من عجائب مَحَبَّة المرأة لِضَرَّتِها!قال المؤرِّخ النابغة عبد الرحمن الجَبَرْتِي في تاريخه «عجائب الآثار» في غضون ترجمته الماتعة لأمه:
«وكانت من الصالحات الخَيِّرات المَصُونات، وحجَّتْ صُحْبَته - يعني في صُحْبة أبيه- في سنة إحدى وخمسين (يعني: بعد المئة والألف من الهجرة) وكانت به-يعني أباه- بارَّة، وله مُطِيعة.
ومن جملة بِرِّها له - يعني لأبيه- وطاعتها أنها كانت تشتري له من السَّرَارِي (السَّرَاري: الجواري. مفرد سُرِّيَّة.) الحِسَان من مالها وتُنَظِّمُهن بالحُلِيِّ والملابس، وتُقدِّمهن إليه، وتعتقد حصول الأجر والثواب لها بذلك (1).
وكان يتزوج عليها كثيرًا من الحَرائِر، ويشتري الجواري فلا تتأثَّر من ذلك، ولا يحصل عندها ما يحصل في النساء من الغَيْرة (2).
ومن الوقائع الغريبة: أنه لمَّا حج المترْجَم-يعني أباه العلامة حسن الجبرتي- في سنة ست وخمسين (3) واجتمع به الشيخ عمر الحلبي بمكة أوصاه بأن يشتري له جارية بيضاء تكون بِكْرًا دون البلوغ وصِفَتُها كذا وكذا.
فلما عاد من الحج طلب من اليسرجية (يعني: بائعِي الجواري.) الجواري لِيُنقِّي منهن المطلوب فلم يزل حتى وقع على الغرض، فاشتراها وأدخلها عند زوجته المذكورة-يعني أمه- حتى يرسلها مع مَنْ أوصاه بإرسالها صحْبته.
فلما حضر وقت السفر أخبرها بذلك لتعمل لهم ما يجب من الزُّوَّادة ونحو ذلك.
فقالت له: «إني أحببت هذه الوصِيفة حبًّا شديدًا، ولا أقدر على فراقها، وليس لي أولاد، وقد جعلتُها مثل ابنتي».
والجارية بكَتْ أيضًا وقالت: «لا أُفارِق سيدتي، ولا أذهب من عندها أبدًا».
فقال: وكيف يكون العمل؟ قالت: ادْفَع ثمنها من عندي واشْترِ أنت غيرها، ففعل. ثم إنها أعتقتْها وعقدَتْ له عليها، (4) وجهَّزَتْها وفرَشَتْ لها مكانًا على حِدَتِها.
وبَنَى بها (يعني دخل بها.) في سنة خمس وستين، وكانت لا تقدر على فراقها (يعني أمه لا تقدر على فراق الجارية التي صارت ضَرَّة لها) ساعة مع كونها صارت ضَرَّتَها، وولدتْ له أولادًا.
فلما كان في سنة اثنين وثمانين المذكورة مرضت الجارية فمرضتْ لمرضِها- يعني أمه مرضت حزنًا على مرض ضَرَّتها! - فقامت الجارية في ضَحْوة النهار فنظرت إلى مولاتها -يعني أمه- وكانت في حالة غطوسها (يعني: شدة مرضها.) فبكتْ، وقالت: «إلهي وسيدي إنْ كنتَ قدَّرْتَ بموت سيدتي (5) اجعلْ يومي قبل يومها»!
ثم رقدَتْ وزاد بها الحال وماتت تلك الليلة. فأضْجَعوها بجانبها (يعني بجانب أمه) فاستيقظتْ مولاتها-يعني: أمه- آخر الليل وجسَّتْها بيدها وصارت تقول: «زليخا .. زليخا .. » (زليخا: هو اسم الجارية.).
فقالوا: «إنها نائمة»! (كأنهم لم يكونوا شعروا بكونها ماتت!).
فقالت: «إن قلبي يُحدِّثني أنها ماتت! ورأيت في منامي ما يدل على ذلك».
فقالوا لها: «حياتُكِ الباقية»! فلما تحققتْ ذلك قامتْ وجلستْ وهي تقول: «لا حياة لي بعدها»
وصارت تبكي وتنْحُب حتى طلع النهار، وشرعوا في تشْهيلها (يعني: تجهيزها للدفْن) وتجهيزها، وغسَّلوها بين يديها، وشالوا جنازتها، ورجعَتْ-يعني أمه- إلى فراشها، ودخلت في سكرات الموت، وماتت آخر النهار! وخرجوا بجنازتها أيضا في اليوم الثاني.
قال الجبرتي: «وهذا من أعجب ما شاهدتُه ورأيتُه ووعيتُه، وكان سِنِّي إذ ذاك أربع عشرة سنة». (6)
حول القصة:
قلت: هذه القصة أعجب ما قرأتُ في وفاء النساء وإخلاصهن في حق ضَرَّاتهن! فقد صِرْنا في زمان تكون الضَرَّة (7) الصالحة هي مَنْ تَسْلَم ضرَّتُها مِنْ أذاها وبَطْشِها! ولو أطلقتُ لقلمي العَنان في ذلك لَسَطَرْتُ في تلك المآسي مجلدات!
ولكن ما الحيلة وقد ضعُف الإيمان في قلوب الناس! وخارتْ عزائمهم من الأساس! وصار كثير من الرجال في يد زوجاتهن أوهنَ من العصفور في يد الصيَّاد! فلا كلام لهم عليهن! ولا سبيل لإرضائن إلا بتضييع رجولتهم، وتمزيق نخْوتهم! ففسد بذلك الحال، وتبدَّلتِ الأحوال! وأمسى المُنْكَرُ معروفًا والمعروف مُنْكَرًا!
وحسبنا الله ونِعْم الوكيل.
------- الحاشية --------
(1) قلت: ولا شك أن الله سيجزيها خيرًا على ذلك إن كانت تقصد به التودد إلى زوجه والسعْيَ في رضاه.
(2) وهذا من كمال عقل تلك المرأة وجميل أخلاقها. وأين نساء أهل زماننا منها!
(3) يعني: بعد المئة والألف من الهجرة. أي: (سنة 1156/للهجرة).
(4) يعني: قامتْ بتزويجها من زوجها! فانظر إلى كمال عقل تلك المرأة؟
(5) تقصد بها: أُمَّ الجبرتي ومولاتها التي قامت بتزويجها من زوجها.
(6) انظر: «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» [1/ 613 - 614/طبعة دار الكتب المصرية].
(7) الضرة: بفتح الضاد جَمْعُ ضرَّات وضرائر، وهي إحدى زوجات الرجل المتزوج بأكثر من واحدة. وضَرَّةُ المرأة: امرأة زوجها، وسُمِّيَتْ بذلك لِمَا بينهما من المُضارَّة. ويُخْطِئ مَن ينطق: «الضَّرَّة» بضم الضادة فيقول: «ضُرَّة»! فانتبه يا رعاك الله.