-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(75)
أقسام الرجاء: الرجاء المحمود
الرجاء قسمان: المحمود والمذموم.
أولاً: الرجاء المحمود (المطلوب):
وهذا الرجاء هو الذي يتوافر فيه عنصرا العمل والتوبة، والعمل من لوازم وجود الإنسان في الأرض، لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1)، والمؤمن الذي يعرف هذه الحقيقة لا يتوانى من القيام بالعمل الصالح المكلف به من الله لينال رضوانه وثوابه في الآخرة، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(2)، وقوله تبارك وتعالى في الصلاة مثلاً: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ}(3).
ولكن من فطرة الإنسان في هذه الحياة أن يقع في بعض الأخطاء والمعاصي، وعندها يأتي دور العنصر الثاني وهو التوبة إلى من هذه الأخطاء، وطلب المغفرة من منه جلّ وعلا، لقوله ﷺ: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»(4) .
وأما النصوص الواردة في كتاب الله تعالى في هذا الباب، فكثيرة جدًا نذكر منها:
قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(5) وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(6). وقوله جل ذكره: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(7).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(1)
[الذاريات: 56]
(2)
[الكهف: 110]
(3)
[هود: 114]
(4)
أخرجه مسلم (ص1191، رقم 2749) كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار
(5)
[الزمر: 53]
(6)
[الشورى: 25]
(7)
[الأنعام: 54]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(76)
من وسائل تكفير السيئات (الجزء الاول)
توجد وسائل عملية لتكفير السئيات، وهي تتعلق بعباداته اليومية، ليدرك الإنسان مدى رحمة الله تعالى حين يقبل على عبادته ويأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ومن هذه الوسائل:
1- الوضوء:
سبب من أسباب رفع الخطايا ومحو الذنوب، لقوله ﷺ: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره» (1).
2- الصلوات الخمس وصلاة الجمعة:
الصلاة التي هي خمس فرائض في اليوم والليلة وكذلك صلاة الجمعة فضلاً عن النوافل وسنن القيام وغيرها، كلها مسببات لمحو الأخطاء التي يقع فيها ابن آدم، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط» (2). وقوله ﷺ: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر» (3).
3- الحج والعمرة:
وأما ركن الحج الواجب أداؤه في العمر مرة واحدة، وكذلك نسك العمرة، فإنهما من أسباب مغفرة الذنوب وغسل الأدران عن الإنسان، لقوله عليه الصلاة والسلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (4). وقوله: «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (5).
4- حسن الخلق:
بالإضافة إلى ما ذكر من العبادات والطاعات، فإن هناك جبلة بشرية أخرى نابعة من العقيدة الصحيحة، وهي حسن الخلق والسلوك مع الناس والتحلي بآداب الإسلام، وهذا الأمر له وجوه كثيرة ومتعددة لا يمكن إحصاؤها، لأنها تتعلق بوجود الإنسان وحركته وتعامله مع الآخرين، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
الأخوة الصادقة التي تنشأ عن الحب في الله تعالى، فإنه من المكفرات للذنوب كما قال عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا» (6).
العفو والصفح مع الناس سبب لمغفرة الذنوب لقوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(7) والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة.
------------------------
(1) أخرجه مسلم (ص121، رقم 245) كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع الوضوء.
(2) أخرجه مسلم (ص123، رقم 251) كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره.
(3) أخرجه مسلم (ص117، رقم 233) كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة.
(4) أخرجه البخاري (ص285، رقم 1773) كتاب الحج، أبو العمرة. ومسلم (569، رقم 1350) كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة.
(5) أخرجه البخاري (ص293، رقم 1819) كتاب المحصر، ومسلم في الموضع السابق.
(6) أخرجه أبو داود (ص731، رقم 5212) كتاب الأدب، باب المصافحة. والترمذي (ص618، رقم 2727) كتاب الاستئذان، باب المصافحة. وهو حديث صحيح.
(7) سورة النور، الآية 22.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(77)
من وسائل تكفير السيئات (الجزء الثانى)
5- الذكر والاستغفار:
الأذكار بصورة عامة مكفرات للذنوب والخطايا، وقد أخبر النبي ﷺ بذلك في أحاديث كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: «من قال سبحان الله
وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (1).
6- حسن الظن:
إن من أهم العوامل والأسباب التي تؤدي إلى غسل الأدران عن الإنسان وتطهير نفسه من وزر الآثام هو حسن الظن بالله تعالى، والذي يُعدّ محور الرجاء
مع الله تعالى، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: «إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني» (2).
7- اجتناب الكبائر:
إن عفو الله تعالى ورحمته تنزل بالعبد في معظم أوقاته ما دام مؤمنًا ومؤديًا ما فُرض عليه من الفروض والواجبات، وما دام بعيدًا عن اقتراف كبائر الذنوب
والموبقات، لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا}(3).
8- من أ عظم الرجاء أن باب التوبة مفتوح:
ما دام في الإنسان روح تسري، فإن باب التوبة مفتوح له، والله يتقبل منه توبته في كل حين، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (4).
ويقول عليه الصلاة وسلام في حديث آخر: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (5).
في هذا النوع من الرجاء يتكوّن الإنسان السوي المعتدل، المعافى نفسيًا من القلق والاضطراب والخوف، لأنه يسير على المنهج الصحيح، في القيام بالأعمال
الصالحة والطمع في الجزاء العظيم المترتب عليه، وكذلك لا يستغني عن التوبة والاستغفار بصورة دائمة عما تصدر منه من أخطاء وذنوب، وهذه هي الصورة
المثالية للإنسان المسلم الذي عرف حقيقة الرجاء وعمل بمقتضاها.
وهو مضمون قوله عليه الصلاة والسلام السابق ذكره: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» (6).
-----------------------
(1) أخرجه البخاري (ص1112، رقم 6405) كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح. ومسلم (1171، رقم 2691) كتاب الذكر والدعاء.
(2) أخرجه مسلم (ص1171، رقم 2675) كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على الذكر الله. والترمذي (ص544، رقم 2388) كتاب الزهد، باب ما جاء في حسن الظن بالله.
(3) سورة النساء، الآية 31.
(4) أخرجه الترمذي (ص806، رقم 3537) كتاب الدعوات، باب إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. وابن ماجه (ص619، رقم 4253) كتاب الزهد، باب ذكر التوبة.
(5) أخرجه مسلم (ص1196، رقم 2759) كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت.
(6) سبق تخريجه.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(78)
آثار الرجاء المحمود (1-2)
إذا كان عمل المسلم قائمًا على أساس الرجاء المحمود، من غير إفراط أو تفريط، فإن ذلك سيثمر نتائج وآثارًا إيجابية كثيرة تعود بالفائدة على صاحبه أولاً، ثم على المجتمع والأمة قاطبة ثانيًا، ومن أبرز تلك النتائج الخيرة للرجاء المحمود، بما يلي:
1- قبول العمل:
إن المسلم حين يقوم بأداء رسالته في الحياة، على النحو الذي رسمه الله تعالى له، ضمن دائرة الأمر والنهي المنصوص عليها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وما يترتب على ذلك من آداب وأخلاق، فإنه يرجو تحقيق رضوان الله تعالى والفوز بالقرب منه والإقامة في جنته، فإن هذا التصور وحسن الظن بالله تعالى بالجزاء على تلك الأعمال، فإن الله توعد نفسه ووعده الحق بأنه سيكون عند حسن ظن عبده به، لقوله في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني«(1).
وهذه القناعة تدخل المسلم في السعادة الحقيقية، من طمأنينة النفس، وراحة البال، وعدم الخوف من المستقبل، الأمر الذي يسدّ الأبواب أمام وساوس الشياطين وهمزاتهم.
2-رفع الخطايا ومحو الذنوب:
إن الرجاء المحمود سبب في محو السيئات والذنوب عن صاحبه، ما دام هذا الإنسان يقوم بما يملي عليه كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وقد سبق ذكر النصوص الوارد في هذا الشأن، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(2). وقوله ﷺ: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها«(3).
