الدرس الخامس والسبعون- الإجماع
مسائل في الإجماع
أولا: لا بدَّ للإجماع من مستند من كتاب أو سنة أو قياس فإجماعهم يكشف عن تشريع لا أنهم المشرعون. وقيل: لا يكون عن قياس.
ثانيا: إذا اختلف المجتهدون في مسألة على قولين أو أكثر فخلافهم إما أن يستقر أو لا يستقر.
والخلاف المستقر هو: أن يمضي بعد الخلاف زمن طويل عرفا يعلم به أن كل قائل مصمم على قوله.
والخلاف غير المستقر هو: أن يمضي بعد الخلاف زمن قصير عرفا لا يتحقق معه تصميم كل قائل على قوله. فقد يرجعون عنه ويتفقون بعد اختلافهم.
ثالثا: إذا اختلف أهل عصر في مسألة على قولين فهل يجوز بعد ذلك الاتفاق على أحدهما؟ فيه تفصيل:
1- إذا حصل الاتفاق من قبل المختلفين أنفسهم بأن اختلفوا في مسألة ثم اتفقوا هم أنفسهم على أحد القولين المختلف فيهما فيصح الإجماع حينئذ سواء استقر الخلاف أم لم يستقر لجواز ظهور مستند جليّ يرفع الخلاف بينهم. وقد اتفق الصحابة على دفن رسول الله في بيت عائشة بعد أن اختلفوا في مكان دفنه. كما اتفقوا على خلافة أبي بكر بعد اختلافهم على الخليفة.
2- إذا حصل الاتفاق ليس من المختلفين أنفسهم بل ممن جاء بعدهم فينظر:
أ- إذا لم يستقر الخلاف فيجوز لمن بعدهم أن يتفقوا على ما اختلف به من قبلهم وصورة المسألة أن يختلف أهل عصر على قولين أو أكثر ثم يموتوا قبل أن يمضي زمن طويل يتحقق به خلافهم ثم يجمع من بعدهم على أحد القولين فيكون الزمن بين اختلاف الأولين وإتفاق الآخرين قصيرا عرفا لا يستقر معه الخلاف بمعنى أن المجتهدين الأوائل قد اختلفوا ولكنهم كانوا في مهلة النظر والتدقيق فلم يتحقق خلافهم وتثبت أقوالهم فماتوا في هذه المدة وجاء من بعدهم فظهر لهم قوة أحد القولين فأجمعوا عليه فهذا جائز.
ب- إذا استقر الخلاف فحينئذ لا يجوز لمن بعدهم الاتفاق على قول لأن اختلافهم المستقر ينبئ عن إتفاقهم على جواز الأخذ بكل من القولين، أي أنهم أجمعوا على الخلاف فلا يجوز الإجماع على خلاف الإجماع الأول.
رابعا: التمسك بأقل ما قيل في مسألة ما حق ومسلك صحيح عند عدم وجود دليل في المسألة؛ لأنه تمسك بما أجمعوا عليه مع ضميمة أن الأصل عدم وجوب الزائد.
مثاله: اختلاف العلماء في دية الذمي الواجبة على قاتله، فقيل: كدية المسلم، وقيل: كنصفها، وقيل: كثلثها، وقد أخذ الشافعي بالثلث لأنهم مجمعون على وجوب الثلث على أقل تقدير والأصل عدم وجوب الزائد وبراءة الذمة فأخذ بالثلث.
( شرح النص )
وأنَّهُ قَدْ يكونُ عنْ قياسٍ وهوَ الأصحُّ فيهما، وأنَّ اتفاقَ السابقينَ غيرُ إجماعٍ وليسَ حُجّةً في الأصحِّ وأنَّ اتفاقَهم على أحدِ قولينِ قبلَ استقرارِ الخلافِ جائزٌ ولو مِن الحادِثِ بعدَ ذوي القولينِ وكذا اتفاقُ هؤلاءِ لا مَن بعدَهم بعدَهُ في الأصحِّ، وأنَّ التَّمسُّكَ بأقلِ ما قيلَ حَقٌّ، وأنَّهُ يكونُ في دينيٍّ ودنيويٍّ وعقليٍّ لا تتوقَّفُ صحتُه عليهِ ولغويٍّ، وأنَّهُ لا بدَّ لهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ وهوَ الأصحُّ.
......................... ......................... ......................... ..................
