بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ؛
فقد تأملت في تعقيب الأخوين أبا عاصم وإسلام على تخريجي لأول حديث في مصنف بن أبي شيبة ؛ فوجدت في ردهما علي من القصور والتحامل دون دليل علمي واضح أو منهج رفيق ناصح ، بل اتهماني بما أنا منه براء ، والله المستعان وعليه التكلان .
وحتى يتضح الأمر لكل عاقل لبيب بصير بعلوم الحديث ، ومناهج المحدثين في التخريج ، وحتى لا يغمط الحق حقه ، ويبخس الصحيح نصره ، لابد من الرد والبيان لما قدماه من اعتراضات بواسطة المسائل الآتية :
المسألة الأولى : قولهما : " هل من التخريج المتوسط أن تقتصر على طريق واحد ؟ " " وليس معنى الإختصار ، الإقتصار على بعض الطرق دون البعض ، فيصير التخريج كالطفل المشوه أو ناقص الأعضاء " .
قلت : وهذه شبهة واهية وحق أريد به باطل !.
فليس في تخريجي للحديث دليل على اقتصاري على طريق واحد ، وليس من منهجي ذلك ولا أدعوا إليه ، ويدل على ذلك أمور وهي كالآتي :
1- أن من تأمل أعمالي في هذا الملتقى وفي غيره ؛ يجدني من أحرص الناس على تتبع طرق ومتابعات وشواهد الحديث ، وانظروا جزاكم الله خيرا تخريجي لحديث " لا يزداد الأمر إلا شدة " في هذا الملتقى وتخريج حديث " كن في الدنيا كأنك غريب " وحديث " خسف القبائل " في ملتقى أهل الحديث ، وبحث المنهجية الثالثة من موضوعي فوائد مستفادة من كيفية تخريج الشيخ الألباني للأحاديث النبوية في هذا الملتقى .
فهذه الأعمال كلها ركزت فيها على ذكر متابعات الحديث وشواهده أنها من صميم علم تخريج الحديث النبوي .
2- أن في تخريجي الإحالة إلى طرق الحديث بقولي : " كلهم من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك به " فهذه الجملة تفيد - لوكان للمعترض فهم سليم لعلم التخريج - أن الحديث ورد من طرق متعددة ومن متابعات متعددة ولكنها تلتقي في عبد العزيز بن صهيب .
ويتجلى ذلك أيضا في الإحالة على " الإرواء " وباقي كتب الشيخ الألباني رحمه الله .
3- أن الحديث إذا كان متفق عليه فقد أغنى وكفى عن النظر في متابعاته - إذا كان الغرض من التخريج بيان هل هو صحيح أم ضعيف - أما إذا كان من أهداف المخرج التوسع في البحث فهي من نوافل البحث إذا كان الحديث متفق عليه ، مثل هذا الحديث .
ولذلك يكتفي الشيخ الألباني رحمه الله في كتبه بذكر أنه أخرجه الشيخان وغيرهما .والدليل على ذلك الأمثلة الآتية : الأول : قال رحمه الله في " أحكام الجنائز " ( 1/ 29) في ما يحرم على أقارب الميت :
" ب ج . ضرب الخدود ، وشق الجيوب لقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعى بدعوى الجاهلية " .
رواه البخاري (3/ 127- 128، 129) ومسلم ( 1/ 70) وابن الجارود (257) والبيهقي (4/ 63-64) وغيرهم من حديث ابن مسعود " .
الثاني : حديث المرأة التي تقم المسجد قال في " الإرواء " (3/ 184) " أخرجه البخاري (1/ 235) ومسلم (3/ 56) وأبو داود ( 3203) وابن ماجه ( 1527) والبيهقي ( 4/ 47) وأحمد ( 2/ 388) ، وليس عند البخاري وأبي داود وابن ماجه قوله : " إن هذه القبور .." .