3- الإيجابية والإنتاج:
إن الرجاء المحمود، يعطي الإنسان قوة نحو العمل الجاد والإنتاج المفيد في الحياة، فلا يتوانى ولا يتكاسل عن أداء واجبه بأكمل صورة في الحياة، سواء كانت أداء الفرائض لله تعالى، أو حسن الخلق والتعاون ونشر الخير مع الناس، أو أعماله اليومية في العبادة أو المدرسة أو الوزارة أو المصنع أو غيرها من ميادين العمل المختلفة، وبذلك يتكوّن في المجتمع لبنة قوية تثبت أركانه وقواعده وتحميه من عوامل الانهيار والخراب، وهو ما عبّر عنه الله تعالى في قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(4).
4- الفأل المستمر:
وذلك أن الرجاء المحمود، يكوّن الإنسان المتفائل بالخير والنجاح بشكل دائم، فلا يعرف هذا الإنسان التحسر على فقدان أي شيء في الحياة، لأنه كلما فقد شيئًا تفاءل بأحسن منه، لأنه في حالة حسن الظن بربه في ذلك، فإذا كان مريضًا فإنه يرجو من الله تعالى الشفاء والمعافاة ويعيش على هذا الرجاء فترة مرضه، فلا يصيبه اليأس أو القنوط من رحمة الله تعالى أو بتأخير نزول الشفاء عليه، وإذا فقد منصبًا أو وظيفة أو مكانة فإنه يسعى إلى أفضل منها بتفاؤل وأمل في الله تعالى بأنه أرحم عليه من الناس، وهكذا، وهذا التصور والشعور المتجدد لدى الإنسان المسلم، يقضي على كل أسباب اليأس والقنوط التي إذا حلّت بالنفس جعلتها غير مستقرة وغير مطمئنة.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
[الشورى: 25]
(3)
سبق تخريجه
(4)
[الكهف: 110]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(79)
آثار الرجاء المحمود (2-2)
1-قوة العقل والجسم:
الرجاء يعطي فاعلية في قوة العقل للإبداع والابتكار، لأن صاحبه معافى من الخمول الفكري واضطرابه الناجم عن الخوف على النفس وعلى المصالح والأموال والتجارة والمنصب والوظيفة وغيرها من متاع الدنيا، وكذلك فإن هذا الرجاء يجعل صاحبه في حالة نشاط وحركة مستمرة، ربما يسعى أن يقطع آلاف الأميال ويتغرب عن أهله وذويه، ويقضي في ذلك جلّ عمره في سبيل أن يؤدي عملاً يرضي به خالقه، أو ينفع به مجتمعه وأمته، كما كان السلف الصالح من هذه الأمة، فقد انطلقت جيوش المسلمين ودعاتهم من الجزيرة العربية إلى الشرق والغرب لنشر هذا الدين وتبليغه إلى الناس، إلى وصلوا أقاصي الأرض، وهم لا يملكون إلا وسائل النقل البدائية من الخيول أو الجمال، لم يدفعهم إلى ذلك إلا رضا الله تعالى والطمع فيما عنده.
وكذلك المتأمل في حال علماء الأمة سيجد العجب من جلدهم وصبرهم في سبيل الحصول على خبر أو حديث عن النبي ﷺ، أمثال أئمة الحديث المعروفين، البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، جابوا الأرض وقطعوا السهول والهضاب، وتعرضوا للخطوب والصعاب، من أجل أن يقدموا للأمة كنوز السنة النبوية، لينهل منها المسلمون إلى قيام الساعة، ويأخذوا منها أحكامهم وتشريعاتهم ويتطلعوا من خلالها إلى سيرة نبيهم ﷺ، ولم يدفع هؤلاء الجهابذة إلى هذا العمل العظيم إلا أملهم ورجاؤهم في رضى خالقهم والقرب منه يوم القيامة.
2-الطموح الدائم نحو الخير:
وهذا الأثر يتحقق في كل عمل صالح يقوم به المسلم، سواء كانت العبادات المفروضة أو الأعمال الاعتيادية اليومية، لأنه حينما يقوم بأي عمل فإنه يرجو الله تعالى قبوله والثواب عليه، وهذا الشعور يجعله يسعى إلى ما بعد ذلك من الأعمال، وهكذا، كأن يصلي إحدى الصلوات ويرجو قبولها فينتظر التي تليها ليلقى معها ذلك القبول، وكذلك الحال مع جميع الأعمال والسلوكيات الأخرى التي يقوم بها في حياته، حتى وإن كان على فراش الموت، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليفعل«(1).
وهذه حال المؤمنين الصادقين الذين جاء وصفهم في كتاب الله تعالى بالخيرية: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(2).
3-الراحة الطمأنينة وعدم القلق:
الرجاء عامل مهم في بناء النفس واستقراره، لأنه يُربط صاحبه بالله تعالى في السراء والضراء، وفي السر والعلن، ومن كان هذا شأنه فإن الطمأنينة النفسية والراحة والسكينة ستنزل عليه من كل جانب، فلا يخاف من أي تهديد بشري مهما أوتي من قوة، لأنه يحس حماية الله تعالى له وأنه ناصره لا محال، وقد بيّن رسول الله ﷺ هذه الحقيقة لصاحبه أبي بكر رضي الله عنه في غار ثور، حينما وقف المشركون على باب الغار «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما«(3).
والرجاء بصورة عامة يهيأ المسلم نفسيًا لمواجهة الحياة بمصاعبها وأخطارها، لأن النفس هي نقطة الانطلاق لكل شيء، فالإنسان الذي تحتضنه نفس سوية ومستقرة هو الإنسان الصالح في الحياة، يسعى لإعمار الكون بكل قوة ونشاط، أما الذي تحتويه نفس مليئة بالوساوس والأمراض فإنه أفشل كائن في الحياة، يسعى لخرابها ودمارها من كل جانب.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(1)
أخرجه أحمد (3/191، رقم 13012). والطيالسي (1/275، رقم 2068). وهو حديث صحيح
(2)
[آل عمران: 110]
(3)
أخرجه البخاري (ص613، رقم 3653) كتاب فضائل أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب المهاجرين وفضلهم. ومسلم (ص1049، رقم 2381) كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(80)
ثانيًا: الرجاء المذموم
هو عدم العمل والطمع في تحقق المطلوب.
وهو رجاء الكسالى والمتقاعسين عن واجباتهم الشرعية، كالذي يذنب ويعصي في جنب الله تعالى ثم يطلب منه أن يجازيه أحسن الجزاء، وهذا إخلال بأحد أركان الرجاء وهو تقديم العمل الصالح أولاً، ثم طلب القبول والجزاء ثانيًا.
وكثير من أتباع هذا التصور لا ينظرون إلى الجانب الآخر الذي رتب الله تعالى عليه عذابًا وعقابًا، وإنما ينظرون من زاوية واحدة وهي أن الله غفور رحيم، وهذا أيضًا إخلال في الرؤية الصحيحة نحو الأشياء والحقائق، لأن الله تعالى الذي وصف نفسه بالرحمن الرحيم، وصفها أيضًا بأنه شديد العقاب، يقول تبارك وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}(1) وهذه إشارة إلى أن الرحمة والغفران يكونان للمؤمنين العاملين الذين يخطئون فيتوبون وهو الرجاء المطلوب، وأن العقاب للذين لا يعملون ولا يتوبون وهم أصحاب الرجاء المذموم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1)
[الحجر: 49-50]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(81)
آثار الرجاء المذموم
كما أن للرجاء المحمود آثارًا إيجابية على النفس والمجتمع، فإن للرجاء المذموم آثارًا سلبية على النفس والمجتمع، ومنها:
1- أن هذا النوع من الرجاء فيه اتهام لشرع الله تعالى وتعطيل لأحكامه، من خلال ترك صاحبه للأعمال المأمورة بها، وإتيانه للمنهيات والمنكرات، ثم يطلب من الله تعالى أن يدخله في رحمته وجنته، وهذا التصور يخالف أحكام القرآن والسنة النبوية.
