رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(347)
الحلقة (361)
صــ 231 إلى صــ 250
5518 - حدثنا الربيع بن سليمان قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا ابن لهيعة قال : حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى [ ص: 231 ] الله عليه وسلم أنه قال : كل حرف في القرآن فيه " القنوت " فإنما هو الطاعة " .
5519 - حدثنا العباس بن الوليد قال : أخبرني أبي قال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال : القنوت طاعة الله ، يقول الله - تعالى ذكره - : " وقوموا لله قانتين " مطيعين .
5520 - حدثنا سعيد بن الربيع قال : حدثنا سفيان قال : قال ابن طاوس : كان أبي يقول : القنوت طاعة الله .
وقال آخرون : " القنوت " في هذه الآية ، السكوت . وقالوا : تأويل الآية : وقوموا لله ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم .
ذكر من قال ذلك :
5521 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقوموا لله قانتين " القنوت ، في هذه الآية ، السكوت .
5522 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدى في خبر ذكره ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال : كنا نقوم في الصلاة فنتكلم ، ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته ، ويخبره ، ويردون عليه إذا سلم ، حتى أتيت أنا فسلمت فلم يردوا علي السلام ، فاشتد ذلك علي ، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن [ ص: 232 ] نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة ، والقنوت : السكوت .
5523 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال : كنا نتكلم في الصلاة ، فسلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد علي ، فلما انصرف قال : قد أحدث الله أن لا تكلموا في الصلاة ، ونزلت هذه الآية : " وقوموا لله قانتين " .
5524 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، وحدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، وابن نمير ، ووكيع ، ويعلى بن عبيد جميعا ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الحارث بن شبل ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلم أحدنا صاحبه في الحاجة ، حتى نزلت هذه الآية : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " فأمرنا بالسكوت .
[ ص: 233 ] 5525 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : " وقوموا لله قانتين " قال : كانوا يتكلمون في الصلاة ، يجيء خادم الرجل إليه وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته ، فنهوا عن الكلام .
5526 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة ، عن الزبير بن عدي ، عن كلثوم بن المصطلق ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عودني أن يرد علي السلام في الصلاة ، فأتيته ذات يوم فسلمت فلم يرد علي ، وقال : إن الله يحدث في أمره ما يشاء ، وإنه قد أحدث لكم في الصلاة أن لا يتكلم أحد إلا بذكر الله ، وما ينبغي من تسبيح وتمجيد : " وقوموا لله قانتين " . [ ص: 234 ] 5527 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وقوموا لله قانتين " قال : إذا قمتم في الصلاة فاسكتوا ، لا تكلموا أحدا حتى تفرغوا منها . قال : والقانت المصلي الذي لا يتكلم .
وقال آخرون : " القنوت " في هذه الآية ، الركوع في الصلاة والخشوع فيها . وقالوا في تأويل الآية : وقوموا لله في صلاتكم خاشعين ، خافضي الأجنحة ، غير عابثين ولا لاعبين .
ذكر من قال ذلك :
5528 - حدثني سلم بن جنادة قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد : " وقوموا لله قانتين " قال : فمن القنوت طول الركوع ، وغض البصر ، وخفض الجناح ، والخشوع من رهبة الله . كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت ، أو أن يقلب الحصى ، أو يعبث بشيء ، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا .
[ ص: 235 ] 5529 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد نحوه إلا أنه قال : فمن القنوت الركود والخشوع .
5530 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : " وقوموا لله قانتين " قال : من القنوت الخشوع ، وخفض الجناح من رهبة الله . وكان الفقهاء من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا قام أحدهم إلى الصلاة ، لم يلتفت ، ولم يقلب الحصى ، ولم يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا حتى ينصرف .
5531 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله " وقوموا لله قانتين " قال : إن من القنوت الركود ، ثم ذكر نحوه .
5532 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " وقوموا لله قانتين " قال : القنوت الركود - يعني القيام في الصلاة والانتصاب له .
وقال آخرون : بل " القنوت " في هذا الموضع ، الدعاء . قالوا : تأويل الآية : وقوموا لله راغبين في صلاتكم .
ذكر من قال ذلك :
5533 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية وحدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر جميعا ، عن عوف ، عن أبي رجاء ، قال : صليت مع ابن عباس الغداة في مسجد البصرة ، فقنت بنا قبل الركوع ، وقال : هذه الصلاة الوسطى التي قال الله : " وقوموا لله قانتين " .
[ ص: 236 ] قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " وقوموا لله قانتين " قول من قال : تأويله : " مطيعين " .
وذلك أن أصل " القنوت " الطاعة ، وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهى الله [ عنه ] من الكلام فيها . ولذلك وجه من وجه تأويل " القنوت " في هذا الموضع ، إلى السكوت في الصلاة أحد المعاني التي فرضها الله على عباده فيها إلا عن قراءة قرآن أو ذكر له بما هو أهله . ومما يدل على أنهم قالوا ذلك كما وصفنا ، قول النخعي ومجاهد الذي : -
5534 - حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، ومجاهد قالا : كانوا يتكلمون في الصلاة ، يأمر أحدهم أخاه بالحاجة ، فنزلت " وقوموا لله قانتين " قال : فقطعوا الكلام . و " القنوت " : السكوت ، و " القنوت " الطاعة .
