-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
وتقدم الجيش الإسلامي إلي ميدان أحد وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ينظم مواقع الجيش ويملي علىٰ الجند خطته، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجه جيشه إلي المدينة وظهره إلي جبل أحد لحماية ظهر المسلمين من أن يُداهمهم أَحدٌ من خلفهم، ثم عزَّز ذلك بخمسين راميًا بقيادة عبد لله بن جبير رضي الله عنه أوقفهم علىٰ جبل عَيْنَيْن([1]) – الذي يقع خلف جبل أُحُد- حتىٰ إذا فكَّر أحدٌ في مباغتة المسلمين من الخلف أمطروه بوابلٍ من النبال فمنعوه من ذلك، وشدد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم أماكنهم، وعدم مغادرة الجبل تحت أي ظرف من الظروف، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتىٰ أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا علىٰ العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتىٰ أُرسل إليكم»([2]).
وبذلك سيطر المسلمون علىٰ مرتفعات الميدان فاصبحوا في مأمن من أن يباغتهم أحد من الخلف، وأصبحوا لا يفكرون إلا في جبهة واحدة، بخلاف المشركين الذين عسكروا في وادي أحد المكشوف من كل جوانبه، فتميز عنهم المسلمون بالموقع رغم وصول المشركين إلىٰ المكان قبلهم، ولكنها عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم القائد.
وبدأت المعركة بمبارزة بين حمزة رضي الله عنه وبين رجل من المشركين يقال له سِباع، حيث خرج سِباع هذا من بين الصفوف – لما اصطف الفريقان للقتال- فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة رضي الله عنه، فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مُقطِّعة البظور([3]) أَتُحادُّ الله ورسوله؟ ثم شد عليه حمزة رضي الله عنه فقتله([4])، ثم حانت ساعة القتال فالتقىٰ الفريقان، والتحم الجيشان، واشتد النزال بني جيش المسلمين المكون من سبعمائة مقاتل بعد انسحاب المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين، وجيش المشركين البالغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل فكانت الغلبة أولا للمسلمين، حيث ألحقوا بالمشركين هزيمة نكراء وردوهم إلىٰ معسكرهم، وقاتل أبو دُجانة بسيف النبي صلى الله عليه وسلم حتىٰ فلق به هام المشركين([5])، حتىٰ قتل في أول النهار من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة([6]).
وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)، [آل عمران: 152]([7]) أي: ولقد صدقكم الله وعده أيها المؤمنون الذي وعدكم إياه إن أطعتم الله ورسوله، أن لكم النصر علىٰ الأعداء.
وفي وسط المعركة جاء رجل إلىٰ النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ»، فَأَلْقَىٰ تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّىٰ قُتِلَ([8]).
مخالفة الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم:
فلما انهزم المشركون وفرُّوا من الميدان وتركوا أموالهم وأمتعتهم في ساحة المعركة، ورأىٰ الرماة ذلك تركوا أماكنهم علىٰ الجبل ونزلوا وهم يقولون: الغنيمة، الغنيمة، فَقَالَ لهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا([9]).
فلما تركوا الجبل ونزلوا انكشف ظهر المسلمين، فرأىٰ المشركون الفرصة سانحة للإلتفات حولهم ومحاصرتهم، ففعلوا ذلك، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، فارتبكت صفوف المسلمين ارتباكًا شديدًا وأصبحوا يقاتلون دون تخطيط([10])، واستغل إِبْلِيسُ عليه لَعْنَةُ الله الفرصة فصرخ في المسلمين: أَيْ عِبَادَ الله أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ مع أُخْرَاهُمْ، وأخذ المسلمون يضرب بعضهم بعضًا، حتىٰ إن حُذَيْفَةَ بن اليمان رضي الله عنهما رأىٰ أباه الْيَمَانِ رضي الله عنه يضربه المسلمون، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ الله أَبِي، أَبِي، فمَا احْتَجَزُوا عنه حَتَّىٰ قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ الله لَكُمْ([11]).
وفي وسط المعركة قُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه - سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلىٰ المدينة قبل الهجرة- الذي قيل أنه كان يحمل لواء المهاجرين في هذه المعركة مع أسيد بن حضير الذي كان يحمل لواء الأوس، والخُباب ابن المنذر الذي كان يحمل لواء الخزرج([12]) قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلىٰ قريش فقال: قتلت محمدًا، فلما قتل مصعب رضي الله عنه أعطىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه([13).
وَصَاحَ الشَّيْطَانُ وسط الميدان: قُتِلَ مُحَمَّدٌ، فَلَمْ يُشَكَّ أحد أَنَّهُ حَقٌّ([14]).
فلما انتشر الخبر وشاع بين صفوف المسلمين، خارت قوىٰ بعض المسلمين، ولانت عزيمتهم، حتىٰ إنهم جلسوا عن القتال، فرآهم أنس بن النضر رضي الله عنه - عم أنس بن مالك رضي الله عنه- فقال لهم ما يُجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا علىٰ ما مات عليه، ثم استقبل القوم فقاتل حتىٰ قتل([15]).
وكان أنس بن النضر رضي الله عنه لَمْ يَشْهَدْ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بَدْر، فقَالَ: غِبْتُ عَنْ أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله مَا أَصْنَعُ، فلما رأىٰ ذلك من المسلمين يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني المسلمين- وأبرأُ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقيَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَيْنَ يا سعد إني أجد رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّىٰ قُتِلَ، فما عرف حتىٰ عرفته أُخْتُهُ بشامة أو ببنانة وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم فنَزَلَتْ فيه وفي أصحابه: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [الأحزاب: 23]([16]).
وكما تقدم فإن بعض القوم جلسوا عن القتال وفرَّ آخرون بين الشعاب بعدما شاع بينهم خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم.أمَّا النبي صلى الله عليه وسلم فكان كالليث يقاتل بين الصفوف، وكان أولُ من عرف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حيٌّ هو كعب بن مالك رضي الله عنه فنادىٰ في المسلمين يبشرهم فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالسكوت لئلا يفطن له المشركون([17]).
وظل النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل وحوله فئةٌ قليلة من الصحابة رضوان الله عليهم صمدوا معه يدافعون عنه صلى الله عليه وسلم.وقد تفطن المشركون بأن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌ لم يُقتلْ فتكاثروا عليه يريدون قتله.
([1]) الذي سُمِّي بعد أُحُدٍ بجبل الرماة.
([2]) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، أبو داود (2662)، كتاب: الجهاد، باب: في الكُمناء، وأحمد (18501)، واللفظ لهما.
([3]) مُقطِّعة البظور: أي التي تختن النساء، فهي تقطع بظر المرأة عند ختنها.
([4]) صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
([5]) سبق تخريجه. هام المشركين: أي رؤوس المشركين.
([6]) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
([7]) الحسُّ: القتل، أي: إذ تقتلونهم بإذنه.
([8]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4046)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، مسلم (1899)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد. وهذا الرجل غير عُمير بن الحُمام الذي استشهد يوم بدر، حيث جاء في رواية: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ...).
([9]) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أُحُد.
([10]) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه أحمد شاكر.
([11]) صحيح: أخرجه البخاري (4065)، كتاب: المغازي.
([12]) جاء ذكر الألوية في «مغازي الواقدي» 1/33.
([13]) «سيرة ابن هشام» 3/3.
([14]) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، الحاكم في «المستدرك» 2/296، 297، وصححه وأقره الذهبي، وصححه أحمد شاكر.
([15]) «سيرة ابن هشام» 3/3، والحديث في «الصحيحين» بلفظ مختلف، انظر الذي بعده.
([16]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4048)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (1903)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
([17]) صحيح: أخرجه الحاكم في «المستدرك» 3/201، وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال: صحيح.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
وكان حول النبي صلى الله عليه وسلم تسعة من الصحابة سَبْعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، واثنان من المهاجرين، فَلَمَّا رَهِقُوهُ([1]) قَالَ: «مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ – أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ-»، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّىٰ قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: «مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ – أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ-»، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّىٰ قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّىٰ قُتِلَ السَّبْعَةُ من الأنصار، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبَيْهِ: «مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا»([2]).
وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا أصحابه للعودة إلىٰ القتال وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: (إذ تصعدون([3]) ولا تلوون([4]) على أحد) [آل عمران: 153] أي: والرسول يناديكم من خلفكم، إلي عباد الله، إليّ عباد الله([5]).
وكان طلحة بن عبيد الله ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع عنه حتىٰ شُلَّتْ يده رضي الله عنه كان يقي بها النبي صلى الله عليه وسلم([6]).
وكان ممن ثبت أيضًا مع النبي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان راميًا ماهرًا لا تكاد رميته تُخطئ، فنثل له النبي صلى الله عليه وسلم كنانته([7]) وجعل يقول له: «ارْمِ فِدَاكَ أبي وَأُمِّي»([8]).
وممن ثبت مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يدافع عنه أبو طَلْحَةَ زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، فكان مُجَوِّبٌ علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم بِحَجَفَةٍ لَهُ([9])، وَكَانَ أبو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ([10]) كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ جَعْبَةٌ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ له النبي صلى الله عليه وسلم: انْثُرْهَا لِأبي طَلْحَةَ، وكان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يشرف برأسه ليَنْظُرَ إِلَىٰ الْقَوْمِ، فَيَقُولُ له أبو طَلْحَةَ: بِأبي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ([11]).
وكان يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، فكان كلما رمىٰ رمية رفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره ينظر إلىٰ أين وقع السهم، فيدفع أبو طلحة صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم([12]).
ورغم استبسال الصحابة – رضوان الله عليهم- في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفدوه بأرواحهم إلا أن المشركين استطاعوا أن يصلوا إلىٰ النبي صلى الله عليه وسلم حيث جُرح وجهه صلى الله عليه وسلم، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ([13]) وهشمت الْبَيْضَةُ عَلَىٰ رَأْسِهِ([14]).
جبريل وميكائيل ينزلان للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم:
لما حدث هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وكاد المشركون أن يقتلوه، وقد تكفل الله تعالىٰ بعصمته من الناس، قال تعالى: (والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67] أنزل الله تعالىٰ جبريل وميكائيل – عليهما السلام- يدافعان عن النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعانه من المشركين.
عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: لقد رَأَيْتُ يوم أحد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، يقاتلان عنه كأشد القتال، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ – يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام-([15]).
مقتل أسد الله حمزة رضي الله عنه:
وفي تلك المعمعة كان هناك رجلٌ له هدف آخر غير الذي جاء من أجله الطرفان، فهو لا يشغله من ينتصر، المسلمون أم المشركون، ولا يهمه ذلك الأمر كثيرًا، إنما كل الذي يشغله هو التحرر من الرق وأن ينفك من قيود العبودية.
وهذا الرجل هو وحشيٌ رضي الله عنه الذي أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.
ولنتركه يقصُّ علينا تفاصيل ما حدث بنفسه رضي الله عنه.
يقول وحشيٌ رضي الله عنه: إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ ابْنَ عَدِيِّ بن الْخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلَايَ جُبَيْرُ بن مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاسُ عَامَ عَيْنَيْنِ – وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ أُحُدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادٍ- خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَىٰ الْقِتَالِ فَلَمَّا أَنْ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بن عبد الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ أَتُحَادُّ الله وَرَسُولَهُ؟ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ([16]) قَالَ: وَمَكنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّىٰ خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ([17]) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت الملائكة تغسل حمزة بن عبد المطلب»([18]).
دور النساء في المعركة:
عن أنس رضي الله عنه قال: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بنتَ أبي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَان ِ أَرَىٰ خَدَمَ سُوقِهِمَا([19]) تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ([20]) عَلَىٰ مُتُونِهِمَا([21]) تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ([22]).
وقَالَ عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه: أن أُمُّ سَلِيطٍ كَانَتْ تُزْفِرُ لَهم الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ([23]).
([1]) أي: قربوا منه صلى الله عليه وسلم.
([2]) صحيح: أخرجه مسلم (1789)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أُحُد.
وكان هذا الدفاع من هؤلاء الأنصاريين السبعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لحبهم الشديد له صلى الله عليه وسلم أولا وإيثاره علىٰ أنفسهم، ثم لما عاهدوه عليه الصلاة والسلام عند بيعة العقبة وأنهم يمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا»
قال النووي رحمه الله: الرواية المشهورة فيه (ما أنصفنا) بإسكان الفاء، و(أصحابنا) منصوب مفعول به، هكذا ضبطه جماهير العلماء من المتقدمين والمتأخرين، ومعناه: ما أنصفت قريش الأنصار، لكون القريشيين لم يخرجا للقتال، بل خرجت الأنصار واحدًا بعد واحد، وذكر القاضي وغيره أن بعضهم رواه (ما أنصفَنا) بفتح الفاء، والمراد علىٰ هذا: الذين فرُّوا من القتال، فإنهم لم ينصفوا لفرارهم.اهـ. «شرح مسلم» 6/329، 330.
([3]) أي: تهربون في بطون الأوديه والشعاب.
([4]) أي: ولا يلتفت بعضكم إلىٰ بعض هربًا من عدوكم.
([5]) «تفسير الطبري» 4/139 وفي قراءة: {إذ تصعدون} بفتح التاء وتسكين الصاد وفتح العين، ومعناه: إذ تصعدون إلىٰ جبل أحد حيث قيل إنهم صعدوا إلىٰ الجبل هربًا من القوم.
([6]) صحيح: أخرجه البخاري (4063)، كتاب: المغازي.
([7]) نثل كنانته: أي نشر كنانته واستخرج ما بها من السهام، والكنانة: جُعبة السهام.
([8]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4055)، كتاب: المغازي، ومسلم (2411)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وفي ذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع أبويه لأحدٍ غير سعد. (متفق عليه).
وقال سعد رضي الله عنه: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أُحُد. (متفق عليه).
([9]) مُجوِّبٌ عليه بحَجَفَة: أي مُتترس عليه بترس، ليقيه من ضربات المشركين، فالحجفة: الترس.
([10]) شديد النزع: أي شديد رمي السهم.
([11]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4064)، كتاب: المغازي، باب: ]إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَىٰ الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال. ومعنىٰ نحري دون نحرك: أي: أفديك بنفسي.
([12]) صحيح: أخرجه البخاري (2902)، كتاب: الجهاد والسير، باب: المجنِّ ومن يتَّرس بترس واحد، وأحمد 3/286، 287.
([13]) هي السنُّ التي تلي الثنية من كل جانب وللإنسان أربع رباعيات. «شرح مسلم» للنووي 6/330.
([14]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد، ومسلم (1790)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.
والبيضة: واقي الرأس الذي يلبسه المحارب.
([15]) متفق عليه: أخرجه البخاري (5826)، كتاب: اللباس، باب: الثياب البيض، ومسلم (2306)، كتاب: الفضائل، باب: في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
([16]) كأمس الذاهب: كناية عن قتله، أي: صيَّره عدمًا.
([17]) صحيح: أخرجه البخاري (4072)، كتاب: المغازي، باب: قتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، يقول وحشيٌ رضي الله عنه: فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّىٰ فَشَا فِيهَا الْإِسْلَامُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَىٰ الطَّائِفِ فَأَرْسَلُوا إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رَسُولًا، فَقِيلَ لِي: إِنَّهُ لَا يَهِيجُ الرُّسُلَ – أي: لا ينالهم منه إزعاج- قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّىٰ قَدِمْتُ عَلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «آنْتَ وَحْشِيٌّ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟»، قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنْ الْأَمْرِ مَا بَلَغَكَ، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي؟»، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، قُلْتُ: لَأَخْرُجَنَّ إِلَىٰ مُسَيْلِمَةَ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثَلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرُ الرَّأْسِ، قَالَ: فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّىٰ خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَىٰ هَامَتِهِ.
يقول عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما: فَقَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَىٰ ظَهْرِ بَيْتٍ: وَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَتَلَهُ الْعبد الْأَسْوَدُ.
قوله: (في ثلمة جدار) أي: في خلل جدار.
قوله: (كأنه جمل أورق) الجمل الأورق الذي لونه رمادي وكان لون مسيلمة كذلك من غبار الحرب.
قوله: (ثائر الرأس) أي: شعره مُنتفش.
([18]) حسن: سيأتي تخريجه.
([19]) خدم سوقهما: أي الخلاخيل.
([20]) تُنقزان: النقز: الوثب والقفز، كناية عن سرعة السير.
([21]) متن الشيء: أعلاه، يقال: متن الجبل أي أعلاه.
([22]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4064)، كتاب: المغازي، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال.
([23]) صحيح: أخرجه البخاري (4071)، كتاب: المغازي، باب: ذكر أم سليط.
وتُزفر: أي تحمل.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
عددُ من قتل من المسلمين في هذه المعركة:
عَنْ الْبَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه أنه أُصِيبَ من المسلمين في هذه المعركة سَبْعُونَ قَتِيلًا([1]).
وعن أبي بن كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ منهِمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ([2]).
وقيل: قتل من المشركين اثنان وعشرون رجلاً([3]).
عمرو بن أُقَيش يدخل الجنة وما صلىٰ لله صلاة:
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ عَمْرَو بن أُقَيْشٍ كَانَ لَهُ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّىٰ يَأْخُذَهُ، فَجَاءَ يَوْمُ أُحُدٍ، فَقَالَ: أَيْنَ بنو عَمِّي؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، قَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، قَالَ: فَأَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا يَا عَمْرُو، قَالَ: إِنِّي قَدْ آمَنْتُ، فَقَاتَلَ حَتَّىٰ جُرِحَ، فَحُمِلَ إِلَىٰ أَهْلِهِ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: سَلِيهِ حَمِيَّةً لِقَوْمِكَ، أَوْ غَضَبًا لَهُمْ، أَمْ غَضَبًا لِلَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَمَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَا صَلَّىٰ لِلَّهِ صَلَاةً([4]).
عبد الله بن حرام رضي الله عنه تظله الملائكة بأجنحتها، ويكلمه الله من غير حجاب:
عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أبي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الْآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُ هُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ([5]).
وعن جَابِر أيضًا قَالَ: لما كان يوم أحد جِيءَ بِأبي مُسجىً وقَدْ مُثِّلَ بِهِ، قال: فأردتُ أن أرفع الثوب فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أردت أن أرفع الثوب فَنَهَانِي قَوْمِي، فرفعه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ باكية أو صَائِحَةٍ فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟»، فَقَالُوا: بنت عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو فقَالَ: «ولِمَ تَبْكِي؟ فَمَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّىٰ رُفِعَ».
وفي رواية لمسلم: «تَبْكِيهِ أَوْ لَا تَبْكِيهِ، مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّىٰ رَفَعْتُمُوهُ»([6]).
وعنه أيضًا قال: لَقِيَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: «يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ الله بِهِ أَبَاكَ؟» قَالَ: قُلْتُ: بَلَىٰ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «مَا كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ، قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون» [آل عمران: 169]([7]).
([1]) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد.
([2]) صحيح: أخرجه الترمذي (3129)، كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة النحل، وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو في مسند أحمد من زوائد عبد الله 5/135، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي».
([3]) «سيرة ابن هشام» 3/3.
([4]) حسن: أخرجه أبو داود (2537)، كتاب: الجهاد، باب: فيمن يسلم ويقتل في مكانه في سبيل الله، وحسنه الشيخ الألباني في «صحيح سنن أبي داود».
([5]) صحيح: أخرجه البخاري (1351)، كتاب: الجنائز، باب: هل يُخرج الميت من القبر أو اللحد لعلة؟.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (1293)، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة علىٰ الميت، ومسلم (2471)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله تعالىٰ عنهما.
([7]) حسن: أخرجه الترمذي (3010)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه. إلا من حديث موسىٰ بن إبراهيم، والحاكم 3/204، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الشيخ الألباني في «صحيح سنن الترمذي».
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
حنظلةُ تُغسله الملائكة:
عن الزبير رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند قتل حنظلة بن أبي عامر بعد أن التقىٰ هو وأبو سفيان بن الحارث حين علاه شداد بن الأسود بالسيف فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبكم تُغسله الملائكة فسألوا صاحبته عنه» فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسلته الملائكة»([1]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت الملائكة تُغسِّل حمزة بن عبد المطلب، وحنظلة بن الراهب»([2]).
عمرو بن الجموح يطأُ برجله في الجنة:
كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة يشهدون مع رسول الله المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله تعالى قد عذرك، فأتىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك» فقال لبنيه: «ما عليكم أن لا تمنعوه فلعل الله أن يرزقه الشهادة» فخرج معه فقتل يوم أحد([3]).
وعن أبي قتادة قال: جاء عَمْرُو بن الْجَمُوحِ رضي الله عنه إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ الله حَتَّىٰ أُقْتَلَ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ؟ فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ»، فَقُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَمَوْلًىٰ لَهُمْ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ»، فَأَمَرَ رَسُولُ الله بِهِمَا وَبِمَوْلَاهُمَ ا فَجُعِلُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ([4]).
عبد الله بن جحش رضي الله عنه يتمنىٰ الشهادة في سبيل الله فينالها:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال له يوم أحد ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فلقني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حردُهُ، أقاتله ويُقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتىٰ أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع([5]) أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت، قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط([6]).