2- الرجاء المذموم يعطّل النعم التي أودعها الله في الإنسان من عقل وحواس وجوارح، لأنه لا يستخدمها في الوجه الذي يريده الله تعالى منه، بل يستخدمها في معصيته ومخالفته، لأنه يتأمل العفو والمغفرة في كل الأحوال.
3- الرجاء المذموم يولد في النفس مبدأ التسويف والتأجيل، ليس فيما يتعلق بالعبادات وحسب، وإنما في سائر الأعمال اليومية والمعاشية، وهو ما يجلب الضرر والأذى للنفس والمجتمع.
4- الرجاء المذموم يجلب الاكتئاب والقلق لصاحبه، لأنه لا يعمل وينتظر النتائج، كالذي يريد أن يأتيه رزقه وهو قابع في بيته لا يحرك ساكنًا، وهو أمر يخالف سنة الحياة وناموس الكون، من أجل ذلك يبقى هذا الإنسان دائمًا في آخر الركب، وقد سبقه الآخرون إلى المعالي ومراتب النجاح والتفوق والإبداع، وهذه الحال تضعه في دوامة القلق النفسي والكآبة المستمرة، أو ربما تكوّن لديه روح الحسد والانتقام من الواقع والمجتمع.
من أجل ذلك كله، يجب على الإنسان أن يكون متوازنًا في معظم أحواله مع الله تعالى، فلا يغلب جانبًا على حساب الآخر، لأن ذلك يحدث خللاً في السير الصحيح، وتنحرف به الطريق عن الصراط المستقيم.
إلا أن هناك حالات ربما يزداد فيها الرجاء أحيانًا على الخوف، بسبب موقف ما أو نتيجة حادث أو نازلة، كالذي يحضره الموت، ويدرك أن أجله قريب، فلا بد من ارتفاع مستوى الرجاء لديه، وحسن الظن بربه، لينال العفو والمغفرة بإذن الله تعالى، ولا يطغى عليه الخوف، بل يستحضر قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء»(1)، وكذلك يعظم الرجاء عند اشتداد الأزمات لئلا يغلق على نفسه باب التفاؤل والاستبشار كما فعل النبي ﷺ في قصة الهجرة وغيرها.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(1)
صحيح ابن حبان: 635
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(82)
حسن الظن بالله تعالى
قال الإمام الترمذي رحمه الله:حدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب – واللفظ لقتيبة – قالا: حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا وإن تقرَّبَ إلي ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة«(1).
مفهوم حسن الظن:
في اللغة: إن لفظ حسن الظن مركب من لفظين، أحدهما «حسن» وثانيهما «الظن» فالحسن ضد القبح ونقيضه، وقال الأزهري: الحسن نعت لما حسن(2).
وأما الظن فيأتي بمعناه اللغوي بمعنى الشك واليقين إلا أنه ليس بقين عيان إنما هو يقين تدبر لأن يقين عيان يقال له العلم وهو يكون اسمًا ومصدرًا فإذا كان اسمًا يأتي جمعه ظنونًا(3).
في الاصطلاح: هو الاعتقاد واليقين بأن الله تعالى رؤوف بعباده رحيم بهم، وبكل ما تقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا، حيث يتولى شؤونهم في الحياة الدنيا ويسهل عليهم أمور الآخرة بإرسال الرسل والكتب، وكلها أسباب وقايتهم من عذابه وغضبه، وبذلك فإنه جل وعلا سبقت رحمته غضبه، والعطاء أحب إليه من المنع.
وحتى يتحقق حسن ظن العبد بربه وخالقه لا بد له أن يتبع بعض السنن والأسباب التي أمره الله تعالى بها من الإيمان به وتقديم الأعمال الصالحة بين يديه يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(4).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله«(5).
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(83)
الفرق بين حسن الظن والرجاء والتمني
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «فإن حسن الظن بالله معناه أن نعتقد عن الله بأنه متصف بالحسن في ذاته وأفعاله وفي أسمائه وصفاته كما يليق بجلاله تعالى من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل، وجميع أفعاله لا تخلو عن الحكمة سواء علمناها أو جهلناها.
وأما الرجاء فهو ارتياح لانتظار ما هو محبوب عند النفس، ولكن ذلك المتوقع لا بد له من سبب حاصل، فإن لم يكن السبب معلوم الوجود ولا معلوم الانتفاء سمى تمنيًا لأنه انتظار من غير سبب«(1).
منزلة حسن الظن بالله من الدين:
يقول الله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(2).
ويقول جل ذكره على لسان يعقوب عليه السلام: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(3).
ويقول تبارك وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}(4).
وهو من الأمور التي وصى بها رسول الله ﷺ حيث قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله« (5).
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «قدم رسول الله ﷺ بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذ وجدت صبيًا في السبي فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله ﷺ: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله! وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله ﷺ: لله أرحم بعباده من هذه بولدها«(6).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرض إن رحمتي تغلب غضبي«(7).
وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه»(8)، وفي رواية: «وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة«(9).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم«(10).
وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم«(11).
وقال ﷺ: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا وإن تقرَّبَ إلي ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة«(12).
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه سمع النبي ﷺ قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله«(13).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
(1)
نقلاً عن: مختصر منهاج القاصدين، تأليف ابن قدامة المقدسي ص316.
(2)
[الزمر: 53]
(3)
[يوسف: 87]
(4)
[الأعراف: 156]
(5)
أخرجه مسلم (ص1246، رقم 2877) كتاب الفتن، باب الأمر بحسن الظن بالله عند الموت.
(6)
أخرجه البخاري (ص1050، رقم 5999) كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله. ومسلم (ص1193، رقم 2754) كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله تعالى وأنها تغلب غضبه.
(7)
أخرجه البخاري (ص1273، رقم7404) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿ﯳﯴﯵﯶ﴾. ومسلم (ص1192، رقم 2751) كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله.
(8)
أخرجه البخاري (ص1050، رقم 6000) كتاب الأدب، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء. ومسلم (ص1193، رقم 6972) كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله.
(9)
أخرجه مسلم (ص1193، رقم 6974) كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله.
(10)
سبق تخريجه.
(11)
أخرجه مسلم (ص1200، رقم 2767) كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله.
(12)
سبق تخريجه.
(13)
سبق تخريجه.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(84)
علاقة حسن الظن بالله بالتوكل على الله
إن حسن الظن بالله تعالى له علاقة وطيدة بالتوكل عليه جل وعلا، فهو أمر عقدي يؤثر على سلوكيات الإنسان وأخلاقياته اليومية، يقول ابن القيم رحمه الله: «فعلى حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله. والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه، والله أعلم«(1).
حيث يوجد من الناس من يتكل على حسن الظن بالله، ويرتكب المعاصي ويقترف المنكرات، فهذا نوع من التناقض وقد توعد الله من يفعل ذلك بالسخط والعذاب يوم القيامة.
حتى قال بعضهم:
وكثّر ما استطعتَ من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
وهذا التصور سمّاه أهل العلم من السلف بالغرور، لأنه يؤدي إلى التمادي في المعاصي والمنكرات، الأمر يناقض أصول التشريع في الأمر بالحلال والنهي عن الحرام.
فحسن الظن بالله تعالى ورحمته ومغفرته لا يعني أبدًا التغافل عن جانب الترهيب الذي أخبرنا عنه جل وعلا في كتابه المبين، حيث يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}(2).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1)
تهذيب مدارج السالكين، 240
(2)
[الحجر: 49 – 50]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(85)
آثار حسن الظن بالله تعالى (1-2)
ولحسن الظن بالله تعالى آثار ونتائج إيجابية تضفي على النفس والمجتمع تميزًا عن سائر النفوس والمجتمعات ومن هذه الآثار:
1- يجلب السعادة والراحة للنفس ويسدل عليها ستارًا من الطمأنينة، لأن العبد الذي يحسن الظن بربه، يشعر أن رحمة الله تعالى وحنانه ولطفه يلاحقه في كل مكان، فلا يخشى حينها من وساوس الشياطين ونزغاتهم، ولا تطاوله آفات النفس من قلق وجزع واضطراب.