فجعل إبراهيم ومجاهد " القنوت " سكوتا في طاعة الله ، على ما قلنا في ذلك من التأويل .
وقد تكون الطاعة لله فيها بالخشوع ، وخفض الجناح ، وإطالة القيام ، وبالدعاء ، لأن كل [ ذلك ] غير خارج من أحد معنيين : من أن يكون مما أمر به المصلي ، أو مما ندب إليه ، والعبد بكل ذلك لله مطيع ، وهو لربه فيه قانت . و " القنوت " : أصله الطاعة لله ، ثم يستعمل في كل ما أطاع الله به العبد .
فتأويل الآية إذا : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وقوموا لله فيها مطيعين ، بترك بعضكم فيها كلام بعض وغير ذلك من معاني الكلام ، سوى قراءة [ ص: 237 ] القرآن فيها ، أو ذكر الله بالذي هو أهله ، أو دعائه فيها ، غير عاصين لله فيها بتضييع حدودها ، والتفريط في الواجب لله عليكم فيها وفي غيرها من فرائض الله .
القول في تأويل قوله تعالى ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له لما قد بيناه من معناه ، فإن خفتم من عدو لكم ، أيها الناس ، تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله فصلوا " رجالا " مشاة على أرجلكم ، وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم " أو ركبانا " على ظهور دوابكم ، فإن ذلك يجزيكم حينئذ من القيام منكم ، قانتين .
ولما قلنا من أن معنى ذلك كذلك ، جاز نصب " الرجال " بالمعنى المحذوف . وذلك أن العرب تفعل ذلك في الجزاء خاصة ، لأن ثانيه شبيه بالمعطوف على أوله . ويبين ذلك أنهم يقولون : " إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا " بمعنى : إن تفعل خيرا تصب خيرا ، وإن تفعل شرا تصب شرا ، فيعطفون الجواب على الأول لانجزام الثاني بجزم الأول . فكذلك قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " بمعنى : إن خفتم أن تصلوا قياما بالأرض ، فصلوا رجالا .
" والرجال " جمع " راجل " و " رجل " وأما أهل الحجاز فإنهم يقولون لواحد " الرجال " " رجل " مسموع منهم : " مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا " [ ص: 238 ] وقد سمع من بعض أحياء العرب في واحدهم " رجلان " كما قال بعض بني عقيل :
علي إذا أبصرت ليلى بخلوة أن أزدار بيت الله رجلان حافيا
فمن قال " رجلان " للذكر ، قال للأنثى " رجلى " وجاز في جمع المذكر والمؤنث فيه أن يقال : " أتى القوم رجالى ورجالى " مثل " كسالى وكسالى " .
وقد حكي عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك : " فإن خفتم فرجالا " مشددة . وعن بعضهم أنه كان يقرأ : " فرجالا " وكلتا القراءتين غير جائزة القراءة بها عندنا ، لخلافها القراءة الموروثة المستفيضة في أمصار المسلمين .
وأما " الركبان " فجمع " راكب " يقال : " هو راكب ، وهم ركبان وركب وركبة وركاب وأركب وأركوب " يقال : " جاءنا أركوب من الناس وأراكيب " .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5535 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : سألته عن قوله : " فرجالا أو ركبانا " قال : عند المطاردة ، يصلي حيث كان وجهه ، راكبا أو راجلا ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ويصلي ركعتين يومئ إيماء .
5536 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان ، [ ص: 239 ] عن مغيرة عن إبراهيم في قوله : " فرجالا أو ركبانا " قال : صلاة الضراب ركعتين ، يومئ إيماء .
5537 - حدثني أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قوله : " فرجالا أو ركبانا " قال : يصلي ركعتين حيث كان وجهه ، يومئ إيماء .
5538 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير . " فرجالا أو ركبانا " قال : إذا طردت الخيل فأومئ إيماء .
5539 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن مالك ، عن سعيد قال : يومئ إيماء .
5540 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن : " فرجالا أو ركبانا " قال : إذا كان عند القتال صلى راكبا أو ماشيا حيث كان وجهه ، يومئ إيماء .
5541 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في القتال على الخيل ، فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا ، أو كما قدر على أن يومئ برأسه أو يتكلم بلسانه .
5542 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال : أو راكبا لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال أيضا : أو راكبا ، أو ما قدر أن يومئ برأسه ، وسائر الحديث مثله .
5543 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، [ ص: 240 ] عن الضحاك في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " قال : إذا التقوا عند القتال وطلبوا أو طلبوا أو طلبهم سبع ، فصلاتهم تكبيرتان إيماء ، أي جهة كانت .
5544 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فرجالا أو ركبانا " قال : ذلك عند القتال ، يصلي حيث كان وجهه ، راكبا أو راجلا إذا كان يطلب أو يطلبه سبع ، فليصل ركعة ، يومئ إيماء ، فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين .
5545 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " قال : ركعة وأنت تمشي ، وأنت يوضع بك بعيرك ويركض بك فرسك ، على أي جهة كان .