( و ) علم ( أنَّهُ ) أي الإجماع ( قدْ يكونُ عنْ قياسٍ ) لأن الاجتهاد المأخوذ في حد الإجماع لا بدّ له من مستند كما سيأتي، والقياس من جملته وذلك كإجماعهم على تحريم أكل شحم الخنزير قياسا على لحمه( وهوَ الأصحُّ ) وقيل: لا يجوز أن يكون عن قياس ( فيهما ) أي ما ذكر هو الأصح في المسألتين وهما لا يشترط انقراض العصر وجواز استناد الإجماع إلى قياس ( و ) علم ( أنَّ اتفاقَ ) الأمم ( السابقينَ ) على أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ( غيرُ إجماعٍ وليس حجةً ) في ملته ( في الأصحِّ ) لاختصاص دليل حجية الإجماع بأمته لخبر ابن ماجه وغيره: إن أمتي لا تجتمع على ضلالة. وقيل: إنه حجة بناء على أن شرعهم شرع لنا وسيأتي بيانه ( و ) علم ( أنَّ اتفاقَهُمْ ) أي المجتهدين في عصر ( على أحدِ قولينِ ) لهم أى كأن يقول جماعة منهم بحرمة شيء وأخرى بحله ثم اتفقوا على حرمته أو حله ( قبلَ استقرارِ الخلافِ ) بينهم بأن قصر الزمن بين الاختلاف والاتفاق ( جائزٌ ولو ) كان الاتفاق ( مِنَ الحادثِ ) أي ممن جاء ( بعدَ ذوي القولينِ ) بأن مات أهل العصر الأول أصحاب الخلاف ونشأ غيرهم وكانت المدة بين اختلاف الأولين واتفاق الآخرين قصيرة عرفا لا يستقر فيها خلاف وذلك لجواز أن يظهر مستند جلى يجتمعون عليه، وقد أجمعت الصحابة على دفنه صلى الله عليه وسلّم في بيت عائشة بعد اختلافهم الذي لم يستقر ( وكذا اتفاقُ هؤلاءِ ) أي ذوي القولين (لا مَنْ ) جاء ( بعدهم بعدَه ) أي بعد استقرار الخلاف بأن طال زمنه فإنه جائز لا اتفاق من بعدهم ( في الأصحِّ ) وهذا ما صححه النووي في شرح مسلم، وقيل: لا لأن استقرار الخلاف بينهم يتضمن اتفاقهم على جواز الأخذ بكل من شقي الخلاف باجتهاد أو تقليد، فيمتنع اتفاقهم على أحدهما. قلنا: تضمن ما ذكر مشروط بعدم الاتفاق على أحدهما بعده فإذا وجد فلا اتفاق قبله، والحاصل أنه إن لم يستقر الخلاف فيجوز بعد اتفاق المختلفين أنفسهم أو من جاء بعدهم، وإن استقر الخلاف فيجوز للمختلفين أنفسم الاتفاق ولا يجوز لمن جاء بعدهم ( و ) علم ( أنَّ التَّمَسُّكَ بأقلِّ ما قيلَ ) من أقوال العلماء حيث لا دليل سواه ( حقٌّ ) لأنه تمسك بما أجمع عليه مع كون الأصل عدم وجوب ما زاد عليه كاختلاف العلماء في دية الذمي الكتابي، فقيل كدية المسلم، وقيل كنصفها، وقيل كثلثها فأخذ به الشافعي لذلك، فإن دل دليل على وجوب الأكثر أخذ به كغسلات ولوغ الكلب قيل إنها ثلاث، وقيل سبع ودل عليه خير الصحيحين فأخذ به ( و ) علم ( أنَّهُ ) أي الإجماع قد ( يكونُ فيدينيٍّ ) كصلاة وزكاة ( ودنيويٍّ ) كتدبير الجيوش وأمور الرعية ( وعقليٍّ لا تتوقّفُ صِحّتُهُ ) أي الإجماع ( عليهِ ) كحدوث العالم ووحدة الصانع، فإن توقفت صحة الإجماع عليه كثبوت الباري والنبوة لم يحتج فيه بالاجماع وإلا لزم الدور وتوضيحه سيأتي قريبا ( ولغويٍّ ) ككون الفاء للتعقيب ( و ) علم ( أنَّهُ ) أي الإجماع ( لا بدَّ لهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ ) أي دليل، وإلا لم يكن لقيد الاجتهاد المأخوذ في حده معنى ( وهُوَ الأصحُّ ) لأن القول في الأحكام بلا مستند خطأ، وقيل: يجوز حصوله بغير مستند بأن يلهموا الاتفاق على صواب. وخلاصة ما قيل في الإجماع في العقليات- أي في أمور العقائد- إننا لا يجوز أن نحتج على وجود الله سبحانه أو على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع الأمة للزوم الدور وهو باطل فإنه إذا قيل بمَ أثبتم وجود الله والنبوة لنبيكم ؟ وقلنا: بإجماع علمائنا المجتهدين. فسيقال: وبم ثبتت حجية إجماعهم. فنقول: بالكتاب والسنة. فيقال: وبم عرفتم نبوة من جاء بالكتاب والسنة ووجود الخالق الذي أرسله. فنقول: بالإجماع، فصار دورا باطلا. أما ما عدا القدر الذي يثبت به وجود البارئ وثبوت النبوة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيمكن أن يثبت بالإجماع لعدم لزوم الدور.