2- إن حسن الظن بالله تعالى يدفع بالمؤمن للأعمال الصالحة وتقديم العبادات والطاعات بين يديه، لينال القرب والرضوان منه جلّ وعلا، لقول النبي ﷺ في الحديث القدسي عن ربّه: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته»(1). فيظهر نوع من التنافس والتسارع بين العباد في سبل الخير والطاعات.
3-
إن حسن الظن بالله تعالى يجعل من المجتمع المسلم في حالة تنافس وتسابق نحو سبل الخير المختلفة، وبذلك يتحول هذا المجتمع إلى مجتمع متمدن ومتقدم، في جميع الميادين العلمية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، لأن أفراد هذا المجتمع لا يريدون جزاء من الناس، بل ينتظرون الجزاء والمثوبة من الله تعالى الذي تعهد لهم به إذا أحسنوا الظن به امتثالاً لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}(2).
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(86)
آثار حسن الظن بالله تعالى (2-2)
4- إن حسن الظن بالله تعالى يزيد في قلب المؤمن محبة الله تعالى ومحبة رسوله ﷺ، وبالتالي محبة أوليائه من المؤمنين، لأن القلب إذا تعلق بالله ورحمته الواسعة التي لا يحدها شيء، يشغف إلى الحياة معها والبقاء في ظلها، لأنها الملاذ الآمن الذي يجد أمنه وسلامته فيها.
5- إن العبد إذا أحسن الظن بالله تعالى، تمكّن من مواجهة المصائب والنوازل بصبر وثبات، وهو على يقين بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الله تعالى إنما ابتلاه لخير عظيم وأجر كبير يُدَّخر له يوم القيامة، وهو ما يجعل العبد المؤمن في حالة من التفاؤل والحركة في الحياة لأنه يرنو إلى ما عند الله تعالى، فتتصاغر أمام يقينه الخطوب العظام والأهوال الجسام.
6-
إن حسن الظن بالله تعالى يجعل النصر والظفر حليف المؤمنين، لأنه يثبت المؤمنين في القتال ويشد من أزرهم ويزيد من صبرهم، رغم تكاثر الأعداء وقوة عتادهم، فكلما اشتد الخطب وحمي الوطيس اشتدت صلتهم بربهم وقوي ظنهم بالله تعالى، وهذه الصورة الحية قد نقلها الله تعالى لعباده عبر هذه الآية الكريمة: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}(1).
وفي المقابل، فكما أن حسن الظن يجلب لصاحبه الرحمة والمغفرة فإن سوء الظن به جل وعلا يجلب عليه العذاب والعقاب يقول تبارك وتعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}(2).
ويقول جل شأنه: {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}(3).
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(87)
وسائل تعين على حسن الظن بالله تعالى
1- التدبر في خلق الله تعالى وآياته في النفس والكون والحياة، وكذلك التفكر بما وصف الله نفسه بها من الصفات والأسماء، لأن ذلك يبعث على النفس اطمئنانًا واسعًا وراحة كبيرة، ويشعر الإنسان حينها أنه بغنى عن كل ما سوى هذا الخالق المدبر لهذا الكون، والمتصف بهذه الصفات الجليلة والكريمة.
2- معرفة أهمية حسن الظن بالله تعالى وآثاره الإيجابية على النفس والمجتمع بشكل خاص وعلى الحياة بجوانبها المختلفة بشكل عام، لأنها تزيد من عزم الإنسان نحو حسن الظن بربه وخالقه، وهو الحال التي عاش عليها الأولون من سلف هذه الأمة رحمهم الله جميعها.
3- قراءة القرآن بصورة دائمة، والتفكر والتدبر في آياته وأحكامه، وهو نوع من الذكر والتعلق الصادق مع الله تعالى، ومعلوم أن كتاب الله حافل بآيات الرحمة والمغفرة، وهي جزء من صفاته جل شأنه، الأمر الذي يجعل الإنسان يحسن الظن بهذا الخالق الرحيم، فيقدم بين يديه شتى الأعمال الصالحة، من الفروض والسنن والنوافل والنفقات وجميع الأعمال الخيّرة الأخرى.
4- فهم الدين وتطبيق أحكامه في الأمر والنهي، وهو من مقتضيات تحقيق حسن الظن بالله تعالى في نفس الإنسان، لأن المعاصي والمنكرات تبعد الإنسان عن حسن الظن بالخالق، بل إنها تجعله يسيء الظن به جل ذكره، كما هو حال المشركين والكفار من غير المسلمين أو كما هو حال كثير من الفاسقين من أبناء المسلمين.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(88)
شكر الله تعالى
عبادتان قلبيتان عظيمتان يسببان الخير المطلق للإنسان، ومن هذا الخير: الخير للنفس قوة وبناء ومعالجة. هما شكر الله تعالى على نعمه، والصبر على بلائه، فيشكلان معلمًا من معالم منهج الإنسان في هذه الحياة ليكون سعيدًا في الدنيا والآخرة، نعرض أولاً ما يتعلق بالشكر، ونفتتح بما رواه مسلم رحمه الله:
حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَاللَّفْظُ لِشَيْبَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»(1).
حقيقة الشكر:
الشكر كما في مفردات الراغب: تصور النعمة وإظهارها، ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها، ودابة شكور: مظهرة لسمنها إسداء صاحبها إليها، وقيل: أصله من (عين شكرى) ممتلئة، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه.
وأورد القرطبي عبارات لبعض العلماء في معنى الشكر منها: أن الشكر هو الاجتهاد في بذل الطاعة مع اجتناب المعصية في السر والعلانية، وأقل الشكر هو الاعتراف بالتقصير في شكر المنعم، ولذلك قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}(2)، فقال داود: كيف أشكرك يا رب، والشكر نعمة منك؟ قال: الآن قد عرفتني وشكرتني، وقيل: الشكر: أن لا يعصى الله بنعمه، وقيل: الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسموات(3).
وبذلك يمكن تعريف الشكر: بأنه اعتقاد نعمة المنعم سبحانه وإظهار هذا الاعتقاد على اللسان والجوارح.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
(1)
أخرجه مسلم (ص1295، رقم 2999) كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير.
(2)
[ سبأ: 13]
(3)
تفسير القرطبي 1/271.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(89)
أنواع الشكر
والشكر ثلاثة أنواع:
1- شكر القلب:
هو الشعور الدائم للمنعَم عليه بفضل الله وكرمه ومنّه بما أنعم عليه من النعم الظاهرة والباطنة، وترجمة هذا الشعور إلى حب لله ورسوله ﷺ، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}(1). حيث سخر الله تعالى لهذا الإنسان كل ما حوله من الكائنات وما ينزل من السماء وما يخرج من الأرض تكريمًا له وترفيعًا لشأنه.
وإعمار القلب بهذا الحب وهذا الود من شأنه أن يؤثر على الجوارج فيجعلها تتحرك وفق منهج الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2).
2- شكر اللسان:
وهو الثناء على الله المنعِم، بالكلام وعبارات الشكر المتعددة، والتحدث بأنعم الله تعالى وأفضاله التي لا تعد ولا تحصى، وهذا الركن هي الوسيلة التي ينقل الإنسان من خلالها شكر الله من القلب إلى الجوارح، ويعدّ شكر النعمة باللسان نوع من الذكر لله تعالى وقد أمر الله به العباد كما في قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(3).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أخذ بيده وقال: «يا معاذ والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»(4).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليله»(5).
ويدخل في هذا النوع من الشكر كل ذكر لله من قراءة للقرآن أو تسبيح أو تهليل أو استغفار، ما دام اللسان رطبًا بذكر الله تعالى.
