزَّ وجلَّ، وعلى عظمته جل جلاله، واعتراض على حكمه وشرعه الحكيم، وتقديم بين يدي الله ورسوله، ومن أجَلّ الباري وعظّمه وعظّم حكمه وشرعه، لم يجترئ على ذلك، فلله عزَّ وجلَّ الحجة البالغة والحكمة الكاملة، ولا معقب لحكمه؛ فوجب الوقوف مع قوله تعالى: ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين)[ سورة الأنعام / 149 ]. وقوله تعالى: ( لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) [ سورة الأنبياء / 23 ] . وقوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِه) [ سورة الرعد / 41 ]. ويكفيك في فساد عقل معارض الوحي قرآنًا وسنة اجتراءه على عصمة ربه عزَّ وجلَّ.
فكيف نجعل العقل حاكمًا على شرعه "كتابًا وسنة"، ونقدمه عليه بعد كل هذا، وكيف نتصور أن الشارع الحكيم يشرع شيئًا يتناقض مع العقول المحكومة بشرعه الحنيف.
يقول الدكتور السباعي: "من المقرر في الإسلام أنه ليس فيه ما يرفضه العقل، ويحكم باستحالته ولكن فيه - كما في كل رسالة سماوية _ أمور قد "يستغربها" العقل ولا يستطيع أن يتصورها(1) . في (الإلهيات والنبوات والمعجزات والسمعيات) فتلك الأمور فوق نطاق العقل وإدراكه، وقد يحصل الغلط في فهمها فيفهم منها ما يخالف صريح العقل، فيقع التعارض بين ما فهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل، فهذا لايدفع.
" لأن هذه العقائد - كما يقول ابن خلدون - متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعديل عليه ... ، فإذا هدانا الشارع إلى مدرك؛ فينبغي أن نقدمه على مداركنا، ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه، بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادًا وعلمًا، عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع، ونعزل العقل عنه"(2) .
ويقول في موضع آخر: "وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح؛ فأحكامه يقينية، لا كذب فيها غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال ... ، ومن يقدم العقل على السمع في أمثال هذا القضايا، فذلك لقصور في فهمه، واضمحلال رأيه، وقد تبين لك الحق من ذلك"(3) .
(1) السنة ومكانتها في التشريع ص34
(2) المقدمة ص 548 بتصرف .
(3) المقدمة ص 509 .