-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
تابع الدرس السادس
وَعَلَى جَبِيرَةٍ لَمْ تُجَاوِزْ قَدْرَ الْحَاجَةِ إِلَى حَلِّهَا([1])، وَإِنْ جَاوَزَتْهُ([2]) أَوْ وَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لَزِمَ نَزْعُهَا([3])، فَإِنْ خَافَ الضَّرَرَ تَيَمَّمَ مَعَ مَسْحِ مَوْضُوعَةٍ عَلَى طَهَارَةٍ([4]).
[1])) أي: ويجوز المسح على الجبيرة؛ وهي الشيء الذي يُوضع على الكسر أو الجُرح ليلتئم، إن لَمْ تتجاوز قد الحاجة، إلى أن يحلها؛ والحاجة تكون بقدر ما يغطي الجُرح، وما يُحتاج إليه إلى شدها وربطها.
واستدلوا على جواز المسح على الجبائر بما رواه ابن ماجه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ. وهو حديث ضعيف جدًّا، قال الشوكاني رحمه الله: ((قد اتفق الحفاظ على ضعفه)). كما استدلوا على ذلك أيضًا بعلة؛ وهي أنه ملبوس يشق نزعه.
قلت: وهذه علة صحيحة.
فإن قيل: ما دام أنه يشق نزعه لمرض، فإنه يتيمم له؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
قلنا: هذا في حالة تعذر استعمال الماء تمامًا، أما في حالة القدرة على استعماله ولو بالمسح، فهو أولى من التيمم؛ لأن هذا البدل أقرب إلى الأصل من التيمم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ((مجموع الفتاوى)) (21/ 178): ((الخف إذا تعذر خلعه فالمسح عليه أولى من التيمم، وإن قُدِّرَ أنه لا يمكن خلعه في الطهارة الكبرى فقد صار كالجبيرة يمسح عليه كله كما لو كان على رجله جبيرة يستوعبها، وأيضا فإن المسح على الخفين أولى من التيمم؛ لأنه طهارة بالماء فيما يغطي موضع الغسل؛ وذاك مسح بالتراب في عضوين آخرين: فكان هذا البدل أقرب إلى الأصل من التيمم؛ ولهذا لو كان جريحًا وأمكنه مسح جراحه بالماء دون الغسل: فهل يمسح بالماء أو يتيمم؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد ومسحهما بالماء أصح)).
قلت: ويمكن أن يُستدل على ذلك أيصًا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَمَرْتُكُمْ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»؛ فإن المصلي إذا لَمْ يستطع السجود لزمه أن يخفض في سجوده أكثر من ركوعة؛ إن استطاع ذلك، والطائف حول البيت إن لَمْ يستطع الطواف على قدمه طاف محمولًا، وهكذا في سائر العبادات يأتي بها المرء بما هو أقرب للأصل؛ ما دام يستطيع ذلك. والله أعلم.
[2])) فإن جاوزت موضع الحاجة، وجب نزع الجزء المجاوِز؛ لغَسل ما تحته؛ لأنه لا حاجة إليه؛ فوجب غَسله.
[3])) ذهبوا إلى ذلك قياسًا على الخف؛ قالوا: الخف لا بد أن يُلبس على طهارة، فكذلك الجبيرة.
والصحيح أنه لا يجب لُبس الجبيرة على طهارة؛ وهي تفارق الخف في أن الخف يُلبس اختياريًا، وأما الجبيرة فتُلبس اضطراريًا، وتأتي مفاجأة، قد يكون المصاب حينها على طهارة، وقد لا يكون، فإن قيل له: تطهر أولًا قبل وضع الجبيرة، فقد يتضرر لذلك؛ وعليه فلا تجب الطهارة للجبيرة. والله أعلم.
وقد جاء عدم اشتراط الطهارة للجبيرة في رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله جميعًا.
[4])) أي: إن خاف الضرر إذا نزع الجزء الزائد المجاوِز لموضع الحاجة، فإنه يتوضأ، ويتيمم لهذا الجزء الزائد عن موضع الحاجة.
والصحيح أنه إن كان سيتضرر بنزع الجزء الزائد، فإنه يمسح عليه أيصًا؛ لأنه إن كان نزعه يضره، كان وجوده ضرورة، فجاز المسح عليه.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
ولك مثله أخيى عبد الله وحفظك الله مع أخينا محمد طه ولا تتردد في طرح الإشكالات فنحن بعون الله نتعاون على الخير من أجل العلم النافع بغية الفوز بالجنان والله الهادي إلى سواء السبيل
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
بارك الله فيكم . شرح مختصر ممتع .
ولكن أحب أن أضيف أن الأحاديث التي وردت في المسح على نحو الخف كالجوربين والموقين وأمثالهما ، لا تصح أحاديثها كلها ، بل أعلها الحفاظ ، وإن كان قد قواها جمع من أهل العلم ، إلا أن الصحيح الذي عليه حفاظ الحديث من المتقدمين أنه لا يصح ، هذا من الناحية الحديثية ، أما الفقهية ، فكما قال أخونا أبو يوسف محمد طه أنها تأخذ معنى الخف ، فالحكم واحد ، والله أعلم .
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو مالك المديني
بارك الله فيكم . شرح مختصر ممتع .
ولكن أحب أن أضيف أن الأحاديث التي وردت في المسح على نحو الخف كالجوربين والموقين وأمثالهما ، لا تصح أحاديثها كلها ، بل أعلها الحفاظ ، وإن كان قد قواها جمع من أهل العلم ، إلا أن الصحيح الذي عليه حفاظ الحديث من المتقدمين أنه لا يصح ، هذا من الناحية الحديثية ، أما الفقهية ، فكما قال أخونا أبو يوسف محمد طه أنها تأخذ معنى الخف ، فالحكم واحد ، والله أعلم .
أخي أبا مالك، بارك الله فيك،
أرجو منك شرح ميسر لإخوانك في سنة أولى علم شرعي (ابتسامة)
زادك الله علماً نافعاً
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو مالك المديني
بارك الله فيكم . شرح مختصر ممتع .
ولكن أحب أن أضيف أن الأحاديث التي وردت في المسح على نحو الخف كالجوربين والموقين وأمثالهما ، لا تصح أحاديثها كلها ، بل أعلها الحفاظ ، وإن كان قد قواها جمع من أهل العلم ، إلا أن الصحيح الذي عليه حفاظ الحديث من المتقدمين أنه لا يصح ، هذا من الناحية الحديثية ، أما الفقهية ، فكما قال أخونا أبو يوسف محمد طه أنها تأخذ معنى الخف ، فالحكم واحد ، والله أعلم .
جزاكم الله خيرًا شيخنا على هذا المرور المبارك
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله طالب علم
أخي أبا مالك، بارك الله فيك،
أرجو منك شرح ميسر لإخوانك في سنة أولى علم شرعي (ابتسامة)
زادك الله علماً نافعاً
لو قام شيخنا أبو مالك بشرح كتاب في المصطلح لانتفع الإخوة بذلك نفعًا كبيرًا
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
لو قام شيخنا أبو مالك بشرح كتاب في المصطلح لانتفع الإخوة بذلك نفعًا كبيرًا
و أنا أول المؤيدين (ابتسامة)
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله طالب علم
و أنا أول المؤيدين (ابتسامة)
الشيخ أبو مالك هو شيخي الذي تعلمت منه الأدب قبل العلم، وقد درست على يديه بعضًا من كتاب التمييز للإمام مسلم، وأخذت معه أيصًا دورة في التخريج العملي للأحاديث، وهو - حفظه الله - ممن يشار إليهم بالبنان في علم الحديث
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
الشيخ أبو مالك هو شيخي الذي تعلمت منه الأدب قبل العلم، وقد درست على يديه بعضًا من كتاب التمييز للإمام مسلم، وأخذت معه أيصًا دورة في التخريج العملي للأحاديث، وهو - حفظه الله - ممن يشار إليهم بالبنان في علم الحديث
ما شاء الله، الحمد لله الذي يسر لنا شيوخ أجلاء مثلكم، بارك الله فيكم أجمعين و نفعكم بما عَلَّمَكُم.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
نسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعًا بالعلم والعلماء
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اللهم اجعلني خيرا مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤخذني بما يقولون ، جزاكم الله خيرا أن أحسنتم الظن بأخيكم الفقير إلى عفو ربه ، إنما أنا مثلكم ـ بل أقل ـ وأنتفع بما تقولون ، وأسأل الله أن يجمعنا في جناته ، كما جمعنا هنا في هذا الملتقى الكريم .
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو مالك المديني
اللهم اجعلني خيرا مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤخذني بما يقولون ، جزاكم الله خيرا أن أحسنتم الظن بأخيكم الفقير إلى عفو ربه ، إنما أنا مثلكم ـ بل أقل ـ وأنتفع بما تقولون ، وأسأل الله أن يجمعنا في جناته ، كما جمعنا هنا في هذا الملتقى الكريم .
اللهم آمين
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
تابع الدرس السادس
وَيَمْسَحُ مُقِيمٌ وَعَاصٍ بِسَفَرِهِ، مِنْ حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ، يَوْمًا وَلَيْلَةً([1])، وَمُسَافِرٌ سَفَرَ قَصْرٍ، ثَلَاثَةً بِلَيَالِيهَا([2])، فَإِنْ مَسَحَ فِي سَفَرٍ ثُمَّ أَقَامَ أَوْعَكَسَ فَكَمُقِيمٍ([3]).
وَشُرِطَ: تَقَدُّمُ كَمَالِ طَهَارَةٍ([4])، وَسَتْرُ مَمْسُوحٍ مَحَلَّ فَرْضٍ([5])، وَثُبُوتُهُ بِنَفْسِهِ([6])، وَإِمْكَانُ مَشْيٍ بِهِ عُرْفًا([7])، وَطَهَارَتُهُ([8])، وَإِبَاحَتُهُ([9]).
[1])) ودليل ذلك ما رواه مسلم عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَسْأَلُهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: ائْتِ عَلِيًّا، فَسَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنّ َ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ.
وأما المسافر سفر معصية؛ كالمسافر لقطع طريق الناس وسرقتهم، أو المسافر لشراء خمور، وغير ذلك، فلا يجوز له الترخص برخصة المسافر، وعللوا ذلك بعلة؛ قال ابن قدامة رحمه الله في ((الكافي)) (1/ 75): ((وسفر المعصية كالحضر، لأن ما زاد يستفاد بالسفر، وهو معصية؛ فلم يَجُزْ أن يُستفاد به الرخصة)).
والصواب - والله أعلم – أنه ليس هناك دليل يُخرج المسافر سفر معصية من عموم حديث عليٍّ المتقدم؛ فلو كان المسافر سفر معصية، مستثنىً من الحديث، لبيَّنه الله تعالى، ولا يجوز لنا تخصيص النصوص من غير دليل.
وأيصًا؛ لأن هناك من هو مقيم في بلده على معصية؛ ولا يمنعه أحد من أهل العلم من الترخص بالرخص الشرعية؛ وليس هناك فرقًا شرعيًّا، ولا عقليًّا بين المقيم على معصية والمسافر لمعصية.
ولذلك فإن الراجح أن المسافر سفر معصية له الترخص بالرخص الشرعية؛ من قصر للصلاة، وإفطار في الصوم، ومسح على الخفاف. والله أعلم، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله كلام طويل في ذلك، انظره في ((مجموع الفتاوى)) (24/ 110) وما بعدها، وانظر – أيصًا – ((موسوعة الطهارة)) للدبيان (5/ 427- 439).
[2])) ودليل ذلك حديث عليٍّ رضي الله عنه المتقدم.
[3])) أي: لو بدأ المسح في السفر ثم قَدِمَ إلى بلده، فليس له إتمام مدة المسافر؛ لأنه أصبح مقيمًا، فلا يترخص برخصة المسافر.
وأما لو مسح وهو مقيم ثم سافر، فليس له أن يمسح مسح مسافر؛ بل يمسح مسح مقيم أيصًا.
قالوا: لأنها عبادة تختلف بالحضر والسفر، وُجِدَ أحد طرفيها في الحضر، فَغُلِّبَ فيها حُكْمُ الحضر؛ لأن ما بعد الليلة اجتمع فيه مبيح وحاظر، فالسفر يبيحه والحظر يمنعه، فيغلب جانب الحظر احتياطًا؛ لأنك إذا خلعت وغسلت قدميك فلا شبهة في عبادتك، وإن مسحت ففي عبادتك شبهة.
والصواب – والله أعلم – أن من مسح مقيمًا ثم سافر، فإنه يمسح مسح مسافر؛ وهي رواية أخرى عن أحمد.
قال ابن قدامة رحمه الله ((المغني)) (1/ 213): ((وروي عنه: أنه يمسح مسح المسافر؛ وهو مذهب أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن» وهذا مسافر؛ ولأنه سافر قبل كمال مدة المسح، فأشبه من سافر قبل المسح بعد الحدث.
وهذا اختيار الخلال، وصاحبه أبي بكر، وقال الخلال: رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا)).
[4])) الشرط الأول للمسح على الخفين: لُبسهما بعد كمال الطهارة: ودليل ذلك ما في ((الصحيحين)) عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ»، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
وهل إذا غسل رجله اليمنى، ثم لبس الخف، ثم غسل اليسرى، ولبس الخف جاز له أن يمسح عليهما أم لا؟
المشهور عند الحنابلة أنه لا يجوز له المسح؛ لأنه أدخل خفه الأيمن قبل كمال الطهارة فلا بد أن يغسل القدمين أولًا ثم يلبس الخفين.
قال إسحاق بن منصور المروزي في ((مسائله)) (2/ 807): ((قلت لأحمد: إذا توضأ وغسل إحدى رجليه ولبس خفه؟
قال: لا يمسح عليهما؛ لأنه لم يلبسه على طهارة.
وقال ابن هانئ في ((مسائله)) (1/ 20): (((قلت: فإني توضأت فغسلت رِجلًا واحدة فأدخلتها الخف، والأخرى غير طاهرة، ثم غسلت الأخرى ولبست الخف؟ فقال لي أبو عبد الله: لا تفعل، كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أدخلتهما وهما طاهرتان" فهذه واحدة طاهرة والأخرى غير طاهرة)).
والصحيح – وهو رواية عن أحمد - أنه يجوز له في هذه الحالة المسح على الخفين؛ لأن من غسل رجلًا ثم لبس الخف، ثم غسل الأخرى ولبس الخف؛ فإنه يصدق عليه أنه أدخلهما طاهرتين.
وهذا ما رجحه ابن تيمية رحمه الله؛ قال في ((مجموع الفتاوى)) (21/ 210، 211): ((وهو الصواب بلا شك؛ وإلا فأيُّ فائدة في نزع الخف ثم لُبسه من غير إحداث شيء فيه منفعة؟ وهل هذا إلا عبث محض يُنزه الشارع عن الأمر به؟)).
تنبيه:
قال ابن المنذر رحمه الله في ((الإجماع)) (35): ((وأجمعوا على أنه إذا توضأ إلا غسل إحدى رجليه، فأدخل المغسولة الخف، ثم غسل الأخرى، وأدخلها الخف أنه طاهر)).
ومقصود كلامه رحمه الله: أنه طاهر ما لم يحدث، وأما إذا أحدث واحتاج إلى المسح، ففيها الخلاف المتقدم، وقد ذكر هو نفسه رحمه الله الخلاف في ذلك؛ حيث قال رحمه الله في ((الأوسط)) (1/ 441): ((وأجمعوا على أنه إذا توضأ وبقي عليه غسل إحدى رجليه، فأدخل الرجل المغسولة في الخف، ثم غسل الأخرى، وأدخلهما الخف أنه طاهر، وله أن يصلي ما لم يحدث، واختلفوا فيه إن أحدث)).
[5])) الشرط الثاني: ستر الخف لمحل الفرض: فلو كان الخف مخرقًا – ولو يسيرًا- لَمْ يجز المسح عليه؛ قال ابن قدامة في ((الكافي)) (1/ 72): ((لأن حكم ما استتر المسح، وحكم ما ظهر الغسل، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، فَغُلِّب الغسل)).
والصحيح؛ جواز المسح على الخف، المخرق – سواء كان الخرق يسيرًا أو كبيرًا – ما دام أنه يسمى خفًّا، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ قال رحمه الله ((مجموع الفتاوى)) (21/ 172، 174): ((والقول الأول أصح وهو قياس أصل أحمد ونصوصه في العفو عن يسير العورة وعن يسير النجاسة ونحو ذلك؛ فإن السنة وردت بالمسح على الخفين مطلقا . . . ومعلوم أن الخفاف في العادة لا يخلو كثير منها عن فتق أو خرق لا سيما مع تقادم عهدها، وكان كثير من الصحابة فقراء لم يكن يمكنهم تجديد ذلك . . . وكان مقتضى لفظه أن كل خف يلبسه الناس ويمشون فيه، فلهم أن يمسحوا عليه؛ وإن كان مفتوقًا أو مخروقًا من غير تحديد لمقدار ذلك؛ فإن التحديد لا بد له من دليل)).
[6])) الشرط الثالث للمسح على الخفين: ثبوته بنفسه: قال المرداوي رحمه الله في ((الإنصاف)) (1/ 179): ((إذا كان لا يثبت إلا بشده لا يجوز المسح عليه، وهو المذهب من حيث الجملة، ونص عليه، وعليه الجمهور)).
وعللوا ذلك بعلة؛ قال الزركشي رحمه الله في ((شرح مختصر الخرقي)) (1/ 395): ((إذ الرخصة وردت في الخف المعتاد، وهو ثابت بنفسه، وما لا يثبت بنفسه ليس في معناه، فلا يُلحق به)).
والصحيح؛ جواز المسح على الخف سواء ثبت بنفسه أو لا؛ وهو ما رجحه ابن تيمية وابن عثيمين رحمهما الله.
قال ابن تيمية رحمه الله ((الفتاوى الكبرى)) (1/ 318): ((وهذا الشرط لا أصل له في كلام أحمد؛ بل المنصوص عنه في غير موضع أنه يجوز المسح على الجوربين، وإن لم يثبتا بأنفسهما)).
[7])) الشرط الرابع: إمكان المشي فيه: قال ابن قدامة رحمه الله في ((الكافي)) (1/ 72): ((أن يمكن متابعة المشي فيه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، أو ثقله، لَمْ يجز المسح عليه؛ لأن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يمكن متابعة المشي فيه.
والفرق بين هذا الشرط والشرط الذي قبله: أن الشيء قد يثبت بنفسه ولكن لا يمكن متابعة المشي فيه؛ كأن يكون ثقيلًا أو ضيقًا جدًّا.
قلت: وهذا شرط لا دليل عليه؛ فلو فرضنا أن إنسانًا توضأ ولبس خفًّا ضيقًا – مثلًا – لا يستطيع السير فيه، ثم أحدث، فتوضأ ومسح على الخف، وصلى مكانه، فطهارته صحيحة، وليس هناك دليل على منعه، وكذلك المريض الجالس، فإنه لو لبس خفًّا ثقيلًا، أو ضيقًا، لا يستطيع السير فيه - لو كان قادرًا على السير - جاز له المسح عليه؛ لأنه لا دليل يمنعه.
[8])) الشرط الخامس: أن يكون الخف طاهرًا؛ وخرج بهذا الشرط، ما كان نجسًا نجاسة عينية؛ كمصنوع من جلد ميتة لَمْ يدبغ، أو مصنوع من جلد كلب أو خنزير، عند من قال بنجاستها؛ وقد نُقل الإجماع على ذلك.
وأما ما لم يكن نجسًا نجاسة عينية، وإنما تنجس بغيره؛ فهل يصح المسح عليه أو لا؟ خلاف في ذلك.
والصواب أنه يجوز المسح عليه؛ لأن إزالة النجاسة ليست شرطًا في صحة الوضوء؛ بمعنى أنه لو توضأ إنسان وكان على جسده نجاسة؛ فإنه لا يلزمه إعادة الوضوء- ما دامت النجاسة لا تمنع وصول الماء إلى العضو الواجب غسله أو مسحه - وإنما يلزمه فقط إزالة النجاسة إذا أراد الصلاة.
قال المرداوي رحمه الله في ((الإنصاف)) (1/ 182): ((فائدة: لو مسح على خف طاهر العين، ولكن بباطنه، أو قدمه، نجاسة لا يمكن إزالتها إلا بنزعه: جاز المسح عليه)).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في ((الشرح الممتع)) (1/ 228، 229): ((وعلى هذا يجوز المسح على الخف المتنجس، لكن لا يصلي به؛ لأنه يُشترط للصلاة اجتناب النجاسة.
وفائدة هذا أن يَستبيح بهذا الوضوء مس المصحف؛ لأنه لا يشترط لِمَسِّ المصحف أن يكون متطهرًا من النجاسة، ولكن يشترط أن يكون متطهرًا من الحدث)).
قلت: وعلى هذا فلو مسح على خف متنجس، ثم أراد الصلاة؛ فإنه يكفيه فقط إزالة النجاسة، ولا يلزمه إعادة الوضوء.
[9])) الشرط السادس من شروط المسح على الخف: أن يكون الخف مباحًا: وخرج به الخف المحرم.
والمحرم على قسمين:
1- محرم لحق الله تعالى؛ كالمصنوع من حرير أو ما به ذهب في حق الرَّجُل.
2- ومحرم لحق الله وحق آدمي؛ كالمغصوب والمسروق.
والمشهور في المذهب منع المسح على المُحَرَّمِ بقسميه.
قال ابن قدامة رحمه الله في ((الكافي)) (1/ 73): ((لأن لُبسه معصية، فلا تستباح به الرخصة)).
وقال المرداوي في ((الإنصاف)) (1/ 180): ((فلو كان مغصوبًا، أو حريرًا، أو نحوه لَمْ يجز المسح عليه، على الصحيح من المذهب والروايتين . . . وعنه يجوز المسح عليه، حكاها غير واحد)).
والصحيح؛ وهو رواية عن أحمد – كما تقدم - أنه يصح المسح عليه؛ لأنه وإن كان لُبسه معصية، ولابسه آثم؛ إلا أن النهي لأمر خارج عن العبادة، فلا يؤثر فيها.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
معذرة فلم أفهم الشرط الثالث، ما المقصود "ثبوته بنفسه"، "لا يثبت إلا بشده"؟ هل المقصود رباط الحذاء مثلاً؟
في نفس الشرط، قلتم -بارك الله فيكم- أن ابن تيمية و العثيمين رحمهما الله رجحا المسح على الخف سواء ثبت بنفسه أو لا، بينما قلتم أن المذهب من حيث الجملة و الجمهور ذهبوا إلى اشتراط ثبوت الخف بنفسه.
هل قول الجمهور هو نفسه الإجماع؟ أم أن هناك فارق؟
إذا كان الإجماع مصدراَ من مصادر التشريع، فهل يجوز لمجتهدٍ أن يخالفه؟ (كما في شرحكم للشرط الخامس، بارك الله فيكم)
جزاكم الله خيراً عظيماً
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله طالب علم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
معذرة فلم أفهم الشرط الثالث، ما المقصود "ثبوته بنفسه"، "لا يثبت إلا بشده"؟ هل المقصود رباط الحذاء مثلاً؟
نعم معناه كذلك
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله طالب علم
في نفس الشرط، قلتم -بارك الله فيكم- أن ابن تيمية و العثيمين رحمهما الله رجحا المسح على الخف سواء ثبت بنفسه أو لا، بينما قلتم أن المذهب من حيث الجملة و الجمهور ذهبوا إلى اشتراط ثبوت الخف بنفسه.
هل قول الجمهور هو نفسه الإجماع؟ أم أن هناك فارق؟
قول الجمهور ليس هو الإجماع؛ فالإجماع أن يجمع جميع العلماء على المسألة، فلا تجوز مخالفتهم لمن جاء بعدهم.
وأما الجمهور؛ فأن يقول بالحكم المعين أغلب العلماء؛ وهذا تجوز مخالفته، بل قد يكون الحق مع غير الجمهور
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله طالب علم
إذا كان الإجماع مصدراَ من مصادر التشريع، فهل يجوز لمجتهدٍ أن يخالفه؟ (كما في شرحكم للشرط الخامس، بارك الله فيكم)
جزاكم الله خيراً عظيماً
لو دققت في التعليق على الشرط الخامس لوجدت أن المخالفة ليست في المسألة المجمع عليها، وإنما في غيرها.
بارك الله فيك
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
تابع الدرس السادس
وَيَجِبُ مَسْحُ أَكْثَرِ دَوَائِرِ عِمَامَةٍ، وَأَكْثَرِ ظَاهِرِ قَدَمِ خُفٍّ([1])، وَجَمِيعِ جَبِيرَةٍ([2]).
وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُ مَحَلِّ فَرْضٍ، أَوْ تَمَّتِ الْمُدَّةُ، اسْتَأْنَفَ الطَّهَارَةَ([3]).
[1])) قال ابن قدامة رحمه الله في ((المغني)) (1/ 93): ((لأن الأكثر ينطلق عليه اسم الشيء الكامل)).
وهناك رواية أخرى عن أحمد بوجوب استيعاب المسح على العمامة؛ لأنها بدل من جنس المبدل، فاعتبر كونه مثله.
قلت: والقولان قويان؛ لأن القول الأول قاسها على الخف، فهو بدل عن غسل الرجلين، ومع ذلك ففرضه غسل أكثره، والقول الثاني أخذ بعموم الحديث، وأنه لا دليل على مسح أكثرها فقط؛ فتظل على أصل غسل الرأس؛ لأنها بدل عنه، فتأخذ حكمه، بخلاف الخف فالأدلة دلت على إجزاء بعضه.