3-شكر سائر الجوارح:
وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها، فهو من أعظم أنواع الشكر وأصدقها، ذلك أن ما ينبض به القلب من الحمد والشكر وكذلك ما يردده اللسان يترجم إلى واقع عملي، ومعظم أمور الدين إذا لم تتحول إلى عمل فلا يعد شيئًا في ميزان الشرع، وقد وردت في كتاب الله تعالى مقارنات كثيرة وملازمات متعددة بين الإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(6)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}(7).
وقد صحّ عن الحسن رضي الله عنه قوله: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل.
فبذلك يكون الشكر العملي من أسمى وأعظم أنواع الشكر وأكثرها قبولاً عند الله، واستعمال الجوارج في التعبير عن شكر الله تعالى على نعمه وأفضاله تتمثل في كل أنواع الخير والطاعات، وترك كل المعاصي والمنكرات.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
(1)
[لقمان: 20]
(2)
[آل عمران: 31]
(3)
[الضحى: 11]
(4)
أخرجه أبو داود (ص225، رقم 1522) كتاب الوتر، باب الاستغفار. والنسائي (ص182، رقم 1304) كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء. وأحمد (5/233، رقم 22172) وهو حديث صحيح.
(5)
أخرجه مسلم (ص1171، رقم 5073) كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح
(6)
سورة العصر
(7)
[الكهف: 107]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(90)
آثار الشكر على النفس والسلوك (1-2)
بما أن شكر الله تعالى وحمده على نعمائه وآلائه نوع من الذكر، وخُلق جميل على إدراك فضل الله تعالى على العبد، فإن لهذا الخُلق آثار متعددة على نفسية المنعَم عليه وعلى سلوكه وأطباعه، بل إن هذه الآثار تتعدى إلى آخرته فينال بالشكر رضوان الله تعالى والقرب منه وعفوه ورحمته، ومن أهم تلك الآثار:
1- إن العبد الشاكر ينال قبل كل شيء رضوان الله وأجره العظيم يوم القيامة، لقوله تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}(1). وهذا غاية ما يتمنى العبد في سعيه في هذه الحياة.
2- إن شكر الله تعالى يولّد الشعور بالرضى والقرب منه جلّ وعلا، حيث يحس العبد حينها أن الله خصّه بكرمه فيقبل عليه بالتوبة والاستغفار والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، ثم إنه يبادر إلى من حوله فيحسن إليهم، ويبذل جهده في إدخال السرور إلى قلوبهم كما أدخل الله المسرة إلى قلبه بإسباغ النعم عليه، فتشتد بذلك الروابط الاجتماعية بين الناس ويضمحل الحقد والضغينة بينهم.
3- إن شكر الله على نعمه وبأنواع الثلاثة يجعل الإنسان في حالة من التواصل المستمر مع ربه، فلا ينسى فضل الله عليه ليظلم الناس أو يسلب حقوقهم، أو يقصّر في العبادات وأداء الفرائض، ومن أجل ذلك تكرر الحث على الشكر في كتاب الله وتكرر ذكر النعم والآلاء لعل الناس يتفكروا فيها فيشكروا الله عليها بالتقرب إليه بالطاعات والعبادات، كما في قوله تعالى في نهاية كثير من الآيات: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، كما أثنى الله عز وجل على عباده الشاكرين وجعل الشكر شرطًا لدوام النعمة وزيادتها، فقال تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}(2)، وقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ}(3).
4- إن شكر النعمة، يؤدي إلى الطمأنينة والراحة النفسية الدائمة، لأنه لم يجعل المال في قلب المنعَم عليه وإنما جعله في يده، ولم يفاخر به على الآخرين وينسبه إلى نفسه، وإنما يرجعه في الأصل إلى الله تعالى، الذي بيده ملكوت كل شيء، ويرزق من يشاء بغير حساب، كما أنه اعتقد أن هذه النعمة وسيلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وتسخيرها في طاعة الله وإقامة حكم الله، وإنما هو مكلف للقيام بهذه المهمة ومحاسب عليها يوم القيامة.
إن هذا التصور يلقي بظلال من الراحة إلى نفوس المنعم عليهم لأنهم ساروا على الطريق المرسوم لهم من ربهم، ثم إنه يخرج من قلوب الفقراء والمحتاجين في المجتمع عوامل الحقد والنقمة على المنعم عليهم، فينشأ بين الطرفين الود والتعاون والوئام، وينجلي كل أسباب الضغينة والكراهية التي تؤدي إلى خلخلة المجتمع، وإفشاء القلق وأمراض النفس بين الناس التي قد تؤدي إلى النهب والسرقات أو القتل أو أية جرائم أخرى.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ
(1)
[آل عمران: 145]
(2)
[آل عمران: 144]
(3)
[إبراهيم: 7]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(91)
آثار الشكر على النفس والسلوك (2-2)
5- إن النفس التي يملأها الخير هي النفس المطمئنة العامرة بحب الله وحب رسوله ﷺ وحب المؤمنين، فلا تجد فيها ما يكدر من صفوها، أو يوسوس لها الاستعلاء والاستكبار على الآخرين.لأن من مداخل الشيطان إلى النفس أن يوحي إليها أن كل ما عندها من الخير والنعم هي من صنعها وكدها وتعبها، وليس لأحد فضل عليها أو منّة، وهو مستنقع خطير يصطاد الشيطان من خلاله الضعفاء من البشر.
6- إن الاستقرار النفسي الذي ينتج عن شكر نعم الله يؤدي إلى الاستقرار والأمن في المجتمع، وهو أمر مهم للحفاظ على تماسك الناس فيما بينهم، وكذا الحفاظ على راحتهم النفسية، وعلى العكس من ذلك فإن أي اضطراب في النفس أو غضب سينقلب سلبًا على الناس وعلى المجتمع، لذا كان الشكر أمرًا مطلوبًا لتفادي هذا الخطر على النفس قبل البشر.
7- الخيرية المطلقة للشاكر في الدنيا والآخرة كما وَرَدَ في الحديث السابق، حيث جاءت هذه الخيرة نكرة والنكرة تعم، وبذلك يدخل العبد الشاكر لنعم الله تعالى في محتوى الخيرية ويصبح جزءًا صالحًا من هذه الأمة التي امتدحها الله بهذه الصفة المباركة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(1).
8- إن شكر النعم ومقابلتها بالعمل الصالح وكل ألوان الطاعات والعبادات، هو نوع من الاقتداء بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الذين هم أعالي الناس، وأكثرهم حمدًا وشكرًا لأنعم الله، وأعلمهم بحقيقة وجودهم وما سخّر الله لهم من النعم لبقائهم وسعادتهم في الحياة، فلم تغريهم الدنيا وزينتها، من كثرة الأتباع أو قيادة الناس، لم يغرهم علمهم وحجتهم، لأنهم على دراية كافية بحقيقتها وأنها فضل من الله تعالى وفي الوقت نفسه ابتلاء واختبار.
وقد وصف الله تعالى نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام، بأنه كان عبدًا شاكرًا لما أُغدق عليه من النعم والآلاء، فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(2).
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا«(3).
9- إن العبد الشاكر لنعم الله تعالى ينال محبة رسوله ﷺ، للحديث الذي يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أخذ بيده وقال: «يا معاذ والله إني لأحبك. فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك«(4).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ
(1)
[آل عمران: 110]
(2)
[النحل: 120-121]
(3)
[صحيح البخاري:6471]
(4)
سبق تخريجه
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(92)
جحود النعمة ونكرانها
إن كثيرًا من الناس لا يقدرون قيمة تلك النعم ولا يضعونها في مكانها الذي خصصه الله لها، ويتبجحون بها كل تبجح، فيبذرون أموالهم تبذيرًا في أشياء لا منفعة فيها ولا مصلحة، فضلاً عن إسرافها في المحرمات والمعاصي والصد عن سبيل الله، ثم إنهم ينسبون كل ما تحل بهم من نعم وأفضال إلى أنفسهم، فيتجبرون بها على رقاب الضعفاء ويتكبرون ويتباهون بها بين الناس دون أن يضعوا في الحسبان نصيب إخوانهم الضعفاء فيها، أو مساعدتهم والتودد إليهم من خلالها.