الثالث : قال في " السلسلة الصحيحة " (2/ 277) ( رقم 668) في حديث : " لآية الإيمان حب الأنصار ولآية المنافق بغض الأنصار " :
" أخرجه البخاري (1/ 10/ 4/ 223) ومسلم ( 1/ 60) والنسائي (2/ 271) والطيالسي (ص281رقم 1101) وأحمد ( 3/ 130/ 134/ 249) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا ، ولفظه عند مسلم والنسائي على القلب : " حب الأنصار آية الإيمان ، وبغض الأنصار آية النفاق " .
4- إنني لو اكتفيت بقولي " متفق عليه " لأعجبهم الأمر وراقهم - لأن هذا ما دأب عليه كثير من المخرجين قديما وحديثا ؛ ولا ضير فيه - فإذا زدت في تخريجه وفصلت بعض الشيء في روايته ؛ فهذا مذموم حسب زعمهم ، سبحان الله !.5- أن الشيخ الألباني رحمه الله المحدث الذي شهد له العالم بالإتقان والرسوخ في علم الحديث قد خرج هذا الحديث ، ولم يذكر فيه إلا متابعا واحدا بشكلا صريح ؛ لما أراد بيان متى يقال هذا الدعاء فقال في تخريج هذا الحديث في " الإرواء " (1/ 91) :
" * صحيح .
أخرجه الجماعة كما قال المصنف تبعا للمجد ابن تيمية في " المنتقى " ويعني بهم أصحاب الكتب الستة وأحمد في المسند :
أخرجه البخاري ( 1/ 195، 11/ 109) وفي " الأدب المفرد " ( رقم 692) ومسلم ( 1/ 195) وكذا أبو عوانة في صحيحه (1/ 216) وأبو داود (1/ 2) والنسائي ( 1/ 9) والترمذي (1/ 10) وابن ماجه (1/ 128) وأحمد ( 3/ 99، 101، 282) . وقال الترمذي " حديث حسن صحيح " .
وأخرجه أيضا الدارمي ( 1/ 171) والبيهقي (1/ 95) وابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم 16) من طرق عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس به .
وقد ثبت الأمر بهذه الإستعاذة عند إرادة الخلاء ، أخرجه أبو داود عن زيد بن أرقم مرفوعا بسند صحيح ، وقد خرجته في "صحيح السنن " ( رقم 4) .انتهى
قلت : ولو كان واجبا في مثل هذا الحديث ذكر كل متابعاته وشواهده لكان أولى الناس بذلك الشيخ الألباني رحمه الله ؛ فتأمل رحمك الله منصفا !.
6- أنني لم أذكر في منهجي أني لا أتعرض لمتابعات الحديث وشواهده ؛ وإنما قلت - بالحرف -
" والمقصود أنني اشترطت على نفسي أن يكون التخريج وسطا ، أحرص فيه على حديث المصنف وأسنده للمصادر المعتبرة دون التوسع في بيان متابعاته وشواهده "
ولم أقل " دون البحث في بيان متابعاته وشواهده " !!؟
وفرق كبير بين قول القائل " دون التوسع " وبين قوله " دون التوسع " فتأمل !.
وقد ذكرت بعض متابعاته لما سئلت عنها وهذا واضح للعيان .
وإن وصفك للتخريج الذي لم يذكر فيه متابعاته وشواهده " بالطفل المشوه أو ناقص الأعضاء " !!
ليس بصحيح ، والحديث متفق عليه ، والمخرج قد اطلع عليها ، بل لا يفعل ذلك إلا من لم يجرب أبدا التخريج ولا في أحلامه ، ولم يتجرأ على ركوب أهواله واقتحام صعابه .
ولعل في هذا القدر تفنيد قوي لهذه الشبهة الأولى الواهية .المسألة الثانية : قول الأخ الكريم " لابد لك من الاستيفاء في جميع طرق الحديث كلها بشواهده باختلاف أسانيده كلها "
وقال لابد من الحديث عن مدار الحديث وعلله وما المحفوظ منه وغير المحفوظ ..