[2])) قال ابن تيمية رحمه الله في ((مجموع الفتاوى)) (21/ 176): ((مسح الجبيرة يقوم مقام غسل نفس العضو؛ فإنها لما لم يمكن نزعها إلا بضرر صارت بمنزلة الجلد وشعر الرأس وظفر اليد والرجل، بخلاف الخف فإنه يمكنه نزعه وغسل القدم؛ ولهذا كان مسح الجبيرة واجبًا ومسح الخفين جائزًا، إن شاء مسح وإن شاء خلع)).
[3])) يتكلم المصنف على مبطلات المسح؛ فذكر أن المُبْطل الأول ظهور بعض القدم؛ والصواب أن ظهور بعض القدم لا يبطل المسح؛ لعدم الدليل.
والمبطل الثاني هو انقضاء مدة المسح؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد مدةً للمسح؛ فإن انتهت المدةُ ثم أحدث، فلا بد أن يستأنف الطهارة.
-
1 مرفق
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
الدرس السادس كاملا pdf
الحمد لله
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
أعتذر لو كنت متطفلاً عليكم
شرح أخصر المختصرات في 55 محاضرة مرئية للدكتور محمد أحمد باجابر عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة ، حيث لم أجد أحد يحببني في الفقه إلا هذا الرجل لسلاسة أسلوبه جزاه الله عنا خيراً
https://www.youtube.com/playlist?lis...634776535F6604
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
صدقت أخي الحبيب فيما قلت، فللشيخ باجابر طريقة بارعة في تصوير المسألة و توصيلها بشكل ميسر للمبتدئين، بارك الله فيه و فيك.
الشيخ صالح الفوزان بارك الله في عمره، له أيضاً نفس الأسلوب، فالحمد لله الذي يسر لنا طلب العلم.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
أين أنت يا محمد طه شعبان طالت الغيبة أين الشرح ؟
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبوأحمد المالكي
أين أنت يا محمد طه شعبان طالت الغيبة أين الشرح ؟
معذرة؛ لقد تعرضت منذ فترة لحادث منعني من المواصلة، ولكني سأواصل التحضير والشرح إن شاء الله تعالى
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
الدرس السابع
فَصْلٌ
نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ ثَمَانِيَةٌ:
خَارِجٌ مِنْ سَبِيلٍ مُطْلَقًا([1])، وَخَارِجٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ([2])، وكَثِيرِ نَجَسٍ غَيْرِهِمَا([3])، وَزَوَالُ عَقْلٍ([4])؛ إِلَّا يَسِيرَ نَوْمٍ مِنْ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ([5])، وَغُسْلُ مَيِّتٍ([6])، وَأَكْلُ لَحْمِ إِبِلٍ([7])، وَالرِّدَّةُ([8])، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ غُسْلًا([9])، غَيْرَ مَوْتٍ([10])، وَمَسُّ فَرْجِ آدَمِيٍّ مُتَّصِلٍ، أَوْ حَلْقَةِ دُبُرِهِ بِيَدٍ([11])، وَلَمْسُ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى الْآخَرَ لِشَهْوَةٍ بِلَا حَائِلٍ فِيهِمَا([12])؛ لَا لِشَعْرٍ وَسِنٍّ وَظُفُرٍ وَلَا بِهَا([13])، وَلَا مَنْ دُونَ سَبْعٍ([14]).
وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ مَلْمُوسٍ مُطْلَقًا([15]).
[1])) يذكر المصنف رحمه الله نواقض الوضوء، فذكر الناقض الأول، وهو الخارج من السبيلين، فكل خارج من السبيلين – سواء كان نجسًا أو طاهرًا – فإنه ينقض الوضوء.
قال ابن قدامة رحمه الله في ((الكافي)) (1/ 81): ((الخارج من السبيلين، وهو نوعان:
معتاد؛ فينقض بلا خلاف، لقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]، ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولكن من غائط وبول ونوم» وقوله: «فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» وقال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» متفق عليه.
النوع الثاني: نادر؛ كالحصى والدود والشعر والدم، فينقض أيضًا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للمستحاضة: «تتوضأ عند كل صلاة»، ودمها غير معتاد؛ ولأنه خارج من السبيل، أشبه المعتاد، ولا فرق بين القليل والكثير)).
تنبيه:
تقدم في باب ((الاستنجاء)) أن الريح والطاهر وغير الملوث، لا يجب الاستنجاء منهم، ولكن لا بد أن يُعلم أنه وإن كان لا يجب الاستنجاء من هذه الأشياء، إلا أنها تنقض الوضوء؛ للأدلة المتقدمة التي توجب الوضوء من الأشياء الطاهرة؛ كالريح ودم الاستحاضة.
[2])) وإذا خرج الغائط أو البول من غير السبيلين، فإنه ينقض الوضوء أيضًا؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الوضوء منهما مطلقًا؛ فقد روى أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه، وحسنه الألباني، وقال محققو المسند: صحيح لغيره، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ.
[3])) قال ابن قدامة رحمه الله في ((الكافي)) (1/ 82): ((خروج النجاسة من سائر البدن، وهو نوعان:
غائط وبول؛ فينقض قليله وكثيره، لدخوله في النصوص المذكورة.
الثاني: دم وقيح وصديد وغيره، فينقض كثيره؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إنه دم عرق فتوضئي لكل صلاة» رواه الترمذي، فعلل بكونه دم عرق، وهذا كذلك؛ ولأنها نجاسة خارجة من البدن، أشبهت الخارج من السبيل.
ولا ينقض يسيره لقول ابن عباس في الدم: "إذا كان فاحشًا فعليه الإعادة" قال الإمام أحمد: عدة من الصحابة تكلموا فيه، ابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملًا، وذكر غيرهما، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعًا)).
والصواب – والله أعلم – أن النجاسة الخارجة من غير السبيلين يجب إزالتها؛ ولكنها لا تنقض الوضوء؛ ولا يقاس الخارج من غير السبيلين على الخارج منهما.
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله في ((الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف)) (1/ 173): ((ولا يجوز أن يُشَبَّه ما يخرج من سائر الجسد بما يخرج من القبل أو الدبر؛ لأنهم قد أجمعوا على الفرق بين ريح تخرج من الدبر وبين الجشاء المتغير يخرج من الفم، فأجمعوا على وجوب الطهارة في أحدهما؛ وهو الريح الخارج من الدبر، وأجمعوا على أن الجشاء لا وضوء فيه، ففي إجماعهم على الفرق بين ما يخرج من مخرج الحدث وبين ما يخرج من غير مخرج الحدث أبين البيان على أن ما خرج من سائر الجسد غير جائز أن يقاس على ما خرج من مخرج الحدث - إلى أن قال - وليس وجوب الطهارات من أبواب النجاسات بسبيل؛ ولكنها عبادات؛ قد يجب على المرء الوضوء بخروج الريح من دبره ثم يجب عليه كذلك غسل الأطراف والمسح بالرأس وترك أن يمس موضع الحدث بماء أو حجارة، وقد يجب بخروج المني - وهو طاهر- غسل جميع البدن، ويجب بخروج البول غسل أعضاء الوضوء؛ والبول نجس، ويجب بالتقاء الختانين الاغتسال، وكل ذلك عبادات، وغير جائز أن يقال: إن الطهارات إنما تجب لنجاسة تخرج، فنجعل النجاسات قياسًا عليها، بل هي عبادات لا يجوز القياس عليها)).
وهو ما رجحه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (20/ 525).
[4])) سواء زال العقل بنوم أو إغماء أو سكر أو غيره؛ لحديث صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ.
وهذا بالإجماع، قال ابن المنذر رحمه الله في ((الإجماع)) (33): ((وأجمعوا على أن زوال العقل بأي وجه زال العقل ينقض الطهارة، ويوجب الوضوء)).
[5])) ودليل ذلك ما رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني والأرنؤط عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونَ العِشاءَ الآخرة حتَّى تَخفِقَ رؤوسُهُم، ثمَّ يُصَلُّون ولا يَتَوضَّؤون.
وذلك لأن النوم ليس حدثًا في نفسه؛ فإذا نام الإنسان نومًا يسيرًا بحيث يشعر بنفسه أنه أحدث أو لا؛ فإنه لا ينتقض وضوؤه بسبب النوم.
قال ابن تيمية رحمه الله في ((مجموع الفتاوى)) (21/ 229): ((النوم اليسير من المتمكن بمقعدته فهذا لا ينقض الوضوء عند جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم؛ فإن النوم عندهم ليس بحدث في نفسه، لكنه مظنة الحدث كما دل عليه الحديث الذي في السنن: "العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء" وفي رواية: "فمن نام فليتوضأ"، ويدل على هذا ما في الصحيحين: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام حتى ينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ" لأنه كان تنام عيناه ولا ينام قلبه فكان يقظان، فلو خرج منه شيء لشعر به. وهذا يبين أن النوم ليس بحدث في نفسه؛ إذ لو كان حدثًا لم يكن فيه فرق بين النبي وغيره، كما في البول والغائط وغيرهما من الأحداث)).
[6])) قال ابن قدامة في ((الكافي)) (1/ 92): ((غسل الميت عَدَّهُ أصحابنا من نواقض الوضوء؛ لأن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء، وقال أبو هريرة: "أقل ما فيه الوضوء" لأنه مظنة لمس الفرج فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث، ولا فرق بين الميت المسلم، والكافر، والصغير والكبير في ذلك، لعموم الأمر والمعنى، وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب؛ فإنه قال: "أحب إلي أن يتوضأ": وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الحديث موقوفًا على أبي هريرة والوضوء كذلك؛ ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا هو في معنى المنصوص، والأصل عدم وجوبه)).
[7])) ودليل ذلك ما رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ» قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ».
[8])) لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
[9])) فكل ما أوجب غسلًا؛ كخروج المني والتقاء الختانين والحيض والنفاس وغير ذلك فهو ناقض للوضوء.
[10])) قالوا: الموت لا ينقض الوضوء، وإن كان يوجب الغسل.
[11])) واستدلوا على ذلك بما رواه الخمسة، وقال البخاري: "أصح شيء في الباب" وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" وصححه أيضًا ابن معين والدارقطني والألباني ومحققو المسند، عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ، فَلْيَتَوَضَّأْ ». وقِيسَ على مس فرج نفسه، مَسُّ فرج غيره من باب أولى.
وفي لفظ عند أحمد والنسائي، وصححه الألباني ومحققو المسند: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ »
وروى أحمد وابن ماجه، وقال الألباني: "صحيح لغيره" وقال محققو المسند: "إسناده حسن" عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ، فَلْيَتَوَضَّأْ ». ورُويَ نحوه عن أم حبيبة رضي الله عنها.
وقد روى الخمسة – أيضًا - وصححه ابن المديني، وقال الترمذي: "أحسن شيء في الباب" وصححه الألباني، وحسنه محققو المسند، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ: «هَلْ هُوَ إِلَّا مُضْغَةٌ مِنْهُ»، أَوْ قَالَ: «بَضْعَةٌ مِنْهُ».
والذي يظهر لي – والله أعلم – جمعًا بين الحديثين: أن الوضوء من مس الفرج مستحب؛ فالحديث الأول فيه أمر بالوضوء؛ والأمر الأصل فيه الوجوب إلا بقرينة صارفة للاستحباب؛ والقرينة هنا حديث طلق.
وهو ما رجحه شيخ الإسلام كما في ((مجموع الفتاوى)) (20/ 524)، والشيخ ابن عثيمين كما في ((الشرح الممتع)) (1/ 282).
وأما من جمع بين الحديثين بأنْ حمل حديث بسرة على المس بشهوة، وحديث طلق على المس بغير شهوة؛ مستدلًا على هذا الجمع بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما هو بضعة منك)) فقال: من مس فرجه بغير شهوة، فكأنه مس عضوًا أخر من جسده، ومن مسه بشهوة فليس هو كعضو آخر، فيُعمل بحديث بسرة.
فهذا الجمع وإن كان قويًا إلا أن الجمع الأول أقوى والله أعلم.
[12])) واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43].
وقيدوا اللمس الناقض بالشهوة لما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني ومحققو المسند، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَعند مسلم، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ.
فجمعوا بين الآية والحديثين، بأن اللمس الناقض هو ما كان بشهوة، وغير الناقض هو ما كان بغير شهوة.
والصحيح – وهو رواية أخرى عن أحمد – أن اللمس المقصود في الآية هو الجماع؛ وأن مجرد اللمس - سواء بشهوة أو بغير شهوة – لا ينقض الوضوء؛ ودليل ذلك أن حديث عائشة رضي الله عنها ليس فيه هذا التفصيل؛ فيُحمل على عمومه. والله أعلم.
[13])) قالوا: لأن هذه الأشياء في حكم المنفصل؛ ودليل ذلك أنها لا تنجس بموت الحيوان.
[14])) قالوا: لأنها ليست محلًّا للشهوة.
قلت: لو ثبت أن المقصود بالمس في الآية: ما دون الجماع، لَمَا كان هناك فرق بين الصغيرة والكبيرة، وهو ما رجحه ابن قدامة رحمه الله:
قال رحمه الله ((الكافي)) (1/ 90): ((ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة، وذوات المحارم وغيرهن؛ لعموم الأدلة فيه)).
[15])) قالوا: لأن الملموس لا نص فيه، والشهوة من اللامس أشد منها في الملموس. ((المغني)) (1/ 144).
وفي رواية أخرى عن أحمد أن الملموس أيضًا ينتقض وضوؤه.
قال ابن قدامة رحمه الله ((المغني)) (1/ 144): ((وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشهوة؛ لأن ما ينتقض بالتقاء البشَرتين، لا فرق فيه بين اللامس والملموس)).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ((الشرح الممتع)) (1/ 296): ((أي: ولو وُجِدَ من الملموس بدنُه شهوةٌ؛ فإِنَّ وضوءَه لا ينتقضُ؛ وهذا غريبٌ: أنه لا ينتقضُ وضوءُ الملموس.
مثاله: شابٌّ قَبَّلَ زوجته وهي شابَّةٌ بشهوة، وهي كذلك بشهوة فيجب عليه الوضوء، ولا يجب عليها مع أن العِلَّة واحدة.
ولهذا كان القول الصَّحيح في هذه المسألة: أن الملموس إِذا وُجِدَ منه شهوةٌ انتقض وضوءُه؛ على القول بأنَّ اللامس ينتقض وضوءُه، وهو القياس.
قال الموفق رحمه الله: كل بشرتين حصل الحدثُ بمسِّ إحداهما؛ فإِن الطَّهارة تجبُ على اللامس والملموس، كالختانين فيه مُجَامَع ومُجَامِع، إِذا التقى الختانان بدون إِنزال منهما وجب الغسل عليهما جميعًا.
وهذا الذي قاله الموفق رحمه الله هو الصَّوابُ؛ لكنَّه مبنيٌّ على القول بأن مسَّ المرأة بشهوة ينقض الوُضُوء، وقد سبق أن الرَّاجح أنه لا ينقض إلا أن يخرج منه شيء)).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
هل يمكن يا شيخ محمد طه أن تعمل موضوع في " المجلس الشرعي العام " عن :
كيفية استخراج المعلومات من بطون الكتب
لأن هذه أصعب شئ جعل عندي " عُقدة " من الكتب
لأن أحياناً مجرد النظر في فهرس الكتاب - أي كتاب سواء كان للمعاصرين أو للقدامى - لا يساعد على استخراج المعلومة
فهل هناك طريقة تساعد على عمل ذلك ؟؟ أعني استخراج المعلومات من بطون الكتب .
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله عمر المصري
هل يمكن يا شيخ محمد طه أن تعمل موضوع في " المجلس الشرعي العام " عن :
كيفية استخراج المعلومات من بطون الكتب
لأن هذه أصعب شئ جعل عندي " عُقدة " من الكتب
لأن أحياناً مجرد النظر في فهرس الكتاب - أي كتاب سواء كان للمعاصرين أو للقدامى - لا يساعد على استخراج المعلومة
فهل هناك طريقة تساعد على عمل ذلك ؟؟ أعني استخراج المعلومات من بطون الكتب .
بارك الله فيك يا شيخ عبد الله، سنفعل ذلك إن شاء الله
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله عمر المصري
هل يمكن يا شيخ محمد طه أن تعمل موضوع في " المجلس الشرعي العام " عن :
كيفية استخراج المعلومات من بطون الكتب
لأن هذه أصعب شئ جعل عندي " عُقدة " من الكتب
لأن أحياناً مجرد النظر في فهرس الكتاب - أي كتاب سواء كان للمعاصرين أو للقدامى - لا يساعد على استخراج المعلومة
فهل هناك طريقة تساعد على عمل ذلك ؟؟ أعني استخراج المعلومات من بطون الكتب .
حمل هذا الكتاب من هنا؛ فقد تستفيد من طريقة الشيخ
http://majles.alukah.net/t84062/
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
الكتاب اسم على مسمى
في " منتقى من بطون الكتب "
وليس طريقة علمية لاستخراج المعلومات من بطون الكتب
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله عمر المصري
الكتاب اسم على مسمى
في " منتقى من بطون الكتب "
وليس طريقة علمية لاستخراج المعلومات من بطون الكتب
بارك الله فيك، قصدت أن تقرأ الكتاب، وتعرف كيف استخرج الشيخ هذه الفوائد
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
بارك الله فيك محمد طه .. على استئنافك للشرح وأما أخونا عبد الله عمر المصري فالظاهر أنه مبتدأ والذي يقصده من معرفة الفوائد والمعلومات من الكتب وكيفية ذلك؟ فيوجه أخونا إلى التدرج في طلب العلم أولا بقراءة المختصرات كالذي نحن بصدده وعليه بالصبر والجلد والتحمل فالعلم يِؤخذ بمرور الأيام والليالي لأن من رام العلوم جملة خرج منها جملة ولهذا أنصحه بمتابعة هذا الشرح السهل الجيد ولايتعجل المعلومات, من سلك الجدد أمن العثار) وبالله تعالى التوفيق
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبوأحمد المالكي
بارك الله فيك محمد طه .. على استئنافك للشرح وأما أخونا عبد الله عمر المصري فالظاهر أنه مبتدأ والذي يقصده من معرفة الفوائد والمعلومات من الكتب وكيفية ذلك؟ فيوجه أخونا إلى التدرج في طلب العلم أولا بقراءة المختصرات كالذي نحن بصدده وعليه بالصبر والجلد والتحمل فالعلم يِؤخذ بمرور الأيام والليالي لأن من رام العلوم جملة خرج منها جملة ولهذا أنصحه بمتابعة هذا الشرح السهل الجيد ولايتعجل المعلومات, من سلك الجدد أمن العثار) وبالله تعالى التوفيق
وفيكم بارك الله أخانا أبا أحمد المالكي، ونعمة النصيحة تلك لأخينا عبد الله عمر؛ فلا بد من الصبر على القراءة، واستثمار الوقت في ذلك، حتى تخرج بالفوائد الجمة من بطون الكتب
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
[1])) أي: ويجوز المسح على الجبيرة؛ وهي الشيء الذي يُوضع على الكسر أو الجُرح ليلتئم، إن لَمْ تتجاوز قد الحاجة، إلى أن يحلها؛ والحاجة تكون بقدر ما يغطي الجُرح، وما يُحتاج إليه إلى شدها وربطها.
واستدلوا على جواز المسح على الجبائر بما رواه ابن ماجه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ. وهو حديث ضعيف جدًّا، قال الشوكاني رحمه الله: ((قد اتفق الحفاظ على ضعفه)). كما استدلوا على ذلك أيضًا بعلة؛ وهي أنه ملبوس يشق نزعه.
قلت: وهذه علة صحيحة.
فإن قيل: ما دام أنه يشق نزعه لمرض، فإنه يتيمم له؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
قلنا: هذا في حالة تعذر استعمال الماء تمامًا، أما في حالة القدرة على استعماله ولو بالمسح، فهو أولى من التيمم؛ لأن هذا البدل أقرب إلى الأصل من التيمم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ((مجموع الفتاوى)) (21/ 178): ((الخف إذا تعذر خلعه فالمسح عليه أولى من التيمم، وإن قُدِّرَ أنه لا يمكن خلعه في الطهارة الكبرى فقد صار كالجبيرة يمسح عليه كله كما لو كان على رجله جبيرة يستوعبها، وأيضا فإن المسح على الخفين أولى من التيمم؛ لأنه طهارة بالماء فيما يغطي موضع الغسل؛ وذاك مسح بالتراب في عضوين آخرين: فكان هذا البدل أقرب إلى الأصل من التيمم؛ ولهذا لو كان جريحًا وأمكنه مسح جراحه بالماء دون الغسل: فهل يمسح بالماء أو يتيمم؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد ومسحهما بالماء أصح)).
قلت: ويمكن أن يُستدل على ذلك أيصًا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «
وَمَا أَمَرْتُكُمْ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»؛ فإن المصلي إذا لَمْ يستطع السجود لزمه أن يخفض في سجوده أكثر من ركوعة؛ إن استطاع ذلك، والطائف حول البيت إن لَمْ يستطع الطواف على قدمه طاف محمولًا، وهكذا في سائر العبادات يأتي بها المرء بما هو أقرب للأصل؛ ما دام يستطيع ذلك. والله أعلم.
.
نفع الله بك أبا يوسف ، في الحقيقة أفدت وأجدت وأسعدت .
لكن اسمح لي بالمناقشة المختصرة في النقطة السابقة .
لقد استدللت بالحديث المذكور ، مع أن ابن حزم رحمه الله استدل به أيضا على عكس ما ذكرت ، وأنه لا يشرع المسح على الجبيرة ، فقال في محلاه ( المحلى ) : برهان ذلك قول الله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء ، وكان التعويض منه شرعا والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة ، ولم يأت قرآن ولا سنة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله فسقط القول بذلك " .اهـ ثم ذكر رحمه الله عن الشعبي ما يوافق قوله ومثله عن داود وأصحابه .
وأجاب عن أثر ابن عمر الذي صح عنه أنه مسح على الجبيرة ـ وهو عند البيهقي وغيره بإسناد صحيح ـ بأنه فعل منه رضي الله عنه واجتهاد منه ، وليس إيجابا للمسح عليها ، وقد صح عنه أنه كان يدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغسل ، ولا يشرع ذلك فضلا عن أن يكون فرضا .
هذا ما أردت أن أتذاكر به معكم ، لعل في جعبتكم أحسن منه ، وعندكم الحسن ، أحسن الله إليكم جميعا .
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
[CENTER][SIZE=6][B][COLOR=#0000cd]
[11])) واستدلوا على ذلك بما رواه الخمسة، وقال البخاري: "أصح شيء في الباب" وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" وصححه أيضًا ابن معين والدارقطني والألباني ومحققو المسند، عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ، فَلْيَتَوَضَّأْ ». وقِيسَ على مس فرج نفسه، مَسُّ فرج غيره من باب أولى.وفي لفظ عند أحمد والنسائي، وصححه الألباني ومحققو المسند: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ »وروى أحمد وابن ماجه، وقال الألباني: "صحيح لغيره" وقال محققو المسند: "إسناده حسن" عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ، فَلْيَتَوَضَّأْ ». ورُويَ نحوه عن أم حبيبة رضي الله عنها.وقد روى الخمسة – أيضًا - وصححه ابن المديني، وقال الترمذي: "أحسن شيء في الباب" وصححه الألباني، وحسنه محققو المسند، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ: «هَلْ هُوَ إِلَّا مُضْغَةٌ مِنْهُ»، أَوْ قَالَ: «بَضْعَةٌ مِنْهُ».والذي يظهر لي – والله أعلم – جمعًا بين الحديثين: أن الوضوء من مس الفرج مستحب؛ فالحديث الأول فيه أمر بالوضوء؛ والأمر الأصل فيه الوجوب إلا بقرينة صارفة للاستحباب؛ والقرينة هنا حديث طلق.وهو ما رجحه شيخ الإسلام كما في ((مجموع الفتاوى)) (20/ 524)، والشيخ ابن عثيمين كما في ((الشرح الممتع)) (1/ 282).وأما من جمع بين الحديثين بأنْ حمل حديث بسرة على المس بشهوة، وحديث طلق على المس بغير شهوة؛ مستدلًا على هذا الجمع بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما هو بضعة منك)) فقال: من مس فرجه بغير شهوة، فكأنه مس عضوًا أخر من جسده، ومن مسه بشهوة فليس هو كعضو آخر، فيُعمل بحديث بسرة.فهذا الجمع وإن كان قويًا إلا أن الجمع الأول أقوى والله أعلم.
[12])) واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43].وقيدوا اللمس الناقض بالشهوة لما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني ومحققو المسند، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
بارك الله فيك ، ونفع بك .حديث بسرة هو الصحيح ، وأما حديث أم حبيبة ـ وإن كان قد صححه بعض أهل العلم ـ فلا يصح ، وكذا حديث أبي أيوب ، وأما حديث طلق ففيه الخلاف المعروف ، والصواب عدم صحته ، وقد جرت مناظرة ـ عند الحاكم وعنه البيهقي ـ بين علي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل في حديث بسرة وحديث طلق ، وكان ابن معين وأحمد يريان صحة حديث بسرة وضعف حديث طلق ، وأما علي بن المديني فعكسهم ، وفي نهاية المناظرة ترجح قول الاثنين على الواحد ، وقيل : إن علي بن الميني رجع إلى قولهما في تصحيح حديث بسرة وإعلال حديث طلق . وبهذا يظهر ولا حاجة للجمع ، والقول بالوجوب في الوضوء من مس الفرج مطلقا ، وهو مذهب الْأَوْزَاعِيِّ . وَأَكْثَرِ أَهْلِ الشَّامِّ. وَالشَّافِعِيِّ . وَأَحْمَدَ. وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، كما قاله الزيلعي في نصب الراية .وأما حديث عائشة في تقبيله بعض أزواجه ، فهو معلول عند الحفاظ ، وهو عندهم خطأ ، كما بينه مسلم ـ وغيره ـ في التمييز .