فالذي هذا شأنه يكون منكرًا لنعمة الله بدلاً من شكره والثناء عليه، وكذلك الذي لا يعمل بعمله وقدراته في خدمة الناس ولا يتقن بما وكل إليه يكون منكرًا للنعمة وجاحدًا لها، والذي يفرط بأوقاته ويضيعها في اللهو واللعب والمحرمات منكر لنعمة الله، وإن الذي لا يشكر الله على الأمن والرخاء الذي يحيط به من كل مكان ويتعدى من خلاله على حقوق الآخرين وظلمهم فإنه جاحد للنعمة ومنكر لها، وكل نعمة يمنحها الله تعالى للعبد فلا يستعملها لرضى الله وطاعته وقضاء حاجات الناس وحل مشكلاتهم تعد نوعًا من الحجود والكفر لهذه النعمة.
يقول جل ذكره: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}(1).
* * *
ولكن ما هي النتيجة المترتبة على كفر نعم الله المغدقة على العباد؟
إن سنة الله ماضية في خلقه منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى أن تقوم الساعة، والقرآن الكريم حافل بقصص الأمم الغابرة التي جحدت أنعم ربها وكفرت بها وما حل بها من عذاب وعقاب، أحيانًا بالريح وأخرى بالرجفة وثالثة بخسف الأرض، وغيرها من العقوبات التي كانت نتيجة كفرهم لأنعم الله عندما أغرقوا في ملذات الدنيا وشهواتها وزخرفها، يقول الله تعالى عن قوم سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ}(2).
وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ . وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}(3).
ويقول عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(4)،بل إن الخسارة الكبرى لكفر النعمة تكون يوم القيامة، حين يقف الإنسان بين يدي خالقه، فتُجلى له صحيفته التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، فيرى ما اقترف من كبائر ومعاص مقابل ما أغدق الله عليه من الخيرات والبركات، وقد صوّر الله تعالى ذلك المشهد في الآية الكريمة: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ م بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُون}(5).
وقد أخبر النبي ﷺ أن النساء أكثر أهل النار للعلة نفسها فقال: «ورأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل يكفرن بالله، قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت ما رأيت منك خيرًا قط«(6).
هذا فضلاً عن الاضطرابات النفسية والأمراض العصبية التي تنجم عن كفر النعمة، حيث لا يقوم المنعَم عليه بأداء الواجب نحو هذه النعمة من الإنفاق في سبل الخير وإعانة المعوزين والفقراء، وهذا يشعل نار الغضب والحقد في نفوس الآخرين، والشاكرون القائمون بأداء هذا الواجب قلة، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(7)، وقال سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(8)، ومن أجل ذلك تزداد مثل هذه الأمراض والمشكلات.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ
(1)
[البقرة: 152]
(2)
[سبأ: 15-17]
(3)
[القصص: 58- 59]
(4)
[النحل: 112]
(5)
[الأحقاف: 20]
(6)
أخرجه البخاري (ص8، رقم 29) كتاب الإيمان، باب إفشاء السلام. ومسلم (ص366-367، رقم 907) كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي ﷺ في صلاة الكسوف.
(7)
[الأعراف: 7]
(8)
[سبأ: 13]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(93)
وسائل معينة على شكر الله تعالى
هذا وإن لشكر نعم الله تعالى وآلائه على الإنسان وسائل ومعينات، تساعد على تذكر النعمة والقيام بالواجب الشرعي نحوها، ومن تلك المعينات:
1- التفكر والتأمل في الأنعم المغدقة والتي لا تعد ولا تحصى، ابتداء من نعمة الحواس وسائر الجوارح، ونعمة الصحة والعافية والقوة والمال والولد، حيث إذا فقد الإنسان شيئًا من هذه النعم، يُرى عليه أثر ذلك، فيختل جانب مهم في حياته، بل إن كثيرًا من النعم لو فُقدت من الإنسان جعلت حياته ضربًا من العذاب والاضطراب والشقاء، ومن أجل هذا فإن التأمل والتفكر في هذه النعم القريبة جدًا من كيان الإنسان ضرورة وسبيل للقيام بواجب الشكر والثناء على المنعِم جلّ وعلا.
2- أن ينظر الإنسان دائمًا إلى من هو أسفل منه، وليس إلى من هو أعلى منه في المال والشهرة والمنصب، لأن ذلك يولّد الحسد والبغض بين الطرفين، بل ربما يسلك الأدنى سبلاً غير مشروعة من أجل الوصول إلى ما وصل إليه غيره من الثراء أو المكانة الاجتماعية، أو الشهرة وغيرها، ومن أجل ذلك وصّى النبي ﷺ المؤمنين بالابتعاد عن هذا الخُلق الذميم حتى لا يقعوا في شراك الشياطين ويتبعوا الطرق المحرمة لتحقيق غاياته ومآربه فقال عليه الصلاة والسلام: «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله«(1).
3- الدعاء، وهو الوسيلة المباشرة بين العبد وربه، يبث عبرها همومه وشكواه لخالقه، ويطلب منه العون والنصرة والتوفيق، ويسأله وحده أن يديم عليه ما هو فيه من نعمة الإيمان والصحة والعافية والمال والأولاد، ولا يعتمد في ذلك على أحد سواه، ويسأله في الوقت نفسه أن يعينه على الصبر إذا حُرم بعض تلك النعم.
4- قراءة القرآن وتدبر آياته، بصورة دائمة، لأنها من الذكر الذي يدخل في باب الشكر باللسان، وقد أمر الله تعالى عباده بتلاوة القرآن وتدبره حتى لا ينقطع الحبل بين العبد وربه، ويبقى القلب موصولاً مع الله أبدًا، فيتجنب العبد المنعَم عليه حينها البطر والاستعلاء على الناس، ويخاف أن يتعرض لحقوقهم ودمائهم وأموالهم.
وأخيرًا:
فلا بد من الإشارة إلى مجموعة من الوصايا لشرائح مختلفة من أبناء المجتمع، كل حسب حاله:
ليعلم الغني أن ما أوتي من مال ليس من حوله وعلمه وقوته وإنما هو عطاء من الله ونعمة من جانب، وابتلاء واختبار من جانب آخر، وأن هذا المال هو مال الله تعالى والإنسان مستخلف فيه، وإذا شاء الله جعله محقًا وأثرًا بعد عين، فلا يغرن الإنسان بذلك وينسى فضل الله عليه وينسى شكره، فيتكبر ويتجبر بين خَلق الله، فقد علَّم القرآن الأمةَ دورسًا وعبر في قصة قارون حين أغراه ماله وثراؤه إلى أن تبجح بالقول{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}(2).
فكانت نتيجة ذلك التكبر والغرور{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ}(3).
* * *
ثم ليعلم الشاب القوي، صاحب النشاط المتجدد والحركة والحيوية، أن هذه القوة والحياة في جسمه إنما هو نعمة ومتاع ينبغي استغلالها في سبل الخير وفي سبيل الله، فلا تكون وسيلة لإيذاء الناس وإلحاق الضرر بهم، لأن الله الذي منح هذه القوة والنشاط يستطيع أن يُذهبها بين لحظة وأخرى، وليكن في بال كل شاب وفتاة قول رسول الله ﷺ: «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه«(4).
* * *
ثم وصية لكل إنسان معافى من الأمراض والأوباء أن يخصص أوقاتًا معينة لزيارة المستشفيات ليرى إخوانه المرضى الذين يعانون الأمراض المختلفة، ويأنّون ويتألمون معظم أوقاتهم، ليرى ذلك ويعرف فضل الله عليه بما أسبغ عليه من نعمة العافية والصحة، فإن ذلك عامل مهم للقيام بشكر الله تعالى وأداء ما يوجب نحو نعمه ومعافاته له.