والجواب :أن هذا كلام صحيح بشرطين أساسين وهما :الأول : إذا درس المحدث إسناد الحديث في بعض المصنفات الحديثية وبان له أنها ضعيفة فينبغي له أن لا يحكم على الحديث بالضعف حتى يستفرغ وسعه في جمع كل طرقه ومتابعاته وشواهده ، وينظر في أسانيدها ومتونها وعللها والمحفوظ منها وغير المحفوظ .الشرط الثاني :أن لا يكون الحديث قد صح بإخرجه في أحد الكتب التي اشترطت الصحة وأعني البخاري ومسلم فقط .
أما إذا ثبت لدى الباحث أن الحديث قد صح في الصحيحين فيحق له الحكم عليه بأنه صحيح ، ولو لم يجمع كل طرقه ومتابعاته وشواهده .
فالحديث المتفق عليه لا يلزم الباحث البحث عن كل طرقه ليحكم عليه بإنه صحيح .
وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى كثير تدبر .
وانظر حكم الشيخ الألباني على حديث بأنه متبق عليه في " المشكاة " ( 1/ 15) وحديث اليمين الغموس (1/ 22) وفي هذا رد أيضا على التعقيب تحت رقم (5) من ردك .
وهذا صنيع المحدثين قديما والدليل على ذلك قول الحافظ العراقي في " المغني عن حمل الأسفار " ( 1/ 12) في حديث الناس معادن :
" متفق عليه من حديث أبي هريرة " .
وغيره من المحدثين الأوائل رحمة الله عليهم أجمعين .
وأقول من خلال تجربتي إن جمع كل طرق الحديث ومتابعاته وشواهده كما هي موجودة على أرض الواقع لا يمكن أن يدعيه أحد في كل حديث ؛ إذ أن كل مصنف لابد أن يترك لمن بعده شيئا مما يستدرك عليه ، قصد ذلك أم لم يقصده ، ومن تأمل تعقيبات المشايخ الألباني والحويني وأحمد شاكر وابن حجر والزيلعي رحمة الله عليهم وحفظه للأحياء منهم ، على من سبقهم في التخريج لعلم علم اليقين أن من ادعى أنه جمع كل طرق الحديث وشواهده حتى لم يغب عنه شيء من أبعد الأمور وأصعبها تحققا في كل حديث .
وأنى له ذلك وقد تفرق الصحابة رضي الله عنهم في المدن والأمصار ، وتشعبت الأسانيد ، ولا يزال إلى يومنا هذا مخطوطات حديثية لم ترى النور بعد ، وهذا الشيخ الألباني رحمه الله كثيرا ما يقف على أسانيد في مخطوطات المكتبة الظاهرية مما لم يقف عليه غيره !.
هذا من جهة ومن جهة أخرى يبقى الواجب أن يستفرغ الباحث وسعه في دراسة الحديث ، ويبدل طاقته ، والمرء فوق طاقته لا يلام ؛ وإنما المقصر وغير المتأهل للدخول في علم لم يضبطه بعد ، ومن علم شيئا غابت عنه أشياء .
وأضف إلى ذلك أن استيفاء الكلام حول الحديث بجميع طرقه ومتابعاته وشواهده وعلله وزوائده وألفاظه والمحفوظ منها وغير المحفوظ مما يصعب حصره ، إذا كان للحديث متابعات وشواهد وألفاظ كثيرة وعلل متنوعة وأسانيد نازلة .
أما الحديث عن ذلك بشكل موسع غير من غير حصر وإحاطة فيمكن كما يفعله الشيخ الألباني رحمه الله في " الثمر المستطاب " وفي " الإرواء " و " السلسلتين " .
ولكي تتأكد من قولي هذا خذ حديثا مما اتفق عليه الشيخان وحاول تقصي كل أسانيده ومتابعاته وشواهده وألفاظه واحدة واحدة .
وإنما يذكر المرئ ما وصل إليه علمه ، وبلغه جهده ، ويحقق الغاية منه ، ويذكر المؤلف الآخر من الفوائد ما يكمل به الآخر ، فالعمر لا يكفي للتوسع في كل شيء .
المسألة الثالثة : في الاعتراضات على نقل أحكام الشيخ الألباني رحمه الله على الأحاديث النبوية .
( ولي تممة بإذن الله عما قريب )