القاعدة الثالثة عشرة: ((إِذا وُجِدَ الاحتمالُ بَطَلَ الاستدلالُ([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((ويَحْرُمُ على المحدِثِ مسُّ المُصْحَفِ والدَّليل على ذلك:
1- قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الواقعة: 77- 80 ].
وجه الدَّلالة: أنَّ الضَّمير في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} يعود على القرآن؛ لأن الآيات سِيقت للتَّحدُّث عنه بدليل قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، والمنزَّل هو هذا القرآن، والمُطَهَّر: هو الذي أتى بالوُضُوء والغُسُل من الجنابة، بدليل قوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة: 6].
وقال داود الظَّاهري وبعض أهل العلم: "لا يحرم على المُحْدِثِ أن يَمَسَّ المصحف".
واستدلُّوا: بأن الأصل براءةُ الذِّمة، فلا نُؤَثِّم عباد الله بفعل شيء لم يَثْبُتْ به النَّص.
وأجابوا عن أدلَّة الجمهور:
أما الآية فلا دلالة فيها، لأن الضَّمير في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} يعود إلى «الكتاب المكنون»، والكتاب المكنون يُحْتَمَلُ أن المرادَ به اللوحُ المحفوظ، ويُحْتَملُ أن المرادَ به الكتب التي بأيدي لملائكة؛ فإن الله تعالى قال: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [عبس: 11- 15]، وهذه الآية تفسير لآية الواقعة، فقوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} كقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}.
وقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} ، كقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ }.
والقرآنُ يُفسِّر بعضه بعضًا، ولو كان المراد ما ذَكَرَ الجمهور لقال: «لا يمسُّه إلا المطَّهِّرون» بتشديد الطاء المفتوحة وكسر الهاء المشددة، يعني: المتطهرين، وَفَرْقٌ بين «المطهَّر» اسم مفعول، وبين «المتطهِّر» اسم فاعل، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ} [البقرة: 222] .
وقولهم: إن الخبر يأتي بمعنى الطَّلب، هذا صحيح لكن لا يُحْمَلُ الخبر على الطلب إِلا بقرينة، ولا قرينة هنا؛ فيجب أن يبقى الكلام على ظاهره، وتكون الجملة خَبَريَّة، ويكون هذا مؤيِّدًا لما ذكرناه من أن المراد بـ «المطهَّرون» ، الملائكة كما دلَّت على ذلك الآيات في سورة «عبس».
ثم على احتمال تساوي الأمرين، فالقاعدة عند العلماء «إنه إِذا وُجِدَ الاحتمال بَطلَ الاستدلال» فيسقط الاستدلال بهذه الآية، فنرجع إلى براءة الذِّمة([2])))اهـ.
وقال الشيخ – أيضًا – رحمه الله – وهو يتكلم في مسألة مس المصحف لغير المتوضئ: ((وأما بالنسبة لحديث عمرو بن حزم: «ألا يمسَّ القرآن إلا طاهر([3])»: فهو ضعيف؛ لأنه مُرسَل، والمرسل من أقسام الضَّعيف، والضَّعيف لا يُحْتَجُّ به في إثبات الأحكام؛ فضلًا عن إِثبات حُكْمٍ يُلْحِقُ بالمسلمين المشَقَّة العظيمة في تكليف عباد الله ألا يقرؤوا كتابه إلا وهم طاهرون، وخاصَّة في أيام البرد.
وإذا فرضنا صِحَّتَهُ بناء على شُهْرَتِهِ فإن كلمةَ «طاهر» تَحْتَمِلُ أن يكونَ طاهرَ القلب من الشِّرك، أو طاهر البَدَنِ من النَّجَاسَة، أو طاهرًا من الحدث الأصغر؛ أو الأكبر، فهذه أربعة احتمالات، والدَّليل إِذا احتمل احتمالين بَطلَ الاستدلال به، فكيف إِذا احتمل أربعة؟([4])))اهـ.
([1]) ذكرها الشيخ رحمه الله: (1/ 318)، (1/ 405)، (1/ 443)، (4/ 219)، (15/ 345).
([2]) (1/ 318، 319) باختصار يسير.
([3]) أخرجه الطبراني في «الكبير» (13217)، والدارقطني (1/ 121) ، والبيهقي (1/ 88).
([4]) (1/ 319).