وهكذا فإن من أهم الخطوات الواجبة على الإنسان التأمل والتفكر بأنعم الله تعالى وفضله ومنّه عليه، لتتحرك إرادة الشكر في قلبه فيردده اللسان ومن ثم تترجمه الجوارج إلى واقع من خلال المحافظة على الفرائض والطاعات، والإحسان إلى الناس وعدم الاستعلاء عليهم، حتى تبقى النفوس طاهرة ومستقرة من الأحقاد والضغائن، ويبقى المجتمع في قوة وترابط.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ
(1)
أخرجه مسلم (ص1283، رقم 2963) كتاب الزهد، باب الدنيا سجن المؤمن.
(2)
[القصص: 78]
(3)
[القصص: 81]
(4)
سبق تخريجه
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(94)
الصبر
سبق في مبحث الشكر أن ذكرنا أنه عبادة قلبية تكمل عبادة أخرى هي الصبر، فالشكر حال الرخاء، والصبر حال البلاء، فهما من معالم منهج الإنسان في هذه الحياة، وهما في حال اجتماعهما سبب للخيرية المطلقة في الدنيا والآخرة، وقد فصلنا ما يتعلق بالشكر، وهنا نفصل ما يتعلق بالصبر، ونذكر بالحديث الذي افتتحنا به مبحث الشكر وهو ما رواه مسلم رحمه الله قال:حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَاللَّفْظُ لِشَيْبَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»(1).
هذا الحديث يرسم منهجًا عظيمًا للمسلم، وهو من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.
حقيقة الصبر:
حبس النفس عن الجزع.
وهو سلاح المؤمنين في الحياة لتخطي صعابها وخطوبها، وهو الدواء الذي يمنح نفوسهم الطمأنينة والسكينة ويحميها من الوساوس والاضطرابات؛ بل إن الصبر مفتاح الفرج من الكربات المختلفة، سواء ما تتعلق بكينونة الإنسان أو خارجها.
ومن دون الصبر لا يستقيم عمل ولا يدوم إحسان ولا تتم طاعة ولا تنجح دعوة، وهذا هو الفيصل بين المؤمن وغيره كما ورد في الحديث، ولعله السبب في وصول هذا الدين إلى أصقاع المعمورة، والقارئ للسيرة النبوية وحياة الصحابة والسلف الصالح سيجد أن تلك الثمار اليانعة التي قطفتها الأجيال اللاحقة من سلفهم كانت نتيجة صبرهم على محن الحياة وعوارضها، وتحملهم الأذى والمشقة والجهاد في سبيل دين الله الذي هو عصمة الأمر كله.
وهو امتثال لأمر الله تعالى الذي يخاطب عباده المؤمنين بالتحلي بهذا الزاد القاهر لشتى الصعاب، حين يقول جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2).
وقد وردت آيات كثير في كتاب الله تعالى تحث المؤمنين على الصبر وتذكرهم بالجزاء الكبير الذي ينتظرهم من الله تعالى على ذلك.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ
(1)
سبق تخريجه
(2)
[آل عمران: 200]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(95)
أنواع الصبر
أولاً: الصبر على الطاعة:
رغم أن الإنسان حين يؤدي أية عبادة يشعر براحة نفسية، وشراحة في الصدر، إلا أن كثيرًا من هذه العبادات تحمل في بعض الأحيان أنواعًا من التعب والنصب والمشقة، مثل الالتزام بالصلاة ومواقيتها في اليوم والليلة خمس مرات أبد العمر، وكذلك إخراج زكاة الأموال التي جبل الإنسان على حبها، وأداء نسك الحج الذي فيه من التعب البدني ما لا يغفل عنه أحد، وغيرها من العبادات، كل هذه الأمور بحاجة إلى تعويد النفس على الصبر عليها، يقول تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}(1).
ثم إن هذه العبادات تحمل معنيَيْن كبيرين، أولها أنها أمر من الرحمن الرحيم الذي هو أرحم بالبشر من أنفسهم، والذي لا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا بد أن يُنفذ هذا الأمر ويُطاع الخالق، وهذا نوع من العبودية له جل ثناؤه، والثاني أن في أداء هذه الطاعات لونًا من الاختبار والامتحان للإنسان ومدى صبره عليها، لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2).
فلا بد أن يتقوى الإنسان على أداء هذه العبادات بالصبر الذي أمره الله به، يقول تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}(3). لأن الجزع يثبط الإنسان عن أداء العبادات؛ بل إنه يأمره في كثير من الأحيان بالمعاصي والخطايا.
وقد كان رسول الأمة عليه الصلاة والسلام القدوة الأولى في الصبر، كان يعبد الله تعالى حتى تتورم قدماه ويصبر على ذلك، فقد ثبت في الصحيحين أنه قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا«(4).
ويقول الرسول الكريم ﷺ: «المجاهد من جاهد نفسه في الله«(5).
وقد حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على غرس خُلق الصبر على الطاعات في نفوس الصغار حين خاطب أولياء أمورهم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين وفرّقوا بينهم في المضاجع«(6).
والإنسان الذي يتربى على خُلق الصبر في الطاعة سيجد عند الكبر لذة هذه الطاعة، بل إنه سيقبل عليها بشغف وقوة وهذا كان شأن الصحابة وسلف هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا النوع من الصبر هو أفضل الأنواع، لأنه قيام بالتكاليف بالاختيار.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ
(1)
[البقرة: 45]
(2)
[الملك:2]
(3)
[يونس: 109]
(4)
أخرجه البخاري (ص586، رقم 3648) كتاب التفسير، باب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك. ومسلم (ص1227، رقم 2819) كتاب صفات المافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.
(5)
أخرجه الترمذي (ص392، رقم 1621) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من مات مرابطًا. وأحمد (6/ 20، رقم 23997). وابن حبان في صحيحه (10/484، رقم 4624). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(6)
أخرجه أحمد (2/187، رقم 6756). والدارقطني في السنن (1/430، رقم 887) وهو حديث حسن.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(96)
أنواع الصبر (2-4)
أنواع الصبر
ثانيًا: الصبر عن المعاصي:
كما أن الصبر مطلوب على طاعة الله تعالى وأداء فرائضه والقيام بواجب الدعوة وما تحمله من متاعب ومصاعب، فإن الصبر مطلوب بالمقابل عن معاصي الله تعالى ونواهيه، وهذا النوع من الصبر هو مقاومة النفس عن اتباع الشهوات والملذات التي حرم الله تعالى على عباده الاقتراب منها وتناولها، لحِكم هو يعلمها جلّ وعلا، وللأضرار التي تنجم عن المعاصي والمنهيات، سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي.
ويجب أن يكون امتناع المؤمن عن المعاصي نابعًا من إيمانه بهذا الدين وأنه تنفيذ لأمر الله تعالى وهدي رسوله ﷺ، وهو المنطلق الذي حرّك في الصحابة ترك المنكرات التي كانوا عليها في الجاهلية، وقد حفلت سيرتهم العطرة بصور رائعة جسّدت معنى الصبر عن المعاصي في صورة عملية فريدة، فهاهم يتركون شرب الخمور ويكسرون دنانها في الأزقة والطرقات بعد نزول آية تحريمها فورًا، وقد كانت هذه الخمر من قبل صديقة سمراتهم وأفراحهم، ولكنهم لم يلقوا لذلك كله بالاً أمام أمر الله تعالى بالاجتناب والترك، وحياة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مليئة بأنواع الصبر عن المعاصي وتركها.
وقد التزم بالصبر عن معاصي الله تعالى ونواهيه أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، الذين يعدّون القدوة للمؤمنين إلى يوم القيامة، فهذا نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام يتعرض لأكبر إغراء من امرأة وزير الدولة وقد تزينت بأصناف الحلي والزينة، وتطلب منه الفاحشة رغم توفر أسبابها من الخلوة وغلق الأبواب وغيرها، ولكنه عليه السلام يصبر على هذا الإغراء والوقوع في المحظور، وتحمّل غربة السجن سنين طويلة من أجل ذلك، إلى أن أكرمه الله تعالى بالنبوة وجعله ملكًا على خزائن مصر.
