رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 86 الى صــ 95
الحلقة (357)
[ قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين
قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا هو تسلية للمؤمنين في تخلف [ ص: 86 ] المنافقين عنهم . والخبال : الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف . وهذا استثناء منقطع ، أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال . وقيل : المعنى لا يزيدونكم فيما يترددون فيه من الرأي إلا خبالا ، فلا يكون الاستثناء منقطعا .
قوله تعالى ولأوضعوا خلالكم المعنى لأسرعوا فيما بينكم بالإفساد . والإيضاع ، سرعة السير . وقال الراجز :
يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
يقال : وضع البعير إذا عدا ، يضع وضعا ووضوعا إذا أسرع السير . وأوضعته حملته على العدو . وقيل : الإيضاع سير مثل الخبب . والخلل الفرجة بين الشيئين ، والجمع الخلال ، أي الفرج التي تكون بين الصفوف . أي لأوضعوا خلالكم بالنميمة وإفساد ذات البين .
يبغونكم الفتنة مفعول ثان . والمعنى يطلبون لكم الفتنة ، أي الإفساد والتحريض . ويقال : أبغيته كذا أعنته على طلبه ، وبغيته كذا طلبته له . وقيل : الفتنة هنا الشرك .
وفيكم سماعون لهم أي عيون لهم ينقلون إليهم الأخبار منكم . قتادة : وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم . النحاس : القول الأول أولى ؛ لأنه الأغلب من معنييه أن معنى سماع يسمع الكلام ، ومثله سماعون للكذب . والقول الثاني لا يكاد يقال فيه إلا سامع ، مثل قائل .
[ قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون
قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة من قبل أي لقد طلبوا الإفساد والخبال من قبل أن يظهر أمرهم ، وينزل الوحي بما أسروه وبما سيفعلونه . وقال ابن جريج : أراد اثني عشر رجلا من المنافقين ، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وقلبوا لك الأمور أي صرفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت به
حتى جاء الحق وظهر أمر الله أي دينه وهم كارهون
[ ص: 87 ] قوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون
قوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لي من أذن يأذن . وإذا أمرت زدت همزة مكسورة وبعدها همزة هي فاء الفعل ، ولا يجتمع همزتان ، فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت إيذن . فإذا وصلت زالت العلة في الجمع بين همزتين ، ثم همزت فقلت : ومنهم من يقول ائذن لي وروى ورش عن نافع " ومنهم من يقول اوذن لي " خفف الهمزة . قال النحاس : يقال إيذن لفلان ثم إيذن له هجاء الأولى والثانية واحد بألف وياء قبل الذال في الخط . فإن قلت : إيذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء ؛ وكذا الفاء . والفرق بين ثم والواو أن ثم يوقف عليها وتنفصل ، والواو والفاء لا يوقف عليهما ولا ينفصلان . قال محمد بن إسحاق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس أخي بني سلمة لما أراد الخروج إلى تبوك : يا جد ، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصفاء ؟ فقال الجد : قد عرف قومي أني مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قد أذنت لك فنزلت هذه الآية . أي لا تفتني بصباحة وجوههم ، ولم يكن به علة إلا النفاق . قال المهدوي : والأصفر رجل من الحبشة كانت له بنات لم يكن في وقتهن أجمل منهن وكان ببلاد الروم . وقيل : سموا بذلك لأن الحبشة غلبت على الروم ، وولدت لهم بنات فأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة ، فكن صفرا لعسا . قال ابن عطية : في قول ابن أبي إسحاق فتور . وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اغزوا تغنموا بنات الأصفر . فقال له الجد : إيذن لنا ولا تفتنا بالنساء وهذا منزع غير الأول ، وهو أشبه بالنفاق والمحادة . ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد بن قيس منهم : [ ص: 88 ] من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس ، غير أنه بخيل جبان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور . فقال حسان بن ثابت الأنصاري فيه :
وسود بشر بن البراء لجوده وحق لبشر بن البرا أن يسودا إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله
وقال خذوه إنني عائد غدا
ألا في الفتنة سقطوا أي في الإثم والمعصية وقعوا . وهي النفاق والتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي مسيرهم إلى النار ، فهي تحدق بهم .
قوله تعالى إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة شرط ومجازاة ، وكذا وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل عطف عليه . والحسنة : الغنيمة والظفر . والمصيبة الانهزام .
ومعنى قولهم : أخذنا أمرنا من قبل أي احتطنا لأنفسنا ، وأخذنا بالحزم فلم نخرج إلى القتال .
ويتولوا أي عن الإيمان .
وهم فرحون أي معجبون بذلك .
[ قوله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قوله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا قيل : في اللوح المحفوظ . وقيل : ما أخبرنا به في كتابه من أنا إما أن نظفر فيكون الظفر حسنى لنا ، وإما أن نقتل فتكون الشهادة أعظم حسنى لنا . والمعنى كل شيء بقضاء وقدر . وقد تقدم في ( الأعراف ) أن العلم والقدر والكتاب سواء وقراءة الجمهور يصيبنا نصب ب " لن " . وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها . وقرأ طلحة بن مصرف " هل يصيبنا " وحكي عن أعين قاضي الري أنه قرأ " قل لن يصيبنا " بنون مشددة . وهذا لحن ، لا يؤكد بالنون ما كان خبرا ، ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز . قال الله تعالى : هل يذهبن كيده ما يغيظ .
[ ص: 89 ] قوله تعالى قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون قوله تعالى قل هل تربصون بنا والكوفيون يدغمون اللام في التاء . فأما لام المعرفة فلا يجوز إلا الإدغام ، كما قال جل وعز : التائبون لكثرة لام المعرفة في كلامهم ولا يجوز الإدغام في قوله : قل تعالوا لأن ( قل ) معتل ، فلم يجمعوا عليه علتين . والتربص الانتظار . يقال : تربص بالطعام ، أي انتظر به إلى حين الغلاء .
والحسنى تأنيث الأحسن . وواحد الحسنيين حسنى ، والجمع الحسنى . ولا يجوز أن ينطق به إلا معرفا . لا يقال : رأيت امرأة حسنى . والمراد بالحسنيين الغنيمة والشهادة ، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . واللفظ استفهام والمعنى توبيخ .
ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي عقوبة تهلككم كما أصاب الأمم الخالية من قبلكم .
أو بأيدينا أي يؤذن لنا في قتالكم .
فتربصوا تهديد ووعيد . أي انتظروا مواعد الشيطان إنا منتظرون مواعد الله .
قوله تعالى قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين فيه أربع مسائل الأولى : قال ابن عباس : نزلت في الجد بن قيس إذ قال ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به . ولفظ ( أنفقوا ) أمر ، ومعناه الشرط والجزاء . وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي ب " أو " كما قال الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
والمعنى إن أسأت أو أحسنت فنحن على ما تعرفين .
ومعنى الآية : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم . ثم بين جل وعز لم لا يقبل منهم فقال : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله فكان في هذا أدل دليل ، وهي :
الثانية : على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا [ ص: 90 ] يثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة ، بيد أنه يطعم بها في الدنيا . دليله ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ؟ قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين . وروي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها . وهذا نص . ثم قيل : هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر ويعطى بحسناته في الدنيا أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله : عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وهذا هو الصحيح من القولين ، والله أعلم . وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما هو بحسب ظن الكافر ، وإلا فلا يصح منه قربة ، لعدم شرطها المصحح لها وهو الإيمان . أو سميت حسنة لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا . قولان أيضا .
الثالثة : فإن قيل : فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي رسول الله ، أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلمت على ما أسلفت من خير قلنا قوله : أسلمت على ما أسلفت من خير مخالف ظاهره للأصول ؛ لأن الكافر لا يصح منه التقرب لله تعالى فيكون مثابا على طاعته ؛ لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه ، فإذا عدم الشرط انتفى صحة المشروط . فكان المعنى في الحديث : إنك اكتسبت طباعا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الإسلام . وذلك أن حكيما رضي الله عنه عاش مائة وعشرين سنة ، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية ، فأعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بعير ؟ وكذلك فعل في الإسلام . وهذا واضح . وقد قيل : لا يبعد في كرم الله أن يثيبه على فعله ذلك بالإسلام ، كما يسقط عنه ما ارتكبه في حال كفره من الآثام . وإنما لا يثاب من لم يسلم ولا تاب ، ومات [ ص: 91 ] كافرا . وهذا ظاهر الحديث . وهو الصحيح إن شاء الله . وليس عدم شرط الإيمان في عدم ثواب ما يفعله من الخير ثم أسلم ومات مسلما بشرط عقلي لا يتبدل ، والله أكرم من أن يضيع عمله إذا حسن إسلامه . وقد تأول الحربي الحديث على هذا المعنى فقال : أسلمت على ما أسلفت ، أي ما تقدم لك من خير عملته فذلك لك . كما تقول : أسلمت على ألف درهم ، أي على أن أحرزها لنفسه . والله أعلم .
الرابعة : فإن قيل : فقد روى مسلم عن العباس قال قلت يا رسول الله : إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح . قيل له : لا يبعد أن يخفف عن الكافر بعض العذاب بما عمل من الخير ، لكن مع انضمام شفاعة ، كما جاء في أبي طالب . فأما غيره فقد أخبر التنزيل بقوله : فما تنفعهم شفاعة الشافعين . وقال مخبرا عن الكافرين : فما لنا من شافعين . ولا صديق حميم وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه . من حديث العباس رضي الله عنه : ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .
قوله تعالى إنكم كنتم قوما فاسقين أي كافرين .
[ قوله تعالى وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم " أن " الأولى في [ ص: 92 ] موضع نصب ، والثانية في موضع رفع . والمعنى : وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ الكوفيون " أن يقبل منهم " بالياء ؛ لأن النفقات والإنفاق واحد .
الثانية : قوله تعالى ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى قال ابن عباس : إن كان في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل ، وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابا ولا يخشى في تركها عقابا . فالنفاق يورث الكسل في العبادة لا محالة . وقد تقدم في ( النساء ) القول في هذا كله . وقد ذكرنا هناك حديث العلاء موعبا . والحمد لله .
الثالثة : قوله تعالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون لأنهم يعدونها مغرما ، ومنعها مغنما ، وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبلة ولا مثاب عليها حسب ما تقدم .
[ قوله تعالى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون أي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج إنما يريد الله ليعذبهم بها قال الحسن : المعنى بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله . وهذا اختيار الطبري . وقال ابن عباس وقتادة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وهذا قول أكثر أهل العربية ، ذكره النحاس . وقيل : يعذبهم بالتعب في الجمع . وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير ، وهو حسن . وقيل : المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لأنهم منافقون ، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون .
وتزهق أنفسهم وهم كافرون نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين ، سبق بذلك القضاء .
ويحلفون بالله إنهم لمنكم بين أن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون . نظيره إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية . والفرق الخوف ، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا .
قوله تعالى لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون
[ ص: 93 ] قوله تعالى لو يجدون ملجأ كذا الوقف عليه . وفي الخط بألفين : الأولى همزة ، والثانية عوض من التنوين ، وكذا رأيت جزءا . والملجأ الحصن ، عن قتادة وغيره . ابن عباس : الحرز ، وهما سواء . يقال : لجأت إليه لجأ " بالتحريك " وملجأ والتجأت إليه بمعنى . والموضع أيضا لجأ وملجأ . والتلجئة الإكراه . وألجأته إلى الشيء اضطررته إليه . وألجأت أمري إلى الله أسندته . وعمرو بن لجأ التميمي الشاعر عن الجوهري .
أو مغارات جمع مغارة ، من غار يغير . قال الأخفش : ويجوز أن يكون من أغار يغير ، كما قال الشاعر :
الحمد لله ممسانا ومصبحنا
قال ابن عباس : المغارات الغيران والسراديب ، وهي المواضع التي يستتر فيها ، ومنه غار الماء وغارت العين .
أو مدخلا مفتعل من الدخول ، أي مسلكا نختفي بالدخول فيه ، وأعاده لاختلاف اللفظ . قال النحاس : الأصل فيه مدتخل ، قلبت التاء دالا ؛ لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج واحد . وقيل : الأصل فيه متدخل على متفعل ، كما في قراءة أبي : " أو متدخلا " ومعناه دخول بعد دخول ، أي قوما يدخلون معهم . المهدوي : متدخلا من تدخل مثل تفعل إذا تكلف الدخول . وعن أبي أيضا : مندخلا من اندخل ، وهو شاذ ؛ لأن ثلاثيه غير متعد عند سيبويه وأصحابه . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن : " أو مدخلا " بفتح الميم وإسكان الدال . قال الزجاج : ويقرأ " أو مدخلا " بضم الميم وإسكان الدال . الأول من دخل يدخل . والثاني من أدخل يدخل . كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه :
مغار ابن همام على حي خثعما
وروي عن قتادة وعيسى والأعمش " أو مدخلا " بتشديد الدال والخاء . والجمهور بتشديد الدال وحدها ، أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم . فهذه ست قراءات . لولوا إليه أي لرجعوا إليه . وهم يجمحون أي يسرعون ، لا يرد وجوههم شيء . من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام . قال الشاعر :
سبوحا جموحا وإحضارها كمعمعة السعف الموقد
والمعنى : لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين .
[ ص: 94 ] قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات أي يطعن عليك ، عن قتادة . الحسن : يعيبك . وقال مجاهد : أي يروزك ويسألك . النحاس : والقول عند أهل اللغة قول قتادة والحسن . يقال : لمزه يلمزه إذا عابه . واللمز في اللغة العيب في السر . قال الجوهري : اللمز العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها ، وقد لمزه يلمزه ويلمزه وقرئ بهما ومنهم من يلمزك في الصدقات . ورجل لماز ولمزة أي عياب . ويقال أيضا : لمزه يلمزه إذا دفعه وضربه . والهمز مثل اللمز . والهامز والهماز العياب ، والهمزة مثله . يقال : رجل همزة وامرأة همزة أيضا . وهمزه أي دفعه وضربه . ثم قيل : اللمز في الوجه ، والهمز بظهر الغيب . وصف الله قوما من المنافقين بأنهم عابوا النبي صلى الله عليه وسلم في تفريق الصدقات ، وزعموا أنهم فقراء ليعطيهم . قال أبو سعيد الخدري بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالا إذ جاءه حرقوص بن زهير أصل الخوارج ، ويقال له ذو الخويصرة التميمي ، فقال : اعدل يا رسول الله . فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فنزلت الآية . حديث صحيح أخرجه مسلم بمعناه . وعندها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق . فقال : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية .
[ قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله جواب ( لو ) محذوف ، التقدير لكان خيرا لهم .
[ ص: 95 ] قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم
فيه ثلاثون مسألة :
الأولى : قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء خص الله سبحانه بعض الناس بالأموال دون بعض نعمة منه عليهم ، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يؤدونه إلى من لا مال له ، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بقوله : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها .
الثانية : قوله تعالى ( للفقراء ) تبيين لمصارف الصدقات والمحل ، حتى لا تخرج عنهم . ثم الاختيار إلى من يقسم ، هذا قول مالك وأبي حنيفة وأصحابهما . كما يقال : السرج للدابة والباب للدار . وقال الشافعي : اللام لام التمليك ، كقولك : المال لزيد وعمرو وبكر ، فلا بد من التسوية بين المذكورين . قال الشافعي وأصحابه : وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين . واحتجوا بلفظة ( إنما ) وأنها تقتضي الحصر في وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وعضدوا هذا بحديث زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبعث إلى قومي جيشا فقلت : يا رسول الله : احبس جيشك فأنا لك بإسلامهم وطاعتهم ، وكتبت إلى قومي فجاء إسلامهم وطاعتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أخا صداء المطاع في قومه . قال : قلت : بل من الله عليهم وهداهم ، قال : ثم جاءه رجل يسأله عن الصدقات ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك رواه أبو داود والدارقطني . واللفظ للدارقطني . وحكي عن زين العابدين أنه قال : إنه تعالى علم قدر ما يدفع من الزكاة وما تقع به الكفاية لهذه الأصناف ، وجعله حقا لجميعهم ، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم . وتمسك علماؤنا بقوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم . والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض . وقال صلى الله عليه وسلم : أمرت أن آخذ الصدقة من [ ص: 96 ] أغنيائكم وأردها على فقرائكم . وهذا نص في ذكر أحد الأصناف الثمانية قرآنا وسنة ، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وحذيفة . وقال به من التابعين جماعة . قالوا : جائز أن يدفعها إلى الأصناف الثمانية ، وإلى أي صنف منها دفعت جاز . روى المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة في قوله : إنما الصدقات للفقراء والمساكين قال : إنما ذكر الله هذه الصدقات لتعرف ، وأي صنف منها أعطيت أجزأك . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس إنما الصدقات للفقراء والمساكين قال : في أيها وضعت أجزأ عنك . وهو قول الحسن وإبراهيم وغيرهما . قال الكيا الطبري : حتى ادعى مالك الإجماع على ذلك . https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 96 الى صــ 105
الحلقة (358)
قلت : يريد إجماع الصحابة ، فإنه لا يعلم لهم مخالف منهم على ما قال أبو عمر ، والله أعلم . ابن العربي : والذي جعلناه فيصلا بيننا وبينهم أن الأمة اتفقت على أنه لو أعطي كل صنف حظه لم يجب تعميمه ، فكذلك تعميم الأصناف مثله . والله أعلم .
الثالثة : واختلف علماء اللغة وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال : فذهب يعقوب بن السكيت والقتبي ويونس بن حبيب إلى أن الفقير أحسن حالا من المسكين . قالوا : الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه ، والمسكين الذي لا شيء له ، واحتجوا بقول الراعي :
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبد الوهاب ، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام ، يقال : حلوبته وفق عياله أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه ، عن الجوهري . وقال آخرون بالعكس ، فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير . واحتجوا بقوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر . وربما ساوت جملة من المال . وعضدوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من الفقر . وروي عنه أنه قال : اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا . فلو كان المسكين [ ص: 97 ] أسوأ حالا من الفقير لتناقض الخبران ، إذ يستحيل أن يتعوذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالا منه ، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مال مما أفاء الله عليه ، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية ، ولذلك رهن درعه . قالوا : وأما بيت الراعي فلا حجة فيه ؛ لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حلوبة في حال . قالوا : والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نزعت فقره من ظهره من شدة الفقر فلا حال أشد من هذه . وقد أخبر الله عنهم بقوله : لا يستطيعون ضربا في الأرض . واستشهدوا بقول الشاعر :
لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل
أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض . ذهب إلى هذا الأصمعي وغيره ، وحكاه الطحاوي عن الكوفيين . وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه . وللشافعي قول آخر : أن الفقير والمسكين سواء ، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم ، وهو القول الثالث . وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك ، وبه قال أبو يوسف .
قلت : ظاهر اللفظ يدل على أن المسكين غير الفقير ، وأنهما صنفان ، إلا أن أحد الصنفين أشد حاجة من الآخر ، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفا واحدا ، والله أعلم . ولا حجة في قول من احتج بقوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم ، كما يقال : هذه دار فلان إذا كان ساكنها وإن كانت لغيره . وقد قال تعالى في وصف أهل النار : ولهم مقامع من حديد فأضافها إليهم . وقال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم . وقال صلى الله عليه وسلم : " من باع عبدا وله مال " وهو كثير جدا يضاف الشيء [ ص: 98 ] إليه وليس له . ومنه قولهم : باب الدار . وجل الدابة ، وسرج الفرس ، وشبهه . ويجوز أن يسموا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف ، كما يقال لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية ؛ مسكين . وفي الحديث : " مساكين أهل النار " وقال الشاعر :
مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها تراب الذل بين المقابر
وأما ما تأولوه من قوله عليه السلام : اللهم أحيني مسكينا الحديث . رواه أنس ، فليس كذلك ، وإنما المعنى هاهنا : التواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا نخوة ، ولا كبر ولا بطر ، ولا تكبر ولا أشر . ولقد أحسن أبو العتاهية حيث قال :
إذا أردت شريف القوم كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي عظمت في الله رغبته وذاك يصلح للدنيا وللدين
وليس بالسائل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه ، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق : دعوها فإنها جبارة وأما قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض فلا يمتنع أن يكون لهم شيء . والله أعلم . وما ذهب إليه أصحاب مالك والشافعي في أنهما سواء حسن . ويقرب منه ما قاله مالك في كتاب ابن سحنون ، قال : الفقير المحتاج المتعفف ، والمسكين السائل ، وروي عن ابن عباس وقاله الزهري ، واختاره ابن شعبان وهو القول الرابع . وقول خامس : قال محمد بن مسلمة : الفقير الذي له المسكن والخادم إلى من هو أسفل من ذلك . والمسكين الذي لا مال له .
قلت : وهذا القول عكس ما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال نعم . قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال نعم . قال : فأنت من الأغنياء . قال : فإن لي خادما قال : فأنت من الملوك . وقول سادس : روي عن ابن عباس قال : الفقراء من المهاجرين ، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا وقاله الضحاك . وقول سابع : وهو أن المسكين الذي يخشع ويستكن وإن لم يسأل . والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سرا ولا يخشع ، [ ص: 99 ] قاله عبيد الله بن الحسن . وقول ثامن قاله مجاهد وعكرمة والزهري - المساكين الطوافون ، والفقراء فقراء المسلمين . وقول تاسع قاله عكرمة أيضا - أن الفقراء فقراء المسلمين ، والمساكين فقراء أهل الكتاب . وسيأتي .
الرابعة : وهي فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين ، هل هما صنف واحد أو أكثر تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين ، فمن قال هما صنف واحد قال : يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين نصف الثلث الثاني . ومن قال هما صنفان يقسم الثلث بينهم أثلاثا .
الخامسة : وقد اختلف العلماء في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ - بعد إجماع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم - أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة ، وللمعطي أن يعطيه . وكان مالك يقول : إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة عما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجز ، ذكره ابن المنذر . وبقول مالك قال النخعي والثوري . وقال أبو حنيفة : من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة . فاعتبر النصاب لقوله عليه السلام : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم . وهذا واضح ، ورواه المغيرة عن مالك . وقال الثوري وأحمد وإسحاق وغيرهم : لا يأخذ من له خمسون درهما أو قدرها من الذهب ، ولا يعطى منها أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما ، قاله أحمد وإسحاق . وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما . في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف ، وعنه بكر بن خنيس ضعيف أيضا . ورواه حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وقال : خمسون درهما وحكيم بن جبير ضعيف تركه شعبة وغيره ، قال الدارقطني رحمه الله . وقال أبو عمر : هذا الحديث يدور على حكيم بن جبير وهو متروك . وعن علي وعبد الله قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو قيمتها من الذهب ، ذكره الدارقطني وقال الحسن البصري : لا يأخذ من له أربعون درهما . ورواه الواقدي عن مالك . وحجة هذا القول ما رواه الدارقطني [ ص: 100 ] عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش . فقيل : يا رسول الله وما غناؤه ؟ قال : أربعون درهما . وفي حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية أربعون درهما . والمشهور عن مالك ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل : هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما ؟ قال نعم . قال أبو عمر : يحتمل أن يكون الأول قويا على الاكتساب حسن التصرف . والثاني ضعيفا عن الاكتساب ، أو من له عيال . والله أعلم . وقال الشافعي وأبو ثور . من كان قويا على الكسب والتحرف مع قوة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام . واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي رواه عبد الله بن عمر ، وأخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني . وروى جابر قال : جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس ، فقال : إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح ولا لعامل أخرجه الدارقطني . وروى أبو داود عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال : أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها ، فرفع فينا النظر وخفضه ، فرآنا جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب . ولأنه قد صار غنيا بكسبه كغنى غيره بماله فصار كل واحد منهما غنيا عن [ ص: 101 ] المسألة . وقاله ابن خويزمنداد ، وحكاه عن المذهب . وهذا لا ينبغي أن يعول عليه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيها الفقراء ووقوفها على الزمن باطل . قال أبو عيسى الترمذي في جامعه : إذا كان الرجل قويا محتاجا ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم . ووجه الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة . وقال الكيا الطبري : والظاهر يقتضي جواز ذلك ؛ لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . وقال عبيد الله بن الحسن : من لا يكون له ما يكفيه ويقيمه سنة فإنه يعطى الزكاة . وحجته ما رواه ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر مما أفاء الله عليه قوت سنة ، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكراع والسلاح مع قوله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى . وقال بعض أهل العلم : لكل واحد أن يأخذ من الصدقة فيما لا بد له منه . وقال قوم : من عنده عشاء ليلة فهو غني وروي عن علي . واحتجوا بحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم . قالوا : يا رسول الله ، وما ظهر الغنى ؟ قال : عشاء ليلة أخرجه الدارقطني وقال : في إسناده عمرو بن خالد وهو متروك . وأخرجه أبو داود عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه : من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار - وقال النفيلي في موضع آخر : من جمر جهنم - فقالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ - وقال النفيلي في موضع آخر : وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة - قال : قدر ما يغديه ويعشيه - وقال النفيلي في موضع آخر : أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم .
قلت : فهذا ما جاء في بيان الفقر الذي يجوز معه الأخذ . ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة ، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقات تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم . وقال عكرمة : الفقراء فقراء المسلمين ، والمساكين فقراء أهل الكتاب . وقال أبو بكر العبسي : رأى عمر بن الخطاب ذميا مكفوفا [ ص: 102 ] * مطروحا على باب المدينة فقال له عمر : ما لك ؟ قال : استكروني في هذه الجزية ، حتى إذا كف بصري تركوني وليس لي أحد يعود علي بشيء . فقال عمر : ما أنصفت إذا ، فأمر له بقوته وما يصلحه . ثم قال : هذا من الذين قال الله تعالى فيهم : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية . وهم زمنى أهل الكتاب
ولما قال تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية ، وقابل الجملة بالجملة وهي جملة الصدقة بجملة المصرف بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ،فقال لمعاذ حين أرسله إلى اليمن : أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم . فاختص أهل كل بلد بزكاة بلده . وروى أبو داود أن زيادا أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين على الصدقة ، فلما رجع قال لعمران : أين المال ؟ قال : وللمال أرسلتني! أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى الدارقطني والترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : قدم علينا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا . قال الترمذي : وفي الباب عن ابن عباس حديث ابن أبي جحيفة حديث حسن .
السادسة : وقد اختلفت العلماء في نقل الزكاة عن موضعها على ثلاثة أقوال الأول : لا تنقل ، قاله سحنون وابن القاسم ، وهو الصحيح لما ذكرناه . قال ابن القاسم أيضا : وإن نقل بعضها لضرورة رأيته صوابا . وروي عن سحنون أنه قال : ولو بلغ الإمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة لغيره إليه ، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج والمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه . والقول الثاني : تنقل . وقاله مالك أيضا . وحجة هذا القول ما روي أن معاذا قال لأهل اليمن : ايتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة . أخرجه الدارقطني وغيره . والخميس لفظ مشترك ، وهو هنا الثوب طوله خمسة أذرع . ويقال : سمي بذلك لأن أول من عمله الخمس ملك من ملوك اليمن ، ذكره [ ص: 103 ] ابن فارس في المجمل والجوهري أيضا . وفي هذا الحديث دليلان : أحدهما : ما ذكرناه من نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة ، فيتولى النبي صلى الله عليه وسلم قسمتها . ويعضد هذا قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء ولم يفصل بين فقير بلد وفقير آخر . والله أعلم . الثاني : أخذ القيمة في الزكاة . وقد اختلفت الرواية عن مالك في إخراج القيم في الزكاة ، فأجاز ذلك مرة ومنع منه أخرى ، فوجه الجواز - وهو قول أبي حنيفة - هذا الحديث . وثبت في صحيح البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنه تؤخذ منه وما استيسرنا من شاتين أو عشرين درهما . . . . الحديث . وقال صلى الله عليه وسلم : أغنوهم عن سؤال هذا اليوم يعني يوم الفطر . وإنما أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم ، فأي شيء سد حاجتهم جاز . وقد قال تعالى : خذ من أموالهم صدقة ولم يخص شيئا من شيء . ولا يدفع عند أبي حنيفة سكنى دار بدل الزكاة ، مثل أن يجب عليه خمسة دراهم فأسكن فيها فقيرا شهرا فإنه لا يجوز . قال : لأن السكنى ليس بمال . ووجه قوله : لا تجزي القيم - وهو ظاهر المذهب - فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة . فنص على الشاة ، فإذا لم يأت بها لم يأت بمأمور به ، وإذا لم يأت بالمأمور به فالأمر باق عليه القول الثالث : وهو أن سهم الفقراء والمساكين يقسم في الموضع ، وسائر السهام تنقل باجتهاد الإمام . والقول الأول أصح . والله أعلم .
السابعة : وهل المعتبر مكان المال وقت تمام الحول فتفرق الصدقة فيه ، أو مكان المالك إذ هو المخاطب ، قولان . واختار الثاني أبو عبد الله محمد بن خويزمنداد في أحكامه قال : لأن الإنسان هو المخاطب بإخراجها فصار المال تبعا له ، فيجب أن يكون الحكم فيه بحيث المخاطب . كابن السبيل فإنه يكون غنيا في بلده فقيرا في بلد آخر ، فيكون الحكم له حيث هو .
[ ص: 104 ] واختلفت الرواية عن مالك فيمن أعطى فقيرا مسلما فانكشف في ثاني حال أنه أعطى عبدا أو كافرا أو غنيا ، فقال مرة : تجزيه ومرة لا تجزيه . وجه الجواز - وهو الأصح - ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية قال : اللهم لك الحمد على زانية ، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني قال : اللهم لك الحمد على غني لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال : اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق فأتي فقيل له أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ولعل السارق يستعف بها عن سرقته . وروي أن رجلا أخرج زكاة ماله فأعطاها أباه ، فلما أصبح علم بذلك ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : قد كتب لك أجر زكاتك وأجر صلة الرحم فلك أجران . ومن جهة المعنى أنه سوغ له الاجتهاد في المعطى ، فإذا اجتهد وأعطى من يظنه من أهلها فقد أتى بالواجب عليه . ووجه قوله : لا يجزي . أنه لم يضعها في مستحقها ، فأشبه العمد ، ولأن العمد والخطأ في ضمان الأموال واحد فوجب أن يضمن ما أتلف على المساكين حتى يوصله إليهم .
الثامنة : فإن أخرج الزكاة عند محلها فهلكت من غير تفريط لم يضمن ؛ لأنه وكيل للفقراء . فإن أخرجها بعد ذلك بمدة فهلكت ضمن ، لتأخيرها عن محلها فتعلقت بذمته فلذلك ضمن والله أعلم .
التاسعة : وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غيره . وقد قيل : إن زكاة الناض على أربابه . وقال ابن الماجشون : ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين خاصة ، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف فلا يفرق عليهم إلا الإمام . وفروع هذا الباب كثيرة ، هذه أمهاتها .
العاشرة : قوله تعالى والعاملين عليها يعني : السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك . روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل [ ص: 105 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه . واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال : قال مجاهد والشافعي : هو الثمن . ابن عمر ومالك : يعطون قدر عملهم من الأجرة ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . قالوا : لأنه عطل نفسه لمصلحة الفقراء ، فكانت كفايته وكفاية أعوانه في مالهم ، كالمرأة لما عطلت نفسها لحق الزوج كانت نفقتها ونفقة أتباعها من خادم أو خادمين على زوجها . ولا تقدر بالثمن ، بل تعتبر الكفاية ثمنا كان أو أكثر ، كرزق القاضي . ولا تعتبر كفاية الأعوان في زماننا لأنه إسراف محض . القول الثالث : يعطون من بيت المال . قال ابن العربي : وهذا قول صحيح عن مالك بن أنس من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد بن زنبوعة ، وهو ضعيف دليلا ، فإن الله سبحانه قد أخبر بسهمهم فيها نصا فكيف يخلفون عنه استقراء وسبرا . والصحيح الاجتهاد في قدر الأجرة ؛ لأن البيان في تعديد الأصناف إنما كان للمحل لا للمستحق ، على ما تقدم .
واختلفوا في العامل إذا كان هاشميا ، فمنعه أبو حنيفة لقوله عليه السلام : إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس . وهذه صدقة من وجه ؛ لأنها جزء من الصدقة فتلحق بالصدقة من كل وجه كرامة وتنزيها لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسالة الناس . وأجاز عمله مالك والشافعي ، ويعطى أجر عمالته ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب مصدقا ، وبعثه عاملا إلى اليمن على الزكاة ، وولى جماعة من بني هاشم وولى الخلفاء بعده كذلك . ولأنه أجير على عمل مباح فوجب أن يستوي فيه الهاشمي وغيره اعتبارا بسائر الصناعات . قالت الحنفية : حديث علي ليس فيه أنه فرض له من الصدقة ، فإن فرض له من غيرها جاز . وروي عن مالك .
الحادية عشرة : ودل قوله تعالى : والعاملين عليها على أن كل ما كان من فروض الكفايات كالساعي والكاتب والقسام والعاشر وغيرهم فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه . ومن ذلك الإمامة ، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق فإن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفايات ، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها . وهذا أصل الباب ، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة قاله ابن العربي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 106 الى صــ 115
الحلقة (359)
[ ص: 106 ] الثانية عشرة : قوله تعالى والمؤلفة قلوبهم لا ذكر للمؤلفة قلوبهم في التنزيل في غير قسم الصدقات ، وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام ، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم . قال الزهري : المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا . وقال بعض المتأخرين : اختلف في صفتهم ، فقيل : هم صنف من الكفار يعطون ليتألفوا على الإسلام ، وكانوا لا يسلمون بالقهر والسيف ، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان . وقيل : هم قوم أسلموا في الظاهر ولم تستيقن قلوبهم ، فيعطون ليتمكن الإسلام في صدورهم . وقيل : هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يعطون ليتألفوا أتباعهم على الإسلام . قال : وهذه الأقوال متقاربة والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء ، فكأنه ضرب من الجهاد .
والمشركون ثلاثة أصناف : صنف يرجع بإقامة البرهان ، وصنف بالقهر ، وصنف بالإحسان . والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببا لنجاته وتخليصه من الكفر . وفي صحيح مسلم من حديث أنس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني للأنصار - : فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم . . . الحديث . قال ابن إسحاق : أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم . وكانوا أشرافا ، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير ، وأعطى ابنه مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير ، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير ، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة بعير ، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير . وكذلك أعطى مالك بن عوف والعلاء بن جارية . قال : فهؤلاء أصحاب المئين . وأعطى رجالا من قريش دون المائة منهم مخرمة بن نوفل الزهري وعمير بن وهب الجمحي ، وهشام بن عمرو العامري . قال ابن إسحاق : فهؤلاء لا أعرف ما أعطاهم . وأعطى سعيد بن يربوع خمسين بعيرا ، وأعطى عباس بن مرداس السلمي أباعر قليلة فسخطها . فقال في ذلك :
كانت نهابا تلافيتها بكري على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ فلم أعط شيئا ولم أمنع
[ ص: 107 ] إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمه الأربع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهبوا فاقطعوا عني لسانه فأعطوه حتى رضي ، فكان ذلك قطع لسانه . قال أبو عمر : وقد ذكر في المؤلفة قلوبهم النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة ، أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرا . وذكر آخرون أنه فيمن هاجر إلى الحبشة ، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم ، ومن هاجر إلى أرض الحبشة فهو من المهاجرين الأولين ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه ، وليس ممن يؤلف عليه . قال أبو عمر : واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن عوف بن سعد بن يربوع النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس ، وأمره بمغادرة ثقيف ففعل وضيق عليهم ، وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم ، حاشا عيينة بن حصن فلم يزل مغموزا عليه . وسائر المؤلفة متفاضلون ، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله ، كالحارث بن هشام ، وحكيم بن حزام ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، ومنهم دون هؤلاء . وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وهو أعلم بهم . قال مالك : بلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في المؤلفة قلوبهم فتصدق به بعد ذلك .
قلت : حكيم بن حزام وحويطب بن عبد العزى عاش كل واحد منهما مائة وعشرين سنة ؛ ستين في الإسلام وستين في الجاهلية . وسمعت الإمام شيخنا الحافظأبا محمد عبد العظيم يقول : شخصان من الصحابة عاشا في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة ، وماتا بالمدينة سنة أربع وخمسين ، أحدهما حكيم بن حزام ، وكان مولده في جوف الكعبة قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة . والثاني حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري . وذكر هذا أيضا أبو عمر وعثمان الشهرزوري في كتاب " معرفة أنواع علم الحديث " له ، ولم يذكرا غيرهما . وحويطب ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب " الوفا في شرف المصطفى " . وذكره أبو عمر في كتاب " الصحابة " أنه أدرك الإسلام وهو ابن ستين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة . وذكر أيضا حمنن بن عوف أخا عبد الرحمن بن عوف ، أنه عاش في الإسلام ستين سنة وفي الجاهلية ستين سنة . وقد عد في المؤلفة قلوبهم معاوية وأبوه أبو سفيان بن حرب . أما معاوية فبعيد أن يكون منهم ، فكيف يكون منهم وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على [ ص: 108 ] وحي الله وقراءته وخلطه بنفسه . وأما حاله في أيام أبي بكر فأشهر من هذا وأظهر . وأما أبوه فلا كلام فيه أنه كان منهم . وفي عددهم اختلاف ، وبالجملة فكلهم مؤمن ولم يكن فيهم كافر على ما تقدم ، والله أعلم وأحكم .
الثالثة عشرة : واختلف العلماء في بقائهم ، فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم : انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره . وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي . قال بعض علماء الحنفية : لما أعز الله الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين - لعنهم الله - اجتمعت الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم . وقال جماعة من العلماء : هم باقون ; لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام . وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين . قال يونس : سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخا في ذلك . قال أبو جعفر النحاس : فعلى هذا ؛ الحكم فيهم ثابت ، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد ، دفع إليه . قال القاضي عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة . وقال القاضي ابن العربي : الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم ، فإن في الصحيح : بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ .
الرابعة عشرة : فإذا فرعنا على أنه لا يرد إليهم سهمهم فإنه يرجع إلى سائر الأصناف أو ما يراه الإمام . وقال الزهري : يعطى نصف سهمهم لعمار المساجد . وهذا مما يدلك على أن الأصناف الثمانية محل لا مستحقون تسوية ، ولو كانوا مستحقين لسقط سهمهم بسقوطهم ولم يرجع إلى غيرهم ، كما لو أوصى لقوم معينين فمات أحدهم لم يرجع نصيبه إلى من بقي منهم . والله أعلم .
الخامسة عشرة : قوله تعالى وفي الرقاب أي في فك الرقاب ، قاله ابن عباس وابن عمر ، وهو مذهب مالك وغيره . فيجوز للإمام أن يشتري رقابا من مال الصدقة يعتقها عن المسلمين ، ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين . وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز . هذا تحصيل مذهب مالك ، وروي عن ابن عباس والحسن ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد . وقال أبو ثور : لا يبتاع منها صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجر ولاء . وهو قول الشافعي [ ص: 109 ] وأصحاب الرأي ورواية عن مالك . والصحيح الأول ؛ لأن الله عز وجل قال : وفي الرقاب فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات كان له أن يشتري رقبة فيعتقها . ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في سبيل الله . فإذا كان له أن يشتري فرسا بالكمال من الزكاة جاز أن يشتري رقبة بالكمال ، لا فرق بين ذلك . والله أعلم .
السادسة عشرة : قوله تعالى وفي الرقاب الأصل في الولاء ، قال مالك : هي الرقبة تعتق وولاؤها للمسلمين ، وكذلك إن أعتقها الإمام . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته . وقال عليه السلام : الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب . وقال عليه السلام : الولاء لمن أعتق . ولا ترث النساء من الولاء شيئا ، لقوله عليه السلام : لا ترث النساء من الولاء شيئا إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن وقد ورث النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة من مولى لها النصف ولابنته النصف . فإذا ترك المعتق أولادا ذكورا وإناثا فالولاء للذكور من ولده دون الإناث . وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم . والولاء إنما يورث بالتعصيب المحض ، والنساء لا تعصيب فيهن فلم يرثن من الولاء شيئا . فافهم تصب .
السابعة عشرة : واختلف هل يعان منها المكاتب ، فقيل لا . روي ذلك عن مالك ؛ لأن الله عز وجل لما ذكر الرقبة دل على أنه أراد العتق الكامل ، وأما المكاتب فإنما هو داخل في كلمة الغارمين بما عليه من دين الكتابة ، فلا يدخل في الرقاب . والله أعلم . وقد روي عن مالك من رواية المدنيين وزياد عنه : أنه يعان منها المكاتب في آخر كتابته بما يعتق . وعلى هذا جمهور العلماء في تأويل قول الله تعالى : وفي الرقاب . وبه قال ابن وهب والشافعي والليث والنخعي وغيرهم وحكى علي بن موسى القمي الحنفي في أحكامه : أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد . واختلفوا في عتق الرقاب ، قال الكيا الطبري : وذكر وجها بينه في منع ذلك فقال : إن العتق إبطال ملك وليس بتمليك ، وما يدفع إلى المكاتب تمليك ، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك . وقوى ذلك بأنه لو دفع من الزكاة عن الغارم في [ ص: 110 ] دينه بغير أمره لم يجزه من حيث لم يملك فلأن لا يجزي ذلك في العتق أولى . وذكر أن في العتق جر الولاء إلى نفسه وذلك لا يحصل في دفعه للمكاتب . وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملكه العبد ، وإن دفعه إلى سيده فقد ملكه العتق . وإن دفعه بعد الشراء والعتق فهو قاض دينا وذلك لا يجزي في الزكاة .
قلت : قد ورد حديث ينص على معنى ما ذكرنا من جواز عتق الرقبة وإعانة المكاتب معا أخرجه الدارقطني عن البراء قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار . قال : لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة . فقال : يا رسول الله ، أوليستا واحدا ؟ قال : لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها . . . وذكر الحديث .
الثامنة عشرة : واختلفوا في فك الأسارى منها ، فقال أصبغ : لا يجوز . وهو قول ابن قاسم . وقال ابن حبيب : يجوز ؛ لأنها رقبة ملكت بملك الرق فهي تخرج من رق إلى عتق ، وكان ذلك أحق وأولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا ؛ لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزا من الصدقة ، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله .
التاسعة عشرة : قوله تعالى " والغارمين " : هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به ، ولا خلاف فيه . اللهم إلا من ادان في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب . ويعطى منها من له مال وعليه دين محيط به ما يقضي به دينه ، فإن لم يكن له مال وعليه دين فهو فقير وغارم فيعطى بالوصفين . روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا عليه ؛ فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك .
الموفية عشرين : ويجوز للمتحمل في صلاح وبر أن يعطى من الصدقة ما يؤدي ما تحمل به إذا وجب عليه وإن كان غنيا ، إذا كان ذلك يجحف بماله كالغريم . وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم . واحتج من ذهب هذا المذهب بحديث قبيصة بن مخارق قال : تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال : أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها - ثم قال - يا قبيصة : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة [ ص: 111 ] حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا . فقوله : ثم يمسك دليل على أنه غني ؛ لأن الفقير ليس عليه أن يمسك . والله أعلم . وروي عنه عليه السلام أنه قال : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع . وروي عنه عليه السلام : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة . . . الحديث . وسيأتي .
الحادية والعشرون : واختلفوا ، هل يقضى منها دين الميت أم لا ، فقال أبو حنيفة : لا يؤدى من الصدقة دين ميت . وهو قول ابن المواز . قال أبو حنيفة : ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله تعالى ، وإنما الغارم من عليه دين يسجن فيه . وقال علماؤنا وغيرهم : يقضى منها دين الميت لأنه من الغارمين ، قال صلى الله عليه وسلم : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ؛ من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي .
الثانية والعشرون : وفي سبيل الله وهم الغزاة وموضع الرباط ، يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء . وهذا قول أكثر العلماء ، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله . وقال ابن عمر : الحجاج والعمار . ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا : سبيل الله الحج . وفي البخاري : ويذكر عن أبي لاس : حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل [ ص: 112 ] الصدقة للحج ، ويذكر عن ابن عباس : يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج . خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ حدثنا محمد بن محمد الخياش حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم ويكنى أبا الحكم قال : كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له : يا أبا عبد الرحمن ، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله . قال ابن عمر : فهو كما قال في سبيل الله . فقلت له : ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما . قال : فما تأمرني يا ابن أبي نعم ، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيفسدون في الأرض ويقطعون السبيل ، قال : قلت فما تأمرها . قال : آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين ، إلى حجاج بيت الله الحرام ، أولئك وفد الرحمن ، أولئك وفد الرحمن ، أولئك وفد الرحمن ، ليسوا كوفد الشيطان ، ثلاثا يقولها . قلت : ياأبا عبد الرحمن ، وما وفد الشيطان ؟ قال : قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث ، ويسعون في المسلمين بالكذب ، فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا . وقال محمد بن عبد الحكم : ويعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب ، وكف العدو عن الحوزة ؛ لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته . وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة إطفاء للثائرة .
قلت : أخرج هذا الحديث أبو داود عن بشير بن يسار ، أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة ، يعني دية الأنصاري الذي قتل بخيبر ، وقال عيسى بن دينار : تحل الصدقة لغاز في سبيل الله ، قد احتاج في غزوته وغاب عنه غناؤه ووفره . قال : ولا تحل لمن كان معه ماله من الغزاة ، إنما تحل لمن كان ماله غائبا عنه منهم . وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور أهل العلم . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به . وهذه زيادة على النص ، والزيادة عنده [ ص: 113 ] على النص نسخ ، والنسخ لا يكون إلا بقرآن أو خبر متواتر ، وذلك معدوم هنا ، بل في صحيح السنة خلاف ذلك من قوله عليه السلام : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ؛ لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني . رواه مالك مرسلا عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار . ورفعه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحديث مفسرا لمعنى الآية ، وأنه يجوز لبعض الأغنياء أخذها ، ومفسرا لقوله عليه السلام : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي لأن قوله هذا مجمل ليس على عمومه بدليل الخمسة الأغنياء المذكورين . وكان ابن القاسم يقول : لا يجوز لغني أن يأخذ من الصدقة ما يستعين به على الجهاد وينفقه في سبيل الله ، وإنما يجوز ذلك لفقير . قال : وكذلك الغارم لا يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يقي به ماله ويؤدي منها دينه وهو عنها غني . قال : وإذا احتاج الغازي في غزوته وهو غني له مال غاب عنه لم يأخذ من الصدقة شيئا يستقرض ، فإذا بلغ بلده أدى ذلك من ماله . هذا كله ذكره ابن حبيب عن ابن القاسم ، وزعم أن ابن نافع وغيره خالفوه في ذلك . وروى أبو زيد وغيره عن ابن القاسم أنه قال : يعطى من الزكاة الغازي وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من ماله وهو غني في بلده . وهذا هو الصحيح ، لظاهر الحديث : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة . . . . وروى ابن وهب عن مالك أنه يعطى منها الغزاة ومواضع الرباط فقراء كانوا أو أغنياء .
الثالثة والعشرون : وابن السبيل السبيل : الطريق ، ونسب المسافر إليها لملازمته إياها ومروره عليها ، كما قال الشاعر :
إن تسألوني عن الهوى فأنا الهوى وابن الهوى وأخو الهوى وأبوه
والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره وماله ، فإنه يعطى منها وإن كان غنيا في بلده ، ولا يلزمه أن يشغل ذمته بالسلف . وقال مالك في كتاب ابن سحنون : إذا وجد من يسلفه فلا يعطى . والأول أصح ، فإنه لا يلزمه أن يدخل تحت منة أحد وقد وجد منة الله تعالى . فإن كان له ما يغنيه ففي جواز الأخذ له لكونه ابن السبيل روايتان : المشهور أنه لا يعطى ، فإن أخذ فلا يلزمه رده إذا صار إلى بلده ولا إخراجه .
الرابعة والعشرون : فإن جاء وادعى وصفا من الأوصاف ، هل يقبل قوله أم لا ويقال له [ ص: 114 ] أثبت ما تقول . فأما الدين فلا بد أن يثبته ، وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد له ويكتفى به فيها . والدليل على ذلك حديثان صحيحان أخرجهما أهل الصحيح ، وهو ظاهر القرآن . روى مسلم عن جرير عن أبيه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار ، قال : فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر ، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ، ثم خطب فقال : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم الآية إلى قوله : " رقيبا " والآية التي في الحشر ولتنظر نفس ما قدمت لغد تصدق رجل من ديناره من ثوبه من صاع بره - حتى قال - ولو بشق تمرة . قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت ، قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء . فاكتفى صلى الله عليه وسلم بظاهر حالهم وحث على الصدقة ، ولم يطلب منهم بينة ، ولا استقصى هل عندهم مال أم لا . ومثله حديث أبرص وأقرع وأعمى أخرجه مسلم وغيره . وهذا لفظه : عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كان في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال : أي شيء أحب إليك ؟ فقال : لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس . قال : فمسحه ؛ فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال الإبل - أو قال البقر ، شك إسحاق . إلا أن [ ص: 115 ] الأبرص أو الأقرع قال : أحدهما : الإبل ، وقال الآخر البقر - قال : فأعطي ناقة عشراء قال بارك الله لك فيها ، قال : فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قال فأعطي شعرا حسنا ، قال فأي المال أحب إليك ؟ قال البقر ؛ فأعطي بقرة حاملا قال : بارك الله لك فيها ، قال فأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك قال أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس ، قال فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم ، فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا قال فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم ، قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله وبك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري فقال له : الحقوق كثيرة ، فقال له : كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيرا فأعطاك الله ، فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت . فقال : وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد على هذا فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله ، فقال : أمسك مالك ؛ فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك .
وفي هذا أدل دليل على أن من ادعى زيادة على فقره من عيال أو غيره لا يكشف عنه خلافا لمن قال يكشف عنه إن قدر ، فإن في الحديث : " فقال رجل مسكين وابن سبيل أسألك شاة " ولم يكلفه إثبات السفر . فأما المكاتب فإنه يكلف إثبات الكتابة لأن الرق هو الأصل حتى تثبت الحرية .
الخامسة والعشرون : ولا يجوز أن يعطي من الزكاة من تلزمه نفقته وهم الوالدان والولد والزوجة . وإن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجته جاز . وأما أن يتناول ذلك هو بنفسه فلا ؛ لأنه يسقط بها عن نفسه فرضا . قال أبو حنيفة : ولا يعطي منها ولد ابنه ولا ولد ابنته ، ولا يعطي منها مكاتبه ولا مدبره ولا أم ولده ولا عبدا أعتق نصفه ؛ لأنه مأمور بالإيتاء والإخراج إلى الله تعالى بواسطة كف الفقير ، ومنافع الأملاك مشتركة بينه وبين هؤلاء ، ولهذا لا تقبل شهادة بعضهم لبعض . قال : والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم وربما يعجز فيصير الكسب له . [ ص: 116 ] ومعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب . وعند صاحبيه أبي يوسف ومحمد بمنزلة حر عليه دين فيجوز أداؤها إليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 116 الى صــ 125
الحلقة (360)
السادسة والعشرون : فإن أعطاها لمن لا تلزمه نفقتهم فقد اختلف فيه ، فمنهم من جوزه ومنهم من كرهه . قال مالك : خوف المحمدة . وحكى مطرف أنه قال : رأيت مالكا يعطي زكاته لأقاربه . وقال الواقدي قال مالك : أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول . وقد قال صلى الله عليه وسلم لزوجة عبد الله بن مسعود : لك أجران أجر القرابة وأجر الصدقة . واختلفوا في إعطاء المرأة زكاتها لزوجها ، فذكر عن ابن حبيب أنه كان يستعين بالنفقة عليها بما تعطيه . وقال أبو حنيفة : لا يجوز ، وخالفه صاحباه فقالا : يجوز . وهو الأصح لما ثبت أن زينب امرأة عبد الله أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أريد أن أتصدق على زوجي أيجزيني ؟ فقال عليه السلام : نعم لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة . والصدقة المطلقة هي الزكاة ، ولأنه لا نفقة للزوج عليها ، فكان بمنزلة الأجنبي . اعتل أبو حنيفة فقال : منافع الأملاك بينهما مشتركة ، حتى لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه . والحديث محمول على التطوع . وذهب الشافعي وأبو ثور وأشهب إلى إجازة ذلك ، إذا لم يصرفه إليها فيما يلزمه لها ، وإنما يصرف ما يأخذه منها في نفقته وكسوته على نفسه وينفق عليها من ماله .
السابعة والعشرون : واختلفوا أيضا في قدر المعطى ، فالغارم يعطى قدر دينه ، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما . وفي جواز إعطاء النصاب أو أقل منه خلاف ينبني على الخلاف المتقدم في حد الفقر الذي يجوز معه الأخذ . وروى علي بن زياد وابن نافع : ليس في ذلك حد وإنما هو على اجتهاد الوالي . وقد تقل المساكين وتكثر الصدقة فيعطى الفقير قوت سنة . وروى المغيرة : يعطى دون النصاب ولا يبلغه . وقال بعض المتأخرين : إن كان في البلد زكاتان نقد وحرث أخذ ما يبلغه إلى الأخرى . قال ابن العربي : الذي أراه أن يعطى نصابا ، وإن كان في البلد زكاتان أو أكثر ، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنيا . فإذا أخذ ذلك فإن حضرت الزكاة الأخرى وعنده ما يكفيه أخذها غيره .
قلت : هذا مذهب أصحاب الرأي في إعطاء النصاب . وقد كره ذلك أبو حنيفة مع الجواز ، وأجازه أبو يوسف ، قال : لأن بعضه لحاجته مشغول للحال ، فكان الفاضل عن حاجته للحال دون المائتين ، وإذا أعطاه أكثر من مائتي درهم جملة كان الفاضل عن حاجته للحال قدر [ ص: 117 ] مائتين فلا يجوز . ومن متأخري الحنفية من قال : هذا إذا لم يكن له عيال ولم يكن عليه دين ، فإن كان عليه دين فلا بأس أن يعطيه مائتي درهم أو أكثر ، مقدار ما لو قضى به دينه يبقى له دون المائتين . وإن كان معيلا لا بأس بأن يعطيه مقدار ما لو وزع على عياله أصاب كل واحد منهم دون المائتين ؛ لأن التصدق عليه في المعنى تصدق عليه وعلى عياله . وهذا قول حسن .
الثامنة والعشرون : اعلم أن قوله تعالى : للفقراء مطلق ليس فيه شرط وتقييد ، بل فيه دلالة على جواز الصرف إلى جملة الفقراء كانوا من بني هاشم أو غيرهم ، إلا أن السنة وردت باعتبار شروط : منها ألا يكونوا من بني هاشم وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق نفقته . وهذا لا خلاف فيه . وشرط ثالث ألا يكون قويا على الاكتساب ؛ لأنه عليه السلام قال : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي . وقد تقدم القول فيه . ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا لبني هاشم ولا لمواليهم . وقد روي عن أبي يوسف جواز صرف صدقة الهاشمي للهاشمي ، حكاه الكيا الطبري . وشذ بعض أهل العلم فقال : إن موالي بني هاشم لا يحرم عليهم شيء من الصدقات . وهذا خلاف الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال لأبي رافع مولاه : وإن مولى القوم منهم
التاسعة والعشرون : واختلفوا في جواز صدقة التطوع لبني هاشم ، فالذي عليه جمهور أهل العلم - وهو الصحيح - أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم ، لأن عليا والعباس وفاطمة رضوان الله عليهم تصدقوا وأوقفوا أوقافا على جماعة من بني هاشم ، وصدقاتهم الموقوفة معروفة مشهورة . وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب : لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ولا من التطوع . وقال ابن القاسم : يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع . قال ابن القاسم : والحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحل الصدقة لآل محمد إنما ذلك في الزكاة لا في التطوع . واختار هذا القول ابن خويزمنداد ، وبه قال أبو يوسف ومحمد . قال ابن القاسم : ويعطى مواليهم من الصدقتين . وقال مالك في الواضحة : لا يعطى لآل محمد من التطوع . قال ابن القاسم : قيل له - يعني مالكا - فمواليهم ؟ قال : لا أدري ما الموالي . فاحتججت عليه بقوله عليه السلام : مولى القوم منهم . فقال قد قال : ابن [ ص: 118 ] أخت القوم منهم . قال أصبغ : وذلك في البر والحرمة .
الموفية ثلاثين : قوله تعالى فريضة من الله بالنصب على المصدر عند سيبويه . أي فرض الله الصدقات فريضة . ويجوز الرفع على القطع في قول الكسائي ، أي هن فريضة . قال الزجاج : ولا أعلم أنه قرئ به .
قلت : قرأ بها إبراهيم بن أبي عبلة ، جعلها خبرا ، كما تقول : إنما زيد خارج .
[ قوله تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم بين تعالى أن في المنافقين من كان يبسط لسانه بالوقيعة في أذية النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : إن عاتبني حلفت له بأني ما قلت هذا فيقبله ، فإنه أذن سامعة . قال الجوهري : يقال رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : هو أذن قال : مستمع وقابل . وهذه الآية نزلت في عتاب بن قشير ، قال : إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له . وقيل : هو نبتل بن الحارث ، قاله ابن إسحاق . وكان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية ، آدم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث . السفعة بالضم : سواد مشرب بحمرة . والرجل أسفع ، عند الجوهري . وقرئ ( أذن ) بضم الذال وسكونها .
قل أذن خير لكم أي هو أذن خير لا أذن شر ، أي يسمع الخير ولا يسمع الشر . وقرأ قل أذن خير لكم بالرفع والتنوين ، الحسن وعاصم في رواية أبي بكر . والباقون بالإضافة ، وقرأ حمزة ( ورحمة ) بالخفض . والباقون بالرفع عطف على ( أذن ) ، والتقدير : قل هو أذن خير وهو رحمة ، أي هو مستمع خير لا مستمع شر ، أي هو مستمع ما يحب استماعه ، وهو رحمة . ومن خفض فعلى العطف على ( خير ) . قال [ ص: 119 ] النحاس : وهذا عند أهل العربية بعيد ؛ لأنه قد تباعد ما بين الاسمين ، وهذا يقبح في المخفوض . المهدوي : ومن جر الرحمة فعلى العطف على ( خير ) والمعنى مستمع خير ومستمع رحمة ؛ لأن الرحمة من الخير . ولا يصح عطف الرحمة على المؤمنين ؛ لأن المعنى يصدق بالله ويصدق المؤمنين ; فاللام زائدة في قول الكوفيين . ومثله ( لربهم يرهبون ) أي يرهبون ربهم . وقال أبو علي : كقوله ( ردف لكم ) وهي عند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل ، التقدير : إيمانه للمؤمنين ، أي تصديقه للمؤمنين لا للكفار . أو يكون محمولا على المعنى ، فإن معنى يؤمن يصدق ، فعدي باللام كما عدي في قوله تعالى : مصدقا لما بين يديه .
[ قوله تعالى يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : روي أن قوما من المنافقين اجتمعوا ، فيهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت ، وفيهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه فتكلموا وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير . فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقول حق وأنتم شر من الحمير ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم ، فحلفوا أن عامرا كاذب ، فقال عامر : هم الكذبة ، وحلف على ذلك وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب . فأنزل الله هذه الآية وفيها يحلفون بالله لكم ليرضوكم .
الثانية : قوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه ابتداء وخبر . ومذهب سيبويه أن التقدير : والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ، ثم حذف ، كما قال بعضهم :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وقال محمد بن يزيد : ليس في الكلام محذوف ، والتقدير ، والله أحق أن يرضوه ورسوله ، على التقديم والتأخير . وقال الفراء : المعنى ورسوله أحق أن يرضوه ، والله افتتاح كلام ، كما تقول : ما شاء الله وشئت . قال النحاس : قول سيبويه أولاها ؛ لأنه قد صح عن [ ص: 120 ] النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن أن يقال : ما شاء الله وشئت ، ولا يقدر في شيء تقديم ولا تأخير ، ومعناه صحيح .
قلت : وقيل إن الله سبحانه جعل رضاه في رضاه ، ألا ترى أنه قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله . وكان الربيع بن خيثم إذا مر بهذه الآية وقف ، ثم يقول : حرف وأيما حرف فوض إليه فلا يأمرنا إلا بخير .
الثالثة : قال علماؤنا : تضمنت هذه الآية قبول يمين الحالف وإن لم يلزم المحلوف له الرضا . واليمين حق للمدعي . وتضمنت أن يكون اليمين بالله عز وجل حسب ما تقدم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق . وقد مضى القول في الأيمان والاستثناء فيها مستوفى في المائدة .
[ قوله تعالى ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم قوله تعالى ألم يعلموا يعني المنافقين . وقرأ ابن هرمز والحسن " تعلموا " بالتاء على الخطاب .
( أنه ) في موضع نصب ب " يعلموا " ، والهاء كناية عن الحديث .
( من يحادد الله ورسوله ) في موضع رفع بالابتداء . والمحادة : وقوع هذا في حد وذاك في حد ، كالمشاقة . يقال : حاد فلان فلانا ، أي صار في حد غير حده .
فأن له نار جهنم يقال : ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ ، فكان يجب أن يكون " فإن " بكسر الهمزة . وقد أجاز الخليل وسيبويه " فإن له نار جهنم " بالكسر . قال سيبويه : وهو جيد وأنشد :
[ ص: 121 ]
وعلمي بأسدام المياه فلم تزل قلائص تخدي في طريق طلائح وأني إذا ملت ركابي مناخها
فإني على حظي من الأمر جامح
إلا أن قراءة العامة ( فأن ) بفتح الهمزة . فقال الخليل أيضا وسيبويه : إن ( أن ) الثانية مبدلة من الأولى . وزعم المبرد أن هذا القول مردود ، وأن الصحيح ما قاله الجرمي ، قال : ( إن ) الثانية مكررة للتوكيد لما طال الكلام ، ونظيره ( وهم في الآخرة هم الأخسرون ) . وكذا ( فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ) . وقال الأخفش : المعنى فوجوب النار له . وأنكره المبرد وقال : هذا خطأ من أجل أن ( أن ) المفتوحة المشددة لا يبتدأ بها ويضمر الخبر . وقال علي بن سليمان : المعنى فالواجب أن له نار جهنم ، فإن الثانية خبر ابتداء محذوف . وقيل : التقدير فله أن له نار جهنم . ف " إن " مرفوعة بالاستقرار على إضمار المجرور بين الفاء و " أن " .
[ قوله تعالى يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى يحذر المنافقون خبر وليس بأمر . ويدل على أنه خبر أن ما بعده ( إن الله مخرج ما تحذرون ) لأنهم كفروا عنادا . وقال السدي : قال بعض المنافقين والله وددت لو أني قدمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ، فنزلت الآية . يحذر أي يتحرز . وقال الزجاج : معناه ليحذر ، فهو أمر ، كما يقال : يفعل ذلك .
الثانية : قوله تعالى أن تنزل عليهم ( أن ) في موضع نصب ، أي من أن تنزل . ويجوز على قول سيبويه أن تكون في موضع خفض على حذف ( من ) . ويجوز أن تكون في موضع نصب مفعولة ل ( يحذر ) ؛ لأن سيبويه أجاز : حذرت زيدا ، وأنشد :
حذر أمورا لا تضير وآمن ما ليس منجيه من الأقدار
ولم يجزه المبرد ؛ لأن الحذر شيء في الهيئة . ومعنى ( عليهم ) أي على المؤمنين . ( سورة ) في شأن المنافقين تخبرهم بمخازيهم ومساويهم ومثالبهم ، ولهذا سميت الفاضحة والمثيرة والمبعثرة ، كما تقدم أول السورة . وقال الحسن : كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة لأنها حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته .
[ ص: 122 ] الثالثة : قوله تعالى : قل استهزئوا هذا أمر وعيد وتهديد .
إن الله مخرج ما تحذرون أي مظهر ما تحذرون ظهوره . قال ابن عباس : أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلا ، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة ؛ لأن أولادهم كانوا مسلمين والناس يعير بعضهم بعضا . فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهاره ذلك إذ قال : إن الله مخرج ما تحذرون . وقيل : إخراج الله أنه عرف نبيه عليه السلام أحوالهم وأسماءهم لا أنها نزلت في القرآن ، ولقد قال الله تعالى : ولتعرفنهم في لحن القول وهو نوع إلهام . وكان من المنافقين من يتردد ولا يقطع بتكذيب محمد عليه السلام ولا بصدقه . وكان فيهم من يعرف صدقه ويعاند .
قوله تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون فيه ثلاث مسائل :
الأولى : هذه الآية نزلت في غزوة تبوك . قال الطبري وغيره عن قتادة : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا ، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر! فأطلعه الله سبحانه على ما في قلوبهم وما يتحدثون به ، فقال : احبسوا علي الركب - ثم أتاهم فقال - قلتم كذا وكذا . فحلفوا : ما كنا إلا نخوض ونلعب يريدون كنا غير مجدين . وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر قال : رأيت قائل هذه المقالة وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبد الله بن أبي بن سلول . وكذا ذكر القشيري عن ابن عمر . قال ابن عطية : وذلك خطأ ؛ لأنه لم يشهد تبوك . قال القشيري : وقيل إنما قال عليه السلام هذا لوديعة بن ثابت وكان من المنافقين وكان في غزوة تبوك . والخوض : الدخول في الماء ، ثم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى .
الثانية : قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا ، وهو كيفما كان كفر ، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة . فإن التحقيق أخو [ ص: 123 ] العلم والحق ، والهزل أخو الباطل والجهل . قال علماؤنا : انظر إلى قوله : أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .
الثالثة : واختلف العلماء في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال : لا يلزم مطلقا . يلزم مطلقا . التفرقة بين البيع وغيره . فيلزم في النكاح والطلاق ، وهو قول الشافعي في الطلاق قولا واحدا . ولا يلزم في البيع . قال مالك في كتاب محمد : يلزم نكاح الهازل . وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية : لا يلزم . وقال علي بن زياد : يفسخ قبل وبعد . وللشافعي في بيع الهازل قولان . وكذلك يخرج من قول علمائنا القولان . وحكى ابن المنذر الإجماع في أن جد الطلاق وهزله سواء . وقال بعض المتأخرين من أصحابنا : إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم ، وإن اختلفا غلب الجد الهزل . وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة . قال الترمذي : حديث حسن غريب ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم .
قلت : كذا في الحديث " والرجعة " وفي موطإ مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : ثلاث ليس فيهم لعب النكاح والطلاق والعتق . وكذا روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء ، كلهم قال : ثلاث لا لعب فيهن ولا رجوع فيهن واللاعب فيهن جاد النكاح والطلاق والعتق وعن سعيد بن المسيب عن عمر قال : أربع جائزات على كل أحد العتق والطلاق والنكاح والنذور وعن الضحاك قال : ثلاث لا لعب فيهن ، النكاح والطلاق والنذور .
[ قوله تعالى لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين [ ص: 124 ] قوله تعالى لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم على جهة التوبيخ ، كأنه يقول : لا تفعلوا ما لا ينفع ، ثم حكم عليهم بالكفر وعدم الاعتذار من الذنب . واعتذر بمعنى أعذر ، أي صار ذا عذر . قال لبيد :
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
والاعتذار : محو أثر الموجدة ، يقال : اعتذرت المنازل درست . والاعتذار الدروس . قال الشاعر :
أم كنت تعرف آيات فقد جعلت أطلال إلفك بالودكاء تعتذر
وقال ابن الأعرابي : أصله القطع . واعتذرت إليه قطعت ما في قلبه من الموجدة . ومنه عذرة الغلام وهو ما يقطع منه عند الختان . ومنه عذرة الجارية لأنه يقطع خاتم عذرتها .
إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين قيل : كانوا ثلاثة نفر ، هزئ اثنان وضحك واحد ، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم . والطائفة الجماعة ، ويقال للواحد على معنى نفس طائفة . وقال ابن الأنباري : يطلق لفظ الجمع على الواحد ، كقولك : خرج فلان على البغال . قال : ويجوز أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد طائفا ، والهاء للمبالغة . واختلف في اسم هذا الرجل الذي عفي عنه على أقوال . فقيل : مخشي بن حمير ، قاله ابن إسحاق . وقال ابن هشام : ويقال فيه ابن مخشي . وقال خليفة بن خياط في تاريخه : اسمه مخاشن بن حمير . وذكر ابن عبد البر مخاشن الحميري وذكر السهيلي مخشن بن خمير . وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة ، وكان تاب وسمي عبد الرحمن ، فدعا الله أن يقتل شهيدا ولا يعلم بقبره . واختلف هل كان منافقا أو مسلما . فقيل : كان منافقا ثم تاب توبة نصوحا . وقيل : كان مسلما ، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم .
[ قوله تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون قوله تعالى ( المنافقون والمنافقات ) ابتداء . ( بعضهم ) ابتداء ثان . ويجوز أن يكون [ ص: 125 ] بدلا ، ويكون الخبر ( من بعض ) . ومعنى ( بعضهم من بعض ) أي هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين . وقال الزجاج ، هذا متصل بقوله : ( يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ) أي ليسوا من المؤمنين ، ولكن بعضهم من بعض .
أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف . وقبض أيديهم عبارة عن ترك الجهاد ، وفيما يجب عليهم من حق . والنسيان : الترك هنا ، أي تركوا ما أمرهم الله به فتركهم في الشك . وقيل : إنهم تركوا أمره حتى صار كالمنسي فصيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه . وقال قتادة : " نسيهم " أي من الخير ، فأما من الشر فلم ينسهم . والفسق : الخروج عن الطاعة والدين . وقد تقدم .
[ قوله تعالى وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم قوله تعالى وعد الله المنافقين يقال : وعد الله بالخير وعدا . ووعد بالشر وعيدا ( خالدين ) نصب على الحال والعامل محذ الوف ، أي يصلونها خالدين .
هي حسبهم ابتداء وخبر ، أي هي كفاية ووفاء لجزاء أعمالهم . واللعن : البعد ، أي من رحمة الله ، وقد تقدم .
ولهم عذاب مقيم أي واصب دائم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 126 الى صــ 135
الحلقة (361)
[ قوله تعالى كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى كالذين من قبلكم قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ، أي وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم . وقيل : المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، فحذف المضاف . وقيل : أي أنتم كالذين من قبلكم ، فالكاف في محل رفع لأنه خبر ابتداء محذوف . ولم ينصرف ( أشد ) لأنه أفعل [ ص: 126 ] صفة . والأصل فيه أشدد ، أي كانوا أشد منكم قوة فلم يتهيأ لهم ولا أمكنهم رفع عذابالله عز وجل .
الثانية : روى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تأخذون كما أخذت الأمم قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه . قال أبو هريرة : وإن شئتم فاقرءوا القرآن : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم قال أبو هريرة : والخلاق : الدين فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم حتى فرغ من الآية . قالوا : يا نبي الله ، فما صنعت اليهود والنصارى ؟ قال : وما الناس إلا هم . وفي الصحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وقال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم . ونحوه عن ابن مسعود .
الثالثة : فاستمتعوا بخلاقهم أي انتفعوا بنصيبهم من الدين كما فعل الذين من قبلهم .
( وخضتم ) خروج من الغيبة إلى الخطاب . كالذي خاضوا أي كخوضهم . فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، أي وخضتم خوضا كالذين خاضوا . و " الذي " اسم ناقص مثل من ، يعبر به عن الواحد والجمع . وقد مضى في ( البقرة ) ويقال : خضت الماء أخوضه خوضا وخياضا . والموضع مخاضة ، وهو ما جاز الناس فيها مشاة وركبانا . وجمعها المخاض والمخاوض أيضا ، عن أبي زيد . وأخضت دابتي في الماء . وأخاض القوم ، أي خاضت خيلهم . وخضت الغمرات : اقتحمتها . ويقال : خاضه بالسيف ، أي حرك سيفه في المضروب . وخوض في نجيعه شدد للمبالغة . والمخوض للشراب كالمجدع للسويق ، يقال منه : خضت الشراب . وخاض القوم في الحديث وتخاوضوا أي [ ص: 127 ] تفاوضوا فيه ، فالمعنى : خضتم في أسباب الدنيا باللهو واللعب . وقيل : في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب .
أولئك حبطت بطلت ، وقد تقدم . ( أعمالهم ) حسناتهم . وأولئك هم الخاسرون وقد تقدم أيضا .
[ قوله تعالى ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
قوله تعالى ألم يأتهم نبأ أي خبر
الذين من قبلهم الألف لمعنى التقرير والتحذير ، أي ألم يسمعوا إهلاكنا الكفار من قبل .
قوم نوح وعاد وثمود بدل من الذين .
وقوم إبراهيم أي نمرود بن كنعان وقومه .
وأصحاب مدين مدين اسم للبلد الذي كان فيه شعيب ، أهلكوا بعذاب يوم الظلة .
" والمؤتفكات " قيل : يراد به قوم لوط ؛ لأن أرضهم ائتفكت بهم ، أي انقلبت ، قاله قتادة . وقيل : المؤتفكات كل من أهلك ، كما يقال : انقلبت عليهم الدنيا .
أتتهم رسلهم بالبينات يعني جميع الأنبياء . وقيل : أتت أصحاب المؤتفكات رسلهم ، فعلى هذا رسولهم لوط وحده ، ولكنه بعث في كل قرية رسولا ، وكانت ثلاث قريات ، وقيل أربع . وقوله تعالى في موضع آخر : " والمؤتفكة " على طريق الجنس . وقيل : أراد بالرسل الواحد ، كقوله : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ولم يكن في عصره غيره .
قلت : وهذا فيه نظر ، للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله خاطب المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث . وقد تقدم في " البقرة " . والمراد جميع الرسل ، والله أعلم .
قوله تعالى : فما كان الله ليظلمهم أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء .
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم .
[ ص: 128 ] قوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى بعضهم أولياء بعض أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف . وقال في المنافقين بعضهم من بعض لأن قلوبهم مختلفة ولكن يضم بعضهم إلى بعض في الحكم .
الثانية : قوله تعالى يأمرون بالمعروف أي بعبادة الله تعالى وتوحيده ، وكل ما أتبع ذلك .
وينهون عن المنكر عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك . وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال : كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين . وقد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة ( المائدة ) و ( آل عمران ) والحمد لله .
الثالثة : قوله تعالى ويقيمون الصلاة تقدم في أول البقرة القول فيه . وقال ابن عباس : هي الصلوات الخمس ، وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة . ابن عطية : والمدح عندي بالنوافل أبلغ ; إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض .
الرابعة : قوله تعالى ويطيعون الله في الفرائض ورسوله فيما سن لهم . والسين في قوله : سيرحمهم الله مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تتنعم برجائه ; وفضله تعالى زعيم بالإنجاز .
[ قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم
قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات أي بساتين تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها الأنهار . وقد تقدم في " البقرة " أنها تجري منضبطة بالقدرة في غير أخدود . خالدين فيها ومساكن طيبة قصور من الزبرجد والدر [ ص: 129 ] والياقوت ، يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام . في جنات عدن أي في دار إقامة . يقال : عدن بالمكان إذا أقام به ; ومنه المعدن . وقال عطاء الخراساني : جنات عدن هي قصبة الجنة ، وسقفها عرش الرحمن جل وعز . وقال ابن مسعود : هي بطنان الجنة ، أي وسطها . وقال الحسن : هي قصر من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ; ونحوه عن الضحاك . وقال مقاتل والكلبي : " عدن " : أعلى درجة في الجنة ، وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها محفوفة بها ، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله .
ورضوان من الله أكبر أي أكبر من ذلك ذلك هو الفوز العظيم
[ قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته من بعده . قيل : المراد جاهد بالمؤمنين الكفار . وقال ابن عباس : أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف ، ومع المنافقين باللسان وشدة الزجر والتغليظ . وروي عن ابن مسعود أنه قال : جاهد المنافقين بيدك ، فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم . وقال الحسن : جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وباللسان - واختاره قتادة - وكانوا أكثر من يصيب الحدود . ابن العربي : أما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة ، وأما بالحدود لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فدعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا ، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا ، وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين .
الثانية : قوله تعالى واغلظ عليهم الغلظ : نقيض الرأفة ، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه . وليس ذلك في اللسان ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها . ومنه قوله تعالى : ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [ ص: 130 ] ومنه قول النسوة لعمر : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعنى الغلظ خشونة الجانب . فهي ضد قوله تعالى : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة . وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح .
[ قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير
فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا روي أن هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، ووديعة بن ثابت ; وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : والله لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير . فقال له عامر بن قيس : أجل والله إن محمدا لصادق مصدق ; وإنك لشر من حمار . وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم . وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب . وحلف عامر لقد قال ، وقال : اللهم أنزل على نبيك الصادق شيئا ، فنزلت . وقيل : إن الذي سمعه عاصم بن عدي . وقيل حذيفة . وقيل : بل سمعه ولد امرأته واسمه عمير بن سعد ; فيما قال ابن إسحاق . وقال غيره : اسمه مصعب . فهم الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره ; ففيه نزل : وهموا بما لم ينالوا . قال مجاهد : وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله ، ثم لم يفعل ، عجز عن ذلك . قال ، ذلك هي الإشارة بقوله وهموا بما لم ينالوا . وقيل : إنها نزلت في عبد الله بن أبي ، رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة ، وكانت جهينة حلفاء الأنصار ، فعلا [ ص: 131 ] الغفاري الجهني . فقال ابن أبي : يا بني الأوس والخزرج ، انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فجاءه عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله ; قاله قتادة . وقول ثالث أنه قول جميع المنافقين ; قاله الحسن . ابن العربي : وهو الصحيح ; لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم ، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي .
الثانية : قوله تعالى ولقد قالوا كلمة الكفر قال النقاش : تكذيبهم بما وعد الله من الفتح . وقيل : كلمة الكفر قول الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير . وقول عبد الله بن أبي : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال القشيري : كلمة الكفر سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام .
وكفروا بعد إسلامهم أي بعد الحكم بإسلامهم . فدل هذا على أن المنافقين كفار ، وفي قوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا دليل قاطع .
ودلت الآية أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة ; وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة . قال إسحاق بن راهويه : ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع ; لأنهم بأجمعهم قالوا : من عرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى صلى صلوات كثيرة ، ولم يعلموا منه إقرارا باللسان أنه يحكم له بالإيمان ، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة بمثل ذلك .
الثالثة : قوله تعالى وهموا بما لم ينالوا يعني المنافقين من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك ، وكانوا اثني عشر رجلا . قال حذيفة : سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم كلهم . فقلت : ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال : أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة . قيل : يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال : شهاب من جهنم يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه . فكان كذلك . خرجه مسلم بمعناه . وقيل هموا بعقد التاج على رأس ابن أبي ليجتمعوا عليه . وقد تقدم قول مجاهد في هذا .
[ ص: 132 ] الرابعة : قوله تعالى : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله أي ليس ينقمون شيئا ; كما قال النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ويقال : نقم ينقم ، ونقم ينقم ; قال الشاعر في الكسر :
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقال زهير :
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم
ينشد بكسر القاف وفتحها . قال الشعبي : كانوا يطلبون دية فيقضي لهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغنوا . ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا . ويقال : إن القتيل كان مولى الجلاس . وقال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش ، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم . وهذا المثل مشهور : اتق شر من أحسنت إليه . قال القشيري أبو نصر : قيل للبجلي أتجد في كتاب الله تعالى اتق شر من أحسنت إليه ؟ قال نعم ، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله .
الخامسة : قوله تعالى فإن يتوبوا يك خيرا لهم روي أن الجلاس قام حين نزلت الآية فاستغفر وتاب . فدل هذا على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان ; وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق . وقد اختلف في ذلك العلماء ; فقال الشافعي : تقبل توبته . وقال مالك : توبة الزنديق لا تعرف ; لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر ، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله . وكذلك يفعل الآن في كل حين ، يقول : أنا مؤمن وهو يضمر خلاف ما يظهر ; فإذا عثر عليه وقال : تبت ، لم يتغير حاله عما كان عليه . فإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته ; وهو المراد بالآية . والله أعلم .
السادسة : قوله تعالى وإن يتولوا أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة
يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار وما لهم في الأرض من ولي أي مانع يمنعهم ولا نصير أي معين . وقد تقدم .
[ ص: 133 ]
[ قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى ومنهم من عاهد الله قال قتادة : هذا رجل من الأنصار قال : لئن رزقني الله شيئا لأؤدين فيه حقه ولأتصدقن ; فلما آتاه الله ذلك فعل ما نص عليكم ، فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور . وروى علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري - فسماه - قال للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يرزقني مالا . فقال عليه السلام ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم عاود ثانيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا لسارت فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه . فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ; فاتخذ غنما فنمت كما تنمي الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، وترك ما سواهما . ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمي حتى ترك الجمعة أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ويح ثعلبة ثلاثا . ثم نزل خذ من أموالهم صدقة . فبعث صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة ، وقال لهما : مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما فأتيا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا . الحديث ، وهو مشهور . وقيل : سبب غناء ثعلبة أنه ورث ابن عم له . قاله ابن عبد البر : قيل إن ثعلبة بن حاطب هو الذي نزل فيه ومنهم من عاهد الله . . . الآية ; إذ منع الزكاة ، فالله أعلم . وما جاء فيمن شاهد بدرا يعارضه قوله تعالى في الآية : فأعقبهم نفاقا في قلوبهم . . . الآية .
[ ص: 134 ] قلت : وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه . فلما سلم بخل بذلك فنزلت .
قلت : وثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان ; حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة فما روي عنه غير صحيح . قال أبو عمر : ولعل قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح ، والله أعلم . وقال الضحاك : إن الآية نزلت في رجال من المنافقين نبتل بن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير .
قلت : وهذا أشبه بنزول الآية فيهم ; إلا أن قوله فأعقبهم نفاقا يدل على أن الذي عاهد الله لم يكن منافقا من قبل ، إلا أن يكون المعنى : زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات ، وهو قوله تعالى : إلى يوم يلقونه على ما يأتي .
الثانية : قال علماؤنا : لما قال الله تعالى : ومنهم من عاهد الله احتمل أن يكون عاهد الله بلسانه ولم يعتقده بقلبه . واحتمل أن يكون عاهد الله بهما ثم أدركته سوء الخاتمة ; فإن الأعمال بخواتيمها والأيام بعواقبها . و ( من ) رفع بالابتداء ، والخبر في المجرور . ولفظ اليمين ورد في الحديث وليس في ظاهر القرآن يمين إلا بمجرد الارتباط والالتزام ، أما إنه في صيغة القسم في المعنى : فإن اللام تدل عليه ، وقد أتى بلامين : الأولى للقسم ، والثانية لام الجواب ، وكلاهما للتأكيد . ومنهم من قال : إنهما لاما القسم ; والأول أظهر ، والله أعلم .
الثالثة : العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر إلى غيره فيه فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده وإن لم يلفظ به ; قاله علماؤنا . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به وهو القول الآخر لعلمائنا . ابن العربي : والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك ، وقد سئل : إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه فقال : يلزمه ; كما يكون مؤمنا بقلبه ، وكافرا بقلبه . قال ابن العربي : وهذا أصل بديع ، وتحريره أن يقال : عقد لا يفتقر فيه المرء إلى غيره في التزامه فانعقد عليه بنية . أصله الإيمان والكفر .
قلت : وحجة القول الثاني ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ورواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن [ ص: 135 ] شيئا حتى يتكلم به . قال أبو عمر : ومن اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء . هذا هو الأشهر عن مالك . وقد روي عنه أنه يلزمه الطلاق إذا نواه بقلبه ; كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه . والأول أصح في النظر وطريق الأثر ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجاوز الله لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد .
الرابعة : إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف وتركه معصية . وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق . بيد أن المعنى فيه إن كان الرجل فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة ; فسأل الله مالا تلزمه فيه الزكاة ويؤدي ما تعين عليه من فرضه ، فلما آتاه الله ما شاء من ذلك ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه ، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه إذ كان طلبه من الله تعالى بغير نية خالصة ، أو نية لكن سبقت فيه البداية ، المكتوب عليه فيها الشقاوة . نعوذ بالله من ذلك .
قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه السلام : إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له في غيبالله عز وجل من أمنيته أي من عاقبتها ، فرب أمنية يفتتن بها أو يطغى فتكون سببا للهلاك دنيا وأخرى ؛ لأن أمور الدنيا مبهمة عواقبها خطرة غائلتها . وأما تمني أمور الدين والأخرى فتمنيها محمود العاقبة محضوض عليها مندوب إليها .
الخامسة : قوله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن دليل على أن من قال : إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة فإنه يلزمه ; وبه قال أبو حنيفة : وقال الشافعي : لا يلزمه . والخلاف في الطلاق مثله ، وكذلك في العتق . وقال أحمد بن حنبل : يلزمه ذلك في العتق ولا يلزمه في الطلاق ; لأن العتق قربة وهي تثبت في الذمة بالنذر ; بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محل ، وهو لا يثبت في الذمة . احتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك لفظ الترمذي . وقال : وفي الباب عن علي ومعاذ وجابر وابن عباس وعائشة حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم . ابن العربي : وسرد [ ص: 136 ] أصحاب الشافعي في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح منها شيء فلا يعول عليها ، ولم يبق إلا ظاهر الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 136 الى صــ 145
الحلقة (362)
السادسة : فلما آتاهم من فضله أي أعطاهم بخلوا به أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير ، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا . وقد مضى البخل في ( آل عمران )
( وتولوا ) أي عن طاعة الله ( وهم معرضون ) أي عن الإسلام ، أي مظهرون للإعراض عنه .
السابعة : قوله تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم مفعولان أي أعقبهم الله تعالى نفاقا في قلوبهم . وقيل : أي أعقبهم البخل نفاقا ; ولهذا قال : ( بخلوا به ) . ( إلى يوم يلقونه ) أي يلقون الله . وفي هذا دليل على أنه مات منافقا . وهو يبعد أن يكون المنزل فيه ثعلبة أو حاطب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم : قال لعمر : " وما يدريك لعل الله ، اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " . وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها . ( بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) كذبهم نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك .
الثامنة : قوله تعالى ( نفاقا ) النفاق إذا كان في القلب فهو الكفر . فأما إذا كان في الأعمال فهو معصية . قال النبي صلى الله عليه وسلم : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها . إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر خرجه البخاري . وقد مضى في ( البقرة ) اشتقاق هذه الكلمة ، فلا معنى لإعادتها . واختلف الناس في تأويل هذا الحديث ; فقالت طائفة : إنما ذلك لمن يحدث بحديث يعلم أنه كذب ، ويعهد عهدا لا يعتقد الوفاء به ، وينتظر الأمانة للخيانة فيها . وتعلقوا [ ص: 137 ] بحديث ضعيف الإسناد ، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خارجين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ثقيلان فقال علي : ما لي أراكما ثقيلين ؟ قالا حديثا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنافقين إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف فقال علي : أفلا سألتماه ؟ فقالا : هبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لكني سأسأله ; فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، خرج أبو بكر وعمر وهما ثقيلان ، ثم ذكر ما قالاه ، فقال : قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي وضعاه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون ابن العربي : قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا ، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو تكذيب له تعالى الله وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين . وقالت طائفة : ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتعلقوا بما رواه مقاتل بن حيان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس قالا : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه فقلنا : يا رسول الله ، إنك قلت ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولم يسلم منهن كثير من الناس ; قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما لكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين كما خصهم الله في كتابه ، أما قولي إذا حدث كذب فذلك قوله عز وجل إذا جاءك المنافقون . . . - الآية - أفأنتم كذلك ؟ قلنا : لا . قال : لا عليكم أنتم من ذلك برآء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك فيما أنزل الله علي ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله . . . - الآيات الثلاث - أفأنتم كذلك ؟ قلنا لا ، والله لو عاهدنا الله على شيء أوفينا به . قال : لا عليكم أنتم من ذلك برآء ، وأما قولي وإذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله علي إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال . . . الآية . فكل إنسان مؤتمن على دينه ، فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية ، والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك ؟ قلنا لا ، قال : لا عليكم أنتم من ذلك برآء . وإلى هذا صار كثير من التابعين والأئمة . قالت طائفة : [ ص: 138 ] هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال . ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة . قال ابن العربي : والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد . قال علماؤنا : إن إخوة يوسف عليه السلام عاهدوا أباهم فأخلفوه ، وحدثوه فكذبوه ، وائتمنهم على يوسف فخانوه وما كانوا منافقين . قال عطاء بن أبي رباح : قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء . وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : النفاق نفاقان ؛ نفاق الكذب ونفاق العمل ; فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة . وروى البخاري عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان .
قوله تعالى ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم هذا توبيخ ، وإذا كان عالما فإنه سيجازيهم .
[ قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين قوله تعالى استغفر لهم يأتي بيانه عند قوله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا
[ قوله تعالى فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون قوله تعالى فرح المخلفون بمقعدهم أي بقعودهم . قعد قعودا ومقعدا ; أي جلس . وأقعده غيره ; عن الجوهري . والمخلف المتروك ; أي خلفهم الله وثبطهم ، أو خلفهم رسول الله والمؤمنون لما علموا تثاقلهم عن الجهاد ; قولان ، وكان هذا في غزوة تبوك .
خلاف رسول الله مفعول من أجله ، وإن شئت كان مصدرا . والخلاف المخالفة . ومن [ ص: 140 ] قرأ " خلف رسول الله " أراد التأخر عن الجهاد .
وقالوا لا تنفروا في الحر أي قال بعضهم لبعض ذلك .
قل نار جهنم قل لهم يا محمد نار جهنم . ( أشد حرا لو كانوا يفقهون ) ابتداء وخبر . ( حرا ) نصب على البيان ; أي من ترك أمر الله تعرض لتلك النار .
[ قوله تعالى فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون فيه مسألتان :
الأولى قوله تعالى فليضحكوا قليلا أمر ، معناه معنى التهديد وليس أمرا بالضحك . والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها . قال الحسن : فليضحكوا قليلا في الدنيا وليبكوا كثيرا في جهنم . وقيل : هو أمر بمعنى الخبر . أي إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا . ( جزاء ) مفعول من أجله ; أي للجزاء .
الثانية : من الناس من كان لا يضحك اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف ، وإن كان عبدا صالحا . قال صلى الله عليه وسلم : والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لوددت أني كنت شجرة تعضد خرجه الترمذي . وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك . وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول : الله أضحك وأبكى . وكان الصحابة يضحكون ; إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه ، وهو من فعل السفهاء والبطالة . وفي الخبر : أن كثرته تميت القلب وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود ; قال عليه السلام : ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء ( فتقرح ) العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجه أيضا .
[ ص: 141 ] قوله تعالى فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين قوله تعالى فإن رجعك الله إلى طائفة منهم أي المنافقين . وإنما قال : ( إلى طائفة ) لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له ، ثم عفا وتاب عليهم ; كالثلاثة الذين خلفوا . وسيأتي .
فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا أي عاقبهم بألا تصحبهم أبدا . وهو كما قال في " سورة الفتح " : ( قل لن تتبعونا ) .
و ( الخالفين ) جمع خالف ; كأنهم خلفوا الخارجين . قال ابن عباس : ( الخالفين ) من تخلف من المنافقين . وقال الحسن : مع النساء والضعفاء من الرجال ، فغلب المذكر . وقيل : المعنى فاقعدوا مع الفاسدين ; من قولهم : فلان خالفة أهل بيته . إذا كان فاسدا فيهم ; من خلوف فم الصائم . ومن قولك : خلف اللبن ; أي فسد بطول المكث في السقاء ; فعلى هذا يعني فاقعدوا مع الفاسدين . وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز .
قوله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : روي أن هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه . ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما . وتظاهرت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ، وأن الآية نزلت بعد ذلك . وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية ; فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه . والروايات الثابتة على خلاف هذا ، ففي البخاري عن ابن عباس قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ; فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من ( براءة ) ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ونحوه عن ابن عمر ; خرجه مسلم . قال ابن عمر : لما توفي [ ص: 142 ] عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما خيرني الله تعالى فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على سبعين قال : إنه منافق . فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فترك الصلاة عليهم . وقال بعض العلماء : إنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بناء على الظاهر من لفظ إسلامه . ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه .
الثانية : إن قال قائل : فكيف قال عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ; ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم . قيل له : يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره ، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان القرآن ينزل على مراده ، كما قال : وافقت ربي في ثلاث . وجاء : في أربع . وقد تقدم في البقرة . فيكون هذا من ذلك . ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم الآية . لا أنه كان تقدم نهي على ما دل عليه حديث البخاري ومسلم . والله أعلم .
قلت : ويحتمل أن يكون فهمه من قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين لأنها نزلت بمكة . وسيأتي القول فيها .
الثالثة : قوله تعالى استغفر لهم الآية . بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار . قال القشيري : ولم يثبت ما يروى أنه قال : ( لأزيدن على السبعين ) .
قلت : وهذا خلاف ما ثبت في حديث ابن عمر ( وسأزيد على سبعين ) وفي حديث ابن [ ص: 143 ] عباس لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر لهم لزدت عليها . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . خرجه البخاري .
الرابعة : واختلف العلماء في تأويل قوله : استغفر لهم هل هو إياس أو تخيير ، فقالت طائفة : المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى : فلن يغفر الله لهم . وذكر السبعين وفاق جرى ، أو هو عادتهم في العبارة عن الكثرة والإغياء . فإذا قال قائلهم : لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله : لا أكلمه أبدا . ومثله في الإغياء قوله تعالى : في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا وقوله عليه السلام : من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا . وقالت طائفة : هو تخيير - منهم الحسن وقتادة وعروة - إن شئت استغفر لهم وإن شئت لا تستغفر . ولهذا لما أراد أن يصلي على ابن أبي قال عمر : أتصلي على عدو الله ، القائل يوم كذا كذا وكذا ؟ فقال : إني خيرت فاخترت . قالوا ثم نسخ هذا لما نزل سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم . ذلك بأنهم كفروا أي لا يغفر الله لهم لكفرهم .
الخامسة : قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية . وهذه الآية نزلت بمكة عند موت أبي طالب ، على ما يأتي بيانه . وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا . وهو متقدم على هذه الآية التي فهم منها التخيير بقوله : إنما خيرني الله . وهذا مشكل . فقيل : إن استغفاره لعمه إنما كان مقصوده استغفارا مرجو الإجابة حتى تحصل له المغفرة . وفي هذا الاستغفار استأذن عليه السلام ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يأذن له فيه . وأما الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه فهو استغفار لساني لا ينفع ، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له . والله أعلم .
السادسة : واختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لعبد الله ; فقيل : إنما أعطاه لأن عبد الله كان قد أعطى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصه يوم بدر . وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر - على [ ص: 144 ] ما تقدم - وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه ، فطلب له قميصا فما وجد له قميص يقادره إلا قميص عبد الله ، لتقاربهما في طول القامة ; فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا ، حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافئه بها ، وقيل : إنما أعطاه القميص إكراما لابنه وإسعافا له في طلبته وتطييبا لقلبه . والأول أصح ; خرجه البخاري عن جابر بن عبد الله قال : لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب ; فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه ، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه ; فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي كذا في بعض الروايات ( من قومي ) يريد من منافقي العرب . والصحيح أنه قال : رجال من قومه . ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير : فأسلم وتاب لهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج .
السابعة : لما قال تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا قال علماؤنا : هذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار ، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين . واختلف هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين على قولين . يؤخذ لأنه علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم لقوله تعالى : إنهم كفروا بالله ورسوله فإذا زال الكفر وجبت الصلاة . ويكون هذا نحو قوله تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون يعني الكفار ; فدل على أن غير الكفار يرونه وهم المؤمنون ; فذلك مثله . والله أعلم . أو تؤخذ الصلاة من دليل خارج عن الآية ، وهي الأحاديث الواردة في الباب ، والإجماع . ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه . روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه قال : فقمنا فصففنا صفين ; يعني [ ص: 145 ] النجاشي . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات . وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين ، من أهل الكبائر كانوا أو صالحين ، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وعملا . والحمد لله . واتفق العلماء على ذلك إلا في الشهيد كما تقدم ; وإلا في أهل البدع والبغاة .
الثامنة : والجمهور من العلماء على أن التكبير أربع . قال ابن سيرين : كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة . وقالت طائفة : يكبر خمسا ; وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم . وعن علي : ست تكبيرات . وعن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد : ثلاث تكبيرات والمعول عليه أربع . روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الملائكة صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالوا هذه سنتكم يا بني آدم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 146 الى صــ 155
الحلقة (363)
التاسعة : ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك ، وكذلك أبو حنيفة والثوري ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء رواه أبو داود من حديث أبي هريرة . وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من علمائنا وداود إلى أنه يقرأ بالفاتحة ; لقوله عليه السلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب حملا له على عمومه . وبما خرجه البخاري عن ابن عباس وصلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنها سنة . وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال : السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ، ثم يكبر ثلاثا ، والتسليم عند الآخرة . وذكر محمد بن [ ص: 146 ] نصر المروزي عن أبي أمامة أيضا قال : السنة في الصلاة على الجنائز أن تكبر ، ثم تقرأ بأم القرآن ، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم تخلص الدعاء للميت . ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم . قال شيخنا أبو العباس : وهذان الحديثان صحيحان ، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند . والعمل على حديث أبي أمامة أولى ; إذ فيه جمع بين قوله عليه السلام : " لا صلاة " وبين إخلاص الدعاء للميت . وقراءة الفاتحة فيها إنما هي استفتاح للدعاء . والله أعلم .
العاشرة : وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ، لما رواه أبو داود عن أنس وصلى على جنازة فقال له العلاء بن زياد : يا أبا حمزة ، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ؟ قال : نعم . ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها .
الحادية عشرة : قوله تعالى ولا تقم على قبره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت ، على ما بيناه ( في التذكرة ) والحمد لله .
قوله تعالى ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون كرره تأكيدا . وقد تقدم الكلام فيه .
[ قوله تعالى وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين [ ص: 147 ] انتدب المؤمنون إلى الإجابة وتعلل المنافقون . فالأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان وللمنافقين بابتداء الإيمان . و ( أن ) في موضع نصب ; أي بأن آمنوا . و ( الطول ) الغنى ; وقد تقدم . وخصهم بالذكر لأن من لا طول له لا يحتاج إلى إذن لأنه معذور . ( وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) أي العاجزين عن الخروج .
[ قوله تعالى رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم قوله تعالى رضوا بأن يكونوا مع الخوالف الخوالف جمع خالفة ; أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال . وقد يقال للرجل : خالفة وخالف أيضا إذا كان غير نجيب ; على ما تقدم . يقال : فلان خالفة أهله إذا كان دونهم . قال النحاس : وأصله من خلف اللبن يخلف إذا حمض من طول مكثه . وخلف فم الصائم إذا تغير ريحه ; ومنه فلان خلف سوء ; إلا أن فواعل جمع فاعلة ولا يجمع ( فاعل ) صفة على فواعل إلا في الشعر ; إلا في حرفين ، وهما فارس وهالك .
وقوله تعالى في وصف المجاهدين : وأولئك لهم الخيرات قيل : النساء الحسان ; عن الحسن . دليله قوله عز وجل : فيهن خيرات حسان . ويقال : هي خيرة النساء . والأصل خيرة فخفف ; مثل هينة وهينة . وقيل : جمع خير . فالمعنى لهم منافع الدارين . وقد تقدم معنى الفلاح . والجنات : البساتين ، وقد تقدم أيضا .
[ قوله تعالى وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم قوله تعالى وجاء المعذرون من الأعراب قرأ الأعرج والضحاك " المعذرون " [ ص: 148 ] مخففا . ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم ، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس . قال الجوهري : وكان ابن عباس يقرأ " وجاء المعذرون " مخففة ، من أعذر . ويقول : والله لهكذا أنزلت . قال النحاس : إلا أن مدارها عن الكلبي ، وهي من أعذر ; ومنه قد أعذر من أنذر ; أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك . وأما ( المعذرون ) بالتشديد ففيه قولان : أحدهما أنه يكون المحق ; فهو في المعنى المعتذر ؛ لأن له عذرا . فيكون ( المعذرون ) على هذه أصله المعتذرون ، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين ; كما قرئ ( يخصمون ) بفتح الخاء . ويجوز " المعذرون " بكسر العين لاجتماع الساكنين . ويجوز ضمها اتباعا للميم . ذكره الجوهري والنحاس . إلا أن النحاس حكاه عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد . ويجوز أن يكون الأصل المعتذرون ، ثم أدغمت التاء في الذال ; ويكونون الذين لهم عذر . قال لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
والقول الآخر : أن المعذر قد يكون غير محق ، وهو الذي يعتذر ولا عذر له . قال الجوهري : فهو المعذر على جهة المفعل ; لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر . قال غيره : يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا ; أي قصر ولم يبالغ فيه . والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب . قال الجوهري : وكان ابن عباس يقول : لعن الله المعذرين . كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر ، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر . النحاس : قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين ، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس . ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه ، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم ، قال : لأنهم جاءوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا . قال النحاس : وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر . وقول العرب : من عذيري من فلان ، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به ; فمن يعذرني إن عاقبته . فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس : هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : يا رسول الله ، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ; فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى قراءة التشديد في القول الثاني ، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم ; لعلمه أنهم غير محقين ، والله أعلم . وقعد قوم بغير [ ص: 149 ] عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال : وقعد الذين كذبوا الله ورسوله والمراد بكذبهم قولهم : ( إنا مؤمنون ) . و ( ليؤذن ) نصب بلام كي .
[ قوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ليس على الضعفاء الآية . أصل في سقوط التكليف عن العاجز ; فكل من عجز عن شيء سقط عنه ، فتارة إلى بدل هو فعل ، وتارة إلى بدل هو غرم ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال ; ونظير هذه الآية قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج . وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه . قالوا : يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : حبسهم العذر . فبينت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين ، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون ; فقال : ليس على هؤلاء حرج . ( إذا نصحوا لله ورسوله ) إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه ، قال العلماء : فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار ، وما صبرت القلوب ; فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه مصعب بن عمير ، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها ، فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل [ ص: 150 ] هذه عزائم القوم . والحق يقول : ليس على الأعمى حرج وهو في الأول . ولا على الأعرج حرج وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش . قال له الرسول عليه السلام : إن الله قد عذرك . فقال : والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة إلى أمثالهم حسب ما تقدم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم . وقال عبد الله بن مسعود : ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف .
الثانية : قوله تعالى : إذا نصحوا النصح إخلاص العمل من الغش . ومنه التوبة النصوح . قال نفطويه : نصح الشيء إذا خلص . ونصح له القول أي أخلصه له . وفي صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدين النصيحة - ثلاثا - قلنا لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
قال العلماء : النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ، ووصفه بصفات الألوهية ، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابه والبعد من مساخطه . والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوته ، والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبته ومحبة آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها ، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم . وكذا النصح لكتاب الله : قراءته والتفقه فيه ، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به . والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين ، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم . والنصح للعامة : ترك معاداتهم ، وإرشادهم وحب الصالحين منهم ، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم . وفي الحديث الصحيح مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
[ ص: 151 ] الثالثة : قوله تعالى ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم من سبيل في موضع رفع اسم ( ما ) أي من طريق إلى العقوبة . وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن . ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه : إنه لا دية له ; لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه . وقال أبو حنيفة : تلزمه الدية . وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه ; وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : تلزمه لمالكه القيمة . قال ابن العربي : وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها .
الرابعة : قوله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم روي أن الآية نزلت في عرباض بن سارية . وقيل : نزلت في عائذ بن عمرو . وقيل : نزلت في بني مقرن - وعلى هذا جمهور المفسرين - وكانوا سبعة إخوة ، كلهم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم ، وهم النعمان ومعقل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يسم . بنو مقرن المزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم - فيما ذكره ابن عبد البر وجماعة - في هذه المكرمة غيرهم . وقد قيل : إنهم شهدوا الخندق كلهم . وقيل : نزلت في سبعة نفر من بطون شتى ، وهم البكاءون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم ، فلم يجد ما يحملهم عليه ; ف تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون فسموا البكائين . وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعلبة بن زيد أخو بني حارثة . وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار . وعمرو بن الحمام من بني سلمة . وعبد الله بن المغفل المزني ، وقيل : بل هو عبد الله بن عمرو المزني . وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف ، وعرباض بن سارية الفزاري ، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له . وفيهم اختلاف . قال القشيري : معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غنمة ، وعبد الله بن مغفل وآخر . قالوا : يا نبي الله ، قد ندبتنا للخروج معك ، فاحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نغز معك . فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون . وقال ابن عباس : سألوه أن يحملهم على الدواب ، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين ، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق . وقال الحسن : نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه ، ووافق ذلك منه غضبا فقال : والله لا أحملكم [ ص: 152 ] ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا يبكون ; فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذودا . فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله ؟ فقال : إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني .
قلت : وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم بلفظه ومعناه . وفي مسلم : فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى . . . الحديث . وفي آخره : فانطلقوا فإنما حملكم الله . وقال الحسن أيضا وبكر بن عبد الله : نزلت في عبد الله بن مغفل المزني ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله . قال الجرجاني : التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم و " قلت لا أجد " . فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو ، والجواب تولوا .
تولوا وأعينهم تفيض من الدمع الجملة في موضع نصب على الحال . ( حزنا ) مصدر . ألا يجدوا نصب بأن . وقال النحاس : قال الفراء يجوز " أن لا يجدون " يجعل " لا " بمعنى ليس . وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون .
الخامسة : والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه . وقال علماؤنا : إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد . والله أعلم .
السادسة : في قوله تعالى : وأعينهم تفيض من الدمع ما يستدل به على قرائن الأحوال . ثم منها ما يفيد العلم الضروري ، ومنها ما يحتمل الترديد . فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي وخمشت الخدود وحلقت الشعور وسلقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثبور ; فيعلم أنه قد مات . وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام ; قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف عليه السلام : وجاءوا أباهم عشاء يبكون . وهم الكاذبون ; قال الله تعالى مخبرا عنهم : وجاءوا على قميصه بدم كذب [ ص: 153 ] ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبنى عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها . وقال الشاعر :
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وسيأتي هذا المعنى في " يوسف " مستوفى إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون
قوله تعالى إنما السبيل أي العقوبة والمأثم .
على الذين يستأذنونك وهم أغنياء والمراد المنافقون . كرر ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم .
قوله تعالى يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون
قوله تعالى يعتذرون إليكم يعني المنافقين لن نؤمن لكم أي لن نصدقكم قد نبأنا الله من أخباركم أي أخبرنا بسرائركم .
وسيرى الله عملكم فيما تستأنفون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون أي يجازيكم بعملكم . وقد مضى هذا كله مستوفى .
قوله تعالى سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون
[ ص: 154 ] قوله تعالى سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم أي من تبوك . والمحلوف عليه محذوف ; أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج .
لتعرضوا عنهم أي لتصفحوا عن لومهم . وقال ابن عباس : أي لا تكلموهم . وفي الخبر أنه قال عليه السلام لما قدم من تبوك : ولا تجالسوهم ولا تكلموهم .
إنهم رجس أي عملهم رجس ; والتقدير : إنهم ذوو رجس ; أي عملهم قبيح .
ومأواهم جهنم أي منزلهم ومكانهم . قال الجوهري : المأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلا أو نهارا . وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا ، على فعول ، وإواء . ومنه قوله تعالى : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء . وآويته أنا إيواء . وأويته إذا أنزلته بك ; فعلت وأفعلت ، بمعنى ; عن أبى زيد . ومأوي الإبل " بكسر الواو " لغة في مأوى الإبل خاصة ، وهو شاذ .
قوله تعالى يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين حلف عبد الله بن أبي ألا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وطلب أن يرضى عنه .
قوله تعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم
قوله تعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا فيه مسألتان :
الأولى : لما ذكر جل وعز أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا عنها من الأعراب ; فقال كفرهم أشد . قال قتادة : لأنهم أبعد عن معرفة السنن . وقيل : لأنهم أقسى قلبا [ ص: 155 ] وأجفى قولا وأغلظ طبعا وأبعد عن سماع التنزيل .
ولذلك قال الله تعالى في حقهم : ( وأجدر ) أي أخلق . ( ألا يعلموا ) ( أن ) في موضع نصب بحذف الباء ؛ تقول : أنت جدير بأن تفعل وأن تفعل ؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب ( أن ) ، وإن أتيت بالباء صلح ب ( أن ) وغيره ؛ تقول : أنت جدير أن تقوم ، وجدير بالقيام . ولو قال : أنت جدير القيام كان خطأ . وإنما صلح مع ( أن ) لأن ( أن ) يدل على الاستقبال فكأنها عوض من المحذوف . ( حدود ما أنزل الله ) أي فرائض الشرع . وقيل : حجج الله في الربوبية وبعثة الرسل لقلة نظرهم . ولما كان ذلك ودل على نقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة عن سواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة : أولها : لا حق لهم في الفيء والغنيمة ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث بريدة ، وفيه : ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين .
وثانيها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة ; لما في ذلك من تحقق التهمة . وأجازها أبو حنيفة قال : لأنها لا تراعى كل تهمة ، والمسلمون كلهم عنده على العدالة . وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا ; وهو الصحيح لما بيناه في ( البقرة ) . وقد وصف الله تعالى الأعراب هنا أوصافا ثلاثة : أحدها : بالكفر والنفاق . والثاني : بأنه يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر . والثالث : بالإيمان بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ; فمن كانت هذه صفته فبعيد ألا تقبل شهادته فيلحق بالثاني والأول ، وذلك باطل . وقد مضى الكلام في هذا في ( النساء ) . وثالثها : أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم الجمعة . وكره أبو مجلز إمامة الأعرابي . وقال مالك : لا يؤم وإن كان أقرأهم . وقال سفيان الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي : الصلاة خلف الأعرابي جائزة . واختاره ابن المنذر إذا أقام حدود الصلاة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 156 الى صــ 165
الحلقة (364)
قوله تعالى : ( أشد ) أصله أشدد ; وقد تقدم . ( كفرا ) نصب على البيان . ( ونفاقا ) [ ص: 156 ] عطف عليه . ( وأجدر ) عطف على ( أشد ) ، ومعناه أخلق ; يقال : فلان جدير بكذا أي خليق به ، وأنت جدير أن تفعل كذا ، والجمع جدراء وجديرون . وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء . فقوله : هو أجدر بكذا أي أقرب إليه وأحق به .
( ألا يعلموا ) أي بألا يعلموا .
والعرب : جيل من الناس ، والنسبة إليهم عربي بين العروبة ، وهم أهل الأمصار . والأعراب منهم سكان البادية خاصة . وجاء في الشعر الفصيح أعاريب . والنسبة إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له ، وليس الأعراب جمعا للعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط ; وإنما العرب اسم جنس . والعرب العاربة هم الخلص منهم ، وأخذ من لفظه وأكد به ; كقولك : ليل لائل . وربما قالوا : العرب وتعرب أي تشبه بالعرب . وتعرب بعد هجرته أي صار أعرابيا . والعرب المستعربة هم الذين ليسوا بخلص ، وكذلك المتعربة ، والعربية هي هذه اللغة . ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية ، وهو أبو اليمن كلهم . والعرب والعرب واحد ; مثل العجم والعجم . والعريب تصغير العرب ; قال الشاعر :
ومكن الضباب طعام العريب ولا تشتهيه نفوس العجم
إنما صغرهم تعظيما ; كما قال : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب كله عن الجوهري . وحكى القشيري وجمع العربي العرب ، وجمع الأعرابي أعراب وأعاريب . والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب . والمهاجرون والأنصار عرب لا أعراب . وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشأوا من عربة وهي من تهامة فنسبوا إليها . وأقامت قريش بعربة وهي مكة ، وانتشر سائر العرب في جزيرتها .
قوله تعالى ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم قوله تعالى ومن الأعراب من يتخذ ( من ) في موضع رفع بالابتداء . ما ينفق مغرما مفعولان ; والتقدير ينفقه ، فحذفت الهاء لطول الاسم . مغرما معناه غرما [ ص: 157 ] وخسرانا ; وأصله لزوم الشيء ; ومنه : إن عذابها كان غراما أي لازما ، أي يرون ما ينفقونه في جهاد وصدقة غرما ولا يرجون عليه ثوابا . ويتربص بكم الدوائر التربص الانتظار ; وقد تقدم . ( والدوائر ) جمع دائرة ، وهي الحالة المنقلبة عن النعمة إلى البلية ، أي يجمعون إلى الجهل بالإنفاق سوء الدخلة وخبث القلب . عليهم دائرة السوء قرأه ابن كثير وأبو عمرو بضم السين هنا وفي الفتح ، وفتحها الباقون . وأجمعوا على فتح السين في قوله : ما كان أبوك امرأ سوء . والفرق بينهما أن السوء بالضم المكروه . قال الأخفش : أي عليهم دائرة الهزيمة والشر . وقال الفراء : أي عليهم دائرة العذاب والبلاء . قالا : ولا يجوز امرأ سوء . بالضم ; كما لا يقال : هو امرؤ عذاب ولا شر . وحكي عن محمد بن يزيد قال : السوء بالفتح الرداءة . قال سيبويه : مررت برجل صدق ، ومعناه برجل صلاح . وليس من صدق اللسان ، ولو كان من صدق اللسان لما قلت : مررت بثوب صدق . ومررت برجل سوء ليس هو من سؤته ، وإنما معناه مررت برجل فساد . وقال الفراء : السوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية . قال غيره : والفعل منه ساء يسوء . والسوء بالضم اسم لا مصدر ; وهو كقولك : عليهم دائرة البلاء والمكروه .
قوله تعالى ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم
ومن الأعراب من يؤمن بالله أي صدق . والمراد بنو مقرن من مزينة ; ذكره المهدوي .
( قربات ) جمع قربة ، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى ; والجمع قرب وقربات وقربات وقربات ; حكاه النحاس . والقربات بالضم ما تقرب به إلى الله تعالى ; تقول منه : قربت لله قربانا . والقربة بكسر القاف ما يستقى فيه الماء ; والجمع في أدنى العدد قربات وقربات وقربات ، وللكثير قرب . وكذلك جمع كل ما كان على فعلة ; مثل سدرة وفقرة ، لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن ; حكاه الجوهري . وقرأ نافع في رواية ورش " قربة " بضم الراء وهي الأصل . والباقون بسكونها تخفيفا ; مثل كتب ورسل ، ولا خلاف في قربات . وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ ألا إنها قربة لهم . ومعنى وصلوات الرسول استغفاره ودعاؤه . والصلاة تقع على ضروب ; فالصلاة من الله جل وعز الرحمة والخير والبركة ; قال الله [ ص: 158 ] تعالى : هو الذي يصلي عليكم وملائكته والصلاة من الملائكة الدعاء ، وكذلك هي من النبي صلى الله عليه وسلم ; كما قال : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة .
ألا إنها قربة لهم أي تقربهم من رحمة الله ، يعني نفقاتهم .
قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم فيه سبع مسائل :
الأولى : لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار ، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين ، وأثنى عليهم . وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم . ونحن نذكر من ذلك طرفا نبين الغرض فيه إن شاء الله تعالى . وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ والأنصار رفعا عطفا على السابقين . قال الأخفش : الخفض في الأنصار الوجه ; لأن السابقين منهما . والأنصار اسم إسلامي . قيل لأنس بن مالك : أرأيت قول الناس لكم : الأنصار ، اسم سماكم الله به أم كنتم تدعون به في الجاهلية ؟ قال : بل اسم سمانا الله به في القرآن ; ذكره أبو عمر في الاستذكار .
الثانية : نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين ; في قول سعيد بن المسيب وطائفة . وفي قول أصحاب الشافعي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحديبية ، وقاله الشعبي . وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار : هم أهل بدر . واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم . أما أفضلهم ، وهي :
الثالثة : فقال أبو منصور البغدادي التميمي : أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية .
[ ص: 159 ] الرابعة : وأما أولهم إسلاما فروى مجالد عن الشعبي قال : سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما ؟ قال أبو بكر ، أوما سمعت قول حسان :
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها
بعد النبي وأوفاها بما حملا الثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدق الرسلا
وذكر أبو الفرج الجوزي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال : أدركت أبي وشيخنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر ; وهو قول ابن عباس وحسان وأسماء بنت أبي بكر ، وبه قال إبراهيم النخعي . وقيل : أول من أسلم علي ; روي ذلك عن زيد بن أرقم وأبي ذر والمقداد وغيرهم . قال الحاكم أبو عبد الله : لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أن عليا أولهم إسلاما . وقيل : أول من أسلم زيد بن حارثة . وذكر معمر نحو ذلك عن الزهري . وهو قول سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس . وقيل : أول من أسلم خديجة أم المؤمنين ; روي ذلك من وجوه عن الزهري ، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يسار وجماعة ، وروي أيضا عن ابن عباس . وادعى الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة ، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها . وكان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي يجمع بين هذه الأخبار ، فكان يقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد بن حارثة ، ومن العبيد بلال . والله أعلم . وذكر محمد بن سعد قال : أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل قال : كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعا أو خامسا . قال الليث بن سعد وحدثني أبو الأسود قال : أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين . وروي أن عليا أسلم ابن سبع سنين . وقيل : ابن عشر .
الخامسة : والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه . قال البخاري في صحيحه : من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه . وروي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين ، وغزا معه غزوة أو غزوتين . وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيب يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة .
[ ص: 160 ] السادسة : لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق . وقال ابن العربي : السبق يكون بثلاثة أشياء : الصفة وهو الإيمان ، والزمان ، والمكان . وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات ; والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : نحن الآخرون الأولون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غدا والنصارى بعد غد . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه ، والاستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه ، لا نعترض عليه ولا نختار معه ، ولا نبدل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب ; وذلك بتوفيق الله لما قضاه ، وبتيسيره لما يرضاه ; وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
السابعة : قال ابن خويزمنداد : تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة ، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك ، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام . وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما . واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم ; فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضهم على بعض بحسب السابقة . وكان عمر يقول له : أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له ؟ فقال أبو بكر : إنما عملوا لله وأجرهم عليه . وكان عمر يفضل في خلافته ; ثم قال عند وفاته : لئن عشت إلى غد لألحقن أسفل الناس بأعلاهم ; فمات من ليلته . والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف .
قوله تعالى والذين اتبعوهم بإحسان فيه مسألتان : الأولى : قرأ عمر " والأنصار " رفعا . ( الذين ) بإسقاط الواو نعتا للأنصار ; فراجعه زيد بن ثابت ، فسأل عمر أبي بن كعب فصدق زيدا ; فرجع إليه عمر وقال : ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد . فقال أبي : إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وفي سورة الحشر : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان . وفي سورة الأنفال بقوله : والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم . فثبتت القراءة بالواو . وبين تعالى [ ص: 161 ] بقوله : ( بإحسان ) ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم ، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات ; إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم .
الثانية : واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم ; فقال الخطيب الحافظ : التابعي من صحب الصحابي ; ويقال للواحد منهم : تابع وتابعي . وكلام الحاكم أبي عبد الله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية . وقد قيل : إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحديبية ; كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مسلمة الفتح ; لما ثبت أن عبد الرحمن بن عوف شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد : دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . ومن العجب عد الحاكم أبو عبد الله النعمان وسويدا ابني مقرن المزني في التابعين عندما ذكر الإخوة من التابعين ، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة ، وقد شهدا الخندق كما تقدم . والله أعلم . وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة ، وهم سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ; وعروة بن الزبير ، وخارجة بن زيد ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود ، وسليمان بن يسار . وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال :
فخذهم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وقال أحمد بن حنبل : أفضل التابعين سعيد بن المسيب ; فقيل له : فعلقمة والأسود . فقال : سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود . وعنه أيضا أنه قال : أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق ; هؤلاء كانوا فاضلين ومن علية التابعين . وقال أيضا : كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة فهذان أثر الناس عنهم ; وأبهم . وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال : سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبد الرحمن ، وثالثتهما - وليست كهما - أم الدرداء . وروي عن الحاكم أبي عبد الله قال : طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة ; منهم إبراهيم بن سويد النخعي وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه . وبكير بن أبي السميط ، وبكير بن عبد الله الأشج . وذكر غيرهم قال : وطبقة عدادهم [ ص: 162 ] عند الناس في أتباع التابعين . وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبد الله بن ذكوان ، لقي عبد الله بن عمر وأنسا . وهشام بن عروة ، وقد أدخل على عبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله وموسى بن عقبة ، وقد أدرك أنس بن مالك . وأم خالد بنت خالد بن سعيد . وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين ، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم . واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرم ، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها . وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا ، منهم أبو عمرو الشيباني ، وسويد بن غفلة الكندي ، وعمرو بن ميمون الأودي وأبو عثمان النهدي وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء ، بطن من همدان ، وعبد الرحمن بن مل . وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة . وممن لم يذكره مسلم منهم أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب ، والأحنف بن قيس . فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم ، رضوان الله عليهم أجمعين . وكفانا نحن قوله جل وعز : كنتم خير أمة أخرجت للناس على ما تقدم ، وقوله عز وجل : وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددت أنا لو رأينا إخواننا . . . . الحديث . فجعلنا إخوانه ; إن اتقينا الله واقتفينا آثاره ، حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق محمد وآله .
قوله تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم
قوله تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ابتداء وخبر . أي قوم منافقون ; يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفارا وأشجع .
ومن أهل المدينة مردوا على النفاق أي قوم مردوا على النفاق . وقيل : ( مردوا ) من نعت المنافقين ; فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، المعنى . ومن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق ، ومن أهل المدينة مثل ذلك . ومعنى : " مردوا " أقاموا ولم يتوبوا ; عن ابن زيد . وقال غيره : لجوا فيه وأبوا غيره ; والمعنى متقارب . وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد . فكأنهم تجردوا للنفاق . ومنه [ ص: 163 ] رملة مرداء لا نبت فيها . وغصن أمرد لا ورق عليه . وفرس أمرد لا شعر على ثنته . وغلام أمرد بين المرد ; ولا يقال : جارية مرداء . وتمريد البناء تمليسه ; ومنه قوله : صرح ممرد . وتمريد الغصن تجريده من الورق ; يقال : مرد يمرد مرودا ومرادة .
قوله تعالى لا تعلمهم نحن نعلمهم هو مثل قوله : لا تعلمونهم الله يعلمهم على ما تقدم . وقيل : المعنى لا تعلم يا محمد عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها ; وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار .
قوله تعالى سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم قال ابن عباس : بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة . فمرض المؤمن كفارة ، ومرض الكافر عقوبة . وقيل : العذاب الأول الفضيحة باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ; على ما يأتي بيانه في المنافقين . والعذاب الثاني عذاب القبر . الحسن وقتادة : عذاب الدنيا وعذاب القبر . ابن زيد : الأول بالمصائب في أموالهم وأولادهم ، والثاني عذاب القبر . مجاهد : الجوع والقتل . الفراء : القتل وعذاب القبر . وقيل : السباء والقتل . وقيل : الأول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم ، والثاني عذاب القبر . وقيل : أحد العذابين ما قال تعالى : فلا تعجبك أموالهم إلى قوله إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا . والغرض من الآية اتباع العذاب ، أو تضعيف العذاب عليهم .
قوله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم ، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد . فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق ، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين . وقال ابن عباس : نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد . وقال بنحوه قتادة وقال : وفيهم نزل خذ من أموالهم صدقة ; ذكره المهدوي . وقال زيد بن أسلم : كانوا ثمانية . وقيل : كانوا ستة . وقيل : خمسة . وقال [ ص: 164 ] مجاهد : نزلت الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة ; وذلك أنهم كلموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلقه . يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا ، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد ، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت ; فمكث كذلك حتى عفا الله عنه ، ونزلت هذه الآية ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله ; ذكره الطبري عن مجاهد ، وذكره ابن إسحاق في السيرة أوعب من هذا . وقال أشهب عن مالك : نزلت " وآخرون " في شأن أبي لبابة وأصحابه ، وقال حين أصاب الذنب : يا رسول الله ، أجاورك وأنخلع من مالي ؟ فقال : يجزيك من ذلك الثلث وقد قال تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ورواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك . والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك ، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لبابة ، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقهم ويرضى عنهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فأنزل الله هذه الآية ; فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم . فلما أطلقوا قالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك ، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا . فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فأنزل الله تعالى : خذ من أموالهم صدقة الآية . قال ابن عباس : كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة ; فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها . فكان عملهم السيئ التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة . واختلفوا في الصالح ; فقال الطبري وغيره : الاعتراف والتوبة والندم . وقيل : عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالوا : لا نقرب أهلا ولا ولدا حتى ينزل الله عذرنا . وقالت فرقة : بل العمل الصالح غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم . وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعراب فهي عامة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة ; فهي ترجى . ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال : سمعت أبا عثمان يقول : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . وفي البخاري عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة [ ص: 165 ] فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا : أما القوم الذي كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم . وذكر البيهقي من حديث الربيع بن أنس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الإسراء وفيه قال : ثم صعد بي إلى السماء . . . ثم ذكر الحديث إلى أن ذكر صعوده إلى السماء السابعة فقالوا : حياه الله من أخ وخليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شيء فأتوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم إنهم أتوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم فقال يا جبريل من هؤلاء بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا النهر وقد خلصت ألوانهم فقال هذا أبوك إبراهيم هو أول رجل شمط على وجه الأرض وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم - قال - وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم . فأما النهر الأول فرحمة الله وأما النهر الثاني فنعمة الله . وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابا طهورا وذكر الحديث .
والواو في قوله : ( وآخر سيئا ) قيل : هي بمعنى الباء ، وقيل : بمعنى مع ; كقولك استوى الماء والخشبة . وأنكر ذلك الكوفيون وقالوا : لأن الخشبة لا يجوز تقديمها على الماء ، و ( آخر ) في الآية يجوز تقديمه على الأول ; فهو بمنزلة خلطت الماء باللبن . https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 166 الى صــ 175
الحلقة (365)
قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة اختلف في هذه الصدقة المأمور بها ; فقيل : هي صدقة الفرض ; قاله جويبر عن ابن عباس ، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري . وقيل : هو مخصوص بمن نزلت فيه ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم ، وليس هذا من [ ص: 166 ] الزكاة المفروضة في شيء ; ولهذا قال مالك : إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث ; متمسكا بحديث أبي لبابة . وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه ، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته . وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالوا : إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره . ونظم في ذلك شاعرهم فقال :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم
لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر سنمنعهم ما دام فينا بقية
كرام على الضراء في العسر واليسر
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة ، وفي حقهم قال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة . ابن العربي : أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين ; فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه ، فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وقوله : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ونحوه . ومنها خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى كقوله ومن الليل فتهجد به نافلة لك وقوله : ( خالصة لك ) . ومنها خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا ; كقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية . وقوله : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وقوله : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة . وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة . وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة بتلك الصفة . ومن هذا القبيل قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها . وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى : يا أيها النبي اتق الله و يا أيها النبي إذا طلقتم النساء .
الثانية : قوله تعالى من أموالهم ذهب بعض العرب وهم دوس : إلى أن المال [ ص: 167 ] الثياب والمتاع والعروض . ولا تسمي العين مالا . وقد جاء هذا المعنى في السنة الثابتة من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الأموال الثياب والمتاع . الحديث . وذهب غيرهم إلى أن المال الصامت من الذهب والورق . وقيل : الإبل خاصة ; ومنه قولهم : المال الإبل . وقيل : جميع الماشية . وذكر ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال : ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال ; وأنشد :
والله ما بلغت لي قط ماشية حد الزكاة ولا إبل ولا مال
قال أبو عمر : والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال ; لقوله صلى الله عليه وسلم : يقول ابن آدم مالي مالي وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى . وقال أبو قتادة : فأعطاني الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة ; فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام . فمن حلف بصدقة ماله كله فذلك على كل نوع من ماله ، سواء كان مما تجب فيه الزكاة أو لم يكن ; إلا أن ينوي شيئا بعينه فيكون على ما نواه . وقد قيل : إن ذلك على أموال الزكاة . والعلم محيط واللسان شاهد بأن ما تملك يسمى مالا . والله أعلم .
الثالثة : قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه ، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه . وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع . حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال . وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في المواشي والحبوب والعين ، وهذا ما لا خلاف فيه . واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض . وسيأتي ذكر الخيل والعسل في ( النحل ) إن شاء الله . روى الأئمة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة . وقد مضى الكلام في ( الأنعام ) في زكاة الحبوب وما تنبته الأرض مستوفى . وفي المعادن في ( البقرة ) وفي الحلي في هذه السورة . [ ص: 168 ] وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما ; فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من فضة مضروبة - وهي الخمس أواق المنصوصة في الحديث - حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها ، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم . وإنما اشترط الحول لقوله عليه السلام : ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول . أخرجه الترمذي . وما زاد على المائتي درهم من الورق فبحساب ذلك من كل شيء منه ربع عشره قل أو كثر ; هذا قول مالك والليث والشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيد . وروي ذلك عن علي وابن عمر . وقالت طائفة : لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما ; فإذا بلغتها كان فيها درهم وذلك ربع عشرها . هذا قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والزهري ومكحول وعمرو بن دينار وأبي حنيفة .
الرابعة : وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة ; على حديث علي ، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي . قال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق ، يحتمل أن يكون عنهما جميعا . وقال الباجي في المنتقى : وهذا الحديث ليس إسناده هناك ، غير أن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه ، والله أعلم . وروي عن الحسن والثوري ، وإليه مال بعض أصحاب داود بن علي على أن الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا . وهذا يرده حديث علي وحديث ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار ، ومن الأربعين دينارا دينارا ; على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر .
الخامسة : اتفقت الأمة على أن ما كان دون خمس ذود من الإبل فلا زكاة فيه . فإذا بلغت خمسا ففيها شاة . والشاة تقع على واحدة من الغنم ، والغنم الضأن والمعز جميعا . وهذا أيضا [ ص: 169 ] اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة ; وهي فريضتها . وصدقة المواشي مبينة في الكتاب الذي كتبه الصديق لأنس لما وجهه إلى البحرين ; أخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجه وغيرهم ، وكله متفق عليه . والخلاف فيه في موضعين أحدهما في زكاة الإبل ، وهي إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة فقال مالك : المصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون ، وإن شاء أخذ حقتين . وقال ابن القاسم : وقال ابن شهاب : فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون . قال ابن القاسم : ورأيي على قول ابن شهاب . وذكر ابن حبيب أن عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد العزيز بن أبي حازم وابن دينار يقولون بقول مالك . وأما الموضع الثاني فهو في صدقة الغنم وهي إذا زادت على ثلاثمائة شاة وشاة ; فإن الحسن بن صالح بن حي قال : فيها أربع شياه . وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه ; وهكذا كلما زادت ، في كل مائة شاة . وروي عن إبراهيم النخعي مثله . وقال الجمهور : في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه ، ثم لا شيء فيها إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه ; ثم كلما زادت مائة ففيها شاة ; إجماعا واتفاقا . قال ابن عبد البر : وهذه مسألة وهم فيها ابن المنذر ، وحكى فيها عن العلماء الخطأ ، وخلط وأكثر الغلط .
السادسة : لم يذكر البخاري ولا مسلم في صحيحيهما تفصيل زكاة البقر . وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني ومالك في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة . قال أبو عمر : وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه . وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس . وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات . ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم ، والحسن مجتمع على ضعفه . وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس ; ذكره عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة ، ومن أربعين مسنة ، ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر ; ذكره الدارقطني وأبو عيسى [ ص: 170 ] الترمذي وصححه . قال أبو عمر . ولا خلاف بين العلماء أن الزكاة في زكاة البقر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قال معاذ بن جبل : في ثلاثين بقرة تبيع ، وفي أربعين مسنة إلا شيء روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة ; فإنهم يوجبون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين . فهذه جملة من تفصيل الزكاة بأصولها وفروعها في كتب الفقه . ويأتي ذكر الخلطة في سورة ( ص ) إن شاء الله تعالى .
السابعة : قوله تعالى ( صدقة ) مأخوذ من الصدق ; إذ هي دليل على صحة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات . ( تطهرهم وتزكيهم بها ) حالين للمخاطب ; التقدير : خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها . ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة ; أي صدقة مطهرة لهم مزكية ، ويكون فاعل ( تزكيهم ) المخاطب ، ويعود الضمير الذي في ( بها ) على الموصوف المنكر . وحكى النحاس ومكي أن ( تطهرهم ) من صفة الصدقة ( وتزكيهم بها ) حال من الضمير في ( خذ ) وهو النبي صلى الله عليه وسلم . ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة ، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة . وقال الزجاج : والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ; أي فإنك ( تطهرهم وتزكيهم بها ) ، على القطع والاستئناف . ويجوز الجزم على جواب الأمر ، والمعنى : إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم ; ومنه قول امرئ القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقرأ الحسن " تطهرهم " بسكون الطاء وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته ، مثل ظهر وأظهرته .
الثامنة : قوله تعالى وصل عليهم أصل في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة . روى مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل عليهم . فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى . ذهب قوم إلى هذا ، وذهب آخرون إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا . قالوا : فلا يجوز أن يصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده خاصة ; [ ص: 171 ] لأنه خص بذلك . واستدلوا بقوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا الآية . وبأن عبد الله بن عباس كان يقول : لا يصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم . والأول أصح ; فإن الخطاب ليس مقصورا عليه كما تقدم ; ويأتي في الآية بعد هذا . فيجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتأسي به ; لأنه كان يمتثل قوله : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أي إذا دعوت لهم حين يأتون بصدقاتهم سكن ذلك قلوبهم وفرحوا به . وقد روى جابر بن عبد الله قال : أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لامرأتي : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ; فقالت : يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندنا ولا نسأله شيئا! فقالت : يا رسول الله ; صل على زوجي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلى الله عليك وعلى زوجك . والصلاة هنا الرحمة والترحم . قال النحاس : وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء ; ومنه الصلاة على الجنائز . وقرأ حفص وحمزة والكسائي : إن صلاتك بالتوحيد . وجمع الباقون . وكذلك الاختلاف في أصلاتك تأمرك وقرئ ( سكن ) بسكون الكاف . قال قتادة : معناه وقار لهم . والسكن : ما تسكن به النفوس وتطمئن به القلوب .
قوله تعالى ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم فيه مسألتان :
قيل : قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا معنا بالأمس ، لا يكلمون ولا يجالسون ، فما لهم الآن ؟ وما هذه الخاصة التي خصوا بها دوننا ; فنزلت : ألم يعلموا فالضمير في ( يعلموا ) عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين . قال معناه ابن زيد . ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم . وقوله تعالى : ( هو ) تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور . وتحقيق ذلك أنه لو قال : إن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبول رسوله قبولا منه ; فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك .
الثانية : قوله تعالى ويأخذ الصدقات ويأخذ الصدقات هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز ، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة ، فإن توفي فعامله هو الواسطة [ ص: 172 ] بعده ، والله عز وجل حي لا يموت . وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى : خذ من أموالهم صدقة ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم : روى الترمذي عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات و يمحق الله الربا ويربي الصدقات . قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم : لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه - في رواية : فتربو في كف الرحمن - حتى تكون أعظم من الجبل الحديث . وروي إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث : إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها ; كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفا عليه بقوله : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني . . . الحديث . وقد تقدم هذا المعنى في ( البقرة ) . وخص اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه ; فخرج على ما يعرفونه ، والله جل وعز منزه عن الجارحة . وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة ; كما قال الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي هو مؤهل للمجد والشرف ، ولم يرد بها يمين الجارحة ؛ لأن المجد معنى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى . وكذلك اليمين في حق الله تعالى . وقد قيل : إن معنى تربو في كف الرحمن عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الأعمال ، فيكون من باب حذف المضاف ; كأنه قال . فتربو كفة ميزان الرحمن . وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها : أمروها بلا كيف ; قاله الترمذي وغيره . وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة .
[ ص: 173 ] قوله تعالى وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون
قوله تعالى وقل اعملوا خطاب للجميع . فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم . وفي الخبر : لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان .
قوله تعالى وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم نزلت في الثلاثة الذين تيب عليهم : كعب بن مالك وهلال بن أمية من بني واقف ومرارة بن الربيع ; وقيل : ابن ربعي العمري ; ذكره المهدوي . كانوا قد تخلفوا عن تبوك وكانوا مياسر ; على ما يأتي من ذكرهم .
والتقدير : ومنهم آخرون مرجون ; من أرجأته أي أخرته . ومنه قيل : مرجئة ; لأنهم أخروا العمل . وقرأ حمزة والكسائي ( مرجون ) بغير همز ; فقيل : هو من أرجيته أي أخرته . وقال المبرد : لا يقال أرجيته بمعنى أخرته ، ولكن يكون من الرجاء .
إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ( إما ) في العربية لأحد أمرين ، والله عز وجل عالم بمصير الأشياء ، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون ; أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا .
قوله تعالى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون [ ص: 174 ] فيه عشر مسائل :
الأولى والذين اتخذوا مسجدا معطوف ، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ، عطف جملة على جملة . ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف ك " إنهم يعذبون " أو نحوه . ومن قرأ " الذين " بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء ، والخبر ( لا تقم ) التقدير : الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا ; أي لا تقم في مسجدهم ; قاله الكسائي . وقال النحاس : يكون خبر الابتداء لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم . وقيل : الخبر ( يعذبون ) كما تقدم . ونزلت الآية فيما روي في أبي عامر الراهب ; لأنه كان خرج إلى قيصر وتنصر ووعدهم قيصر أنه سيأتيهم ، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه ; قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم ، وقد تقدمت قصته في الأعراف وقال أهل التفسير : إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه ; فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجدا ونبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا فيصلي لنا كما صلى في مسجد إخواننا ، ويصلي فيه أبو عامر إذا قدم من الشام ; فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله ، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة ، والعلة والليلة المطيرة ، ونحب أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلينا لكم فيه فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد ، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضرار ; فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة ، فقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا مسرعين ، وأخرج مالك بن الدخشم من منزله شعلة نار ، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه ، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الضرار ، ومعتب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وعباد بن الأزعر ، وعبادة بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف . وجارية بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ابنا جارية ، ونبتل بن الحارث ، وبحزج ، وبجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت ، وثعلبة بن حاطب مذكور فيهم . قال أبو عمر بن عبد البر : وفيه نظر ; لأنه شهد بدرا . وقال عكرمة : سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد ؟ فقال : أعنت فيه بسارية . فقال : أبشر بها سارية في عنقك من نار جهنم .
[ ص: 175 ] الثانية : قوله تعالى ( ضرارا ) مصدر مفعول من أجله . وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا عطف كله . وقال أهل التأويل : ضرارا بالمسجد ، وليس للمسجد ضرار ، إنما هو لأهله . وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار ، من ضار ضار الله به ، ومن شاق شاق الله عليه . قال بعض العلماء : الضرر : الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة . والضرار : الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة . وقد قيل : هما بمعنى واحد ، تكلم بهما جميعا على جهة التأكيد .
الثالثة : قال علماؤنا : لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد ، ويجب هدمه ; والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا ، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ . وكذلك قالوا . لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة ، ويجب منع الثاني ، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه . وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه . وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته ، فقيل له : إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد ; فقال : لا أحب أن أصلي فيه ; لأنه بني على ضرار . قال علماؤنا : وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه . وقال النقاش : يلزم من هذا ألا يصلى في كنيسة ونحوها ; لأنها بنيت على شر .
قلت : هذا لا يلزم ; لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير ، وإن كان أصل بنائها على شر ، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا . وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة . وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل . وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 176 الى صــ 185
الحلقة (366)
[ ص: 176 ] الرابعة : قال العلماء : إن من كان إماما لظالم لا يصلى وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم ; فقال : لا ولا نعمة عين*******!******* أليس بإمام مسجد الضرار!فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه ، كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم . فعذره عمر رضي الله عنهما وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء .
الخامسة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه فقال : من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة يهدم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره ، فما ظنك بسواه ، بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم . وذلك كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على الغير . وضابط هذا الباب : أن من أدخل على أخيه ضررا منع . فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل ; فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول . مثال ذلك : رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل ، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن ، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم وقد ورد النهي فيه ، فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين ، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما ، وهكذا الحكم في هذا الباب ، خلافا للشافعي ومن قال بقوله . قال أصحاب الشافعي : لو حفر رجل في ملكه بئرا وحفر آخر في ملكه بئرا يسرق منها ماء البئر الأولة جاز ; لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك . [ ص: 177 ] ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفا يفسده عليه لم يكن له منعه ; لأنه تصرف في ملكه . والقرآن والسنة يردان هذا القول . وبالله التوفيق .
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه ، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب ، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه . وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب ; فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه ، وليس مما يستحق به شيء ; فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة . وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه .
السادسة : ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها ، يعني مسا من الجن ، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أو دنا منها يشتد ذلك بها . فقال مالك : لا أرى أن يقربها ، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها .
السابعة : قوله تعالى ( وكفرا ) لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد ; قاله ابن العربي . وقيل : ( وكفرا ) أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ; قاله القشيري وغيره .
الثامنة : قوله تعالى وتفريقا بين المؤمنين أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة ، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة ، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد .
التاسعة : تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال : لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين ; خلافا لسائر العلماء . وقد روي عن الشافعي المنع ; حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول : من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام ، وخفي ذلك عليهم . قال ابن العربي : وهذا كان شأنه معهم ، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة .
العاشرة : قوله تعالى وإرصادا لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر الراهب ; [ ص: 178 ] وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ; فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ; فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين . فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر ، وأرسل إلى المنافقين وقال : استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة ; فبنوا مسجد الضرار . وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة . والإرصاد : الانتظار ; تقول : أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به . قال أبو زيد : يقال رصدته وأرصدته في الخير ، وأرصدت له في الشر . وقال ابن الأعرابي : لا يقال إلا أرصدت ، ومعناه ارتقبت .
وقوله تعالى ( من قبل ) أي من قبل بناء مسجد الضرار .
وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى ، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة . وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات ; ولذلك قال : وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى . والله يشهد إنهم لكاذبون أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه .
قوله تعالى لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى لا تقم فيه أبدا يعني مسجد الضرار ; أي لا تقم فيه للصلاة . وقد يعبر عن الصلاة بالقيام ; يقال : فلان يقوم الليل أي يصلي ; ومنه الحديث الصحيح : من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه . أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال . . . ، فذكره . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر [ ص: 179 ] بالطريق التي فيها المسجد ، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار والقمامات .
الثانية : قوله تعالى ( أبدا ) أبدا : ظرف زمان . وظرف الزمان على قسمين : ظرف مقدر كاليوم ، وظرف مبهم كالحين والوقت ; والأبد من هذا القسم ، وكذلك الدهر . وتنشأ هنا مسألة أصولية ، وهي أن ( أبدا ) وإن كانت ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم ، فلو قال : لا تقم ، لكفى في الانكفاف المطلق . فإذا قال : ( أبدا ) فكأنه قال في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان . فأما النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا عن واقع لم تعم ، وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا : لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة .
الثالثة : قوله تعالى لمسجد أسس على التقوى أي بنيت جدره ورفعت قواعده . والأس أصل البناء ; وكذلك الأساس . والأسس مقصور منه . وجمع الأس إساس ; مثل عس وعساس . وجمع الأساس أسس ; مثل قذال وقذل . وجمع الأسس آساس ; مثل سبب وأسباب . وقد أسست البناء تأسيسا . وقولهم : كان ذلك على أس الدهر ، وأس الدهر ، وإس الدهر ; ثلاث لغات ; أي على قدم الدهر ووجه الدهر . واللام في قوله ( لمسجد ) لام قسم . وقيل لام الابتداء ; كما تقول : لزيد أحسن الناس فعلا ; وهي مقتضية تأكيدا . أسس على التقوى نعت لمسجد . ( أحق ) خبر الابتداء الذي هو " لمسجد " ومعنى " التقوى " هنا الخصال التي تتقى بها العقوبة ، وهي فعلى من وقيت ، وقد تقدم .
الرابعة : واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى ; فقالت طائفة : هو مسجد قباء ; يروى عن ابن عباس والضحاك والحسن . وتعلقوا بقوله : من أول يوم ، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم ; فإنه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ; قاله ابن عمر وابن المسيب ، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم . وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري : قال تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ; فقال رجل هو مسجد قباء ، وقال آخر هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو مسجدي هذا . قال حديث صحيح . والقول الأول أليق بالقصة ; لقوله : ( فيه ) وضمير الظرف يقتضي الرجال [ ص: 180 ] المتطهرين ; فهو مسجد قباء . والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال : كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية . قال الشعبي : هم أهل مسجد قباء ، أنزل الله فيهم هذا . وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء : إن الله سبحانه قد أحسن عليكم الثناء في التطهر فما تصنعون ؟ قالوا : إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء رواه أبو داود . وروى الدارقطني عن طلحة بن نافع قال : حدثني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك الأنصاريون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين فقال : يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا ؟ قالوا : يا رسول الله ، نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهل مع ذلك من غيره ؟ فقالوا : لا غير ، إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء . قال : هو ذاك فعليكموه وهذا الحديث يقتضي أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء ، إلا أن حديث أبي سعيد الخدري نص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مسجده فلا نظر معه . وقد روى أبو كريب قال : حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صالح بن حيان قال حدثنا عبد الله بن بريدة في قوله عز وجل : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه قال : إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وبيت أريحا بيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ، ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذين أسسا على التقوى ، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 181 ] الخامسة : قوله تعالى من أول يوم ( من ) عند النحويين مقابلة " منذ " ; ف " منذ " في الزمان بمنزلة ( من ) في المكان . فقيل : إن معناها هنا معنى " منذ " ; والتقدير : منذ أول يوم ابتدئ بنيانه . وقيل : المعنى من تأسيس أول الأيام ، فدخلت على مصدر الفعل الذي هو أسس ; كما قال :
لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر
أي من مر حجج ومن مر دهر . وإنما دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن " من " لا يجر بها الأزمان ، وإنما تجر الأزمان بمنذ ، تقول ما رأيته منذ شهر أو سنة أو يوم ، ولا تقول : من شهر ولا من سنة ولا من يوم . فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدر مضمر يليق أن يجر بمن ; كما ذكرنا في تقدير البيت . ابن عطية . ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير ، وأن تكون " من " تجر لفظة ( أول ) لأنها بمعنى البداءة ; كأنه قال : من مبتدأ الأيام .
السادسة : قوله تعالى أحق أن تقوم فيه أي بأن تقوم ; فهو في موضع نصب . و ( أحق ) هو أفعل من الحق ، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين ، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية على الآخر ; فمسجد الضرار وإن كان باطلا لا حق فيه ، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه ، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية ; لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله ، والآخر حق باطنا وظاهرا ; ومثل هذا قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ومعلوم أن الخيرية من النار مبعودة ، ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه خير ; إذ كل حزب بما لديهم فرحون . وليس هذا من قبيل : العسل أحلى من الخل ; فإن العسل وإن كان حلوا فكل شيء ملائم فهو حلو ; ألا ترى أن من الناس من يقدم الخل على العسل مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف .
السابعة : قوله تعالى ( فيه ) من قال : إن المسجد يراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالهاء في أحق أن تقوم فيه عائد إليه . و فيه رجال له أيضا . ومن قال : إنه مسجد قباء ، فالضمير في ( فيه ) عائد إليه على الخلاف المتقدم .
الثامنة : أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة ، وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية ; وفي الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت : مرن [ ص: 182 ] أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم . قال : حديث صحيح . وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الماء معه في الاستنجاء ; فكان يستعمل الحجارة تخفيفا والماء تطهيرا . ابن العربي : وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء .
التاسعة : اللازم من نجاسة المخرج التخفيف ، وفي نجاسة سائر البدن والثوب التطهير . وذلك رخصة من الله لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه ; وبه قال عامة العلماء . وشذ ابن حبيب فقال : لا يستجمر بالأحجار إلا عند عدم الماء . والأخبار الثابتة في الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء ترده .
العاشرة : واختلف العلماء من هذا الباب في إزالة النجاسة من الأبدان والثياب ، بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش على ثلاثة أقوال : الأول : أنه واجب فرض ، ولا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا ; روي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين ، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور ، ورواه ابن وهب عن مالك ، وهو قول أبي الفرج المالكي والطبري ; إلا أن الطبري قال : إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة . وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف في مراعاة قدر الدرهم قياسا على حلقة الدبر . وقالت طائفة : إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والأبدان ، وجوب سنة وليس بفرض . قالوا : ومن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه ; هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج ، ورواية ابن وهب عنه . وقال مالك في يسير الدم : لا تعاد منه الصلاة في الوقت ولا بعده ، وتعاد من يسير البول والغائط ; ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث . وقال ابن القاسم عنه : تجب إزالتها في حالة الذكر دون النسيان ; وهي من مفرداته . والقول الأول أصح إن شاء الله ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله . . . . الحديث ، خرجه [ ص: 183 ] البخاري ومسلم ، وحسبك . وسيأتي في سورة ( سبحان ) . قالوا : ولا يعذب الإنسان إلا على ترك واجب ; وهذا ظاهر . وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أكثر عذاب القبر من البول . احتج الآخرون بخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أن فيهما قذرا وأذى . . . الحديث . خرجه أبو داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري ، وسيأتي في سورة ( طه ) إن شاء الله تعالى . قالوا : ولما لم يعد ما صلى دل على أن إزالتها سنة وصلاته صحيحة ، ويعيد ما دام في الوقت طلبا للكمال . والله أعلم .
الحادية عشرة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما الفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم البغلي ; يعني كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار قياسا على المسربة - ففاسد من وجهين ; أحدهما : أن المقدرات لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير . الثاني : أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة ، والحاجة والرخص لا يقاس عليها ; لأنها خارجة عن القياس فلا ترد إليه .
قوله تعالى أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين
فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى أفمن أسس أي أصل ، وهو استفهام معناه التقرير . و ( من ) بمعنى الذي ، وهي في موضع رفع بالابتداء ، وخبره ( خير ) . وقرأ نافع وابن عامر وجماعة ( أسس بنيانه ) على بناء ( أسس ) للمفعول ورفع ( بنيان ) فيهما . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وجماعة أسس بنيانه على بناء الفعل للفاعل ونصب ( بنيانه ) فيهما . وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به ، وأن الفاعل سمي فيه . وقرأ نصر بن عاصم بن علي " أفمن أسس " [ ص: 184 ] بالرفع ( بنيانه ) بالخفض . وعنه أيضا ( أساس بنيانه ) وعنه أيضا ( أس بنيانه ) بالخفض . والمراد أصول البناء كما تقدم . وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهي ( أفمن آساس بنيانه ) قال النحاس : وهذا جمع أس ; كما يقال : خف وأخفاف ، والكثير " إساس " مثل خفاف . قال الشاعر :
أصبح الملك ثابت الأساس في البهاليل من بني العباس
الثانية : قوله تعالى على تقوى من الله قراءة عيسى بن عمر - فيما حكى سيبويه - بالتنوين ، والألف ألف إلحاق كألف تترى فيما نون ، وقال الشاعر :
يستن في علقى وفي مكور
وأنكر سيبويه التنوين ، وقال : لا أدري ما وجهه . على شفا الشفا : الحرف والحد ، وقد مضى في ( آل عمران ) مستوفى . و جرف قرئ برفع الراء ، وأبو بكر وحمزة بإسكانها ; مثل الشغل والشغل ، والرسل والرسل ، يعني جرفا ليس له أصل . والجرف : ما يتجرف بالسيول من الأودية ، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء ، وأصله من الجرف والاجتراف ; وهو اقتلاع الشيء من أصله . هار ساقط ; يقال . تهور البناء إذا سقط ، وأصله هائر ، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها ، فيقال : هار وهائر ، قاله الزجاج . ومثله لاث الشيء به إذا دار ; فهو لاث أي لائث . وكما قالوا : شاكي السلاح وشائك السلاح . قال العجاج :
لاث به الأشاء والعبري
الأشاء النخل ، والعبري السدر الذي على شاطئ الأنهار . ومعنى لاث به مطيف به . وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور ، ثم يقال هائر مثل صائم ، ثم يقلب فيقال هار . وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء ، وأنه يقال : تهور وتهير .
قلت : ولهذا يمال ويفتح .
الثالثة : قوله تعالى فانهار به في نار جهنم فاعل ( انهار ) الجرف ; كأنه قال : فانهار الجرف بالبنيان في النار ; لأن الجرف مذكر . ويجوز أن يكون الضمير في ( به ) يعود على ( من ) وهو الباني ; والتقدير : فانهار من أسس بنيانه على غير تقوى . وهذه الآية ضرب مثل لهم ، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق . وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها . والشفا : الشفير . وأشفى على كذا أي دنا منه .
الرابعة : في هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه [ ص: 185 ] الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه ، ويخبر عنه بقوله : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام على أحد الوجهين . ويخبر عنه أيضا بقوله : والباقيات الصالحات على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الخامسة : واختلف العلماء في قوله تعالى : فانهار به في نار جهنم هل ذلك حقيقة أو مجاز على ؛ قولين ; الأول : أن ذلك حقيقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أرسل إليه فهدم رئي الدخان يخرج منه ; من رواية سعيد بن جبير . وقال بعضهم : كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة . وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان . وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال : جهنم في الأرض ، ثم تلا فانهار به في نار جهنم . وقال جابر بن عبد الله : أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( والثاني ) أن ذلك مجاز ، والمعنى : صار البناء في نار جهنم ، فكأنه انهار إليه وهوى فيه ; وهذا كقوله تعالى : فأمه هاوية . والظاهر الأول ، إذ لا إحالة في ذلك . والله أعلم .
قوله تعالى لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم
قوله تعالى لا يزال بنيانهم الذي بنوا يعني مسجد الضرار ريبة في قلوبهم أي شكا في قلوبهم ونفاقا ; قاله ابن عباس وقتادة والضحاك . وقال النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
وقال الكلبي : حسرة وندامة ; لأنهم ندموا على بنيانه . وقال السدي وحبيب والمبرد : ريبة أي حزازة وغيظا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 186 الى صــ 195
الحلقة (367)
إلا أن تقطع قلوبهم قال ابن عباس : أي تنصدع قلوبهم فيموتوا ; كقوله : لقطعنا منه الوتين لأن الحياة تنقطع بانقطاع الوتين ; وقاله قتادة والضحاك ومجاهد . وقال سفيان : إلا أن يتوبوا . عكرمة : إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم ، [ ص: 186 ] وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يقرءونها : " ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم " . وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم " إلى أن تقطع " على الغاية ، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا . واختلف القراء في قوله ( تقطع ) فالجمهور " تقطع " بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول . وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء . وروي عن يعقوب وأبي عبد الرحمن " تقطع " على الفعل المجهول مخفف القاف . وروي عن شبل وابن كثير " تقطع " خفيفة القاف " قلوبهم " نصبا ، أي أنت تفعل ذلك بهم . وقد ذكرنا قراءة أصحاب عبد الله .
والله عليم حكيم تقدم .
قوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم قيل : هذا تمثيل ; مثل قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى . ونزلت الآية في البيعة الثانية ، وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو ; وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ، فقال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : الجنة . قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ; فنزلت : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية . ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة .
الثانية : هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده ، وإن كان الكل للسيد لكن إذا [ ص: 187 ] ملكه عامله فيما جعل إليه . وجائز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره ; لأن ماله له وله انتزاعه .
الثالثة : أصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع ; فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته ، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك . وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به ، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء . وروى الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فوق كل بر بر حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك . وقال الشاعر في معنى البر :
الجود بالماء جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق رضي الله عنه :
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
قال الحسن : ومر أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم فقال : كلام من هذا ؟ قال : كلام الله . قال : بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله . فخرج إلى الغزو واستشهد .
الرابعة : قال العلماء : كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم ; لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين ، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال ، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة . ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه . ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الأجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى ، ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الأجر .
الخامسة : قوله تعالى يقاتلون في سبيل الله بيان لما يقاتل له وعليه ; وقد تقدم .
[ ص: 188 ] فيقتلون ويقتلون قرأ النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل ; ومنه قول امرئ القيس :
فإن تقتلونا نقتلكم . . . وإن تقصدوا لدم نقصد
أي إن تقتلوا بعضنا يقتلكم بعضنا . وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول .
السادسة : قوله تعالى وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب ، وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام . و ( وعدا ) و ( حقا ) مصدران موكدان .
السابعة : قوله تعالى ومن أوفى بعهده من الله أي لا أحد أوفى بعهده من الله . وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد ، ولا يتضمن وفاء البارئ بالكل ; فأما وعده فللجميع ، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الأحوال . وقد تقدم هذا المعنى مستوفى .
الثامنة : قوله تعالى فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به أي أظهروا السرور بذلك . والبشارة إظهار السرور في البشرة . وقد تقدم . وقال الحسن : والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة .
وذلك هو الفوز العظيم أي الظفر بالجنة والخلود فيها .
قوله تعالى التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : التائبون العابدون التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله . والتائب هو الراجع . والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين . " العابدون " أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه . " الحامدون " أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته ، الذين يحمدون الله على كل حال . السائحون الصائمون ; عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . [ ص: 189 ] ومنه قوله تعالى : عابدات سائحات . وقال سفيان بن عيينة : إنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح . وقال أبو طالب :
وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل
وقال آخر :
برا يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحا
وروي عن عائشة أنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام ; أسنده الطبري . ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سياحة أمتي الصيام . قال الزجاج : ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون الفرض . وقد قيل : إنهم الذين يديمون الصيام . وقال عطاء : السائحون المجاهدون . وروى أبو أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله . صححه أبو محمد عبد الحق . وقيل : السائحون المهاجرون قاله عبد الرحمن بن زيد . وقيل : هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم ; قاله عكرمة . وقيل : هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه حكاه النقاش وحكي أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال : أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل وذكرت كيف أتلقى الغل وبقيت ليلي في ذلك أجمع .
قلت : لفظ " س ي ح " يدل على صحة هذه الأقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء ; فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره فهو بمنزلة السائح . والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا . وفي الحديث : إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي ويروى صياحين بالصاد ، من الصياح . الراكعون الساجدون يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها . الآمرون بالمعروف أي [ ص: 190 ] بالسنة ، وقيل : بالإيمان . والناهون عن المنكر قيل : عن البدعة . وقيل : عن الكفر . وقيل : هو عموم في كل معروف ومنكر . والحافظون لحدود الله أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهى عنه .
الثانية : واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة فقال جماعة : الآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها . وقالت فرقة : هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط ، والآيتان مرتبطتان ؛ فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله ؛ قاله الضحاك . قال ابن عطية : وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة . وقال الزجاج : الذي عندي أن قوله : التائبون العابدون رفع بالابتداء وخبره مضمر ; أي التائبون العابدون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذ لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد . واختار هذا القول القشيري وقال : وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله : اشترى من المؤمنين لكان الوعد خاصا للمجاهدين . وفي مصحف عبد الله " التائبين العابدين " إلى آخرها ; ولذلك وجهان : أحدهما الصفة للمؤمنين على الإتباع . والثاني النصب على المدح .
الثالثة : واختلف العلماء في الواو في قوله : والناهون عن المنكر فقيل : دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى : حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر الذنب . وقابل التوب فذكر بعضها بالواو والبعض بغيرها . وهذا سائغ معتاد في الكلام ولا يطلب لمثله حكمة ولا علة . وقيل : دخلت لمصاحبة الناهي عن المنكر الآمر بالمعروف فلا يكاد يذكر واحد منهما مفردا . وكذلك قوله : ثيبات وأبكارا . ودخلت في قوله : والحافظون لقربه من المعطوف . وقد قيل : إنها زائدة ، وهذا ضعيف لا معنى له . وقيل : هي واو الثمانية لأن السبعة عند العرب عدد كامل صحيح . وكذلك قالوا في قوله : ثيبات وأبكارا . وقوله في أبواب الجنة : وفتحت أبوابها وقوله : ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم [ ص: 191 ] وقد ذكرها ابن خالويه في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله : وفتحت أبوابها وأنكرها أبو علي . قال ابن عطية : وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي ، وكان ممن استوطن غرناطة وأقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا : واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة وهكذا هي لغتهم . ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو . قلت : هي لغة قريش . وسيأتي بيانه ونقضه في سورة ( الكهف ) إن شاء الله تعالى وفي ( الزمر ) أيضا بحول الله تعالى .
قوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم فيه ثلاث مسائل : الأولى : روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين . فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لعمه فإنه استغفر له بعد موته على ما روي في غير الصحيح . وقال الحسين بن الفضل : وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة .
[ ص: 192 ] الثانية : هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز . فإن قيل : فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين . قيل له : إن ذلك القول من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء والدليل عليه ما رواه مسلم عن عبد الله قال : كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون . وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
قلت : وهذا صريح في الحكاية عمن قبله ، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم . والله أعلم . والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام ; على ما يأتي بيانه في سورة ( هود ) إن شاء الله . وقيل : إن المراد بالاستغفار في الآية الصلاة . قال بعضهم : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ; لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين بقوله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية . قال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة . جواب ثالث : وهو أن الاستغفار للأحياء جائز ; لأنه مرجو إيمانهم ، ويمكن تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين . وقد قال كثير من العلماء : لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين . فأما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعى له . قال ابن عباس : كانوا يستغفرون لموتاهم ، فنزلت ، فأمسكوا عن الاستغفار ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا .
الثالثة : قال أهل المعاني : ( ما كان ) في القرآن يأتي على وجهين : على النفي نحو [ ص: 193 ] قوله : ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله . والآخر بمعنى النهي كقوله : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، و ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين .
قوله تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : روى النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : أتستغفر لهما وهما مشركان ؟ فقال : أولم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه . والمعنى : لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة . وقال ابن عباس : كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد فلما مات على الكفر علم أنه عدو الله فترك الدعاء له ، فالكناية في قوله : ( إياه ) ترجع إلى إبراهيم والواعد أبوه . وقيل : الواعد إبراهيم أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له فلما مات مشركا تبرأ منه . ودل على هذا الوعد قوله : سأستغفر لك ربي . قال القاضي أبو بكر بن العربي : تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى : سأستغفر لك ربي فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدا قبل أن يتبين الكفر منه فلما تبين له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد وقد شاهدت موته كافرا .
[ ص: 194 ] الثانية : ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها فإن مات على الإيمان حكم له به وإن مات على الكفر حكم له به وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس : يا رسول الله هل نفعت عمك بشيء ؟ قال : نعم . وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب التذكرة .
الثالثة : قوله تعالى إن إبراهيم لأواه حليم اختلف العلماء في الأواه على خمسة عشر قولا :
الأول : أنه الدعاء الذي يكثر الدعاء ; قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير .
الثاني : أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة ، وروي عن ابن مسعود . والأول أصح إسنادا عن ابن مسعود ؛ قاله النحاس . الثالث : أنه الموقن ؛ قاله عطاء وعكرمة ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس .
الرابع : أنه المؤمن ؛ بلغة الحبشة ؛ قاله ابن عباس أيضا .
الخامس : أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة ; قاله الكلبي وسعيد بن المسيب .
السادس : أنه الكثير الذكر لله تعالى ؛ قاله عقبة بن عامر وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكثر ذكر الله ويسبح فقال : إنه لأواه .
السابع : أنه الذي يكثر تلاوة القرآن . وهذا مروي عن ابن عباس .
قلت : وهذه الأقوال متداخلة ؛ وتلاوة القرآن يجمعها . الثامن : أنه المتأوه ; قاله أبو ذر وكان إبراهيم عليه السلام يقول : " آه من النار قبل ألا تنفع آه " . وقال أبو ذر : كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه : أوه أوه ; فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : دعه فإنه أواه فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح .
التاسع : أنه الفقيه ؛ قاله مجاهد والنخعي .
العاشر : أنه المتضرع الخاشع ؛ رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أنس : تكلمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوها فإنها أواهة . قيل : يا رسول الله ، وما الأواهة ؟ قال : الخاشعة . الحادي عشر : أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها ؛ قاله أبو أيوب . الثاني عشر : أنه الكثير التأوه من الذنوب ؛ قاله الفراء . الثالث عشر : أنه المعلم للخير ؛ قاله سعيد بن جبير الرابع عشر : أنه الشفيق ؛ قاله عبد العزيز بن يحيى . وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يسمى الأواه لشفقته [ ص: 195 ] ورأفته .
الخامس عشر : أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى ؛ قاله عطاء وأصله من التأوه ، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء . قال كعب : كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوه . قال الجوهري : قولهم عند الشكاية أوه من كذا ( ساكنة الواو ) إنما هو توجع . قال الشاعر :
فأوه لذاكرها إذا ما ذكرتها ومن بعد أرض بيننا وسماء
وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا : آه من كذا . وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا : أوه من كذا . وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا : أو من كذا بلا مد . وبعضهم يقول : أوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية . وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا : أوتاه يمد ولا يمد . وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه ، والاسم منه الآهة بالمد . قال المثقب العبدي :
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
والحليم : الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى . وقيل : الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله . وكان إبراهيم عليه السلام كذلك وكان إذا قام يصلي سمع وجيب قلبه على ميلين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 196 الى صــ 205
الحلقة (368)
قوله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير
قوله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم أي ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون فلا يتقوه فعند ذلك يستحقون الإضلال .
قلت : ففي هذا أدل دليل على أن المعاصي إذا ارتكبت وانتهك حجابها كانت سببا إلى الضلالة والردى وسلما إلى ترك الرشاد والهدى . نسأل الله السداد والتوفيق والرشاد بمنه .
قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله في قوله : حتى يبين لهم أي حتى يحتج عليهم بأمره ; [ ص: 196 ] كما قال : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وقال مجاهد : حتى يبين لهم أي أمر إبراهيم ألا يستغفروا للمشركين خاصة ويبين لهم الطاعة والمعصية عامة . وروي أنه لما نزل تحريم الخمر وشدد فيها سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يشربها فأنزل الله تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وهذه الآية رد على المعتزلة وغيرهم الذين يقولون بخلق هداهم وإيمانهم كما تقدم .
قوله تعالى إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير تقدم معناه غير مرة .
قوله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم روى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعيرهم فالتقوا عن غير موعد كما قال الله تعالى ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل فذكر الحديث بطوله قال : فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سر بالأمر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال : أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك فقلت : يا نبي الله أمن عند الله أم من عندك ؟ قال : بل من عند الله ثم تلا هذه الآية - لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة حتى [ ص: 197 ] بلغ إن الله هو التواب الرحيم قال : وفينا أنزلت أيضا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . . . وذكر الحديث . وسيأتي بكماله من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى .
واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار على أقوال فقال ابن عباس : كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه . وقيل : توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة . وقيل : خلاصهم من نكاية العدو ، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحالة الأولى . وقال أهل المعاني : إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة لأنه لما كان سبب توبتهم ذكر معهم كقوله : فأن لله خمسه وللرسول .
قوله تعالى الذين اتبعوه في ساعة العسرة أي في وقت العسرة ، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها . وقيل : ساعة العسرة أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة . والعسرة صعوبة الأمر . قال جابر : اجتمع عليهم عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء . قال الحسن : كانت العسرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتنة وكان النفر يخرجون ما معهم - إلا التمرات - بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم . وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة : خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش ، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا . قال : أتحب ذلك ؟ قال : نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر . وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصاب الناس مجاعة وقالوا : يا رسول الله ، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( افعلوا ) ، فجاء عمر وقال : يا رسول الله إن [ ص: 198 ] فعلوا قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة . قال : ( نعم ) ، ثم دعا بنطع فبسط ثم دعا بفضل الأزواد ، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير . قال أبو هريرة : فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة . ثم قال : ( خذوا في أوعيتكم ) ، فأخذوا في أوعيتهم حتى - والذي لا إله إلا هو - ما بقي في العسكر وعاء إلا ملأوه ، وأكل القوم حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة . خرجه مسلم في صحيحه بلفظه ومعناه ، والحمد لله . وقال ابن عرفة : سمي جيش تبوك جيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة القيظ ، فغلظ عليهم وعسر ، وكان إبان ابتياع الثمرة . قال : وإنما ضرب المثل بجيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغز قبله في عدد مثله ؛ لأن أصحابه يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، ويوم أحد سبعمائة ، ويوم خيبر ألفا وخمسمائة ويوم الفتح عشرة آلاف ، ويوم حنين اثني عشر ألفا وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفا وزيادة ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياما من رمضان وبث سراياه وصالح أقواما على الجزية . وفي هذه الغزاة خلف عليا على المدينة فقال المنافقون : خلفه بغضا له ; فخرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال عليه السلام : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى وبين أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه ; لأن المدار على أمر الشارع . وإنما قيل لها : غزوة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما من أصحابه يبوكون حسي تبوك أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء ، فقال : ما زلتم تبوكونها بوكا فسميت تلك الغزوة غزوة تبوك . الحسي بالكسر ما تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فتحفر عنه الرمل فتستخرجه وهو الاحتساء قاله الجوهري .
قوله تعالى " من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم " قلوب " رفع ب " تزيغ " عند سيبويه . ويضمر في ( كاد ) الحديث تشبيها بكان ; لأن الخبر يلزمها كما يلزم كان . وإن شئت رفعتها بكاد ، ويكون التقدير : من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ . وقرأ الأعمش وحمزة [ ص: 199 ] وحفص يزيغ بالياء ، وزعم أبو حاتم أن من قرأ " يزيغ " بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد . قال النحاس : و الذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع . حكى الفراء رحب البلاد وأرحبت ، ورحبت لغة أهل الحجاز واختلف في معنى " تزيغ " ، فقيل : تتلف بالجهد والمشقة والشدة . وقال ابن عباس : تعدل - أي تميل - عن الحق في الممانعة والنصرة . وقيل : من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به وقيل : هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمرهم به .
قوله تعالى ثم تاب عليهم قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم . وينشد :
منك أرجو ولست أعرف ربا يرتجى منه بعض ما منك أرجو وإذا اشتدت الشدائد في الأر
ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا وابتليت العباد بالخوف والجو
ع وصروا على الذنوب ولجوا لم يكن لي سواك ربي ملاذ
فتيقنت أنني بك أنجو
وقال في حق الثلاثة : ثم تاب عليهم ليتوبوا فقيل : معنى ثم تاب عليهم أي وفقهم للتوبة ليتوبوا . وقيل : المعنى تاب عليهم ; أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا . وقيل : تاب عليهم ليثبتوا على التوبة . وقيل : المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم . وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا ; دليله قوله عليه السلام : اعملوا فكل ميسر لما خلق له .
قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم
قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا قيل : عن التوبة عن مجاهد وأبي مالك . [ ص: 200 ] وقال قتادة : عن غزوة تبوك . وحكي عن محمد بن زيد معنى ( خلفوا ) تركوا ; لأن معنى خلفت فلانا تركته وفارقته قاعدا عما نهضت فيه . وقرأ عكرمة بن خالد " خلفوا " أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي عن جعفر بن محمد أنه قرأ " خالفوا " . وقيل : ( خلفوا ) أي أرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم بشيء . وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم ، واعتذر أقوام فقبل عذرهم ، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن . وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما . واللفظ لمسلم قال كعب : كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ; فبذلك قال الله عز وجل : وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه . وهذا الحديث فيه طول ، هذا آخره .
والثلاثة الذين خلفوا هم : كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي وكلهم من الأنصار . وقد خرج البخاري ومسلم حديثهم ، فقال مسلم عن كعب بن مالك قال : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنه إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك : أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - [ ص: 201 ] يريد بذلك الديوان - قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر ، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أترحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذ خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ، حبسه برداه والنظر في عطفيه . فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حتى لمزه المنافقون . فقال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول : بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه ، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ قال : قلت : يا رسول الله ، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه [ ص: 202 ] بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبى الله ، والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك . فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المتخلفون ، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال : فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي . قال : ثم قلت لهم هل لقي هذا معي من أحد ؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، فقيل لهما مثل ما قيل لك . قال قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي . قال : فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة ; قال : فمضيت حين ذكروهما لي . قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه . قال : فاجتنبنا الناس . وقال : وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ; فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا! ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار ، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ قال : فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه : أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . قال : فقلت حين قرأتها : وهذه أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها [ ص: 203 ] حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك . قال فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال : لا ، بل اعتزلها فلا تقربنها . قال : فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك . قال : فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر . قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : لا ، ولكن لا يقربنك ، فقالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء ، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا . قال : فقال بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه . قال فقلت : لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب ، قال : فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا . قال : ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر . قال : فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج . قال : فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، فذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشارته ، والله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون : لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره . قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة . قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك . قال : فقلت أمن عند الله يا رسول الله أم من عندك ؟ قال : لا بل من عند الله . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر . قال : وكنا نعرف ذلك . قال : فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك . قال : فقلت : فإني أمسك سهمي [ ص: 204 ] الذي بخيبر . قال : وقلت : يا رسول الله ، إن الله إنما أنجاني بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت . قال : فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به ، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي ، فأنزل الله عز وجل : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة حتى بلغ " إنه بهم رءوف رحيم " . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . قال كعب : والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا ، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، وقال الله تعالى : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون . يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين . قال كعب : كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال الله عز وجل : وعلى الثلاثة وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه .
قوله تعالى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي بما اتسعت يقال : منزل رحب ورحيب ورحاب . و ( ما ) : مصدرية ; أي ضاقت عليهم الأرض برحبها ؛ لأنهم كانوا مهجورين لا يعاملون ولا يكلمون . وفي هذا دليل على هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا .
قوله تعالى وضاقت عليهم أنفسهم أي ضاقت صدورهم بالهم والوحشة ، وبما لقوه من الصحابة من الجفوة .
وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجأون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه . قال أبو بكر الوراق . التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه ; كتوبة كعب وصاحبيه .
قوله تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم فبدأ بالتوبة منه . قال أبو زيد : غلطت في أربعة أشياء : في الابتداء مع الله تعالى ، ظننت أني أحبه فإذا هو أحبني ; قال الله تعالى : يحبهم ويحبونه . وظننت أني أرضى عنه فإذا هو قد رضي عني ; قال الله [ ص: 205 ] تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه . وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني ; قال الله تعالى : ولذكر الله أكبر . وظننت أني أتوب فإذا هو قد تاب علي ; قال الله تعالى : ثم تاب عليهم ليتوبوا . وقيل : المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة ; كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا آمنوا وقيل : أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغيرهم ; قال جل وعز : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم .
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين
فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : وكونوا مع الصادقين هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين . قال مطرف : سمعت مالك بن أنس يقول : قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
من صــ 206 الى صــ 215
الحلقة (369)
واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال ; فقيل : هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب . وقيل : هو خطاب لجميع المؤمنين ; أي اتقوا مخالفة أمر الله . وكونوا مع الصادقين أي مع الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين . أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم . وقيل : هم الأنبياء ; أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة . وقيل : هم المراد بقوله : ليس البر أن تولوا وجوهكم - الآية إلى قوله - أولئك الذين صدقوا . وقيل : هم الموفون بما عاهدوا ; وذلك لقوله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقيل : هم المهاجرون ; لقول أبي بكر يوم السقيفة إن الله سمانا الصادقين فقال : للفقراء المهاجرين الآية ، ثم سماكم بالمفلحين فقال : والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية . وقيل : هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم . قال ابن العربي : وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل ، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم . وأما من قال : إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ويتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب . وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها فإن جميع الصفات فيهم موجودة .
واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال ; فقيل : هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب . وقيل : هو خطاب لجميع المؤمنين ; أي اتقوا مخالفة أمر الله . وكونوا مع الصادقين أي مع الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين . أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم . وقيل : هم الأنبياء ; أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة . وقيل : هم المراد بقوله : ليس البر أن تولوا وجوهكم - الآية إلى قوله - أولئك الذين صدقوا . وقيل : هم الموفون بما عاهدوا ; وذلك لقوله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقيل : هم المهاجرون ; لقول أبي بكر يوم السقيفة إن الله سمانا الصادقين فقال : للفقراء المهاجرين الآية ، ثم سماكم بالمفلحين فقال : والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية . وقيل : هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم . قال ابن العربي : وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل ، وصاحبها يقال له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم . وأما من قال : إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ويتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب . وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها فإن جميع الصفات فيهم موجودة .
[ ص: 206 ] الثانية : حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال ، والإخلاص في الأعمال ، والصفاء في الأحوال ، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار ; قال صلى الله عليه وسلم : عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . والكذب على الضد من ذلك ; قال صلى الله عليه وسلم : إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا خرجه مسلم . فالكذب عار وأهله مسلوبو الشهادة ، وقد رد صلى الله عليه وسلم شهادة رجل في كذبة كذبها . قال معمر : لا أدري أكذب على الله أو كذب على رسوله أو كذب على أحد من الناس . وسئل شريك بن عبد الله فقيل له : يا أبا عبد الله ، رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه ؟ قال لا . وعن ابن مسعود قال : إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم شيئا ثم لا ينجزه ، اقرءوا إن شئتم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين هل ترون في الكذب رخصة ؟ وقال مالك : لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال غيره : يقبل حديثه . والصحيح أن الكاذب لا تقبل شهادته ولا خبره لما ذكرناه ; فإن القبول مرتبة عظيمة وولاية شريفة لا تكون إلا لمن كملت خصاله ولا خصلة هي أشر من الكذب فهي تعزل الولايات وتبطل الشهادات .
قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون
[ ص: 207 ] فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ظاهره خبر ومعناه أمر ; كقوله : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله وقد تقدم . أن يتخلفوا في موضع رفع اسم كان . وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها ; كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك . والمعنى : ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا ; فإن النفير كان فيهم ، بخلاف غيرهم فإنهم لم يستنفروا ; في قول بعضهم . ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم ، وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم ، وأنهم أحق بذلك من غيرهم .
الثانية : قوله تعالى ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المشقة . يقال : رغبت عن كذا أي ترفعت عنه .
الثالثة : قوله تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ أي عطش . وقرأ عبيد بن عمير ظماء بالمد . وهما لغتان مثل خطأ وخطاء . ( ولا نصب ) عطف ، أي تعب ، و " لا " زائدة للتوكيد . وكذا ( ولا مخمصة ) أي مجاعة . وأصله ضمور البطن ; ومنه رجل خميص و امرأة خمصانة . وقد تقدم . في سبيل الله أي في طاعته . ولا يطئون موطئا أي أرضا . يغيظ الكفار أي بوطئهم إياها ، وهو في موضع نصب لأنه نعت للموطئ ، أي غائظا . ولا ينالون من عدو نيلا أي قتلا وهزيمة . وأصله من نلت الشيء أنال أي أصبت . قال الكسائي : هو من قولهم أمر منيل منه ; وليس هو من التناول ، إنما التناول من نلته العطية . قال غيره : نلت أنول من العطية ، من الواو والنيل من الياء ، تقول : نلته فأنا نائل ، أي أدركته . ولا يقطعون واديا العرب تقول : واد وأودية ، على غير قياس . قال النحاس : ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه ، والقياس أن يجمع ووادي ; فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم قد يستثقلون واحدة ، حتى قالوا : أقتت في وقتت . وحكى الخليل وسيبويه في تصغير واصل اسم رجل أويصل فلا يقولون غيره . وحكى الفراء في جمع واد أوداء .
قلت : وقد جمع أوداه ; قال جرير :
عرفت ببرقة الأوداه رسما محيلا طال عهدك من رسوم
إلا كتب لهم به عمل صالح قال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون [ ص: 208 ] ألف حسنة . وفي الصحيح : الخيل ثلاثة . . . وفيه : وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات . . . . الحديث . هذا وهي في مواضعها فكيف إذا أدرب بها .
الرابعة : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الغنيمة تستحق بالإدراب والكون في بلاد العدو ، فإن مات بعد ذلك فله سهمه ; وهو قول أشهب وعبد الملك ، وأحد قولي الشافعي . وقال مالك وابن القاسم : لا شيء له ; لأن الله عز وجل إنما ذكر في هذه الآية الأجر ولم يذكر السهم .
قلت : الأول أصح لأن الله تعالى : جعل وطء ديار الكفار بمثابة النيل من أموالهم وإخراجهم من ديارهم ، وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم ، فهو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر ; وإذا كان كذلك فالغنيمة تستحق بالإدراب لا بالحيازة ، ولذلك قال علي رضي الله عنه : ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا . والله أعلم .
الخامسة : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة وأن حكمها كان حين كان المسلمون في قلة ، فلما كثروا نسخت وأباح الله التخلف لمن شاء ; قاله ابن زيد . وقال مجاهد : بعث صلى الله عليه وسلم قوما إلى البوادي ليعلموا الناس فلما نزلت هذه الآية خافوا ورجعوا ; فأنزل الله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة . وقال قتادة : كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر ; فأما غيره من الأئمة الولاة فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة . وقول ثالث : أنها محكمة ; قال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها . قلت : قول قتادة حسن ; بدليل غزاة تبوك ، والله أعلم .
السادسة : روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه . قالوا : يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة . ؟ قال : حبسهم العذر . خرجه مسلم من حديث جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال : إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا [ ص: 209 ] قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض . فأعطى صلى الله عليه وسلم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل . وقد قال بعض الناس : إنما يكون الأجر للمعذور غير مضاعف ، ويضاعف للعامل المباشر . قال ابن العربي : وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعة رحمته ، وقد عاب بعض الناس فقال : إنهم يعطون الثواب مضاعفا قطعا ، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني على مقدار النيات ، وهذا أمر مغيب ، والذي يقطع به أن هناك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه .
قلت : الظاهر من الأحاديث والآي المساواة في الأجر ; منها قوله عليه السلام : من دل على خير فله مثل أجر فاعله وقوله : من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها . وهو ظاهر قوله تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال ، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ويزيد عليه ; لقوله عليه السلام : نية المؤمن خير من عمله . والله أعلم .
قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
فيه ست مسائل :
قوله تعالى وما كان المؤمنون وهي أن الجهاد ليس على الأعيان وأنه فرض كفاية كما تقدم ; إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال ، فليخرج فريق منهم للجهاد [ ص: 210 ] وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم ، حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع ، وما تجدد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم . وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى : ( إلا تنفروا ) وللآية التي قبلها ; على قول مجاهد وابن زيد .
الثانية : هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم ; لأن المعنى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده . ( فلولا نفر ) بعدما علموا أن النفير لا يسع جميعهم . ( من كل فرقة منهم طائفة ) وتبقى بقيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا ; فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه . وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة ، وأنه على الكفاية دون الأعيان . ويدل عليه أيضا قوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنن .
الثالثة : قوله تعالى ( فلولا نفر ) قال الأخفش : أي فهلا نفر . من كل فرقة منهم طائفة الطائفة في اللغة الجماعة ، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين ، وللواحد على معنى نفس طائفة . وقد تقدم أن المراد بقوله تعالى : إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة رجل واحد . ولا شك أن المراد هنا جماعة لوجهين ; أحدهما عقلا ، والآخر لغة . أما العقل فلأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب ، وأما اللغة فقوله : ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم فجاء بضمير الجماعة . قال ابن العربي : والقاضي أبو بكر والشيخ أبو الحسن قبله يرون أن الطائفة هاهنا واحد ، ويعتضدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد ، وهو صحيح لا من جهة أن الطائفة تنطلق على الواحد ولكن من جهة أن خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد ، وأن مقابله وهو التواتر لا ينحصر .
قلت : أنص ما يستدل به على أن الواحد يقال له طائفة قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا يعني نفسين . دليله قوله تعالى : فأصلحوا بين أخويكم فجاء بلفظ التثنية ، والضمير في ( اقتتلوا ) وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين للعلماء .
الرابعة : قوله تعالى ( ليتفقهوا ) الضمير في " ليتفقهوا ، ولينذروا " للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم ; قاله قتادة ومجاهد . وقال الحسن : هما للفرقة النافرة ; واختاره الطبري . ومعنى [ ص: 211 ] ليتفقهوا في الدين أي يتبصروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين .
قلت : قول مجاهد وقتادة أبين ، أي لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا . وهذا يقتضي الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام ; إذ ليس ذلك في قوة الكلام ، وإنما لزم طلب العلم بأدلته ; قاله أبو بكر بن العربي .
الخامسة : طلب العلم ينقسم قسمين : فرض على الأعيان ; كالصلاة والزكاة والصيام .
قلت : وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي إن طلب العلم فريضة . روى عبد القدوس بن حبيب : أبو سعيد الوحاظي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : طلب العلم فريضة على كل مسلم . قال إبراهيم : لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث .
وفرض على الكفاية ; كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه ; إذ لا يصلح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم ; فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين ، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته .
السادسة : طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل ; روى الترمذي من حديث أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم [ ص: 212 ] ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده قال : حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي عن الحسن قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل ، أحدهما كان عالما يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير . والآخر يصوم النهار ويقوم الليل ، أيهما أفضل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم . أسنده أبو عمر في كتاب " بيان العلم " عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي . وقال ابن عباس : أفضل الجهاد من بنى مسجدا يعلم فيه القرآن والفقه والسنة . رواه شريك عن ليث بن أبي سليم عن يحيى بن أبي كثير عن علي الأزدي قال : أردت الجهاد فقال لي ابن عباس ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد ، تأتي مسجدا فتقرأ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه . وقال الربيع سمعت الشافعي يقول : طلب العلم أوجب من الصلاة النافلة . وقوله عليه السلام : إن الملائكة لتضع أجنحتها . . . الحديث ، يحتمل وجهين : أحدهما : أنها تعطف عليه وترحمه ; كما قال الله تعالى فيما وصى به الأولاد من الإحسان إلى الوالدين بقوله : واخفض لهما جناح الذل من الرحمة أي تواضع لهما . والوجه الآخر : أن يكون المراد بوضع الأجنحة فرشها ; لأن في بعض الروايات وإن الملائكة تفرش أجنحتها ، أي إن الملائكة إذا رأت طالب العلم يطلبه من وجهه ابتغاء مرضاة الله وكانت سائر أحواله مشاكلة لطلب العلم فرشت له أجنحتها في رحلته وحملته عليها ; فمن هناك يسلم فلا يحفى إن كان ماشيا ولا يعيا ، وتقرب عليه الطريق البعيدة ، ولا يصيبه ما يصيب المسافر من أنواع الضرر كالمرض وذهاب المال وضلال الطريق . وقد مضى شيء من هذا المعنى في ( آل عمران ) عند قوله تعالى : شهد الله الآية . روى عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم [ ص: 213 ] الساعة . قال يزيد بن هارون : إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم ؟ .
قلت : وهذا قول عبد الرزاق في تأويل الآية ، إنهم أصحاب الحديث ; ذكره الثعلبي . سمعت شيخنا الأستاذ المقرئ النحوي المحدث أبا جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن أبي حجة رحمه الله يقول في تأويل قوله عليه السلام : لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة إنهم العلماء ; قال : وذلك أن الغرب لفظ مشترك يطلق على الدلو الكبيرة وعلى مغرب الشمس ، ويطلق على فيضة من الدمع . فمعنى لا يزال أهل الغرب أي لا يزال أهل فيض الدمع من خشية الله عن علم به وبأحكامه ظاهرين ; الحديث . قال الله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء .
قلت : وهذا التأويل يعضده قوله عليه السلام في صحيح مسلم : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة . وظاهر هذا المساق أن أوله مرتبط بآخره . والله أعلم .
[ ص: 214 ] قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين فيه أنه سبحانه عرفهم كيفية الجهاد وأن الابتداء بالأقرب فالأقرب من العدو ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرب ، فلما فرغ قصد الروم وكانوا بالشام . وقال الحسن : نزلت قبل أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين ; فهي من التدريج الذي كان قبل الإسلام . وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله . وقد روي عن ابن عمر أن المراد بذلك الديلم . وروي عنه أنه سئل بمن يبدأ بالروم أو بالديلم ؟ فقال بالروم . وقال الحسن : هو قتال الديلم والترك والروم . وقال قتادة : الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب ، والأدنى فالأدنى .
قلت : قول قتادة هو ظاهر الآية ، واختار ابن العربي أن يبدأ بالروم قبل الديلم ; على ما قاله ابن عمر لثلاثة أوجه . ( أحدها ) أنهم أهل كتاب ، فالحجة عليهم أكثر وآكد . الثاني : أنهم إلينا أقرب ، أعني أهل المدينة . الثالث : أن بلاد الأنبياء في بلادهم أكثر فاستنقاذها منهم أوجب . والله أعلم .
وليجدوا فيكم غلظة أي شدة وقوة وحمية . وروى الفضل عن الأعمش وعاصم " غلظة " بفتح الغين وإسكان اللام . قال الفراء : لغة أهل الحجاز وبني أسد بكسر الغين ، ولغة بني تميم " غلظة " بضم الغين .
قوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ( ما ) صلة ، والمراد المنافقون . أيكم زادته هذه إيمانا قد تقدم القول في زيادة الإيمان ونقصانه في سورة ( آل عمران ) . وقد تقدم معنى السورة في مقدمة الكتاب ، فلا معنى للإعادة .
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز " إن للإيمان سننا وفرائض من استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان " قال عمر بن عبد العزيز : " فإن أعش [ ص: 215 ] فسأبينها لكم وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص " . ذكره البخاري . وقال ابن المبارك لم أجد بدا من أن أقول بزيادة الإيمان وإلا رددت القرآن .
قوله تعالى وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون قوله تعالى وأما الذين في قلوبهم مرض أي شك وريب ونفاق . وقد تقدم .
قوله تعالى فزادتهم رجسا إلى رجسهم أي شكا إلى شكهم وكفرا إلى كفرهم . وقال مقاتل : إثما إلى إثمهم ; والمعنى متقارب
قوله تعالى أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون قوله تعالى أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين قراءة العامة بالياء ، خبرا عن المنافقين . وقرأ حمزة ويعقوب بالتاء خبرا عنهم وخطابا للمؤمنين . وقرأ الأعمش أولم يروا . وقرأ طلحة بن مصرف " أولا ترى " وهي قراءة ابن مسعود ، خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم . و ( يفتنون ) قال الطبري : يختبرون . قال مجاهد : بالقحط والشدة . وقال عطية : بالأمراض والأوجاع ; وهي روائد الموت . وقال قتادة والحسن ومجاهد : بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرون ما وعد الله من النصر ثم لا يتوبون لذلك ولا هم يذكرون .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ يُونُسَ
من صــ 216 الى صــ 225
الحلقة (370)
قوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون قوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض ( ما ) صلة ، والمراد المنافقون ; أي إذا حضروا الرسول وهو يتلو قرآنا أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير ; يقول : هل يراكم من أحد إذا تكلمتم [ ص: 216 ] بهذا فينقله إلى محمد ; وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام ، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه . وقيل إن ( نظر ) في هذه الآية بمعنى أنبأ . وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : ( نظر ) في هذه الآية موضع قال .
قوله تعالى ثم ( انصرفوا ) أي انصرفوا عن طريق الاهتداء . وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لإيمانهم ; فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء ، ولم يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سماع من يتدبره وينظر في آياته ; إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها .
قوله تعالى صرف الله قلوبهم فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى صرف الله قلوبهم دعاء عليهم ; أي قولوا لهم هذا . ويجوز أن يكون خبرا عن صرفها عن الخير مجازاة على فعلهم . وهي كلمة يدعى بها ; كقوله : قاتلهم الله والباء في قوله : ( بأنهم ) صلة ل ( صرف ) .
الثانية : قال ابن عباس : يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة ; لأن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم ، ولكن قولوا قضينا الصلاة ; أسنده الطبري عنه . قال ابن العربي : وهذا فيه نظر وما أظنه بصحيح فإن نظام الكلام أن يقال : لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة ; فإن قوما قيل فيهم : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم . أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ حدثنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه يقول : كنا في جنازة فقال المنذر بها : انصرفوا رحمكم الله فقال : لا يقل أحد انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ولكن قولوا : انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم : فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء .
الثالثة : أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه صارف القلوب ومصرفها وقالبها ومقلبها ; ردا على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم ، وجوارحهم بحكمهم ، يتصرفون بمشيئتهم ويحكمون بإراداتهم واختيارهم ; ولذلك قال مالك فيما رواه عنه أشهب : ما [ ص: 217 ] أبين هذا في الرد على القدرية لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم . وقوله عز وجل لنوح : أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزول .
قوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم هاتان الآيتان في قول أبي أقرب القرآن بالسماء عهدا . وفي قول سعيد بن جبير : آخر ما نزل من القرآن واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله على ما تقدم . فيحتمل أن يكون قول أبي : أقرب القرآن بالسماء عهدا بعد قوله : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله . والله أعلم .
والخطاب للعرب في قول الجمهور ، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك ; إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه ، وشرفوا به غابر الأيام . وقال الزجاج : هي مخاطبة لجميع العالم والمعنى : لقد جاءكم رسول من البشر ; والأول أصوب . قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال : يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل . والقول الثاني أوكد للحجة أي هو بشر مثلكم لتفهموا عنه وتأتموا به .
قوله تعالى من أنفسكم يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها . وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني من نكاح ولست من سفاح . معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا . وقرأ عبد الله بن قسيط المكي من " أنفسكم " بفتح الفاء من النفاسة ; ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن [ ص: 218 ] فاطمة رضي الله عنها أي جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم من قولك : شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه . وقيل : من أنفسكم أي أكثركم طاعة .
قوله تعالى عزيز عليه ما عنتم أي يعز عليه مشقتكم . والعنت : المشقة ; من قولهم : أكمة عنوت إذا كانت شاقة مهلكة . وقال ابن الأنباري : أصل التعنت التشديد ; فإذا قالت العرب : فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادهم يشدد عليه ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه . وقد تقدم في ( البقرة ) . و " ما " في ( ما عنتم ) مصدرية ، وهي ابتداء و ( عزيز ) خبر مقدم . ويجوز أن يكون ( ما عنتم ) فاعلا بعزيز ، و ( عزيز ) صفة للرسول ، وهو أصوب . وكذا حريص عليكم وكذا رءوف رحيم رفع على الصفة . قال الفراء : ولو قرئ عزيزا عليه ، ما عنتم حريصا رءوفا رحيما ، نصبا على الحال ، جاز . قال أبو جعفر النحاس : وأحسن ما قيل في معناه مما يوافق كلام العرب ما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال حدثنا عبد الله بن محمد الخزاعي قال سمعت عمرو بن علي يقول : سمعت عبد الله بن داود الخريبي يقول في قوله عز وجل : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم قال : أن تدخلوا النار ،
حريص عليكم قال : أن تدخلوا الجنة . وقيل : حريص عليكم أن تؤمنوا . وقال الفراء : شحيح بأن تدخلوا النار . والحرص على الشيء : الشح عليه أن يضيع ويتلف .
بالمؤمنين رءوف رحيم الرءوف : المبالغ في الرأفة والشفقة . وقد تقدم في ( البقرة ) معنى رءوف رحيم مستوفى . وقال الحسين بن الفضل : لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ; فإنه قال : بالمؤمنين رءوف رحيم وقال : إن الله بالناس لرءوف رحيم . وقال عبد العزيز بن يحيى : نظم الآية لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص بالمؤمنين رءوف رحيم ، عزيز عليه ما عنتم لا يهمه إلا شأنكم ، وهو القائم بالشفاعة لكم فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته ; فإنه لا يرضيه إلا دخولكم الجنة .
قوله تعالى فإن تولوا فقل حسبي الله أي إن أعرض الكفار يا محمد بعد هذه النعم التي من الله عليهم بها فقل حسبي الله أي كافي الله تعالى .
لا إله إلا هو عليه توكلت أي اعتمدت وإليه فوضت جميع أموري .
وهو رب العرش العظيم خص العرش لأنه أعظم المخلوقات فيدخل فيه ما دونه إذا ما ذكره . وقراءة العامة بخفض العظيم نعتا للعرش . وقرئ بالرفع صفة للرب ، رويت عن ابن كثير ، وهي قراءة ابن محيصن وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات ، كفاه الله ما أهمه صادقا كان بها أو كاذبا . وفي نوادر الأصول عن بريدة قال : قال [ ص: 219 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال عشر كلمات عند دبر كل صلاة وجد الله عندهن مكفيا مجزيا خمس للدنيا وخمس للآخرة حسبي الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله لما أهمني حسبي الله لمن بغى علي حسبي الله لمن حسدني حسبي الله لمن كادني بسوء حسبي الله عند الموت حسبي الله عند المسألة في القبر حسبي الله عند الميزان حسبي الله عند الصراط حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب .
وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال : أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة ; وقد بيناه . وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس أن آخر ما نزل من القرآن لقد جاءكم رسول من أنفسكم وهذه الآية ; ذكره الماوردي . وقد ذكرنا عن ابن عباس خلافه ; على ما ذكرناه في ( البقرة ) وهو أصح . وقال مقاتل : تقدم نزولها بمكة . وهذا فيه بعد لأن السورة مدنية والله أعلم . وقال يحيى بن جعدة : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاءه رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة ( براءة ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم فقال عمر : والله لا أسألك عليهما بينة كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم فأثبتهما . قال علماؤنا : الرجل هو خزيمة بن ثابت وإنما أثبتهما عمر رضي الله عنه بشهادته وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وخزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم . وقد تقدم هذا المعنى في مقدمة الكتاب والحمد لله .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ يُونُسَ
سورة يونس عليه السلام مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس إلا ثلاث آيات من قوله تعالى : فإن كنت في شك إلى آخرهن . وقال مقاتل : إلا آيتين وهي قوله : فإن كنت في شك نزلت بالمدينة . وقال الكلبي : مكية إلا قوله : ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به نزلت بالمدينة في اليهود . وقالت فرقة : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة .
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب الحكيم قوله تعالى ( الر ) قال النحاس : قرئ على أبي جعفر أحمد بن شعيب بن علي بن الحسين بن حريث قال : أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس : الر ، وحم ، ونون حروف الرحمن مفرقة ; فحدثت به الأعمش فقال : عندك أشباه هذا ولا تخبرني به ؟ . وعن ابن عباس أيضا قال : ( الر ) أنا الله أرى . قال النحاس : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ; لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد :
بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
وقال الحسن وعكرمة : ( الر ) قسم . وقال سعيد عن قتادة : ( الر ) اسم السورة ; قال : وكذلك كل هجاء في القرآن . وقال مجاهد : هي فواتح السور . وقال محمد بن يزيد : هي تنبيه ، وكذا حروف التهجي . وقرئ ( الر ) من غير إمالة . وقرئ بالإمالة لئلا تشبه " ما " و " لا " من الحروف .
قوله تعالى تلك آيات الكتاب الحكيم ابتداء وخبر ; أي تلك التي جرى ذكرها [ ص: 221 ] آيات الكتاب الحكيم . قال مجاهد وقتادة : أراد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة ; فإن ( تلك ) إشارة إلى غائب مؤنث . وقيل : ( تلك ) بمعنى هذه ; أي هذه آيات الكتاب الحكيم . ومنه قول الأعشى :
تلك خيلي منه وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب
أي هذه خيلي . والمراد القرآن وهو أولى بالصواب ; لأنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر ، ولأن الحكيم من نعت القرآن . دليله قوله تعالى : الر كتاب أحكمت آياته وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة " البقرة " . والحكيم : المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام ; قالهأبو عبيدة وغيره . وقيل : الحكيم بمعنى الحاكم ; أي إنه حاكم بالحلال والحرام ، وحاكم بين الناس بالحق ; فعيل بمعنى فاعل . دليله قوله : وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . وقيل : الحكيم بمعنى المحكوم فيه ; أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر ، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه ; فهو فعيل بمعنى المفعول ; قاله الحسن وغيره . وقال مقاتل : الحكيم بمعنى المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف ; فعيل بمعنى مفعل ، كقول الأعشى يذكر قصيدته التي قالها :
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها
قوله تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين
قوله تعالى أكان للناس عجبا استفهام معناه التقرير والتوبيخ . و ( عجبا ) خبر كان ، واسمها ( أن أوحينا ) وهو في موضع رفع ; أي كان إيحاؤنا عجبا للناس . وفي قراءة عبد الله " عجب " على أنه اسم كان . والخبر ( أن أوحينا ) .
إلى رجل منهم قرئ " رجل " بإسكان الجيم . وسبب النزول فيما روي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بعث محمد : إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا . وقالوا : ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب ; فنزلت : أكان للناس يعني أهل مكة ( عجبا ) . وقيل : إنما تعجبوا من ذكر البعث .
[ ص: 222 ] قوله تعالى ( أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا ) في موضع نصب بإسقاط الخافض ; أي بأن أنذر الناس ، وكذا أن لهم قدم صدق وقد تقدم معنى النذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية .
واختلف في معنى قدم صدق فقال ابن عباس : قدم صدق منزل صدق ; دليله قوله تعالى : وقل رب أدخلني مدخل صدق . وعنه أيضا أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم . وعنه أيضا قدم صدق سبق السعادة في الذكر الأول ، وقاله مجاهد . الزجاج : درجة عالية . قال ذو الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العالي طمت على البحر
قتادة : سلف صدق . الربيع : ثواب صدق . عطاء : مقام صدق . يمان : إيمان صدق . وقيل : دعوة الملائكة . وقيل : ولد صالح قدموه . الماوردي : أن يوافق صدق الطاعة الجزاء . وقال الحسن وقتادة أيضا : هو محمد صلى الله عليه وسلم ; فإنه شفيع مطاع يتقدمهم ; كما قال : أنا فرطكم على الحوض . وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال : هي شفاعتي توسلون بي إلى ربكم . وقال الترمذي الحكيم : قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود . وعن الحسن أيضا : مصيبتهم في النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عبد العزيز بن يحيى : ( قدم صدق ) قوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون وقال مقاتل : أعمالا قدموها ; واختاره الطبري . قال الوضاح :
صل لذي العرش واتخذ قدما تنجيك يوم العثار والزلل
وقيل : هو تقديم الله هذه الأمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة . كما قال : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق . وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح ; فكنى عنه بالقدم كما يكنى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان . وأنشد حسان :
[ ص: 223 ]
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
يريد السابقة بإخلاص الطاعة ، والله أعلم . وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم ; يقال : لفلان قدم في الإسلام ، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير . وهو مؤنث وقد يذكر ; يقال : قدم حسن وقدم صالحة . وقال ابن الأعرابي : القدم التقدم في الشرف ; قال العجاج :
زل بنو العوام عن آل الحكم وتركوا الملك لملك ذي قدم
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لي خمسة أسماء . أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب يريد آخر الأنبياء ; كما قال تعالى : وخاتم النبيين .
قوله تعالى قال الكافرون إن هذا لساحر مبين قرأ ابن محيصن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش ( لساحر ) نعتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ الباقون " لسحر " نعتا للقرآن وقد تقدم معنى السحر في " البقرة " .
قوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون قوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش تقدم في الأعراف .
يدبر الأمر قال مجاهد : يقضيه ويقدره وحده . ابن عباس : لا يشركه في تدبير خلقه أحد . وقيل : يبعث بالأمر . وقيل : ينزل به . وقيل : يأمر به ويمضيه ; والمعنى متقارب . فجبريل للوحي ، وميكائيل للقطر ، وإسرافيل للصور ، وعزرائيل للقبض . [ ص: 224 ] وحقيقته تنزيل الأمور في مراتبها على أحكام عواقبها ، واشتقاقه من الدبر . والأمر اسم لجنس الأمور .
ما من شفيع في موضع رفع ، والمعنى ما شفيع
إلا من بعد إذنه وقد تقدم في " البقرة " معنى الشفاعة . فلا يشفع أحد نبي ولا غيره إلا بإذنه سبحانه ، وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله : هؤلاء شفعاؤنا عند الله فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لأحد إلا بإذنه ، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل .
قوله تعالى ذلكم الله ربكم فاعبدوه أي ذلكم الذي فعل هذه الأشياء من خلق السماوات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره . فاعبدوه أي وحدوه وأخلصوا له العبادة . أفلا تذكرون أي أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه .
قوله تعالى إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون
إليه مرجعكم جميعا رفع بالابتداء . ( جميعا ) نصب على الحال . ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى جزائه .
وعد الله حقا مصدران ; أي وعد الله ذلك وعدا وحققه حقا صدقا لا خلف فيه . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " وعد الله حق " على الاستئناف .
قوله تعالى إنه يبدأ الخلق أي من التراب . ثم يعيده إليه . مجاهد : ينشئه ثم يميته ثم يحييه للبعث ; أو ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال . وقرأ يزيد بن القعقاع " أنه يبدأ الخلق " تكون ( أن ) في موضع نصب ; أي وعدكم أنه يبدأ الخلق . ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق ; كما يقال : لبيك أن الحمد والنعمة لك ; والكسر أجود . وأجاز الفراء أن تكون ( أن ) في موضع رفع فتكون اسما . قال أحمد بن يحيى : يكون التقدير حقا إبداؤه الخلق .
قوله تعالى ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط أي بالعدل .
والذين كفروا لهم شراب من حميم أي ماء حار قد انتهى حره ، والحميمة مثله . يقال : [ ص: 225 ] حممت الماء أحمه فهو حميم ، أي محموم ; فعيل بمعنى مفعول . وكل مسخن عند العرب فهو حميم .
وعذاب أليم أي موجع ، يخلص وجعه إلى قلوبهم بما كانوا يكفرون أي بكفرهم ، وكان معظم قريش يعترفون بأن الله خالقهم ; فاحتج عليهم بهذا فقال : من قدر على الابتداء قدر على الإعادة بعد الإفناء أو بعد تفريق الأجزاء .
قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون
قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء مفعولان ، أي مضيئة ، ولم يؤنث لأنه مصدر ; أو ذات ضياء
والقمر نورا عطف ، أي منيرا ، أو ذا نور ، فالضياء ما يضيء الأشياء ، والنور ما يبين فيخفى ؛ لأنه من النار من أصل واحد . والضياء جمع ضوء ; كالسياط والحياض جمع سوط وحوض . وقرأ قنبل عن ابن كثير " ضئاء " بهمز الياء ولا وجه له ؛ لأن ياءه كانت واوا مفتوحة وهي عين الفعل ، أصلها ضواء فقلبت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام . قال المهدوي : ومن قرأ ضئاء بالهمز فهو مقلوب ، قدمت الهمزة التي بعد الألف فصارت قبل الألف فصار ضئايا ، ثم قلبت الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة . وكذلك إن قدرت أن الياء حين تأخرت رجعت إلى الواو التي انقلبت عنها فإنها تقلب همزة أيضا فوزنه فلاع مقلوب من فعال . ويقال : إن الشمس والقمر تضيء وجوههما لأهل السماوات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع .
قوله تعالى وقدره منازل أي ذا منازل ، أو قدر له منازل . ثم قيل : المعنى وقدرهما ، فوحد إيجازا واختصارا ; كما قال : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها . وكما قال :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ يُونُسَ
من صــ 226 الى صــ 235
الحلقة (371)
وقيل : إن الإخبار عن القمر وحده ; إذ به تحصى الشهور التي عليها العمل في المعاملات ونحوها ، كما تقدم في " البقرة " . وفي سورة يس : والقمر قدرناه منازل أي [ ص: 226 ] على عدد الشهر ، وهو ثمانية وعشرون منزلا . ويومان للنقصان والمحاق ، وهناك يأتي بيانه .
لتعلموا عدد السنين والحساب قال ابن عباس : لو جعل شمسين ، شمسا بالنهار وشمسا بالليل ليس فيهما ظلمة ولا ليل ، لم يعلم عدد السنين وحساب الشهور . وواحد السنين سنة ، ومن العرب من يقول : سنوات في الجمع ومنهم من يقول : سنهات . والتصغير سنية وسنيهة .
قوله تعالى ما خلق الله ذلك إلا بالحق أي ما أراد الله عز وجل بخلق ذلك إلا الحكمة والصواب ، وإظهارا لصنعته وحكمته ، ودلالة على قدرته وعلمه ، ولتجزى كل نفس بما كسبت ; فهذا هو الحق .
قوله تعالى يفصل الآيات لقوم يعلمون تفصيل الآيات تبيينها ليستدل بها على قدرته تعالى ، لاختصاص الليل بظلامه والنهار بضيائه من غير استحقاق لهما ولا إيجاب ; فيكون هذا لهم دليلا على أن ذلك بإرادة مريد . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب يفصل بالياء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ; لقوله من قبله : ما خلق الله ذلك إلا بالحق وبعده وما خلق الله في السماوات والأرض فيكون متبعا له . وقرأ ابن السميقع " تفصل " بضم التاء وفتح الصاد على الفعل المجهول ، و " الآيات رفعا . الباقون " نفصل " بالنون على التعظيم .
قوله تعالى إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون تقدم في " البقرة " وغيرها معناه ، والحمد لله . وقد قيل : إن سبب نزولها أن أهل مكة سألوا آية فردهم إلى تأمل مصنوعاته والنظر فيها ; قال ابن عباس . لقوم يتقون أي الشرك ; فأما من أشرك ولم يستدل فليست الآية له آية .
قوله تعالى إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون
[ ص: 227 ] قوله تعالى إن الذين لا يرجون لقاءنا يرجون يخافون ; ومنه قول الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل
وقيل يرجون يطمعون ; ومنه قول الآخر :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
فالرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع ; أي لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا . وجعل لقاء العذاب والثواب لقاء لله تفخيما لهما . وقيل : يجري اللقاء على ظاهره ، وهو الرؤية ; أي لا يطمعون في رؤيتنا . وقال بعض العلماء : لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد ; كقوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا . وقال بعضهم : بل يقع بمعناه في كل موضع دل عليه المعنى .
قوله تعالى ورضوا بالحياة الدنيا أي رضوا بها عوضا من الآخرة فعملوا لها . واطمأنوا بها أي فرحوا بها وسكنوا إليها ، وأصل اطمأن طمأن من طمأنينة ، فقدمت ميمه وزيدت نون وألف وصل ، ذكره الغزنوي .
والذين هم عن آياتنا أي عن أدلتنا غافلون لا يعتبرون ولا يتفكرون .
أولئك مأواهم أي مثواهم ومقامهم النار بما كانوا يكسبون أي من الكفر والتكذيب .
قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم قوله تعالى إن الذين آمنوا أي صدقوا .
وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم أي يزيدهم هداية ; كقوله : والذين اهتدوا زادهم هدى . وقيل : يهديهم ربهم بإيمانهم إلى مكان تجري من تحتهم الأنهار . وقال أبو روق : يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة . وقال عطية : يهديهم يثيبهم ويجزيهم . وقال مجاهد : يهديهم ربهم بالنور على الصراط إلى الجنة ، يجعل لهم نورا يمشون به . ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوي هذا أنه قال : يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله . هذا معنى الحديث . وقال ابن جريج : يجعل عملهم هاديا لهم . الحسن : يهديهم يرحمهم .
[ ص: 228 ] قوله تعالى تجري من تحتهم الأنهار قيل : في الكلام واو محذوفة ، أي وتجري من تحتهم ، أي من تحت بساتينهم . وقيل : من تحت أسرتهم ; وهذا أحسن في النزهة والفرجة .
قوله تعالى دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
قوله تعالى دعواهم فيها سبحانك اللهم دعواهم : أي دعاؤهم ; والدعوى مصدر دعا يدعو ، كالشكوى مصدر شكا يشكو ; أي دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم وقيل : إذا أرادوا أن يسألوا شيئا أخرجوا السؤال بلفظ التسبيح ويختمون بالحمد . وقيل : نداؤهم الخدم ليأتوهم بما شاءوا ثم سبحوا . وقيل : إن الدعاء هنا بمعنى التمني قال الله تعالى ولكم فيها ما تدعون أي ما تتمنون . والله أعلم .
قوله تعالى وتحيتهم فيها سلام أي تحية الله لهم أو تحية الملك أو تحية بعضهم لبعض : سلام . وقد مضى في " النساء " معنى التحية مستوفى . والحمد لله .
قوله تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين فيه أربع مسائل : الأولى : قيل : إن أهل الجنة إذا مر بهم الطير واشتهوه قالوا : سبحانك اللهم ; فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فإذا أكلوا حمدوا الله فسؤالهم بلفظ التسبيح والختم بلفظ الحمد . ولم يحك أبو عبيد إلا تخفيف أن ورفع ما بعدها ; قال : وإنما نراهم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله عز وجل : أن لعنة الله وأن غضب الله لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال الحمد لله . قال النحاس : مذهب الخليل وسيبويه أن أن هذه مخففة من الثقيلة . والمعنى أنه الحمد لله . قال محمد بن يزيد : ويجوز " أن الحمد لله " يعملها خفيفة عملها ثقيلة ; والرفع أقيس . قال النحاس : وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " .
قلت : وهي قراءة ابن محيصن ، حكاها الغزنوي لأنه يحكي عنه .
[ ص: 229 ] الثانية : التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء ; روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : لا إله إلا الله العظيم الحليم . لا إله إلا الله رب العرش العظيم . لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم . قال الطبري : كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب . وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال : أما علمت أن الله تعالى يقول " إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " . والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له .
الثالثة : من السنة لمن بدأ بالأكل أن يسمي الله عند أكله وشربه ويحمده عند فراغه اقتداء بأهل الجنة ; وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها .
الرابعة : يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة : وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ; وحسن أن يقرأ آخر والصافات فإنها جمعت تنزيه البارئ تعالى عما نسب إليه ، والتسليم على المرسلين ، والختم بالحمد لله رب العالمين .
قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون
قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم [ ص: 230 ] فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر قيل : معناه ولو عجل الله للناس العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير لماتوا ؛ لأنهم خلقوا في الدنيا خلقا ضعيفا ، وليس هم كذا يوم القيامة ; لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء . وقيل : المعنى لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ; وهو معنى لقضي إليهم أجلهم . وقيل : إنه خاص بالكافر ; أي ولو يعجل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة ; قال ابن إسحاق . مقاتل : هو قول النضر بن الحارث : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ; فلو عجل لهم هذا لهلكوا . وقال مجاهد : نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب : اللهم أهلكه ، اللهم لا تبارك له فيه والعنه ، أو نحو هذا ; فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضي إليهم أجلهم . فالآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في بعض الناس يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر ; فلو عجل لهم لهلكوا .
الثانية : واختلف في إجابة هذا الدعاء ; فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني سألت الله عز وجل ألا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه . وقال شهر بن حوشب : قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملائكة الموكلين بالعبد : لا تكتبوا على عبدي في حال ضجره شيئا ; لطفا من الله تعالى عليه . قال بعضهم : وقد يستجاب ذلك الدعاء ، واحتج بحديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه آخر الكتاب ، قال جابر : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة ، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركب ، ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن ; فقال له : شأ ; لعنك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هذا اللاعن بعيره ؟ قال : أنا يا رسول الله ; قال : انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم . [ ص: 231 ] في غير كتاب مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فلعن رجل ناقته فقال : أين الذي لعن ناقته ؟ فقال الرجل : أنا هذا يا رسول الله ; فقال : أخرها عنك فقد أجبت فيها ذكره الحليمي في منهاج الدين . " شأ " يروى بالسين والشين ، وهو زجر للبعير بمعنى سر .
الثالثة : قوله تعالى : ولو يعجل الله قال العلماء : التعجيل من الله ، والاستعجال من العبد . وقال أبو علي : هما من الله ; وفي الكلام حذف ; أي ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه ، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه ; هذا مذهب الخليل وسيبويه . وعلى قول الأخفش والفراء كاستعجالهم ، ثم حذف الكاف ونصب . قال الفراء : كما تقول ضربت زيدا ضربك ، أي كضربك . وقرأ ابن عامر لقضى إليهم أجلهم . وهي قراءة حسنة ; لأنه متصل بقوله : ولو يعجل الله للناس الشر .
فنذر الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يعجل لهم الشر فربما يتوب منهم تائب ، أو يخرج من أصلابهم مؤمن .
في طغيانهم يعمهون أي يتحيرون . والطغيان : العلو والارتفاع ; وقد تقدم في " البقرة " . وقد قيل : إن المراد بهذه الآية أهل مكة ، وإنها نزلت حين قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ، على ما تقدم والله أعلم .
قوله تعالى وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون
قوله تعالى وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه قيل : المراد بالإنسان هنا الكافر ، قيل : هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك ، تصيبه البأساء والشدة والجهد . دعانا لجنبه أي على جنبه مضطجعا .
أو قاعدا أو قائما وإنما أراد جميع حالاته ; لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاث . قال بعضهم : إنما بدأ بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر ، فهو يدعو أكثر ، واجتهاده أشد ، ثم القاعد ثم القائم .
فلما كشفنا عنه ضره مر أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ . قلت : وهذه صفة كثير من المخلصين الموحدين ، إذا أصابته العافية مر على ما كان عليه [ ص: 232 ] من المعاصي ; فالآية تعم الكافر وغيره .
كأن لم يدعنا قال الأخفش : هي " كأن " الثقيلة خففت ، والمعنى كأنه وأنشد :
وي كأن من يكن له نشب يح بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
كذلك زين أي كما زين لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عن الرخاء . زين للمسرفين أي للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي . وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله ، ويجوز أن يكون من الشيطان ، وإضلاله دعاؤه إلى الكفر .
قوله تعالى ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين
قوله تعالى ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا يعني الأمم الماضية من قبل أهل مكة أهلكناهم . لما ظلموا أي كفروا وأشركوا .
وجاءتهم رسلهم بالبينات أي بالمعجزات الواضحات والبراهين النيرات .
وما كانوا ليؤمنوا أي أهلكناهم لعلمنا أنهم لا يؤمنون . يخوف كفار مكة عذاب الأمم الماضية ; أي نحن قادرون على إهلاك هؤلاء بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولكن نمهلهم لعلمنا بأن فيهم من يؤمن ، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن . وهذه الآية ترد على أهل الضلال القائلين بخلق الهدى والإيمان . وقيل : معنى ما كانوا ليؤمنوا أي جازاهم على كفرهم بأن طبع على قلوبهم ; ويدل على هذا أنه قال : كذلك نجزي القوم المجرمين .
قوله تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون قوله تعالى : ثم جعلناكم خلائف مفعولان . والخلائف جمع خليفة ، وقد تقدم آخر " الأنعام " أي جعلناكم سكانا في الأرض . من بعدهم أي من بعد القرون المهلكة . لننظر نصب بلام كي ، وقد تقدم نظائره وأمثاله ; أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب ، ولم يزل يعلمه غيبا . وقيل : يعاملكم معاملة المختبر إظهارا للعدل . وقيل : النظر راجع إلى الرسل ; أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم . وكيف نصب بقوله : تعملون : لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله .
[ ص: 233 ] قوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم
قوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا تتلى تقرأ ، وبينات نصب على الحال ; أي واضحات لا لبس فيها ولا إشكال .
قال الذين لا يرجون لقاءنا يعني لا يخافون يوم البعث والحساب ولا يرجون الثواب . قال قتادة : يعني مشركي أهل مكة .
ائت بقرآن غير هذا أو بدله والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا يجوز أن يكون معه ، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه ; وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم سألوه أن يحول الوعد وعيدا والوعيد وعدا ، والحلال حراما والحرام حلالا ; قاله ابن جرير الطبري .
الثاني : سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم ; قاله ابن عيسى .
الثالث : أنهم سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور ; قاله الزجاج .
الثانية : قوله تعالى قل ما يكون لي أي قل يا محمد ما كان لي أن أبدله من تلقاء نفسي ومن عندي ، كما ليس لي أن ألقاه بالرد والتكذيب .
إن أتبع إلا ما يوحى إلي أي لا أتبع إلا ما أتلوه عليكم من وعد ووعيد ، وتحريم وتحليل ، وأمر ونهي . وقد يستدل بهذا من يمنعنسخ الكتاب بالسنة ; لأنه تعالى قال : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي وهذا فيه بعد ; فإن الآية وردت في طلب المشركين مثل القرآن نظما ، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قادرا على ذلك ، ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ ; ولأن الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه ، بل كان من عند الله تعالى .
الثالثة : قوله تعالى إني أخاف إن عصيت ربي أي إن خالفت في تبديله وتغييره أو في ترك العمل به .
عذاب يوم عظيم يعني يوم القيامة .
[ ص: 234 ] قوله تعالى قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون
قوله تعالى قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن ، ولا أعلمكم الله ولا أخبركم به ; يقال : دريت الشيء وأدراني الله به ، ودريته ودريت به . وفي الدراية معنى الختل ; ومنه دريت الرجل أي ختلته ، ولهذا لا يطلق الداري في حق الله تعالى وأيضا عدم فيه التوقيف . وقرأ ابن كثير : " ولأدراكم به " بغير ألف بين اللام والهمزة ; والمعنى : لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم ; فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل . وقرأ ابن عباس والحسن " ولا أدراتكم به " بتحويل الياء ألفا ، على لغة بني عقيل ; قال الشاعر :
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وقال آخر :
ألا آذنت أهل اليمامة طيئ بحرب كناصات الأغر المشهر
قال أبو حاتم : سمعت الأصمعي يقول سألت أبا عمرو بن العلاء : هل لقراءة الحسن " ولا أدراتكم به " وجه ؟ فقال لا . وقال أبو عبيد : لا وجه لقراءة الحسن " ولا أدراتكم به " إلا الغلط . قال النحاس : معنى قول أبي عبيد : لا وجه ، إن شاء الله على الغلط ; لأنه يقال : دريت أي علمت ، وأدريت غيري ، ويقال : درأت أي دفعت ; فيقع الغلط بين دريت ودرأت . قال أبو حاتم : يريد الحسن فيما أحسب " ولا أدريتكم به " فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب ، يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها ; مثل : إن هذان لساحران . قال المهدوي : ومن قرأ " أدرأتكم " فوجهه أن أصل الهمزة ياء ، فأصله " أدريتكم " فقلبت الياء ألفا وإن كانت ساكنة ; كما قال : يايس في ييس وطايئ في طيئ ، ثم قلبت الألف همزة على لغة من قال في العالم العألم وفي الخاتم الخأتم . قال النحاس : وهذا غلط ، والرواية عن الحسن " ولا أدرأتكم " بالهمزة ، وأبو حاتم وغيره تكلم أنه بغير همز ، ويجوز أن يكون من درأت أي دفعت ; أي ولا أمرتكم أن تدفعوا فتتركوا الكفر بالقرآن .
قوله تعالى فقد لبثت فيكم عمرا ظرف ، أي مقدارا من الزمان وهو أربعون سنة . [ ص: 235 ] من قبله أي من قبل القرآن ، تعرفونني بالصدق والأمانة ، لا أقرأ ولا أكتب ، ثم جئتكم بالمعجزات .
أفلا تعقلون أن هذا لا يكون إلا من عند الله لا من قبلي .
وقيل : معنى لبثت فيكم عمرا أي لبثت فيكم مدة شبابي لم أعص الله ، أفتريدون مني الآن وقد بلغت أربعين سنة أن أخالف أمر الله ، وأغير ما ينزله علي . قال قتادة : لبث فيهم أربعين سنة ، وأقام سنتين يرى رؤيا الأنبياء ، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة .
قوله تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون هذا استفهام بمعنى الجحد ; أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ، وبدل كلامه وأضاف شيئا إليه مما لم ينزله . وكذلك لا أحد أظلم منكم إذا أنكرتم القرآن وافتريتم على الله الكذب ، وقلتم ليس هذا كلامه . وهذا مما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم . وقيل : هو من قول الله ابتداء . وقيل : المفتري المشرك ، والمكذب بالآيات أهل الكتاب . إنه لا يفلح المجرمون .
قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون
قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم يريد الأصنام .
ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وهذه غاية الجهالة منهم ; حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال . وقيل : شفعاؤنا أي تشفع لنا عند الله في إصلاح معائشنا في الدنيا .
قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض قراءة العامة " تنبئون " بالتشديد . وقرأ أبو السمال العدوي " أتنبئون الله " مخففا ، من أنبأ ينبئ . وقراءة العامة من نبأ ينبئ تنبئة ; وهما بمعنى واحد ، جمعهما قوله تعالى : من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير أي أتخبرون الله أن له شريكا في ملكه أو شفيعا بغير إذنه ، والله لا [ ص: 236 ] يعلم لنفسه شريكا في السماوات ولا في الأرض ; لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه . نظيره قوله : أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض
ثم نزه نفسه وقدسها عن الشرك فقال : سبحانه وتعالى عما يشركون أي هو أعظم من أن يكون له شريك وقيل : المعنى أي يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يميز ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فيكذبون ; وهل يتهيأ لكم أن تنبئوه بما لا يعلم ، سبحانه وتعالى عما يشركون! . وقرأ حمزة والكسائي تشركون بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد . الباقون بالياء . https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ يُونُسَ
من صــ 236 الى صــ 245
الحلقة (372)
قوله تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون تقدم في " البقرة " معناه فلا معنى للإعادة . وقال الزجاج : هم العرب كانوا على الشرك . وقيل : كل مولود يولد على الفطرة ، فاختلفوا عند البلوغ . ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون إشارة إلى القضاء والقدر ; أي لولا ما سبق في حكمه أنه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي بينهم في الدنيا ، فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين النار بكفرهم ، ولكنه سبق من الله الأجل مع علمه بصنيعهم فجعل موعدهم القيامة ; قاله الحسن . وقال أبو روق : لقضي بينهم لأقام عليهم الساعة . وقيل : لفرغ من هلاكهم . وقال الكلبي : " الكلمة " أن الله أخر هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة ، فلولا هذا التأخير لقضي بينهم بنزول العذاب أو بإقامة الساعة . والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تأخير العذاب عمن كفر به . وقيل : الكلمة السابقة أنه لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل ; كما قال : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقيل : الكلمة قوله : سبقت رحمتي غضبي ولولا ذلك لما أخر العصاة إلى التوبة . وقرأ عيسى " لقضى " بالفتح .
قوله تعالى ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين يريد أهل مكة ; أي هلا أنزل عليه آية ، أي معجزة غير هذه المعجزة ، فيجعل لنا الجبال [ ص: 237 ] ذهبا ويكون له بيت من زخرف ، ويحيي لنا من مات من آبائنا . وقال الضحاك : عصا كعصا موسى .
فقل إنما الغيب لله أي قل يا محمد إن نزول الآية غيب . فانتظروا أي تربصوا . إني معكم من المنتظرين لنزولها . وقيل : انتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل .
قوله تعالى وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون يريد كفار مكة .
رحمة من بعد ضراء مستهم قيل : رخاء بعد شدة ، وخصب بعد جدب . إذا لهم مكر في آياتنا أي استهزاء وتكذيب . وجواب قوله : وإذا أذقنا : إذا لهم على قول الخليل وسيبويه .
قل الله أسرع ابتداء وخبر . مكرا على البيان ; أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم ، أي أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر .
إن رسلنا يكتبون ما تمكرون يعني بالرسل الحفظة . وقراءة العامة تمكرون بالتاء خطابا . وقرأ يعقوب في رواية رويس وأبو عمرو في رواية هارون العتكي " يمكرون " بالياء ; لقوله : إذا لهم مكر في آياتنا قيل : قال أبو سفيان قحطنا بدعائك فإن سقيتنا صدقناك ; فسقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا ، فهذا مكرهم .
قوله تعالى هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون
قوله تعالى هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم أي يحملكم في البر على الدواب وفي البحر على الفلك . وقال الكلبي : يحفظكم في السير . [ ص: 238 ] والآية تتضمن تعديد النعم فيما هي الحال بسبيله من ركوب الناس الدواب والبحر . وقد مضى الكلام في ركوب البحر في " البقرة " . يسيركم قراءة العامة . ابن عامر " ينشركم " بالنون والشين ، أي يبثكم ويفرقكم . والفلك يقع على الواحد والجمع ، ويذكر ويؤنث ، وقد تقدم القول فيه . وقوله : ( وجرين بهم ) خروج من الخطاب إلى الغيبة ، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير ; قال النابغة :
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد
قال ابن الأنباري : وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب ; قال الله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا فأبدل الكاف من الهاء .
قوله تعالى بريح طيبة وفرحوا بها تقدم الكلام فيها في " البقرة "
جاءتها ريح عاصف الضمير في جاءتها للسفينة . وقيل للريح الطيبة . والعاصف الشديدة ; يقال : عصفت الريح وأعصفت ، فهي عاصف ومعصف ومعصفة أي شديدة ، قال الشاعر :
حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة فيها قطار ورعد صوته زجل
وقال عاصف بالتذكير لأن لفظ الريح مذكر ، وهي القاصف أيضا . والطيبة غير عاصف ولا بطيئة .
وجاءهم الموج من كل مكان والموج ما ارتفع من الماء ، وظنوا : أي أيقنوا
أنهم أحيط بهم أي أحاط بهم البلاء ; يقال لمن وقع في بلية : قد أحيط به ، كأن البلاء قد أحاط به ; وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بموضع فقد هلك أهله .
دعوا الله مخلصين له الدين أي دعوه وحده وتركوا ما كانوا يعبدون . وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد ، وأن المضطر يجاب دعاؤه ، وإن كان كافرا ; لانقطاع الأسباب ورجوعه إلى الواحد رب الأرباب ; على ما يأتي بيانه في " النمل " إن شاء الله تعالى . وقال بعض المفسرين : إنهم قالوا في دعائهم أهيا شراهيا ; أي : يا حي يا قيوم . وهي لغة العجم .
مسألة : هذه الآية تدل على ركوب البحر مطلقا ، ومن السنة حديث أبي هريرة وفيه : إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء . . . الحديث . وحديث أنس في قصة أم حرام يدل على جواز ركوبه في الغزو ، وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " مستوفى والحمد لله . وقد [ ص: 239 ] تقدم في آخر " الأعراف " حكم راكب البحر في حال ارتجاجه وغليانه ، هل حكمه حكم الصحيح أو المريض المحجور عليه ; فتأمله هناك .
قوله تعالى لئن أنجيتنا من هذه أي هذه الشدائد والأهوال . وقال الكلبي : من هذه الريح .
لنكونن من الشاكرين أي من العاملين بطاعتك على نعمة الخلاص . فلما أنجاهم أي خلصهم وأنقذهم . إذا هم يبغون في الأرض أي يعملون في الأرض بالفساد وبالمعاصي . والبغي : الفساد والشرك ; من بغى الجرح إذا فسد ; وأصله الطلب ، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد بغير الحق أي بالتكذيب ; ومنه بغت المرأة طلبت غير زوجها .
قوله تعالى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم أي وباله عائد عليكم ; وتم الكلام ، ثم ابتدأ فقال : متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون أي هو متاع الحياة الدنيا ; ولا بقاء له . قال النحاس : بغيكم رفع بالابتداء وخبره ( متاع الحياة الدنيا ) . و على أنفسكم مفعول معنى فعل البغي . ويجوز أن يكون خبره على أنفسكم وتضمر مبتدأ ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا ، أو هو متاع الحياة الدنيا ; وبين المعنيين حرف لطيف ، إذا رفعت متاعا على أنه خبر بغيكم فالمعنى . إنما بغي بعضكم على بعض ; مثل : فسلموا على أنفسكم وكذا لقد جاءكم رسول من أنفسكم . وإذا كان الخبر على أنفسكم فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم ; مثل وإن أسأتم فلها . وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال : أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا ، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا ; كما يقال : البغي مصرعة . وقرأ ابن أبي إسحاق متاع بالنصب على أنه مصدر ; أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا . أو بنزع الخافض ، أي لمتاع ، أو مصدر ، بمعنى المفعول على الحال ، أي متمتعين . أو هو نصب على الظرف ، أي في متاع الحياة الدنيا ، ومتعلق الظرف والجار والحال معنى الفعل في البغي . و على أنفسكم مفعول ذلك المعنى .
قوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون
[ ص: 240 ] قوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء معنى الآية التشبيه والتمثيل ، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء ; أي مثل ماء ، فالكاف في موضع رفع . وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في " الكهف " إن شاء الله تعالى .
أنزلناه من السماء نعت ل ( ماء ) فاختلط روي عن نافع أنه وقف على فاختلط أي فاختلط الماء بالأرض ، ثم ابتدأ به نبات الأرض أي بالماء نبات الأرض ; فأخرجت ألوانا من النبات ، فنبات على هذا ابتداء ، وعلى مذهب من لم يقف على فاختلط مرفوع باختلط ; أي اختلط النبات بالمطر ، أي شرب منه فتندى وحسن واخضر . والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض .
قوله تعالى مما يأكل الناس من الحبوب والثمار والبقول ، والأنعام من الكلإ والتبن والشعير .
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها أي حسنها وزينتها . والزخرف كمال حسن الشيء ; ومنه قيل للذهب : زخرف .
وازينت أي بالحبوب والثمار والأزهار ; والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل ; لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأول منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به . وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب " وتزينت " على الأصل . وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية " وأزينت " أي أتت بالزينة عليها ، أي الغلة والزرع ، وجاء بالفعل على أصله ولو أعله لقال وازانت . وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي : قرأ أشياخنا " وازيانت " وزنه اسوادت . وفي رواية المقدمي " وازاينت " والأصل فيه تزاينت ، وزنه تقاعست ثم أدغم . وقرأ الشعبي وقتادة " وأزينت " مثل أفعلت . وقرأ أبو عثمان النهدي " وازينت " مثل افعلت ، وعنه أيضا " وازيانت " مثل افعالت ، وروي عنه " ازيأنت " بالهمزة ; ثلاث قراءات .
قوله تعالى وظن أهلها أي أيقن .
أنهم قادرون عليها أي على حصادها والانتفاع بها ; أخبر عن الأرض والمعني النبات إذ كان مفهوما وهو منها . وقيل : رد إلى الغلة ، وقيل : إلى الزينة .
أتاها أمرنا أي عذابنا ، أو أمرنا بهلاكها ليلا أو نهارا ظرفان فجعلناها حصيدا مفعولان ، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها . وقال حصيدا ولم يؤنث لأنه فعيل بمعنى مفعول . قال أبو عبيد : الحصيد المستأصل .
كأن لم تغن بالأمس أي لم تكن عامرة ; من " غني " إذا أقام فيه وعمره . والمغاني في اللغة : المنازل التي يعمرها الناس . وقال قتادة : كأن لم تنعم . قال لبيد :
[ ص: 241 ]
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود
وقراءة العامة تغن بالتاء لتأنيث الأرض . وقرأ قتادة " يغن " بالياء ، يذهب به إلى الزخرف ; يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا .
نفصل الآيات أي نبينها لقوم يتفكرون في آيات الله .
قوله تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم قوله تعالى والله يدعو إلى دار السلام لما ذكر وصف هذه الدار وهي دار الدنيا وصف الآخرة فقال : إن الله لا يدعوكم إلى جمع الدنيا بل يدعوكم إلى الطاعة لتصيروا إلى دار السلام ، أي إلى الجنة . قال قتادة والحسن : السلام هو الله ، وداره الجنة ; وسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات . ومن أسمائه سبحانه السلام ، وقد بيناه في " الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " . ويأتي في سورة " الحشر " إن شاء الله . وقيل : المعنى والله يدعو إلى دار السلامة . والسلام والسلامة بمعنى كالرضاع والرضاعة ; قاله الزجاج . قال الشاعر :
تحيي بالسلامة أم بكر وهل لك بعد قومك من سلام
وقيل : أراد والله يدعو إلى دار التحية ; لأن أهلها ينالون من الله التحية والسلام ، وكذلك من الملائكة . قال الحسن : إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة ، وهو تحيتهم ; كما قال : وتحيتهم فيها سلام . وقال يحيى بن معاذ : يا ابن آدم ، دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه ، فإن أجبته من دنياك دخلتها ، وإن أجبته من قبرك منعتها . وقال ابن عباس : الجنان سبع : دار الجلال ، ودار السلام ، وجنة عدن ، وجنة المأوى ، وجنة الخلد ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم .
قوله تعالى ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم عم بالدعوة إظهارا لحجته ، وخص بالهداية استغناء عن خلقه . والصراط المستقيم ، قيل : كتاب الله ; رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الصراط المستقيم كتاب الله تعالى . [ ص: 242 ] وقيل : الإسلام ; رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : الحق ; قاله قتادة ومجاهد . وقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . وروى جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك وإنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها ثم تلا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . ثم تلا قتادة ومجاهد : والله يدعو إلى دار السلام . وهذه الآية بينة الحجة في الرد على القدرية ; لأنهم قالوا : هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم ، والله قال : ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فردوا على الله نصوص القرآن .
قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة روي من حديث أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : وزيادة قال : للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في رواية . وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية ، وهو قول جماعة من التابعين ، وهو الصحيح في الباب . وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما [ ص: 243 ] أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل وفي رواية ثم تلا للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وخرجه النسائي أيضا عن صهيب قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه الآية للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم موعدا عند الله يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم . وخرجه ابن المبارك في دقائقه عن أبي موسى الأشعري موقوفا ، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة ، وذكرنا هناك معنى كشف الحجاب ، والحمد لله . وخرج الترمذي الحكيم أبو عبد الله رحمه الله : حدثنا علي بن حجر حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله ; في قوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال : النظر إلى وجه الرحمن وعن قوله : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون قال : عشرون ألفا . وقد قيل : إن الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك ; روي عن ابن عباس . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة آلاف باب . وقال مجاهد : الحسنى حسنة مثل حسنة ، والزيادة مغفرة من الله ورضوان . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الحسنى الجنة ، والزيادة ما أعطاهم الله في الدنيا من فضله لا يحاسبهم به يوم القيامة . وقال عبد الرحمن بن سابط : الحسنى البشرى ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ; قال الله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة . وقال يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر التي لم يروها ، وتقول : يا أهل الجنة ، ما تريدون أن أمطركم ؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم إياه . وقيل : الزيادة أنه ما يمر عليهم مقدار يوم من أيام الدنيا إلا حتى يطيف بمنزل أحدهم سبعون ألف ملك ، مع كل ملك هدايا من عند الله ليست مع صاحبه ، ما رأوا مثل تلك الهدايا قط ; فسبحان الواسع العليم الغني الحميد العلي الكبير العزيز القدير البر الرحيم المدبر الحكيم اللطيف الكريم الذي لا تتناهى مقدوراته .
وقيل : أحسنوا أي معاملة الناس ، الحسنى : شفاعتهم ، والزيادة : إذن الله تعالى فيها وقبوله .
[ ص: 244 ] قوله تعالى ولا يرهق قيل : معناه يلحق ; ومنه قيل : غلام مراهق إذا لحق بالرجال . وقيل : يعلو . وقيل : يغشى ; والمعنى متقارب .
قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون قتر غبار . ولا ذلة أي مذلة ; كما يلحق أهل النار ; أي لا يلحقهم غبار في محشرهم إلى الله ولا تغشاهم ذلة . وأنشد أبو عبيدة للفرزدق :
متوج برداء الملك يتبعه موج ترى فوقه الرايات والقترا
وقرأ الحسن " قتر " بإسكان التاء . والقتر والقترة والقترة بمعنى واحد ; قاله النحاس . وواحد القتر قترة ; ومنه قوله تعالى : ترهقها قترة أي تعلوها غبرة . وقيل : قتر كآبة وكسوف . ابن عباس : القتر سواد الوجوه . ابن بحر : دخان النار ; ومنه قتار القدر . وقال ابن ليلى : هو بعد نظرهم إلى ربهم عز وجل .
قلت : هذا فيه نظر ; فإن الله عز وجل يقول : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون إلى قوله لا يحزنهم الفزع الأكبر وقال في غير آية : ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقال : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا الآية . وهذا عام فلا يتغير بفضل الله في موطن من المواطن لا قبل النظر ولا بعده وجه المحسن بسواد من كآبة ولا حزن ، ولا يعلوه شيء من دخان جهنم ولا غيره . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون .
قوله تعالى والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
قوله تعالى والذين كسبوا السيئات أي عملوا المعاصي . وقيل : الشرك جزاء سيئة بمثلها " جزاء " مرفوع بالابتداء ، وخبره بمثلها . قال ابن كيسان : الباء زائدة ; والمعنى جزاء سيئة مثلها . وقيل : الباء مع ما بعدها الخبر ، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه ، والمعنى : جزاء سيئة كائن بمثلها ; كقولك : إنما أنا بك ; أي إنما أنا كائن بك . ويجوز [ ص: 245 ] أن تتعلق ب " جزاء " التقدير : جزاء سيئة بمثلها كائن ; فحذف خبر المبتدأ . ويجوز أن يكون جزاء مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة ; فيكون مثل قوله : فعدة من أيام أخر أي فعليه عدة ، وشبهه ; والباء على هذا التقدير تتعلق بمحذوف ، كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها ، أو تكون مؤكدة أو زائدة . ومعنى هذه المثلية أن ذلك الجزاء مما يعد مماثلا لذنوبهم ، أي هم غير مظلومين ، وفعل الرب جلت قدرته وتعالى شأنه غير معلل بعلة .
وترهقهم ذلة أي يغشاهم هوان وخزي .
ما لهم من الله أي من عذاب الله من عاصم أي مانع يمنعهم منه كأنما أغشيت أي ألبست وجوههم قطعا جمع قطعة ، وعلى هذا يكون مظلما حالا من الليل أي أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته . وقرأ الكسائي وابن كثير " قطعا " بإسكان الطاء ; ف " مظلما " على هذا نعت ، ويجوز أن يكون حالا من الليل . والقطع اسم ما قطع فسقط . وقال ابن السكيت : القطع طائفة من الليل ; وسيأتي في " هود " إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون
قوله تعالى ويوم نحشرهم أي نجمعهم ، والحشر الجمع . جميعا حال .
ثم نقول للذين أشركوا أي اتخذوا مع الله شريكا مكانكم أي الزموا واثبتوا مكانكم ، وقفوا مواضعكم أنتم وشركاؤكم وهذا وعيد .
فزيلنا بينهم أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا ; يقال : زيلته فتزيل ، أي فرقته فتفرق ، وهو فعلت ; لأنك تقول في مصدره تزييلا ، ولو كان فيعلت لقلت زيلة . والمزايلة المفارقة ; يقال : زايله الله مزايلة وزيالا إذا فارقه . والتزايل التباين . قال الفراء : وقرأ بعضهم " فزايلنا بينهم " ; يقال : لا أزايل فلانا ، أي لا أفارقه ; فإن قلت : لا أزاوله فهو بمعنى آخر ، معناه لا أخاتله .
وقال شركاؤهم عني بالشركاء الملائكة . وقيل : الشياطين ، وقيل : الأصنام ; فينطقها الله تعالى فتكون بينهم هذه المحاورة . وذلك أنهم ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم والأصنام التي عبدوها أنهم أمروهم بعبادتهم ويقولون ما عبدناكم حتى أمرتمونا . قال مجاهد : ينطق الله الأوثان فتقول ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون ، وما أمرناكم بعبادتنا . وإن حمل الشركاء على الشياطين فالمعنى [ ص: 246 ] أنهم يقولون ذلك دهشا ، أو يقولون كذبا واحتيالا للخلاص ، وقد يجري مثل هذا غدا ; وإن صارت المعارف ضرورية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ يُونُسَ
من صــ 246 الى صــ 255
الحلقة (373)
قوله تعالى فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين
قوله تعالى فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم شهيدا مفعول ، أي كفى الله شهيدا ، أو تمييز ، أي اكتف به شهيدا بيننا وبينكم إن كنا أمرناكم بهذا أو رضيناه منكم .
إن كنا أي ما كنا عن عبادتكم لغافلين إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ; لأنا كنا جمادا لا روح فينا .
قوله تعالى هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون
قوله تعالى هنالك في موضع نصب على الظرف تبلو أي في ذلك الوقت . تبلو أي تذوق . وقال الكلبي : تعلم . مجاهد : تختبر .
كل نفس ما أسلفت أي جزاء ما عملت وقدمت . وقيل : تسلم ، أي تسلم ما عليها من الحقوق إلى أربابها بغير اختيارها . وقرأ حمزة والكسائي " تتلو " أي تقرأ كل نفس كتابها الذي كتب عليها . وقيل : " تتلو " تتبع ; أي تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا ; قاله السدي . ومنه قول الشاعر :
إن المريب يتبع المريبا كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
قوله تعالى وردوا إلى الله مولاهم الحق بالخفض على البدل أو الصفة . ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات ; يكون التقدير : وردوا حقا ، ثم جيء بالألف واللام . ويجوز أن يكون التقدير : مولاهم حقا لا ما يعبدون من دونه . والوجه الثالث أن يكون مدحا ; أي أعني الحق . ويجوز أن يرفع " الحق " ، ويكون المعنى مولاهم الحق - على الابتداء والخبر والقطع مما قبل - لا ما يشركون من دونه . ووصف نفسه سبحانه بالحق لأن الحق منه ، كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه ; أي كل عدل وحق فمن قبله ، وقال ابن عباس : مولاهم الحق أي الذي يجازيهم بالحق . فإن قيل : كيف قال : [ ص: 247 ] وردوا إلى الله مولاهم الحق وقد أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم . قيل ليس بمولاهم في النصرة والمعونة ، وهو مولى لهم في الرزق وإدرار النعم .
قوله تعالى : يفترون قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون المراد بمساق هذا الكلام الرد على المشركين وتقرير الحجة عليهم ; فمن اعترف منهم فالحجة ظاهرة عليهم ، ومن لم يعترف فيقرر عليه أن هذه السماوات والأرض لا بد لهما من خالق ; ولا يتمارى في هذا عاقل . وهذا قريب من مرتبة الضرورة . من السماء أي بالمطر . والأرض بالنبات .
أم من يملك السمع والأبصار أي من جعلهما وخلقهما لكم .
ومن يخرج الحي من الميت أي النبات من الأرض ، والإنسان من النطفة ، والسنبلة من الحبة ، والطير من البيضة ، والمؤمن من الكافر .
ومن يدبر الأمر أي يقدره ويقضيه .
فسيقولون الله لأنهم كانوا يعتقدون أن الخالق هو الله ; أو فسيقولون هو الله إن فكروا وأنصفوا فقل لهم يا محمد أفلا تتقون ، أي : أفلا تخافون عقابه ونقمته في الدنيا والآخرة .
قوله تعالى فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون قوله تعالى فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فيه ثماني مسائل : الأولى : قوله تعالى فذلكم الله ربكم الحق أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق ، لا ما أشركتم معه . فماذا بعد الحق " ذا " صلة أي ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال . وقال بعض المتقدمين : ظاهر هذه الآية يدل على أن ما بعد الله هو الضلال ; لأن أولها فذلكم الله ربكم الحق وآخرها فماذا بعد الحق إلا الضلال فهذا في الإيمان والكفر ، ليس في الأعمال . وقال بعضهم : إن الكفر تغطية الحق ، وكل ما كان غير الحق جرى هذا المجرى ; فالحرام ضلال والمباح هدى ; فإن الله هو المبيح والمحرم . والصحيح الأول ; لأن قبل قل من يرزقكم من السماء والأرض ثم قال [ ص: 248 ] فذلكم الله ربكم الحق أي هذا الذي رزقكم ، وهذا كله فعله هو . ربكم الحق أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة ، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق .
الثانية : قال علماؤنا : حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى ، وكذلك هو الأمر في نظائرها ، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد ; لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي ، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، وقوله عليه السلام : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات . والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها .
الثالثة : ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال : اللهم لك الحمد . الحديث . وفيه أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق الحديث . فقوله : أنت الحق أي الواجب الوجود ; وأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب . وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ; وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم ، ويجوز عليه لحاق العدم ، ووجوده من موجده لا من نفسه . وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر ، كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وإليه الإشارة بقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون .
الرابعة : مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا ، كما في هذه الآية . وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا ; قال الله تعالى : ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل . والضلال حقيقته الذهاب عن الحق ; أخذ من ضلال الطريق ، وهو [ ص: 249 ] العدول عن سمته . قال ابن عرفة : الضلالة عند العرب سلوك غير سبيل القصد ; يقال : ضل عن الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه . وخص في الشرع بالعبارة في العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال ; ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك ، وعليه حمل العلماء قوله تعالى : ووجدك ضالا فهدى أي غافلا ، في أحد التأويلات ، يحققه قوله تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .
الخامسة : روى عبد الله بن عبد الحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى : فماذا بعد الحق إلا الضلال قال : اللعب بالشطرنج والنرد من الضلال . وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة ; فقال مالك : ما يعجبني! وليس من شأن المؤمنين ، يقول الله تعالى : فماذا بعد الحق إلا الضلال . وروى يونس عن أشهب قال : سئل - يعني مالكا - عن اللعب بالشطرنج فقال : لا خير فيه ، وليس بشيء وهو من الباطل ، واللعب كله من الباطل ، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل . وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج : هي من الباطل ولا أحبها .
السادسة : اختلف العلماء في جواز اللعب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القمار ; فتحصيل مذهب مالك وجمهور الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترا به مرة في الشهر أو العام ، لا يطلع عليه ولا يعلم به أنه معفو عنه غير محرم عليه ولا مكروه له ، وأنه إن تخلع به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته وردت شهادته . وأما الشافعي فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج ، إذا كان عدلا في جميع أصحابه ، ولم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارا ، فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سقطت عدالته وسفه نفسه لأكله المال بالباطل . وقال أبو حنيفة : يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل اللهو ; فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم . قال ابن العربي : قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة . والنرد قمار غرر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام .
السابعة : قال علماؤنا : النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل ، وكذا هو [ ص: 250 ] الشطرنج إذ هو أخوه غذي بلبانه . والنرد هو الذي يعرف بالباطل ، ويعرف بالكعاب ويعرف في الجاهلية أيضا بالأرن ويعرف أيضا بالنردشير . وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه . قال علماؤنا : ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيئه لأن يأكله ، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز ; يبينه قوله صلى الله عليه وسلم : من لعب بالنرد فقد . عصى الله ورسوله رواه مالك وغيره من حديث أبي موسى الأشعري وهو حديث صحيح ، وهو يحرم اللعب بالنرد جملة واحدة ، وكذلك الشطرنج ، لم يستثن وقتا من وقت ولا حالا من حال ، وأخبر أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله ; إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهي عنه أن يكون على وجه القمار ; لما روي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قمار . وحمل ذلك على العموم قمارا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله . قال أبو عبد الله الحليمي في كتاب منهاج الدين : ومما جاء في الشطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله . وعن علي رضي الله عنه أنه مر على مجلس من مجالس بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال : أما والله لغير هذا خلقتم! أما والله لولا أن تكون سنة لضربت به وجوهكم . وعنه رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ; لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير من أن يمسها . وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال هي شر من النرد . وقال أبو موسى الأشعري : لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ . وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال : دعونا من هذه المجوسية . وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم : وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكعاب مقته الله ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم محيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته [ ص: 251 ] الله .
وهذه الآثار كلها تدل على تحريم اللعب بها بلا قمار ، والله أعلم . وقد ذكرنا في " المائدة " بيان تحريمها وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به ، والله أعلم . قال ابن العربي في قبسه : وقد جوزه الشافعي ، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول : هو مندوب إليه ، حتى اتخذوه في المدرسة ; فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد . وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها ; وما كان ذلك قط! وتالله ما مستها يد تقي . ويقولون : إنها تشحذ الذهن ، والعيان يكذبهم ، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن . سمعت الإمامأبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الأقصى في المناظرة : إنها تعلم الحرب . فقال له الطرطوشي : بل تفسد تدبير الحرب ; لأن الحرب المقصود منها الملك واغتياله ، وفي الشطرنج تقول : شاه إياك : الملك نحه عن طريقي ; فاستضحك الحاضرين . وتارة شدد فيها مالك وحرمها وقال فيها : فماذا بعد الحق إلا الضلال وتارة استهان بالقليل منها والأهون ، والقول الأول أصح والله أعلم .
فإن قال قائل : روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال : وما الشطرنج ؟ فقيل له : إن امرأة كان لها ابن وكان ملكا فأصيب في حرب دون أصحابه ; فقالت : كيف يكون هذا أرونيه عيانا ; فعمل لها الشطرنج ، فلما رأته تسلت بذلك . ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال : لا بأس بما كان من آلة الحرب ; قيل له : هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب . وإنما قال هذا لأنه شبه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب ، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال : لا بأس بما كان من آلة الحرب ، إن كان كما تقولون فلا بأس به ، وكذلك من روي عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه ، فإن ذلك محمول منه على أنه ظن أن ذلك ليس يتلهى به ، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه ، أو على أن الخبر المسند لم يبلغهم . قال الحليمي : وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه ، وإنما الحجة فيه على الكافة .
الثامنة : ذكر ابن وهب بإسناده أن عبد الله بن عمر مر بغلمان يلعبون بالكجة ، وهي حفر فيها حصى يلعبون بها ، قال : فسدها ابن عمر ونهاهم عنها . وذكر الهروي في باب " الكاف مع الجيم " في حديث ابن عباس : في كل شيء قمار حتى في لعب الصبيان بالكجة ; قال ابن الأعرابي : هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة ، ثم يتقامرون بها . وكج : إذا لعب بالكجة .
[ ص: 252 ] قوله تعالى فأنى تصرفون أي كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يحيي ولا يميت .
قوله تعالى كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون
قوله تعالى كذلك حقت كلمة ربك أي حكمه وقضاؤه وعلمه السابق .
على الذين فسقوا أي خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا .
أنهم لا يؤمنون أي لا يصدقون . وفي هذا أوفى دليل على القدرية . وقرأ نافع وابن عامر هنا وفي آخرها " كذلك حقت كلمات ربك " وفي سورة غافر بالجمع في الثلاثة . الباقون بالإفراد و " أن " في موضع نصب ; أي بأنهم أو لأنهم . قال الزجاج : ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من " كلمات " . قال الفراء : يجوز " إنهم " بالكسر على الاستئناف .
قوله تعالى قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون
قوله تعالى قل هل من شركائكم أي آلهتكم ومعبوداتكم .
من يبدأ الخلق ثم يعيده أي قل لهم يا محمد ذلك على جهة التوبيخ والتقرير ; فإن أجابوك وإلا ف قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده وليس غيره يفعل ذلك .
فأنى تؤفكون أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل .
قوله تعالى قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون
قوله تعالى قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق يقال : هداه للطريق وإلى الطريق بمعنى واحد ; وقد تقدم . أي هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ; فإذا قالوا لا ولا بد منه ف قل لهم الله يهدي للحق ثم قل لهم موبخا ومقررا . أفمن يهدي أي يرشد إلى الحق وهو الله سبحانه وتعالى أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى يريد الأصنام التي لا تهدي أحدا ، ولا تمشي إلا أن تحمل ، ولا تنتقل عن مكانها إلا أن تنقل . قال الشاعر :
[ ص: 253 ]
للفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه
وقيل : المراد الرؤساء والمضلون الذين لا يرشدون أنفسهم إلى هدى إلا أن يرشدوا . وفي يهدي قراءات ست : الأولى : قرأ أهل المدينة إلا ورشا " يهدي " بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال ; فجمعوا في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله : " لا تعدوا " وفي قوله : " يخصمون " . قال النحاس : والجمع بين الساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به . قال محمد بن يزيد : لا بد لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر ، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة .
الثانية : قرأ أبو عمرو وقالون في رواية بين الفتح والإسكان ، على مذهبه في الإخفاء والاختلاس .
الثالثة : قرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن " يهدي " بفتح الياء والهاء وتشديد الدال ، قال النحاس : هذه القراءة بينة في العربية ، والأصل فيها يهتدي أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء .
الرابعة : قرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير ، إلا أنهم كسروا الهاء ، قالوا : لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته حرك إلى الكسر . قال أبو حاتم : هي لغة سفلي مضر .
الخامسة : قرأ أبو بكر عن عاصم يهدي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال ، كل ذلك لإتباع الكسر الكسر كما تقدم في البقرة في يخطف وقيل : هي لغة من قرأ " نستعين " ، و " لن تمسنا النار " ونحوه . وسيبويه لا يجيز يهدي ويجيز " تهدي " و " نهدي " و " إهدي " قال : لأن الكسرة في الياء تثقل .
السادسة : قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب والأعمش " يهدي " بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال ; من هدى يهدي . قال النحاس : وهذه القراءة لها وجهان في العربية وإن كانت بعيدة ، وأحد الوجهين أن الكسائي والفراء قالا : " يهدي " بمعنى يهتدي . قال أبو العباس : لا يعرف هذا ، ولكن التقدير أمن لا يهدي غيره ، تم الكلام ، ثم قال : " إلا أن يهدى " [ ص: 254 ] استأنف من الأول ، أي لكنه يحتاج أن يهدى ; فهو استثناء منقطع ، كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج أن يسمع . وقال أبو إسحاق : فما لكم كلام تام ، والمعنى : فأي شيء لكم في عبادة الأوثان . ثم قيل لهم : كيف تحكمون أي لأنفسكم وتقضون بهذا الباطل الصراح ، تعبدون آلهة لا تغني عن أنفسها شيئا إلا أن يفعل بها ، والله يفعل ما يشاء فتتركون عبادته ; فموضع كيف نصب ب تحكمون .
قوله تعالى وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون
قوله تعالى وما يتبع أكثرهم إلا ظنا يريد الرؤساء منهم ; أي ما يتبعون إلا حدسا وتخريصا في أنها آلهة تشفع ، ولا حجة معهم . وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدا .
إن الظن لا يغني من الحق شيئا أي من عذاب الله ; فالحق هو الله . وقيل الحق هنا اليقين ; أي ليس الظن كاليقين . وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكتفى بالظن في العقائد .
إن الله عليم بما يفعلون من الكفر والتكذيب ، خرجت مخرج التهديد .
قوله تعالى وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين
قوله تعالى وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله أن مع يفترى مصدر ، والمعنى : وما كان هذا القرآن افتراء ; كما تقول : فلان يحب أن يركب ، أي يحب الركوب ، قاله الكسائي . وقال الفراء : المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ; كقوله : وما كان لنبي أن يغل وما كان المؤمنون لينفروا كافة . وقيل : أن بمعنى اللام ، تقديره : وما كان هذا القرآن ليفترى . وقيل : بمعنى لا ، أي لا يفترى . وقيل : المعنى ما كان يتهيأ لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله تعالى لإعجازه ; لوصفه ومعانيه وتأليفه .
ولكن تصديق الذي بين يديه قال الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان : التقدير ولكن كان [ ص: 255 ] تصديق ; ويجوز عندهم الرفع بمعنى : ولكن هو تصديق . الذي بين يديه أي من التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب ، فإنها قد بشرت به فجاء مصدقا لها في تلك البشارة ، وفي الدعاء إلى التوحيد والإيمان بالقيامة . وقيل : المعنى ولكن تصديق النبي بين يدي القرآن وهو محمد صلى الله عليه وسلم ; لأنهم شاهدوه قبل أن سمعوا منه القرآن .
وتفصيل بالنصب والرفع على الوجهين المذكورين في تصديق . والتفصيل التبيين ، أي يبين ما في كتب الله المتقدمة . والكتاب اسم الجنس . وقيل : أراد بتفصيل الكتاب ما بين في القرآن من الأحكام .
لا ريب فيه من رب العالمين الهاء عائدة للقرآن ، أي لا شك فيه أي في نزوله من قبل الله تعالى .
قوله تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين
قوله تعالى أم يقولون افتراه " أم " هاهنا في موضع ألف الاستفهام لأنها اتصلت بما قبلها . وقيل : هي " أم " المنقطعة التي تقدر بمعنى " بل " والهمزة ; كقوله تعالى : الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه أي بل أيقولون افتراه . وقال أبو عبيدة : " أم " بمعنى الواو ، مجازه : ويقولون افتراه . وقيل : الميم صلة ، والتقدير : أيقولون افتراه ، أي اختلق محمد القرآن من قبل نفسه ، فهو استفهام معناه التقريع .
قل فأتوا بسورة مثله ومعنى الكلام الاحتجاج ، فإن الآية الأولى دلت على كون القرآن من عند الله ; لأنه مصدق الذي بين يديه من الكتب وموافق لها من غير أن يتعلم محمد عليه السلام عن أحد . وهذه الآية إلزام بأن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى . وقد مضى القول في إعجاز القرآن ، وأنه معجز في مقدمة الكتاب ، والحمد لله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ يُونُسَ
من صــ 256 الى صــ 265
الحلقة (374)
قوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين
قوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه أي كذبوا بالقرآن وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره ، وعليهم أن يعلموا ذلك بالسؤال ; فهذا يدل على أنه يجب أن ينظر [ ص: 256 ] في التأويل .
وقوله ولما يأتهم تأويله أي ولم يأتهم حقيقة عاقبة التكذيب من نزول العذاب بهم . أو كذبوا بما في القرآن من ذكر البعث والجنة والنار ، ولم يأتهم تأويله أي حقيقة ما وعدوا في الكتاب ; قاله الضحاك . وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن " من جهل شيئا عاداه " قال نعم ، في موضعين : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وقوله : وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم .
كذلك كذب الذين من قبلهم يريد الأمم الخالية ، أي كذا كانت سبيلهم . والكاف في موضع نصب .
فانظر كيف كان عاقبة الظالمين أي أخذهم بالهلاك والعذاب .
قوله تعالى ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين
قوله تعالى ومنهم من يؤمن به قيل : المراد أهل مكة ، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه ; لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعداء . و من رفع بالابتداء والخبر في المجرور . وكذا ومنهم من لا يؤمن به والمعنى ومنهم من يصر على كفره حتى يموت ; كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما . وقيل : المراد أهل الكتاب . وقيل : هو عام في جميع الكفار ; وهو الصحيح . وقيل . إن الضمير في به يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ; فأعلم الله سبحانه أنه إنما أخر العقوبة لأن منهم من سيؤمن .
وربك أعلم بالمفسدين أي من يصر على كفره ; وهذا تهديد لهم .
قوله تعالى وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
قوله تعالى وإن كذبوك فقل لي عملي رفع بالابتداء ، والمعنى : لي ثواب عملي في التبليغ والإنذار والطاعة لله تعالى .
ولكم عملكم أي جزاؤه من الشرك .
أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون مثله ; أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر . وهذه الآية منسوخة بآية السيف ; في قول مجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد .
[ ص: 257 ] قوله تعالى ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون
قوله تعالى ومنهم من يستمعون إليك يريد بظواهرهم ، وقلوبهم لا تعي شيئا مما يقوله من الحق ويتلوه من القرآن ;
أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون أي لا تسمع ; فظاهره الاستفهام ومعناه النفي ، وجعلهم كالصم للختم على قلوبهم والطبع عليها ، أي لا تقدر على هداية من أصمه الله عن سماع الهدى .
وكذا المعنى في : ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون
أخبر تعالى أن أحدا لا يؤمن إلا بتوفيقه وهدايته . وهذا وما كان مثله يرد على القدرية قولهم ; كما تقدم في غير موضع . وقال : يستمعون على معنى من و ينظر على اللفظ ; والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، أي كما لا تقدر أن تسمع من سلب السمع ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به ، فكذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء للإيمان وقد حكم الله عليهم ألا يؤمنوا . ومعنى : ينظر إليك أي يديم النظر إليك ; كما قال : ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت قيل : إنها نزلت في المستهزئين ، والله أعلم .
قوله تعالى إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون لما ذكر أهل الشقاء ذكر أنه لم يظلمهم ، وأن تقدير الشقاء عليهم وسلب سمع القلب وبصره ليس ظلما منه ; لأنه تصرف في ملكه بما شاء ، وهو في جميع أفعاله عادل . ولكن الناس أنفسهم يظلمون بالكفر والمعصية ومخالفة أمر خالقهم . وقرأ حمزة والكسائي " ولكن " مخففا " الناس " رفعا . قال النحاس : زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت " ولكن " بالواو آثرت التشديد ، وإذا حذفوا الواو آثرت التخفيف ، واعتل في ذلك فقال : لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت بل فخففوها ليكون ما بعدها كما بعد بل ، وإذا [ ص: 258 ] جاءوا بالواو خالفت بل فشددوها ونصبوا بها ؛ لأنها " إن " زيدت عليها لام وكاف وصيرت حرفا واحدا ; وأنشد :
ولكنني من حبها لعميد
فجاء باللام لأنها " إن " .
قوله تعالى ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين
قوله تعالى ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا بمعنى " كأنهم " خففت ، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم . إلا ساعة من النهار أي قدر ساعة : يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث ; دليله قولهم : لبثنا يوما أو بعض يوم . وقيل : إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر . ابن عباس : رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة .
يتعارفون بينهم في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في يحشرهم . ويجوز أن يكون منقطعا ، فكأنه قال فهم يتعارفون . قال الكلبي : يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ; وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح ; يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر ; وليس تعارف شفقة ورأفة وعطف . ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال : ولا يسأل حميم حميما . وقيل : يبقى تعارف التوبيخ ; وهو الصحيح لقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون إلى قوله وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا وقوله : كلما دخلت أمة لعنت أختها الآية ، وقوله : ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا الآية . فأما قوله : ولا يسأل حميم حميما وقوله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة ، والله أعلم . وقيل : القيامة مواطن . وقيل : معنى يتعارفون يتساءلون ، أي يتساءلون كم لبثتم ; كما قال : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وهذا حسن . وقال الضحاك : ذلك تعارف تعاطف المؤمنين ; والكافرون لا تعاطف عليهم ; كما قال : فلا أنساب بينهم . والأول أظهر ، والله أعلم .
[ ص: 259 ] قوله تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين أي بالعرض على الله . ثم قيل : يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور ، أي خسروا ثواب الجنة . وقيل : خسروا في حال لقاء الله ; لأن الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة . قال النحاس : ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم ، يقولون هذا . وما كانوا مهتدين يريد في علم الله .
قوله تعالى وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون
قوله تعالى وإما نرينك شرط .
بعض الذي نعدهم أي من إظهار دينك في حياتك . وقال المفسرون : كان البعض الذي وعدهم قتل من قتل وأسر من أسر ببدر .
أو نتوفينك عطف على نرينك أي نتوفينك قبل ذلك . فإلينا مرجعهم جواب إما . والمقصود إن لم ننتقم منهم عاجلا انتقمنا منهم آجلا .
ثم الله شهيد أي شاهد لا يحتاج إلى شاهد . على ما يفعلون من محاربتك وتكذيبك . ولو قيل : ثم الله شهيد بمعنى هناك ، جاز .
قوله تعالى ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون قوله تعالى ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط يكون المعنى : ولكل أمة رسول شاهد عليهم ، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم ; مثل . فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد . وقال ابن عباس : تنكر الكفار غدا مجيء الرسل إليهم ، فيؤتى بالرسول فيقول : قد أبلغتكم الرسالة ; فحينئذ يقضى عليهم بالعذاب . دليله قوله : ويكون الرسول عليكم شهيدا . ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذبون في الدنيا حتى يرسل إليهم ; فمن آمن فاز ونجا ، ومن لم يؤمن هلك وعذب . دليله قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . والقسط : العدل .
وهم لا يظلمون أي لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة .
[ ص: 260 ] قوله تعالى ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين يريد كفار مكة لفرط إنكارهم واستعجالهم العذاب ; أي متى العقاب أو متى القيامة التي يعدنا محمد . وقيل : هو عام في كل أمة كذبت رسولها .
قوله تعالى قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
قوله تعالى قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا لما استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال الله له : قل لهم يا محمد لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ; أي ليس ذلك لي ولا لغيري .
إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه ، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم فلا تستعجلوا .
لكل أمة أجل أي لهلاكهم وعذابهم وقت معلوم في علمه سبحانه .
إذا جاء أجلهم أي وقت انقضاء أجلهم .
فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أي لا يمكنهم أن يستأخروا ساعة باقين في الدنيا ولا يتقدمون فيؤخرون .
قوله تعالى قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون قوله تعالى قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ظرفان ، وهو جواب لقولهم : متى هذا الوعد وتسفيه لآرائهم في استعجالهم العذاب ; أي إن أتاكم العذاب فما نفعكم فيه ، ولا ينفعكم الإيمان حينئذ .
ماذا يستعجل منه المجرمون استفهام معناه التهويل والتعظيم ; أي ما أعظم ما يستعجلون به ; كما يقال لمن يطلب أمرا يستوخم عاقبته : ماذا تجني على نفسك! والضمير في منه قيل : يعود على العذاب ، وقيل : يعود على الله سبحانه وتعالى . قال النحاس : إن جعلت الهاء في منه تعود على العذاب كان لك في ماذا تقديران : أحدهما أن يكون " ما " في موضع رفع بالابتداء ، و " ذا " : بمعنى الذي ، وهو خبر " ما " والعائد محذوف . والتقدير الآخر أن يكون ماذا اسما واحدا في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في الجملة ، قاله الزجاج . وإن جعلت الهاء في منه تعود على اسم الله تعالى [ ص: 261 ] جعلت " ما " ، و " ذا " شيئا واحدا ، وكانت في موضع نصب ب يستعجل ; والمعنى : أي شيء يستعجل منه المجرمون عن الله عز وجل .
قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون أثم إذا ما وقع آمنتم به في الكلام حذف ، والتقدير : أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال لكم إذا حل : الآن آمنتم به ؟ قيل : هو من قول الملائكة استهزاء بهم . وقيل : هو من قول الله تعالى ، ودخلت ألف الاستفهام على ثم والمعنى : التقرير والتوبيخ ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى . وقيل : إن ثم هاهنا بمعنى : " ثم " بفتح الثاء ، فتكون ظرفا ، والمعنى : أهنالك ; وهو مذهب الطبري ، وحينئذ لا يكون فيه معنى الاستفهام . و الآن قيل : أصله فعل مبني مثل حان ، والألف واللام لتحويله إلى الاسم . الخليل : بنيت لالتقاء الساكنين ، والألف واللام للعهد والإشارة إلى الوقت ، وهو حد الزمانين .
وقد كنتم به أي بالعذاب تستعجلون
قوله تعالى ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون
قوله تعالى ثم قيل للذين ظلموا أي تقول لهم خزنة جهنم .
ذوقوا عذاب الخلد أي الذي لا ينقطع .
هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون أي جزاء كفركم .
قوله تعالى ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين
قوله تعالى ويستنبئونك أي يستخبرونك يا محمد عن كون العذاب وقيام الساعة .
أحق ابتداء . هو سد مسد الخبر ; وهذا قول سيبويه . ويجوز أن يكون هو مبتدأ ، و أحق خبره .
قل إي ، إي كلمة تحقيق وإيجاب وتأكيد بمعنى نعم .
وربي قسم . إنه لحق جوابه ، أي كائن لا شك فيه .
وما أنتم بمعجزين أي فائتين عن عذابه ومجازاته .
[ ص: 262 ] قوله تعالى ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون
قوله تعالى ولو أن لكل نفس ظلمت أي أشركت وكفرت ما في الأرض أي ملكا لافتدت به أي من عذاب الله ، يعني ولا يقبل منها ; كما قال : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به وقد تقدم
قوله تعالى وأسروا الندامة أي أخفوها ; يعني رؤساءهم ، أي أخفوا ندامتهم عن أتباعهم . وقيل : أسروا أظهروا ، والكلمة من الأضداد ، ويدل عليه أن الآخرة ليست دار تجلد وتصبر . وقيل : وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم ; لأن الندامة لا يمكن إظهارها . قال كثير :
فأسررت الندامة يوم نادى برد جمال غاضرة المنادي
وذكر المبرد فيه وجها ثالثا : أنه بدت بالندامة أسرة وجوههم ، وهي تكاسير الجبهة ، واحدها سرار . والندامة : الحسرة لوقوع شيء أو فوت شيء ، وأصلها اللزوم ; ومنه النديم لأنه يلازم المجالس . وفلان نادم سادم . والسدم اللهج بالشيء . وندم وتندم بالشيء أي اهتم به . قال الجوهري : السدم " بالتحريك " الندم والحزن ; وقد سدم بالكسر أي اهتم وحزن ورجل نادم سادم ، وندمان سدمان ; وقيل : هو إتباع . وما له هم ولا سدم إلا ذلك . وقيل : الندم مقلوب الدمن ، والدمن اللزوم ; ومنه فلان مدمن الخمر . والدمن : ما اجتمع في الدار وتلبد من الأبوال والأبعار ; سمي به للزومه . والدمنة : الحقد الملازم للصدر ، والجمع دمن . وقد دمنت قلوبهم بالكسر ; يقال : دمنت على فلان أي ضغنت .
وقضي بينهم بالقسط أي بين الرؤساء والسفل بالعدل وهم لا يظلمون .
قوله تعالى ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون
قوله تعالى ألا كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام ; أي انتبهوا لما أقول لكم
[ ص: 263 ] إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق له ملك السماوات والأرض فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده .
ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك .
قوله تعالى هو يحيي ويميت وإليه ترجعون بين المعنى . وقد تقدم
قوله تعالى ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
قوله تعالى يا أيها الناس يعني قريشا قد جاءتكم موعظة أي وعظ .