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو مالك المديني
والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة ، ولم يأت قرآن ولا سنة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله فسقط القول بذلك " .اهـ
جزاكم الله خيرًا شيخنا الحبيب
والحقيقة أن هذه المسألة توقفت عندها كثيرًا لقوة أدلة الفريقين، والذي جعلني أرجح هذا القول:
أولًا: أنني لما تأملت قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ووجدت أن الله تعالى يقول {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تبين لي أن المقصود هنا هو مَنْ عَدِمَ الماء تمامًا سواء كان انعدامه للماء بسبب عدم وجود الماء أصلًا، أو كان المرض لا يستطيع معه ملامسة الماء تمامًا؛ فهذا الذي تدل عليه الآية.
وأما من وجد بعض الماء بحيث إنه يستطيع المسح، فهذا أقرب للأصول الشرعية، كما رجحه شيخ الإسلام.
ثانيًا: مما جعلني أرجح هذا القول أنه إن كان يجوز المسح على الخف - الذي يستطيع الإنسان خلعه ولو بمشقة - فلِأنْ يكون المسح على الجبيرة التي لا يستطيع الإنسان خلعها، من باب أولى. والله أعلم.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو مالك المديني
بارك الله فيك ، ونفع بك .حديث بسرة هو الصحيح ، وأما حديث أم حبيبة ـ وإن كان قد صححه بعض أهل العلم ـ فلا يصح ، وكذا حديث أبي أيوب ، وأما حديث طلق ففيه الخلاف المعروف ، والصواب عدم صحته ، وقد جرت مناظرة ـ عند الحاكم وعنه البيهقي ـ بين علي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل في حديث بسرة وحديث طلق ، وكان ابن معين وأحمد يريان صحة حديث بسرة وضعف حديث طلق ، وأما علي بن المديني فعكسهم ، وفي نهاية المناظرة ترجح قول الاثنين على الواحد ، وقيل : إن علي بن الميني رجع إلى قولهما في تصحيح حديث بسرة وإعلال حديث طلق . وبهذا يظهر ولا حاجة للجمع ، والقول بالوجوب في الوضوء من مس الفرج مطلقا ، وهو مذهب الْأَوْزَاعِيِّ . وَأَكْثَرِ أَهْلِ الشَّامِّ. وَالشَّافِعِيِّ . وَأَحْمَدَ. وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، كما قاله الزيلعي في نصب الراية .وأما حديث عائشة في تقبيله بعض أزواجه ، فهو معلول عند الحفاظ ، وهو عندهم خطأ ، كما بينه مسلم ـ وغيره ـ في التمييز .
نعم شيخنا - بارك الله فيك - لو صح حديث بسرة فالعمل عليه
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
وأما من وجد بعض الماء بحيث إنه يستطيع المسح، فهذا أقرب للأصول الشرعية، كما رجحه شيخ الإسلام.
ثانيًا: مما جعلني أرجح هذا القول أنه إن كان يجوز المسح على الخف - الذي يستطيع الإنسان خلعه ولو بمشقة - فلِأنْ يكون المسح على الجبيرة التي لا يستطيع الإنسان خلعها، من باب أولى. والله أعلم.
نفع الله بك .
لكن المريص ربما يتحمل بعض الماء ، ولا يتضرر به ، فهل دله الشارع إلى مسح أعضاءه ؟ قطعا لا ، إنما دله على التيمم .
وكذلك المسح على الجبيرة لم يأت به نص صحيح ، ولو كان مشروعا ـ وهو أمر سهل ـ لدلنا عليه الشارع لأنه في وسعنا ، فلما لم يفعل ، علم أنه ليس مشروعا .وكذلك لا ننس أن هذه عبادة والعبادة ـ كما تعلم ـ توقيفية ، لابد لها من نص صحيح ، ولا نص هنا . والقياس على الخف الذي يستطيع الإنسان أن يخلعه ـ ولو بمشقة ـ فلأن يدله الشارع إلى المسح على الجبيرة التي لا مشقة في المسح عليها ، من باب أولى ، ومع ذلك لم يفعل . وكذلك المسح على الخفين منصوص عليه ، أما هذا فلا . والخطب في ذلك سهل إن شاء الله ، بورك فيك أبا يوسف ـ وفي الجميع ـ على إفادتك .
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
وحديث بسر صحيح كما سبق ، وما عداه فلا يصح ، على النحو المذكور أعلاه . والله أعلم .
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
جزاكم الله خيرًا شيخنا الحبيب
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
تابع الدرس السابع
وَمَنْ شَكَّ فِي طَهَارَةٍ أَوْ حَدَثٍ بَنَى عَلَى يَقِينِهِ([1]).
وَحَرُمَ عَلَى مُحْدِثٍ: مَسُّ مُصْحَفٍ([2])، وَصَلَاةٌ([3])، وَطَوَافٌ([4]).
وَعَلَى جُنُبٍ وَنَحْوِهِ ذَلِكَ([5])، وَقِرَاءَةُ آيَةِ قُرْآنٍ([6])، وَلُبْثٌ فِي مَسْجِدٍ بِغَيْرِ وُضُوءٍ([7]).
[1])) لأن اليقين لا يزول بالشك؛ ودليل ذلك ما في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، قال: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُلُ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
[2])) ودليل ذلك قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 79]، وما رواه مالك والدارمي والدارقطني والحاكم والبيهقي، وصححه الألباني، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم: «أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ».
[3])) ودليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].
وما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ».
وما رواه مسلم عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ».
[4])) واستدلوا على ذلك بما رواه أحمد والترمذي والنسائي والدارمي والحاكم، وغيرهم، وصححه الألباني، ومحققو المسند، وحسين سليم أسد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَكُمْ فِيهِ الْكَلَامَ، فَمَنْ يَتَكَلَّمُ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِخَيْرٍ».
فقالوا: هذا الحديث يدل على أن الطواف كالصلاة؛ فيُشترط فيه الوضوء، كما يشترط في الصلاة.
ولكن الحديث لا يدل على اشتراط الوضوء للطواف؛ وإلا فالطواف يخالف الصلاة في أشياء كثيرة؛ فإنه لا يُشترط فيه القيام، ولا قراءة الفاتحة، ولا تكبيرة الإحرام، ولا غير ذلك مما هو شرط في الصلاة.
وإنما يدل الحديث على أن الطواف أبيح فيه الكلام؛ فلا يُتكلم فيه إلا بخير، ولا يُكثَر فيه من الكلام؛ لأن له حرمة كالصلاة.
ويتبين ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ يَتَكَلَّمُ فَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِخَيْرٍ»، وفي لفظ للحديث: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، فَأَقِلُّوا مِنَ الْكَلَامِ».
والصحيح أن الوضوء مستحب فقط؛ وذلك لما في ((الصحيحين)) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَجَّ.
وهذا فعل مجرد منه صلى الله عليه وسلم
وإنما يُشترط للطواف الطهارة الكبرى فقط؛ ودليل ذلك ما في ((الصحيحين)) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: «أَنَفِسْتِ؟» - يَعْنِي الْحَيْضَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي».
[5])) أي: ويحرم على الجنب ونحوه كحائض أو نفساء: مس المصحف، وصلاة وطهارة.
[6])) واستدلوا على ذلك بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى عَلِيٍّ، أَنَا وَرَجُلانِ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ، وَلا يَحْجِزُهُ - وَرُبَّمَا قَالَ: يَحْجُبُهُ - مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ. والحديث ضعيف.
وقد روى مسلم ما يخالف ذلك، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ.
قال الشوكاني رحمه الله ((نيل الأوطار)) (1/ 283): ((ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب ليس فيه ما يدل على التحريم؛ لأن غايته أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القراءة حال الجنابة، ومثله لا يصلح متمسكًا للكراهة، فكيف يُستدل به على التحريم؟
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس أنه لم ير في القراءة للجنب بأسًا، ويؤيده التمسك بعموم حديث عائشة))اهـ.
[7])) ودليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43].
قال ابن كثير رحمه الله في ((تفسيره)) (2/ 267): ((فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل.
وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم.
وقوله: {حتى تغتسلوا} دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي: أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم، إن عَدِمَ الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقة. وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد، لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك؛ وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فالله أعلم))اهـ.
وروى سعيد بن منصور في ((تفسيره)) (646)، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُون؛ إِذَا تَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ. قال ابن كثير: صحيح على شرط مسلم.
ودليل ذلك - أيضًا - ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: أَمَرَنَا - تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ، الْعَوَاتِقَ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ.
وأما ما رواه أبو داود عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ». فهو حديث ضعيف لا يصح.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
بارك الله فيك محمد طه واصل ولاتتوقف مأجور إن شاءالله
ملاحظة الشيخ فقيه العصر يجيز المسح على الجبيرة وتكلم بكلام نفيس في شرحه الممتع وفي فتاويه وغيرذلك ,بخلاف محدث العصر كأنه يؤيد ابن حزم في المنع فقد ضعف الأحاديث والآثارالواردة في ذلك رحم الله الجميع وبالله تعالى التوفيق
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبوأحمد المالكي
بارك الله فيك محمد طه واصل ولاتتوقف مأجور إن شاءالله
ملاحظة الشيخ فقيه العصر يجيز المسح على الجبيرة وتكلم بكلام نفيس في شرحه الممتع وفي فتاويه وغيرذلك ,بخلاف محدث العصر كأنه يؤيد ابن حزم في المنع فقد ضعف الأحاديث والآثارالواردة في ذلك رحم الله الجميع وبالله تعالى التوفيق
وفيكم بارك الله أخانا أبا أحمد، سنواصل إن شاء الله
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
السلام عليكم
أشكر صاحب الشرح شكرا
والأخ الذي جعله pdf
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو أندلس
السلام عليكم
أشكر صاحب الشرح شكرا
والأخ الذي جعله pdf
وفيكم بارك الله
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
الدرس الثامن
فَصْلٌ
مُوجِبَاتُ الْغُسْلِ سَبْعَةٌ([1]): خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ مَخْرَجِهِ بِلَذَّةٍ([2])، وَانْتِقَالُهُ([3])، وَتَغْييبُ حَشَفَةٍ فِي فَرْجٍ([4]) أَوْ دُبُرٍ([5])؛ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ، أَوْ مَيِّتٍ([6])، بِلَا حَائِلٍ([7])، وَإِسْلَامُ كَافِرٍ([8])، وَمَوْتٌ([9])، وَحَيْضٌ([10])، وَنِفَاسٌ([11]).
[1])) أي الأشياء التي توجب على صاحبها الغسل.
[2])) ودليل ذلك ما رواه مسلم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ».
وما في ((الصحيحين))، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، هَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ إِذَا رَأَتِ المَاءَ».
ولكن قَيَّد المصنف خروج المني هنا بقيدين: القيد الأول: خروج المني من مخرجه؛ فلو أصيب رجل – مثلًا – في ظهره فخرج منه المَنِيُّ، فليس عليه غسل.
القيد الثاني: أن يكون خروج المنيِّ بلذة؛ فلو خرج المني بغير لذة؛ لمرض ونحوه؛ فلا يوجب الغسل.
وهذان قيدان صحيحان؛ وذلك لِمَا رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وغيرهم، وصححه الألباني، ومحققو المسند، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَجَعَلْتُ أَغْتَسِلُ فِي الشِّتَاءِ حَتَّى تَشَقَّقَ ظَهْرِي، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ ذُكِرَ لَهُ - قَالَ: فَقَالَ: «لَا تَفْعَلْ، إِذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، فَإِذَا فَضَخْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ».
وفي لفظ: «إِذَا حَذَفْتَ فَاغْتَسِلْ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاذِفًا فَلَا تَغْتَسِلْ».
فدل هذا الحديث على أن المنيَّ إذا خرج من غير مخرجه لا يوجب الغسل؛ لأنه ليس متدفقًا.
ودل - أيضًا – على أنه إذا خرج بغير لذة – لمرض ونحوه - لا يوجب الغسل؛ لأنه لا يكون بهذه الصفة – وهي صفة التدفق – إلا إذا كان لشهوة.
ويستثنى من قيد اللذة: النائم؛ فعليه الغسل إذا رأى الماء، وإن لم يشعر بلذة؛ وذلك لحديث أم سلمة المتقدم: هَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ إِذَا رَأَتِ المَاءَ».
فعلَّق النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغسلَ على مجرد رؤية الماء، وإن لم يشعر بلذة؛ وذلك لأن النائم قد تحدث اللذة ولا يشعر بها؛ لنومه.
[3])) أي أن الغسل واجب بمجرد الشعور بانتقال المني، وإن لم يخرج، وهو المشهور عن أحمد، وفي رواية لا يجب عليه الغسل؛ وهو الصحيح، وهو ما رجحه ابن قدامة في ((المغني)) (1/ 147)؛ حيث قال رحمه الله: ((ولم يذكر القاضي في وجوب الغسل خلافًا، قال: لأن الجنابةَ تَباعُدُ الماءِ عن محله، وقد وُجد، فتكون الجنابة موجودة، فيجب الغسل بها؛ ولأن الغسل تُرَاعى فيه الشهوة، وقد حصلت بانتقاله، فأشبه ما لو ظهر.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّق الاغتسال على الرؤية وفضخه، بقوله: «إذا رأت الماء» و«إذا فضخت الماء فاغتسل» فلا يثبت الحكم بدونه))اهـ.
ورجحه أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله.
[4])) ودليل ذلك ما رواه مسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ».
وما في ((الصحيحين)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الغَسْلُ». وفي لفظ لمسلم: «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ».
[5])) قياسًا على الفرج.
[6])) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في ((الشرح الممتع)) (1/ 339): ((وقال بعض العلماء: إِنه لا يجب الغُسل بِوَطْءِ الميْتَةِ إِلا إِذَا أَنْزَلَ؛ والدَّليل قوله صلى الله عليه وسلّم: «إِذا جلس بين شُعَبِها الأربع ثم جَهَدَهَا»، وهذا لا يحصلُ إِذا كانت ميتة، لأنه لا يُجْهِدها.
وأيضًا: تلذُّذه بها غير تلذُّذه بالحيَّة.
أما البَهِيمَة فالأمر فيها أبعدُ وأبعدُ، لأنَّها ليست محلًّا لجِمَاع الآدميِّ))اهـ.
[7])) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في ((الشرح الممتع)) (1/ 340): ((وهل يُشْتَرط عدم وجود الحائل؟
قال بعض العلماء: يُشْتَرَط أن يكون ذلك بلا حائل؛ لأنَّه مع الحائل لا يَصْدُق عليه أنه مَسَّ الختانُ الختانَ، فلا يجب الغُسْلُ.
وقال آخرون: يجب الغُسْلُ لعُموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثم جَهَدَهَا»، والجَهْدُ يحصُل ولو مع الحائل.
وفَصَّل آخرون فقالوا: إنْ كان الحائلُ رقيقًا بحيث تَكْمُل به اللَّذَّةُ وجب الغُسْلُ، وإن لم يكن رقيقًا فإِنه لا يجب الغُسْل، وهذا أقرب، والأَولَى والأحوط أن يغتسل))اهـ.
[8])) أي: ومن موجبات الغسل: إسلام الكافر؛ ودليل ذلك ما رواه أحمد والبيهقي، وصححه الألباني، وقال محققو المسند: حديث قوي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ - أَوْ أُثَالَةَ - أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ، فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ».
وهذا الحديث في ((الصحيحين)) وغيرهما، دون أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولفظه: « . . . أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ» فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. . .
ودليل وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم – أيضًا – ما رواه أحمد والترمذي والنسائي، وغيرهم، وصححه الألباني ومحققو المسند، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ.
[9])) ودليل ذلك ما في ((الصحيحين)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا».
وما في ((الصحيحين)) أيضًا، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّة ِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ زَيْنَبُ، فَقَالَ: «اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا - أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ - فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي»، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» تَعْنِي: إِزَارَهُ.
[10])) ودليل ذلك ما ((الصحيحين))، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ، سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ: «لَا إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي». فيجب الغسل عند انقطاع دم الحيض.
[11])) وهذا هو الموجب السابع والأخير من موجبات الغسل، والدَّليل على وجوب الغُسْل منه: أنه نوع من الحيض، ولهذا أَطْلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اسمَ النِّفاس على الحيض؛ كما في ((الصحيحين)) عن عائشة رضي الله عنها، لمَّا حاضت، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «لَعَلَّكِ نُفِسْتِ».
قال ابن المنذر رحمه الله في ((الإجماع)) (37) ((وأجمعوا على أن على النفساء الاغتسالُ إذا طهرت))اهـ
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو أندلس
السلام عليكم
أشكر صاحب الشرح شكرا
والأخ الذي جعله pdf
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
جزاك الله خيرا أخي الكريم و جعل مثواك الجنة
-
1 مرفق
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الدرس السابع كاملا pdf
الحمد لله
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
جزاكم الله خيرًا أخانا عبد الله
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
جزاكم الله خيرًا أخانا عبد الله
الشكر كل الشكر لكم أخانا الحبيب، بارك الله أعمالكم
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَسُنَّ: لِجُمُعَةٍ): واستدلوا على ذلك بحديث الْحَسَنِ البَصْرِيِّ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ([1])».
وهو حديث معلول، لا يرقى لمعارضة الأحاديث التي في ((الصحيحين)) الواردة عن غير واحد من الصحابة، التي فيها الأمر بالغسل، أو التصريح بالوجوب. والله أعلم.
والصحيح – والله أعلم - أن غسل الجمعة واجب – وهو رواية عن أحمد - ودليل ذلك حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ([2])».
وفي لفظ في ((الصحيحين)): «الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ([3])».
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ([4])».
وفي لفظ في ((الصحيحين)) أيضًا، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ: «مَنْ جَاءَ إِلَى الجُمُعَةِ، فَلْيَغْتَسِلْ([5])».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه، بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ([6])».
وفي لفظ لمسلم: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه، فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا؟! أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ» .
وفي لفظ للبخاري: وَالوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ([7])؟
وعورضت هذه الأحاديث بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ ا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ه: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ([8])».
قال ابن حجر رحمه الله: ((قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَمَا مَعَهُ مُرَتِّبًا عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْمُقْتَضِي لِلصِّحَّةِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ كَافٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْغُسْلِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ )) بِلَفْظِ: «مَنِ اغْتَسَلَ» فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ الْوُضُوءَ لِمَنْ تَقَدَّمَ غُسْلُهُ عَلَى الذَّهَابِ فَاحْتَاجَ إِلَى إِعَادَة الْوضُوء([9])))اهـ.
قوله: (وَعِيدٍ): ودليل ذلك ما رواه الشافعي عَنْ زَاذَانَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا اعَنِ الْغُسْلِ فَقَالَ: اغْتَسِلْ كُلَّ يَوْمٍ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: الْغُسْلُ الَّذِي هُوَ الْغُسْلُ؟ قَالَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ الْفِطْرِ([10]).
وروى مالك في ((الموطأ)) عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى([11]).
قوله: (َكُسُوفٍ، وَاسْتِسْقَاءٍ): قِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ بِجَامِعِ الِاجْتِمَاعِ([12]).
قوله: (وَجُنُونٍ وَإِغْمَاءٍ): لحديث عائشة رضي الله عنها، الطويل في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ». قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ» قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ»، فَقَعَدَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي المَسْجِدِ . .([13]).
وقيس الجنون على الإغماء، قال في ((مطالب أولي النهى)): ((لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ لِلْإِغْمَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ احْتَلَمَ وَلَمْ يَشْعُرْ، وَالْجُنُونُ فِي مَعْنَاهُ بَلْ أَبْلَغُ، فَإِنْ أَنْزَلَ؛ وَجَبَ الْغُسْلُ([14])))اهـ.
قوله: (لَا احْتِلَامَ فِيهِمَا): لأنه لو احتلم، لكان الغسل بعد الإفاقة واجبًا.
قوله: (وَاسْتِحَاضَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ): لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، فَقَالَ: «هَذَا عِرْقٌ» فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاَةٍ ([15]).
وصُرف الأمر للاستحباب بحديث فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ رضي الله عنها، أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ، فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي([16])».
قوله: (وَإِحْرَامٍ): لحديث خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ لِإِهْلاَلِهِ وَاغْتَسَلَ([17]).
وروى مالك عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يغتسل للإحرام قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة([18]).
قوله: (وَدُخُولِ مَكَّةَ وَحَرَمِهَا): ودليل ذلك ما رواه نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى، حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَارًا، وَيَذْكُرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ([19]).
قوله: (وَوُقُوفٍ بِعَرَفَةَ): ودليل ذلك ما رواه الشافعي عَنْ زَاذَانَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا اعَنِ الْغُسْلِ فَقَالَ: اغْتَسِلْ كُلَّ يَوْمٍ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: الْغُسْلُ الَّذِي هُوَ الْغُسْلُ؟ قَالَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ الْفِطْرِ([20]).
وروى مالك عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يغتسل للإحرام قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة([21]).
قوله: (وَطَوَافِ زِيَارَةٍ، وَوَدَاعٍ، وَمُبِيتٍ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ جِمَارٍ): قالوا: لأن هذه كلها أنساك يُجتمع لها؛ فاستُحب لها الغسل قياسًا على الإحرام ودخول مكة([22]).
([1]) أخرجه أحمد (20177)، وأبو داود (354)، والترمذي (497)، وقال: ((حَسَنٌ))، والنسائي (1380).
وأخرجه ابن ماجه (1091)، عن الحسن عن أنس بن مالك.
وقد توبع الحسن عن أنس؛ تابعه يزيدُ الرقاشي؛ أخرجه مالك في ((الموطأ)) (62)، وابن ماجه (1091)، وغيرهما، ولكن هذه المتابعة لا تنفع؛ لأن يزيد الرقاشي ضعيف شديد الضعف، وفوق ذلك طريق هذه المتابعة منقطع؛ قال البغوي في ((مسند الجعد)) (1750): ((هَكَذَا حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ لَمْ يَسْمَعِ الثَّوْرِيُّ مِنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ شَيْئًا، وَبَيْنَهُمَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ))اهـ.
قلت: والربيع بن صبيح ضعيف؛ ضعفه ابن معين وغيره.
وأخرجه عبد الرزاق (5311)، والبيهقي في ((الكبير)) (1411)، عن الحسن عن النبي، مرسلًا.
وللحديث طرق أخرى انظرها في ((صحيح أبي داود للألباني)) (381).
وجميع طرقه لا تخلو من ضعف، ومن قواه كالشيخ الألباني، والشيخ الأرناؤوط؛ فإنما قواه بكثرة الطرق.
قلت: والذي أراه أن هذا الحديث لا يتقوى بحال؛ وهو معلول: أولًا لأن فيه عنعنة الحسن البصري، وهو مدلس؛ لا سيما وهو يرويه عن سمرة بن جندب المختلف في سماعه منه غير حديث العقيقة.
ثانيًا: لِمَا فيه من اضطراب؛ فمرة يُروى عن الحسن عن سمرة، ومرة عن الحسن عن أنس، ومرة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.
قال الحافظ ابن حجر: ((وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أَشْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَن سَمُرَة؛ أخرجهَا أَصْحَاب السّنَن الثَّلَاثَة وابن خُزَيْمَة وابن حِبَّانَ؛ وَلَهُ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ مِنْ عَنْعَنَةِ الْحَسَنِ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ))اهـ. ((فتح الباري)) (2/ 362).
([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري (879)، ومسلم (846).
([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري (880)، ومسلم (846).
وقد اعُترض على هذا الحديث بأنه لو قيل بوجوب الاغتسال يوم الجمعة؛ للزم القول بوجوب التسوك والتطيب؛ بدلالة الاقتران؛ لأن السياق واحد.
وأُجيب عن ذلك: بأن دلالة الاقتران ضعيفة، وقد وردت نصوص كثيرة قُرن فيها بين أشياء بعضها واجب وبعضها مستحب، من ذلك قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، والأكل مباح، وإعطاء الحق واجب.
([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (877)، ومسلم (844).
([5]) متفق عليه: أخرجه البخاري (919)، ومسلم (844).
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (882)، ومسلم (845).
([7]) ((صحيح البخاري)) (878).
([8]) صحيح: أخرجه مسلم (875).
([9]) ((فتح الباري)) (2/ 362).
([10]) أخرجه الشافعي في ((مسنده)) (114)، ومن طريقه البيهقي في ((الكبير)) (6124)، وصحح إسناده الألباني في ((الإرواء)) (1/ 177).
([11]) ((الموطأ)) (609)، وهو موقوف على ابن عمر، وإسناده في غاية الصحة.
([12]) انظر: ((مطالب أولي النهى في شرح المنتهى)) لمصطفى السيوطي الرحيباني (1/ 176).
([13]) متفق عليه: أخرجه البخاري (687)، ومسلم (418).
([14]) ((مطالب أولي النهى)) (1/ 177).
([15]) صحيح: أخرجه البخاري (327).
([16]) أخرجه أبو داود (304)، والترمذي (125)، وقال: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ))، والنسائي (363)، وابن ماجه (624)، وحسنه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (285).
([17]) أخرجه الترمذي (830)، وقال: ((هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ))، وحسنه الألباني في ((الإرواء)) (149).
([18]) أخرجه مالك في ((الموطأ)) (1032).
([19]) متفق عليه: أخرجه البخاري (1573)، ومسلم (1259).
([20]) أخرجه الشافعي في ((مسنده)) (114)، ومن طريقه البيهقي في ((الكبير)) (6124)، وصحح إسناده الألباني في ((الإرواء)) (1/ 177).
([21]) أخرجه مالك في ((الموطأ)) (1032).
([22]) انظر: ((منار السبيل)) (1/ 44).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
نفع الله بك أبا يوسف .
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله ، في الشرح الممتع :
فالذي نراه وندين الله به ، ونحافظ عليه أن غسل الجمعة واجب، وأنه لا يسقط إلا لعدم الماء، أو للضرر باستعمال الماء، ولم يأت حديث صحيح أن الوضوء كاف، وأما ما ورد في صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام» (1) ، فإنه مرجوح، لاختلاف الرواة، فبعضهم قال: «من اغتسل» وهذه أرجح، وبعضهم قال: «من توضأ».
__________
(1) أخرجه مسلم (857) (26) (27)، وقدَّم لفظ : «من اغتسل»، وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه. فتقديم مسلم لها يشير ـ والله أعلم ـ للمخالفة ، وأرجحية اللفظ الآخر .
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
تابع باب الغسل
قوله: (وَتَنْقُضُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا لِحَيْضٍ وَنِفَاسٍ لَا جَنَابَةٍ؛ إِذَا رَوَتْ أُصُولَهُ): تنقض المرأة شعرها لحيض ونفاس لحديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِي الحَجَّةِ، فَقَالَ لَنَا: «مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِالحَجِّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ»، قَالَتْ: فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَظَلَّنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «ارْفُضِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالحَجِّ»، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي([1]).
ولا تنقضه للجنابة لحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: «لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ([2])».
وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هَذَا؛ يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ. أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ، لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إِفْرَاغَاتٍ([3]).
قال ابن القيم رحمه الله: ((حديث أم سلمة هذا يدل على أنه ليس على المرأة أن تنقض شعرها لغسل الجنابة، وهذا اتفاق من أهل العلم؛ إلا ما يُحكى عن عبد الله بن عمرو
وإبراهيم النخعي أنهما قالا: تنقضه. ولا يُعلم لهما موافق([4])))اهـ.
وقال ابن قدامة رحمه الله: ((وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ نَقْضُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْروٍ([5])))اهـ.
قال ابن القيم رحمه الله: ((والأصل نقض الشعر؛ ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته، إلا أنه عُفِيَ عنه في غسل الجنابة؛ لتكرره، ووقوع المشقة الشديدة في نقضه، بخلاف غسل الحيض، فإنه في الشهر أو الأشهر مرة([6])))اهـ.
قوله: (وَسُنَّ: تَوَضُّؤٌ بِمُدٍّ، وَاغْتِسَالٌ بِصَاعٍ): ودليل ذلك حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ([7])، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ([8]).
وعن أَبِي جَعْفَرٍ، أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ وَأَبُوهُ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَسَأَلُوهُ عَنِ الغُسْلِ، فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي، فَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا، وَخَيْرٌ مِنْكَ. ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ([9]).
قوله: (وَكُرِهَ: إِسْرَافٌ): لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولحديث أَبِي نَعَامَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه، سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ، عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ([10])».
قوله: (وَإِنْ نَوَى بِالْغُسْلِ رَفْعَ الْحَدَثَيْنِ أَوِ الْحَدَثِ، وَأَطْلَقَ، ارْتَفَعَا): أي: أنه إن أطلق فلَمْ يُعَيِّنْ أكبر أو أصغر ارتفع الحدثان؛ وذلك لأنه إن عيَّن الأكبر، فالأصغر داخل فيه، وإن عيَّن الأصغر، فالأكبر داخل فيه من جهة أن الأصغر لن يرتفع إلا بارتفاع الأكبر. قوله: (وَسُنَّ لِجُنُبٍ: غَسْلُ فَرْجِهِ، وَالْوُضُوءُ لِأَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَنَوْمٍ): ودليل ذلك حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ جُنُبًا، فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ([11])».
وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ([12])».
قوله: (وَمُعَاوَدَةِ وَطْءٍ): لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ، فَلْيَتَوَضَّأْ([13])».
قوله: (وَالْغُسْلُ لَهَا أَفْضَلُ): أي: الغسل لهذه الأشياء أفضل؛ لأن الغسل أكمل، ولحديث أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ، وَكَانَ يَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَجْعَلُهُ غُسْلًا وَاحِدًا، فَقَالَ: «هُوَ أَزْكَى، وَأَطْيَبُ، وَأَطْهَرُ([14])».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف أحيانًا على نسائه بغسل واحد.
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ([15])».
قوله: (وَكُرِهَ: نَوْمُ جُنُبٍ بِلَا وُضُوءٍ): لحديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما المتقدم، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ([16])».
[1])) متفق عليه: أخرجه البخاري (1783)، ومسلم (1211).
[2])) صحيح: أخرجه مسلم (330)، وفي لفظ عند مسلم أيضًا: ((فأنقضه للحيضة والجنابة))، وهي لفظة شاذة. قال الشيخ الألباني رحمه الله ((الإرواء)) (1/ 168، 169): ((((وفى حديث عبد الرزاق: "فأنقضه للحيضة والجنابة" وأخرجه أبو عوانة من الطريقين عن الثورى دون قوله: "الحيضة".
وتابعه أيضًا روح بن القاسم: حدثنا أيوب بن موسى به, ولم يذكر "الحيضة". رواه مسلم.
ومن ذلك يتبين أن ذكر "الحيضة" فى الحديث شاذ لا يثبت؛ لتفرد عبد الرزاق بها عن الثورى خلافًا ليزيد بن هارون عنه، ولابن عيينة وروح بن القاسم عن أيوب بن موسى فإنهم لم يذكروها كما رأيت, ولذلك قال العلامة ابن القيم فى تهذيب السنن: "الصحيح فى حديث أم سلمة الاقتصار على ذكر الجنابة دون الحيض, وليست لفظة الحيض بمحفوظة" - ثم ساق الروايات المتقدمة ثم قال -: "فقد اتفق ابن عيينة وروح بن القاسم عن أيوب فاقتصر على الجنابة, واختُلف فيه على الثورى: فقال يزيد بن هارون عنه كما قال ابن عيينة وروح, وقال عبد الرزاق عنه: "أفأنقضه للحيضة والجنابة؟".
ورواية الجماعة أولى بالصواب, فلو أن الثورى لم يختلف عليه لترجحت رواية ابن عيينة وروح, فكيف وقد روى عنه يزيد بن هارون مثل رواية الجماعة؟
ومن أعطى النظر حقه علم أن هذه اللفظة ليست محفوظة فى الحديث"))اهـ..
[3])) صحيح: أخرجه مسلم (331).
[4])) ((تهذيب السنن)) (1/ 288).
[5])) ((المغني)) (1/ 166).
[6])) ((تهذيب السنن)) (1/ 90).
[7])) مقدار المد حوالي نصف لتر، ومقدار الصاع حوالي لترين.
[8])) متفق عليه: أخرجه البخاري (201)، ومسلم (325).
[9])) صحيح: أخرجه البخاري (252).
[10])) أخرجه أحمد (16796)، وأبو داود (96)، وابن ماجه (3864)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (86).
[11])) صحيح: أخرجه مسلم (305).
[12])) متفق عليه: أخرجه البخاري (287)، ومسلم (306).
[13])) صحيح: أخرجه مسلم (308).
[14])) أخرجه أحمد (23862)، وأبو داود (219)، وابن ماجه (590)، وقال الألباني رحمه الله في ((صحيح أبي داود)) (1/ 397): ((قال أبو داود: "حديث أنس أصح من هذا".
قلت: وهو كما قال؛ فإن هذا إسناده حسن، ولكن لا تعارض بينهما؛ بل
كان يفعل تارة هذا، وتارة ذلك، كما قال النسائي وغيره. والحديث قواه الحافظ ابن حجر))اهـ كلام الألباني.
[15])) صحيح: أخرجه مسلم (309).
[16])) متفق عليه: أخرجه البخاري (287)، ومسلم (306).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
فَصْلٌ
التيمم
يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ طَهُورٍ مُبَاحٍ لَهُ غُبَارٌ، إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ لِحَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ خِيفَ بِاسْتِعْمَالِه ِ أَوْ طَلَبِهِ ضَرَرٌ بِبَدِنٍ أَوْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيُفْعَلُ عَنْ كُلِّ مَا يُفْعَلُ بِالْمَاءِ سِوَى نَجَاسَةٍ عَلَى غَيْرِ بَدَنٍ، إِذَا دَخَلَ وَقْتُ فَرْضٍ وَأُبِيحَ غَيْرُهُ.
وَإِنْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي طَهَارَتَهُ اسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ.
وَيتَيَمَّمُ لِلْجُرْحِ عِنْدَ غُسْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ، وَيَغْسِلُ الصَّحِيحَ.
وَطَلَبُ الْمَاءِ شَرْطٌ؛ فَإِنْ نَسِيَ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَتيَمَّمَ أَعَادَ.
وَفُرُوضُهُ: مَسْحُ وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ إِلَى كُوعَيْهِ. وَفِي أَصْغَرَ: تَرْتِيبٌ وَمُوَالَاةٌ أَيْضًا.
وَنِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ شَرْطٌ لِمَا يَتَيَمَّمُ لَهُ، وَلَا يُصَلِّي بِهِ فَرْضًا إِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ أَطْلَقَ.
وَيَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَمُبْطِلَاتِ الْوُضُوءِ، وَبِوُجُودِ مَاءٍ إِنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِهِ.
وَسُنَّ لِرَاجِيهِ تَأْخِيرٌ لِآخِرِ وَقْتٍ مُخْتَارٍ.
وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِعْمَالُهُم َا صَلَّى الْفَرْضَ فَقَطْ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَا إِعَادَةَ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى مُجْزِئٍ، وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ إِنْ كَانَ جُنُبًا.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ): هذا أول شرط من شروط التيمم؛ وهو أن يكون التيمم بتراب؛ فإن عَدِمَ الترابَ فلَمْ يجد إلا رملًا أو خزفًا أو طينًا أو حجارة، فلا يتيمم؛ وإنما يصلي بلا تيمم؛ لأنَّه عادِم للماء والتُّراب.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6]، قال ابن قدامة رحمه الله: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّعِيدُ تُرَابُ الْحَرْثِ. وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقَا}: تُرَابًا أَمْلَسَ([1])))اهـ.
واستدلوا على ذلك أيضًا بحديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا([2])». وفي لفظ: «وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا([3])».
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((قالوا: هذا يُخصِّص عُموم قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وجُعِلتْ لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا»؛ لأن الأرض كلمة عامَّة، والتُّراب خاصٌّ، فيُقيَّد العام بالخاص.
ورُدَّ هذا: بأنه إِذا قُيِّد اللفظ العام بما يوافق حُكْم العام، فليس بِقَيد.
وتقرير هذه القاعدة: أنَّ ذكر بعض أفراد العام بحُكم يوافق حُكم العام، لا يقتضي تخصيصه.
مثال ذلك: إِذا قلت: (أكرِم الطَّلَبَة) فهذا عام، فإِذا قلت: أكرم زيدًا، وهو من الطَّلبة؛ فهذا لا يُخصِّص العام؛ لأنك ذكرت زيدًا بحُكْمٍ يوافق العام.
لكن لو قلت: لا تُكْرم زيدًا، وهو من الطَّلبة صار هذا تخصيصًا للعام؛ لأنِّي ذَكرته بِحُكْم يُخالف العام.
وهذه القاعدة - أعني أن ذكر أفرادٍ بِحُكْم يوافق العام لا يقتضي التخصيص - إِنَّما هو في غير التقييد بالوصف؛ أما إِذا كان التَّقييد بالوصف فإِنه يفيد التَّخصيص، كما لو قُلت: أكرِم الطَّلبة، ثم قلت: أكرِم المجتهد من الطَّلبة، فذِكْر المجتهد هنا يقتضي التَّخصيص؛ لأنَّ التَّقييد بِوَصْف. ومثل ذلك لو قيل: «في الإِبل صدقة»، ثم قيل: «في الإِبل السَّائمة صدقة» فالتَّقييد هنا يقتضي التَّخصيص فتأمَّل.
والصَّحيح: أنَّه لا يختصُّ التَّيمُّم بالتُّراب، بل بِكلِّ ما تصاعد على وجه الأرض، والدَّليل على ذلك:
1 - قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، والصَّعيد: كلُّ ما تصاعد على وجه الأرض، والله سبحانه يَعْلَم أنَّ النَّاس يطْرُقون في أسفارهم أراضي رمليَّة، وحجريَّة، وتُرابيَّة، فلم يخصِّص شيئًا دون شيء.
2 - أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، في غزوة تبوك مَرَّ برِمالٍ كثيرة، ولم يُنقل أنَّه كان يحمِل التُّراب معه، أو يصلِّي بلا تيمُّم([4])))اهـ.
قوله: (طَهُورٍ): هذا هو الشرط الثاني؛ فلا يصح التيمم بتراب متنجس، لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
قوله: (مُبَاحٍ): هذا هو الشرط الثالث؛ أن يكون التراب مباحًا؛ ليس مغصوبًا، أو مسروقًا؛ والصحيح أنه يجوز التيمم به مع الإثم للسرقة، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في مسألة الوضوء بالماء المغصوب.
قوله: (لَهُ غُبَارٌ): قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((والدَّليل على ذلك قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، قالوا: (مِنْ) للتَّبعيض، ولا تتحقَّق البعضيَّة إِلا بغبار يَعْلق باليد، ويُمْسَح به الوجه واليدان.
والصَّحيح: أنه ليس بشرط، والدَّليل على ذلك:
1 - عموم قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6].
2 - أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يسافر في الأرض الرمليَّة، والتي أصابها مطر، ولم ينقل عنه ترك التيمُّم.
وأما قولهم: إِن (مِنْ) تبعيضيَّة فالجواب عنه أن (مِنْ) ليست تبعيضيَّة بل لابتداء الغاية فهي كقولك: (سرت من مكَّة إِلى المدينة)، وهذا وإِن كان خلاف الظَّاهر إِلا أنَّه الموافق لِسُنَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث لَمْ يكن يَدَع التيمُّم في مثل هذه الحال.
وأيضًا: في حديث عمَّار رضي الله عنه الذي رواه البخاري: أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا ضَرَبَ بكفَّيهِ الأرض نَفَخَ فيهما، والنَّفْخُ يُزيل الغبار، وأثر التُّراب([5])))اهـ.
قوله: (إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ لِحَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ): يتيمم إذا عدم الماء؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
قوله: (أَوْ خِيفَ بِاسْتِعْمَالِه ِ أَوْ طَلَبِهِ ضَرَرٌ بِبَدِنٍ أَوْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِمَا): لقوله تعالى:{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وعن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا([6]).
[1])) ((المغني)) (1/ 182).
[2])) صحيح: أخرجه مسلم (522).
[3])) الطيالسي (418)، وابن خزيمة (264)، وابن حبان (6400)، والبيهقي في ((الكبير)) (1023).
[4])) ((الشرح الممتع)) (1/ 392).
[5])) ((الشرح الممتع)) (1/ 394).
[6])) أخرجه أحمد (17812)، وأبو داود (334)، وأخرجه البخاري في ((صحيحه)) (1/ 77) معلقًا، قال ابن حجر ((الفتح)) (1/ 454): ((وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، لَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ لِكَوْنِهِ اخْتَصَرَهُ))، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (154).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَيُفْعَلُ عَنْ كُلِّ مَا يُفْعَلُ بِالْمَاءِ): أي: لرفع حدث أكبر أو أصغر؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
قوله: (سِوَى نَجَاسَةٍ عَلَى غَيْرِ بَدَنٍ): أي: أن التيمم يرفع النجاسة التي على البدن، وأما إن كانت النجاسة على غير البدن، فلا تُرفع بالتيمم.
وهذا على المذهب في أن النجاسة لا تُرفع إلا بالماء؛ فإن كان على جسده نجاسة تيمم لها، وأما إن كانت النجاسة على ثوب أو بقعة، فلا يتيمم لها.
والصحيح؛ أن التيمم لا يكون إلا عن الحدث فقط، وأن النجاسة – سواء كانت على البدن، أو غيره – تُزال بماء أو غيره، ولا يُتَيمم لها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((والصَّحيح: أنه لا يتيمَّم إلا عن الحَدَث فقط؛ لما يلي:
1 - أن هذا هو الذي وَرَد النَّص به.
2 - أن طهارة الحَدَث عبادة، فإِذا تعذَّر الماء تعبَّد لله بتعفير أفضل أعضائه بالتُّراب، وأما النَّجاسة، فشيء يُطْلَبُ التَّخلِّي منه، لا إِيجادُه، فمتى خَلا من النَّجاسة ولو بلا نيَّة طَهُرَ منها، وإِلا صلَّى على حَسَب حاله؛ لأنَّ طهارة التَّيمُّم لا تؤثِّر في إزالة النَّجاسة، والمطلوب من إِزالة النَّجاسة تخْلِيَة البَدَنِ منها، وإِذا تيمَّم فإِنَّ النَّجاسة لا تزول عن البَدَن([1])))اهـ.
قوله: (إِذَا دَخَلَ وَقْتُ فَرْضٍ، وَأُبِيحَ غَيْرُهُ): أي: أنه لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الفرض، أو أُبيحت صلاة النوافل.
فلو تيمم قبل دخول وقت الصلاة، ثم دخل الوقت، فعليه بإعادة التيمم، ويلزمه التيمم لكل صلاة، ولو لم يُحدث، وكذلك لو تيمم لصلاة النفل في أوقات الكراهة، ثم أراد الصلاة بعد وقت الكراهة، فعليه بإعادة التيمم.
والحقيقة أن هذه المسألة مبنية على مسألة: هل التيمم مبيح للصلاة وغيرها، أم هو رافع للحدث؟ فمن قال هو مبيح فقط، قالوا بالقول المذكور، ومن قال بأنه رافع للحدث، قالوا بأن له التيمم قبل دخول الوقت، وأن له أن يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فريضة، ويصلي من النوافل ما شاء أن يصلي، ما دام أنه لم يُحدثْ.
فأما من قال بأن التيمم مبيح فقط، وهو المذهب، فاستدلوا على ذلك بحديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ ([2])».
قالوا: وَلَوْ رَفَعَ الْحَدَثَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْمَاءِ إذَا وَجَدَهُ([3]).
وأما من قال بأنه رافع للحدث، فاستدلوا بقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة: 6]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا([4])».
ولأنَّه بَدَل عن طهارة الماء؛ والقاعدة الشَّرعيَّة: أنَّ البَدَل له حُكْم المُبْدَل؛ فكما أنَّ طهارة الماء تَرفعُ الحَدَثَ، فكذلك طهارة التَّيمُّم([5]).
وهذا القول الأخير هو الصواب؛ فالتيمم رافع للحدث للأدلة المذكورة، وله أن يصلي به ما شاء أن يصلي من الفروض والنوافل، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ»؛ فلأن الماء هو الأصل؛ فإن وُجد الأصل فيلزم الرجوع إليه.
قوله: (وَإِنْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي طَهَارَتَهُ اسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ): واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، قالوا: وهذا واجد، وبحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ([6])»، وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ([7])»([8]).
واستدلوا على ذلك أيضًا بحديث جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ؛ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ علَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ([9])».
قالوا: فجمَع النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بين طهارة المسْحِ، وطهارة الغسْل([10]).
وهذا القول – وإن كان فيه قوة – إلا أن الأقوى منه قول من قال: إنما يجب عليه التيمم فقط.
وذلك أن من وجد بعض الماء الذي لا يكفيه، فإنه يصدق عليه أنه غير واجد للماء؛ لأن المقصود بالآية أن يجد الماء الذي يطهره؛ ولذلك لو وجد ماء نجسًا فإنه لا يمنعه من التيمم.
ولأن هذا التفصيل لم يأت في السنة، وحديث صاحب الشجة ضعيف لا يثبت.
قوله: (وَيتَيَمَّمُ لِلْجُرْحِ عِنْدَ غُسْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَسْحُهُ بِالْمَاءِ، وَيَغْسِلُ الصَّحِيحَ): واستدلوا على بحديث صاحب الشجة المتقدم، جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ؛ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ علَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ([11])».
والصواب أن عليه الغسل فقط، ولا يلزمه التيمم، لعدم ورود هذا التفصيل، وهذا الحديث ضعيف.
[1])) ((الشرح الممتع)) (1/ 377).
[2])) أخرجه أحمد (21371)، وأبو داود (332)، والترمذي (124)، وقال: ((هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (153).
[3])) انظر: ((مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى)) للرحيباني (1/ 191).
[4])) متفق عليه: أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
[5])) انظر: ((الشرح الممتع)) (1/ 375).
[6])) صحيح: أخرجه البخاري (7288).
[7])) تقدم قريبًا.
[8])) انظر: ((المغني)) (1/ 175)، و((الكافي)) (1/ 127).
[9])) أخرجه أبو داود (336)، والدارقطني في ((السنن)) (729)، والبيهقي في ((الكبير)) (1075)، وضعفه الدارقطني، والبيهقي، والنووي، وابن حجر، وضعف الألباني قوله: ((إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ علَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ)) ((الإرواء)) (105).
[10])) ((الشرح الممتع)) (1/ 383).
[11])) تقدم، وهو ضعيف.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَطَلَبُ الْمَاءِ شَرْطٌ): فلا يتيمم إلا بعد طلب الماء؛ والدَّليل على طلب الماء قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، ولا يُقال: لم يَجِد إِلا بعد الطَّلب.
صفة الطلب:
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَصِفَةُ الطَّلَبِ؛ أَنْ يَطْلُبَ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ إنْ رَأَى خُضْرَةً أَوْ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى الْمَاءِ قَصَدَهُ فَاسْتَبْرَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ بِقُرْبِهِ رَبْوَةٌ أَوْ شَيْءٌ قَائِمٌ أَتَاهُ وَطَلَبَ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَظَرَ أَمَامَهُ وَوَرَاءَهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ رُفْقَةٌ طَلَبَ مِنْهُمْ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْمَكَانِ سَأَلَهُ عَنْ مِيَاهِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَهُوَ عَادِمٌ.
وَإِنْ دُلَّ عَلَى مَاءٍ لَزِمَهُ قَصْدُهُ إِنْ كَانَ قَرِيبًا، مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ يَخْشَى فَوَاتَ رُفْقَتِهِ، وَلَمْ يَفُتِ الْوَقْتُ([1])))اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((يجب عليه أن يطلب الماء فيما قَرُبَ منه، فيبحث هل قُرْبه، أو حَوْله بئر، أو غدير؟ والقُرب ليس له حَدٌّ محدَّد، فيُرْجَع فيه إِلى العُرْف، والعُرْف يختلف باختلاف الأزمنة؛ ففي زمَننا وُجِدَت السيَّارات فالبعيد يكون قريبًا، وفي الماضي كان الموجود الإِبل فالقريب يكون بعيدًا.
فيبحث فيما قَرُبَ بحيث لا يشقُّ عليه طلبه، ولا يفوته وقت الصَّلاة([2])))اهـ.
قوله: (فَإِنْ نَسِيَ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَتيَمَّمَ أَعَادَ): وهو رواية عن أحمد، وعليه جمهور الأصحاب، وفي رواية عن أحمد: التوقف، وفي أخرى: أنه يجزئه([3]).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((لو كان يعرف أن حوله بئرًا لكنَّه نَسِيَ، فلما صلَّى، وَجَدَ البئر فإِنَّه يُعيد الصَّلاة.
فإِن قيل: كيف يعيد الصلاة وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
فالجواب: أن هذا تحصيل شَرْط، والشَّرط لا يسقط بالنِّسيان؛ ولأنه حَصَلَ منه نوع تفريط، فَلَوْ أنه فكَّر جيدًا؛ وتروَّى في الأمْرِ لَتَذكَّر.
وقيل: لا يُعيد؛ لأنَّه لم يقصد مخالفة أمْرِ الله تعالى، فهو حينما صلَّى كان منتهى قدرته أنَّه لا ماء حَوْلَه.
والأَحْوَط: أن يُعيد؛ والعلماء إِذا قالوا: الأَحْوَط، لا يَعْنُون أنه واجب، بل يَعْنُون أنَّ الورَعَ فعلُه أو تَرْكه؛ لئلَّا يُعرِّض الإِنسانُ نفْسَه للعقوبة؛ وهنا يُفرِّقون بين الحُكْمِ الاحتياطيِّ، والحُكْمِ المجزوم به. ذكر هذا شيخ الإِسلام رحمه الله([4])))اهـ.
قوله: (وَفُرُوضُهُ: مَسْحُ وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ إِلَى كُوعَيْهِ): ودليل ذلك قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بُوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6].
والكُوع: هو العَظم الذي يلي الإِبهام. وأنشدوا:
وَعَظْمٌ يَلِي الْإِبْهَامَ: كُوعٌ، وَمَا يَلِي . . . لِخَنْصَرِهِ: الْكُرْسُوعُ، وَالرَّسْغُ: مَا وَسَطْ
وَعَظْمٌ يَلِي إِبْهَامَ رِجْلٍ مُلَقَّبٌ: . . . بِبُوعٍ؛ فَخُذْ بِالْعِلْمِ، وَاحْذَرْ مِنَ الْغَلَطْ
والدَّليلُ على أنَّ المسح إِلى الكُوعين: قوله تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، واليَدُ إِذا أُطلقت فالمراد بها الكَفُّ بدليل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، والقَطْع إِنما يكون من مِفْصَل الكَفِّ.
حديث عمار بن ياسر؛ وفيه أن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا» ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ([5]).
ولم يَمسَحِ الذِّراع ([6]).
قوله: (وَفِي أَصْغَرَ: تَرْتِيبٌ وَمُوَالَاةٌ أَيْضًا): قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((يعني: أنَّ من فروض التَّيمُّم في الحَدَثِ الأصْغَرِ التَّرتيب والموالاة.
فالتَّرتيب: أن يبدأ بالوَجْه قَبْل اليَدَين.
ودليله قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6]، فبدأ بالوجه قبل اليدين.
والموالاة: ألَّا يُؤخِّر مسْحَ اليدين زمنًا لو كانت الطَّهارة بالماء لَجَفَّ الوَجْه، قبل أن يطهِّر اليدين.