([1]) حسن: أخرجه الحاكم 3/204، وقال: هذا حديث صحيح علىٰ شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي، وأخرجه البيهقي في «السنن» 4/15، وحسنه الشيخ مصطفىٰ العدوي لشواهده «فضائل الصحابة» للعدوي (279)، وحسنه الألباني في «الإرواء» رقم (713).
([2]) حسن: أخرجه الطبراني في «الكبير» عن ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (3463).
([3]) صحيح: أخرجه ابن هشام في «السيرة» عن ابن إسحاق 3/23، وصححه الألباني في تخريج «فقه السيرة» (267).
([4]) صحيح: أخرجه أحمد (22452)، وصححه أحمد شاكر، والألباني أيضًا في «فقه السيرة» (267).
([5]) يجدع: أي يقطع.
([6]) صحيح: أخرجه الحاكم 3/999، وقال: صحيح علىٰ شرطهما لولا إرساله، ووافقه الذهبي، وصححه موصولاً من حديث إسحاق بن سعد، والبيهقي في «السنن» 9/24.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
بعد انتهاء المعركة:وبعد انتهاء القتال وانصراف كل فريق إلىٰ معسكره وقد تأكد بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتِل، إذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يطلع عليهم بَيْنَ السَّعْدَيْنِ([1]) عرفه الصحابة – رضوان الله عليهم- بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَىٰ([2]) يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فَفَرِحَ به الصحابة حَتَّىٰ كَأَنَّهُم لَمْ يُصِبْهم شيء فَرَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم نَحْوَهم وَهُوَ يَقُولُ: «اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَىٰ قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِهِ»، وَيَقُولُ مَرَّةً أُخْرَىٰ: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا»([3]).وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَىٰ قَوْمٍ فَعَلُوا هذا بنبِيِّهِ»، وهو حينئذ يُشِيرُ إِلَىٰ رَبَاعِيَتِهِ ويقول: «اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَىٰ رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ الله فِي سَبِيلِ الله»([4]).كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَسْلُتُ عن نفسه الدَّمَ وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ الله»، فَأَنْزَلَ الله تعالى: (ليس لك من الأمر شييء) [آل عمران: 128]([5]).وعن عبد الله بن مسعود قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»([6]).ثم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد علىٰ صخرة – ليجلس عليها- فلم يستطع – من شدة ما فيه من إصابات وإرهاق شديد- فَأَقْعَدَ النبي صلى الله عليه وسلم تَحْتَهُ طَلْحَةَ رضي الله عنه ثم صَعِدَ حَتَّىٰ اسْتَوَىٰ عَلَىٰ الصَّخْرَةِ، ثم قَالَ النَّبُيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْجَبَ طَلْحَةُ»([7]).ثم أخذت فَاطِمَةُ رضي الله عنها تغسل الدم عن وجه أبيها صلى الله عليه وسلم وَعَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّىٰ صَارَ رَمَادًا ثُمَّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ([8]).الله تعالى يُهدِّئُ من روع المؤمنين بالنعاس:ثم أنزل الله تعالى النعاس علىٰ المسلمين تهدئة لروعهم، وراحة لأجسادهم من عناء القتال.يقول الله تعالىٰ: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران: 154].عَنْ أبي طَلْحَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّىٰ سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا يَسْقُطُ وَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ فَآخُذُهُ([9]).وبعد ذلك أشرف أبو سفيان بن حرب ونادىٰ علىٰ المسلمين فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجِيبُوهُ»، فقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أبي قُحَافَةَ؟ - يعني أبا بكر- قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجِيبُوهُ»، فقال: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ لو كانوا أحياءً لأجابوا، فلم يمَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ الله أَبْقَي الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «أجِيبُوهُ»، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا الله أَعْلَىٰ وَأَجَلُّ»، قَالَ أبو سفيان: لنا الْعُزَّىٰ وَلَا عُزَّىٰ لَكُمْ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «أجِيبُوهُ»، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا الله مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَىٰ لَكُمْ»، قَالَ أبو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ([10])، فَقَالَ عُمَرُ: لَا سَوَاءً، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، قَالَ أبو سفيان: إِنَّكُمْ لَتَزْعُمُونَ ذَلِكَ، لَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ وَخَسِرْنَا، ثُمَّ قَالَ أبو سُفْيَانَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَوْفَ تَجِدُونَ فِي قَتْلَاكُمْ مُثْلًا([11])، وَلَمْ يَكُنْ ذَاكَ عَنْ رَأْيِ سَرَاتِنَا([12])، ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَانَ ذَاكَ وَلَمْ نَكْرَهْهُ([13]).
([1]) اسم مكان. والله أعلم.([2]) التكفؤ: التمايل إلىٰ قدام.([3]) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، الحاكم 2/296، 297، وصححه وأقره الذهبي، وصححه الشيخ أحمد شاكر.([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4073)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد، ومسلم (1793)، كتاب: الجهاد والسير، باب: اشتداد غضب الله علىٰ من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم.([5]) صحيح: أخرجه مسلم (1791)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3477)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حدثنا أبو اليمان، ومسلم (1792)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد. قال الدكتور أكرم العمري: لقد استبعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوفق الله من آذوه بهذه الصورة – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ...»- فأخبره الله سبحانه بأن ذلك ليس ببعيد إن أراد الله هدايتهم – فأنزل عليه: (ليس لك من الأمر شيء)- فقال عليه الصلاة والسلام لما طمع بإسلامهم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» «السيرة النبوية الصحيحة» 2/388.([7]) حسن: أخرجه الترمذي (3738)، كتاب: المناقب، باب: مناقب أبي محمد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (2540) ومعنىٰ قوله: «أَوْجَبَ طَلْحَةُ» أي: أوجب لنفسه الجنة. والله أعلم.([8]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد، ومسلم (1790)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد.([9]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4068)، كتاب: المغازي، ومسلم (1811)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال.([10]) صحيح: أخرجه البخاري (4043)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد.([11]) مثلاً: أي تمثيلاً بالقتلىٰ.([12]) السراة: الأشراف والكبراء، أي لم يكن ذلك التمثيل بالقتلىٰ عن رأي ورضيً من كبرائنا.([13]) صحيح: أخرجه أحمد (2609)، وصححه أحمد شاكر. أي: قد كان ذلك التمثيل بالجثث ليس عن أمرنا ولكنا لم نكرهه.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد الشهداء، ويرىٰ عمه الحمزة رضي الله عنه وسطهم، ثم يأمر بدفنهم:
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَىٰ حَمْزَةَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ فِي نَفْسِهَا لَتَرَكْتُهُ حَتَّىٰ تَأْكُلَهُ الْعَافِيَةُ([1]) حَتَّىٰ يُحْشَرَ مِنْ بُطُونِهَا» ثم دعا بنمرة فكفنه فيها فكانت إذا مُدَّت علىٰ رأسه بدت رجلاه وإذا مدت علىٰ رجله بدا رأسه، وَقَلَّتْ الثِّيَابُ وَكَثُرَتْ الْقَتْلَىٰ فَكَانَ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ يُكَفَّنُونَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يُدْفَنُونَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عنهم: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ قُرْآنًا» فَيُقَدِّمُهُ إِلَىٰ الْقِبْلَةِ([2]).
وعَنْ أَنَسٍ أيضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِحَمْزَةَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ غَيْرِهِ([3]).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَىٰ أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟» فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَىٰ أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَىٰ هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ([4]).
وعَنْ خَبَّابٍ بن الأرت رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَبْتَغِي وَجْهَ الله فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَىٰ الله فَمِنَّا مَنْ مَضَىٰ أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً([5]) كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَىٰ رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ»، أَوْ قَالَ: «أَلْقُوا عَلَىٰ رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ»([6]).
وقَالَ جابر رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأبي لِتَدْفِنَهُ فِي مَقَابِرِنَا، فَنَادَىٰ مُنَادِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رُدُّوا الْقَتْلَىٰ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ([7]).
حُزْن النبي صلى الله عليه وسلم علىٰ الشهداء:
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: «أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ مَعَ أَصْحَابِ نُحْض الْجَبَلِ»([8]).
النبي صلى الله عليه وسلم يثني علىٰ ربه:
ولما انصرف العدو من الميدان قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «اسْتَوُوا حَتَّىٰ أُثْنِيَ عَلَىٰ رَبِّي تعالى» فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللهمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا، اللهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنْ الرَّاشِدِينَ، اللهمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الْحَقِّ آمين»([9]).
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعبد فِي الْأَرْضِ»([10]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللهمَّ الْعَنْ الْحَارِثَ بن هِشَامٍ، اللهمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ» فَنَزَلَتْ: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) [آل عمران: 128]. فَتَابَ الله عَلَيْهِمْ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ([11]).
ولقد عفا الله تعالى عن المؤمنين الذين فروا يوم أحد فأنزل: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[آل عمران: 155].
وربط الله تعالى من جأش المسلمين فقال: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 139، 140].
وبعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىٰ المدينة مرَّ بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد، فلما نُعُوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتىٰ أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه، حتىٰ إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة([12]).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: مر رَسُولُ الله بنسَاءِ عبد الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ»، فَجَاءَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ حَمْزَةَ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «وَيْحَهُنَّ مَا انْقَلَبْنَ([13]) بَعْدُ؟ مُرُوهُنَّ فَلْيَنْقَلِبْن َ، وَلَا يَبْكِينَ عَلَىٰ هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ»([14]).
([1]) العافية: قال الخطابي: هي السباع والطير تقع علىٰ الجيف فتأكلها. «عون المعبود» 6/43.
([2]) صحيح: أخرجه أبو داود (3136)، كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يُغسل، وأحمد 3/128، والترمذي (1016)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قتلىٰ أحد وذكره حمزة، وصححه الألباني «صحيح سنن الترمذي».
([3]) حسن: أخرجه أبو داود (3137)، كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يغسل، وصححه الألباني «صحيح سنن أبي داود».
([4]) صحيح: أخرجه البخاري (1343)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة علىٰ الشهيد، وفي رواية للبخاري أيضًا قال جابر: فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة.
وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلىٰ علىٰ حمزة رضي الله عنه والظاهر – والله أعلم- كما قال بعض العلماء منهم ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم مخير بين الصلاة علىٰ الشهداء وعدم الصلاة.
([5]) النَّمِرة: نوع من الكساء.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4082)، كتاب: المغازي، باب: من قتل من المسلمين يوم أحد، ومسلم (940)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن الميت. والإذخر: حشيش معروف طيب الرائحة.
([7]) صحيح: أخرجه الترمذي (1717)، كتاب: الجهاد، باب: في دفن القتيل في مقتله، صححه الألباني «صحيح سنن الترمذي»، أحمد (14101)، وصححه أحمد شاكر.
([8]) صحيح: أخرجه أحمد (14965)، الحاكم 3/28.
نحض الجبل: سفح الجبل، والمعنىٰ: لوددت أني قتلت معهم، وهذا من شدة حزنه عليهم صلى الله عليه وسلم.
([9]) صحيح: أخرجه أحمد 3/414، الحاكم 1/507، 3/23، 24، وقال: صحيح علىٰ شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في تخريج «فقه السيرة» (269).
([10]) صحيح: أخرجه مسلم (1743)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.
([11]) صحيح: أخرجه البخاري (4069)، كتاب: المغازي باب: ليس لك من الأمر شيء، والترمذي (3004)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران واللفظ له.
([12]) حسن: أخرجه ابن هشام في «السيرة» 3/29، عن ابن إسحاق بسند حسن إلىٰ سعد بن أبي وقاص صلى الله عليه سلم.
([13]) أي: ما رجعن إلىٰ بيوتهن.
([14]) صحيح: أخرجه أحمد 2/84، ابن ماجه (1591)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في البكاء علىٰ الميت، وصححه الألباني في «صحيح السنن».
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
10- وفي اليوم التالي لغزوة أُحُد: خرج المسلمون لغزوة حمراء الأسد.
بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلىٰ المدينة أراد أن يطارد المشركين حتىٰ لا يفكروا في العودة ومداهمة المدينة، فأرسل مناديًا ينادي في الناس بطلب العدو وأن لا يخرجن أحدٌ إلا أَحَد حضر أُحُد، وكان ذلك في اليوم التالي لغزوة أُحُد فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم كل من شهد أحدًا، سوىٰ جابر بن عبد الله خرج وهو لم يشهد أُحدًا، حيث تخلف عن أحُد لأن أباه خلفه علىٰ أخواته.
فسار جيش المسلمين حتىٰ بلغ حمراء الأسد وهي علىٰ بعد حوالي عشرين كيلو جنوب المدينة المنورة، واستعمل علىٰ المدينة ابن أم مكتوم، فلم يلق أحدًا من المشركين، ووجدهم قد رجعوا إلىٰ مكة، فأقام بها الاثنين، والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلىٰ المدينة([1]).
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) [آل عمران: 172] قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ، وَأبو بَكْرٍ لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ: «مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ؟» فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أبو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ([2]).
([1]) انظر تلك الغزوة في «سيرة ابن هشام» 3/29، 30.
([2]) صحيح: أخرجه البخاري (4077)، كتاب: المغازي.
هكذا جاء في حديث عائشة أن الذين خرجوا في هذه الغزوة سبعون صحابيًا فقط، والمشهور عند أهل السير أنه خرج كل من شارك بأُحُد فالله أعلم. وقد يكون هؤلاء السبعون أول من خرجوا ثم تبعهم الباقون، كما وجه ذلك بعض العلماء والله أعلم.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
إضافة :
10- وفي اليوم التالي لغزوة أُحُد: خرج المسلمون لغزوة حمراء الأسد.
..........أما المشركون فكانوا نازلين بالروحاء ، على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة ، يفكرون ويتشاورون في العودة إليها ، ويأسفون على ما فاتهم من الفرصة الصالحة .
وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي من المناصحين لرسول الله -r- ، فجاءه بحمراء الأسد ، وعزاه على ما أصابه في أحد ، فأمره رسول الله أن يلحق أبا سفيان ويخذله ، فلحقهم بالروحاء ، وقد أجمعوا ليعودوا إلى المدينة ، فخوفهم أشد التخويف ، قال : إن محمداً خرج في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، فيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط ، ولا أرى أن ترتحلوا حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة . فلما سمعوا هذا خارت عزائمهم ، وانهارت معنوياتهم ، واكتفى أبو سفيان بحرب أعصاب دعائية ، إذ كلف من يقول للمسلمين :} إِن َّالنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ { ، حتى لا يطارده المسلمون ، وعجل الارتحال إلى مكة .
أما المسلمون فلم يؤثر فيهم هذا الإنذار ، بل :} ...زَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{ وبقوا في حمراء الأسد إلى يوم الأربعاء ، ثم رجعوا إلى المدينة :} فَانقَلَبُو اْبِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ { . [ 1 ]
______________________________ ___________________
[1] روضة الأنوار في سيرة النبي المختار للشيخ المباركفوري رحمه الله
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
بارك الله فيكم، وسنضيف هذه الإضافات للطبعة الجديدة من كتابنا ((الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية في ترتيب أحداث السيرة النبوية))، وجزاكم الله خيرا.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
أحسن الله إليكم ما منهج كتاب الأغصان الندية ،هل هو تلخيص أحداث السيرة أم الاعتماد على ما صح فقط من السيرة ؟؟
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم علي طويلبة علم
أحسن الله إليكم ما منهج كتاب الأغصان الندية ،هل هو تلخيص أحداث السيرة أم الاعتماد على ما صح فقط من السيرة ؟؟
هو كتاب حاولتُ أن أجمع فيه جميع ما ثبت في كل حدث من أحداث السيرة؛ فكانت خُطتي فيه: الرجوع أولا إلى كتب السنة والنظر في السند، فإن كان السندُ مقبولا أو ضعيفا ضعفا هينا قبلته؛ هذا إن لم يكن المتنُ منكرا، فإن لم يكن للحدث ذِكر في كتب السنة رجعت إلى كتب السيرة، فاعتمدتُ ما كان عليه إجماع أو شبه إجماع بين أهل السير.
هذا هو عموم منهجي في الكتاب، وأنا الآن أُجهز لطبعة جديدة بها بعض الزيادات والتعديلات.
فأسأل الله التوفيق والسداد.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
هذا هو عموم منهجي في الكتاب، وأنا الآن أُجهز لطبعة جديدة بها بعض الزيادات والتعديلات.
في دروس الخلافة الراشدة للشيخ عثمان الكندري حفظه الله ، أشار إلى مصادر للسيرة سأذكر ما دونته :
- السيرة النبوية لابن هشام اختصره عبدالسلام هارون تهذيب لسيرة ابن هشام .
- السيرة النبوية الصحيحة ج2 أكرم ضياء العمري
- السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية مهدي رزق الله
- اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون لموسى العازمي
- كنوز السيرة لعثمان الخميس
- فقه السيرة للغزالي تحقيق الشيخ الألباني
- المنهج الحركي للسيرة النبوية ج2
نسأل الله عز وجل أن ينفع بكتابكم وزادكم علما
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم علي طويلبة علم
في دروس الخلافة الراشدة للشيخ عثمان الكندري حفظه الله ، أشار إلى مصادر للسيرة سأذكر ما دونته :
- السيرة النبوية لابن هشام اختصره عبدالسلام هارون تهذيب لسيرة ابن هشام .
- السيرة النبوية الصحيحة ج2 أكرم ضياء العمري
- السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية مهدي رزق الله
- اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون لموسى العازمي
- كنوز السيرة لعثمان الخميس
- فقه السيرة للغزالي تحقيق الشيخ الألباني
- المنهج الحركي للسيرة النبوية ج2
نسأل الله عز وجل أن ينفع بكتابكم وزادكم علما
جزاكم الله خيرا، وبارك فيكم
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
11- وفي هذه السنة: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها بأمر الله تبارك وتعالىٰ.
هي زينب بنت جحش بن رئاب بن يَعْمَر بن صبرة بن مُرَّة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، الأسدية، أم المؤمنين.
وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم([1]).
وكانت عند زيد بن حارثة رضي الله عنه قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.
وزيد بن حارثة بن شراحيل رضي الله عنه كان مولىٰ للنبي صلى الله عليه وسلم أهدته إليه خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها.
وكان يدعىٰ زَيْدَ بن مُحَمَّدٍ، حيث كان قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينسب إليه، حَتَّىٰ نَزَلَت: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) [الأحزاب: 5]([2]).
فبنزول هذه الآية تم تحريم التبني، وأصبح كلٌ يُنسبُ إلىٰ أبيه الذي هو من صلبه، فأصبح يقال زيد بن حارثة.
ولكن قاعدة التبني كانت متأصلة في نفوس العرب، ليس من السهل محوها، فكأن الله تعالى أراد حدوث شيء عملي يمحو هذا تمامًا من نفوسهم، فكان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش التي كانت زوجة لرعيِّه زيد بن حارثة رضي الله عنه.
وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز فقال تعالىٰ: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [الأحزاب: 37] يقول الله تعالىٰ لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالعتق من الرق.
(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) زينب رضي الله عنها، حيث جَاءَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ يَشْكُو للنَّبِيِ صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اتَّقِ الله وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ»([3]).
وكان الله تعالى قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنها ستكون زوجته، ولذلك قال الله تعالىٰ له: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي: لا تخفي ما أطلعك الله عليه من أنها ستكون زوجتك، (وَتَخْشَى النَّاسَ) من أن يقولوا: طلق محمد زوجة ابنه ليتزوجها (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) .
ثم يقول الله تعالىٰ: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) الوطر: الحاجة، أي: فلما فرغ زيدٌ منها وفارقها (زَوَّجْناكَها) فكان زواجها رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من الله تعالى، ولذلك كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَىٰ زوجات النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وتَقُولُ لهن: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي الله تَعَالَىٰ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ([4]).
عَنِ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ: «اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ»، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّىٰ أَتَاهَا قَالَ وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا، قال: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي حَتَّىٰ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا؛ أَنَّ رَسُولَ الله ذَكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي، وَنكَصْتُ عَلَىٰ عَقِبَيَّ فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُكِ، قَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّىٰ أُؤَامِرَ رَبِّي، فَقَامَتْ إِلَىٰ مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ([5]).
وليمة عُرس زينب رضي الله عنها:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَىٰ امرأة – أو علىٰ شَيْءٍ مِنْ نِسَائِهِ- مَا أَوْلَمَ عَلَىٰ زَيْنَبَ فإنه ذبح شَاةً([6]).
وفي لفظ لمسلم: مَا أَوْلَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أكثر أو أفضل ممَا أَوْلَمَ عَلَىٰ زَيْنَبَ، أطعمهم خبزًا ولحمًا حتىٰ تركوه.
وعَنْ أَنَسِ أيضًا قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ – زينب رضي الله عنها- قَالَ: فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا([7])، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ([8]) فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْ بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيْكَ أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: «ضَعْهُ»، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا وَمَنْ لَقِيتَ» وَسَمَّىٰ رِجَالًا، قَالَ: فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّىٰ وَمَنْ لَقِيتُ. وقيل لِأَنَسٍ: عَدَدَكَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ»، قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّىٰ امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ»، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّىٰ شَبِعُوا، قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّىٰ أَكَلُوا كُلُّهُمْ، فَقَالَ لِي: «يَا أَنَسُ ارْفَعْ»، قَالَ: فَرَفَعْتُ فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ([9]).