من ربكم يعني القرآن ، فيه مواعظ وحكم وشفاء لما في الصدور أي من الشك والنفاق والخلاف ، والشقاق وهدى أي ورشدا لمن اتبعه .
ورحمة أي نعمة . للمؤمنين خصهم لأنهم المنتفعون بالإيمان ; والكل صفات القرآن ، والعطف لتأكيد المدح . قال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
قوله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون
قوله تعالى قل بفضل الله وبرحمته قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما : فضل الله القرآن ، ورحمته الإسلام . وعنهما أيضا : فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله . وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة : فضل الله الإيمان ، ورحمته القرآن ; على العكس من القول الأول . وقيل غير هذا .
فبذلك فليفرحوا إشارة إلى الفضل والرحمة . والعرب تأتي " بذلك " للواحد والاثنين والجمع . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ " فبذلك فلتفرحوا " بالتاء ; وهي قراءة يزيد بن القعقاع ويعقوب وغيرهما ; وفي الحديث لتأخذوا مصافكم . والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب . وقد ذم الفرح في مواضع ; كقوله : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وقوله : إنه لفرح فخور ولكنه مطلق . [ ص: 264 ] فإذا قيد الفرح لم يكن ذما ; لقوله : فرحين بما آتاهم الله من فضله وهاهنا قال تبارك وتعالى : فبذلك فليفرحوا أي بالقرآن والإسلام فليفرحوا ; فقيد . قال هارون : وفي حرف أبي " فبذلك فافرحوا " . قال النحاس : سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أن مع النهي حرفا ; إلا أنهم يحذفون من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته ، وربما جاءوا به على الأصل ; منه " فبذلك فلتفرحوا " .
هو خير مما يجمعون يعني في الدنيا . وقراءة العامة بالياء في الفعلين ; وروي عن ابن عامر أنه قرأ فليفرحوا بالياء " تجمعون " بالتاء خطابا للكافرين . وروي عن الحسن أنه قرأ بالتاء في الأول ; و يجمعون بالياء على العكس . وروى أبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون .
قوله تعالى قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون
قوله تعالى قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى قل أرأيتم يخاطب كفار مكة . ما أنزل الله لكم من رزق ما في موضع نصب ب أرأيتم . وقال الزجاج : في موضع نصب ب أنزل . وأنزل بمعنى خلق ; كما قال : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد . فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال ; لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر .
فجعلتم منه حراما وحلالا قال مجاهد : هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال الضحاك : هو قول الله تعالى : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا .
قل آلله أذن لكم أي في التحليل والتحريم أم على الله أم بمعنى بل تفترون هو قولهم إن الله أمرنا بها .
الثانية : استدل بهذه الآية من نفى القياس ، وهذا بعيد ; فإن القياس دليل الله تعالى ، [ ص: 265 ] فيكون التحليل والتحريم من الله تعالى عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم ، فإن خالف في كون القياس دليلا لله تعالى فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره .
قوله تعالى وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون
قوله تعالى وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ( يوم ) منصوب على الظرف ، أو بالظن ; نحو ما ظنك زيدا ; والمعنى : أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به .
إن الله لذو فضل على الناس أي في التأخير والإمهال . وقيل : أراد أهل مكة حين جعلهم في حرم آمن .
( ولكن أكثرهم ) يعني الكفار ( لا يشكرون ) الله على نعمه ولا في تأخير العذاب عنهم . وقيل : لا يشكرون لا يوحدون .
قوله تعالى وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين
قوله تعالى وما تكون في شأن ( ما ) للجحد ; أي لست في شأن ، يعني من عبادة أو غيرها إلا والرب مطلع عليك . والشأن الخطب ، والأمر ، وجمعه شئون . قال الأخفش : تقول العرب ما شأنت شأنه ، أي ما عملت عمله .
وما تتلو منه من قرآن قال الفراء والزجاج : الهاء في ( منه ) تعود على الشأن ، أي تحدث شأنا فيتلى من أجله القرآن فيعلم كيف حكمه ، أو ينزل فيه قرآن فيتلى . وقال الطبري : ( منه ) أي من كتاب الله تعالى . ( من قرآن ) أعاد تفخيما ; كقوله : إني أنا الله .
ولا تعملون من عمل يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة . وقوله : وما تكون في شأن خطاب له والمراد هو وأمته ; وقد يخاطب الرسول والمراد هو وأتباعه . وقيل : المراد كفار قريش .
إلا كنا عليكم شهودا أي نعلمه ; ونظيره ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ يُونُسَ
من صــ 266 الى صــ 275
الحلقة (375)
إذ تفيضون فيه أي تأخذون فيه ، والهاء [ ص: 266 ] عائدة على العمل ; يقال : أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه . قال الراعي :
فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا
ابن عباس : ( تفيضون فيه ) تفعلونه . الأخفش : تتكلمون . ابن زيد : تخوضون . ابن كيسان : تنشرون القول . وقال الضحاك : الهاء عائدة على القرآن ; المعنى : إذ تشيعون في القرآن الكذب .
وما يعزب عن ربك قال ابن عباس : يغيب . وقال أبو روق : يبعد . وقال ابن كيسان : يذهب . وقرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي حيث وقع ; وضم الباقون ; وهما لغتان فصيحتان ; نحو يعرش ويعرش .
( من مثقال ) ( من ) صلة ; أي وما يعزب عن ربك مثقال ذرة أي وزن ذرة ، أي نميلة حمراء صغيرة ; وقد تقدم في النساء
في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر عطف على لفظ ( مثقال ) ، وإن شئت على ( ذرة ) . وقرأ يعقوب وحمزة برفع الراء فيهما عطفا على موضع ( مثقال ) لأن ( من ) زائدة للتأكيد . وقال الزجاج : ويجوز الرفع على الابتداء . وخبره إلا في كتاب مبين يعني اللوح المحفوظ مع علم الله تعالى به . قال الجرجاني ( إلا ) بمعنى واو النسق ، أي وهو في كتاب مبين ; كقوله تعالى : إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم أي ومن ظلم . وقوله : لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم أي والذين ظلموا منهم ; ف ( إلا ) بمعنى واو النسق ، وأضمر هو بعده كقوله : ( وقولوا حطة ) . أي هي حطة . وقوله : ولا تقولوا ثلاثة أي هم ثلاثة . ونظير ما نحن فيه : وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو في كتاب مبين .
قوله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون قوله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم أي في الآخرة . ولا هم يحزنون لفقد الدنيا . وقيل : لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أي من تولاه الله تعالى وتولى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن ; قال الله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها أي عن جهنم ( مبعدون ) إلى قوله لا يحزنهم الفزع الأكبر [ ص: 267 ] وروى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : من أولياء الله ؟ فقال : الذين يذكر الله برؤيتهم . وقال عمر بن الخطاب ، في هذه الآية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى . قيل : يا رسول الله ، خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم . قال : هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من العبر ، خمص البطون من الجوع ، يبس الشفاه من الذوي . وقيل : لا خوف عليهم في ذريتهم ؛ لأن الله يتولاهم . ولا هم يحزنون على دنياهم لتعويض الله إياهم في أولاهم وأخراهم لأنه وليهم ومولاهم .
قوله تعالى الذين آمنوا وكانوا يتقون هذه صفة أولياء الله تعالى ; فيكون : ( الذين ) في موضع نصب على البدل من اسم ( إن ) وهو ( أولياء ) . وإن شئت على أعني . وقيل : هو ابتداء ، وخبره . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيكون مقطوعا مما قبله . أي يتقون الشرك والمعاصي .
قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم
قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا عن أبي الدرداء قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : ما سألني أحد عنها غيرك منذ أنزلت هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له خرجه الترمذي في جامعه . وقال الزهري وعطاء وقتادة : هي البشارة التي [ ص: 268 ] تبشر بها الملائكة المؤمن في الدنيا عند الموت . وعن محمد بن كعب القرظي قال : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال : السلام عليك ولي الله ، الله يقرئك السلام . ثم نزع بهذه الآية : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ذكره ابن المبارك . وقال قتادة والضحاك : هي أن يعلم أين هو من قبل أن يموت . وقال الحسن : هي ما يبشرهم الله تعالى في كتابه من جنته وكريم ثوابه ; لقوله : يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ، وقوله : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات . وقوله : وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ولهذا قال : لا تبديل لكلمات الله أي لا خلف لمواعيده ، وذلك لأن مواعيده بكلماته .
وفي الآخرة قيل : بالجنة إذا خرجوا من قبورهم . وقيل : إذا خرجت الروح بشرت برضوان الله . وذكر أبو إسحاق الثعلبي : سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الجوزقي يقول : رأيت أبا عبد الله الحافظ في المنام راكبا برذونا عليه طيلسان وعمامة ، فسلمت عليه وقلت له : أهلا بك ، إنا لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك ; فقال : ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك ، قال الله تعالى : لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة الثناء الحسن : وأشار بيده .
لا تبديل لكلمات الله أي لا خلف لوعده . وقيل : لا تبديل لأخباره ، أي لا ينسخها بشيء ، ولا تكون إلا كما قال .
ذلك هو الفوز العظيم أي ما يصير إليه أولياؤه فهو الفوز العظيم .
قوله تعالى ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم
قوله تعالى ولا يحزنك قولهم أي لا يحزنك افتراؤهم وتكذيبهم لك ،
ثم ابتدأ فقال : إن العزة لله أي القوة الكاملة والغلبة الشاملة والقدرة التامة لله وحده ; فهو ناصرك ومعينك ومانعك .
( جميعا ) نصب على الحال ، ولا يعارض هذا قوله : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين فإن كل عزة بالله فهي كلها لله ; قال الله سبحانه : سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
هو السميع العليم السميع لأقوالهم وأصواتهم ، العليم بأعمالهم وأفعالهم وجميع حركاتهم .
[ ص: 269 ] قوله تعالى ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون
قوله تعالى ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض أي يحكم فيهم بما يريد ويفعل فيهم ما يشاء سبحانه ! .
وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ما للنفي ، أي لا يتبعون شركاء على الحقيقة ، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع . وقيل : ( ما ) استفهام ، أي : أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ؟ تقبيحا لفعلهم .
ثم أجاب فقال : إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون أي يحدسون ويكذبون ، وقد تقدم .
قوله تعالى هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون
قوله تعالى هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه بين أن الواجب عبادة من يقدر على خلق الليل والنهار لا عبادة من لا يقدر على شيء . لتسكنوا فيه أي مع أزواجكم وأولادكم ليزول التعب والكلال بكم . والسكون : الهدوء عن الاضطراب .
قوله تعالى ( والنهار مبصرا ) أي مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم . والمبصر : الذي يبصر ، والنهار يبصر فيه . وقال : مبصرا تجوزا وتوسعا على عادة العرب في قولهم : ليل قائم ، ونهار صائم . وقال جرير :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وقال قطرب : يقال : أظلم الليل أي صار ذا ظلمة ، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر .
قوله تعالى إن في ذلك لآيات أي علامات ودلالات .
( لقوم يسمعون ) أي سماع اعتبار
[ ص: 270 ] قوله تعالى قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون
قوله تعالى قالوا اتخذ الله ولدا يعني الكفار . وقد تقدم .
سبحانه نزه نفسه عن الصاحبة والأولاد وعن الشركاء والأنداد .
هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض ثم أخبر بغناه المطلق ، وأن له ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا وعبدا ; إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا .
إن عندكم من سلطان بهذا أي ما عندكم من حجة بهذا .
أتقولون على الله ما لا تعلمون من إثبات الولد له ، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة والله تعالى لا يجانس شيئا ولا يشابه شيئا .
قوله تعالى قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون
قوله تعالى قل إن الذين يفترون أي يختلقون .
على الله الكذب لا يفلحون أي لا يفوزون ولا يأمنون ; وتم الكلام .
متاع في الدنيا أي ذلك متاع ، أو هو متاع في الدنيا ; قاله الكسائي . وقال الأخفش : لهم متاع في الدنيا . قال أبو إسحاق : ويجوز النصب في غير القرآن على معنى يتمتعون متاعا .
ثم إلينا مرجعهم أي رجوعهم .
ثم نذيقهم العذاب الشديد أي الغليظ بما كانوا يكفرون أي بكفرهم .
قوله تعالى واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون
[ ص: 271 ] قوله تعالى واتل عليهم نبأ نوح أمره عليه السلام أن يذكرهم أقاصيص المتقدمين ، ويخوفهم العذاب الأليم على كفرهم . وحذفت الواو من ( اتل ) لأنه أمر ; أي اقرأ عليهم خبر نوح .
إذ قال لقومه ( إذ ) في موضع نصب .
ياقوم إن كان كبر عليكم أي عظم وثقل عليكم مقامي . المقام " بفتح الميم " : الموضع الذي يقوم فيه . والمقام " بالضم " الإقامة . ولم يقرأ به فيما علمت ; أي إن طال عليكم لبثي فيكم . وتذكيري وتخويفي لكم . بآيات الله وعزمتم على قتلي وطردي فعلى الله توكلت أي اعتمدت . وهذا هو جواب الشرط ، ولم يزل عليه السلام متوكلا على الله في كل حال ; ولكن بين أنه متوكل في هذا على الخصوص ليعرف قومه أن الله يكفيه أمرهم ; أي إن لم تنصروني فإني أتوكل على من ينصرني .
قوله تعالى فأجمعوا أمركم وشركاءكم قراءة العامة ( فأجمعوا ) بقطع الألف ( شركاءكم ) بالنصب . وقرأ عاصم الجحدري " فاجمعوا " بوصل الألف وفتح الميم ; من جمع يجمع . ( شركاءكم ) بالنصب . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب ( فأجمعوا ) بقطع الألف " شركاؤكم " بالرفع . فأما القراءة الأولى من أجمع على الشيء إذا عزم عليه . وقال الفراء : أجمع الشيء أعده . وقال المؤرج : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه . وأنشد :
يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع
قال النحاس : وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أوجه ; قال الكسائي والفراء : هو بمعنى وادعو شركاءكم لنصرتكم ; وهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل . وقال محمد بن يزيد : هو معطوف على المعنى ; كما قال :
رأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد ، إلا أنه محمول كالسيف . وقال أبو إسحاق الزجاج : المعنى مع شركائكم على تناصركم ; كما يقال : التقى الماء والخشبة . والقراءة الثانية من الجمع ، اعتبارا بقوله تعالى : فجمع كيده ثم أتى . قال أبو معاذ : ويجوز أن يكون جمع وأجمع بمعنى واحد ، ( وشركاءكم ) على هذه القراءة عطف على أمركم ، أو على معنى فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم ، وإن شئت بمعنى مع ، قال أبو جعفر النحاس : وسمعت أبا إسحاق يجيز [ ص: 272 ] قام زيد وعمرا . والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع في أجمعوا ، وحسن ذلك لأن الكلام قد طال . قال النحاس وغيره : وهذه القراءة تبعد ; لأنه لو كان مرفوعا لوجب أن تكتب بالواو ، ولم ير في المصاحف واو في قوله ( وشركاءكم ) ، وأيضا فإن شركاءهم الأصنام ، والأصنام لا تصنع شيئا ولا فعل لها حتى تجمع . قال المهدوي : ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء والخبر محذوف ، أي وشركاءكم ليجمعوا أمرهم ، ونسب ذلك إلى الشركاء وهي لا تسمع ولا تبصر ولا تميز على جهة التوبيخ لمن عبدها .
قوله تعالى ثم لا يكن أمركم عليكم غمة اسم ( يكن ) وخبرها . و ( غمة ) وغم سواء ، ومعناه التغطية ; من قولهم : غم الهلال إذا استتر ; أي ليكن أمركم ظاهرا منكشفا تتمكنون فيه مما شئتم ; لا كمن يخفى أمره فلا يقدر على ما يريد . قال طرفة :
لعمرك ما أمري علي بغمة نهاري ولا ليلي علي بسرمد
الزجاج : غمة ذا غم ، والغم والغمة كالكرب والكربة . وقيل : إن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا لينفرج عنه ما يغمه . وفي الصحاح : والغمة الكربة . قال العجاج :
بل لو شهدت الناس إذا تكموا بغمة لو لم تفرج غموا
يقال : أمر غمة ، أي مبهم ملتبس ; قال تعالى : ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . قال أبو عبيدة : مجازها ظلمة وضيق . والغمة أيضا : قعر النحي وغيره . قال غيره : وأصل هذا كله مشتق من الغمامة .
قوله تعالى ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ألف ( اقضوا ) ألف وصل ، من قضى يقضي . قال الأخفش والكسائي : وهو مثل : وقضينا إليه ذلك الأمر أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه . وروي عن ابن عباس ثم اقضوا إلي ولا تنظرون قال : امضوا إلي ولا تؤخرون . قال النحاس : هذا قول صحيح في اللغة ; ومنه : قضى الميت أي مضى . وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه ، وهذا من دلائل النبوات . وحكى الفراء عن بعض القراء " ثم أفضوا إلي " بالفاء وقطع الألف ، أي توجهوا ; يقال : أفضت الخلافة إلى فلان ، وأفضى إلي الوجع . وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان بنصر الله واثقا ، ومن كيدهم غير خائف ; علما منه بأنهم وآلهتهم لا ينفعون ولا يضرون . وهو تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه .
[ ص: 273 ] قوله تعالى فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين
قوله تعالى فإن توليتم فما سألتكم من أجر أي فإن أعرضتم عما جئتكم به فليس ذلك لأني سألتكم أجرا فيثقل عليكم مكافأتي .
إن أجري إلا على الله في تبليغ رسالته .
وأمرت أن أكون من المسلمين أي الموحدين لله تعالى . فتح أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء ( أجري ) حيث وقع ، وأسكن الباقون .
قوله تعالى فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين
قوله تعالى ( فكذبوه ) يعني نوحا .
فنجيناه ومن معه أي من المؤمنين في الفلك أي السفينة ، وسيأتي ذكرها .
وجعلناهم خلائف أي سكان الأرض وخلفا ممن غرق .
كيف كان عاقبة المنذرين يعني آخر أمر الذين أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا .
قوله تعالى ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين
قوله تعالى ثم بعثنا من بعده أي من بعد نوح رسلا إلى قومهم كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم .
( فجاءوهم بالبينات ) أي بالمعجزات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل التقدير : بما كذب به قوم نوح من قبل . وقيل : بما كذبوا به من قبل أي من قبل يوم الذر ، فإنه كان فيهم من كذب بقلبه وإن قال الجميع : بلى . قال النحاس : ومن أحسن ما قيل في هذا أنه لقوم بأعيانهم ; مثل : أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
( كذلك نطبع ) أي نختم على قلوب المعتدين أي المجاوزين الحد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا . وهذا يرد على القدرية قولهم كما تقدم .
[ ص: 274 ] قوله تعالى ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين
قوله تعالى ثم بعثنا من بعدهم أي من بعد الرسل والأمم . موسى وهارون إلى فرعون وملئه أي أشراف قومه ( بآياتنا ) يريد الآيات التسع ، وقد تقدم ذكرها . ( فاستكبروا ) أي عن الحق وكانوا قوما مجرمين أي مشركين .
قوله تعالى فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون
قوله تعالى فلما جاءهم الحق من عندنا يريد فرعون وقومه قالوا إن هذا لسحر مبين حملوا المعجزات على السحر .
قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا قيل : في الكلام حذف ، المعنى : أتقولون للحق هذا سحر . ف ( أتقولون ) إنكار وقولهم محذوف أي هذا سحر ، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله فقال : أسحر هذا! فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني من قولهم ، منكرا على فرعون وملئه . وقال الأخفش : هو من قولهم ، ودخلت الألف حكاية لقولهم ; لأنهم قالوا أسحر هذا . فقيل لهم : أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ; وروي عن الحسن .
ولا يفلح الساحرون أي لا يفلح من أتى به .
قوله تعالى قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين
قوله تعالى قالوا أجئتنا لتلفتنا أي تصرفنا وتلوينا ، يقال : لفته يلفته لفتا إذا لواه وصرفه . قال الشاعر :
تلفت نحو الحي حتى رأيتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
ومن هذا التفت إنما هو عدل عن الجهة التي بين يديه .
عما وجدنا عليه آباءنا يريد من عبادة الأصنام . وتكون لكما الكبرياء أي العظمة والملك والسلطان في الأرض [ ص: 275 ] يريد أرض مصر . ويقال للملك : الكبرياء لأنه أعظم ما يطلب في الدنيا . وما نحن لكما بمؤمنين
وقرأ ابن مسعود والحسن وغيرهما " ويكون " بالياء لأنه تأنيث غير حقيقي وقد فصل بينهما . وحكى سيبويه : حضر القاضي اليوم امرأتان .
قوله تعالى وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم إنما قاله لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنهما سحر . وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش " سحار " وقد تقدم في الأعراف القول فيهما .
قوله تعالى فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم . وقد تقدم في الأعراف القول في هذا مستوفى .
قوله تعالى فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين قوله تعالى فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر تكون ( ما ) في موضع رفع بالابتداء ، والخبر ( جئتم به ) والتقدير : أي شيء جئتم به ، على التوبيخ والتصغير لما جاءوا به من السحر . وقراءة أبي عمرو " آلسحر " على الاستفهام على إضمار مبتدأ والتقدير أهو السحر . ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف ، التقدير : السحر جئتم به . ولا تكون ( ما ) على قراءة من استفهم بمعنى الذي ، إذ لا خبر لها . وقرأ الباقون ( السحر ) على الخبر ، ودليل هذه القراءة قراءة ابن مسعود : " ما جئتم به سحر " . وقراءة أبي : " ما أتيتم به سحر " ; ف ( ما ) بمعنى الذي ، و ( جئتم به ) الصلة ، وموضع ( ما ) رفع بالابتداء ، و ( السحر ) خبر الابتداء . ولا تكون ( ما ) إذا جعلتها بمعنى ( الذي ) نصبا لأن الصلة لا تعمل في الموصول . وأجاز الفراء نصب السحر بجئتم ، وتكون ( لا ) للشرط ، و ( جئتم ) في موضع جزم بما والفاء محذوفة ; التقدير : فإن الله سيبطله . ويجوز أن ينصب ( السحر ) على المصدر ، أي ما جئتم به سحرا ، ثم دخلت الألف واللام زائدتين ، فلا يحتاج على هذا التقدير إلى حذف الفاء . واختار هذا القول النحاس ، وقال : حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر ; كما قال :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/32.jpg
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (8)
سُورَةُ يُونُسَ
من صــ 276 الى صــ 285
الحلقة (376)
[ ص: 276 ] بل ربما قال بعضهم : إنه لا يجوز ألبتة . وسمعت علي بن سليمان يقول : حدثني محمد بن يزيد قال حدثني المازني قال سمعت الأصمعي يقول : غير النحويون هذا البيت ، وإنما الرواية :
من يفعل الخير فالرحمن يشكره
وسمعت علي بن سليمان يقول : حذف الفاء في المجازاة جائز . قال : والدليل على ذلك وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم . وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم قراءتان مشهورتان معروفتان . إن الله لا يصلح عمل المفسدين يعني السحر . قال ابن عباس : من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية . ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين لم يضره كيد ساحر . ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر .
قوله تعالى ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون قوله تعالى ويحق الله الحق أي يبينه ويوضحه .
بكلماته أي بكلامه وحججه وبراهينه . وقيل : بعداته بالنصر .
ولو كره المجرمون من آل فرعون .
قوله تعالى فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين
قوله تعالى فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه الهاء عائدة على موسى . قال مجاهد : أي لم يؤمن منهم أحد ، وإنما آمن أولاد من أرسل موسى إليهم من بني إسرائيل ، لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء فآمنوا ; وهذا اختيار الطبري . والذرية أعقاب الإنسان وقد تكثر . وقيل : أراد بالذرية مؤمني بني إسرائيل . قال ابن عباس : كانوا ستمائة ألف ، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة [ ص: 277 ] ألف . وقال ابن عباس أيضا : من قومه يعني من قوم فرعون ; منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه . وقيل : هم أقوام آباؤهم من القبط ، وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية كما يسمى أولاد الفرس الذين توالدوا باليمن وبلاد العرب الأبناء ; لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم ; قال الفراء . وعلى هذا فالكناية في قومه ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الأمهات ، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط .
على خوف من فرعون لأنه كان مسلطا عليهم عاتيا ( وملئهم ) ولم يقل وملئه ; وعنه ستة أجوبة : أحدها : أن فرعون لما كان جبارا أخبر عنه بفعل الجميع . الثاني : أن فرعون لما ذكر علم أن معه غيره ، فعاد الضمير عليه وعليهم ; وهذا أحد قولي الفراء . الثالث : أن تكون الجماعة سميت بفرعون مثل ثمود . الرابع : أن يكون التقدير : على خوف من آل فرعون ; فيكون من باب حذف المضاف مثل : ( واسأل القرية ) ، وهو القول الثاني للفراء . وهذا الجواب على مذهب سيبويه والخليل خطأ ، لا يجوز عندهما قامت هند ، وأنت تريد غلامها . الخامس : مذهب الأخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذرية ، أي ملأ الذرية ; وهو اختيار الطبري . السادس : أن يكون الضمير يعود على قومه . قال النحاس : وهذا الجواب كأنه أبلغها . " أن يفتنهم " : وحد " يفتنهم " على الإخبار عن فرعون ، أي يصرفهم عن دينهم بالعقوبات ، وهو في موضع خفض على أنه بدل اشتمال . ويجوز أن يكون في موضع نصب ب خوف . ولم ينصرف فرعون لأنه اسم أعجمي وهو معرفة . وإن فرعون لعال في الأرض أي عات متكبر وإنه لمن المسرفين أي المجاوزين الحد في الكفر ; لأنه كان عبدا فادعى الربوبية .
قوله تعالى وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين
قوله تعالى وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم أي صدقتم بالله فعليه توكلوا أي اعتمدوا إن كنتم مسلمين كرر الشرط تأكيدا ، وبين أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى الله .
فقالوا على الله توكلنا أي أسلمنا أمورنا إليه ، ورضينا بقضائه وقدره ، وانتهينا [ ص: 278 ] إلى أمره .
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين أي لا تنصرهم علينا ، فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين ، أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم . وقال مجاهد : المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا ، ولا تعذبنا بعذاب من عندك ، فيقول أعداؤنا لو كانوا على حق لم نسلط عليهم ; فيفتنوا . وقال أبو مجلز وأبو الضحى : يعني لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا .
قوله تعالى ونجنا برحمتك من القوم الكافرين قوله تعالى ونجنا برحمتك أي خلصنا .
من القوم الكافرين أي من فرعون وقومه لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة .
قوله تعالى وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين
قوله تعالى وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا فيه خمس مسائل :
الأولى : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا أي اتخذا . لقومكما بمصر بيوتا يقال : بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا . والمبوأ المنزل الملزوم ; ومنه بوأه الله منزلا ، أي ألزمه إياه وأسكنه ; ومنه الحديث : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار قال الراجز :
نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك
ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية ; في قول مجاهد . وقال الضحاك : إنه البلد المسمى مصر ، ومصر ما بين البحر إلى أسوان ، والإسكندرية من أرض مصر .
الثانية : قوله تعالى واجعلوا بيوتكم قبلة قال أكثر المفسرين : كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة ، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني [ ص: 279 ] إسرائيل فخربت كلها ومنعوا من الصلاة ; فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتا بمصر ، أي مساجد ، ولم يرد المنازل المسكونة . هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وأبي مالك وابن عباس وغيرهم . وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى : واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا . والقول الأول أصح ; أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة ; قيل : بيت المقدس ، وهي قبلة اليهود إلى اليوم ; قاله ابن بحر . وقيل الكعبة . عن ابن عباس قال : وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه ، وهذا يدل على أن القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى عليه السلام ، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ; فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة . وقيل : المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا ; وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت ، والإقدام على الصلاة ، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده ، وهو المراد بقوله : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا الآية . وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن ، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم . قال ابن العربي : والأول أظهر القولين ; لأن الثاني دعوى . قلت : قوله : دعوى ; صحيح ، فإن في الصحيح قوله عليه السلام : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وهذا مما خص به دون الأنبياء ; فنحن بحمد الله نصلي في المساجد والبيوت ، وحيث أدركتنا الصلاة ; إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد ، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها . وقبل الصلوات المفروضات وبعدها ; إذ النوافل يحصل فيها الرياء ، والفرائض لا يحصل فيها ذلك ، وكلما خلص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى . روى مسلم عن عبد الله بن شقيق قال : سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه قالت : كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، وكان يصلي بالناس المغرب ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ثم يصلي بالناس العشاء ، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين الحديث . وعن ابن عمر قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين ; فأما [ ص: 280 ] المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته . وروى أبو داود عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني الأشهل فصلى فيه المغرب ; فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال : هذه صلاة البيوت .
الثالثة : واختلف العلماء من هذا الباب في قيام رمضان ، هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد ؟ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه ، وبه قال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي . وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن حضورها في الجماعة أفضل . وقال الليث : لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه . والحجة لمالك ومن قال بقوله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت : فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة خرجه البخاري . احتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها في الجماعة في المسجد ، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدوام على ذلك ، وهو خشية أن تفرض عليهم فلذلك قال لهم : فعليكم بالصلاة في بيوتكم . ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعا متفرقين ، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد فاستقر الأمر على ذلك وثبت سنة .
الرابعة : وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة . والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس ، أو خوف زيادته ، أو خوف جور السلطان في مال أو دون القضاء عليه بحق . والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع ، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه ; وقد فعل ذلك ابن عمر .
[ ص: 281 ] الخامسة : قوله تعالى وبشر المؤمنين قيل : الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل لموسى عليه السلام ، وهو أظهر ، أي بشر بني إسرائيل بأن الله سيظهرهم على عدوهم .
قوله تعالى وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم
قوله تعالى وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه ( آتيت ) أي أعطيت زينة وأموالا في الحياة الدنيا أي مال الدنيا ، وكان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد والياقوت .
قوله تعالى ربنا ليضلوا عن سبيلك اختلف في هذه اللام ، وأصح ما قيل فيها - وهو قول الخليل وسيبويه - أنها لام العاقبة والصيرورة ; وفي الخبر إن لله تعالى ملكا ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب . أي لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال صار كأنه أعطاهم ليضلوا . وقيل : هي لام كي أي أعطيتهم لكي يضلوا ويبطروا ويتكبروا . وقيل : هي لام أجل ، أي أعطيتهم لأجل إعراضهم عنك فلم يخافوا أن تعرض عنهم . وزعم قوم أن المعنى : أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا ، فحذفت لا كما قال عز وجل : يبين الله لكم أن تضلوا . والمعنى : لأن لا تضلوا . قال النحاس : ظاهر هذا الجواب حسن ، إلا أن العرب لا تحذف " لا " إلا مع أن ; فموه صاحب هذا الجواب بقوله عز وجل : أن تضلوا . وقيل : اللام للدعاء ، أي ابتلهم بالضلال عن سبيلك ; لأن بعده : اطمس على أموالهم واشدد . وقيل : الفعل معنى المصدر أي : إضلالهم كقوله عز وجل لتعرضوا عنهم قرأ الكوفيون : ( ليضلوا ) بضم الياء من الإضلال ، وفتحها الباقون .
قوله تعالى ربنا اطمس على أموالهم أي عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم . قال الزجاج : طمس الشيء إذهابه عن صورته . قال ابن عباس ومحمد بن كعب : صارت أموالهم ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا ، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد . وقال قتادة : بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة . وقال [ ص: 282 ] مجاهد وعطية : أهلكها حتى لا ترى ; يقال : عين مطموسة ، وطمس الموضع إذا عفا ودرس . وقال ابن زيد : صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة . محمد بن كعب : وكان الرجل منهم يكون مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين ; قال : وسألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وإنها لحجارة . وقال السدي : وكانت إحدى الآيات التسع .
واشدد على قلوبهم قال ابن عباس : أي امنعهم الإيمان . وقيل : قسها واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان ; والمعنى واحد . فلا يؤمنوا قيل : هو عطف على قوله : " ليضلوا " أي آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا ; قاله الزجاج والمبرد . وعلى هذا لا يكون فيه من معنى الدعاء شيء . وقوله : ( ربنا اطمس ) ( واشدد ) كلام معترض . وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة : هو دعاء ، فهو في موضع جزم عندهم ; أي اللهم فلا يؤمنوا ، أي فلا آمنوا . ومنه قول الأعشى :
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم
أي لا انبسط . ومن قال " ليضلوا " دعاء - أي ابتلهم بالضلال - قال : عطف عليه ( فلا يؤمنوا ) . وقيل : هو في موضع نصب لأنه جواب الأمر ; أي واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا . وهذا قول الأخفش والفراء أيضا ، وأنشد الفراء :
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب . ( حتى يروا العذاب الأليم ) قال ابن عباس : هو الغرق . وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال : كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم ; فالجواب أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله ، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن ; دليله قوله لنوح عليه السلام : إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وعند ذلك قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا الآية . والله أعلم .
قوله تعالى قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون
[ ص: 283 ] قوله تعالى قال قد أجيبت دعوتكما قال أبو العالية : دعا موسى وأمن هارون ; فسمي هارون وقد أمن على الدعاء داعيا . والتأمين على الدعاء أن يقول آمين ; فقولك آمين دعاء ، أي يا رب استجب لي . وقيل : دعا هارون مع موسى أيضا . وقال أهل المعاني : ربما خاطبت العرب الواحد بخطاب الاثنين ; قال الشاعر :
فقلت لصاحبي لا تعجلانا بنزع أصوله فاجتز شيحا
وهذا على أن آمين ليس بدعاء ، وأن هارون لم يدع . قال النحاس : سمعت علي بن سليمان يقول : الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى عليه السلام ( ربنا ) ولم يقل رب . وقرأ علي والسلمي " دعواتكما " بالجمع . وقرأ ابن السميقع " أجبت دعوتكما " خبرا عن الله تعالى ، ونصب ( دعوة ) بعده . وتقدم القول في " آمين " في آخر الفاتحة مستوفى . وهو مما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهارون وموسى عليهما السلام . روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم : السلام ، وهي تحية أهل الجنة ، وصفوف الملائكة ، وآمين : إلا ما كان من موسى وهارون ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول . وقد تقدم في الفاتحة .
قوله تعالى ( فاستقيما ) قال الفراء وغيره : أمر بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان ، إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة . قال محمد بن علي وابن جريج : مكث فرعون وقومه بعد هذه الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا . وقيل : استقيما أي على الدعاء ; والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود ، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه ، ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب .
ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون بتشديد النون في موضع جزم على النهي ، والنون للتوكيد ، وحركت لالتقاء الساكنين ، واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين . وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي . وقيل : هو حال من ( استقيما ) ; أي استقيما غير متبعين ، والمعنى : لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي .
قوله تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين
[ ص: 284 ] قوله تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر تقدم القول فيه في " البقرة " في قوله : وإذ فرقنا بكم البحر . وقرأ الحسن " وجوزنا " وهما لغتان .
فأتبعهم فرعون وجنوده يقال : تبع وأتبع بمعنى واحد ، إذا لحقه وأدركه . واتبع " بالتشديد " إذا سار خلفه . وقال الأصمعي : أتبعه " بقطع الألف " إذا لحقه وأدركه ، واتبعه " بوصل الألف " إذا اتبع أثره ، أدركه أو لم يدركه . وكذلك قال أبو زيد . وقرأ قتادة " فاتبعهم " بوصل الألف . وقيل : " اتبعه " " بوصل الألف " في الأمر اقتدى به . وأتبعه " بقطع الألف " خيرا أو شرا ; هذا قول أبي عمرو . وقد قيل هما بمعنى واحد . فخرج موسى ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا ، وتبعه فرعون مصبحا في ألفي ألف وستمائة ألف . وقد تقدم .
( بغيا ) نصب على الحال ( وعدوا ) معطوف عليه ; أي في حال بغي واعتداء وظلم ; يقال : عدا يعدو عدوا ; مثل غزا يغزو غزوا . وقرأ الحسن " وعدوا " بضم العين والدال وتشديد الواو ; مثل علا يعلو علوا . وقال المفسرون : ( بغيا ) طلبا للاستعلاء بغير حق في القول ، ( وعدوا ) في الفعل ; فهما نصب على المفعول له .
حتى إذا أدركه الغرق أي ناله ووصله قال ( آمنت ) أي صدقت ( أنه ) أي بأنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل فلما حذف الخافض تعدى الفعل فنصب . وقرئ بالكسر ، أي صرت مؤمنا ثم استأنف . وزعم أبو حاتم أن القول محذوف ، أي آمنت فقلت إنه ، والإيمان لا ينفع حينئذ ; والتوبة مقبولة قبل رؤية البأس ، وأما بعدها وبعد المخالطة فلا تقبل ، حسب ما تقدم في " النساء " بيانه . ويقال : إن فرعون هاب دخول البحر وكان على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى ; فجاء جبريل على فرس وديق أي شهي في صورة هامان وقال له : تقدم ، ثم خاض البحر فتبعها حصان فرعون ، وميكائيل يسوقهم لا يشذ منهم أحد ، فلما صار آخرهم في البحر وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم البحر ، وألجم فرعون الغرق فقال : آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ; فدس جبريل في فمه حال البحر . وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما أغرق الله فرعون قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن . حال البحر : الطين الأسود الذي يكون في أرضه ; قاله أهل اللغة . وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر : أن جبريل جعل يدس في في فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله [ ص: 285 ] فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه . قال : هذا حديث حسن غريب صحيح . وقال عون بن عبد الله : بلغني أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما ولد إبليس أبغض إلي من فرعون ، فإنه لما أدركه الغرق قال : ( آمنت ) الآية ، فخشيت أن يقولها فيرحم ، فأخذت تربة أو طينة فحشوتها في فيه . وقيل : إنما فعل هذا به عقوبة له على عظيم ما كان يأتي . وقال كعب الأحبار : أمسك الله نيل مصر عن الجري في زمانه . فقالت له القبط : إن كنت ربنا فأجر لنا الماء ; فركب وأمر بجنوده قائدا قائدا وجعلوا يقفون على درجاتهم وقفز حيث لا يرونه ونزل عن دابته ولبس ثيابا له أخرى وسجد وتضرع لله تعالى فأجرى الله له الماء ، فأتاه جبريل وهو وحده في هيئة مستفت وقال : ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سند له غيره ، فكفر نعمه وجحد حقه وادعى السيادة دونه ; فكتب فرعون : يقول أبو العباس الوليد بن مصعب بن الريان جزاؤه أن يغرق في البحر ; فأخذه جبريل ومر فلما أدركه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه . وقد مضى هذا في " البقرة " عن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس مسندا ; وكان هذا في يوم عاشوراء على ما تقدم بيانه في " البقرة " أيضا فلا معنى للإعادة .
قوله تعالى وأنا من المسلمين أي من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة .
قوله تعالى آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين قيل : هو من قول الله تعالى . وقيل : هو من قول جبريل . وقيل : ميكائيل ، صلوات الله عليهما ، أو غيرهما من الملائكة له صلوات الله عليهم . وقيل : هو من قول فرعون في نفسه ، ولم يكن ثم قول اللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال ، حيث لم تنفعه الندامة ; ونظيره . إنما نطعمكم لوجه الله أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم ، والكلام الحقيقي كلام القلب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/31.jpg