وعلَّلوا: أن التَّيمُّم بَدل عن طهارة الماء، والبَدَل له حُكْمُ المبدَل، فلما كانا واجبَين في الوُضوء، وَجَبَا في التَّيمُّم عن الحَدَثِ الأصغر، وأما بالنسبة للأكبر كالجنابة فلا يُشْتَرط التَّرتيب ولا الموالاة؛ لِعَدم وجوبهما في طَهارة الجَنابة.
وقال بعض العلماء: إِن التَّرتيب والموالاة فَرْضٌ فيهما جميعًا.
واستدلُّوا بِقَوله صلّى الله عليه وسلَّم في حديث عَمَّار وهو جُنُب: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا» فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ([7]). ففعل التَّيمُّم مرتَّبًا، متواليًا.
قالوا: وقياس التَّيمُّم على طهارة الحَدَثِ الأكبر في عَدَم وُجوب التَّرتيب والموالاة قياس مع الفارق؛ لأن البَدَنَ كلَّه عُضْوٌ واحد في طهارة الحدث الأكبر بالماء وفي التَّيمُّم عُضْوان.
وقال بعض العلماء: إِنهما لَيْسا فرضًا في الطَّهارتين جميعًا([8]).
والذي يظهر أن يقال: إِن التَّرتيب واجب في الطَّهارتين جميعًا، أو غير واجب فيهما جميعًا؛ لأن الله تعالى جعل التَّيمُّم بدلًا عن الطَّهارتين جميعًا، والعضوان للطهارتين جميعًا.
وبالنِّسبة للموالاة الأوْلَى أن يُقال: إِنها واجبة في الطَّهارتين جميعًا؛ إِذ يبعد أن نقول لمن مَسَح وَجْهَه أوَّل الصُّبْح، ويدَيْه عند الظُّهر: إِن هذه صورة التَّيمُّم المشروعة([9])))اهـ.
قوله: (وَنِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ شَرْطٌ لِمَا يَتَيَمَّمُ لَهُ): أي: لا يكفيه نية التيمم فقط؛ وإنما لا بد أن ينوي نيةَ التيمم عن الحدث سواء أصغر أو أكبر، ونيةَ ما يتيمم له.
مثال ذلك:
شخص محدث حدثًا أصغر، وأراد أن يصلي صلاة الظهر، فعليه أن ينوي نية رفع الحدث الأصغر، وينوي أيضًا نية استباحة صلاة الظهر.
أو شخص على بدنه نجاسة([10]) وحدث أكبر، وأراد أن يصلي الصبح والنافلة، فعليه أن ينوي التيمم لرفع النجاسة ورفع الحدث الأكبر، وأن ينوي أيضًا استباحة صلاة الصبح وصلاة النافلة.
وكل هذا مبنيٌّ على مسألة كون التيمم مبيح أو رافع؛ فلو قلنا بأنه مبيح – وهو المذهب – لزم نية الاستباحة، ولو قلنا بأنه رافع – وهو القول الراجح – فهو حينئذ كطاهرة الماء؛ لا يشترط له نية الاستباحة.
قوله: (وَلَا يُصَلِّي بِهِ فَرْضًا إِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ أَطْلَقَ): مثاله: تيمَّم للرَّاتبة القبلية، فلا يُصلِّي به الفريضة؛ لأنه نَوى نَفْلًا والتَّيمُّم على المذهب استباحة، ولا يستبيح الأعلى بنيَّة الأدنى.
وقوله: (أو أطلقَ)؛ أي: نَوى التَّيمُّم للصَّلاة، وأطلق فلم يَنْوِ فرضًا ولا نَفْلًا، لم يُصَلِّ به فرضًا، وهذا من باب الاحتياط([11]).
[1])) ((المغني)) (1/ 174).
[2])) ((الشرح الممتع)) (1/ 386).
[3])) ((الإنصاف)) (1/ 278).
[4])) ((الشرح الممتع)) (1/ 387).
ومعنى كلام الشيخ الأخير: أن الاحتياط يؤخذ به في المسائل المحتملة، وليس في المسائل المجزوم بها.
[5])) متفق عليه: أخرجه البخاري (338)، ومسلم (368).
[6])) ((الشرح الممتع)) (1/ 395، 396).
[7])) متفق عليه: أخرجه البخاري (338)، ومسلم (368).
تنبيه: وقع في رواية عند البخاري برقم (347) ومسلم (368): «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا، فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ»؛ فبدأ باليدين قبل الوجه.
وهذه اللفظة خطَّأَ فيها الإمامُ أحمدُ أبا معاوية. كما ذكر ذلك ابن رجب في ((فتح الباري)) (2/ 292).
وقد رواه غير واحد عن الأعمش - منهم شعبة بن الحجاج - بتقديم الوجه على اليدين.
[8])) وهو قول في مذهب أحمد. انظر: ((الإنصاف)) (1/ 287).
[9])) ((الشرح الممتع)) (1/ 397، 398).
[10])) تقدم أن النجاسة لا يُتيمم لها على الصحيح، ولكنا نذكر هنا ما عليه المذهب.
[11])) ((الشرح الممتع)) (1/ 401).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَيَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ): هذا شروعٌ في بيان مبطلات التيمُّم، وهي خروج الوقت، أي: وقت الصَّلاة التي تيمَّم لها، فإِذا تيمَّم لصلاة الظُّهر بَطَلَ بخروجِ الوقت، فلا يصلِّي به العصر.
قالوا: لأن هذه استباحة ضرورة فَتُقدَّر بِقَدر الضرورة، فإِذا تيمَّم للصَّلاة؛ فإِن تيمُّمه يتقدَّر بقدر وقتِ الصَّلاة.
والصَّحيح: أَنَّه لا يَبطل بخروج الوقت، وأنَّك لو تيمَّمت لِصلاة الفَجر، وبقيتَ على طهارتكَ إِلى صلاة العِشاء فتيمُّمك صحيح([1]).
قوله: (وَمُبْطِلَاتِ الْوُضُوءِ): هذا هو الثَّاني من مُبطلات التَّيمُّم، وهو مبطلات الوُضُوء، أي: نواقض الوضوء.
مثال ذلك: إِذا تيمَّم عن حَدَث أصغر، ثم بال أو تغوَّط، بَطل تيمُّمه؛ لأنَّ البَدَل له حُكْم المبدَل.
وكذا التيمُّم عن الأكبر يبطل بموجبات الغُسْل، وهذا ظاهر جدًّا([2]).
قوله: (وَبِوُجُودِ مَاءٍ إِنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِهِ): هذا هو الثَّالث من مبطلات التيمُّم؛ وهو وجود الماء فيما إِذا كان تيمُّمه لِعَدَم الماء.
فإِذا تيمَّم لِعَدَم الماء بَطلَ بوجوده، وإِذا تيمَّم لمرَضٍ لم يَبْطُلْ بوجود الماء؛ لأنه يجوز أن يتيمَّم مع وجود الماء، ولكن يَبْطُل بالبَرْءِ لزوال المبيح، وهو المرَض. ولهذا لو قال المؤلِّف: (وبزوال المبيح) لكان أَوْلَى([3]).
قوله: (وَسُنَّ لِرَاجِيهِ تَأْخِيرٌ لِآخِرِ وَقْتٍ مُخْتَارٍ): قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((أي: إِذا لم يَجِدِ الماءَ عند دخول الوقت، ولكن يرجو وجُودَه في آخر الوقت؛ فتأخير التَّيمُّم إِلى آخر الوقت أَوْلَى؛ ليصلِّي بطهارة الماء، وإِن تيمَّم وصلَّى في أوَّل الوقت فلا بأس.
واعْلَم أن لهذه المسألة أحوالًا:
فيترجَّح تأخير الصَّلاة في حالين:
الأولى: إِذا عَلِمَ وجود الماء.
الثَّانية: إِذا ترجَّح عنده وجود الماء؛ لأن في ذلك محافظة على شَرْطٍ من شروط الصَّلاة وهو الوُضُوء، فيترجَّح على فِعْل الصَّلاة في أوَّل الوقت الذي هو فضيلة.
ويترجَّح تقديم الصَّلاة أول الوقت في ثلاث حالات:
الأولى: إِذا عَلِمَ عدم وجود الماء.
الثَّانية: إِذا ترجَّحَ عنده عَدَمُ وجود الماء.
الثالثة: إِذا لم يترجَّحْ عنده شيء.
وذهب بعضُ العلماء إِلى أنه إِذا كان يَعْلَم وجود الماء فيجب أن يؤخِّر الصَّلاة؛ لأن في ذلك الطَّهارة بالماء، وهو الأصل فيتعيَّن أنْ يؤخِّرَها.
والرَّاجح عندي: أنه لا يتعيَّن التَّأخير، بل هو أفضل لما يلي:
1 - عموم قوله صلّى الله عليه وسلَّم: «أيُّما رجل من أمتي أدْركَتْه الصَّلاة فليُصَلِّ».
2 - أنَّ عِلْمَه بذلك ليس أمرًا مؤكَّدًا، فقد يتخلَّف لأمْرٍ من الأمور، وكلَّما كان الظَّن أقوى كان التَّأخير أَوْلَى([4])))اهـ.
[1])) السابق.
[2])) السابق.
[3])) السابق.
[4])) ((الشرح الممتع)) (1/ 408، 409).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِعْمَالُهُم َا صَلَّى الْفَرْضَ فَقَطْ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ): إذا عدم المكلف الماء والتراب، أَو لم يُمكنهُ استعمالهما لمَانع؛ كمن بِهِ قُرُوح لَا يَسْتَطِيع مَعهَا مس الْبشرَة بِوضُوء وَلَا تيَمّم، أو حُبس في مكان ليس فيه ما يصح به التيمم أو الوضوء، فإنه يجب عليه أن يصلي في الوقت بلا وضوء ولا تيمم؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ([1])»، ولأن الطهارة شرط من شروط صحة الصلاة، فتعذرها لا يبيح ترك الصلاة، كالسترة، واستقبال القبلة([2]).
وقوله: (صَلَّى الْفَرْضَ فَقَطْ): أي: لا يصلي السنن والنوافل؛ لأنه إنما أبيح له الفرض لداعي الضرورة إليه([3]).
قلت: والصواب أن له أن يصلي النوافل أيضًا.
قال الشيخ العلامة ابن جبرين رحمه الله: ((وقصدوا بذلك أن طهارته ناقصة؛ فلا يأتي إلا بالواجب اللازم؛ ولعلَّ الصحيح أنه كغيره في إتيانه بالسنن، وزيادته على المجزئ؛ وذلك لأنه اتقى الله ما استطاع([4])))اهـ.
قوله: (وَلَا إِعَادَةَ): أي: لا يعيد الصلاة بعد وجود الماء أو التراب؛ ودليل ذلك ما في ((الصحيحين)) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُم ُ الصَّلاَةُ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فَقَالَ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً([5]).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ لَمَّا فَقَدَتْ عَائِشَةُ عِقْدَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعَادَةِ([6])))اهـ.
قوله: (وَيَقْتَصِرْ عَلَى مُجْزِئٍ): أي: في الصلاة، قال البهوتي رحمه الله: ((فلا يقرأ زائدًا على الفاتحة، ولا يستفتح، ولا يتعوذ، ولا يُبسمل، ولا يسبح زائدًا على المرة الواحدة، ولا يزيد على ما يجزئ في طمأنينة ركوع أو سجود أو جلوس بين السجدتين، وإذا فرغ من قراءة الفاتحة ركع في الحال، وإذا فرغ مما يجزئ في التشهد نهض أو سلم في الحال؛ لأنها صلاةُ ضرورةٍ فتقيدت بالواجب؛ إذ لا ضرورة لزائد([7])))اهـ.
قال الشيخ العلامة ابن جبرين رحمه الله: ((وقصدوا بذلك أن طهارته ناقصة؛ فلا يأتي إلا بالواجب اللازم؛ ولعلَّ الصحيح أنه كغيره في إتيانه بالسنن، وزيادته على المجزئ؛ وذلك لأنه اتقى الله ما استطاع، وهذه الأقوال والأفعال عبادات يثاب عليها خارج الصلاة، ويأتي بها العبد ولو كان جنبًا أو مُتَنَجِّسًا، وهذا المصلي قد أُبيح له دخول الصلاة والتعبد بها، والتحريم والتكبير والقراءة والأذكار، فلا مانع من إتيانه بالمستحب في هذه الصلاة، ولو كانت ناقصة الصلاة للعذر([8])))اهـ.
قوله: (وَلَا يَقْرَأْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ إِنْ كَانَ جُنُبًا): لاشتراط الطهارة من الحدث الأكبر عند تلاوة القرآن، على المذهب، وقد تقدم أنها لا تُشترط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه.
ولو قلنا باشتراطها، فإنها غير لازمة هنا؛ لأنه غير قادر عليها.
وعليه؛ فإن فاقد الطهورين له أن يقرأ القرآن. والله أعلم.
[1])) متفق عليه: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).
[2])) انظر: ((المعني)) (1/ 184)، و((الكافي)) (1/ 131، 132).
[3])) ((كشف القناع عن متن الإقناع)) للبهوتي (1/ 171).
[4])) ((شفاء العليل شرح منار السبيل)) (1/ 360).
[5])) متفق عليه: أخرجه البخاري (3773)، ومسلم (367).
[6])) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 287).
[7])) ((شرح منتهى الإرادات)) (1/ 96).
[8])) ((شفاء العليل شرح منار السبيل)) (1/ 360).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
فَصْلٌ
تَطْهُرُ أَرْضٌ وَنَحْوُهَا بِإِزَالَةِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَأَثَرِهَا بِالْمَاءِ، وَبَوْلُ غُلَامٍ لَمْ يَأْكُلْ طَعَامًا بِشَهْوَةٍ وَقَيْئُهُ، بِغَمْرِهِ بِهِ، وَغَيْرُهُمَا بِسَبْعِ غَسْلَاتٍ أَحَدُهَا بِتُرَابٍ وَنَحْوِهِ، فِي نَجَاسَةِ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ فَقَطْ مَعَ زَوَالِهَا، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ هُمَا عَجْزًا، وَتَطْهُرُ خَمْرَةٌ انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا، وَكَذَا دَنُّهَا، لَا دِهْنٌ وَمُتَشَرِّبٌ نَجَاسَةً، وَعُفِيَ فِي غَيْرِ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ عَنْ يَسِيرِ دَمٍ نَجْسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ، لَا دَمَ سَبِيلٍ، إِلَّا مِنْ حَيْضٍ.
وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَقَمْلٌ، وَبَرَاغِيثُ، وَبَعُوضٌ، وَنَحْوُهَا طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا.
وَمَائِعٌ مُسْكِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَيْرٍ وَبَهَائِمَ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ خِلْقَةً، وَلَبَنٌ وَمَنِيٌّ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ، وَبَوْلٌ، وَرَوْثٌ، وَنَحْوُهَا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسَةٌ؛ وَمِنْهُ طَاهِرَةٌ كَمِمَّا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ.
وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ عُرْفًا؛ إِنْ عُلِمَتْ نَجَاسَتُهُ، وَإِلَّا فَطَاهِرٌ.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (تَطْهُرُ أَرْضٌ وَنَحْوُهَا بِإِزَالَةِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَأَثَرِهَاِ بِالْمَاءِ): أي: أن الأرض ونحوها؛ كالحجارة، إذا تنجست فإنها لا يُحكم بطهارتها إلا أذا أُزيلت عين النجاسة وأثرها من ريح ولون.
قوله: (بِالْمَاءِ): فيه تعيُّن الماء لإزالة النَّجاسة؛ فلا تُزال بغير الماء، وهذا هو المشهور في المذهب؛ أن المتنجس سواء كان أرضًا، أو ثوبًا، أو فراشًا، أو جدارًا، أو غير ذلك، لا يطهر إلا بالماء؛ واستدلوا على تعين الماء لإزالة النجاسة بقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، وبحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزْرِمُوهُ» ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ([1]).
وبحديث أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابِ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ وَنَشْرَبُ فِي آنِيَتِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلاَ تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا([2])».
وبحديث أَسْمَاءَ رضي الله عنها، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ، قَالَ: «تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ([3])».
وبحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ يَرْضَعُ، فَبَالَ فِي حَجْرِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ([4]).
قالوا: ففي هذا دليل على تعين الماء لإزالة النجاسة([5]).
قلت: والصواب أن تعين الماء لإزالة جميع النجاسات غير صحيح؛ وإنما يتعين فقط في المواضع التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالماء؛ كولوغ الكلب في الإناء.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله: ((وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ فِي التَّطْهِيرِ لِوَصْفِهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَسُنَّةً وَصْفًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ؛ لَكِنَّ الْقَوْلَ بِتَعَيُّنِهِ وَعَدَمِ إجْزَاءِ غَيْرِهِ يَرُدُّهُ حَدِيثُ مَسْحِ النَّعْلِ وَفَرْكِ الْمَنِيِّ وَحَتِّهِ وَإِمَاطَتِهِ بِإِذْخَرَةٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ يَقْضِي بِحَصْرِ التَّطْهِيرِ فِي الْمَاءِ، وَمُجَرَّدُ الْأَمْرُ بِهِ فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِهِ مُطْلَقًا، وَغَايَتُهُ تَعَيُّنُهُ فِي ذَلِكَ الْمَنْصُوصِ بِخُصُوصِهِ إِنْ سَلِمَ([6])))اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((والصَّواب أنَّه إِذا زالت النَّجاسة بأي مزيل كان، طَهُر محلُّها؛ لأنَّ النَّجاسة عينٌ خبيثة، فإذا زالت زال حكمها، فليست وصفًا كالحدث لا يُزال إِلا بما جاء به الشَّرع، وقد قال الفقهاء رحمهم الله: "إذا زال تغيُّر الماء النَّجس الكثير بنفسه صار طَهُورًا، وإِذا تخلَّلت الخمر بنفسها صارت طاهر" وهذه طهارة بغير الماء.
وأما ذِكْرُ الماء في التَّطهير في الأدلة السَّابقة فلا يدلُّ تعيينُه على تعيُّنِهِ؛ لأن تعيينَه لكونه أسرعَ في الإِزالة، وأيسرَ على المكلَّف([7])))اهـ.
قوله: (وَبَوْلُ غُلَامٍ لَمْ يَأْكُلْ طَعَامًا بِشَهْوَةٍ وَقَيْئُهُ، بِغَمْرِهِ بِهِ): قوله: (بشهوة)؛ أي: لم يشتهِ الطعام؛ فلو أُطعم بغير شهوة منه، فلا عبرة بهذا الطعام؛ وذلك لأن الطفل الصغير لا يخلو من بعض الطعام الذي يُطعَمه؛ حتى إنه يحنك يوم ولادته.
وقوله: (بغمره به)؛ أي: بالماء؛ يقال: غَمَره الْمَاءُ يَغْمُرُه غَمْرًا واغْتَمَره: عَلاه وغَطَّاه([8]).
ودليل ذلك حديث أَبِي السَّمْحِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ ([9])».
وعَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيَّةِ رضي الله عنها، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ([10]).
وفي لفظ لمسلم: فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ نَضَحَ بِالْمَاءِ.
وفي لفظ لمسلم أيضًا: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلًا.
وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، أَنَّهَا أَبْصَرَتْ أُمَّ سَلَمَةَ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى بَوْلِ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَطْعَمْ، فَإِذَا طَعِمَ غَسَلَتْهُ، وَكَانَتْ تَغْسِلُ بَوْلَ الْجَارِيَةِ([11]).
وقوله: (وقيئه)؛ فيه دليل على نجاسة القيء، وهو المذهب، واستدلوا على ذلك بحديث عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما, قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى بِئْرٍ أَدْلُو مَاءً فِي رَكْوَةٍ لِي, فَقَالَ: «يَا عَمَّارُ مَا تَصْنَعُ؟» , قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي وَأُمِّي, أَغْسِلُ ثَوْبِي
مِنْ نُخَامَةٍ أَصَابَتْهُ, فَقَالَ: «يَا عَمَّارُ، إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْمَنِيِّ. يَا عَمَّارُ، مَا نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رَكْوَتِكَ إِلَّا سَوَاءٌ([12])».
قال النووي رحمه الله: ((حَدِيثُ عَمَّارٍ هَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْن ِيِّ وَالْبَيْهَقِيّ ُ قَالَ: "الْبَيْهَقِي ُ هُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ" وَبَيَّنَ ضَعْفَهُ الدَّارَقُطْنِي ّ وَالْبَيْهَقِيّ ُ([13])))اهـ.
كما استدلوا على ذلك بقياس القيء على الغائط؛ لأنه قد ظهر فيه النتن والفساد.
قلت: وهو بعيد أيضًا؛ لأنه ليس كل فاسد نجس؛ فهو يحتاج إلى دليل خاص، ولا يوجد.
قال العلامة الألباني رحمه الله – معلقًا على قول صاحب ((فقه السنة)) بنجاسة قيء الآدمي – ((قلت: لم يذكر المؤلف الدليل على ذلك اللهم إلا قوله: "إنه متفق على نجاسته" وهذه دعوى منقوضة فقد خالف في ذلك ابن حزم؛ حيث صرح بطهارة قيء المسلم راجع "المحلى"(1 / 183) وهو مذهب الإمام الشوكاني في ((الدرر البهية)) وصديق خان في ((شرحها)) (1 / 18 - 20) حيث لم يذكرا في النجاسات قيء الآدمي مطلقًا، وهو الحق ثم ذكرا أن في نجاسته خلافًا، ورجحا الطهارة بقولهما:
"والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه". وذكر نحوه الشوكاني أيضا في ((السيل الجرار)) (1/ 43).
وهذا الأصل قد اعتمده المؤلف في غير ما مسألة مثل طهارة أبوال ما يؤكل لحمه وطهارة الخمر فيما ذكر هو بعد، وهو أصل عظيم من أصول الفقه، فلا أدري ما الذي حمله على تركه هنا مع أنه ليس في الباب ما يعارضه من النصوص الخاصة؟([14])))اهـ كلام الألباني.
[1])) متفق عليه: أخرجه البخاري (6025)، ومسلم (284).
[2])) متفق عليه: أخرجه البخاري (5478)، ومسلم (1930).
[3])) متفق عليه: أخرجه البخاري (227)، ومسلم (291).
[4])) متفق عليه: أخرجه البخاري (6002)، ومسلم (286).
[5])) انظر: ((الشرح الممتع)) (1/ 423).
[6])) ((نيل الأوطار)) (1/ 57).
[7])) ((الشرح الممتع)) (1/ 30).
[8])) ((لسان العرب)) (5/ 29).
[9])) أخرجه أبو داود (376)، والنسائي (304)، وابن ماجه (526)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (8117).
[10])) متفق عليه: أخرجه البخاري (223)، ومسلم (287).
[11])) أخرجه أبو داود (379)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (405).
[12])) أخرجه الدارقطني في ((سننه) (458)، وضعفه. وضعفه ابن حجر رحمه الله في ((التلخيص الحبير)) (1/ 33).
[13])) ((المجموع)) (2/ 549).
[14])) ((تمام المنة)) (53).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَغَيْرُهُمَا بِسَبْعِ غَسْلَاتٍ): أي: ويطهر غير الأرض ونحوها، وغير بول طفل وقيئه، بأن يُغسل سبع غسلات؛ إذًا يُشترط لتطهير جميع النجاسات كأَسْفَل خف وحذاء وذيل امْرَأَة وَنَحْو ذلك أن تُغسل سبع غسلات؛ واستدلوا على ذلك بما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْنَا بِغَسْلِ الْأَنْجَاسِ سَبْعًا([1])»، فَيَنْصَرِفُ إلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولكن هذا الحديث لا أصل له.
والصحيح أن جميع النجاسات – عدا الكلب – تطهر بإزالة عينها، ولا يشترط لها العدد؛ وهو قول في المذهب ورجحه ابن قدامة ([2]) وابن عثيمين ([3]) وغيرهما رحمهما الله؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العدد إلا في نجاسة الكلب، وأما حديث ابن عمر فلا أصل له كما تقدم.
قوله: (أَحَدُهَا بِتُرَابٍ وَنَحْوِهِ، فِي نَجَاسَةِ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ فَقَطْ): أي: أحد هذه الغسلات السبع يكون بالتراب في نجاسة الكلب والخنزير فقط، دون سائر النجاسات، فلا يُشترط فيها غسلة التراب، وذلك لما رواه النسائي عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ([4])».
وأما لفظ مسلم: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ([5])».
وفي حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلِ رضي الله عنه، عند مسلم، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟» ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ، وَقَالَ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ([6])».
فهذه النصوص واردة في نجاسة الكلب، وقاس العلماء عليها نجاسة الخنزير، وهو قياس ضعيف.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((الخنزير حيوان معروف بفَقْدِ الغيرة، والخُبث، وأكلِ العَذِرة، وفي لحمه جراثيم ضارَّة، قيل: إِن النَّار لا تؤثِّر في قتلها، ولذا حَرَّمه الشَّارع.
والفقهاء رحمهم الله ألحقوا نجاسته بنجاسة الكلب؛ لأنه أخبث من الكلب، فيكون أوْلى بالحكْم منه.
وهذا قياس ضعيف؛ لأن الخنزير مذكور في القرآن، وموجود في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يَرِدْ إِلحاقه بالكلب؛ فالصَّحيح: أن نجاسته كنجاسة غيره، فتُغسل كما تُغسل بقية النَّجاسات([7])))اهـ.
وقوله: (بِتُرَابٍ وَنَحْوِهِ): نحو التراب كالأشنان والصابون والنخالة([8]).
فهذا وجه في المذهب أنها تجزئ عن التراب، وهناك وجه آخر أنها لا تجزئ.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وإن جعل مكان التراب جامدًا آخر كالأشنان؛ ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجزئه؛ لأن نصه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه تطهير ورد الشرع فيه بالتراب، فلم يقم غيره مقامه كالتيمم.