واختلف أهل التاريخ والسير في تاريخ زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها وقد رجح فضيلة الشيخ وحيد بن بالي – حفظه الله- زواجه منها في العام الثالث من الهجرة، حيث قال: وهو قول خليفة بن خياط، وأبي عبيدة معمر بن المثنىٰ، وابن منده، وهو أقوىٰ من قول من قال بأنه في العام الخامس من الهجرة([10]).
([1]) «البداية والنهاية» 4/163.
([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4782)، كتاب: التفسير، مسلم (2425)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد.
([3]) صحيح: أخرجه البخاري (7420)، كتاب: التوحيد.
([4]) صحيح: انظر التخريج السابق.
([5]) صحيح: أخرجه مسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (5168)، كتاب: النكاح، باب: الوليمة ولو شاة، ومسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب وإثبات وليمة العُرس.
([7]) الحيس: هو التمر والسمن والأقط يخلط ويُعجن، والأقط: الجبن الجاف.
([8]) التور: إناء من نحاس.
([9]) متفق عليه: أخرجه البخاري (5163)، كتاب: النكاح، باب: الهدية للعروس، ومسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العُرس.
([10]) «الخلاصة البهية» (38) هامش.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
12- وفي صبيحة عُرْس زينب رضي الله عنها نزلت آية الحجاب.
قَالَ أنس رضي الله عنه: فَرَفَعْتُ – أي: الطعام- فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ، قَالَ: وَجَلَسَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إِلَىٰ الْحَائِطِ فَثَقُلُوا عَلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَىٰ نِسَائِهِ ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَابْتَدَرُوا الْبَابَ فَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ أَرْخَىٰ السِّتْرَ وَدَخَلَ وَأَنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّىٰ خَرَجَ عَلَيَّ، وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَقَرَأَهُنَّ عَلَىٰ النَّاسِ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) [الأحزاب: 53] إِلَىٰ آخِرِ الْآيَةِ([1]).
([1]) متفق عليه: انظر التخريج السابق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
13- وفي هذه السنة -الثالثة -: نزل تحريم الخمر.
كان شرب الخمر عادة أساسية عند رجالات العرب في الجاهلية، وكان يصعب علىٰ الواحد منهم ترك ذلك الأمر.
فلما جاء الإسلام، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالتشريع من عند العِليم الخبير، لم يُحرم الخمر مرة واحدة بل كان ذلك تدريجيًا، تيسيرًا من الله تعالىٰ علىٰ هؤلاء الذين تأصلت فيهم هذه العادة.
فأنزل الله تعالىٰ أولاً: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)[البقرة:219].
فشربه بعض الناس وتركه البعض، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)[النساء: 43] فكان المنادي إذا أقام الصلاة قال: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارىٰ، فقَالَ عُمَرُ: اللهمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة: 90] إلىٰ قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[المائدة: 91] فقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: انْتَهَيْنَا، انْتَهَيْنَا([1]).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ عَلَىٰ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِي نَ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمْكَ وَنَسْقِكَ خَمْرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فِي حَشٍّ – وَالْحَشُّ: الْبُسْتَانُ- فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ([2])، قَالَ: فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِي نَ عِنْدَهُمْ، فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ أَحَدَ لَحْيَيْ الرَّأْسِ([3]) فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ بِأَنْفِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَنْزَلَ الله تعالى فِيَّ شَأْنَ الْخَمْرِ: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) ([4]).
وعَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أبي طَلْحَةَ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَىٰ، فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَكَانَتْ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ([5])، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهْيَ فِي بُطُونِهِمْ، قَالَ: فَأَنْزَلَ الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة: 93]([6]).
وكان تحريم الخمر سنة ثلاث بعد وقعة أُحُد([7]).
([1]) صحيح: أخرجه النسائي (5540)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر، وصححه الألباني.
([2]) الزقُّ: وعاء من جلد.
([3]) أي رأس الجزور الذي كانوا يأكلونه، واللَّحْىٰ: الفك.
([4]) صحيح: أخرجه مسلم (1748)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص.
([5]) الفضيخ: خمر يصنع من ثمر النخل.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4620)، كتاب: تفسير القرآن، ومسلم (1980)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر.
([7]) انظر: «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 6/214.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
السنة الرابعة من الهجرة
وفيها ثلاثة عشر حدثاً:
1- في المحرم من هذه السنة: كانت سرية أبي سلمة رضي الله عنه إلي طُلَيحه
الأَسَديِّ، فغنم وأسر.
وكان من نتائج غزوة أُحُد أن تجرأ الأعراب حول المدينة علىٰ المسلمين وظهر ذلك في التجمعات التي قام بها بنو أسد بقيادة طُليحه الأسدي وأخيه سليمة في نجد، وبنو هذيل بقيادة خالد بن سفيان الهذلي في عرفات، مستهدفين غزو المدينة طمعاً في خيراتها وانتصاراً لشركهم ومظاهرة لقريش وتقرباً إليها، وكان ذلك في شهر محرم من السنة الرابعة للهجرة.
وتحرك المسلمون قبل أن يستفحل الأمر، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبد الأسد بمائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار إلي طليحة الأسدي الذي تفرق أتباعه تاركين إبلهم وماشيتهم بيد المسلمين من هول المفاجأة([1]).
([1]) «السيرة النبوية الصحيحة» أكرم ضياء العمري 2/398، والسرية ذكرها ابن سعد في «الطبقات» 2/50، وابن القيم في «زاد المعاد» 3/218.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
2- وفي المحرم أيضاً من هذه السنة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه إلى خالد بن سفيان الهذلي، فقتل خالداً وعاد سالماً.
عَنِ عبد الله بن أُنَيْسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ سُفْيَانَ يَجْمَعُ لِي النَّاسَ لِيَغْزُوَنِي، وَهُوَ بنخلة أو بِعُرَنَةَ، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله انْعَتْهُ لِي حَتَّىٰ أَعْرِفَهُ، قَالَ: «ذلك إِذَا رَأَيْتَهُ أذكرك الشيطان، وآية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وَجَدْتَ لَهُ قْشَعْرِيَرَةً»، قَالَ: فَخَرَجْتُ مُتَوَشِّحًا سَيْفِي، حَتَّىٰ دفعْتُ إلَيْهِ وَهُوَ في ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنَّ مَنْزِلًا، وَحِينَ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ مَا قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْقْشَعْرِيرَة ِ، فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ بمُحَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنْ الصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ، وأُومِئُ بِرَأْسِي، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: مَنْ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ سَمِعَ بِكَ وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجَاءَكَ لِذَلك، قَالَ: أَجَلْ، أَنَا لفِي ذَلِكَ، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ شَيْئًا، حَتَّىٰ إِذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ حَتَّىٰ فقَتَلْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ – نساءه- مُنكِبَّاتٍ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَرَآنِي، قَالَ: «أَفْلَحَ الْوَجْهُ»، قُلْتُ: قد قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «صَدَقْتَ»، ثُمَّ قَامَ فأدخلني بَيْتِهِ، فَأَعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: «أَمْسِكْ هَذِهِ عِنْدَكَ يَا عبد الله بن أُنَيْسٍ»، قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَىٰ النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصَا؟ قُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسِكَهَا عندي، قَالُوا: أفلَا تَرْجِعُ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَتَسْأَلَهُ لم ذَلِكَ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لِمَ أَعْطَيْتَنِي هَذِهِ الْعَصَا؟ قَالَ: «آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ الْمُتَخَصِّرُو نَ يَوْمَئِذٍ»([1]).
فَقَرَنَهَا عبد الله بن أنيس بِسَيْفِهِ، فَلَمْ تَزَلْ بسيفه حَتَّىٰ مَاتَ، ثم أَمَرَ بِهَا فَصُبَّتْ فِي كَفَنِهِ، ثُمَّ دُفِنَا جَمِيعًا([2]).
([1]) المتخصرون: أي المتكئون علىٰ المخاصر، جمع مخصره وهي ما يمسكه الإنسان بيده من عصا وغيرها.
والمراد هنا: الذين يأتون يوم القيامة ومعهم أعمال صالحة يتكئون عليها.
([2]) أخرجه أبو داود (1249) كتاب: الصلاة، باب: صلاة الطالب مختصرًا، صححه الألباني في «الصحيحة» (3293)، أحمد 3/496، وقال ابن كثير في «تفسيره» 1/295: إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح» 2/350: إسناده حسن.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
3- وفي صفر من هذه السنة: كانت سريةُ الرَّجيع.
الرَّجِيع: اِسْم مَوْضِع مِنْ بِلَادِ هُذَيْلٍ كَانَتْ الْوَقْعَة بِقُرْبٍ مِنْهُ فَسُمِّيَتْ بِهِ([1]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا([2]) وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بن ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ – جَدَّ عَاصِمِ بن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ- فَانْطَلَقُوا، حَتَّىٰ إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ – وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بنو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّىٰ وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَىٰ فَدْفَدٍ([3])، وَأَحَاطَ بِهِمْ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ وَلَا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، فقَالَ عَاصِمُ بن ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللهمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارِيُّ ، وَابْنُ دَثِنَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةً – يُرِيدُ الْقَتْلَىٰ- وجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَىٰ أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَىٰ، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّىٰ بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بنو الْحَارِثِ بن عَامِرِ بن نَوْفَلِ بن عبد مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بن عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، تقول بنتَ الْحَارِثِ بن عامر: أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَىٰ يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَىٰ فَخِذِهِ وَالْمُوسَىٰ بِيَدِهِ فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنْ الله رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فكان أول من سن الرَكْعَتَيْنِ عند القتل هو، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا اللهمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، ثم قال:
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا |
|
عَلَىٰ أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي |
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ |
|
يُبَارِكْ عَلَىٰ أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ |
فَقَتَلَهُ عقبة بن الْحَارِثِ، واسْتَجَابَ الله لِعَاصِمِ بن ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ – عندما قال: اللهم أَخْبِر نبيك عنَّا فَأَخْبَرَ الله تعالى نبيه بهم- وأخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَىٰ عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ عَلَىٰ عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ([4]) فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَىٰ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا([5]).
وقد كان عاصم قد أعطىٰ الله عهدًا أن لا يمسه مشرك، ولا يمسَّ مشركًا أبدًا، تنجسًا – أي: خشية تنجسه منهم-؛ فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدَّبْر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته([6]).
وأمَّا زيد بن الدِّثنَّة فابتاعه صفوان بن أُمية ليقتله بأبيه أُمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أميه مع مولىٰ له يقال له: نِسطاس، إلىٰ التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قُدِّم ليقتل: أُنشدك الله يا زيد، أتحبّ أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحبُّ أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي، قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحبُّ أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، ثم قتله نِسطاس([7]).
([1]) «فتح الباري» 7/438.
([2]) أي: عينًا له يتجسسون علىٰ الأعداء حول المدينة.
هذه رواية البخاري وذكر ابن إ سحاق بسند مرسل أن هذه السرية لم تكن عينًا للتجسس، وإنما قدم علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلتي عَضَل والقارَة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلامًا، فابعث نفرًا من أصحابك يُفقهوننا في الدين، ويُقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث النبي r معهم ستة من أصحابه فغدروا بهم. وذكر نحو ما في رواية البخاري، والراجح ما في «الصحيح». والله أعلم.
([3]) الفدفد: المكان المرتفع.
([4]) الظُّلَّة: السحابة، والدَّبْر: ذكور النحل، أي: أن الله أرسل عليه سحابة من النحل فحمته منهم.
([5]) صحيح: أخرجه البخاري (3045)، كتاب: الجهاد والسير، باب: هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل، وأخرجه أيضًا (4086)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، وبئر معونة وحديث عضل والقارة، وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه.
([6]) «سيرة ابن هشام» 3/83.
([7]) السابق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
4- وفي صفر أيضًا من هذه السنة: كانت سرية بئر معونة.
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ عَدُوٍّ([1]).
هذه رواية البخاري، أما رواية مسلم: عَنْ أَنَسِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَنْ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ([2]).
فبعث إليهم سَبْعِينَ رجلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يقال لهم الْقُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ، كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، وأمَّرَ عليهم حرام بن ملحان – قال أنس بن مالك-: حَتَّىٰ كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ – علىٰ بعد 160 كيلو- من المدينة غَدَرُ بِهِمْ عامر بن الطفيل، حيث ذهب إليه حرام بن ملحان رضي الله عنه ومعه رجلان، كان أحدهما أعرج، فقال لهما حرام: كونا قريبًا حتىٰ آتيهم فإن آمنوني كنتم –آمنين- وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فذهب إليه فقال: أتُأمِّنوني أُبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يُحدِّثهم، وأومئوا إلىٰ رجل فأتاه من خلفه فطعنه فقال حرام بن ملحان رضي الله عنه بالدَّم هذا فنضحه علىٰ وجهه ورأسه ثم قال: فزتُ وربِّ الكعبة، ثم اجتمعوا عليهم فقتلوهم جميعًا غير الرجل الأعرج الذي كان مع حرام بن ملحان صعد علىٰ رأس جبل، وعمرو بن أمية الضمري أُسر ثم خلا عامر بن الطفيل سبيله لما أعلمه أنه من مضر.
وكان عامر بن الطفيل هذا يكنُّ عداءً شديدًا للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حيث أرسل إلىٰ النبي صلى الله عليه وسلم يخَيَّرَه بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَقَالَ له: يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ الْمَدَرِ، أَوْ أَكُونُ خَلِيفَتَكَ، أَوْ أَغْزُوكَ بِأَهْلِ غَطَفَانَ بِأَلْفٍ وَأَلْفٍ، فقد كان يحقد علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم ويرىٰ أنه أخذ مكانةً لابدَّ أنْ يُشركه فيها.
وسأل عامر بن الطفيل عمرو بن أمية عن أحد القتلىٰ فقال له: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ عَمْرُو بن أُمَيَّةَ: هَذَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ، فَقَالَ عامر بن الطفيل: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَىٰ السَّمَاءِ حَتَّىٰ إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَىٰ السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ ثُمَّ وُضِعَ.
فَأَتَىٰ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَبَرُهُمْ فَنَعَاهُمْ فَقَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا، وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ، فَقَالُوا: رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا»، وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بن أَسْماءَ بن الصَّلْتِ، وَمُنْذِرُ بن عَمْرٍو، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَىٰ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِينَ قُتِلُوا أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنًا قَرَأْه الصحابة حَتَّىٰ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنَا فَقَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ.
فظل النبي صلى الله عليه وسلم شَهْرًا يَدْعُو عَلَىٰ رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وعصية، وَيَقُولُ: «عُصَيَّةُ عَصَتِ الله وَرَسُولَهُ»([3]).
([1]) أخرجه البخاري (4090)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع.
([2]) أخرجه مسلم (677)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
([3]) انظر جميع هذه الأحداث في «صحيح البخاري»، كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع وبئر معونة ، حديث (4088) إلىٰ الحديث رقم (4096) كلها عن أنس رضي الله عنه.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
5- وفي هذه السنة: كانت سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان لكنه لم يتمكن منه.
قيل إن أبا سفيان بن حرب أرسل رجلاً إلىٰ النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم به، وجيء بالرجل فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء من أجله فأسلم الرجل، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أُمية الضمري لقتل أبي سفيان علىٰ إثْر هذا فلم يتمكن من قتله ورجع([1]).
([1]) ذكر تفاصيل هذه السرية كاملة ابن كثير في «البداية والنهاية» 4/80- 82. وفي سندها الواقدي وهو متروك وإن كان بعض العلماء يقبل رواياته في «المغازي».
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
6- وفي ربيع الأول من هذه السنة: غدرت يهود بني النضير، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجلاهم عن المدينة.
كان سبب غزو بني النضير ومحاصرتهم وإجلائهم عن المدينة أنه لما قُتل أصحاب بئر معونة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلىٰ المدينة قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد قتلت رجلين لأدِينَّهما» وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىٰ بني النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكان منازل بني النضير علىٰ أميال من المدينة.
فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين، قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك علىٰ ما أحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل علىٰ مثل حاله هذه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا إلىٰ جنب جدار من بيوتهم، فمن رجل يصعد علىٰ هذا البيت فيلقىٰ عليه صخرة فيُريحنا منه؟ فانتُدب لذلك أحدهم وهو عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقىٰ عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعليٌّ، فأتىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلىٰ المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتىٰ انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ثم سار حتىٰ نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ) [الحشر: 2] وصدق الله إذ يقول: (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) [الحشر: 14] فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهىٰ عن الفساد وتعيبه علىٰ من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) [الحشر: 5]([2]).
وكان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أبي بن سلول، ووديعة، ومالك بن أبي نوفل، وسويد، وداعي، قد بعثوا إلىٰ بني النضير: أن اثبتوا وتمنَّعوا فإنَّا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم.
فانتظر بنو النضير نصر هؤلاء القوم الذي وعدوهم إياه فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُ مْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)[الحشر: 11-13].
فلما تخلىٰ عنهم هؤلاء المنافقون، وعلمت يهود بني النضير أنهم لن يستطيعوا الاستمرار علىٰ هذه الحالة، ولن يستطيعوا مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، علىٰ أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحَلْقة([3]) فوافقهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم علىٰ ذلك، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه([4])، وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر: 2].
فقاموا بهدم بيوتهم حتىٰ لا ينتفع بها المسلمون وأخذوا كل ما فيها حتىٰ أبوابها.
فَخَرَجُوا إِلَىٰ خَيْبَر، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَىٰ الشَّام, وخلفوا ما لم يستطيعوا حمله من الأموال، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم غنموه من غير قتال([5]) وقيل أنه أسلم من بني النضير رجلان هما: ياسين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب([6]).
ونزلت سورة الحشر في بني النضير([7]).
([1]) اللين: هو جميع النخل.
([2]) صحيح: أخرجه الترمذي (1552)، كتاب: السير، باب: في التحريق والتخريب، وصححه الألباني.
([3]) الحَلْقة: أي السلاح.
([4]) النجاف: هي العتبة التي بأعلىٰ الباب.
([5]) وهو ما يُسمىٰ بالفيء، فالفيء كلُّ ما أُخذ من الكفار من غير قتال، مثل غزوة بن النضير هذه، فإن المسلمين لم يقاتلوا فيها، إنما خرج اليهود من غير قتال وحكم الفيء في الإسلام أنه يكون للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، يتصرف فيه حيث يشاء، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُنفقه في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله في الآيات: (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ )
[الحشر: 6، 7].
([6]) ذكر غزوة بني النضير بهذه التفاصيل: ابن إسحاق «سيرة ابن هشام» 3/96 -98، وابن كثير في «التفسير»، انظر: «عمدة التفسير»، اختصار تفسير ابن كثير، أحمد شاكر 3/421، 422.
([7]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4882)، كتاب: التفسير، سورة الحشر، ومسلم (3031)، كتاب: التفسير، باب: في سورة براءة والأنفال والحشر.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
7- وفي جمادىٰ الأولىٰ من هذه السنة: توفي أبو سلمة: عبد الله بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه، وكان رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله:
وفيه – أي: في جمادىٰ الأولىٰ من سنة أربع- تُوفي أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وأمه بَرَّة بنت عبد المطلب، عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتضعا من ثويبة مولاة أبي لهب([1]).
ومات من آثار جُرح جُرحَه بأُحُد رضي الله عنه وأرضاه([2]).
([1]) حديث رضاع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو سلمة من ثويبة، متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
([2]) «البداية والنهاية» 4/101.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
8- وفي جُمادىٰ الأولىٰ من هذه السنة: مات عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنهما، يعني من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين.
قال ابن جرير رحمه الله:
في جمادىٰ الأولىٰ من هذه السنة – سنة أربع- مات عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال ابن كثير رحمه الله:
قلت: من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين، فصلىٰ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في حُفرته والده عثمان بن عفان رضي الله عنه([1]).
([1]) المصدر السابق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
9- وفي شعبان من هذه السنة: وقعتْ غزوة بدر الآخرة.
قال ابن إسحاق رحمه الله:
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة ذات الرقاع([1]).
أقام بها بقية جمادىٰ الأولىٰ، وجمادىٰ الآخرة، ورجبا ثم خرج في شعبان إلىٰ بدر، لميعاد أبي سفيان، حتىٰ نزله، فأقام عليه ثماني ليالٍ ينتظر أبا سفيان وخرج أبو سفيان في أهل مكة، حتىٰ نزل مجنَّة من ناحية الظهران وبعض الناس يقول: قد بلغ عُسْفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جَدْب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس([2]).
([1]) غزوة ذات الرقاع كانت في العام السابع علىٰ الراجح.
([2]) «سيرة ابن هشام» 3/110، 111.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
10- وفي شعبان أيضًا من هذه السنة: وُلد الحسين بن علي رضي الله عنهما، من فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير رحمه الله:
وفي ليال خلوْنَ من شعبان وُلد الحسين بن علي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم([1]).
([1]) نقلًا عن «البداية والنهاية» 4/102.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
11- وفي شوال من هذه السنة: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بنت أبي أُمية.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَاطِبَ بن أبي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بنتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُوا الله أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو الله أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ»([1]).