وهذا هو نبينا محمد ﷺ تعرض له الدنيا مالاً وجاهًا ونساء، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يركن إلى شيء منها، بل إنه عليه الصلاة والسلام استصغرها أمام مهمة الرسالة والدعوة إلى الله، وعبّر عن ذلك لعمه أبي طالب بقوله: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته«(1).
وفي ذلك دروس وعبر لشباب الأمة في مواجهة التحديات المختلفة التي تلاحقهم من كل جانب للنيل من عقيدتهم وقيمهم وأخلاقهم، سواء كانت بوساطة موجات التشويش الفكرية، أو ما تبثه الفضائيات من المجون والسفور والعروض المثيرة التي تخدش الحياء والآداب، وكلها مداخل شيطانية تدغدغ النفس وتحركها للوقوع فيها، ولكن المؤمن الصادق مع الله تعالى، يصبر على ذلك كله ويتذكر قول رسول الله ﷺ: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر«(2).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات«(3).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1)
السيرة النبوية لابن هشام، 1/299.
(2)
أخرجه الترمذي (ص519-520، رقم 2260) كتاب الفتن، باب الصابر على الدينه في الفتن كالقابض على الجمر. وأحمد (2/390، رقم 9061). وهو حديث صحيح.
(3)
أخرجه مسلم (ص1228، رقم 2822) كتاب الجنة ونعيمها، باب صفة الجنة.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(97)
أنواع الصبر (3-4)
أنواع الصبر
ثالثًا: الصبر على أقدار الله المؤلمة:
بما أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإن أقدار الله المؤلمة على عباده كثيرة ومتنوعة، وموقف المؤمن منها الصبر عليها لكسب رضى الله تعالى ومثوبته، ونذكر ثلاثة من هذه الأقدار المؤلمة التي يشترك فيها جميع الناس، وهي:
1- مصيبة الموت
لقد وصف الله تعالى الموت بالمصيبة {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ}(1)
، وهو من البلاءات الكثيرة التي يمتحن الله به عباده، وهو من المصائب الكبيرة على نفس الإنسان، لأنه يفرق الأحباب والأصحاب، ويغيّر النعم واللذات.
والصبر عند مصيبة الموت مأمور به في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، لأنه يكوّن شخصية المؤمن المتزن المرتبط مع ربه والراضي بقدره، فيدخل في النفس السكينة والرضى لنزول هذه المصيبة، فلا يصيب المؤمن حينها الحزن واليأس والضجر، لأنه يعلم أن كل ما في هذا الكون ملك لله، يهب متى يشاء ويقبض متى يشاء، وأعظم الصبر يكون عند الصدمة الأولى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: «اتقي الله واصبري» فقالت: وما تبالي بمصيبتي! فلما ذهب، قيل لها: إنه رسول الله ﷺ، فأخذها مثل الموت. فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال: «إنما الصبر عند أول صدمة» أو قال: «عند أول الصدمة«(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول ﷺ: «يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة«(3).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وفي ولده، حتى يلقى الله يوم القيامة وما عليه من خطيئة«(4).
ومقابلة مصيبة الموت بالصبر والاسترجاع والاحتساب يرضي الله سبحانه وتعالى، ويكتب للعبد الأجر الكبير، وهي صفة لا تتوافر إلا في المؤمن، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه سمعت أبا القاسم ﷺ يقول ما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها، يقول: «إن الله عز وجل يقول: يا عيسى، إني باعث من بعدك أمة، إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم، قال: أعطيهم من حلمي وعلمي«(5).
2- المرض:
المرض من الابتلاءات الكثيرة التي تعرض للبشر، وهو حالة تصيب جسم الإنسان أو نفسيته فيشعر بالتعب والألم، وهو نوع من البلاء يخصه الله من يشاء من عباده فضلاً منه جل وعلا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يقول ﷺ في حديث أنس رضي الله عنه: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط«(6)،ولا يحسبن الذي لم يبتلى بالمرض أن الله راض عنه، بل الصواب على عكس ذلك، فربما يكون من أسباب غضب الله عليه أنه لم يبتليه بمرض أو أية وعكة، لأن المرض فضل من الله تعالى بوصفه كفارة للذنوب والخطايا ولصاحبه الأجر الكبير عند ربه يوم القيامة.
والله سبحانه تعالى ينظر إلى العبد المبتلى بالمرض، وينظر كيف يتلقى حكمه وبلاءه فيه، ومن رحمته جل ذكره بالمبتلى أنه أرشده إلى ما يقوم به أثناء هذا الابتلاء، فأمره بالصبر والرضى لحكمه جل شأنه، لأنه الدواء الناجع لمعالجة المرض وغيره من البلاء، ويضرب لنا عز وجل مثلاً في القرآن الكريم لنبينا أيوب عليه السلام الذي ابتلي في جسده بمرض لم يترك بضعة منه إلا دخله المرض حتى قيل إن الديدان كانت تأكل من جسده الطاهر عليه السلام، فبيَّن جلّ ذكره صبر هذا النبي ورضاه لحكم ربه، أنه لم ينقطع في الثناء على الله وشكره له لما هو فيه، فقال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ}(7).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1)
[المائدة: 106]
(2)
أخرجه مسلم (ص372، رقم 926) كتاب الجنائز، باب الصبر على المصيبة. والبخاري (ص204، رقم 1283) كتاب الجنائز.
(3)
أخرجه البخاري (ص1115، رقم 6424) كتاب الرقائق، باب العمل الذي يراد به وجه الله.
(4)
أخرجه الترمذي (ص547، رقم 2399) كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر مع البلاء. وابن حبان (7/187، رقم 2924). وهو حديث صحيح.
(5)
أخرجه أحمد (6/450، رقم 27585). والحاكم (11/499، رقم 1289) وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
(6)
أخرجه الترمذي (ص546، رقم 2396) كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء. وابن ماجه (ص581، رقم 4031) كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء. وهو صحيح.
(7)
[ص: 44]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(98)
أنواع الصبر (4-4)
رابعًا: الصبر على أذى الناس
إن أذى الناس لا يسلم منه أحد من البشر، وما دام هناك اختلاط وتداخل بينهم فلا بد من وجود هذه الصورة من الابتلاء، وهي صورة تتكرر في واقعنا اليومي، في الشارع وفي العمل وفي الأسواق، وفي المتجر وفي المصنع، وفي الحي، وفي سائر الميادين الأخرى.
والصبر على أذى الناس وسوء أخلاقهم، مطلب ديني وضرورة دعوية، بل يجب أن يذهب المؤمن إلى أبعد من ذلك، فيقابل هذا الأذى بالحسنى والخلق الحميد، لما يترتب على ذلك من مكاسب دعوية في الدنيا وأجر وثواب في الآخرة، وقد كان خُلق الصبر على أذى الناس من صفات النبي ﷺ اللازمة له مع المسلم وغير المسلم، ما دام الأمر لا يتجاوز حدود الله تعالى وحرماته، يقول عليه الصلاة والسلام: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم«(1).
وإذا كان مطلوبًا من المؤمن الصبر على أذى الناس، فالأولى أن يمتنع عن إيذاء الآخرين، أو الإضرار بهم، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، لا سيما إيذاء الجار الذي جعله النبي ﷺ مرتبطًا بمدى الإيمان قوة وضعفًا، في قوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره«(2).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
(1)
أخرجه الترمذي (ص570، رقم 2507) كتاب صفة القيامة، باب فضل المخالطة مع الصبر على أذى الناس. وابن ماجه (ص582، رقم 4032) كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء.
(2)
رواه البخاري، برقم 6018، ص1052.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء