رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي
الإجماع السكوتي تعريفه وحكمه:
[المتن]:
[وإذا قال بعض المجتهدين قولا وانتشر في الباقين وسكتوا، فعنه: إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية(1)، وقيل: حجة لا إجماع(2)، وقيل: لا إجماع ولا حجة(3)].
[الشرح]:
(1) (وإذا قال بعض المجتهدين قولا وانتشر في الباقين وسكتوا، فعنه: إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية):
هذا شروع منه في بيان الإجماع السكوتي، الكلام السابق في الإجماع الصريح، لا بد من الاتفاق قولا؛ أن ينص كلُ عالم من المتفقين على الحكم صراحة.
(وإذا قال: بعض المجتهدين قولا): "المجتهدين" قيد في قوله: "علماء العصر"، أو "أهل الحل والعقد".
(قولا وانتشر في الباقين وسكتوا): إذًا لم يتكلم الكل، "الباقين" مراده هنا من؟
باقي المجتهدين؛ لأنه قال: "بعض المجتهدين".
(إذا قال: بعض المجتهدين): أين البعض الآخر؟ سكتوا.
(وانتشر في الباقين وسكتوا): لكن مع قدرتهم على الاعتراف أو الإنكار، لو أرادوا أن ينكروا على هذا القول لأنكروا، أو أن يقولوا بما قال به ذاك البعض لقالوا، أما إذا وُجد خوف أو نحوه فلا اعتبار حينئذ.
(فعنه): عن الإمام أحمد.
(إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية): أي حجة قطعية في الأحكام المتعلقة بالتكليف، وبعضهم يجعل "في التكاليف" هذا قيدا في الإجماع السكوتي؛ أنه لا عبرة به، أو أن الخلاف في الأحكام الشرعية الفرعية، أما العقدية فلا، لا بد من الإجماع الصريح.
إذًا عنه أنه حجة قطعية في التكاليف، وإذا لم يكن الحكم تكليفيًا لم يكن إجماعًا ولا حجة، لماذا؟
قالوا: لأن الساكت هنا يُنزَّل منزلة الراضي الموافِق، وإن كان الأصح أنه لا يُنسَب لساكت قول.
(2) (وقيل: حجة لا إجماع):
(وقيل: حجة): أي حجة ظنية.
(لا إجماع): يمتنع مخالفته؛ لأنه إذا قيل: إجماع؛ فإنه لا يجوز مخالفته، وإذا قيل: حجة، لا إجماع؛ صار الحجة يجوز مخالفتها، والإجماع لا يجوز مخالفته.
هنا قال: (حجة لا إجماع)، السابق: (فعنه إجماع)؛ وعليه فهو حجة، ولم يصرح بالحجة؛ لأن كل إجماع حجة.
هنا قال: (وقيل: حجة): أي الإجماع السكوتي حجة ظنية، وليس بإجماع؛ لأن الحجة يجوز مخالفتها، يجوز للإنسان أن يُخالف، وأما الإجماع فلا يجوز مخالفته؛ لذلك فُرّق بينهما.
لماذا اعتبر حجة وليس إجماعا؟
لعدم تحقق حقيقة الإجماع التي هي "اتفاق"، ولا بد من الاتفاق، والاتفاق الحقيقي إنما يكون بالتصريح؛ أن ينطق ويتكلم كل عالم مجتهد بالحكم، وهنا لم يوجد هذا القيد؛ لذلك صار حجة فقط، لكن لما كان لرجحان دلالة السكوت على الموافقة اعتُبر حجة ظنية؛ يعني لما ورد إيهام أن سكوت البعض للرضا -والرضا هو الظاهر، وهو الراجح- اعتبر حجة ظنية، لا إجماع، إذًا نُفي الإجماع لعدم تصريح الباقين بالحكم الشرعي، واعتبر حجة؛ لأن الظاهر المتبادر أن سكوت الباقين إنما سكتوا للرضا والموافقة، ولذلك فُصِّل بين القولين.
(3) (وقيل: لا إجماع ولا حجة):
لماذا؟
لأنه لا يُنسَب لساكت قول.
لأن سكوت البعض له احتمالات، يحتمل أنه سكت خوفا، أو جُبنا، أو خجلا، يكون المتكلمون كبارا فسكت هو من باب الحياء، ويحتمل أنه لم يبلغه القول، أو أنه لم يعلم حكم المسالة، يحتاج إلى بحث، فالسكوت لا يدل على الرضا المطلق، ولا يدل على الموافقة، بل فيه احتمالات.
رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي
مستند الإجماع:
[المتن]:
[ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد، وأحاله قوم، وقيل: يتصور وليس بحجة(1)].
[الشرح]:
(1) (ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد، وأحاله قوم، وقيل: يتصور وليس بحجة):
الإجماع لا بد وأن يكون مستندا إلى نص من كتاب أو سنة، هذا شرط الإجماع، هل يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد؟
قالوا: يجوز، هنا قال: نعم، وهذا مذهب الأكثرين؛ أن ينعقد الإجماع لا عن دليل من كتاب أو سنة، لماذا؟
قالوا: لأنه وقع وحصل، أجمعوا على تحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه، والقياس هذا من باب الاجتهاد والرأي، هذا قول.
(وأحاله قوم): يعني منعوه، قالوا: لا يُتصور عقلا، أحالوه من العقل، قالوا: لا يجوز عقلا أن ينعقد عن اجتهاد؛ يعني لا يُتصور الإجماع عن اجتهاد وقياس؛ لأن القياس مختلف في ثبوته أصلا فكيف يكون الأصل مختلفًا فيه والفرع متفقًا عليه؟! هذا لا يُتصَور.
(وقيل: يتصور وليس بحجة): لأنه اجتهاد ظني، والإجماع دليل قطعي.
والصواب: الأول؛ أنه يجوز، وهو مذهب الأكثرين؛ لأنه لا يمتنع اتفاق الأمة على حصول ظني الحكم بالقياس، ثم تُجمع على ذلك الحكم؛ يعني يحصل قياس، ثم ما أفاده القياس يكون حكمًا ظنيًا، ثم ينعقد الإجماع على وجود ذلك الحكم الظني الذي حصل بالقياس.
رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي
هل الأخذ بأقل ما قيل تمسك بالإجماع:
[المتن]:
[والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع(1)].
[الشرح]:
(1) (والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع):
يعني إذا اختُلف في مسألةٍ ما؛ قال بعضهم: إزالة النجاسة لا تكون إلا بثلاث، وقال آخرون: بسبع، إذًا من نص على الثلاث نفى الزيادة، ومن قال بسبع قال بالثلاث ثم زاد، إذا تركنا ما زاد على الثلاث وأخذنا بالثلاث -الوسط بين القولين- إذًا هل يكون إجماعا أو لا؟
لا يكون إجماعًا؛ لجواز مخالفته، لو قيل: إن الثلاث قد أُجمع عليها؛ حينئذ لا يجوز أن يقول قائل بالسبع، فإذا جُوِّز أن يقول: بالسبع دلّ على أنه لا إجماع؛ لأنه لو حصل الإجماع صار حجة، وصار دليلا قاطعًا.
رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي
قول الخلفاء الأربعة ليس بإجماع:
[المتن]:
[واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع(1)، وقد نقل عنه: لا يُخْرج عن قولهم إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع(2)].
[الشرح]:
(1) (واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع):
لأنهم بعض الأمة، وشرط الإجماع أن يكون اتفاق كل الأمة، والعصمة المرتبة على الإجماع مقرونة بالكل لا بالبعض.
(2) (وقد نقل عنه: لا يُخْرج عن قولهم إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع):
(لا يُخرَج عن قولهم): هذا معروف عن الإمام أحمد، وجعله ابن القيم -رحمه الله- من أصول مذهب الإمام أحمد؛ أنه لا يعدل عن قول، أو لا يأتي بمسألة ليس للصحابة فيها قول، فإذا وُجد قول فيها للصحابة فلا يعدل عنهم، ولكن الظاهر هنا أنه أراد به الخلفاء الأربعة دون غيرهم؛ لذلك قال: (لا يُخرَج عن قولهم)؛ أي الأربعة.
(إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع): إذًا لا يُعتَبر اتفاق الأربعة الخلفاء إجماعا.
فإذا قيل: ليس بإجماع، لكن ليس المراد أنه من السهولة أن يُخالَف، لا، إذا وجد حُكم اتفق عليه الأربعة فهو أولى بالاتباع.
رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي
الاستصحاب تعريفه، وحكمه:
[المتن]:
[وأما الأصل الرابع ـ وهو دليل العقل في النفي الأصلي ـ فهو : أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف، فيستمر حتى يرد غيره ويسمى استصحابا، وكل دليل فهو كذلك، فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ، والملك حتى يرد المزيل، والنفي حتى يرد المثبت، ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك(1)، وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابا للإجماع فـفاسد عند الأكثرين، خلافا لابن شاقلا، وبعض الفقهاء، فهذه الأصول الأربعة لا خلاف فيها(2)].
[الشرح]:
(1) (وأما الأصل الرابع، وهو دليل العقل في النفي الأصلي، فهو : أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف، فيستمر حتى يرد غيره ويسمى استصحاباً، وكل دليل فهو كذلك، فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ، والملك حتى يرد المزيل، والنفي حتى يرد المثبت، ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك):
انتقل إلى الأصل الرابع، وهو دليل العقل في النفي الأصلي، وهو أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف حتى يرد غير ذلك.
وقد ذكرنا أن الأصول المتفق عليها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والنفي الأصلي، والمراد به استصحاب العدم.
(وأما الأصل الرابع): من الأصول المتفق عليها.
(وهو دليل العقل في النفي الأصلي): هل يثبت بالعقل أحكام شرعية؟
الجواب: لا، ليس هذا المراد، وإنما مرادهم أن الأحكام الشرعية إثباتها؛ إما بالإثبات، أو بالنفي؛ لأن النفي حكم كما أن الإثبات حكم.
حينئذ نقول: الأحكام الشرعية إما من جهة الإثبات أو من جهة النفي، الإثبات لا يكون إلا بدليل شرعي، لا تثبت عبادة إلا بدليل شرعي، لكن النفي للعقل فيه مدخل؛ يعني يُحكَم بدلالة العقل الذي يسمى بالبراءة الأصلية على نفي الأحكام قبل ثبوتها، فيقول لك: الأصل عدم التكليف؛ لأنه كما سبق أن العلم بالمُكلف لا بد أن يكون ثابتًا، فإذا لم يكن ثابتًا فلا تكليف، فدلّ العقل على نفي التكليف؛ إذًا للعقل مجال في نفي الأحكام الشرعية التي لم تكن ثابتة بالأصالة، أما ثبوتها فيحتاج إلى دليل؛ لأن الثبوت إيجاد، وهذا لا بد من دليل، والنفي عدم، وإذا كان موافقًا للأصل فلا إشكال.
أما إذا ورد النفي بعد الإثبات فلا عبرة بالنفي؛ يعني لو ثبت أن الصلوات خمس، فقال قائل: ليست بخمس.
نقول: نفيه هذا لا يُعتبَر؛ لأن الحكم ثبت.
لكن لو قال: لا صلاة سادسة واجبة على المكلفين كل يوم.
نقول: وجوب صلاة سادسة هل ثبت أو لا؟
لم يثبت، إذًا نفيه بالعقل؛ نقول: هذا هو الاستصحاب الذي سيذكره المصنف هنا، وهو دليل العقل في النفي الأصلي المسمى عندهم بالاستصحاب؛ أي البراءة الأصلية؛ بمعنى أن العقل دلّ على براءة الذمة من الواجبات قبل مجيء الشرع.
(فهو: أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف): ذمة المكلف قبل الشرع، قبل إثبات الأحكام ونزول الشريعة بريئة ومنفكة من التكاليف مطلقًا، فلا إيجاب إلا بدليل، ولا تحريم إلا بدليل، ولا كراهة إلا بدليل، ولا توجب أي عبادة إلا بدليل؛ لأن الأصل عدم التكليف، وأن الذمة قبل تعلق الشريعة بالمكلفين بريئة من التكاليف كلها بلا استثناء.
(فيستمر حتى يرد غيره): أي فيستمر النفي الأصلي حتى يرد غيره، وهو الدليل الشرعي الناقل عن الأصلي، فنقول: الأصل عدم إيجاب صلاة مطلقًا في ذمة المكلف، فيستمر هذا النفي حتى يثبت أن ثم خمس صلوات واجبة على المكلف في اليوم والليلة، فهو دليل شرعي ناقل عن البراءة الأصلية.
(ويُسمى استصحابًا): يسمى الدليل العقلي في النفي الأصلي استصحابًا، استفعال من طلب الصحبة؛ كالاستغفار طلب المغفرة.