والثالث: يجزئه إن عدم التراب، أو كان مفسدًا للمغسول للحاجة، وإلا فلا([9])))اهـ.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((الأشنان شجر يُدَقُّ ويكون حبيبات كحبيبات السُّكَّر أو أصغر، تُغسل به الثِّياب سابقًا، وهو خشن كخشونة التُّراب، ومنظِّف، ومزيل، ولهذا قال المؤلِّف: يجزئ عن التُّراب في نجاسة الكلب.
وهذا فيه نظر لما يلي:
1- أن الشارع نَصَّ على التُّراب، فالواجب اتِّباع النَّصِّ.
2- أن السِّدْر والأشنان كانت موجودة في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يُشِرْ إِليهما.
3- لعل في التُّراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لُعاب الكلب.
4- أن التُّراب أحد الطهورين، لأنه يقوم مقام الماء في باب التيمُّم إِذا عُدِم؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «وجُعِلت لي الأرضُ مسجدًا وطَهُورًا»، فرُبَّما كان للشَّارع ملاحظات في التُّراب فاختاره على غيره؛ لكونه أحد الطَّهورين، وليس كذلك الأشنان وغيره. فالصَّحيح: أنه لا يجزئ عن التُّراب، لكن لو فُرض عدم وجود التُّراب - وهذا احتمال بعيد - فإِن استعمال الأشنان، أو الصَّابون خير من عَدَمه([10])))اهـ.
[1])) ذكره ابن قدامة في ((المغني)) (1/ 40)، وليس له أصل في كتب السنة، وقال الألباني رحمه الله ((الإرواء)) (1/ 186): ((لم أجده بهذا اللفظ)).
([2]) ((المغني)) (1/ 41).
([3]) ((الشرح الممتع)) (1/ 422).
[4])) أخرجه النسائي (337).
[5])) متفق عليه: أخرجه البخاري (127)، ومسلم (279)، واللفظ له.
[6])) أخرجه مسلم (280).
[7])) ((الشرح الممتع)) (1/ 418).
[8])) انظر: ((الروض المربع)) (50).
[9])) ((الكافي)) (1/ 161، 162).
[10])) ((الشرح الممتع)) (1/ 419).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
مسألة:
هل لعاب الكلب المعلَّم نجس؟
قال النووي رحمه الله: ((مَذْهَبُنَا أَنَّ الْكِلَابَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ؛ الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُهُ، الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ؛ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حنيفة واحمد وإسحاق وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ([1])))اهـ.
قلت: وهو الصحيح؛ لأمرين:
الأول: أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها الأمر بالغَسل من لُعاب الكلب عامة، فشملت المعَلَّم وغير المعلم.
الثاني: سياق حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلِ رضي الله عنه، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟» ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ، وَقَالَ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ([2])».
فهذا السياق فيه دلالة على نجاسة لعاب الكلب المعلَّم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الكلب المعلم، ثم أمر بالغسل من لعاب الكلب، فهذا فيه دلالة واضحة على نجاسة لعابه والله أعلم.
[1])) ((المجموع)) (2/ 567).
[2])) أخرجه مسلم (280).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (مَعَ زَوَالِهَا): أي: إلى زوال النجاسة.
قوله: (وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ هُمَا عَجْزًا): فإن بقي لون النجاسة أو ريحها عجزًا؛ أي بعد غسل النجاسة مرات عديدة، فبقي اللون أو الرائحة أو هما معًا؛ فإنه يُحكم بطهارة المحل؛ ودليل ذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَأَنَا أَحِيضُ فِيهِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: «إِذَا طَهُرْتِ فَاغْسِلِيهِ، ثُمَّ صَلِّي فِيهِ». فَقَالَتْ: فَإِنْ لَمْ يَخْرُجِ الدَّمُ؟ قَالَ: «يَكْفِيكِ غَسْلُ الدَّمِ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُه([1])».
ويُفهم من كلام المؤلف أن بقاء الطعم يضر؛ وهو كذلك؛ لسهولة إزالته، ولأن بقاء الطعم يدل على أن النجاسة باقية، وأما اللون أو الرائحة فهما أثرٌ للنجاسة، وليسا عينها.
قوله: (وَتَطْهُرُ خَمْرَةٌ انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا، وَكَذَا دَنُّهَا): فإن انقلبت الخمرة بنفسها خلًّا أصبحت طاهرة، وقد نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع على ذلك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((وَالْخَمْرَةُ إذَا اسْتَحَالَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَتْ خَلًّا، كَانَتْ طَاهِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ([2]))).
وقال أيضًا: ((لَوِ انْقَلَبَتِ الْخَمْرَةُ خَلًّا بِغَيْرِ قَصْدِ آدَمِيٍّ، فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ([3]))).
وقال أيضًا: ((فَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْخَمْرِ إذَا صَارَتْ خَلًّا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، صَارَتْ حَلَالًا طَيِّبًا([4]))).
وقال أيضًا: ((الْخَمْرُ الْمُنْقَلِبَةُ بِنَفْسِهَا، تَطْهُرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ([5]))).
وكذلك الحكم لإنائها؛ فإنه يطهر بطهارة ما فيه؛ لأنه لا يُتصور الحكم بطهارة الخمرة، مع نجاسة إنائها؛ لأن الخمر مائعة، فإن كان إناؤها نجسًا لتنجست منه، ولا يُحكم بطهارتها.
ويُفهم من كلام المصنف أن الخمر لو تخللت بفعل أحد، لَمْ تَطْهر؛ وهذا هو المذهب، ودليل ذلك حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا، فَقَالَ: «لَا([6])».
وفي لفظ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ، سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا، قَالَ: «أَهْرِقْهَا» قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: «لَا([7])».
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((فَلَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَيَجِبُ أَنْ تُرَاقَ الْخَمْرَةُ وَلَا تُخَلَّلُ؛ هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَتَامَى، وَمَعَ كَوْنِ تِلْكَ الْخَمْرَةِ كَانَتْ مُتَّخَذَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً([8])))اهـ.
قلت: وهذا كله مبني على القول بنجاشة الخمر؛ والصواب أنها طاهرة؛ لأنه ليس هناك دليل على نجاستها.
قوله: (لَا دُهْنٌ وَمُتَشَرِّبٌ نَجَاسَةً): أي: لا يطهر الدهن إذا تنجس؛ ودليل ذلك حديث مَيْمُونَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ([9])». فلو كان الدهن يطهر، لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتطهيره؛ لأن في إلقائه إضاعة للمال.
وكذلك لا يطهر متشرب نجاسة؛ كاللحم والعجين؛ قياسًا على الدهن.
[1])) أخرجه أحمد (8767)، وأبو داود (365)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (168).
[2])) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 502).
[3])) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 525).
[4])) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 71).
[5])) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 475).
[6])) أخرجه مسلم (1983).
[7])) أخرجه أحمد (12189)، وأبو داود (3675)، والترمذي (1293)، وصححه الألباني في ((تخريج المشكاة)) ( 3649).
[8])) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 483).
[9])) أخرجه البخاري (235).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَعُفِيَ - فِي غَيْرِ مَائِعٍ وَمَطْعُومٍ - عَنْ يَسِيرِ دَمٍ نَجْسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ، لَا دَمَ سَبِيلٍ، إِلَّا مِنْ حَيْضٍ): ذكر المصنف رحمه الله النجاسة المعفو عنها، وذكر عدة تقييدات:
القيد الأول: أن يكون دمًا.
القيد الثاني: أن يكون يسيرًا.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: ((يسير الدم معفو عنه، بدليل الكتاب والإجماع؛ أما دليل الكتاب فقوله سبحانه: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، فلما حكم بنجاسة الدم، وصفه بكونه مسفوحًا؛ والمسفوح: هو الكثير، ومفهوم ذلك أن اليسير لا يأخذ حكم الكثير المسفوح فاستُثني، وتأيَّد هذا بفعل الصحابة رضي الله عنهم؛ كما صحَّ عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنهما لم يريا في البثرة شيئًا؛ بل كان أحدهم يعصرها فيخرج منها الدم، ويصلي، ولا يغسلُها.
وأما الإجماع: فلأن جميع من قال بنجاسة الدم استثنى اليسير - وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في حدِّ اليسير - فهم بهذا متفقون على أن اليسير معفو عنه([1])))اهـ.
وخرج بالقيد الأول ما سوى الدم من النجاسات؛ كالبول والغائط؛ فلا يُعفى عنه؛ لأمرين:
الأمر الأول: أنها نجاسة، والأصل التحرز منها؛ وإنما استُثني يسير الدم بمفهوم قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}، وبفعل الصحابة، والإجماع.
الأمر الثاني: أن غير الدم من النجاسات لا يشق التحرز منها؛ وإنما ورد التخفيف في الدم لمشقة التحرز منه.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((لأنها نجاسة، لا يشق التحرز منها، فَلَمْ يعف عنها كالكثير([2]))).
وقال الشنقيطي رحمه الله: ((وإذا قلنا: إن يسير الدم معفو عنه؛ فإنه يَرِدُ السؤالُ: هل يلتحقُ بغيرِ الدَّم غيرُه؟ فمن العلماء من قال: أقْصُر الرُّخصةَ على محلِّها، فأعفو عن الدم وحدَه؛ لأنه هو الذي دل عليه دليل الكتاب، وهو الذي فعله الصحابة رضوان الله عليهم فيبقى غيره على الأصل.
وقال بعض العلماء: ما دامت العلَّة التخفيف، وأن اليسير لا يأخذ حكم الكثير، فنطرد ذلك في كل نجاسة، فنقول: يسير النجاسة معفو عنه سواء كان دمًا، أو غيره([3]). والمذهب الأول أرجح؛ لإعماله لدليل الأصل، وقصر الرخصة على محلِّها؛ وعليه فإن الحكم باستثناء اليسير يختصُّ بالدم وحده، ولا يلتحقُ به غيره من النَّجاسات؛ كيسير المَذْي، والودْي، والبول، والغائط، فكلُّها باقيةٌ على الأصل لضعف دليل الاستثناء([4])))اهـ.
وخرج بالقيد الثاني الدم الكثير، فلا يُعفى عنه.
وقوله: (وَنَحْوِهِ): أي: ونحو الدم؛ كالقيح والصديد؛ فله حكمه.
القيد الثالث: ألا يكون الدم اليسير في مائع أو مطعوم؛ فإن كان في مائع أو مطعوم فلا يُعفى عنه، ولو كان يسيرًا؛ قالوا: لعدم المشقة في التحرز منه؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((أما المائع والمطعوم؛ فلا يُعفى عن يسيره فيهما، هذا هو المذهب، والرَّاجح: العفو عن يسيره فيهما كغيرهما ما لم يتغيَّر أحدُ أوصافهما بالدَّمِ([5])))اهـ.
القيد الرابع: أن يكون الدمُ دمَ حيوانٍ طاهرٍ في الحياة؛ ككل حيوان مأكول اللحم، وكالهرة والفأرة.
فإن كان الدم من حيوان نجس؛ كالكلب والخنزير؛ فلا يُعفى عنه.
القيد الخامس: ألا يكون الدمُ دمَ سبيلٍ؛ أي: خارج من القبل أو الدبر؛ قال البهوتي رحمه الله: ((فَإِنْ كَانَ مِنْ سَبِيلٍ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَوْلِ أَوْ الْغَائِطِ([6])))اهـ.
فهذه قيود خمسة؛ واستثنى المصنف من الدم الخارج من السبيلين، دمَ الحيض، ومثله دم النفاس والاستحاضة؛ فيُعفى عن يسيره؛ ودليل ذلك حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالت: مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا ([7]).
قال برهان الدين ابن مفلح: ((وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُ، لِأَنَّ الرِّيقَ لَا يُطَهِّرُ، وَيَتَنَجَّسُ بِهِ ظُفُرُهَا، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ لَا يَخْفَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم([8])))اهـ.
[1])) ((شرح زاد المستقنع)) للشنقيطي (1/ 369).
[2])) ((الكافي)) (1/ 170).
[3])) وممن ذهب إلى أن العلة المشقة، فأطرد ذلك في جميع النجاسات: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه الشيخ ابن عثيمين رحمهما الله؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((شيخ الإسلام رحمه الله يرى العفوَ عن يسير جميع النَّجَاسات، ولا سيَّما إذا شَقَّ التَّحرُّزُ منها؛ مثل أصحاب الحمير الذين يلابسونها كثيرًا، فلا يَسلمُ من رشاش بول الحمار أحيانًا بل غالبًا؛ فشيخُ الإسلام يرى أنَّ العِلَّة المشقَّةُ، فكلَّما شَقَّ اجتناب النَّجَاسة فإنَّه يُعفى عن يسيرها، وكذا يقال في مثل أصحاب «البويات» إنَّه يُعفى عن يسيرها إذا أصابت أبدانهم مما يحول بينها وبين الماء؛ لأنَّ الدِّين يُسر))اهـ. ((الشرح الممتع)) (2/ 225).
[4])) ((شرح زاد المستقنع)) (1/ 370).
[5])) ((الشرح الممتع)) (1/ 439).
[6])) ((كشف القناع عن متن الإقناع)) (1/ 190).
[7])) صحيح: أخرجه البخاري (321).
[8])) ((المبدع في شرح المقنع)) (1/ 214).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَقَمْلٌ، وَبَرَاغِيثُ، وَبَعُوضٌ، وَنَحْوُهَا طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا): ودليل طهارة هذه الأشياء حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً».
فهذا نَصٌّ في الذباب، ثم عُدِّىَ هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالأشياء المذكورة، وكالزنبور والنحلة والعنكبوت ونحوها مما لا دم له سائل؛ إذ الحكم يَعُمُّ بعموم علته وينتفي بانتفاء سببه([1]).
فهذه الأشياء وإن كان في بعضها دمًا، إلا أنه لا يسيل، وهي طاهرة مطلقًا؛ أَي: حَيَاةً وموتًا.
[1])) انظر: ((الأسئلة والأجوبة الفقهية)) عبد العزيز بن محمد السلمان (1/ 35).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَمَائِعٌ مُسْكِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَيْرٍ وَبَهَائِمَ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ خِلْقَةً، وَلَبَنٌ وَمَنِيٌّ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ، وَبَوْلٌ، وَرَوْثٌ، وَنَحْوُهَا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسَةٌ): ذكر المصنف رحمه الله هنا بعض الأعيان النجسة، فقال:
(وَمَائِعٌ مُسْكِرٌ)؛ كالخمر والنبيذ إذا تخمر وكان مسكرًا؛ وكل ما تخمر وأصبح مسكرًا، فهو نجس في المذهب.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((والخمر نجس؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر، فكان نجسًا كالدم، والنبيذ مثله؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رواه مسلم، ولأنه شراب فيه شدةٌ مطربة، أشبه الخمر([1])))اهـ.
فالمذهب على أن الخمر نجسة، وهو قول جمهور العلماء؛ ولكن الصحيح أنه ليس هناك دليل على نجاستها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((جمهور العلماء ومنهم الأئمَّة الأربعة، واختاره شيخ الإِسلام أنَّها نجسة، واستدلُّوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] . والرِّجس: النَّجَس؛ بدليل قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، ولا مانع من أن تكون في الأصل طيِّبة؛ ثم تنقلب إِلى نجسة بعلَّة الإِسكار؛ كما أن الإِنسان يأكل الطَّعام وهو طيِّب طاهر ثم يخرج خبيثًا نجسًا.
واستدلُّوا أيضًا بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإِنسان: 21] يعني في الجَنَّة، فدلَّ على أنه ليس كذلك في الدُّنيا.
والصَّحيح: أنها ليست نجسة، والدَّليل على ذلك ما يلي:
1- حديث أنس رضي الله عنه: «أنَّ الخمرَ لمَّا حُرِّمت خرج النَّاس، وأراقوها في السِّكك»، وطُرقات المسلمين لا يجوز أن تكون مكانًا لإِراقة النَّجاسة، ولهذا يَحرُم على الإِنسان أن يبولَ في الطَّريق؛ أو يصبَّ فيه النَّجاسة.
2- أنَّه لما حُرِّمت الخمر لم يؤمروا بِغَسْل الأواني بعد إِراقتها، ولو كانت نجسة لأُمروا بِغَسْلها، كما أُمروا بِغَسْل الأواني من لحوم الحُمُر الأهليَّة حين حُرِّمت في غزوة خيبر.
3- ما رواه مسلم أن رجلًا جاء براوية خمر فأهداها للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «أما علمتَ أنَّها حُرِّمت؟» فَسَارَّةُ رجلٌ أنْ بِعْها، فقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلَّم: «بِمَ سارَرْتَهُ؟» ، قال: أمَرْتُهُ ببيعِهَا، فقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلَّم: «إِن الذي حَرَّمَ شُرْبَها حَرَّمَ بَيْعَها» ، ففتح الرجلُ المزادة حتى ذهب ما فيها. وهذا بحضرة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يَقُلْ له: اغْسلِها، وهذا بعد التَّحريم بلا ريب.
4- أنَّ الأصل الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا دليل هنا. ولا يلزم من التحريم النجاسة؛ بدليل أن السُمَّ حرام وليس بنجس.
والجواب عن الآية: أنَّه يُراد بالنَّجاسةِ النَّجاسةُ المعنويَّة، لا الحسِّيَّة لوجهين:
الأول: أنها قُرِنَت بالأنصاب والأزلام والميسر، ونجاسة هذه معنويَّة.
الثاني: أن الرِّجس هنا قُيِّد بقوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فهو رجسٌ عمليٌّ، وليس رجسًا عينيًّا تكون به هذه الأشياء نجسة.
فإِن قيل: كيف تخالف الجمهور؟.
فالجواب: أن الله تعالى أمر عند التَّنازع بالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، دون اعتبار الكثرة من أحد الجانبين، وبالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة يتبيَّن للمتأمِّل أنه لا دليل فيهما على نجاسة الخمر نجاسة حسيَّة، وإِذا لم يَقُم دليل على ذلك فالأصل الطَّهارة، على أننا بيَّنَّا من الأدلَّة ما يَدُلُّ على طهارته الطَّهارة الحسيَّة([2])))اهـ.
قال: (وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَيْرٍ وَبَهَائِمَ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ خِلْقَةً)؛ كَصَقْرٍ، وَبُومٍ، وَعُقَابٍ، وَحَدَأَةٍ، وَنَسْرٍ، وَغُرَابٍ؛ وَكَبَغْلٍ، وَحِمَارٍ، وَأَسَدٍ، وَنَمِرٍ، وَفَهْدٍ، وَذِئْبٍ، وَكَلْبٍ، وَخِنْزِيرٍ، وَدُبٍّ وَقِرْدٍ، وَسِمْعٍ: هُوَ وَلَدُ ضَبُعٍ مِنْ ذِئْبٍ، وَعِسْبَارُ: وَلَدُ ذِئْبَةٍ مِنْ ضَبُعٍ. والمقصود نجاسة جسدها ولحمها وما يتولد منها حال حياتها؛ وأما حال موتها فهي نجسة بالاتفاق؛ واستدلوا على نجاسة هذه الأشياء بحديثِ ابْنِ عُمَرَ ب, عند أحمد وأصحاب السنن، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ه سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ([3])».
والصحيح عدم نجاسة هذه الأشياء إلا الكلب والخنزير، وأما ما سواهما فليس هناك دليل صريح على نجاستها، وأما حديث ابن عمر المذكور، فقد أجاب عنه الشوكاني رحمه الله بقوله: ((وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى الْمَاءِ مَظِنَّةٌ لِإِلْقَائِهَا الْأَبْوَالَ وَالْأَزْبَالَ عَلَيْهِ ([4])))اهـ.
وأما طهارة الهرة فما دونها، فدليله حديث كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ، دَخَلَ فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَات ِ([5])».
فكان هذا نصًّا في الهرة، وقياسًا على غيرها بجامع التطواف ومشقة التحرز.
وقوله: (وَلَبَنٌ وَمَنِيٌّ مِنْ غَيْرِ آدَمِيٍّ)؛ ومن غير مأكول اللحم - فهذا قيد آخر لا بد منه، لَمْ يذْكرْه المصنف –: نجس كبوله وروثه.
ويُفهم منه أن لبن ومني الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر، وهو المشهور في المذهب.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله – مقررًا طهارة مني الآدمي -: ((ولنا في تقرير طهارته ثلاث طُرُق:
1- أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة، فَمَن ادَّعى نجاسة شيء فَعَلَيْه الدَّليل.
2- أن عائشة رضي الله عنها كانت تَفرُك اليابس من مَنِيِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَغْسِل الرَّطب منه ، ولو كان نَجِسًا ما اكتفت فيه بالفَرْكِ، فقد قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب، قال: «تَحُتُّه، ثمَّ تَقْرُصُه بالماء، ثمَّ تَنْضِحُه، ثمَّ تصلِّي فيه». فلا بُدَّ من الغَسْل بعد الحتِّ، ولو كان المنيُّ نجسًا كان لا بُدَّ من غَسْله، ولم يُجْزِئ فَرْكُ يابِسِه كدَمِ الحيض.
3- أن هذا الماء أصل عِبَاد الله المخلصين من النَّبيين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وتأبى حكمة الله تعالى، أن يكون أصل هؤلاء البَررة نَجِسًا.
ومرَّ رجل بعالمين يتناظران، فقال: ما شأنكما؟ قال: أحاول أن أجعل أَصْلَه طاهرًا، وهو يحاول أن يجعل أصْلَه نجِسًا؛ لأن أحدهما يرى طهارة المنيِّ، والآخر يرى نجاسته.
فإن قيل: لماذا لا يُقال: بأنه نجس كفَضَلات بني آدم من بول، وغائط؟
فالجواب:
1- أنه ليس جميع فضلات بني آدم نجسة، فَرِيقُهُ، ومخاطه، وعَرَقُه كلُّه طاهر.
2- أنَّ هناك فَرْقًا بين البول، والغائط، والمنيِّ؛ فالبول والغائط، فَضْلَةُ الطَّعام والشَّراب، وله رائحة كريهة مستخْبَثَة في مشامِّ الناس ومناظِرِهم، فكان نجسًا، أما المنيُّ فبالعكس فهو خلاصة الطَّعام والشَّراب، فالطَّعام والشَّراب يتحوَّل أولًا إِلى دَمٍ، وهذا الدَّم يسقي الله تعالى به الجسم، ولهذا يمرُّ على الجسم كلِّه، ثم عند حدوث الشَّهوة يتحوَّل إِلى هذا الماء الذي يُخلَق منه الآدميُّ، فالفرق بين الفضْلَتَين من حيثُ الحقيقةُ واضح جدًّا، فلا يمكن أن نُلحِق إِحداهما بالأخرى في الحكْم، هذه فضلة طيِّبَة طاهرة خلاصة، وهذه خبيثة مُنْتِنَة مكْروهة([6])))اهـ. مختصرًا.
وقد ذهب إلى طهارة مني الآدمي كثير من العلماء؛ منهم ابن قدامة، وابن تيمية رحمهما الله.
وقوله: (وَبَوْلٌ، وَرَوْثٌ، وَنَحْوُهَا مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ نَجِسَةٌ)؛ أي: ونحو المني واللبن والبول والروث، كالمذي والودي، فهي نجسة إن كانت من غير مأكول اللحم، من حيوان أو إنسان.
فأما الدليل على نجاسة عَذِرَة الإنسان، فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء والاستجمار منها، وقد أجمع العلماء على نجاسة عَذِرَة الإنسان.
وأما الدليل على نجاسة بوله، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ، أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ([7])».
وفي لفظ لمسلم: «لَا يَسْتَنْزِهُ عَنِ الْبَوْلِ».
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ([8]).
وقد أجمع العلماء على نجاسة بول الإنسان.
وأما المذي، فهو ماء لزج رقيق يخرج عقيب الشهوة، على طرف الذكر، وظاهر المذهب أنه نجس([9]). ودليل نجاسته، حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ([10])».
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَأَمَّا الْوَدْيُ، فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ خَاثِرٌ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَوْلِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَجَارٍ مَجْرَاهُ([11])))اهـ.
وقد نُقل الإجماع على نجاسة المذي والودي.
قال النووي رحمه الله: ((أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ([12]))).
ولكن الصحيح أن فيهما خلاف يسير.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، كَالْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، وَالدَّمِ، وَغَيْرِهِ؛ فَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِي نَجَاسَتِهِ خِلَافًا، إِلَّا أَشْيَاءَ يَسِيرَةً([13])))اهـ.
قلت: والخلاف فيه هو رواية عن أحمد رحمه الله، قال ابن قدامة رحمه الله: ((المذي نجس؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المذي -: «اغْسِلْ ذَكَرَكَ» ولأنه خارج من الذكر لا يخلق منه الولد، أشبه البول، وعنه: أنه كالمني: لأنه خارج بسبب الشهوة، أشبه المني([14])))اهـ.
وقال ابن رجب رحمه الله: ((وعن أحمد رواية أن المذي طاهر كالمني([15]))).
وقال برهان الدين ابن مفلح رحمه الله: ((وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْوَدْيَ، وَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ عَقِيبَ الْبَوْلِ نَجِسٌ، وَأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ مُطْلَقًا، وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَعَنْهُ: هُوَ كَالْمَذْيِ([16]))).
وأما روث وبول ما لا يؤكل لحمه، فقد قال ابن قدامة رحمه الله: ((وبول ما لا يؤكل لحمه، ورجيعه نجس؛ لأنه بول حيوان غير مأكول، أشبه بول الآدمي؛ إلا بول ما لا نفس له سائلة، فإن ميتته طاهرة فأشبه الجراد([17])))اهـ.