وعنها رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ عبد تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ الله فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا»، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أبو سَلَمَةَ، قُلْتُ: كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَخْلَفَ الله لِي خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم([2).
([1]) صحيح: أخرجه مسلم (918)، كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة.
([2]) صحيح: أخرجه مسلم التخريج السابق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
12- وفي هذه السنة [الرابعة من الهجرة]: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم كتاب يهود، فتعلمه في خمسة عشر يومًا.
عَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَعَلَّمَ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ، قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَىٰ كِتَابِي، قَالَ: فَمَا مَرَّ نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّىٰ تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَىٰ يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ([1]).
([1]) صحيح: أخرجه الترمذي (2715)، كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في تعلم السُّريانيه، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي».
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
13- وفي هذه السنة: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي واليهودية.
عن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ جَاءَ يَهُودَ، فَقَالَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَىٰ الزَانَىٰ؟ قَالُوا: نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا، وَنُحَمِّلُهُمَ ا، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا، وَيُطَافُ بِهِمَا، قَالَ: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَءُوهَا، حَتَّىٰ إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ، وَضَعَ الْفَتَىٰ الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَىٰ آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَالَ لَهُ عبد الله بن سَلَامٍ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَهُ، فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا، قَالَ عبد الله بن عُمَرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَقِيهَا مِنْ الْحِجَارَةِ بنفْسِهِ([1]).
([1]) متفق عليه: أخرجه البخاري (6819)، كتاب: الحدود، باب: الرجم في البلاط، ومسلم (1699)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
السنة الخامسة للهجرة
وفيها أربعة عشر حدثًا:
1- في ربيع الأول من هذه السنة: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل.
قاد الرسول صلى الله عليه وسلم جيشًا من ألف مقاتل في شهر ربيع الأول من سنة خمس باتجاه دومة الجندل، وقد بلغه وجود تجمع للمشركين بها، ولكن الجمع تفرق عندما علموا بقدوم المسلمين الذين أقاموا أيامًا في المنطقة بثُّوا خلالها السرايا فلم يلقوا مقاومة، ورجعوا إلىٰ المدينة بعد أن وادع في العودة عُيينة بن حصن الفزاري([1]).
([1]) «السيرة النبوية الصحيحة» 2/402، وقد ذكر هذه الغزوة ابن هشام في «سيرته» عن ابن إسحاق 3/114، وغيره من أهل المغازي والسير.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
2- وفي رجب من هذه السنة: قَدم وفد مُزَينة علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عَنِ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فلما أردنا أن ننصرف قال: «يا عمر زوِّد القوم»، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا شحا مِنْ تَمْرٍ، ما أظنه يقع من القوم موقعًا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَزَوِّدْهُمْ»، قال: فَانْطَلَقَ بهم عمر، فأدخلهم منزله، ثم أصعدهم إلىٰ عليه، فلما دخلنا، إِذَا فِيهَا تَمْرٌ مِثْلُ الْبَكْرِ الْأَوْرَقِ، فَقَالَ: خُذُوا فَأَخَذَ الْقَوْمُ حَاجَتَهُمْ، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا فِي آخِرِ الْقَوْمِ، قَالَ: فَالْتَفَتُّ وَمَا أَفْقِدُ مَوْضِعَ تَمْرَةٍ، وَقَدْ احْتَمَلَ مِنْهُ أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ([1]).
قال ابن سعد:
وذلك في رجب من سنة خمس([2]).
([1]) إسناده صحيح: أخرجه أحمد (23636).
([2]) «طبقات ابن سعد» 1/291.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
3- وفي هذه السنة: تُوفيت أم سعد بن عبادة رضي الله عنها.
ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن الواقدي أن أم سعد رضي الله عنها تُوفيتْ سنة خمس، وابنها سعد رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل([1]).
وأخرج الترمذي رحمه الله عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلىٰ علىٰ قبرها بعد وفاتها بشهر([2]).
([1]) «البداية والنهاية» 4/104.
([2]) مرسل: أخرجه الترمذي (1037)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة علىٰ القبر، مرسلاً عن سعيد بن المسيب.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
4- وفي شعبان من السنة الخامسة: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق علىٰ الراجح.
بنو المصطلق بطن من قبيلة خزاعة الأزْديَّة اليمانية، وكانوا يسكنون قديدًا وعُسْفان علىٰ الطريق من المدينة إلىٰ مكة، فقديد تبعد عن مكة 120كيلو متر، وعُسْفان تبعد 80 كيلو مترًا، فيكون بينهما أربعون كيلو، في حين تنتشر ديار خزاعة علىٰ الطريق من المدينة إلىٰ مكة ما بين مَرِّ الظهران التي تبعد عن مكة 30 كيلو وبين الأبواء (شرق مستورة بثلاثة أكيال) التي تبعد عن مكة 240 كيلو، وبذلك يتوسط بنو المصطلق ديار خزاعة، وموقعهم مهم بالنسبة للصراع بين المسلمين وقريش، وقد عُرفت خزاعة بموقفها المسالم للمسلمين، وربما كان لصلات النسب والمصالح مع الأنصار تأثير في تحسين العلاقات رغم المحالفات القديمة بينهم وبين قريش ذات المصالح الكبرىٰ في الطريق التجارية إلىٰ الشام، ورغم سيادة الشرك في ديار خزاعة حيث كانت هضبة المشلل التي كانت بها (مناة) في قديد، ورغم أن ديارها كانت أقرب إلىٰ مكة منها إلىٰ المدينة.
ولعل هذه العوامل أعاقت – في نفس الوقت- انتشار الإسلام في خزاعة عامة وبني المصطلق خاصة الذين يستفيدون إلىٰ جانب الموقع التجاري بوجود مناة الطاغية في ديارهم معنويًا وماديًا حيث يحج إليها العرب.
وأول موقف عدائي لبني المصطلق من الإسلام كان في إسهامهم ضمن الأحابيش في جيش قريش في غزوة أُحد.
وقد تجرأت بنو المصطلق علىٰ المسلمين نتيجة لغزوة أحد، كما تجرأت القبائل الأخرىٰ المحيطة بالمدينة ولعلها كانت تخشىٰ انتقام المسلمين منها لدورها في غزوة أحد، وكذلك كانت ترغب في أنْ يبقىٰ الطريق التجاري مفتوحاً أمام قريش لا يهدده أحد لما في ذلك من مصالح لها محققة فكانت بزعامة الحارث بن أبي ضرار تتهيأ للأمر بجمع الرجال والسلاح وتأليب القبائل المجاورة ضد المسلمين([1]).
قال ابن إسحاق رحمه الله:
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم حتىٰ لقيهم علىٰ ماء لهم يقال له (المريسيع) ولذلك تسمىٰ أيضاً بغزوة المريسيع من ناحية قُديد إلي الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه([2]).
عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بني الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ، وَقُلْنَا: نَعْزِلُ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ»([3]).
وقد أَغَارَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ بني الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ([4]) وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَىٰ عَلَىٰ الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَىٰ ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ رضي الله عنها([5]).
ظهور حقد المنافقين بعد انتصار المؤمنين:
ولما انتصر المسلمون في تلك المعركة وظهروا علىٰ عدوهم اغتاظ المنافقون غيظاً شديداً وظهر حقدهم الذي كان دفيناً، فهذا عبد الله بن أبي بن سلول لم يستطع كتم غيظه.
عَنْ زَيْدِ بن أَرْقَمَ رضي الله عنه أنه سمع عبد الله بن أبي يَقُولُ لأصحابه: لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وقال: وَلَئِنْ رَجَعْنَا إلىٰ المدينة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، قال زيد رضي الله عنه: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فأرسل إلىٰ عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل، فقالوا: كذب زيدٌ علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتىٰ أَنْزَلَ الله تَعَالَىٰ: (إذا جاءك المنافقون) [المنافقون: 1]، ثم دعاهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، قال: فلوَّوا رءوسهم([6]).
وعن جَابِرَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ([7]) رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِين َ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَىٰ الْجَاهِلِيَّةِ ؟»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عبد الله بن أُبَيٍّ، فَقَالَ: فَعَلُوهَا؟ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَىٰ الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ – ذلك- النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»([8]).
فلما سمع ابْنُهُ عبد الله بأن أباه قال هذا، قال: وَاللَّهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّىٰ تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَرَسُولُ الله الْعَزِيزُ، فَفَعَلَ([9]).
([1]) «السيرة النبوية الصحيحة» 2/404، 405.
([2]) «سيرة ابن هشام» 3/169، واختُلف في تاريخ غزوة بني المصطلق، قال الدكتور/أكرم العمري: وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه من المدينة نحو ديار بني المصطلق، وهذا هو الراجح، وهو قول موسىٰ بن عقبة الصحيح حكاه عن الزهري وعن عروة وتابعه أبو معشر السنوىٰ والواقدي وابن سعد، ومن المتأخرين ابن القيم والذهبي، وأما ابن إسحاق فذهب إلي أنها في شعبان سنة ست، ويعارض ذلك ما في صحيحي البخاري ومسلم من اشتراك سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق مع استشهاده في غزوة بني قريظة عقب الخندق مباشرة فلا يمكن أن تكون غزوة بني المصطلق إلا قبل الخندق. «السيرة النبوية الصحيحة» 2/406.
([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4138)، كتاب: المغازي، باب: غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع، ومسلم (1438) كتاب: النكاح، باب: حكم العزل.
([4]) غارُّون: أي غافلون.
([5]) متفق عليه: أخرجه البخاري (2541)، كتاب: العتق، باب: من ملك من العرب رقيقاً فوهب وباع وجامع وفدىٰ وسبىٰ الذرية، ومسلم (1730)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الإغارة علىٰ الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4900)، كتاب: تفسير سورة المنافقين، ومسلم (2772)، كتاب: صفة المنافقين وأحكامهم.
([7]) كسع: أي ضرب دبره وعجيزته بيد أو رجل أو سيف وغيره.
([8]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4905)، كتاب: التفسير تفسير سورة المنافقين، ومسلم (2584)، كتاب: البر والصلة والأدب، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، والترمذي (3315)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المنافقين، وجاء التصريح في روايته أنها غزوة بني المصطلق.
([9]) صحيح: أخرجه الترمذي، انظر التخريج السابق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
5- وفي شعبان أيضًا من السنة الخامسة: أعتق النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث وتزوجها.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بنتُ الْحَارِثِ بن الْمُصْطَلِقِ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ – أَوْ ابْنِ عَمٍّ لَهُ- فَكَاتَبَتْ عَلَىٰ نَفْسِهَا، وَكَانَتْ امْرَأَةً مَلَّاحَةً تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَجَاءَتْ تَسْأَلُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابَتِهَا([1]) فَلَمَّا قَامَتْ عَلَىٰ الْبَابِ فَرَأَيْتُهَا كَرِهْتُ مَكَانَهَا، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَيَرَىٰ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ – جويرية-: يَا رَسُولَ الله جُوَيْرِيَةُ بنتُ الْحَارِثِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَخْفَىٰ عَلَيْكَ، وَإِنِّي وَقَعْتُ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ وَإِنِّي كَاتَبْتُ عَلَىٰ نَفْسِي فَجِئْتُكَ أَسْأَلُكَ فِي كِتَابَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فَهَلْ لَكِ إِلَىٰ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؟»، قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «أُؤَدِّي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ»، قَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَتْ: فَتَسَامَعَ – تَعْنِي النَّاسَ- أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ، فَأَرْسَلُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ، فَأَعْتَقُوهُمْ ، وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم! فَمَا رَأَيْنَا امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَىٰ قَوْمِهَا مِنْهَا أُعْتِقَ فِي سَبَبِهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بني الْمُصْطَلِقِ([2]).
([1]) المكاتبة: أن يشتري العبد نفسه بمال من سيده فيكاتبه علىٰ ذلك.
([2]) حسن: أخرجه أحمد 6/277، وأبو داود (3931)، كتاب: العتق، باب: في بيع المكاتب إذا فُسخت المكاتبة، وحسنه الشيخ الألباني «صحيح سنن أبي داود».
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
6- وفي مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق افترىٰ المنافقون علىٰ أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها حديث الإفك، فأنزل الله براءتها في القرآن.
لم يكتف عبد الله بن أبي بما فعله حين الرجوع من غزوة بني المصطلق من محاولة تأليب المسلمين بعضهم علىٰ بعض، وبما قاله في حق النبي صلى الله عليه وسلم، حتىٰ فعل أمرًا عظيمًا وافترىٰ علىٰ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الطاهرة الشريفة العفيفة الحصان الرَّزان، وطعنها في شرفها، وافترىٰ عليها كذبًا.
ولنترك السيدة عائشة رضي الله عنها تحكىٰ لنا تفاصيل ما حدث، تقول السيدة عائشة: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّىٰ إِذَا فَرَغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّىٰ جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَىٰ رَحْلِي فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ قَالَتْ: وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَىٰ بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ فَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بن الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَىٰ سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِه ِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَأبي وَ وَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ وَهَوَىٰ حَتَّىٰ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَىٰ يَدِهَا فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّىٰ أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ وَهُمْ نُزُولٌ قَالَتْ: فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَ الْإِفْكِ عبد الله بن أبي بن سَلُولَ قَالَ عُرْوَةُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ وَيَسْتَمِعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَقَالَ عُرْوَةُ أَيْضًا لَمْ يُسَمَّ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ أَيْضًا إِلَّا حَسَّانُ بن ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بن أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بنتُ جَحْشٍ فِي نَاسٍ آخَرِينَ لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ عُصْبَةٌ كَمَا قَالَ الله تَعَالَىٰ وَإِنَّ كِبْرَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ عبد الله بن أبي بن سَلُولَ قَالَ عُرْوَةُ كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ وَتَقُولُ إِنَّهُ الَّذِي قَالَ:
فَإِنَّ أبي وَوَالِدهَ وَعِرْضِي |
|
لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ |
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَىٰ مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟» ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَذَلِكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّىٰ خَرَجْتُ حِينَ نَقَهْتُ فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَكَانَ مُتَبَرَّزَنَا وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَىٰ لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، قَالَتْ: وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي الْبَرِّيَّةِ قِبَلَ الْغَائِطِ وَكُنَّا نَتَأَذَّىٰ بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أبي رُهْمِ بن الْمُطَّلِبِ بن عبد مَنَافٍ وَأُمُّهَا بنتُ صَخْرِ بن عَامِرٍ خَالَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بن أُثَاثَةَ بن عَبَّادِ بن الْمُطَّلِبِ فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ وَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قَالَتْ: وَقُلْتُ: مَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، قَالَتْ: فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَىٰ مَرَضِي فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَىٰ بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟» فَقُلْتُ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ مَاذَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بنيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ الله أَوَ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّىٰ أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، قَالَتْ: وَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بن أبي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بن زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْأَلُهُمَا وَيَسْتَشِيرُهُ مَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَمْ يُضَيِّقْ الله عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟» قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ غَيْرَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عبد الله بن أبي وَهُوَ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَىٰ أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَمَا يَدْخُلُ عَلَىٰ أَهْلِي إِلَّا مَعِي»، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ أَخُو بني عبد الْأَشْهَلِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ الله أَعْذِرُكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْخَزْرَجِ وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ بنتَ عَمِّهِ مِنْ فَخِذِهِ وَهُوَ سَعْدُ بن عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، قَالَتْ: وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَىٰ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ فَقَامَ أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بن عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ، قَالَتْ: فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّىٰ هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّىٰ سَكَتُوا وَسَكَتَ، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ، قَالَتْ: وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بنوْمٍ حَتَّىٰ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَا أَبَوَايَ جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَىٰ ذَلِكَ دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَىٰ إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ الله وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي الله وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعبد إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ»، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَىٰ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّىٰ مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِّي فِيمَا قَالَ، فَقَالَ أَبِي: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ قَالَتْ أُمِّي: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ كَثِيرًا إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّىٰ اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي فَوَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) [يوسف: 18] ثُمَّ تَحَوَّلْتُ وَاضْطَجَعْتُ عَلَىٰ فِرَاشِي وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ وَأَنَّ الله مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الله مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَىٰ لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ الله فِيَّ بِأَمْرٍ، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَىٰ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي الله بِهَا فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّىٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ حَتَّىٰ إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِنْ الْعَرَقِ مِثْلُ الْجُمَانِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَمَّا الله فَقَدْ بَرَّأَكِ»، قَالَتْ: فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ فَإِنِّي لَا أَحْمَدُ إِلَّا الله تعالى، قَالَتْ: وَأَنْزَلَ الله تَعَالَىٰ: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) [النور: 11] الْعَشْرَ الْآيَاتِ ثُمَّ أَنْزَلَ الله هَذَا فِي بَرَاءَتِي، قَالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَىٰ مِسْطَحِ بن أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَىٰ مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ فَأَنْزَلَ الله: (ولا يأتل أولوا الفضل) إلىٰ قوله: (غفور رحيم)[النور: 22]، قَالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: بَلَىٰ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ الله لِي فَرَجَعَ إِلَىٰ مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَأَلَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَصَمَهَا الله بِالْوَرَعِ، قَالَتْ: وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ([1]).
([1]) صحيح: أخرجه البخاري (4142)، كتاب: المغازي، باب: حديث الإفك.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
- في تزوج النبي (ص) بجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق مبدأ : أنزلوا القوم منازلهم ، إذ تزوج (ص) بها كان إكراما لها ، ولأبيها لشرفهما عند قومهما .
- بيان بركة جويرية ططط إذ بزواجها انعتق أكثر مائة بيت من قومها .
- بيان أن النبي (ص) ما كان يعلم الغيب حتى يعلمه الله تعالى .
- بيان ما تعرضت له أم المؤمنين من البلاء وصبرها عليه حتى كشف الله غمتها وفرج كربها ، وهكذا يتحقق مصداق قول رسول الله (ص) [1]:
" قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " .
------------------------------------------
[1] المصدر : هذا الحبيب يا محب للشيخ أبو بكر الجزائري رحمه الله .
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
7- وفي شوال من السنة الخامسة: وقعت غزوة الأحزاب، فردهم الله خاسئين.
لما علمت قريش أنها لن تستطيع محاربة المسلمين وحدها، وكذلك أيقنت يهود بذلك، وأن قوتهم لا تُحاكي قوة المسلمين، اتفقوا علىٰ جمع الجموع لمحاربة المسلمين وغزوهم في عقر دارهم في محاولة للقضاء علىٰ الإسلام والمسلمين.
وقيل أن الذي بدأ بذلك وجمع الجموع هم اليهود حيث خرج وفد منهم إلىٰ مكة فيهم سلام بن أبي الحُقيق النضري وحيي بن أخطب النضري، فدعوا قريشًا إلىٰ حرب المسلمين ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، ثم خرجوا من مكة إلىٰ نجد حيث حالفوا قبيلة غطفان الكبيرة علىٰ حرب المسلمين، فكان تحالف الأحزاب بجهود من يهود بني النضير([1]).
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن الفزاري، وبني مُرَّة وقائدها الحارث بن عوف بن أبي حارثة المرِّيُّ، وخرجت أشجع وقائدها مُسْعر بن رُخيلة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق علىٰ المدينة، فعمل فيه رسول الله ترغيبًا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه ودأبوا([2]).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل وهو يقول، تسلية لهم ليُهون عليهم ما هم فيه من شدة وبلاء وجوع: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة ْ».(3)
ثُمَّ يرفع صَوْتَهُ ويقول: أبينا أبينا ويمد صوته بِآخِرِهَا([4]).
وأثناء عمل المسلمين في الحفر عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْآخَرُ، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ، فَرَآهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ، فقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ الله رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ مَا تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلَّا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ؟! قَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا سَلْمَانُ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟»، فَقَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَىٰ، رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَىٰ وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ، حَتَّىٰ رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ»، قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا، وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، «ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، حَتَّىٰ رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا، وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، «ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ، فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ، وَمَا حَوْلَهَا مِنْ الْقُرَىٰ، حَتَّىٰ رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ»، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: «دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ»([5]).
ويحكي لنا جابر رضي الله عنه معجزة عجيبة للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف.
يقول جابر رضي الله عنه: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا([6])، فَانْكَفَأْتُ إِلَىٰ امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ([7]) فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَىٰ فَرَاغِي([8])، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا([9])، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَبِمَنْ مَعَهُ فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا سُورًا([10]) فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ([11])»، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّىٰ أَجِيءَ»، فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّىٰ جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ([12])،قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلَىٰ بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلَا تُنْزِلُوهَا، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّىٰ تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا([13]) وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ([14]).
لقد جاءت هذه المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في وقتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة – رضوان الله عليهم- كانوا في أشد الحاجة إلىٰ الطعام حتىٰ يستطيعوا مواصلة العمل في الحفر ثم مواجهة المشركين بعد ذلك، حيث كانوا قد أوشكوا علىٰ الهلاك من شدة الجوع وعدم وجود الطعام.
فقد لبثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يذوقون ذواقًا، حتىٰ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط علىٰ بطنه حجرًا من شدة الجوع([15]).
وحتىٰ إنهم من شدة الجوع وعدم وجود شيئًا يأكلوه كانوا يأكلون الطعام المنتن الذي تغيرت رائحته ولونه.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كانوا يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ([16]) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ([17]).
وظل النبي صلى الله عليه وسلم يعمل ويحمل التراب علىٰ كتفه الشريف حتىٰ غطىٰ التراب بطنه صلى الله عليه وسلم.
يقول الْبَرَاءُ رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَخَنْدَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّىٰ وَارَىٰ([18]) عَنِّي الْغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ([19]).
وظل الصحابة رضوان الله عليهم يعملون معه صلى الله عليه وسلم وينقلون التراب علىٰ متونهم([20]) وهم يرتجزون([21]) بما تقدم من أشعار حتىٰ فرغوا من حفر الخندق قبل وصول المشركين([22])، وكان ذلك في غداة باردة([23]).
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والأطفال فوضعوا في الحصون.
عَنْ عبد الله بن الزُّبَيْرِ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَعَ النِّسْوَةِ فِي أُطُمِ([24]) حَسَّانَ فَكَانَ يُطَأْطِئُ لِي مَرَّةً فَأَنْظُرُ، وَأُطَأْطِئُ لَهُ مَرَّةً فَيَنْظُرُ([25]).
ثم ظهرت فلول المشركين، الذين تحزَّبوا لمحاربة الله ورسوله، والصدِّ عن سبيل الله([26]).
فالتفوا حول المدينة وحاصروها من كل مكان فلما رأت يهود بني قريظة ذلك، تيقنوا أن المسلمين – بأي حالٍ- لن يفلتوا من هذه القوة الهائلة وأنهم سيُقضىٰ عليهم لا محالة، ففكَّروا في نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومساعدة الأحزاب للقضاء عليهم.
وفعلاً نقض يهود بني قريظة العهد، وأصبحوا علىٰ استعداد لمعاونة الأحزاب علىٰ المسلمين.
ووصل الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم وشاع بين صفوف المسلمين، فاشتد الخطب عليهم.
وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة علىٰ وادي مهزور، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف([27]).
وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ) أي: الأحزاب، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي: بنو قريظة، (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ) من شدة الخوف والفزع، (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) [الأحزاب: 10] الظنون السيئة، والخوف من المشركين، وأن الله لن ينصر دينه، (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب: 11] بالخوف والجوع والقلق الذي عاشوه، فكان هذا ابتلاء واختبار للمسلمين، ليتبين الخبيث من الطيب. وحدث ما أراده الله تعالى.
فأما المؤمنون فسُرعان ما تنبهوا وظهر إيمانهم وثقتهم بالله تعالى، وقالوا: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ )، من الابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر، (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً ) [الأحزاب: 22].
وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فقالوا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ) [الأحزاب: 12].
وقالوا: (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا )، واستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:(إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ )، ففضحهم الله تعالى، وقال: (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً) [الأحزاب: 13].
([1]) أخرج ذلك ابن هشام في سيرته 3/114، 115، عن ابن إسحاق إلىٰ عروة مرسلاً.
([2]) «سيرة ابن هشام» 3/115، بتصرف يسير.
([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4099)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1805)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق، واللفظ للبخاري.
([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4104)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1803)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
([5]) حسن: أخرجه أحمد 4/303، والنسائي (3176)، كتاب: الجهاد، باب: غزوة الترك والحبشة، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (772).
ومعنىٰ ندر: أي سقط.
([6]) خمصًا: أي جوعًا.
([7]) أي سمينة.
([8]) أي ففرغت من طحن الشعير حين فرغت من ذبح البهيمة.
([9]) البرمة: القدر التي تُطبخ فيه.
([10]) السُور: كلمة حبشية معناها الضيف.
([11]) أي: هلموا مسرعين.
([12]) أي: تعاتبه علىٰ ما فعل، وأن الطعام لن يكفي هذا العدد.
([13]) أي: ذهبوا.
([14]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4102)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2038)، كتاب: الأشربة، باب: جواز استتباعه إلىٰ دار من يثق برضاه.
([15]) صحيح: أخرجه البخاري (4101)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.
([16]) الإهالة: الدهن أو الزيت أو السمن ونحو ذلك، وسنخة: أي تغير طعمها ولونها من قدمها.
([17]) صحيح: أخرجه البخاري (4101)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.
([18]) وارىٰ: أي حجب من كثرته.
([19]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4106)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1803)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
([20]) أي: علىٰ أكتافهم.
([21]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4100)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1805)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
([22]) وردت أخبار في بعض كتب السير تُفيد بأن سلمان الفارسي هو الذي أشار علىٰ النبي بحفر الخندق، وكلها لا تثبت، إذ لا إسناد لها.
كما وردت أخبار تحدد حجم الخندق الذي حفره المسلمون طولاً وعرضًا وعمقًا، وتحدد مكانه تحديدًا دقيقًا، وجميعها لا يصح.
([23]) متفق عليه: من حديث أنس، انظر التخريج السابق، واللفظة للبخاري (4099).
([24]) الأُطُم: الحصن، وجمعها آطام.
([25]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3720)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام، مسلم (2416)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل طلحة والزبير.
وكان عُمْر عبد الله بن الزبير حينها يقرب من خمس سنوات حيث ولد في العام الأول من الهجرة – كما تقدم.
([26]) ذكر أهل السير أن عددهم بلغ عشرة آلاف مقاتل.
([27]) «السيرة النبوية الصحيحة» 2/427.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام رضي الله عنه إلىٰ بني قريظة ليتأكد من صحة هذا الخبر. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟»، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟»، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيُّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ»([1]). وعَنْ عبد الله بن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما، قَالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ جُعِلْتُ أَنَا وَعُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ فِي النِّسَاءِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِالزُّبَيْرِ عَلَىٰ فَرَسِهِ يَخْتَلِفُ إِلَىٰ بني قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا رَجَعْتُ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ، قَالَ: أَوَ هَلْ رَأَيْتَنِي يَا بنيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ يَأْتِ بني قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ؟»، فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ الله أَبَوَيْهِ، فَقَالَ: «فِدَاكَأبي وَأُمِّي»([2]). فذهب الزبير فوجدهم قد نقضوا العهد. أما المشركون فقد فُجئوا بالخندق أمامهم، فوقفوا حيارىٰ، لا يستطيعون اقتحامه. ولكنهم حاولوا اقتحامه، فكانوا كلما حاولوا ذلك أمطرهم المسلمون بوابل من السهام فردوهم. عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ وَرَجُلٌ يَتَتَرَّسُ جَعَلَ يَقُولُ بِالتُّرْسِ هَكَذَا، فَوَضَعَهُ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ يَقُولُ([3]): هَكَذَا يُسَفِّلُهُ بَعْدُ([4])، قَالَ: فَأَهْوَيْتُ إِلَىٰ كِنَانَتِي فَأَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا مُدَمًّا([5]) فَوَضَعْتُهُ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، فَلَمَّا قَالَ هَكَذَا يُسَفِّلُ التُّرْسَ، رَمَيْتُ، فَمَا نَسِيتُ وَقْعَ الْقِدْحِ([6]) عَلَىٰ كَذَا وَكَذَا مِنْ التُّرْسِ، قَالَ: وَسَقَطَ، فَقَالَ: بِرِجْلِهِ، فَضَحِكَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، لِفِعْلِ الرَّجُلِ([7]). ولم تنقطع هجمات المشركين علىٰ الخندق في محاولات شرسة لاقتحامه، حتىٰ إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر في أحد الأيام حتىٰ غربت الشمس، من شدة انشغالهم في صدِّ المشركين عن الخندق. عَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما، أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّىٰ كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا»، فَقُمْنَا إِلَىٰ بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّىٰ الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّىٰ بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ([8]). فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء علىٰ المشركين. عَنْ عَلِيّ بن أبي طالب رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَلَأَ الله بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ حَتَّىٰ غَابَتْ الشَّمْسُ»([9]). ثم استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه علىٰ المشركين والأحزاب. عن عبد الله بن أبي أَوْفَىٰ رضي الله عنهما قال: دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَىٰ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللهمَّ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ، اللهمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ»([10]). فاستجاب الله تعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم، فأرسل عليهم ريحًا شديدًا فخلعت خيامهم، وأكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وأرسل الملائكة فزلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف. وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)
[الأحزاب: 9]. فلم تتحمل الأحزاب جنود الله تعالى، ولم يستطيعوا مواجهتها، فأسرعوا بالتجهز للرحيل. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ([11])، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: «قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ»، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»([12])، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ([13]) حَتَّىٰ أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ([14])، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ ،قُرِرْتُ([15])، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّىٰ أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: «قُمْ يَا نَوْمَانُ!»([16]) وفي رواية: قال حذيفة: يا رسول الله تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا عصبة يوقد النار، وقد صبَّ الله عليهم من البرد مثل الذي صبَّ علينا، ولكنا نرجوا من الله ما لا يرجون([17]). وبذلك تفرقت جموع الأحزاب وهزمهم الله تعالى وحده: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)[الأحزاب: 25]. وانفك الحصار الذي دام أربعًا وعشرين ليلة([18])، بفضلٍ من الله تعالى. ولذا كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ»([19]). وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لما أَجْلَىٰ الله الْأَحْزَابَ: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ»([20]).
([1]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4113)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2415)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير.
([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3720)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام، مسلم (2416)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما.
([3]) يقول: أي يشير.
([4]) يسفله: أي ينزل به لأسفل ليحمي أسفله، فهو يرفعه تارة فوق أنفه ليحمي أعلاه، وتارة لأسفل ليحمي أسفله.
([5]) السهم المدمىٰ: الذي أصابه الدم فحصل في لونه سواد وحمرة مما رمىٰ به العدو، ويطلق علىٰ ما تكرر به الرمي، والرماة يتبركون به. (نهاية).
([6]) القدح – بكسر القاف وسكون الدال-: عود السهم.
([7]) صحيح: أخرجه أحمد (1620)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
([8]) متفق عليه: أخرجه البخاري (596)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من صلىٰ بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، مسلم (631)، كتاب: المساجد مواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطىٰ هي صلاة العصر. ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت بعد.
([9]) متفق عليه: أخرجه البخاري (2931)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء علىٰ المشركين بالهزيمة والزلزلة، مسلم (627)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر.
([10]) متفق عليه: أخرجه البخاري (2933)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء علىٰ المشركين بالهزيمة والزلزلة، مسلم (1742)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.
([11]) القُرُّ: البرد.
([12]) لا تذعرهم عليَّ: أي لا تُهيجهم عليَّ.
([13]) أي: في جوٍّ دافئ.
([14]) أي: يدفئه ويدنيه منها.
([15]) أي: شعرتُ بالبرد، أي أنه لما ذهب لقضاء مهمته التي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها لم يشعر بالبرد بل شعر بدفءٍ تام، ولم يشعر بالريح الشديدة كبقية القوم، فلما قضىٰ مهمته، عاد إليه البرد الذي يجده الناس. قال النووي رحمه الله: وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ. «شرح مسلم» 6/327.
([16]) صحيح: أخرجه مسلم (1788)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب.
([17]) البزار «كشف الأستار» 2/335، 336.
([18]) ذكر ذلك ابن سعد في «الطبقات» 2/73 بإسناد رجاله ثقات إلىٰ سعيد بن المسيب مرسلاً، ومراسيله قوية.
([19]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4114)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2724)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
([20]) صحيح: أخرجه البخاري (4110)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
9- وفي ذي القعدة من هذه السنة: وقعت غزوة بني قريظة، ونالوا جزاء خيانتهم العظمىٰ.
لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْخَنْدَقِ ووَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنْ الْغُبَارِ فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَيْنَ»، فَأَشَارَ إِلَىٰ بني قُرَيْظَةَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم([1]). وسارع في الخروج، وحث الصحابة علىٰ سرعة اللحاق به، حتىٰ قَالَ لهم صلى الله عليه وسلم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بني قُرَيْظَةَ»، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّىٰ نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ([2]).
خروج جبريل عليه السلام في كوكبة من الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلىٰ بني قريظة:
عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ الْغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بني غَنْمٍ مَوْكِبَ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ حِينَ سَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ بني قُرَيْظَةَ([3]). وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لِحَسَّانَ بن ثابت: «اهْجُ المشركين فإن َجِبْرِيلَ مَعَكَ» ([4]). ووصل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلىٰ بني قريظة، وسمع بنو قريظة بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، خمسًا وعشرين ليلة حتىٰ جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حُييُّ بن أخطب النضري دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان([5]). فلما أيقنوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم أعلنوا استسلامهم فحكّم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه ورضي أهلُ قريظة بحكمه. عن أبي سعيد الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَىٰ حُكْمِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ سَعْدٍ، فَأَتَىٰ عَلَىٰ حِمَار، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الْمَسْجِدِ، قَالَ لِلْأَنْصَارِ: «قُومُوا إِلَىٰ سَيِّدِكُمْ – أَوْ خَيْرِكُمْ-» فقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَىٰ حُكْمِكَ»، فقَالَ: تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ ، وَتَسْبِي ذُرِّاريهُمْ، قَالَ: «قَضَيْتَ بِحُكْمِ الله»، وَرُبَّمَا قَالَ: «بِحُكْمِ الْمَلِكِ»([6]). وفي رواية قَالَ سعد: وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ([7]).
النبي صلى الله عليه وسلم يميز بين الصغار والبالغين استعدادًا لتنفيذ حكم سعد رضي الله عنه:
عن عطية الْقُرَظِيِّ قَالَ: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بني قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ. وفي لفظ: فَكَشَفُوا عَانَتِي فَوَجَدُوهَا لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي مِنْ السَّبْيِ([8]). قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىٰ سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يُخرج بهم إليه أرسالاً([9]) وفيهم عدو الله حُييُّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً: يا كعب، ما تراه يُصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتىٰ فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم([10]). وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم علىٰ حرب المسلمين، (مِنْ صَياصِيهِمْ) أي: من حصونهم، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً )
[الأحزاب: 26، 27]. المرأة الوحيدة التي قتلت من بني قريظة: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ تُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ – تَعْنِي بني قُرَيْظَةَ- إِلَّا امْرَأَةٌ، إِنَّهَا لَعِنْدِي تُحَدِّثُ: تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ رِجَالَهُمْ بِالسُّيُوفِ، إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا: أَيْنَ فُلَانَةُ؟ قَالَتْ: أَنَا، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ، قَالَتْ: فَانْطَلَقَ بِهَا، فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا، فَمَا أَنْسَىٰ عَجَبًا مِنْهَا: أَنَّهَا تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّهَا تُقْتَلُ([11]).
قال ابن هشام: وهي التي طرحت الرَّحىٰ علىٰ خلاد بن سويد فقتلته([12]). فكان هذا آخر عهد لليهود بالمدينة، وآخرهم بني قريظة الذين نالوا جزاء خيانتهم العظمىٰ، ونقضهم العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله تعالىٰ إذ يقول: (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 100]. ثم أسلم بعض بني قريظة وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فبقوا بالمدينة. عَنْ عبد الله بن عُمَرَ { قَالَ: حَارَبَتْ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ، فَأَجْلَىٰ بني النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّىٰ حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ، فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَهُمْ وَأَسْلَمُوا، وَأَجْلَىٰ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ بني قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عبد الله بن سَلَامٍ وَيَهُودَ بني حَارِثَةَ وَكُلَّ يَهُودِ الْمَدِينَةِ([13]).
([1]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4122)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلىٰ بني قريظة ومحاصرته إياهم، مسلم (1769)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد.
([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4119)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلىٰ بني قريظة، مسلم (1770)، كتاب: الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين.
([3]) صحيح: أخرجه البخاري (4118)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم ومخرجه إلىٰ بني قريظة.
([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4124)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، مسلم (2486)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت .
([5]) «سيرة ابن هشام» 3/127.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4122)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، مسلم (1768)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتل من نقض العهد.
([7]) هذا لفظ البخاري.
([8]) صحيح: أخرجه أبو داود (4404، 4405)، كتاب: الحدود، باب: في الغلام يصيب الحد، وصححه الشيخ الألباني «صحيح سنن أبي داود».
([9]) أرسالاً: أي طائفة بعد طائفة.
([10]) «سيرة ابن هشام» 3/130.
([11]) صحيح: أخرجه أحمد 6/277، أبو داود (2671)، كتاب: الجهاد، باب: في قتل النساء، وصححه الألباني «صحيح سنن أبي داود».
([12]) «سيرة ابن هشام» 3/131.
([13]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4028)، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير، ومسلم (1766)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إجلاء اليهود من الحجاز.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
8- وفي ذي الحجة من هذه السنة: توفي سعد بن معاذ رضي الله عنه.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: حِبَّانُ بن الْعَرِقَةِ، وَهُوَ حِبَّانُ بن قَيْسٍ، مِنْ بني مَعِيصِ بن عَامِرِ بن لُؤَيٍّ، رَمَاهُ فِي الْأَكْحَلِ([1]) فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَقَالَ سعد: اللهمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجُوهُ، اللهمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي لَهُ حَتَّىٰ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتَتِي فِيهَا، فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ([2]) فَلَمْ يَرُعْهُمْ – وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بني غِفَارٍ- إِلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَما زال يسيل حتىٰ مَاتَ([3]).
فلَمَّا حُمِلَتْ جَنَازَةُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ قَالَ الْمُنَافِقُونَ : مَا أَخَفَّ جَنَازَتَهُ، وَذَلِكَ لِحُكْمِهِ فِي بني قُرَيْظَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عبيه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ»([4]).
وقال النَّبِيُّ صلى الله عبيه وسلم: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرحمن لِمَوْتِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ»([5]).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عبيه وسلم حُلَّةُ حَرِيرٍ فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ النبي صلى الله عبيه وسلم: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ أَلْيَنُ»([6]).
([1]) الأكحل: عرقٌ في وسط الذراع، إذا قُطع لم يرقأ الدم.
([2]) اللَّبة: موضع القلادة من الصدر، وكان موضع الجرح ورم حتىٰ اتصل الورم إلىٰ صدره فانفجر من صدره.
([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4122)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عبيه وسلم من الأحزاب، مسلم (1769)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتل من نقض العهد، وجواز إنزال أهل الحصن علىٰ حُكم حاكم عدل أهلٍ للحكم.
([4]) صحيح: أخرجه الترمذي (3849)، كتاب: المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ، وقال: حسن صحيح غريب، عبد الرزاق (20414)، الحاكم 3/207، وصححه الألباني «المشكاة» (6228).
([5]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3803)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب سعد بن معاذ ، مسلم (2466)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ .
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3802)، باب: مناقب سعد بن معاذ ، مسلم (2468)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
10- وفي ذي الحجة من هذه السنة: قتلت الخزرج أبا رافع سلام بن أبي الحُقيق اليهودي بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان مما صنع الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيَّين من الأنصار، الأوس والخزرج كانا يتصاولان([1]) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غناء([2]) إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام قال: فلا ينتهون حتىٰ يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك([3]).
ولما انقضىٰ شأن الخندق، وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحُقيق – وهو أبو رافع- فيمن حزب الأحزاب علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوس قبل أُحُد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحُقيق، وهو بخيبر فأذن لهم([4]).
عن الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ أبي رَافِعٍ، عبد الله بن عَتِيكٍ وَعبد الله بن عُتْبَةَ فِي نَاسٍ مَعَهُمْ فَانْطَلَقُوا حَتَّىٰ دَنَوْا مِنْ الْحِصْنِ، فَقَالَ لَهُمْ عبد الله بن عَتِيكٍ: امْكُثُوا أَنْتُمْ حَتَّىٰ أَنْطَلِقَ أَنَا فَأَنْظُرَ، قَالَ: فَتَلَطَّفْتُ أَنْ أَدْخُلَ الْحِصْنَ، فَفَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ – وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم([5])- فَخَرَجُوا بِقَبَسٍ([6]) يَطْلُبُونَهُ، قَالَ: فَخَشِيتُ أَنْ أُعْرَفَ، قَالَ: فَغَطَّيْتُ رَأْسِي وَجَلَسْتُ كَأَنِّي أَقْضِي حَاجَةً، ثُمَّ نَادَىٰ صَاحِبُ الْبَابِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فَلْيَدْخُلْ قَبْلَ أَنْ أُغْلِقَهُ، فَدَخَلْتُ ثُمَّ اخْتَبَأْتُ فِي مَرْبِطِ حِمَارٍ عِنْدَ بَابِ الْحِصْنِ، فَتَعَشَّوْا عِنْدَ أبي رَافِعٍ وَتَحَدَّثُوا حَتَّىٰ ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَىٰ بُيُوتِهِمْ، فَلَمَّا هَدَأَتْ الْأَصْوَاتُ، وَلَا أَسْمَعُ حَرَكَةً خَرَجْتُ، قَالَ: وَرَأَيْتُ صَاحِبَ الْبَابِ حَيْثُ وَضَعَ مِفْتَاحَ الْحِصْنِ فِي كَوَّةٍ، فَأَخَذْتُهُ فَفَتَحْتُ بِهِ بَابَ الْحِصْنِ، قَالَ: قُلْتُ: إِنْ نَذِرَ بِي الْقَوْمُ انْطَلَقْتُ عَلَىٰ مَهَلٍ ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَىٰ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ فَغَلَّقْتُهَا عَلَيْهِمْ مِنْ ظَاهِرٍ ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَىٰ أبي رَافِعٍ فِي سُلَّمٍ فَإِذَا الْبَيْتُ مُظْلِمٌ قَدْ طَفِئَ سِرَاجُهُ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ الرَّجُلُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: فَعَمَدْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ وَصَاحَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ كَأَنِّي أُغِيثُهُ، فَقُلْتُ: مَالَكَ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي، فَقَالَ: أَلَا أُعْجِبُكَ لِأُمِّكَ الْوَيْلُ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَعَمَدْتُ لَهُ أَيْضًا فَأَضْرِبُهُ أُخْرَىٰ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا فَصَاحَ وَقَامَ أَهْلُهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي كَهَيْئَةِ الْمُغِيثِ فَإِذَا هُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَىٰ ظَهْرِهِ فَأَضَعُ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ ثُمَّ أَنْكَفِئُ عَلَيْهِ – حتىٰ أخذ في ظهره- حَتَّىٰ سَمِعْتُ صَوْتَ الْعَظْمِ، ثُمَّ خَرَجْتُ دَهِشًا حَتَّىٰ أَتَيْتُ السُّلَّمَ أُرِيدُ أَنْ أَنْزِلَ فَأَسْقُطُ مِنْهُ فَانْخَلَعَتْ رِجْلِي فَعَصَبْتُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ أصحابي أَحْجُلُ، فَقُلْتُ: انْطَلِقُوا فَبَشِّرُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ صَعِدَ النَّاعِيَةُ، فَقَالَ: أَنْعَىٰ أَبَا رَافِعٍ، قَالَ: فَقُمْتُ أَمْشِي مَا بِي قَلَبَةٌ فَأَدْرَكْتُ أصحابي قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَشَّرْتُهُ، فَقَالَ: «ابْسُطْ رِجْلَكَ»، فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ([7]).
([1]) أي: يتنافسان.
([2]) غَناء: أي دفع مكروه، وجلب منفعة.
([3]) «سيرة ابن هشام» 3/158.
([4]) «سيرة ابن هشام» 3/157.
([5]) أي: بمواشيهم.
([6]) أي: شعلة من نار.
([7]) صحيح: أخرجه البخاري (4040)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحُقيق، ويقال: سلام بن أبي الحقيق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
11- وفي هذه السنة: تسرَّىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم برَيحانة، وهي من سبي بني قريظة بعدما أسلمت وظلت معه حتىٰ ماتت في السنة العاشرة للهجرة.
قال ابن إسحاق رحمه الله:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفىٰ لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن جُنافة، إحدىٰ نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتىٰ تُوفي عنها وهي ملكه([1]).
([1]) «سيرة ابن هشام» 3/133.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
12- وفي هذه السنة: قدم وفدُ أشجع علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن سعد رحمه الله:
وقدمتْ أشجع علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق، وهم مائة – علىٰ- رأسهم مسعود بن رخيلة، فنزلوا شعب سَلْع، فخرج إليهم رسول الله ، وأمرهم بأحمال التمر، فقالوا: يا محمد لا نعلم أحدًا من قومنا أقرب دارًا منك منَّا، ولا أقلَّ عددًا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك، فجئنا نوادعك، فوادعهم، ويقال: بل قدمت أشجع بعدما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني قريظة وهم سبعمائة، فوادعهم ثم أسلموا بعد ذلك([1]).
([1]) «الطبقات» 1/306.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
13- وفي هذه السنة: سابق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل.
عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ([1]) مِنْ الْحَفْيَاءِ إلىٰ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ([2])، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَىٰ مَسْجِدِ بني زُرَيْقٍ([3]) وَكان ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا([4]).
وذكر ابن سيد الناس ذلك ضمن أحداث السنة الخامسة، فقال: وفيها سابق – النبي صلى الله عليه وسلم- بين الخيل([5]).
([1]) يقال: أُضمرت الخيل، وهو أن يُقلل علفها مدة، وتدخل بيتًا، وتُجلل فيه لتعرق ويجف عرقها، فيخف لحمها وتقوىٰ علىٰ الجري.
([2]) بين ثنية الوداع والحفياء خمسة أميال أو ستة.
([3]) وبين ثنية الوداع ومسجد بني زريق ميلٌ واحد.
([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (2868)، كتاب: الجهاد والسير، باب: السبق بين الخيل، ومسلم (1870)، كتاب: الإمارة، باب: المسابقة بين الخيل وتضميرها.
([5]) «عيون الأثر» 2/373.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
14- وفي هذه السنة: زُلزلت المدينة.
قال ابن سيد الناس رحمه الله:
وفيها – أي: في السنة الخامسة- زلزلت المدينة([1]).
([1]) المصدر السابق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
السنة السادسة من الهجرة
وفيها ثمانية وعشرون حدثًا:
1- في المحرَّم من هذه السنة: كانت سرية محمد بن مَسْلَمة رضي الله عنه إلىٰ القُرْطاء.
قال ابن سعد:
ثم سرية محمد بن مسلمة إلىٰ القرطاء، خرج لعشر ليال خلون من المحرم، علىٰ رأس تسعة وخميس شهرًا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في ثلاثين راكبًا إلىٰ القرطاء، وهم بطن من بني أبي بكر بن كلاب، وكانوا ينزلون البكرات بناحية ضريَّة([1]) وبين المدينة وضريَّة سبع ليال، وأمره أن يشنَّ عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، وأغار عليهم، فقتل نفرًا منهم، وهرب سائرهم، واستاق نعمًا وشاءً ولم يعرض للظعن([2])، وانحدروا إلىٰ المدينة فخمَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به([3])، وفضَّ([4]) علىٰ أصحابه ما بقي، فعدلوا الجزور بعشرة من الغنم، وكانت النَّعم مائة وخمسين بعيرًا، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وغاب تسع عشرة ليلة وقدم لليلة بقيت من المحرم([5]).
وذكر أبو عبد الله الحاكم أن ثمامة بن أُثال أُخِذ فيها([6]).
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بني حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بن أُثَالٍ، سيد أهل اليمامة فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَاذا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟»، فقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَىٰ شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَه رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ كَانَ بعد الْغَدُ، فقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟»، قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَىٰ شَاكِرٍ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟»، فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَىٰ شَاكِرٍ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تعط مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ»، فَانْطَلَقَ إِلَىٰ نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورَسُولُه، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَىٰ الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كلها إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كله إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كلها إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَىٰ؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أصَبَوْتَ؟ فقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّىٰ يَأْذَنَ فِيهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم([7]).
([1]) اسم بئر.
([2]) الظُعُن: النساء، أي: لم يتعرض للنساء.
([3]) خمَّس: أي أخذ الخمس.
([4]) فضَّ: أي فرَّق.
([5]) «الطبقات» 2/78.
([6]) «عيون الأثر» 2/118.
([7]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4372)، كتاب: المغازي، باب: وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، مسلم (1764)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
2- وفي ربيع الأول من هذه السنة: كانت سرية عُكاشة بن محصن الأسديِّ رضي الله عنه إلىٰ الغمر، فغنموا ورجعوا سالمين.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول – أو الآخر- سنة ستٍّ من قدومه المدينة عُكَّاشة بن مِحْصَن الأسديَّ في أربعين رجلاً إلىٰ الغمر، وفيهم ثابت بن أقرم، وسباع بن وهب، فأجدَّ السير، ونذر القوم بهم، فهربوا، فنزل علىٰ مياههم، وبعث الطلائع فأصابوا من دلهم علىٰ بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فساقوها إلىٰ المدينة([1]).
([1]) ذكر هذه السرية: ابن سعد في «الطبقات» 2/74، ابن كثير في «البداية والنهاية» 4/200، وابن القيم في «زاد المعاد» 3/250، والذهبي في «المغازي» (352).
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
3- وفي ربيع الآخر من هذه السنة: كانت سرية محمد مسلمة رضي الله عنه إلىٰ ذي القَصَّة فَقُتلوا جميعًا إلا محمد بن مسلمة حمل جريحًا.
خرج محمد بن مَسْلَمة رضي الله عنه في هذه السرية معه عشرة نفر، فكمن القوم لهم حتىٰ ناموا، فما شعروا إلا بالقوم، فقُتل أصحاب محمد بن مسلمة وأفلت هو جريحًا([1]).
([1]) ذكر هذه السرية: ابن سعد في «الطبقات» 2/85، وابن كثير في «البداية والنهاية» 4/200، وابن القيم في «زاد المعاد» 3/251، والذهبي في «المغازي» (352).
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
4- وفي ربيع الآخر أيضًا من هذه السنة: كانت سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلىٰ ذي القَصَّة فغنموا وسلموا.
خرج أبو عبيدة رضي الله عنه إلىٰ ذي القَصَّة أيضًا في أربعين رجلاً، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوها مع الصبح، فأغاروا عليهم، فهربوا منهم في الجبال، وأصابوا رجلاً واحدًا فأسلم([1]).
([1]) ذكرها: ابن سعد في «الطبقات» 2/82، الذهبي في «المغازي» (353)، ابن كثير في «البداية والنهاية» 4/200، وابن القيم في «زاد المعاد» 3/250.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
5- وفي ربيع الآخر أيضًا من السنة السادسة للهجرة: كانت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلىٰ بني سُلَيم بالجموم، فأسروا وغنموا وسَلموا.
خرج زيد بن حارثة رضي الله عنه إلىٰ بني سُلَيم بالجموم، فأصاب امرأة من مُزينة يقال لها: حليمة، فدلتهم علىٰ مَحِلَّة من محالِّ بني سُلَيم، فأصابوا نَعَمًا وشاءً وأسرىٰ، وكان في الأسرىٰ زوج حليمة، فلما قفل زيد بن حارثة بما أصاب، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُزينة نفسها وزوجها([1]).
([1]) «الطبقات» 2/83، «البداية والنهاية» 4/200، «مغازي الذهبي» (353)، «زاد المعاد» 3/251.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
6- وفي جُمادىٰ الأولىٰ من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلىٰ العِيص، فغنمت وسَلمت.
قال ابن القيم - رحمه الله - في معرِض ذكره لأحداث السنة السادسة:
وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلىٰ العيص في جُمادىٰ الأولىٰ.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
7- وفي جمادىٰ الأولىٰ أيضًا من هذه السنة: كانت غزوة بني لحيان بناحية عُسْفان، فلم يلقوا أحدًا.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىٰ بني لحيان بعد قريظة بستة أشهر ليغزوهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل، وأظهر أنه يريد الشام، واستخلف علىٰ المدينة ابن أم مكتوم ثم أسرع السير حتىٰ انتهىٰ إلىٰ بطن غُرَان([1]) وادٍ من أودية بلادهم، وهو بين أَمَج وعُسْفان، حيث كان مصاب أصحابه([2]).
فترحَّم عليهم ودعا لهم، وسمعت بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم علىٰ أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلىٰ عُسْفان، فبعث عشرة فوارس إلىٰ كُراع الغميم لتسمع به قريش، ثم رجع إلىٰ المدينة، وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة([3]).
([1]) اسم وادٍ فيه منازل بني لحيان.
([2]) أي: المكان الذي قُتل فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الرجيع.
([3]) «زاد المعاد» 3/246، 247، والغزوة ذكرها: ابن هشام عن ابن إسحاق 3/161، 162، ابن سعد 2/78، ابن كثير في «البداية والنهاية» 4/169، وكانت هذه الغزوة انتقامًا من بني لحيان الذين قتلوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرجيع.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
8- وفي جمادىٰ الآخرة من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلىٰ الطَّرِف فغنموا وسلموا.
كانت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه إلىٰ الطَّرِف([1]) في جُمادىٰ الأولىٰ إلىٰ بني ثعلبة، في خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب – زيد- من نعمهم عشرين بعيرًا، وغاب أربع ليالٍ([2]).
([1]) الطَّرِف بفتح الطاء وكسر الراء: ماءً علىٰ ستة وثلاثين ميلاً من المدينة.
([2]) «زاد المعاد» 3/251، السرية ذكرها ابن سعد في «الطبقات» 2/87، الذهبي في «المغازي» (353)، والطبري في «التاريخ» 2/126.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
9- وفي جُمادىٰ الآخرة من السنة السادسة للهجرة: كانت سريةُ زيد بن حارثة رضي الله عنه إلىٰ حِسْمَىٰ.
ثم سرية زيد بن حارثة إلىٰ حِسْمىٰ، وهي وراء وادي القرىٰ في جُمادىٰ الآخرة سنة ست.
قال: أقبل دِحية بن خليفة الكلبيُّ من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهُنيد بن عارض، وابنه عارض بن الهُنيد في ناس من جذام بحِسْمىٰ، فقطعوا عليه الطريق، فلم يتركوا عليه إلا سَمَل ثوب([1])، فسمع بذلك نفر من بني الضُّبيب، فنفروا إليهم، فاستنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحيةُ علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل وردَّ معه دحية، وكان زيد يسير بالليل، ويكمن بالنهار،ومعه دليل له من بني عُذْرة، فأقبل بهم حتىٰ هجم بهم مع الصبح علىٰ القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا وقتلوا الهُنيد وابنه، وأغاروا علىٰ ماشيتهم ونَعمهم ونسائهم، فأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان([2]).
وقيل: أن رفاعة بن زيد الجُذاميَّ أتىٰ النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه ردَّ الأسر، والسبايا والأموال، فردَّهم النبي صلى الله عليه وسلم([3]).
([1]) الثوب السَّمَل: أي الثوب القديم المتهالك.
([2]) «عيون الأثر» 2/152، 153، والسرية ذكرها أيضًا ابن سعد في «الطبقات» 2/88.
([3]) السابق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
10- وفي رجب من هذه السنة: كانت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه أيضًا إلىٰ وادي القُرىٰ، فلم يلق كيدًا.
ثم غزوة زيد بن حارثة إلىٰ وادي القرىٰ، فأُصيب يومئذ من المسلمين ورد ابن مِرداس، وارْتُثَّ([1]) زيد بن حارثة من بين وسط القتلىٰ([2]).
وقيل: أن زيدًا خرج بتجارة إلىٰ الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان دون وادي القرىٰ لقيه ناس من فزارة، فضربوه وضربوا أصحابه، وأخذوا ما معه من مال([3]).
([1]) وارْتُثَّ: أي حمل من المعركة رثيثًا أي جريحًا وبه رُمْقٌ.
([2]) «عيون الأثر» 2/153.
([3]) «عيون الأثر» 2/154، عن ابن إسحاق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
11- وفي شعبان من هذه السنة: كانت سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلىٰ دومة الجندل، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ابنة ملكهم فأسلموا وتزوجها.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلىٰ دُومة الجندل في شعبان، وقال له: إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم، فأسلم القوم، وتزوج عبد الرحمن رضي الله عنه تُماضر بنت الأصبغ، وكان أبوها رأسهم وملكهم([1]).
([1]) ذكر هذه السرية ابن سعد في «الطبقات» 2/85، والطبري في «التاريخ» 2/126، وغيرهما.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
12- وفي شعبان أيضًا من هذه السنة: كانت سريةُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلىٰ بني سعد بن بكر بفدك، فشتَّت شملهم، وغنم وسلم.
الشرح:
قال ابن سعد رحمه الله:
ثم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلىٰ بني سعد بن بكر بفدك في شعبان سنة ست قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعًا يريدون أن يُمدُّوا يهود خيبر، فبعث إليهم عليًا في مائة رجل فسار الليل وكمن النهار، حتىٰ انتهىٰ إلىٰ الغمِج([1]) وهو ماء بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال، فوجدوا به رجلاً، فسألوه عن القوم، فقال: أُخبركم علىٰ أنكم تُؤمنوني، فأمَّنوه، فدلهم، فأغاروا عليهم، وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعُن ورأسُهم وَبْرُ بن عُليم، فعزل عليٌّ – صفيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- لقوحًا تدعىٰ الحفِدة، ثم عزل الخمس، وقسم سائر الغنائم علىٰ أصحابه([2]).
([1]) الغمِج: هو الماء غير العذب، وهو هنا اسم موضع.
([2]) «الطبقات الكبرىٰ» 2/89، 90، «عيون الأثر» 2/155، 156، والذهبي في «المغازي» (355).
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
13- وفي رمضان من السنة السادسة: كانت سرية زيد بن حارثة إلىٰ أم قرفة بناحية وادي القُرىٰ، فقتلوا وأسروا، وغنموا وسَلِموا.
تقدم أن زيد بن حارثة رضي الله عنه كان خارجًا بتجارة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه ناس من فزارة بناحية وادي القرىٰ، فضربوه وأصحابه وأخذوا ما معهم من مال، وانفلت زيد من بين القتلىٰ.
قال ابن إسحاق رحمه الله:
فلما قدم زيد بن حارثة نذر أن لا يمس رأسه غسلٌ من جنابة، حتىٰ يغزو فزارة فلما اسْتبلَّ من جراحه([1]) بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش إلىٰ بني فزارة، فلقيهم بوادي القرىٰ، وأصاب فيهم، وأسر أم قِرفة، وهي فاطمة بنت زمعة بن بدر، وكانت عند حذيفة بن بدر عجوزًا كبيرة، وبنتًا لها، وعبد الله بن مسعدة فأمر زيد بن حارثة أن تقتل أم قرفة، فقتلها.
ثم قدموا علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة، وبعبد الله بن مسعدة، فكانت بنت أم قرفة لسلمة بن الأكوع، وكان هو الذي أصابها([2]).
يقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: غَزَوْنَا فَزَارَةَ وَعَلَيْنَا أبو بَكْرٍ، أَمَّرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةٌ، أَمَرَنَا أبو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا([3]) ثُمَّ شَنَّ الْغَارَةَ، فَوَرَدَ الْمَاءَ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ عَلَيْهِ، وَسَبَىٰ، وَأَنْظُرُ إِلَىٰ عُنُقٍ مِنْ النَّاسِ([4]) فِيهِمْ الذَّرَارِيُّ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إِلَىٰ الْجَبَلِ، فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ بَيْنهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا رَأَوْا السَّهْمَ وَقَفُوا، فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ، وَفِيهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ بني فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمٍ – قَالَ: الْقَشْعُ النِّطَعُ- مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ، فَسُقْتُهُمْ حَتَّىٰ أَتَيْتُ بِهِمْ أَبَا بَكْرٍ، فَنَفَّلَنِي أبو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَلَقِيَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي السُّوقِ، فَقَالَ: «يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، ثُمَّ لَقِيَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَدِ فِي السُّوقِ، فَقَالَ لِي: «يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ([5]»)، فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ الله، فَوَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ أَهْلِ مَكَّةَ فَفَدَىٰ بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ([6]).
([1]) أي: شُفي من جراحه.
([2]) «عيون الأثر» 2/154، عن ابن إسحاق، إلىٰ عبد الله بن أبي بكر مرسلاً.
وفي رواية مسلم (1755) أن أمير هذه السرية كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال السهيلي 4/253: وهذه الرواية – رواية مسلم- أصح وأحسن من رواية ابن إسحاق.اهـ.
([3]) التعريس: النزول آخر الليل.
([4]) عُنق: أي جماعة.
([5]) لله أبوك: كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها، وفيها إضافة الأب لله، مثل: بيت الله، والإضافة إلىٰ الله تعظيم وتشريف.
([6]) صحيح: أخرجه مسلم (1755)، كتاب: الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأُسارىٰ.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
14- وفي رمضان أيضًا من هذه السنة: أجدب الناس جدبًا شديدًا، فاستسقىٰ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل المطر.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّىٰ، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَىٰ الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ وَحَمِدَ الله تعالى، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمْ الله تعالى أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللهمَّ أَنْتَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَىٰ حِينٍ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّىٰ بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَىٰ النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ – أَوْ حَوَّلَ- رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَىٰ النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّىٰ رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ الله سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ الله، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّىٰ سَالَتْ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَىٰ سُرْعَتَهُمْ إِلَىٰ الْكِنِّ، ضَحِكَ حَتَّىٰ بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنَّ الله عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنِّي عبد الله وَرَسُولُهُ»([1]).
وذكر ابن سيد الناس أن ذلك كان في رمضان من السنة السادسة([2]).
([1]) حسن: أخرجه أبوداود (1173)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، وحسنه الألباني «صحيح سنن أبي داود».
([2]) «عيون الأثر» 2/373.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
15- وفي شوال من هذه السنة: كانت سرية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلىٰ أُسير بن رزام اليهودي، فقتلوه وسلموا.
لما قُتل أبو رافع سلام بن أبي الحُقيق أمَّرت يهود عليهم أُسير بن رزام، فسار في غطفان وغيرهم، فجمعهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجَّه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر، في شهر رمضان سرًا، فسأل عن خبره وغرَّته، فأُخبر بذلك، فقدم علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانْتُدب له ثلاثون رجلاً، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة، فقدموا علىٰ أُسير فقالوا: نحن آمنون حتىٰ نعرض عليك ما جئنا له، قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك، فقالوا: نعم، فقلنا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك علىٰ خيبر ويُحسن إليك، فطمع في ذلك، فخرج، وخرج معه ثلاثون رجلاً من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين، حتىٰ إذا كانوا بقرقرة نبار ندم أُسير، فقال عبد الله بن أُنيس الجهني، وكان في السرية: وأهوىٰ بيده إلىٰ سيفي، ففطنت له، ودفعت بعيري، وقلت: غدرًا أي عدو الله، فعل ذلك مرتين، فنزلت، فسقت بالقوم حتىٰ انفرد لي أُسير، فضربته بالسيف فأندرتُ([1]) عامَّة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وبيده مِخْرِش([2]) من شَوْحط([3]) فضربني فشجَّني مأمومة([4]) وملنا علىٰ أصحابه فقتلناهم كما هم، غير رجل واحد أعجزنا شدًّا، ولم يُصب من المسلمين أحد، ثم أقلبنا إلىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدَّثناه الحديث، فقال: «قد نجَّاكم الله من القوم الظالمين»([5]).
([1]) أندرت: أسقطت.
([2]) المخرش: عصا معقوفة الرأس.
([3]) شوحط: شجر ينبت في الجبال، تُتخذ منه قناة الرمح.
([4]) مأمومة: أي في أم رأسه.
([5]) «الطبقات الكبرىٰ» 2/92، 93، وذكرها ابن هشام في «السيرة» 2/618.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
16- وفي شوال أيضًا من السنة السادسة: كانت سرية كُرْز بن جابر الفِهْري إلىٰ العرنيين، فأتوا بهم، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أنس رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ – ثمانية- قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّىٰ إِذَا كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّىٰ مَاتُوا عَلَىٰ حَالِهِمْ([1]).
قال الواقدي:
في شوال سنة ست كانت سرية كُرْز بن جابر الفهري إلىٰ العرنيين، الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النَّعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم كُرْز بن جابر، في عشرين فارسًا، فردُّوهم([2]).
([1]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4192)، كتاب: المغازي، باب: قصة عُكْل وعُرينة، ومسلم (1671)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: حكم المحاربين والمرتدين.
([2]) من «البداية والنهاية» 4/201.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
17- وفي هذه السنة: وقبل صلح الحديبية، كانت سرية الخَبَط علىٰ الراجح.
عن جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: بَعَثَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أبو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّىٰ أَكَلْنَا الْخَبَطَ([1]) فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ، فَأَلْقَىٰ لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ([2]) حَتَّىٰ ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا([3]) فَأَخَذَ أبو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ، فَعَمَدَ إِلَىٰ أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ وَبَعِيرًا فَمَرَّ تَحْتَهُ، قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ([4])، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ. هذا
لفظ البخاري.
وأما لفظ مسلم:
بَعَثَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَتَلَقَّىٰ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أبو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، قيل لجابر: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا، قَالَ: نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَىٰ اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ، قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَىٰ سَاحِلِ الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَنَا عَلَىٰ سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ([5])، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَىٰ الْعَنْبَرَ([6])،قَالَ أبو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَفِي سَبِيلِ الله وَقَدْ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُ مِائَةٍ حَتَّىٰ سَمِنَّا، قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ([7]) بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ([8]) أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، فَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أبو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ([9])، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ الله لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا»، قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَأَكَلَهُ([10]).
([1]) الخَبَط: بفتح الخاء والباء، أي: المخبوط، وهو الورق الذي يتساقط من الأشجار بعد خبطها بالعصا ونحوها، لتأكله الإبل.
([2]) ودكه: أي دهنه.
([3]) ثابت إلينا أجسامنا: أي رجعت كما كانت.
([4]) جزائر: جمع جزور وهو الجمل.
([5]) الكثيب: هو كومة الرمل.
([6]) العنبر: الحوت.
([7]) من وقب عينه: أي من داخل عينه.
([8]) أي: كقِطَع الثور.
([9]) الوشائق: هو اللحم يؤخذ فيُغْلىٰ إغلاءً ولا ينضج فيحمل في الأسفار.
([10]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4361)، كتاب: المغازي، باب: غزوة سيف البحر وهم يتلقون عير قريش وأميرهم أبو عبيدة ابن الجراح، ومسلم (1935)، كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: إباحة ميتات البحر.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
18- وفي هذه السنة: كانت سرية بني عَبْس علىٰ الغالب.
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرًا لقريش أقبلت من الشام، فبعث بني عبس في سرية وعقد لهم لواء([1]).
([1]) «الطبقات» 1/296، ولم يذكر تفاصيل أخرىٰ للغزوة.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
19- وفي ذي القعدة من هذه السنة: كان صلح الحديبية وكان فتحًا مبينًا.
ولما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلىٰ حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئًا فشيئًا، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صَدَّ عنه المشركون منذ ستة أعوام([1]). والحديبية اسم بئر تقع علىٰ بعد اثنين وعشرين كيلو مترًا إلىٰ الشمال الغربي من مكة وتعرف الآن بالشميس، وهي حدائق الحديبية ومسجد الرضوان([2]).
وبعضها يدخل في حدود الحرم المكي.
قال الشافعي رحمه الله:
بعضها في الحلِّ وبعضها في الحَرم([3]).
وسُمي بصلح الحديبية؛ لأن قريشًا منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية.
قال ابن القيم رحمه الله:
قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول الزهري، وقتادة وموسىٰ بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم.اهـ([4]).
وعَنْ قَتَادَةَ قال: سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَرْبَعٌ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ.. .([5])، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم متوجهًا إلىٰ بيت الله الحرام قاصدًا العمرة، وخرج معه ألفٌ وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم([6]) مُتسلِّحين بالسلاح([7]) حَذَرًا من قريش، وساقوا معهم الهدي.
فَلَمَّا أَتَىٰ النبي صلى الله عليه وسلم ذَا الْحُلَيْفَةِ([8]) قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ([9])، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ – وهو بشر بن سفيان الكعبي، ليعلم له أخبار قريش- وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ([10]) أَتَاهُ عَيْنُهُ، فقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ([11]) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ، فَقَالَ: «أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إِلَىٰ عِيَالِهِمْ وَذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ الْبَيْتِ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ الله تعالى قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ»، قَالَ أبو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ الله خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، فقَالَ – رسول الله-: «امْضُوا عَلَىٰ اسْمِ الله»([12]).
([1]) «الرحيق المختوم» (294).
([2]) «السيرة النبوية الصحيحة» 2/434.
([3]) «زاد المعاد» 3/270.
([4]) «زاد المعاد» 3/255.
([5]) متفق عليه: أخرجه البخاري (1778)، كتاب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي، ومسلم (1253)، كتاب: الحج، باب: بيان عدد عُمَر النبي وزمانهن.
([6]) ورد ذكر هذا العدد في أحاديث صحيحة بصحيح البخاري، عن نفر من الصحابة رضوان الله عليهم، ممن شهدوا مع النبي هذا المشهد، منهم جابر بن عبد الله، وفي رواية أخرىٰ عن جابر: أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة. وعن عبد الله بن أبي أوفىٰ أنهم كانوا ألفًا وثلاث مائة.
انظر: «صحيح البخاري» كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية.
ورجح ابن القيم في «زاد المعاد» 3/256، 257، قول من قال أنهم ألف وأربعمائة، لأنه قول الأكثر حيث قال: والقلب إلىٰ ذلك أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حَزْن.اهـ.
وقال ابن حجر: والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفًا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفًا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء: ألفًا وأربعمائة أو أكثر.اهـ.
([7]) مما يدل علىٰ أن الصحابة رضوان الله عليهم خرجوا متسلحين ما رواه البخاري (4179): أنه لما بلغ النبي أن قريشًا جمعوا له الجموع لقتاله استشار الصحابة في قتالهم أو عدم قتالهم، وهذا يدل علىٰ أنهم كانوا مستعدين للقتال في أي وقت.
([8]) ذو الحليفة هو ميقات أهل المدينة الذي يُحرمون من عنده، وهو الذي يُسمىٰ الآن بـ(ـأبيار عليٍّ)، وتبعد عن المدينة أحد عشر كيلو مترًا، وبينها وبين مكة أربعمائة وأربعة وستون كيلو مترًا تقريبًا.
([9]) الهدي: ما يُهدىٰ من النعم إلىٰ الحرم تقربًا إلىٰ الله، ويكون الهدي من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وتقليد الهدي: هو أن يعلق في عنقها نعلين، أو يضع عليها شيئًا من صوف ونحوه علامة لها أنها من الهدي، والتقليد عام للبقر والغنم والإبل، أما الإشعار: هو أن يكشط جلد البدنة حتىٰ يسيل الدم، ثم يسلته، ويكون ذلك في الجانب الأيمن لسنمة البعير، والإشعار خاص بالإبل فقط دون البقر والغنم.
([10]) غدير الأشطاط: اسم مكان وراء عُسْفان علىٰ بعد ثمانين كيلو من مكة.
([11]) الأحابيش: هم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناة ابن كنانة، وبنو المصطلق بن خزاعة، كانوا تحالفوا مع قريش، قيل تحت جبل يقال له: الحبش أسفل مكة، وقيل: سمُّوا بذلك لتحبشهم، أي: تجمعهم، والتحبش: التجمع.
([12]) صحيح: أخرجه البخاري (4178، 4179)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
فسار النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ: «إِنَّ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ([1]) فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ»، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّىٰ إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ([2]) فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ([3]) فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ([4])، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ([5]»)، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّىٰ نَزَلَ بِأَقْصَىٰ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَىٰ ثَمَدٍ([6]) قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا([7])، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّىٰ نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّىٰ صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ([8]) رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بن لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بن لُؤَيٍّ([9]) نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ([10]) الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ([11]) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ([12]) مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا([13]) وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّه ُمْ عَلَىٰ أَمْرِي هَذَا حَتَّىٰ تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي([14]) وَلَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ»، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّىٰ أَتَىٰ قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَىٰ، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَىٰ، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ([15]) فَلَمَّا بَلَّحُوا([16]) عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَىٰ، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَىٰ فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَىٰ وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَىٰ أَوْشَابًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللَّاتِ([17]) أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أبو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَىٰ رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلَّمَا أَهْوَىٰ عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَىٰ لِحْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بنعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ: فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ أَلَسْتُ أَسْعَىٰ فِي غَدْرَتِكَ؟([18])، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ»، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَىٰ وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَىٰ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَىٰ الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَىٰ قَيْصَرَ وَكِسْرَىٰ وَالنَّجَاشِيِّ ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَىٰ وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بني كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ»، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَىٰ ذَلِكَ، قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَىٰ أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَىٰ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ، إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، فلَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»، فَجَاءَ سُهَيْلُ بن عَمْرٍو، فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنْ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللهمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهمَّ»، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَىٰ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ الله مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ، وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عبد الله، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ الله، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عبد الله»([19])، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَىٰ أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَىٰ أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَىٰ دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ الله كَيْفَ يُرَدُّ إِلَىٰ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلِ بن عَمْرٍو يَرْسُفُ([20]) فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّىٰ رَمَىٰ بنفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ»، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَىٰ شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَجِزْهُ لِي»، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: «بَلَىٰ فَافْعَلْ»، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أبو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَىٰ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الله، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: «بَلَىٰ»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَىٰ الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَىٰ الْبَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَىٰ»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ الله وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَ لَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَىٰ فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ»، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قَالَ: بَلَىٰ، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَىٰ الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَىٰ الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَىٰ، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَىٰ الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَىٰ أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا([21])، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّىٰ قَالَ: ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَىٰ أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ الله أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّىٰ تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّىٰ فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّىٰ كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَىٰ: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) حَتَّىٰ بَلَغَ (بعصم الكوافر) [الممتحنة: 10] فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بن أبي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَىٰ صَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أبو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَىٰ الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّىٰ بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أبو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَىٰ سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أبو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّىٰ بَرَدَ وَفَرَّ الْآخَرُ حَتَّىٰ أَتَىٰ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَىٰ هَذَا ذُعْرًا»، فَلَمَّا انْتَهَىٰ إِلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أبو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَىٰ الله ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي الله مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ» ([22])، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّىٰ أَتَىٰ سِيفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأبي بَصِيرٍ فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأبي بَصِيرٍ حَتَّىٰ اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَىٰ الشَّأْمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَىٰ: (وهو الذي كف أيديكم) حَتَّىٰ بَلَغَ (الحمية حمية الجاهلية) [الفتح: 24- 26] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ الله وَلَمْ يُقِرُّوا بِـ(ـبِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ([23]).
([1]) الطليعة: مقدمة الجيش.
([2]) قترة الجيش: غبار الجيش الذي يحدثه أثناء سيره.
([3]) حَلْ حَلْ: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.
([4]) خلأت القصواء: خلأت أي بركت من غير علَّة، والقصواء: اسم ناقة رسول الله، وقيل كان طرف أذنها مقطوعًا، والقصو: قطع طرف الأذن، وقيل: إنها كانت لا تُسبق فقيل لها القصواء لأنها بلغت من السبق أقصاه. «فتح الباري» 5/395.
([5]) حبسها حابس الفيل: قال ابن حجر: أي حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة علىٰ تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلىٰ سفك الدماء ونهب الأموال كما لو قُدر دخول الفيل وأصحابه مكة.اهـ. أي: فيل أبرهه الأشرم الذي كان يريد هدم الكعبة.
([6]) ثَمَدٍ: بفتح الثاء والميم، أي: حفرة صغيرة فيها ماء مثمود أي قليل.
([7]) التَبرُّض: هو الأخذ قليلاً قليلاً.
([8]) عَيْبة نُصح: العَيْبة: ما تُوضع فيه الثياب لحفظها، أي: أنهم موضع النصح له والأمانة علىٰ سره.
([9]) قوله: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي: يقصد قريشًا، وإنما اقتصر علىٰ ذكر هذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إليهما.
([10]) أعداد: جمع عِدّ بالكسر والتشديد، وهو الماء الذي لا انقطاع له.
([11]) العُوذ: جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا من ألبانها ولا يرجعوا حتىٰ يمنعوه أو كنَّىٰ بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد أنهم خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعىٰ إلىٰ عدم الفرار، قال ابن فارس: كل أنثىٰ إذا وضعت فهي إلىٰ سبعة أيام عائذ، والجمع عُوذ، كأنها سميت بذلك لأنها تعوذ ولدها وتلزم الشغل به. «فتح».
([12]) ماددتهم: أي جعلت بيني وبينهم مدة بترك الحرب.
([13]) جَمُّوا: أي استراحوا، والمعنىٰ الذي أراده النبي أن تترك قريش القتال فإن أرادوا الدخول في الإسلام بعد ذلك دخلوا وإن لم يدخلوا استراحوا فترة من القتال.
([14]) حتىٰ تنفرد سالفتي: أراد أنه يقاتل حتىٰ ينفرد وحده في قتالهم، أي: إن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أقاتل عن دينه ولو انفردت. «فتح» بتصرف.
([15]) قوله: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ: أي دعوتهم لنصركم.
([16]) فلما بلَّحوا: أي امتنعوا، والتبلح التمنع من الإجابة.
([17]) امصص ببظر اللات: البظر قطعة تبقىٰ بعد الختان في فرج المرأة، واللات اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك ولكن بلفظ الأم فأراد أبوبكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كانوا يعبدوه مكان أمه. «فتح» بتصرف.
([18]) قوله: أي غُدَرُ: مبالغة في وصفه بالغدر، قوله: ألست أسعىٰ في غدرتك: أي ألست أسعىٰ في دفع شر غدرتك.
قال ابن هشام في «السيرة»: أشار عروة بهذا إلىٰ ما وقع للمغيرة قبل إسلامه، وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرًا من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعىٰ عروة بن مسعود عم المغيرة حتىٰ أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسًا واصطلحوا. «فتح» 5/402.
([19]) وفي رواية: أن النَّبِيَّ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله : «أَرِنِي مَكَانَهَا»، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا، وَكَتَبَ: ابْنُ عبد الله.
أخرجه البخاري (2699)، مسلم (1783).
([20]) يرسف: أي يمشي مشيًا بطيئًا بسبب القيد.
([21]) قول عمر : وعملت لذلك أعمالاً أي: من الأعمال الصالحة ليكفر عنه اعتراضه علىٰ النبي، وفي «مسند أحمد» 4/325 يقول عمر : مازلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتىٰ رجوت أن يكون خيرًا.
([22]) قول النبي : «ويل أمه»: كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنىٰ ما فيها من ذم. وقوله: «مِسْعر حرب» أي: مشعل نار الحرب مما فعله من قتل الرجل، وقوله: «لو كان له أحد» أي: ينصره ويعاضده ويناصره، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلىٰ المشركين، ورمزٌ إلىٰ من بلغه ذلك من المسلمين المستضعفين في مكة أن يلحقوا به. (فتح) بتصرف.
([23]) صحيح: أخرجه البخاري (2731، 2732)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
أحداث أخرىٰ مهمة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تأتيه رسلُ قريش قد أرسل إليهم، لبيان موقفه وأنه لم يأت إلا لزيارة البيت وأداء العمرة ولم يأت لحرب.
فبَعَثَ خِرَاشَ بن أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ إِلَىٰ مَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَىٰ جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الثَّعْلَبُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَقَرَتْ بِهِ قُرَيْشٌ([1])، وَأَرَادُوا قَتْلَ خِرَاشٍ فَمَنَعَهُمْ الْأَحَابِشُ، حَتَّىٰ أَتَىٰ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَدَعَا عُمَرَ لِيَبْعَثَهُ إِلَىٰ مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَىٰ نَفْسِي، وَلَيْسَ بِهَا مِنْ بني عَدِيٍّ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي([2]) عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، قَالَ: فَدَعَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَهُ إِلَىٰ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ حَتَّىٰ أَتَىٰ مَكَّةَ، وَلَقِيَهُ أَبَانُ بن سَعِيدِ بن الْعَاصِ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَدِفَ خَلْفَهُ، وَأَجَارَهُ حَتَّىٰ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّىٰ أَتَىٰ أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ بِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّىٰ يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِين َ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ([3]).
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت الشجرة([4]).
ومما حدث أيضًا أنه أثناء سير النبي صلى الله عليه وسلم إلىٰ الحديبية ولما بلغ الروْحَاء علىٰ بعد 73 كيلو مترًا من المدينة أرسل أبا قتادة الأنصاري مع جمع من الصحابة إلىٰ غيقه علىٰ ساحل البحر الأحمر حيث بلغه وجود بعض المشركين الذين يُخشىٰ من مباغتتهم للمسلمين، فَقَالَ: «خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّىٰ نَلْتَقِيَ»، فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أبو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أبو قَتَادَةَ عَلَىٰ الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا([5])، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، وَقَالُوا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ قال أبو قتادة: فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ الله إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَقَدْ كَانَ أبو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أبو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، قَالَ: «أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا»([6]).
وفي الحديبية شرعت صلاة الخوف([7]).
وأثناء وجود النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية حاولت قريش قتل النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم فشلوا.
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ – عند صلاة الفجر- فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا فَأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)[الفتح: 24]([8]).
([1]) أي: عقرت الجمل، قتلوه.
([2]) أعز مني: أي له ناس وقوم يمنعونه من غدر قريش.
([3]) إسناده حسن: أخرجه أحمد (18812)، بإسناد حسن، وأصل الحديث عند البخاري، انظر التخريج السابق.
([4]) سيأتي الكلام عن البيعة في الفقرة القادمة إن شاء الله تعالىٰ.
([5]) الأتان: أنثىٰ الحمار، وحُمُر الوحش حلالٌ أكله.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (1824)، كتاب: جزاء الصيد، باب: لا يشير المحرم إلىٰ الصيد لكي يصطاده الحلال، ومسلم (1196)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم.
([7]) «فتح الباري» 7/488 حيث رجح ابن حجر ذلك.
([8]) صحيح: أخرجه مسلم (1808)، كتاب: الجهاد والسير، وأبو داود (2688)، كتاب: الجهاد، باب: في المن علىٰ الأسير بغير فداء.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
بنود العقد:
كان العقد الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين مكتوب فيه:
بِاسْمِكَ اللهمَّ، هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بن عبد الله وَسُهَيْلُ بن عَمْرٍو عَلَىٰ وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَىٰ أَنَّهُ مَنْ أَتَىٰ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَىٰ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً([1])، وَإِنَّهُ لَا إِسْلَالَ وَلَا إِغْلَالَ([2])، وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ، فَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَقْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بنو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَنَا هَذَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْكَ فَتَدْخُلُهَا بِأَصْحَابِكَ وَأَقَمْتَ فِيهِمْ ثَلَاثًا مَعَكَ سِلَاحُ الرَّاكِبِ، لَا تَدْخُلْهَا بِغَيْرِ السُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ([3]).
وقد لاقت هذه الشروط – التي ظاهرها توهين لموقف المسلمين- غضبًا شديدًا من بعض الصحابة وقد تقدم موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومما يعبر عن مشاعر المسلمين من هذه الشروط، ورفضهم لها قول سهل بن حُنيف رضي الله عنه يوم صفين: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أبي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ([4]).