واصطلاحًا: استدامة إثبات ما كان ثابتًا أو نفي ما كان منفيًا، هكذا عرّفه ابن القيم -رحمه الله-.
استدامة إثبات ما كان ثابتًا، فالأصل العموم، الأصل أن اللفظ عام يشمل كل الأفراد ولا يُخرَج عنه إلا بدليل التخصيص، ولا دليل، إذًا الإثبات أو العدم هنا الأصل، الأصل الإثبات؛ استدامة إثبات ما أثبته الدليل حتى يرد المخصص، أو نفي ما كان منفيًا، الأصل عدم وجوب صلاة سادسة فيبقى هذا الأصل حتى يرد دليل يثبت الصلاة السادسة.
(وكل دليل فهو كذلك): كل دليل يصلح أن يكون مُستصحَبًا، كل الأدلة الشرعية، كل دليل يُتصَوّر الاستصحاب فيه.
(فالنص حتى يرد الناسخ): يعني فالأصل الإحكام ولا نسخ، إذا تردد وصار الاحتمال بين أن يكون الحكم منسوخًا أو لا؛ نقول: الأصل عدم النسخ، هذا استصحاب للدليل الشرعي حتى يرد الناقل، ولا يوجد ناقل بالحكم؛ بأن الحكم منسوخ هنا.
(والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ): الأصل العموم حتى يرد المُخصص، اللفظ العام يُحمَل الحكم المُعلَق عليه على كل فرد فرد من أفراد موضوعه، ولا يُخرَج فرد واحد إلا بدليل يدل على التخصيص، لو احتمل التخصيص؛ نقول: الأصل بقاء العموم على عمومه حتى يرد المُخصص، هذا استصحاب للدليل الأصلي.
(والملك حتى يرد المزيل): والأصل المُلك حتى يرد المزيل؛ يعني إذا كانت السلعة في يد المكلف نقول: الأصل أنه مالك لها ولا يثبت عكس ذلك؛ عكس الملك إلا بدليل؛ إما بإثبات أنه وهبها أو باعها أو أجّرها .. إلخ، فالأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا كان هو مالكًا للسعلة فنقول: الأصل أنه مالك لها، ولا تزول يده عنها إلا بدليل، ومثله الطهارة، نقول: الأصل الطهارة إذا شك في الحدث؛ استصحاب الأصل، وهو أنه متطهر، وإذا كان الأصل الحدث وشك في الطهارة فنقول: الأصل معتمد، وهو استصحاب الحدث.
(والنفي حتى يرد المُثبِت): الأصل النفي، لا صلاة سادسة، لا إيجاب صوم غير رمضان حتى يرد المُثبت، هذه أمثلة ذكرها المصنف هنا لتدل على أن الاستصحاب أربعة أنواع:
الأول: استصحاب البراءة الأصلية، ومثّل له بقوله: (والنفي حتى يرد المُثبت)، هذا هو الأصل، استصحاب البراءة الأصلية، وهو المراد عند الإطلاق.
الثاني: استصحاب الدليل الشرعي الأصلي حتى يرد الناقل، وإذا أُطلق الاستصحاب أيضًا انصرف إلى هذا، ومثَّل له بقوله: (فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخصص).
الثالث: استصحاب الوصف المُثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه، استصحاب الوصف المُثبت للحكم -كالملك- هذا مثبت للحكم، والطهارة المُثبتة للحكم، والحدث المُثبت للحكم، الأصل استصحاب هذا الوصف حتى يرد الناقل.
الرابع: وسيذكره المصنف فيما يأتي: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، إذًا أربعة أنواع للاستصحاب ذكرها في هذه الأمثلة السابقة.
(ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك) يعني بالأخير. قال:
(والنفي حتى يرد المُثبت): مثل ماذا؟
(وجوب صلاة سادسة): الأصل عدم الوجوب، حينئذ يُستصحَب عدم إيجاب صلاة سادسة، سادسة يعني يومية على الخمس صلوات، وأما النذر ونحوه فهذا لا يكون يوميًا، ولا يُقال: صلاة سادسة، سادسة على ماذا؟ أين الخامسة والرابعة؟ المراد بها الخمس صلوات؛ لأنها واجبة بإجماع، هل هناك صلاة سادسة؟ لأنا إذا قلنا: بوجوب الوتر صار الإيجاب ستا لا خمسا؛ لأنه لو ترك الوتر لصار آثمًا، ولو ترك فرضا من الفروض الخمس صار آثما، وإن كان يختلف في بعض الأحكام.