ويُفهم من كلام صاحب المتن أن الخارج من مأكول اللحم؛ كاللبن والمني والبول والروث طاهر؛ وهي رواية عن أحمد، قال عبد الله رحمه الله: ((سَأَلت أبي: مَا يُستنجس من الابوال؟ فَقَالَ: الأبوال كلُّهَا نَجِسَةٌ إِلَّا مَا يُؤْكَل لَحْمه([18]))).
وفي رواية أخرى أنه نجس أيضًا.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر، وعنه أنه كالدم؛ لأنه رجيع، والمذهب الأول؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ([19])» حديث صحيح، وكان يصلي فيها قبل بناء مسجده([20])، وقال للعرنيين: «انْطَلِقُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَاشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ([21])» متفق عليه([22])))اهـ.
قوله: (وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ عُرْفًا؛ إِنْ عُلِمَتْ نَجَاسَتُهُ، وَإِلَّا فَطَاهِرٌ)؛ قال البهوتي رحمه الله: ((وَطِينُ شَارِعٍ ظُنَّتْ نَجَاسَتُهُ طَاهِرٌ، وَكَذَا تُرَابُهُ، عَمَلًا بِالْأَصْلِ، فَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ([23]))).
وقال الرحيباني رحمه الله: ((وَيُعْفَى أَيْضًا عَنْ يَسِيرِ طِينِ شَارِعٍ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ؛ لِعُسْرِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ تُرَابٌ، قَالَ فِي ((الْفُرُوعِ)): وَإِنْ هَبَّتْ رِيحٌ فَأَصَابَ شَيْئًا رَطْبًا غُبَارٌ نَجِسٌ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ([24])))اهـ.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَاحْتَجَّ – أي: أحمد - بِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ الْمَطَرَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَلَا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ، لَمَّا غَلَبَ الْمَاءُ الْقَذِرُ؛ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ خَاضَ طِينَ الْمَطَرِ، وَصَلَّى، وَلَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ، عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا لَا نَتَوَضَّأُ مِنْ مَوْطِئٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ وَالْحَسَنُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ([25])))اهـ.
[1])) ((الكافي)) (1/ 158).
[2])) ((الشرح الممتع)) (1/ 430- 432).
[3])) أخرجه أحمد (4605)، وأبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (23).
[4])) ((نيل الأوطار)) (1/ 54).
[5])) أخرجه أحمد (22580)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (173).
[6])) ((الشرح الممتع)) (1/ 454، 455).
[7])) متفق عليه: أخرجه البخاري (216)، ومسلم (292).
[8])) متفق عليه: أخرجه البخاري (221)، ومسلم (284).
[9])) ((المغني)) (2/ 64).
[10])) متفق عليه: أخرجه البخاري (269)، ومسلم (303).
[11])) ((المغني)) (2/ 64).
[12])) ((المجموع)) (2/ 552).
[13])) ((المغني)) (2/ 64).
[14])) ((الكافي)) (1/ 154).
[15])) ((فتح الباري)) له (1/ 306).
[16])) ((المبدع في شرح المقنع)) (1/ 216).
[17])) ((الكافي)) (1/ 154).
[18])) ((مسائل عبد الله)) (34).
[19])) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ» قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ» قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «لَا». رواه مسلم.
[20])) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، قَبْلَ أَنْ يُبْنَى المَسْجِدُ، فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ. متفق عليه.
[21])) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا؛ فَانْطَلَقُوا . . . الحديث. متفق عليه.
[22])) ((الكافي)) (1/ 154، 155).
[23])) ((شرح منتهى الإرادات)) (1/ 109).
[24])) ((مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى)) (1/ 237).
[25])) ((المغني)) (2/ 71).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
فَصْلٌ فِي الْحَيْضِ
لَا حَيْضَ مَعَ حَمْلٍ، وَلَا بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَلَا قَبْلَ تَمَامِ تِسْعِ سِنِينَ.
وَأَقَلُّهُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَأَكْثَرُهُ: خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَغَالِبُهُ: سِتٌّ، أَوْ سَبْعٌ.
وَأَقَلُّ طُهْرٍ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ.
وَحَرُمَ عَلَيْهَا: فِعْلُ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ، وَيَلْزَمُهَا قَضَاؤُهُ.
وَيَجِبُ بِوَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ: دِينَارٌ، أَوْ نِصْفُهُ؛ كَفَّارَةً. وَتُبَاحُ الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَهُ.
وَالْمُبْتَدِأَ ةُ تَجْلِسُ أَقَلَّهُ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتُصَلِّي؛ فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ دَمُهَا أَكْثَرَهُ، اغْتَسَلَتْ – أَيْضًا - إِذَا انْقَطَعَ، فَإِنْ تَكَرَّرَ ثَلَاثًا فَهُوَ حَيْضٌ، تَقْضِي مَا وَجَبَ فِيهِ، وَإِنْ أَيِسَتْ قَبْلَهُ، أَوْ لَمْ يَعُدْ، فَلَا، وَإِنْ جَاوَزَهُ، فَمُسْتَحَاضَةٌ ؛ تَجْلِسُ الْمُتَمَيِّزَ إِنْ كَانَ، وَصَلُحَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِلَّا أَقَلَّ الْحَيْضِ، حَتَّى تَتَكَرَّرَ اسْتِحَاضَتُهَا ، ثُمَّ غَالِبَهُ.
وَمُسْتَحَاضَةٌ مُعْتَادَةٌ، تُقَدِّمُ عَادَتَهَا؛ وَيَلْزَمُهَا وَنَحْوَهَا: غَسْلُ الْمَحَلِّ، وَعَصْبُهُ، وَالْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، إِنْ خَرَجَ شَيْءٌ؛ وَنِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ .
وَحَرُمَ وَطْؤُهَا إِلَّا مَعَ خَوْفِ زِنَا.
وَأَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَالنَّقَاءُ زَمَنَهُ طُهْرٌ؛ يُكْرَهُ الْوَطْءُ فِيهِ.
وَهُوَ كَحَيْضٍ فِي أَحْكَامِهِ؛ غَيْرَ عِدَّةٍ وَبُلُوغٍ.
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
بارك الله فيك أخي محمد فالمني على القول الصحيح أنه طاهر كون مخرجه وإن كان من نفس المخرج غير أن له مسلكا غير مسلك البول والمذي والودي ليتأكد طهارته وانظر فقه النوازل لبكر بن عبد الله أبوزيد رحمه الله والله أعلم
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبوأحمد المالكي
بارك الله فيك أخي محمد فالمني على القول الصحيح أنه طاهر كون مخرجه وإن كان من نفس المخرج غير أن له مسلكا غير مسلك البول والمذي والودي ليتأكد طهارته وانظر فقه النوازل لبكر بن عبد الله أبوزيد رحمه الله والله أعلم
بارك الله فيكم أخانا الحبيب أبا أحمد المالكي، ونفعنا بمشاركاتك المفيدة النافعة
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
الحيض في اللغة: السَّيَلَانُ؛ يُقَالُ: حَاضَ السيلُ وفاضَ؛ إِذا سَالَ يَحِيضُ ويَفيض؛ وَمِنْ هَذَا قِيلَ للحَوْض حَوْضٌ؛ لأَن الْمَاءَ يَحِيضُ إِليه؛ أَي: يَسِيل([1]).
والحيض في الشرع؛ هو: دَمُ طَبِيعَةٍ وَجِبِلَّةٍ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ، فَيَخْرُجُ مِنْ قَعْرِهِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ فِي أَوْقَاتٍ خَاصَّةٍ، عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ، مَعَ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ؛ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لِحِكْمَةِ غِذَاءِ الْوَلَدِ؛ وَلِهَذَا لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ فِي الْغَالِبِ([2]).
قوله: (لَا حَيْضَ مَعَ حَمْلٍ): قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ما ترى في الحامل ترى الدم، تمسك عن الصلاة؟ قال: لا. قلت: أيُّ شيءٍ أَثْبَتُ في هذا الباب؟ فقال: أنا أذهب في هذا إلى حديث محمَّد بن عبد الرحمن - مولى آل طلحة - عن سالم عن أبيه أنَّه طلَق امرأته وهي حائضٌ، فسأل عمر النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «مُرْه فليراجعها، ثم يطلقها طاهرًا، أو حاملًا». فأقام الطهر مقام الحمل. فقلت: فكأنَّك ذهبت بهذا الحديث إلى أن الحامل لا تكون إلا طاهرًا؟ قال: نعم([3]).
وَقَالَ أَحْمَدُ رحمه الله: إنَّمَا يَعْرِفُ النِّسَاءُ الْحَمْلَ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ([4]).
ودليل ذلك – أيضًا - أن الشرع جعل الحيضَ علامةً على براءة الرحم من الحمل؛ ولو كانت الحامل تحيض، لَمَا جُعِلَ الحيضُ علامة على عدم الحمل.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((والحامل لا تحيض، فإن رأت دمًا، فهو دم فاسد؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة، فدل على أنها لا تجتمع معه([5])))اهـ.
وفي رواية أخرى عن أحمد أن الحامل قد تحيض.
قال ابن تيمية رحمه الله: ((وَالْحَامِلُ قَدْ تَحِيضُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، بَلْ حَكَى أَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِ([6]))).
والذي أراه راجحًا - والله أعلم - هو القول الأول، القائل بأن الحامل لا تحيض؛ وذلك لقوة أدلته.
خاصة إذا عرفنا أن الأطباء قد أجمعوا على أنه يستحيل على الحامل أن تحيض([7]).
قوله: (وَلَا بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً): واستدلوا على ذلك بما رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إذَا بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الْحَيْضِ([8]).
وفي رواية أخرى عن أحمد لم يقيد ذلك بسن الخمسين.
قال عبد الله رحمه الله: ((سَأَلت أبي عَن امْرَأَة قد أَتَى عَلَيْهَا نَيف وَخَمْسُونَ سنة وَلم تَحض مُنْذُ سنة، وَقد رَأَتْ مُنْذُ يَوْمَيْنِ دَمًا لَيْسَ بالكثير، وَلكنهَا إذا استنجت رَأَتْهُ، وَلَمْ تفطر وَلم تتْرك الصَّلَاة، مَا ترى لَهَا؟
فَقَالَ أبي: لَا تلْتَفت إِلَيْهِ تَصُوم وَتصلي فَإِن عاودها بعد ذَلِك مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَهَذَا حيض وَقد رَجَعَ، تقضي الصَّوْم.
قلت: فَالصَّلَاة؟
قَالَ: لَا تقضي([9])))اهـ.
قلت: والصحيح عدم التحديد؛ وذلك لأن الشرع لم يحدد.
وأما الأثر الوارد عن عائشة، فلا يصح؛ إذ ليس له إسناد.
وقد رجح ابن قدامة رحمه الله الرواية الثانية.
قال رحمه الله: ((وَقَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ: إنْ عَاوَدَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُوَ حَيْضٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا إلَى الْوُجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ حَيْضٌ مِنْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ أَخْبَرْنَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، فَوَجَبَ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ حَيْضًا كَمَا قَبْلَ الْخَمْسِينَ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنَ الْمَرْأَةِ دَمٌ فِي زَمَنِ عَادَتِهَا عَلَى وَجْهٍ كَانَتْ تَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْوُجُودُ هَاهُنَا دَلِيلُ الْحَيْضِ، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْخَمْسِينَ دَلِيلًا، فَوَجَبَ جَعْلُهُ حَيْضًا . . . وَمَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ، الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْوُجُودِ، وَالْوُجُودُ لَا عِلْمَ لَهَا بِهِ([10])))اهـ.
ورجحه ابن تيمية – أيضًا - رحمه الله، حيث قال رحمه الله: ((وَلَا حَدَّ لِسِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ؛ بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا بَعْدَ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ زَادَ الدَّمُ الْمَعْرُوفُ مِنَ الرَّحِمِ لَكَانَ حَيْضًا([11]))).
قوله: (وَلَا قَبْلَ تَمَامِ تِسْعِ سِنِينَ): أي: أن المرأة لا تحيض قبل تسع سنين؛ واستدلوا على ذلك بما رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالت: إِذَا بَلَغَتِ الجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ([12]).
واستدلوا على ذلك - أيضًا - بأنه لَمْ يَثْبت الحيض لامرأة قبل ذلك السن.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وأقل سِنٍّ تحيض له المرأة تسع سنين، فإن رأت قبل ذلك دمًا فليس بحيض، ولا يتعلق به أحكامه؛ لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك، وقد رُوِيَ عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة([13])))اهـ.
والصحيح عدم التحديد؛ وذلك لأنه لَمْ يَرِدْ دليل في الكتاب والسنة بتحديد سن الحيض؛ فلزم الرجوع فيه إلى الوجود؛ فمتى وجد دم الحيض، عُلِّقتْ عليه أحكامه، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله([14])، وقد وُجِدَ مَنْ حملت في سن سِتِّ سنين.
قوله: (وَأَقَلُّهُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ): واستدلوا على ذلك بالعادة، وأنه لم توجد امرأة تحيض أقل من يوم وليلة.
والصحيح أنه لا حدَّ لأقل الحيض.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((أقلُّ الحيض يومٌ وليلةٌ، والمراد أربعٌ وعشرون ساعة، هذا أنهى شيء في القلَّة؛ فلو أنها رأت الحيض لمدَّة عشرين ساعة وهو المعهود لها برائحته، ولَونه، وثخونته، فليس حيضًا، فما نَقَصَ عن اليوم والليلة، فليس بحيض؛ هذا المذهب.
واستدلُّوا: بأن العادة لم تجرِ أن يوجد حيضٌ أقلُّ من يوم وليلة، فإِذا لم يوجد عادة، فليكن أقلُّه يومًا وليلة.
وهذا ليس بدليل؛ لأن من النِّساء من لا تحيض أصلًا، ومنهن من تحيض ساعات ثم تطهر؛ فالصحيح: أنه لا حَدَّ لأقلِّه([15])))اهـ.
وهو ما رجحه ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((عَلَّقَ اللَّهُ بِالْحَيْضِ أَحْكَامًا مُتَعَدِّدَةً فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُقَدَّرْ لَا أَقَلُّهُ وَلَا أَكْثَرُهُ، وَلَا الطُّهْرُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ مَعَ عُمُومِ بَلْوَى الْأُمَّةِ بِذَلِكَ وَاحْتِيَاجِهِم ْ إلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ قَدْرٍ وَقَدْرٍ، فَمَنْ قَدَّرَ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ.
وَالْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ مَنْ يَحُدُّ أَكْثَرَهُ وَأَقَلَّهُ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّحْدِيدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحُدُّ أَكْثَرَهُ دُونَ أَقَلِّهِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَصَحُّ: أَنَّهُ لَا حَدَّ لَا لِأَقَلِّهِ وَلَا لِأَكْثَرِهِ؛ بَلْ مَا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً فَهُوَ حَيْضٌ([16])))اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: ((وَلَمْ يَأْتِ عَنِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِهِ وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ تَحْدِيدُ أَقَلِّ الْحَيْضِ بِحَدٍّ أَبَدًا، وَلَا فِي الْقِيَاسِ مَا يَقْتَضِيهِ([17])))اهـ.
قوله: (وَأَكْثَرُهُ: خَمْسَةَ عَشَرَ): واستدلوا على ذلك - أيضًا – بالعادة، وبأنه محال أن يكون الحيض أكثر من خمسة عشر ليلة؛ فيكون الحيض أكثر من الطهر.
والصحيح أنه لا تحديد لأكثر الحيض.
قال ابن حزم رحمه الله: ((وَقَالُوا: إنْ كَانَ الْحَيْضُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ أَكْثَرَ مِنَ الطُّهْرِ وَهَذَا مُحَالٌ.
فَقُلْنَا لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ مُحَالٌ؟ وَمَا الْمَانِعُ إنْ وَجَدْنَا ذَلِكَ أَلَا يُوقَفُ عِنْدَهُ؟ فَمَا نَعْلَمُ مَنَعَ مِنْ هَذَا قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ أَصْلًا وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ([18])))اهـ.
وهو ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله، كما تقدم في كلامه الآنف الذكر.
قوله: (وَغَالِبُهُ: سِتٌّ، أَوْ سَبْعٌ): ودليل ذلك قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنه، عندما ذكرت لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها تُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا، وَصُومِي وَصَلِّي، فَإِنَّ ذَلِكِ يُجْزِئُكِ ...» الحديث([19]).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((أي: غالب الحيض ستُّ ليال أو سبع؛ وهذا صحيح؛ لثبوت السُّنَّة به؛ حيثُ قال صلَّى الله عليه وسلَّم للمستحاضة: «فَتَحيَّضِي ستَّة أيَّامٍ، أو سبعة أيَّام في علم الله، ثم اغتسلي».
وهذا أيضًا هو الواقع، فإِنه عند غالب النساء يكون ستًّا، أو سبعًا([20])))اهـ.
قوله: ((وَأَقَلُّ طُهْرٍ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ): أي: لو نزل عليها دمٌ بعد طهرها بعشرة أيام مثلًا، فليس بحيض، وإنما هو استحاضة، فلا بد أن تمكث طاهرة ثلاثة عشر يومًا أو أكثر.
ودليل ذلك ما جاء عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا؛ طَلَّقَهَا، فَقَالَتْ: قَدْ حِضْتُ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ: «اقْضِ بَيْنَهُمَا» قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ هَاهُنَا؟ قَالَ: «اقْضِ بَيْنَهُمَا»، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ هَاهُنَا؟ قَالَ: «اقْضِ بَيْنَهُمَا» فَقَالَ: إِنْ جَاءَتْ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ تَطْهُرُ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَتُصَلِّي، جَازَ لَهَا وَإِلَّا فَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: «قَالُونُ»، وَقَالُونُ بِلِسَانِ الرُّومِ: أَحْسَنْتَ([21]).
ووجه الاستدلال: أن هذه المرأة حاضت أقل الحيض يومًا وليلة، وطهرت ثلاثة عشر يومًا، ثم حاضت أقل الحيض يومًا وليلة، ثم طهرت ثلاثة عشر يومًا؛ فالمجموع ثمانية وعشرون يومًا، ثم حاضت يومًا وليلة، فخرجت من العدة بشهر([22]).
والصحيح أنه لا حد لأقل الطهر، وهو رواية عن أحمد؛ وهو ما رجحه ابن تيمية والمرداوي وابن عثيمين، وغيرهم رحمهم الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((وَمِنْ ذَلِكَ اسْمُ الْحَيْضِ عَلَّقَ اللَّهُ بِهِ أَحْكَامًا مُتَعَدِّدَةً فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يُقَدِّرْ لَا أَقَلَّهُ وَلَا أَكْثَرَهُ، وَلَا الطُّهْرَ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ، مَعَ عُمُومِ بَلْوَى الْأُمَّةِ بِذَلِكَ وَاحْتِيَاجِهِم ْ إِلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ قَدْرٍ وَقَدْرٍ؛ فَمَنْ قَدَّرَ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ([23])))اهـ.
وقال المرداوي رحمه الله: ((وَعَنْهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّ الطُّهْرِ؛ رَوَاهَا جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ.
قُلْت: وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَهُوَ الصَّوَابُ([24])))اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((والصَّحيح: أنه لا حدَّ لأقلِّ الطُّهر كما اختاره شيخ الإِسلام، ومالَ إِليه صاحب «الإِنصاف»، وقال: «إِنه الصَّواب»([25])))اهـ.
وأما الأثر المروي عن عليٍّ رضي الله عنه مع شريح القاضي رحمه الله، فقد أجيب عنه:
أولًا: أن هذا التفسير لا يتعين؛ ولذا فسره ابن المبارك - كما في ((شرح صحيح البخاري)) لابن رجب - أنها حاضت ثلاثًا وطهرت عشرًا، وذكر هذا التفسير عن ابن إسحاق أيضًا([26]).
ثانيًا: أن الأثر ليس فيه تحديد؛ لأنه ما يدرينا أنها لو ادعت أقل من شهر أنه لن يسمع دعواها([27]).
قوله: (وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ): أي: لا حدَّ لأكثر الطهر، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم، ليس فيه خلاف؛ وذلك لأن من النساء مَنْ لا تحيض أصلًا([28]).
[1])) ((لسان العرب)) (7/ 143).
[2])) ((الإنصاف)) (1/ 346)، و((الشرح الممتع)) (1/ 464).
[3])) ((تنقيح التحقيق)) لابن عبد الهادي (1/ 414).
[4])) ((المغني)) (1/ 262).
[5])) ((الكافي)) (1/ 140).
[6])) ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 315).
[7])) انظر: ((موسوعة الدماء في الإسلام)) للشيخ عطية محمد سالم (222- 224)، و((موسوعة الطهارة)) للدبياني (6/ 129- 131)، فقد نقلا رأي الطب في المسألة.
[8])) ذكره ابن قدامة في ((المغني)) (1/ 263)، وليس لهذا الأثر إسناد يُرْوى به. قال الألباني رحمه الله: لم أقف عليه، ولا أدري في أي كتاب ذكره الإمام أحمد. ((إرواء الغليل)) (1/ 200).
[9])) ((مسائل عبد الله)) (46).
[10])) ((المغني)) (1/ 263).
[11])) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 240).
[12])) ضعيف ليس له إسناد: رواه الترمذي (3/ 409)، معلقًا، والبيهقي (1531)، معلقًا، وضعفه الألباني في ((الإرواء)) (6/ 229) وقال: ((لم أقف على إسناده)).
[13])) ((الكافي)) (1/ 138).
[14])) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (19/ 238).
[15])) ((الشرح الممتع)) (1/ 471).
[16])) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 237).
[17])) ((إعلام الموقعين)) (1/ 224).
[18])) ((المحلى بالآثار)) (1/ 410).
[19])) أخرجه أحمد (27144)، والترمذي (128)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وحسنه الألباني في ((الإرواء)) (188).
[20])) ((الشرح الممتع)) (1/ 427).
[21])) أخرجه الدارمي (883)، وابن أبي شيبة (19296)، والبيهقي في ((الكبير)) (15405)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.
[22])) ((موسوعة الطهارة)) للدبياني (6/ 190).
[23])) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 237).
[24])) ((الإنصاف)) (1/ 359).
[25])) ((الشرح الممتع)) (1/ 475).
[26])) ((موسوعة الطهارة)) للدبيان (7/ 191)، وانظر ((فتح الباري) لابن رجب (2/ 148).
[27])) السابق.
[28])) نقل الإجماع على ذلك الإمام النووي في ((المجموع)) (2/ 382).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَحَرُمَ عَلَيْهَا فِعْلُ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ): ودليل ذلك حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ»، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا([1])».
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي([2])».
وقد أجمع المسلمون على ذلك.
قوله: (وَيَلْزَمُهَا قَضَاؤُهُ): أي: قضاء الصوم؛ ودليل ذلك حديث مُعَاذَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ، قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنه، فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ. فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ([3]).
وهو مجمع عليه.
قوله: (وَيَجِبُ بِوَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ دِينَارٌ، أَوْ نِصْفُهُ؛ كَفَّارَةً): ودليل ذلك حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ: «يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ([4])».
وفي رواية أخرى عن أحمد رحمه الله أنه لا شيء عليه؛ وذلك حيث توقف في ثبوت هذا الحديث.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وعن أحمد: لا كفارة فيه؛ لأنه وطء حرم للأذى، فلم تجب به كفارة كالوطء في الدبر؛ والحديث توقف أحمد عنه للشك في عدالة راويه([5])))اهـ.
قوله: (وَتُبَاحُ الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَهُ): أي: فيما دون الفرج؛ ودليل ذلك حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا، فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُ مَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا([6]).
وَعَنْ عائشة رضي الله عنها كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي، فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ([7]).
[1])) متفق عليه: أخرجه البخاري (304)، ومسلم (79).
[2])) متفق عليه: أخرجه البخاري (228)، ومسلم (333).
[3])) متفق عليه: أخرجه البخاري (321)، ومسلم (335).
[4])) أخرجه أحمد (2032)، وأبو داود (2168)، والنسائي (289)، وابن ماجه (640)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (227) بلفظ: دينارًا ونصف دينار.
[5])) ((الكافي)) (1/ 137).
[6])) صحيح: أخرجه مسلم (320).
[7])) صحيح: أخرجه البخاري (300).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَالْمُبْتَدِأ ةُ تَجْلِسُ أَقَلَّهُ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتُصَلِّي): قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((قوله: «والمُبْتَدَأةُ تجلس أقلَّه، ثم تغتسلُ وتصلِّي»، بدأ رحمه الله ببيان الدِّماء التي تكون حيضًا، والتي لا تكون حيضًا.
والمُبْتَدأةُ: هي التي ترى الحيضَ لأوَّل مرَّة، سواءٌ كانت صغيرةً، أم كبيرة لم تحضْ من قبلُ ثم أتاها الحيضُ.
ومعنى قوله: «تجلسُ»، أي: تدعُ الصَّلاةَ والصِّيام، وكلَّ شيء لا يُفْعَلُ حال الحيض.
وقوله: «أقلَّه»، أي: أقلَّ الحيض وهو يومٌ وليلةٌ.
وقوله: «ثم تغتسل وتُصلِّي» .
أي: بعد أن يمضي عليها أربعٌ وعشرون ساعة، تغتسلُ وتُصلِّي ولو لم يتوقَّف الدَّمُ.
وعلَّلوا: بأنَّ أقل الحيض هو المتيقَّنُ، وما زاد مشكوكٌ فيه، فيجب عليها أن تجلس أقلَّ الحيض([1])))اهـ.
قلت: أي: أن هذا من باب الاحتياط؛ خشية ألا يكون حيضًا، فيكون تركها للصلاة والصيام في غير مهله.
قال الإمام أحمد رحمه الله: ((وأما المبتدأة بالدم إذا كان مثلها تحيض فرأت الدم فليس فيها سُنَّة، وليس فيها إلَّا الاحتياط؛ فيقال لها: انظري أقل ما تجلسه النساء، فاقعدي، ثم صومي وصلي سائر ذلك؛ فإن كان عرق لم يكن ضيعت، فإن عاودها مثل ما رأت فهو حيض([2]))).