5546 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " أما " رجالا " فعلى أرجلكم ، إذا قاتلتم ، يصلي الرجل يومئ برأسه أينما توجه ، والراكب على دابته يومئ برأسه أينما توجه .
[ ص: 241 ] 5547 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " الآية ، أحل الله لك إذا كنت خائفا عند القتال ، أن تصلي وأنت راكب ، وأنت تسعى ، تومئ برأسك من حيث كان وجهك ، إن قدرت على ركعتين ، وإلا فواحدة .
5548 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " قال : ذاك عند المسايفة .
5549 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " قال : إذا طلب الأعداء فقد حل لهم أن يصلوا قبل أي جهة كانوا ، رجالا أو ركبانا ، يومئون إيماء ركعتين وقال قتادة : تجزئ ركعة .
5550 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " قال : كانوا إذا خشوا العدو صلوا ركعتين ، راكبا كان أو راجلا .
5551 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " قال : يصلي الرجل في القتال المكتوبة على دابته وعلى راحلته حيث كان وجهه ، يومئ إيماء عند كل ركوع وسجود ، ولكن السجود أخفض من الركوع . فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا ، هذا في المطاردة .
5552 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي قال : كان قتادة يقول : إن استطاع ركعتين وإلا فواحدة ، يومئ إيماء ، إن شاء راكبا أو راجلا قال الله - تعالى ذكره - : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " . [ ص: 242 ] 5553 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن الحسن قال : في الخائف الذي يطلبه العدو ، قال : إن استطاع أن يصلي ركعتين ، وإلا صلى ركعة .
5554 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن الحسن قال : ركعة .
5555 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا شعبة قال : سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة ، فقالوا : ركعة .
5556 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا شعبة قال : سألت الحكم وحمادا وقتادة ، عن صلاة المسايفة ، فقالوا : يومئ إيماء حيث كان وجهه .
5557 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن حماد والحكم وقتادة : أنهم سئلوا عن الصلاة عند المسايفة ، فقالوا : ركعة حيث وجهك .
5558 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث بن سوار قال : سألت ابن سيرين عن صلاة المنهزم فقال : كيف استطاع .
5559 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن جابر بن غراب قال : كنا نقاتل القوم وعلينا هرم بن حيان ، فحضرت الصلاة فقالوا : الصلاة ، الصلاة ! فقال هرم : يسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة . قال : ونحن مستقبلو المشرق .
5560 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي [ ص: 243 ] نضرة قال : كان هرم بن حيان على جيش ، فحضروا العدو فقال : يسجد كل رجل منكم تحت جنته حيث كان وجهه سجدة ، أو ما استيسر فقلت لأبي نضرة : ما " ما استيسر " ؟ قال : يومئ .
5561 - حدثنا سوار بن عبد الله قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا أبو مسلمة ، عن أبي نضرة قال : حدثني جابر بن غراب قال : كنا مع هرم بن حيان نقاتل العدو مستقبلي المشرق ، فحضرت الصلاة فقالوا : الصلاة! فقال : يسجد الرجل تحت جنته سجدة .
5562 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء في قوله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " قال : تصلي حيث توجهت راكبا وماشيا ، وحيث توجهت بك دابتك ، تومئ إيماء للمكتوبة .
5563 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية بن الوليد قال : حدثنا المسعودي قال : حدثني يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله قال : صلاة الخوف ركعة .
[ ص: 244 ] 5564 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا موسى بن محمد الأنصاري ، عن عبد الملك ، عن عطاء في هذه الآية قال : إذا كان خائفا صلى على أي حال كان . .
5565 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال مالك - وسألته عن قول الله : " فرجالا أو ركبانا " - قال : راكبا وماشيا ، ولو كانت إنما عنى بها الناس ، لم يأت إلا " رجالا " وانقطعت الآية . إنما هي " رجال " : مشاة ، وقرأ : ( يأتوك رجالا وعلى كل ضامر ) [ سورة الحج : 87 ] ، قال : يأتون مشاة وركبانا .
قال أبو جعفر : الخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا وراكبا جائلا الخوف على المهجة عند السلة والمسايفة في قتال من أمر [ ص: 245 ] بقتاله ، من عدو للمسلمين ، أو محارب ، أو طلب سبع ، أو جمل صائل ، أو سيل سائل فخاف الغرق فيه . وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء منه إن صلى صلاة الأمن ، فإنه إذا كان ذلك كذلك ، فله أن يصلي صلاة شدة الخوف حيث كان وجهه ، يومئ إيماء لعموم كتاب الله : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " ولم يخص الخوف على ذلك على نوع من الأنواع ، بعد أن يكون الخوف ، صفته ما ذكرت .
وإنما قلنا : إن الخوف الذي يجوز للمصلي أن يصلي كذلك ، هو الذي الأغلب منه الهلاك بإقامة الصلاة بحدودها ، وذلك حال شدة الخوف ، لأن : -
5566 - محمد بن حميد وسفيان بن وكيع حدثاني قالا : حدثنا جرير ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف : يقوم الأمير وطائفة من الناس معه فيسجدون سجدة واحدة ، ثم تكون طائفة منهم بينهم وبين العدو . ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة مع أميرهم ، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا ، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة . ثم ينصرف أميرهم وقد قضى صلاته ، ويصلي بعد صلاته كل واحد من الطائفتين سجدة لنفسه ، وإن كان خوف أشد من ذلك " فرجالا أو ركبانا " .
[ ص: 246 ] 5567 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثني أبي قال : حدثنا ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إذا اختلطوا - يعني في القتال - فإنما هو الذكر ، وإشارة بالرأس . قال ابن عمر : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : وإن كانوا أكثر من ذلك ، فيصلون قياما وركبانا " .
ففصل النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم صلاة الخوف في غير حال المسايفة والمطاردة ، وبين حكم صلاة الخوف في حال شدة الخوف والمسايفة ، على ما روينا عن ابن عمر . فكان معلوما بذلك أن قوله - تعالى ذكره - : " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " إنما عنى به الخوف الذي وصفنا صفته .
[ ص: 247 ] وبنحو الذي روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - روي عن ابن عمر أنه كان يقول :
5568 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : في صلاة الخوف : يصلي بطائفة من القوم ركعة ، وطائفة تحرس . ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم . ثم يجيء أولئك فيصلي بهم ركعة ، ثم يسلم ، وتقوم كل طائفة فتصلي ركعة . قال : فإن كان خوف أشد من ذلك " فرجالا أو ركبانا " .
وأما عدد الركعات في تلك الحال من الصلاة ، فإني أحب أن لا يقصر من عددها في حال الأمن . وإن قصر عن ذلك فصلى ركعة ، رأيتها مجزئة ، لأن : -
5569 - بشر بن معاذ حدثني قال : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .
[ ص: 248 ] القول في تأويل قوله ( فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ( 239 ) )
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : " فإذا أمنتم " أيها المؤمنون ، من عدوكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم التي فرضها عليكم - ومن غيره ممن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم - فاطمأننتم ، " فاذكروا الله " في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه ، على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم من أهل الكفر بالله ، كما ذكركم بتعليمه إياكم من أحكامه ، وحلاله وحرامه ، وأخبار من قبلكم من الأمم السالفة ، والأنباء الحادثة بعدكم - في عاجل الدنيا وآجل الآخرة ، التي جهلها غيركم وبصركم ، من ذلك وغيره ، إنعاما منه عليكم بذلك ، فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون .
وكان مجاهد يقول في قوله : " فإذا أمنتم " ما : -
5570 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " فإذا أمنتم " قال : خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة .
وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد :
5571 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فإذا أمنتم فاذكروا الله " قال : فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم - إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة .
وقوله ها هنا : " فاذكروا الله " قال : الصلاة ، " كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون " .
[ ص: 249 ] قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد ، قول غيره أولى بالصواب منه ، لإجماع الجميع على أن الخوف متى زال ، فواجب على المصلي المكتوبة - وإن كان في سفر - أداؤها بركوعها وسجودها وحدودها ، وقائما بالأرض غير ماش ولا راكب ، كالذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيما في مصره وبلده ، إلا ما أبيح له من القصر فيها في سفره . ولم يجر في هذه الآية للسفر ذكر ، فيتوجه قوله : " فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون " إليه . وإنما جرى ذكر الصلاة في حال الأمن ، وحال شدة الخوف ، فعرف الله سبحانه وتعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصلاة فيهما . ثم قال : " فإذا أمنتم " فزال الخوف ، فأقيموا صلاتكم [ ص: 250 ] وذكري فيها وفي غيرها ، مثل الذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف .
وبعد ، فإن كان جرى للسفر ذكر ، ثم أراد الله - تعالى ذكره - تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من الصلاة بعد مقامهم ، لقال : فإذا أقمتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ولم يقل : " فإذا أمنتم " .
وفي قوله - تعالى ذكره - : " فإذا أمنتم " الدلالة الواضحة على صحة قول من وجه تأويل ذلك إلى الذي قلنا فيه ، وخلاف قول مجاهد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(348)
الحلقة (362)
صــ 251 إلى صــ 270
القول في تأويل قوله : ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " ألم تر " ألم تر يا محمد بقلبك فتعلم بخبري إياك يا محمد " إلى الملأ " يعني : إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم " من بعد موسى " يقول : من بعد ما قبض موسى فمات " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل بن بالى بن علقمة بن يرحام بن إليهو بن تهو بن [ ص: 292 ] صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
5626 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه .
5627 - وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : هو شمويل ، هو شمويل - ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق .
وقال السدي : بل اسمه شمعون . وقال : إنما سمي " شمعون " ؛ لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما ، فاستجاب الله لها دعاءها ، فرزقها ، فولدت غلاما فسمته [ ص: 293 ] " شمعون " تقول : الله تعالى سمع دعائي .
5628 - حدثني [ بذلك ] موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .
فكأن " شمعون " " فعلون " عند السدي من قولها : إنه سمع الله دعاءها .
5629 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم " قال : شمؤل .
وقال آخرون : بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله ، يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
5630 - حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وقال لهم نبيهم ) قال : كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون ، قال : وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما .
وأما قوله : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " فاختلف أهل التأويل في [ ص: 294 ] السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك .
فقال بعضهم : كان سبب مسألتهم إياه ما : -
5631 - حدثنا به محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه قال : خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون ، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله . ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى . ثم خلف فيهم حزقيل بن بوزي ، وهو ابن العجوز . ثم إن الله قبض حزقيل ، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم ، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله . فبعث الله إليهم إلياس بن نسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا . وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة . وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب ، وكان يسمع منه ويصدقه . فكان إلياس يقيم له أمره . وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا ، إلا ما كان من ذلك الملك . والملوك متفرقة بالشام ، كل ملك [ ص: 295 ] له ناحية منها يأكلها . فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره ، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما : يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا ! والله ما أرى فلانا وفلانا - وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل - قد عبدوا الأوثان من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه ، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين ، ما ينقص من دنياهم [ أمرهم الذي تزعم أنه باطل ] وما نرى لنا عليهم من فضل . ويزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده ، ثم رفضه وخرج عنه . ففعل ذلك الملك فعل أصحابه ، عبد الأوثان ، وصنع ما يصنعون . ثم خلف من بعده فيهم اليسع ، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون ، ثم قبضه الله إليه . وخلفت فيهم الخلوف ، وعظمت فيهم الخطايا ، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر ، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون . فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو . ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء ، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم [ ص: 296 ] من إيليا ، لا يدخله عليهم عدو ، ولا يحتاجون معه إلى غيره . وكان أحدهم - فيما يذكرون - يجمع التراب على الصخرة ، ثم ينبذ فيه الحب ، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله . ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته . فلما عظمت أحداثهم ، وتركوا عهد الله إليهم ، نزل بهم عدو فخرجوا إليه ، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه ، ثم زحفوا به ، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم . فأتي ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب ، فمالت عنقه ، فمات كمدا عليه . فمرج أمرهم عليهم ، ووطئهم عدوهم ، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم . وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم ، فكانوا لا يقبلون منه شيئا ، يقال له " شمويل " وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " إلى قوله : " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " يقول الله : " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم " إلى قوله : " إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين " .
قال ابن إسحاق : فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم ، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك أنبياءهم . وكان الملك هو يسير بالجموع ، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه . فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم ، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم . فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر [ ص: 297 ] الرسل ، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا ، وفريقا يقتلون . فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . فقال لهم : إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد . فقالوا : إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه ، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد ، فلا يظهر علينا فيها عدو ، فأما إذ بلغ ذلك ، فإنه لا بد من الجهاد ، فنطيع ربنا في جهاد عدونا ، ونمنع أبناءنا ونساءنا وذرارينا .
5632 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل " إلى : " والله عليم بالظالمين " قال الربيع : ذكر لنا - والله أعلم - أن موسى لما حضرته الوفاة ، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل ، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى . ثم إن يوشع بن نون توفي ، واستخلف فيهم آخر ، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى - صلى الله عليه وسلم - . ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه . ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا . ثم استخلف آخر ، فأنكروا عامة أمره . ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله . ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم ، فقالوا له : سل ربك أن يكتب علينا القتال . فقال لهم ذلك النبي : " هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا " إلى قوله : " والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم " .
5633 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " قال : قال ابن عباس : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم .
[ ص: 298 ] 5634 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " قال : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان .
وقال آخرون : كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك ما : -
5635 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " قال : كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة ، وكان ملك العمالقة جالوت ، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم . وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه . وكان سبط النبوة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى ، فأخذوها فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام ؛ لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها . فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما ، فولدت غلاما فسمته شمعون . فكبر الغلام ، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه . فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا ، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يتمن عليه أحدا غيره فدعاه بلحن الشيخ : " يا شماول " فقام [ ص: 299 ] الغلام فزعا إلى الشيخ ، فقال : يا أبتاه ، دعوتني ؟ فكره الشيخ أن يقول : " لا " فيفزع الغلام ، فقال : يا بني ارجع فنم . فرجع فنام . ثم دعاه الثانية ، فأتاه الغلام - أيضا - فقال : دعوتني ؟ فقال : ارجع فنم ، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني . فلما كانت الثالثة ، ظهر له جبريل فقال : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا . فلما أتاهم كذبوه وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم تئن لك . وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، آية من نبوتك . فقال لهم شمعون : عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا .
قال أبو جعفر : وغير جائز في قول الله - تعالى ذكره - : " نقاتل في سبيل الله " إذا قرئ " بالنون " غير الجزم على معنى المجازاة وشرط الأمر . فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون بمعنى : الذي نقاتل به في سبيل الله ، فإن ذلك غير جائز ؛ لأن العرب لا تضمر حرفين . ولكن لو كان قرئ ذلك " بالياء " لجاز رفعه ؛ لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل " الملك " فيصير تأويل الكلام حينئذ : ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله كما قال - تعالى ذكره - : ( وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) [ سورة البقرة : 129 ] ، لأن قوله " يتلو " من صلة الرسول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(349)
الحلقة (363)
صــ 271 إلى صــ 290
5603 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، قال : فزعم منصور بن المعتمر ، عن مجاهد : أنهم قالوا حين أحيوا : " سبحانك ربنا وبحمدك [ ص: 271 ] لا إله إلا أنت " فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم .
5604 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة ، عن عطاء الخراساني : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " قال : كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر .
5605 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف ، حظر عليهم حظائر ، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا ، فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ثم أحياهم ، فأمرهم بالجهاد ، فذلك قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " الآية .
5606 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، [ ص: 272 ] عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع ، خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي وهو ابن العجوز ، وإنما سمي " ابن العجوز " أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت ، فوهبه الله لها ، فلذلك قيل له " ابن العجوز " وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما بلغنا : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " . .
5607 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون ، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت ، وهم ألوف ، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله : " موتوا " فماتوا جميعا . فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، ثم تركوهم فيها ، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا . فمرت بهم الأزمان والدهور ، حتى صاروا عظاما نخرة ، فمر بهم حزقيل بن بوزي ، فوقف عليهم ، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم ، فقيل له : أتحب أن يحييهم الله؟ فقال : نعم! فقيل له : نادهم فقل : " أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت ، ليرجع كل عظم إلى صاحبه " . فناداهم بذلك ، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا . ثم قيل له : قل : " أيها اللحم والعصب والجلد ، اكس العظام بإذن ربك " قال : فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار ، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح . ثم دعا لهم بالحياة ، فتغشاه من السماء شيء [ ص: 273 ] كربه حتى غشي عليه منه ، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون : " سبحان الله ، سبحان الله " قد أحياهم الله .
وقال آخرون : معنى قوله " وهم ألوف " وهم مؤتلفون .
ذكر من قال ذلك :
5608 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قول الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " قال : قرية كانت نزل بها الطاعون ، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة ، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت ، والتي خرجت لم يصبهم شيء . ثم ارتفع ، ثم نزل العام القابل ، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت . فلما كان العام الثالث ، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم ، فقال الله - تعالى ذكره - : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ليست الفرقة أخرجتهم ، كما يخرج للحرب والقتال ، قلوبهم مؤتلفة ، إنما خرجوا فرارا . فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة ، قال لهم الله : " موتوا " في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة . فماتوا ، ثم أحياهم الله ، إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف [ ص: 274 ] ينظر فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " فأماته الله مائة عام .
ذكر الأخبار عمن قال : كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون .
5609 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن الأشعث ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال : خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم قبل آجالهم ، ثم أحياهم إلى آجالهم .
5610 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : 34 " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال : فروا من الطاعون ، فقال لهم الله : " موتوا " ! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم .
5611 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار في قول الله - تعالى ذكره - : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال : وقع الطاعون في قريتهم ، فخرج أناس وبقي أناس ، فهلك الذين بقوا في القرية ، وبقي الآخرون . ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية ، فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي . فنجى الله الذين خرجوا ، وهلك الذين بقوا . فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [ وقد أنكروا قريتهم ، ومن تركوا ] . وكثروا بها ، حتى يقول بعضهم لبعض : من أنتم؟ [ ص: 275 ] 5612 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : وقع الطاعون في قريتهم ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
5613 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا سويد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " الآية ، مقتهم الله على فرارهم من الموت ، فأماتهم الله عقوبة ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم .
5614 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن هلال بن يساف في قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا " الآية ، قال : هؤلاء القوم من بني إسرائيل ، كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم ، وأقام فقراؤهم وسفلتهم . قال : فاستحر الموت على المقيمين منهم ، ونجا من خرج منهم . فقال الذين خرجوا : لو أقمنا كما أقام هؤلاء ، لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء ، لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد ، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم . فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق . قال : فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد ، فمر بهم نبي فقال : يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال : أو أحب إليك أن أفعل؟ قال نعم! قال : فقل : كذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام ، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه . ثم تكلم بما أمر ، فإذا العظام تكسى لحما . ثم أمر بأمر فتكلم به ، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون . ثم قيل لهم : ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ) [ ص: 276 ] 5615 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن حماد بن عثمان ، عن الحسن : أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال : هم قوم فروا من الطاعون ، فأماتهم الله عقوبة ومقتا ، ثم أحياهم لآجالهم .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في تأويل قوله : " وهم ألوف " بالصواب ، قول من قال : " عنى بالألوف كثرة العدد " دون قول من قال : " عنى به الائتلاف " بمعنى ائتلاف قلوبهم ، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض ، ولكن فرارا : إما من الجهاد ، وإما من الطاعون لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية ، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين .
وأولى الأقوال - في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم - بالصواب ، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف ، دون من حده بأربعة آلاف ، وثلاثة آلاف ، وثمانية آلاف . وذلك أن الله - تعالى ذكره - أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا ، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم : " ألوف " . وإنما يقال " هم آلاف " إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف . وغير جائز أن يقال : هم خمسة ألوف ، أو عشرة ألوف .
وإنما جمع قليله على " أفعال " ولم يجمع على " أفعل " مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله . وشأن العرب في كل [ ص: 277 ] حرف كان أوله ياء أو واوا أو ألفا ، اختيار جمع قليله على أفعال ، كما جمعوا " الوقت " " أوقاتا " و " اليوم " " أياما " و " اليسر " و " أيسارا " للواو والياء اللتين في أول ذلك . وقد يجمع ذلك أحيانا على " أفعل " إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا ، ومنه قول الشاعر :
كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ألفين أعجم من بني الفدام
وأما قوله : " حذر الموت " فإنه يعني : أنهم خرجوا من حذر الموت ، فرارا منه . كما : -
5616 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 278 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " حذر الموت " فرارا من عدوهم ، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه . فأمرهم فرجعوا ، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله ، وهم الذين قالوا لنبيهم : ( ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) [ سورة البقرة : 246 ] .
قال أبو جعفر : وإنما حث الله - تعالى ذكره - عباده بهذه الآية ، على المواظبة على الجهاد في سبيله ، والصبر على قتال أعداء دينه . وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم ، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه ، دون خلقه وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء ، إلى التحصن في الحصون ، والاختباء في المنازل والدور ، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته ، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته ، كما لم ينفع الهاربين من الطاعون الذين وصف الله - تعالى ذكره - صفتهم في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فرارهم من أوطانهم ، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة ، وبالموئل النجاة من المنية ، حتى أتاهم أمر الله ، فتركهم جميعا خمودا صرعى ، وفي الأرض هلكى ، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء ، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء .
القول في تأويل قوله ( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( 243 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : إن الله لذو فضل ومن . على خلقه ، بتبصيره إياهم سبيل الهدى ، وتحذيره لهم طرق الردى ، وغير ذلك من نعمه التي [ ص: 279 ] ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم ، وأنفسهم وأموالهم - كما أحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم ، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم ، عبرة يعتبرون بهم ، وليعلموا أن الأمور كلها بيده ، فيستسلموا لقضائه ، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه .
ثم أخبر - تعالى ذكره - أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة ، ويمن عليه بمننه الجسيمة ، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره ، ويتخذ إلها من دونه ، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ، ومن الحمد ما يثقله ، فقال - تعالى ذكره - : " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " يقول : لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم ، وفضلي الذي تفضلت به عليهم ، بعبادتهم غيري ، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا .
[ ص: 280 ] القول في تأويل قوله ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ( 244 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : " وقاتلوا " أيها المؤمنون " في سبيل الله " يعني : في دينه الذي هداكم له ، لا في طاعة الشيطان ، أعداء دينكم ، الصادين عن سبيل ربكم ، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم ، ولا تجبنوا عن حربهم ، فإن بيدي حياتكم وموتكم . ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم ، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم ، فتذلوا ، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه ، كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، الذين قصصت عليكم قصتهم ، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري ، وحل بهم قضائي ، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه ، إذ دافعت عنهم مناياهم ، وصرفتها عن حوبائهم ، فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني ، فإن من حيي منكم فأنا أحييته ، ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله .
[ ص: 281 ] ثم قال - تعالى ذكره - لهم : واعلموا ، أيها المؤمنون ، أن ربكم " سميع " لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي : لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا " عليم " بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم ، وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم ، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي .
يقول - تعالى ذكره - لعباده المؤمنين : فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي ، وغير ذلك من أمري ونهيي ، إذ كفر هؤلاء نعمي . واعلموا أن الله سميع لقولهم ، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، محيط بذلك كله ، حتى أجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .
قال أبو جعفر : ولا وجه لقول من زعم أن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال ، بعد ما أحياهم . لأن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " لا يخلو - إن كان الأمر على ما تأولوه - من أحد أمور ثلاثة :
إما أن يكون عطفا على قوله : " فقال لهم الله موتوا " وذلك من المحال أن يميتهم ، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله .
أو يكون عطفا على قوله : " ثم أحياهم " وذلك أيضا مما لا معنى له . لأن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " أمر من الله بالقتال ، وقوله : " ثم أحياهم " خبر عن فعل قد مضى . وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض ، لو كانا جميعا خبرين ، لاختلاف معنييهما . فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟
أو يكون معناه : ثم أحياهم وقال لهم : قاتلوا في سبيل الله ، ثم أسقط " القول " [ ص: 282 ] كما قال - تعالى ذكره - : ( إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا ) [ سورة السجدة : 12 ] ، بمعنى يقولون : ربنا أبصرنا وسمعنا . وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه ، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر . فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه ، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها .
القول في تأويل قوله ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : من هذا الذي ينفق في سبيل الله ، فيعين مضعفا ، أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله ، ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه .
وإنما سماه الله - تعالى ذكره - " قرضا " لأن معنى " القرض " إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له ، ليقضيه مثله إذا اقتضاه . فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله ، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة ، سماه " قرضا " إذ كان معنى " القرض " في لغة العرب ما وصفنا .