([1]) أي: بينهم صدر نقي من الغل والخداع مطوي علىٰ الوفاء بالصلح. (نهاية).
([2]) الإسلال: السرقة، وقيل سل السيوف، والإغلال: الخيانة، وقيل لبس الدروع. (نهاية).
([3]) حسن: أخرجه أحمد (18812)، بإسناد حسن. والقرب: غمد السيوف.
([4]) صحيح: أخرجه البخاري (3181)، كتاب: الجزية، باب: رقم (18).
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
وفي الحديبية نزل المطر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يصلوا في رحالهم، عَنْ أبي الْمَلِيحِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَأَصَابَتْنَا سَمَاءٌ لَمْ تَبُلَّ أَسَافِلَ نِعَالِنَا([1])، فَنَادَىٰ مُنَادِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ([2]).
وفي الحديبية حمل كعب بن عُجرة رضي الله عنه إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَىٰ وَجْهِه، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا كُنْتُ أُرَىٰ الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَىٰ – أَوْ مَا كُنْتُ أُرَىٰ الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَىٰ- تَجِدُ شَاةً؟»، فقال كعب: لَا، فَقَالَ: «فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ»([3]).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ([4]).
وعن عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَكْلَؤُنَا([5])؟»، فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا، فَنَامُوا حَتَّىٰ طَلَعَتْ الشَّمْسُ. وكان ذلك في صلاة الصبح فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ»، قَالَ: فَفَعَلْنَا، قَالَ: «فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا لِمَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ»([6]).
وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بنتُ عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ، لِمَا أَنْزَلَ الله فِيهِنَّ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُن َّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ) إِلَىٰ قَوْلِهِ: (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) [الممتحنة: 10]([7]).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَهْدَىٰ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدَايَا رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم جَمَلًا كَانَ لِأبي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرَةُ فِضَّةٍ([8])، يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ([9]).
وعَنْ زَيْدِ بن خَالِدٍ الجهني رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَأَصَابَنَا مَطَرٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّىٰ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟»، قُلْنَا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! فَقَالَ: «قَالَ الله: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ الله وَبِرِزْقِ الله وَبِفَضْلِ الله، فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بنجْمِ كَذَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ كَافِرٌ بِي»([10]).
وعن جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ([11]) فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكُمْ؟»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا فِي رَكْوَتِكَ، قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، قَالَ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، فَقُيلْ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً([12]).
([1]) كناية عن قلة المطر.
([2]) صحيح: أخرجه ابن ماجه (936)، كتاب: الصلاة، باب: الجماعة في الليلة الممطرة، وصححه الألباني «الإرواء» 2/341، 342.
([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري (1816)، كتاب: المحصر، باب: الإطعام في الفدية نصف صاع، ومسلم (1201)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذىٰ، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها.
([4]) صحيح: أخرجه مسلم (1318)، كتاب: الحج، باب: الاشتراك في الهدي وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة.
([5]) يكلؤنا: أي يحرسنا.
([6]) صحيح: أخرجه أبو داود (441)، كتاب: الصلاة، باب: في من نام عن صلاة أو نسيها، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود».
([7]) صحيح: أخرجه البخاري (2711، 2712)، كتاب: الشروط، باب: ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة.
([8]) البرة: الحلقة، والمعنىٰ في أنفه حلقة فضة. «عون المعبود».
([9]) حسن: أخرجه أبو داود (1749)، كتاب: الحج، باب: في الهدي، وحسنه الألباني.
([10]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4147)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (71) كتاب: الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.
وفي رواية للحديث: وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بنوْءِ كَذَا... والنوء مَصْدَرُ نَاءَ النَّجْمُ يَنُوءُ نَوْءًا أَيْ: سَقَطَ, وَغَابَ. وكما قال العلماء: أَنَّ هناك ثَمَانِيَة وَعِشْرِينَ نَجْمًا مَعْرُوفَة الْمَطَالِع فِي أَزْمِنَة السَّنَة كُلّهَا، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِمَنَازِل الْقَمَر الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ. يَسْقُط فِي كُلِّ ثَلَاث عَشْرَة لَيْلَة مِنْهَا نَجْم فِي الْمَغْرِب مَعَ طُلُوع الْفَجْر، وَيَطْلُع آخَر يُقَابِلهُ فِي الْمَشْرِق مِنْ سَاعَته. وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة إِذَا كَانَ عِنْد ذَلِكَ مَطَرٌ يَنْسُبُونَهُ إِلَىٰ السَّاقِط الْغَارِب مِنْهُمَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إِلَىٰ الطَّالِع مِنْهُمَا. «شرح مسلم» للنووي 1/335، وفي الحديث فوائد:
منها: أنه لا يجوز لنا أن نتعلق بالأسباب، مع ترك مُسبب الأسباب سبحانه وتعالىٰ، فمن تعلق بالأسباب دون المسبب اختلف فيه العلماء فمنهم من قال: هو كافر كفر أكبر مُخرج من الملة، ومنهم من قال: كافر كفر أصغر، ومرتكب لكبيرة من الكبائر؛ لأنه نسب الشيء لسببه، ونسي الله تعالى الذي خلق الشيء وسببه فهو سبحانه خالق كل شيء.
ولذا يجب علينا أيها الإخوة الكرام أن نتنبَّه لهذا الأمر، فمعظمنا إلا من رحم ربي يقع في مثل هذا، فتجد أحدنا يذهب إلىٰ الطبيب فيصف الطبيب له علاجًا لمرضه فيشفي هذا المريض فيخرج فيمتدح الطبيب ويقول: هذا طبيب بارع هذا كذا وكذا لقد أعطاني دواءً فشفاني فورًا، كل ذلك وينسىٰ الله تعالى الشافي الذي خلق الطبيب وخلق الدواء، ولو شاء الله تعالى ما شفاه بهذا الدواء ولا غيره، ومثل هذا كثير فتجد المرء الذي كان فقيرًا فينعم الله عليه بنعمة المال، فيقول: لقد فعلت كذا وكذا حتىٰ حصَّلت وجمعت هذا المال، ويفعل مثل قارون الذي قال لما رزقه الله تعالىٰ بالمال: (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فقال الله تعالىٰ: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) [القصص: 78] أي: لو شاء الله تعالىٰ لأخذه وما معه من مال كما أخذ غيره قبله.
بل إن بعضهم يعتمد علىٰ الأسباب اعتمادًا كلياً حتىٰ أنه يعصي الله تعالى مالك كل شيء بسبب اعتماده علىٰ السبب من دون الله تعالى، فيذهب أحدهم بزوجته أو إحدىٰ محارمه إلىٰ طبيب رجل، أو تذهب هي بنفسها إليه، فيقال لها كيف تذهبين إلىٰ هذا الرجل ليكشف عليك ويطلع علىٰ عورتك وأدق الأماكن في جسدك وعندك الطبيبات الأُنثيات لَسْنَ منك ببعيد؟ فتقول: لأن هذا الطبيب أمهر منهن! وإنا لله وإنا إليه راجعون. فهؤلاء تعلقوا تعلقًا تامًا بهذا الطبيب ومهارته ودوائه الذي يصفه، ونسوا الله تعالىٰ الذي قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق: 2].
فنحن لنا أن نفاضل لو كان هذا بين طبيبتين فنذهب إلىٰ المعروف عنها الإتقان والمهارة في العمل أخذًا بالأسباب مع الاعتماد الكلي علىٰ الله تعالى، أما وإن كان التفاضل بين طبيب وطبيبة فلابد أن تذهب هذه المرأة إلىٰ الطبيبة وإن كانت أقل في المهارة فإن الشفاء ليس بيدها ولا بيده إنما الشفاء بيد الله تعالى وهو وحده الذي يملكه، فلا يعقل أن نأخذ ما عند الله بمعصية الله تعالى.
هذا وأذكر – استطرادًا- أنه لا يجوز للرجل أيضًا أن يذهب إلىٰ الطبيبات طالما أنه يوجد الأطباء، فلابد لكلٍ أن يذهب لبني جنسه، وإن كان أقل مهارة، وأبعد مكانًا.
وبعد أخي الكريم وأختي الكريمة لابد لنا من عودة إلىٰ دين ربنا تعالى وأن يكون تعلقنا تعلقًا تامًا بالله تعالى دون الأسباب، وإن كنت لابد مادحًا أحدًا أو مادحًا نفسك، فلتقل مثلاً: الحمد لله وبفضل الله لقد جعل الله لي فلانًا سببًا في كذا وكذا، أو لقد اجتهدت في هذا الأمر فجعل الله ذلك سببًا في نجاحي، ونحو هذا الكلام الذي يدل علىٰ أن تعلقك الحقيقي بالله تعالى وليس بأي شيء آخر.
([11]) الرَّكوة: إناء صغير من جلد يُشرب فيه الماء، والجمع رِكاء.
([12]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4152)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1856)، كتاب: الإمارة، باب: بيان بيعة الرضوان تحت الشجرة.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
20- وفي الحديبية كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة.
لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلىٰ قريش ليبين لهم سبب مجيء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأنهم يقصدون العمرة وليس القتال، وتأخر عثمان رضي الله عنه فظن المسلمون أن قريشًا قتلته، دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلىٰ البيعة علىٰ قتال قريش.
فبايعوه جميعًا تَحْتَ الشَّجَرَةِ – وَهِيَ سَمُرَةٌ- غَيْرَ جَدِّ بن قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ اخْتَبَأَ تَحْتَ بَطْنِ بَعِيرِهِ([1])، وكان الجد بن قيس منافقًا.
وقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الْيُمْنَىٰ: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ»، فَضَرَبَ بِهَا عَلَىٰ يَدِهِ، فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» ([2]).
وقد بايع الصحابة رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم علىٰ الموت وعلىٰ ألا يفروا.
عَنْ يَزِيدَ بن أبي عُبَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ: عَلَىٰ أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ؟ قَالَ: عَلَىٰ الْمَوْتِ([3]).
وعن عبد الله بن زيد أنه أتاه آت فقال يَوْمَ الْحَرَّةِ وَالنَّاسُ يُبَايِعُونَ لِعبد الله بن حَنْظَلَةَ: هذاك ابْنُ حَنْظَلَةَ يبايع النَّاسَ، فقال: علىٰ ماذا؟ قال: عَلَىٰ الْمَوْتِ، قَالَ: لَا أُبَايِعُ عَلَىٰ هذا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ([4]).
وعن جَابِر رضي الله عنه قَالَ: لَمْ نُبَايِعْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ الْمَوْتِ إِنَّمَا بَايَعْنَاهُ عَلَىٰ أَنْ لَا نَفِرَّ([5]).
وقد ذكر ابن حجر أنه لا تعارض بين المبايعة علىٰ الموت وعلىٰ أن لا يفروا، حيث قال: وَقَدْ أَخْبَرَ سَلَمَة بن الْأَكْوَع – وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْت الشَّجَرَة- أَنَّهُ بَايَعَ عَلَىٰ الْمَوْت, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَىٰ أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْن قَوْلهمْ بَايَعُوهُ عَلَىٰ الْمَوْت، وَعَلَىٰ عَدَم الْفِرَار, لِأَنَّ الْمُرَاد بِالْمُبَايَعَة ِ عَلَىٰ الْمَوْت أَنْ لَا يَفِرُّوا وَلَوْ مَاتُوا, وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنْ يَقَع الْمَوْت وَلَا بُدّ([6]).
وعَنْ مَعْقِلِ بن يَسَارٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النَّاسَ، وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، قَالَ: لَمْ نُبَايِعْهُ عَلَىٰ الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَىٰ أَنْ لَا نَفِرَّ([7]).
سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يبايع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات:
عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لَا تُرْوِيهَا. قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ جَبَا الرَّكِيَّةِ([8])، فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا، قَالَ: فَجَاشَتْ فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَعَانَا لِلْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ ثُمَّ بَايَعَ وَبَايَعَ حَتَّىٰ إِذَا كَانَ فِي وَسَطٍ مِنْ النَّاسِ، قَالَ: «بَايِعْ يَا سَلَمَةُ!»، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ الله فِي أَوَّلِ النَّاسِ، قَالَ: «وَأَيْضًا»، قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَزِلًا – يَعْنِي لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ- قَالَ: فَأَعْطَانِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَجَفَةً أَوْ دَرَقَةً([9]) ثُمَّ بَايَعَ حَتَّىٰ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ، قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُنِي يَا سَلَمَةُ؟»، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ الله فِي أَوَّلِ النَّاسِ وَفِي أَوْسَطِ النَّاسِ، قَالَ: «وَأَيْضًا»، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا سَلَمَةُ أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ دَرَقَتُكَ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لَقِيَنِي عَمِّي عَامِرٌ عَزِلًا، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «إِنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الْأَوَّلُ: اللهمَّ أَبْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي»، ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ رَاسَلُونَا الصُّلْحَ، حَتَّىٰ مَشَىٰ بَعْضُنَا فِي بَعْضٍ وَاصْطَلَحْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ تَبِيعًا لِطَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله أَسْقِي فَرَسَهُ وَأَحُسُّهُ وَأَخْدِمُهُ، وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ، وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي مُهَاجِرًا إِلَىٰ الله وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا، فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا، قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَبْغَضْتُهُم ْ فَتَحَوَّلْتُ إِلَىٰ شَجَرَةٍ أُخْرَىٰ، وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَىٰ مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي: يَا لِلْمُهَاجِرِين َ قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ، قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي([10])، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَىٰ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ، وَهُمْ رُقُودٌ فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا([11]) فِي يَدِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنْ الْعَبَلَاتِ([12]) يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزٌ يَقُودُهُ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ فَرَسٍ مُجَفَّفٍ([13]) فِي سَبْعِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «دَعُوهُمْ يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ»([14])، فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ الله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الفتح: 24].
منزلة أهل بيعة الرِّضوان:
الذين قال الله تعالىٰ فيهم: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح: 18].
وعن جَابِر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ : «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ»، وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ([15]).
وعن أُمِّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ الله مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا»، قَالَتْ: بَلَىٰ يَا رَسُولَ الله، فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها)، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قَالَ الله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[مريم: 72]([16]).
وجَاءَ عبد لِحَاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ إلىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَ ةَ»([17]).
([1]) صحيح: أخرجه مسلم (1856)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة.
([2]) صحيح: أخرجه البخاري (3698)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان .
([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4169)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1860)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة.
([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4167)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1861)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة.
([5]) صحيح: أخرجه مسلم (1856)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة.
([6]) «فتح الباري» 6/137.
([7]) صحيح: أخرجه مسلم (1858)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان.
([8]) البئر.
([9]) الترس.
([10]) أي سللته.
([11]) حزمة.
([12]) بطن من قريش.
([13]) مجفف: أي عليه تجفاف وهو ثوب يلبسه الفرس ليقيه من السلاح.
([14]) أي: لهم بدء الفجور، وثناه: أي العوده إليه مرة ثانية، صحيح: أخرجه مسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد وغيرها.
([15]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4154)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1856)، كتاب: الإمارة، باب: بيعة الرضوان تحت الشجرة.
([16]) صحيح: أخرجه مسلم (2496)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان.
([17]) صحيح: سبق تخريجه.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
21- وفي مرجعهم من الحديبية عند ضَجْنان نزلت سورة الفتح علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهَنأَهُ المسلمون.
عن عبد الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ نَزَلُوا دَهَاسًا مِنْ الْأَرْضِ – يَعْنِي: الدَّهَاسَ الرَّمْلَ- فَقَالَ: «مَنْ يَكْلَؤُنَا؟»، فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَنْ تَنَمْ»، قَالَ: فَنَامُوا حَتَّىٰ طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَاسْتَيْقَظَ نَاسٌ مِنْهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وفِيهِمْ عُمَرُ، قَالَ: فَقُلْنَا: اهْضِبُوا – يَعْنِي: تَكَلَّمُوا- قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ»، قَالَ: فَفَعَلْنَا، قَالَ: وَقَالَ: «كَذَلِكَ فَافْعَلُوا، لِمَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ»([1])، قَالَ: وَضَلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَطَلَبْتُهَا، فَوَجَدْتُ حَبْلَهَا قَدْ تَعَلَّقَ بِشَجَرَةٍ، فَجِئْتُ بِهَا إِلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَ مَسْرُورًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَرَفْنَا ذَلِكَ فِيهِ، قال: فَتَنَحَّىٰ مُنْتَبِذًا([2]) خَلْفَنَا، قَالَ: فَجَعَلَ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ وَيَشْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّىٰ عَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَتَانَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) [الفتح: 1]([3]).
وعَنْ زَيْدِ بن أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بن الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ([4]) نَزَرْتَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»، ثُمَّ قَرَأَ: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) [الفتح: 1]([5]).
وعن أبي وَائِلٍ قَالَ: قَامَ سَهْلُ بن حُنَيْفٍ يوم صفين، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَىٰ قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، وذكك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فَجَاءَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، فأتىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَلَسْنَا عَلَىٰ الْحَقِّ وَهُمْ عَلَىٰ الْبَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَىٰ»، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَىٰ»، قَالَ: فَفيم نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا([6])، ونَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَنِي الله أَبَدًا»، قال: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فلم يصبر متغيظًا، فأتىٰ أبي بَكْر، فَقَالَ: يا أبا بكر أَلَسْنَا عَلَىٰ الْحَقِّ وَهُمْ عَلَىٰ الْبَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَىٰ»، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: «بَلَىٰ»، قَالَ: فعلام نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، ونَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يا ابن الخطاب إِنَّهُ رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَهُ الله أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ عُمَرَ إِلَىٰ آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فطابت نفسه ورجع([7]).
وعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بن مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) إِلَىٰ قَوْلِهِ: (فوزًا عظيمًا) [الفتح: 1- 5]، مَرْجِعَهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَهُمْ يُخَالِطُهُمْ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَ ةِ([8])، فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا جَمِيعًا»([9]).
قال ابن سعد:
أقام بالحديبية بضعة عشر يومًا، ويقال عشرين ليلة، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا بضجنان([10]) نزلت عليه: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) فقال جبريل: نهنئك يا رسول الله، وهنأه المسلمون([11]).
([1]) قوله صلى الله عليه وسلم: «افْعَلُوا كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ»، وقوله: «كَذَلِكَ فَافْعَلُوا، لِمَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ» أي: صلوا هذه الصلاة التي فات وقتها كما كنتم تصلونها في وقتها، وكذلك يفعل من نسىٰ صلاة أو نام عنها.
([2]) منتبذًا: أي مجتنبًا.
([3]) صحيح: أخرجه أحمد (4421)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
([4]) الثكل: فقدان المرأة ولدها، دعا عمر علىٰ نفسه بسبب ما وقع منه من الإلحاح، ويحتمل أن يكون لم يرد الدعاء علىٰ نفسه حقيقة وإنما هي من الألفاظ التي تقال عند الغضب من غير قصد معناها. (فتح).
([5]) صحيح: أخرجه البخاري (4833)، كتاب: التفسير.
([6]) الدنية: أي النقيصة، والحالة الناقصة. (نووي).
([7]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3182)، كتاب: الجزية، باب رقم 18، ومسلم (1785)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحديبية.
([8]) أي أنهم خالطهم الحزن والكآبة لأنه قد حيل بينهم وبين البيت فلم يعتمروا وقد كانوا جهزوا أنفسهم للعمرة حتىٰ إنهم قد نحروا الهدي.
([9]) صحيح: أخرجه مسلم (1786)، كتاب: الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية.
([10]) ضجنان: اسم جبل قريب من مكة.
([11]) «الطبقات الكبرىٰ» 2/94.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
22- وفي السنة السادسة من الهجرة: نزل فرض الحج.
قال ابن كثير رحمه الله:
فيها – أي: في سنة ست- نزل فرض الحج، كما قرره الشافعي ~، زمن الحديبية، في قوله تعالىٰ: ﮋﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖﮊ [البقرة: 196]. ولهذا ذهب إلىٰ أن الحج علىٰ التراخي لا علىٰ الفور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في سنة عشر، وخالفه الثلاثة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، فعندهم أن الحج يجب علىٰ كل من استطاعه علىٰ الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفادًا من قوله تعالىٰ: ﮋﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖﮊ وإنما في هذه الآية الأمر بالإتمام بعد الشروع فقط.اهـ([1]).
([1]) «البداية والنهاية» 4/202.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
23- وفي هذه السنة: حرمت المسلمات علىٰ المشركين.
قال ابن كثير رحمه الله:
وفي هذه السنة – سنة ست- حرمت المسلمات علىٰ المشركين، تخصيصًا لعموم ما وقع به الصلح عام الحديبية علىٰ أنه: لا يأتيك منا أحد، وإن كان علىٰ دينك، إلا رددته علينا.
فنزل قوله تعالىٰ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُن َّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) [الممتحنة: 10]([1]).
([1]) السابق.
-
رد: سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
بارك الله فيكم ، الموضوع قيم وطرحه منسق مثل ذكر معاني الكلمات في السيرة ومثل ذكر تخريج الأحاديث مع درجة صحتها، هناك اقتراح وهو ذكر الفوائد من أحداث السيرة ، وذلك في نهاية كل حادثة تذكر الفائدة منها على شكل نقاط ؟؟؟؟