قلت: والصحيح أن دم المبتدأة هو دم حيض فتجلس له ما دام مستمرًّا، إلا أن يطبق عليها الشهرَ كاملًا، فيكون استحاضة، وهو قول الجمهور، واختاره شيخ الإسلام رحمه الله([3]).
قوله: (فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ دَمُهَا أَكْثَرَهُ، اغْتَسَلَتْ – أَيْضًا - إِذَا انْقَطَعَ): أي: إن لَمْ يتجاوز الدم أكثر الحيض – وهو خمسة عشر يومًا – ثم انقطع، اغتسلت مرة ثانية؛ لأنه حينئذ يكون حيضًا، وأما غسلها الأول فكان للاحتياط.
قوله: (فَإِنْ تَكَرَّرَ ثَلَاثًا فَهُوَ حَيْضٌ): فالمرأة المبتدأة إذا انقطع دمها في أقلَّ من أكثر الحيض، أو مساويًا لأكثر الحيض الذي هو خمسة عشر يومًا فحينئذٍ يقولون: تعتبر نفسها حائضًا يومًا وليلة، في الشهر الأول، والثاني، والثالث، ثم بعده يُحكم بكونها معتادة إذا جاءها على وتيرة واحدة([4]).
فقوله: (فإنْ تَكَررَ ثلاثًا فحيضٌ)؛ أي: إن تكرر إتيان دم الحيض ثلاثة أشهر بعدد واحدٍ لا يزيد عليه، ولا ينقص عنه، (فحيض) أي: أن عادتها في الحيض تكون ذلك العدد؛ وتُعرف هذه المسألة عند العلماء بمسألة إثبات العادة([5]).
فإِن قُدِّرَ أن هذا الحيض لم يتكرَّر بعدده ثلاثًا؛ أي: جاءها أول شهر عشرةٌ، والشهرُ الثاني ثمانيةٌ، والثالث ستةٌ، فالسِّتةُ هنا هي الحيض فقط، ففي الشَّهر الرَّابع إِن تكرَّرت الثمانية ثلاث مرَّات صارت عادتُها ثمانية، وفي الشهر الخامس إِن تكرَّرت العشرة ثلاثًا صارت عادتها عشرة، فما تكرَّر ثلاثًا فهو حَيضٌ([6]).
قوله: (تَقْضِي مَا وَجَبَ فِيهِ): أي: تَقضِي كلَّ عبادة واجبة على الحائض؛ لا تصحُّ منها حال الحيض.
مثال ذلك: امرأة تكرر عليها الدم ثلاث مرات عشرة أيام؛ فعُلِم أن هذه العشرة حيضٌ؛ لكن ماذا تصنع بالنِّسبة لِمَا بين اليوم والليلة إِلى اليوم العاشر؛ لأنها كانت تُصلِّي فيها وتصوم، وتبيَّن أنَّها أيَّامُ حيض؟
فيُقال: أمَّا بالنِّسبة للصَّلاة فإِنَّها وإِن لم تصحَّ منها؛ فإِنها لا تُقضى، لأنَّ الحائض لا تجب عليها الصَّلاةُ ولا تأثم بفعلها؛ لأنَّها فعلتها تعبُّدًا لله واحتياطًا.
وتقضي الصَّوم، لأنه تبينَّ أنَّها صامت في أيام الحيض، والصَّوم لا يصحُّ مع الحيض؛ لو فُرِضَ أنَّ هذا وَقَعَ في رمضان([7]).
قوله: (وَإِنْ أَيِسَتْ قَبْلَهُ، أَوْ لَمْ يَعُدْ، فَلَا): أي: بلغت سِنَّ الإياس قبل التكرار ثلاثًا أَو لم يَعُدِ الدَّمُ إِلَيْهَا، فَلَا تقضي؛ لأَنَّا لم نتحقق كَونه حيضًا؛ وَالْأَصْل براءتها([8]).
قوله: (وَإِنْ جَاوَزَهُ، فَمُسْتَحَاضَةٌ ): فإن جاوز الدمُ خمسة عشر يومًا؛ فالزائد له حكم الاستحاضة.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((والمبتدأة إذا رأت الدم لوقت تحيض في مثله جلست، فإذا انقطع لأقلَّ من يوم وليلة، فليس بحيض، وإن جاوز ذلك ولم يَعْبُرْ أكثر الحيض فهو حيض، وإن عبر ذلك فالزائد استحاضة([9])))اهـ.
قوله: (تَجْلِسُ الْمُتَمَيِّزَ إِنْ كَانَ، وَصَلُحَ، فِي الشَّهْرِ الثَّانِي): أي: إن كان هناك تمييز للدم؛ والمعنى: أن هذه المرأة التي جاوز دمها أكثر الحيض وكان دمها مميَّزًا؛ بأن كان بعضه أسود وبعضه أحمر، أو بعضه ثخين وبعضه رقيق، أو بعضه منتن وبعضه لا رائحة له؛ (وصلُح) أي: هذا الدم الأسود أو الثخين أو ذا الرائحة المنتنة، صلُح أن يكون حيضًا؛ بأن لم ينقص عن أقل الحيض، ولم يزد عن أكثره؛ تجلس (في الشهر الثاني) - فقوله: (في الشهر الثاني) متعلق بـ(تجلس) – أي: تجلس في الشهر الثاني مدة الحيض التي عُرِفتْ من خلال تَمَيُّزِ الدمِ.
مثال ذلك:
امرأة أطبق عليها الدم، أو نزل عليها أكثر من خمسة عشر يومًا، وهذه المرأة مميِّزة لدمها بإحدى صفات التمييز – وهي: سوادُه وغِلَظُه ورائحته - أو بجميعها، فوجدت أن الدم المتغير مكث سبعة أيام – مثلًا – وفي الشهر التالي كذلك، فتجلس في الشهر التالي عن الصلاة والصوم.
قوله: (وَإِلَّا أَقَلَّ الْحَيْضِ حَتَّى تَتَكَرَّرَ اسْتِحَاضَتُهَا ، ثُمَّ غَالِبَهُ): أي: فإن لَمْ تكن هذه المرأة مميِّزة، جلست أقل الحيض؛ وهو يوم وليلة؛ لأنه المتيقَّن، حتى تكرر استحاضتها ثلاثة اشهر؛ لأن العادة تثبت بالتكرار ثلاثًا، كما تقدم، ثم بعد الثلاثة أشهر تجلس غالب الحيض؛ وهو ستٌّ أو سبعٌ - كما تقدم – لحديث حمنة بنت جحش: «فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ».
[1])) ((الشرح الممتع)) (1/ 484).
[2])) ((مسائل إسحاق بن منصور)) (3/ 1316).
[3])) ((الاختيارات الفقهية)) لابن تيمية (28)، وانظر ((موسوعة الطهارة)) للدبيان (6/ 204).
[4])) ((شرح زاد المستقنع)) لمحمد مختار الشنقيطي (414).
[5])) السابق.
[6])) ((الشرح الممتع)) (1/ 486).
[7])) السابق.
[8])) ((كشف المخدرات شرح أخصر المختصرات)) (1/ 95).
[9])) ((عمدة الفقه)) (18).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
قوله: (وَمُسْتَحَاضَة مُعْتَادَةٌ، تُقَدِّمُ عَادَتَهَا): اعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اسْتُحِيضَتْ، وَكَانَتْ لَهَا عَادَةٌ تَعْرِفُهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ الْعَادَةَ بِلَا نِزَاعٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا تَمْيِيزٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، أَوْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ وَنَسِيَتْهَا: عَمِلَتْ بِالتَّمْيِيزِ بِلَا نِزَاعٍ.
وَإِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ، فَتَارَةً يَتَّفِقَانِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَتَجْلِسُهُمَا بِلَا نِزَاعٍ، وَتَارَةً يَخْتَلِفَانِ؛ إمَّا بِمُدَاخَلَةِ بَعْضِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، أَوْ مُطْلَقًا، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا تَجْلِسُ الْعَادَةَ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ([1]).
مثال ذلك:
امرأة كانت تحيض خمسة أيام أول كل شهر، ثم بعد ذلك استُحيضت هذه المرأة، وأثناء استحاضتها رأت الدم المتغير سبعة أيام، فإنها لا تجلس إلا الخمسة أيام فقط، وهي مدة العادة، وإن رأت الدم المتغير في وسط الشهر، وكانت تحيض هي في أول الشهر، فإنها تجلس أول الشهر، لا وسطه.
ودليل ذلك حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ، سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ: «لَا، إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي([2])».
وحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَمَّ حَبِيبَةَ، سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّمِ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ مِرْكَنَهَا مَلْآنَ دَمًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي([3])».
فردهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى عادتهما وَلَمْ يستفصل، وَلَمْ يسألهما عن التمييز، مع احتمال وجود التَّمييز؛ فَعُلِمَ أنها ترجع إِلى العادة مطلقًا، وأنَّ المسألة على سبيل العموم؛ إِذ من القواعد الأصولية المقرَّرة: «أنَّ ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّلُ منزلةَ العموم في المقال».
واستدلوا - أيضًا - بحديث عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْتَحَاضَ ةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَتَصُومُ، وَتُصَلِّي([4])».
واختار هذه الرواية ابن قدامة وابن تيمية وابن عثيمين، وغيرهم رحمهم الله.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((مَنْ لَهَا عَادَةٌ وَتَمْيِيزٌ؛ وَهِيَ مَنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فَاسْتُحِيضَتْ، وَدَمُهَا مُتَمَيِّزٌ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ، فَإِنْ كَانَ الْأَسْوَدُ فِي زَمَنِ الْعَادَةِ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْعَادَةُ وَالتَّمْيِيزُ فِي الدَّلَالَةِ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ أَوْ أَقَلَّ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُقَدَّمُ التَّمْيِيزُ، فَيُعْمَلُ بِهِ، وَتَدَعُ الْعَادَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ لِقَوْلِهِ "فَكَانَتْ مِمَّنْ تُمَيِّزُ تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِي إقْبَالِهِ"، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُعْتَادَةٍ وَغَيْرِهَا . . . لِأَنَّ صِفَةَ الدَّمِ أَمَارَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، وَالْعَادَةُ زَمَانٌ مُنْقَضٍ؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ، فَرَجَعَ إلَى صِفَتِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ؛ كَالْمَنِيِّ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَالْمَرْأَةَ الَّتِي اسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ إلَى الْعَادَةِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِهَا مُمَيِّزَةً أَوْ غَيْرَهَا، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ قَدْ رُوِيَ فِيهِ رَدُّهَا إلَى الْعَادَةِ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ رَدُّهَا إلَى التَّمْيِيزِ، فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَانِ وَبَقِيَتِ الْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ خَالِيَةً عَنْ مُعَارِضٍ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، وَحِكَايَةُ حَالٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا لَا عَادَةَ لَهَا، أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ قَرِينَةِ حَالِهَا، وَحَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَامٌّ فِي كُلِّ مُسْتَحَاضَةٍ، فَيَكُونُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى؛ لِكَوْنِهَا لَا تَبْطُلُ دَلَالَتُهَا، وَاللَّوْنُ إذَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، بَطَلَتْ دَلَالَتُهُ، فَمَا لَا تَبْطُلُ دَلَالَتُهُ أَقْوَى وَأَوْلَى([5])))اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ((وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي الِاسْتِحَاضَةِ نِزَاعٌ؛ فَإِنَّ أَمْرَهَا مُشْكِلٌ لِاشْتِبَاهِ دَمِ الْحَيْضِ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ يَفْصِلُ هَذَا مِنْ هَذَا؛ وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي قِيلَ بِهَا: إمَّا الْعَادَةُ فَإِنَّ الْعَادَةَ أَقْوَى الْعَلَامَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُقَامُ الْحَيْضِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِمَّا التَّمْيِيزُ؛ لِأَنَّهُ الدَّمُ الْأَسْوَدُ وَالثَّخِينُ الْمُنْتِنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَيْضًا مِنْ الْأَحْمَرِ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ غَالِبِ عَادَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ فَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثَّلَاثُ تَدُلُّ عَلَيْهَا السُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ([6])))اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((وذهب الشَّافعيُّ، وهو روايةٌ عن أحمد: أنها ترجع للتَّمييز؛ واستدلُّوا بما يلي:
1- قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ دمَ الحيضِ أسودُ يُعرَفُ»، قال هذا في المستحاضة، والنساء اللاتي استحضن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حوالي سبع عشرة امرأة، ولا يُستبعد أن تنتقلَ العادةُ من أوَّل الشَّهر إِلى وسطه بسبب مرض الاستحاضة الذي طرأ عليها.
2- أنَّ التَّمييز علامةٌ ظاهرةٌ واضحةٌ، فيُرجع إِليها.
والرَّاجح: أنها ترجع للعادة، ولأنَّ الحديث الذي فيه ذكر التَّمييز قد اختُلِفَ في صحَّته.
ولأنه أيسر وأضبطُ للمرأة، لأنَّ هذا الدَّمَ الأسود، أو المنتنَ، أو الغليظَ، ربما يضطرب، ويتغيَّر أو ينتقل إِلى آخر الشَّهر، أو أوَّله، أو يتقطَّع بحيث يكون يومًا أسود، ويومًا أحمر([7])))اهـ.
وفي رواية أخرى عن أحمد: أنها تقدم التمييز على العادة.
واستدلوا على ذلك بحديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي([8])».
واختار هذه الرواية الخِرقيُّ رحمه الله؛ حيث قال رحمه الله: ((فَمَنْ أَطْبَقَ بِهَا الدَّمُ فَكَانَتْ مِمَّنْ تُمَيِّزُ، فَتَعْلَمُ إقْبَالَهُ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ، وَإِدْبَارَهُ رَقِيقٌ أَحْمَرُ، تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِي إقْبَالِهِ، فَإِذَا أَدْبَرَ، اغْتَسَلَتْ، وَتَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَصَلَّتْ([9])))اهـ.
والذي أراه أن هذا القول الثاني قول قوي؛ لأن المرأة إذا رأت الدم الأسود المتغير الغليظ الذي يخالف دم الاستحاضة، فهذا دليل قوي على كون هذا حيضًا، وأما العادة فقد تضطرب ويحدث فيها اختلاف، وهذا ليس ببعيد؛ خاصة وأن التمييز تُحدد به العادة في حالة بداءة المرأة وهي مستحاضة.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَتَثْبُتُ الْعَادَةُ بِالتَّمْيِيزِ، فَإِذَا رَأَتْ دَمًا أَسْوَدَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ صَارَ، أَحْمَرَ، وَاتَّصَلَ، ثُمَّ صَارَ فِي سَائِرِ الْأَشْهُرِ دَمًا مُبْهَمًا، كَانَتْ عَادَتُهَا زَمَنَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ([10]))).
فدلَّ هذا على أن العلماء يعتبرون الدم المتغير حيضًا؛ بل ويحددون به العادة؛ فلزم أن نعتبره حيضًا – أيضًا – ولو في وجود العادة؛ لأن العادة قد تضطرب، كما تقدم. والله أعلم.
وهذا الترجيح إذا صحَّتْ لفظةُ: «إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ»، فيقال في حديث: «امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ»: هذا لمن لم تكن مميِّزة - وذلك لقوة التمييز من ناحية النظر ، كما تقدم – وأما من لَمْ تكن مميِّزة، فإنها تجلس عادتها، وهذا متفق عليه.
فنكون - بذلك الجمع - قد عملنا بجميع أحاديث الباب، وإنما قدمنا التمييز لقوته من ناحية النظر.
وأما لو لَمْ تصح هذه اللفظة: «إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ» - والراجح ضعفها - فنقول بأن العادة مُقدَّمة على التمييز – وهو القول الأول - لدلالة الأدلة على ذلك، وأما النظر فإنه وإن بدا صحيحًا إلا أنه إذا خالف الأدلة، فإنه يكون في حقيقته قاصرًا، ولا يقاوم الأدلة. والله أعلم.
قوله: (وَيَلْزَمُهَا وَنَحْوَهَا غَسْلُ الْمَحَلِّ، وَعَصْبُهُ): أي: يلزم المستحاضة، ونحوها؛ كمن به سلس بول أو مذي أو جُرح لا يرقى دمه، أو رعاف دائم، غَسْلُ المحل الملوَّث بعد انتهاء الحيض، ولا يلزمها ذلك عند كل صلاة([11])، وعصبه بخرقة أو قطن ونحوه؛ كالحفاظات الحديثة؛ ليردَّ الدم، ويمنع نزوله.
ودليل غَسْلِ المحَلِّ حديثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي».
ودليل عَصْبِهِ حَدِيثُ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا، فَقَدْ مَنَعَتْنِي الصِّيَامَ وَالصَّلَاةَ؟ قَالَ: «أَنْعَتُ لَكِ الكُرْسُفَ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ» قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَتَلَجَّمِي» قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: «فَاتَّخِذِي ثَوْبًا([12])».
قوله: (وَالْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، إِنْ خَرَجَ شَيْءٌ): أي: ويلزم المستحاضة ونحوها؛ كمن به سلس بول، أو مذي، أو ريح، الوضوء لكل صلاة؛ إن خرج منها شيء، فإن لم يخرج منها شيء، فلا يلزمها الوضوء، وبقيت على وضوئِها الأوَّل؛ ودليل ذلك حديث هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي» قَالَ: وَقَالَ أَبِي: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ([13])».
وَعَنْ عِكْرِمَةِ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْتَظِرَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، فَإِنْ رَأَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ([14]).
قوله: (وَنِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ ): أي: تنوي المستحاضة ونحوها، استباحة الصلاة، لا رفع الحدث؛ لأن الحدث دائم.
قوله: (وَحَرُمَ وَطْؤُهَا إِلَّا مَعَ خَوْفِ زِنَا): أي: المستحاضة، إلا مع خوف زنا؛ سواء منه أو منها؛ تقديمًا للأدنى من المفاسد على الأعلى.
واستدلوا على تحريم وطء المستحاضة بقول عَائِشَةَ رضي الله عنها: الْمُسْتَحَاضَة ُ لَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا([15]).
والنهي للتحريم، والقول بالتحريم هو المشهور في المذهب.
وفي رواية أخرى عن أحمد أن وطء المستحاضة مباح([16])، وهو الصحيح؛ وأما حديث عائشة رضي الله عنها، فلا حجة فيه؛ لأنه موقوف على عائشة رضي الله عنها، وهو معارض بقول صحابي آخر؛ فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال في المُسْتَحَاضَةِ إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ: تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَلَوْ سَاعَةً، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا إِذَا صَلَّتْ، الصَّلَاةُ أَعْظَمُ([17])».
فقول ابن عباس عارض قول عائشة رضي الله عنهم فبقيت المسألة على الإباحة الأصلية.
واستدلوا أيضًا على إباحة وطء المستحاضة بحديث عِكْرِمَةَ، عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها، أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً وَكَانَ زَوْجُهَا يُجَامِعُهَا([18]).
وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تُسْتَحَاضُ فَكَانَ زَوْجُهَا يَغْشَاهَا([19]).
قوله: (وَأَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا): ودليل ذلك حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَتِ النُّفَسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْعُدُ بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا([20]).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا([21]).
قوله: (وَالنَّقَاءُ زَمَنَهُ طُهْرٌ): فإن انقطع الدم قبل انتهاء الأربعين يومًا، فهو طهر؛ وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا؛ فإن لم يوجد الدم، فقد طهرت المرأة.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((فَإِنْ زَادَ دَمُ النُّفَسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَصَادَفَ عَادَةَ الْحَيْضِ، فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ عَادَةً، فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَإِنْ كَانَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا الَّذِي تَقْعُدُهُ أَمْسَكَتْ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَأْتِهَا زَوْجُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَيَّامٌ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَاضَة ِ، يَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي إنْ أَدْرَكَهَا رَمَضَانُ([22])))اهـ.
قوله: (يُكْرَهُ الْوَطْءُ فِيهِ): أي: يكره وطء النفساء إذا انقطع عنها الدمُ قبل الأربعين.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَإِذَا طَهُرَتْ لِدُونِ الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ، وَصَامَتْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْتِيَهَا زَوْجُهَا، عَلَى حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، أَنَّهَا أَتَتْهُ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ، فَقَالَ لَا تَقْرَبِينِي([23])؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَوْدَ الدَّمِ فِي زَمَنِ الْوَطْءِ، فَيَكُونُ وَاطِئًا فِي نِفَاسٍ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ([24])))اهـ.
والقول بكراهة وطء النفساء إذا انقطع عنها الدم قبل الأربعين من مفردات مذهب أحمد رحمه الله([25]).
والصحيح – وهو رواية أخرى عن أحمد([26]) – أن وطئها لا يُكره؛ وذلك لعدم الدليل؛ وتحريم جماع الرجل لامرأته يلزمه دليل من الكتاب والسنة، ولا دليل هنا.
وأما حديث عثمان بن أبي العاص، فلا حجة فيه لشيئين:
الأول: أنه ضعيف لا يثبت.
الثاني: أنه قد يتنزه عن ذلك، وليس الأمر مكروهًا عنده([27]).
قوله: (وَهُوَ كَحَيْضٍ فِي أَحْكَامِهِ؛ غَيْرَ عِدَّةٍ وَبُلُوغٍ): فالنفاس كالحيض في أحكامه؛ من تحريم الوطء، والكفارة فيه، وتحريم العبادات من صلاة وصوم وطواف وقراءة القرآن، ونحو ذلك؛ غير العدة؛ فلا تثبت به؛ لأنه ليس بقرءٍ، فلا تتناوله الآية، وغير البلوغ؛ لأنه حصل بالإنزال السابق للحمل([28]).
[1])) ((الإنصاف)) (1/ 365).
[2])) متفق عليه: أخرجه البخاري (325)، ومسلم (333).
[3])) صحيح: أخرجه مسلم (334).
[4])) أخرجه أبو داود (297)، والترمذي (126)، وابن ماجه (625)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (207)، بشواهده. والحديث إسناده ضعيف جدًّا.
[5])) ((المغني)) (1/ 232).
[6])) السابق (21/ 630، 631).
[7])) ((الشرح الممتع)) (1/ 491، 492).
[8])) أخرجه أبو داود (304)، والنسائي (215)، وغيرهم، وحسنه الألباني في ((الإرواء)) (204)، وبعضهم قد أعل هذا الحديث؛ لِمَا فيه من اضطراب، ولمخالفته لفظ الصحيحين.
[9])) ((مختصر الخرقي)) (17).
[10])) ((المغني)) (1/ 230).
[11])) قال المرداوي في ((الإنصاف)) (1/ 377): ((لَا يَلْزَمُهَا إعَادَةُ شَدِّهِ وَغَسْلِ الدَّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ إذَا لَمْ تُفَرِّطْ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ)).
[12])) أخرجه أحمد (27144)، وأبو داود (287)، والترمذي (128)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وحسنه الألباني في ((الإرواء)) (188).
[13])) متفق عليه: أخرجه البخاري (228)، واللفظ له، ومسلم (333)، دون قوله: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ». وهذه اللفظة مما اختلف فيها أهل العلم بين حاكم عليها بالاضطراب والشذوذ وبين مصحح لها؛ وقد أشار مسلم رحمه الله إلى ضعفها؛ حيث قال في ((صحيحه)) (1/ 262): ((وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ زِيَادَةُ حَرْفٍ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ))، وقال البيهقي في ((الكبير)) (1/ 327): ((وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ زِيَادَةُ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَيْسَتْ بِمَحْفُوظَةٍ))، وقال - أيضًا – (1/ 344): ((وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ))، وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ((شرح البخاري)) (2/ 72): ((والصواب: أن لفظة "الوضوء" مدرجة في الحديث مِن قول عروة، وكذلك روى مالك، عَن هشام، عَن أبيه، أنه قالَ: ليسَ على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلًا واحدًا، ثُمَّ تتوضأ بعد ذَلِكَ لكل صلاة)).
وأما الحافظ ابن حجر رحمه الله فقد صححها كما في ((الفتح)) (1/ 332)، وصححها الألباني في ((الإرواء)) (110)، وكذا صححها الشيخ مشهور بن حسن في تحقيقه لـ((خلافيات البيهقي)) (3/ 462).
[14])) أخرجه أبو داود (305)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (324).
[15])) أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (16960)، والدارمي (857)، وقال سليم أسد: إسناده صحيح.
[16])) انظر: ((الإنصاف)) (1/ 327).
[17])) رواه البخاري في ((صحيحه)) (1/ 73) معلقًا بصيغة الجزم.
[18])) أخرجه أبو داود (310)، وحسن إسناده الألباني في ((صحيح أبي داود)) (329).
[19])) أخرجه أبو داود (309)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (328).
[20])) أخرجه أحمد (26561)، وأبو داود (311)، والترمذي (139)، وابن ماجه (648)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (2/ 117).
[21])) أخرجه الدارمي (997)، وقال حسين أسد: إسناده صحيح.
[22])) ((المغني)) (1/ 251).
[23])) أخرجه عبد الرزاق في ((المصنف)) (1202): أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ كَانَ يَقُولُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ إِذَا نُفِسَتْ: «لَا تَقْرَبِينِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً». وهو حديث ضعيف جدًّا.
[24])) ((المغني)) (1/ 252).
[25])) ((الإنصاف)) (1/ 384).
[26])) السابق.
[27])) انظر: ((الشرح الممتع)) (1/ 513).
[28])) ((الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات)) (1/ 109).
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات
انتهى كتاب الطهارة والحمد لله، ونبدأ في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى
-
رد: مدارسة متن أخصر المختصرات