(ووجوب صلاة سادسة): كمن أوجب صلاة الوتر، للنافي أن يقول: لا تجب فيستصحب العدم.
(وصوم غير رمضان): يُنفى بذلك أيضًا، إيجاب صوم مستمر على كل المكلفين غير شهر رمضان نقول: يُنفى بذلك.
(2) (وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابا للإجماع فـفاسد عند الأكثرين، خلافا لابن شاقلا، وبعض الفقهاء):
(وأما استصحاب الإجماع): وهو النوع الرابع من أنواع الاستصحاب.
(وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم): أي في محل النزاع.
(مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم): المتيمم الذي فقد الماء حسًا أو حكما أجمع العلماء على أنه إذا تيمم صحت صلاته ابتداء وانتهاء؛ لعدم وجود الماء، فله أن يشرع في الصلاة بالتيمم، هذا بالإجماع، لكن لو رأى الماء في أثناء الصلاة فما الحكم؟
اختلف العلماء، هنا قال:
(الإجماع على صحة صلاة المتيمم): هذا مُجمَع عليه، ابتداء الشروع في الصلاة متيممًا عند عدم وجود الماء هذا مُجمَع عليه، لكن إذا وُجد الماء في أثناء الصلاة نقول: هذه مسالة أخرى؛ ولذلك وقع النزاع فيها؛ إذ لو كان الإجماع الأول يدل على الثاني لما وقع نزاع.
(فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابًا للإجماع): من رأى استصحابًا للإجماع استصحبه.
ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الإجماع إنما دل على الدوام فيها حال عدم الماء؛ يعني الإجماع على صحة الصلاة المتيمم بشرط عدم وجود الماء، فالإجماع مخصوص بحالة معينة، وليس مطلقًا أن المتيمم تصح صلاته مطلقًا؛ كل من تيمم عند عدم وجود الماء فصلاته صحيحة، ولذلك لو تيمم فوُجد الماء قبل الشروع في الصلاة بطل تيممه، مع أنهم أجمعوا على أن له أن يشرع في الصلاة، كذلك لو وجد الماء بعد شروعه في الصلاة الإجماع الأول لا يشمل الحالة الثانية؛ لأن إجماعهم مُقيَّد بعدم وجود الماء، فإذا وُجد الماء الإجماع لم ينعقد حينئذ، ففرق بين العدم والوجود، فلا يقاس الوجود على العدم.
بعض أهل العلم استصحب ورأى أنه يصح استصحاب الإجماع فاستصحب الإجماع الأول على الحالة الثانية فصحح الصلاة مع وجود الماء في أثناء الصلاة، ومن قال: بالمنع، قال: بطلت صلاته؛ لأنه وُجد الماء، إنما جاز التيمم له عند عدم الماء.
(ففاسد عند الأكثرين) "ففاسد"، الفاء هذه واقعة في جواب "أما"، (وأما استصحاب الإجماع)؛ يعني في محل النزاع، (ففاسد عند الأكثرين)؛ يعني الاستصحاب فاسد؛ لأن الكلام ليس في مسألة الصلاة والتيمم؛ لأن هذه مسألة فرضية، ليس البحث فيها، وإنما هي مثال لما استصحب فيه بعض المجتهدين الإجماع في محل النزاع؛ نقول: الاستصحاب فاسد بقطع النظر عن ماهية وحقيقة المسألة.
(ففاسد عن الأكثرين): يعني عند الجمهور؛ لأن فرقًا بين الحالين، الإجماع انعقد على حال عدم الماء، ومحل النزاع فيما إذا وُجد الماء، وفرق بين الوجود والعدم.
(خلافًا لابن شاقْلا): "شاقلا" بإسكان القاف وفتح اللام، وبعضهم يقرأها شاقّلا.
(وبعض الفقهاء): في أنه حجة، وابن القيم يميل إلى هذا؛ إلى أنه حجة.
(خلافًا لابن شاقلا وبعض الفقهاء): في أن استصحاب الإجماع حجة؛ لأنه يحسم الخلاف، فيستحيل وقوعه، فالإجماع انعقد على صحة صلاة المتيمم حالة الشروع، والدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلا بدليل؛ يعني قلبوا القضية.
والصحيح أن نقول: الصلاة باطلة؛ لأن الإجماع انعقد في حالة غير حالة الوجود.