وإنما جعله - تعالى ذكره - " حسنا " لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه ، احتسابا منه . فهو لله طاعة ، وللشياطين معصية . وليس [ ص: 283 ] ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه ، ولكن ذلك كقول العرب : " عندي لك قرض صدق ، وقرض سوء " للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته ، كما قال الشاعر :
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا ، ومدينا بالذي دانا
فقرض المرء : ما سلف من صالح عمله أو سيئه . وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها - تعالى ذكره - : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) [ سورة البقرة : 261 ] .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول :
5617 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال : هذا في سبيل الله " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " قال : بالواحد سبعمائة ضعف .
5618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " جاء ابن الدحداح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ إنما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين : إحداهما بالعالية ، والأخرى بالسافلة ، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال : فكان النبي صلى الله [ ص: 284 ] عليه وسلم يقول : " كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة! .
5619 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن رجلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع بهذه الآية قال : " أنا أقرض الله " فعمد إلى خير حائط له فتصدق به . قال : وقال قتادة : يستقرضكم ربكم كما تسمعون ، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده .
5620 - حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال أبو الدحداح : [ ص: 285 ] يا رسول الله ، أوإن الله يريد منا القرض؟! قال : نعم يا أبا الدحداح ! قال : يدك! قال :
فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، حائطا فيه ستمائة نخلة . ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها ، فناداها : يا أم الدحداح ! قالت : لبيك ! قال : اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمائة نخلة .
[ ص: 286 ] وأما قوله : " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " فإنه عدة من الله - تعالى ذكره - مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته ، ما لا حد له ولا نهاية ، كما : -
5621 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " قال : هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو .
وقد : -
5622 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال : إن الله أعطاكم [ ص: 287 ] الدنيا قرضا ، وسألكموها قرضا ، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم ، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمائة ، إلى أكثر من ذلك . وإن أخذها منكم وأنتم كارهون ، فصبرتم وأحسنتم ، كانت لكم الصلاة والرحمة ، وأوجب لكم الهدى .
قال أبو جعفر : وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( فيضاعفه ) بالألف ورفعه ، بمعنى : الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ، نسق " يضاعف " على قوله : " يقرض " .
وقرأه آخرون بذلك المعنى : ( فيضعفه ) ، غير أنهم قرءوا بتشديد " العين " وإسقاط " الألف " .
وقرأه آخرون : ( فيضاعفه له ) بإثبات " الألف " في " يضاعف " ونصبه ، بمعنى الاستفهام . فكأنهم تأولوا الكلام : من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله : " فيضاعفه " جوابا للاستفهام ، وجعلوا : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " اسما . لأن " الذي " وصلته ، بمنزلة " عمرو " و " زيد " . فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل : " من أخوك فتكرمه " لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل ، نصبه .
قال أبو جعفر : وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ : ( فيضاعفه له ) بإثبات " الألف " . ورفع " يضاعف " . لأن في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " معنى الجزاء . والجزاء إذا دخل في جوابه " الفاء " لم يكن جوابه [ ص: 288 ] ب " الفاء " إلا رفعا . فلذلك كان الرفع في " يضاعفه " أولى بالصواب عندنا من النصب . وإنما اخترنا " الألف " في " يضاعف " من حذفها وتشديد " العين " لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب .
القول في تأويل قوله ( والله يقبض ويبسط )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها ، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة ، واتخذوه ربا دونه يعبدونه . وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي : -
5623 - حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا : حدثنا حجاج وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال : حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت وحميد وقتادة ، عن أنس قال : غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فقالوا : يا رسول الله ، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله الباسط القابض الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال " . .
[ ص: 289 ] قال أبو جعفر : يعني بذلك - صلى الله عليه وسلم - : أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره . فكذلك قوله - تعالى ذكره - : ، " والله يقبض ويبسط " يعني بقوله : " يقبض " يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه ويعني بقوله : و " يبسط " يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم .
وإنما أراد - تعالى ذكره - بقيله ذلك ، حث عباده المؤمنين - الذين قد بسط عليهم من فضله ، فوسع عليهم من رزقه - على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله ، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله ، فقال - تعالى ذكره - : من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي ، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني - أيها الموسع - الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه ، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك ، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه ، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به ، من غنى وفاقة ، وسعة وضيق ، عند رجوعكما إلي في آخرتكما ، ومصيركما إلي في معادكما .
[ ص: 290 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5624 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " الآية ، قال : علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة ، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى ، فندب هؤلاء فقال : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط " ؟ قال : بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده ، وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له ، فقوه مما في يدك يكن لك في ذلك حظ .
القول في تأويل قوله ( وإليه ترجعون ( 245 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : وإلى الله معادكم - أيها الناس - فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده ، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه ، وأن يحمل المقتر منكم - إذ قبض عنه رزقه - إقتاره على معصيته ، والتقدم على ما نهاه ، فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه ما لا قبل له به من أليم عقابه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(350)
الحلقة (364)
صــ 291 إلى صــ 310
[ ص: 291 ] وكان قتادة يتأول قوله : " وإليه ترجعون " وإلى التراب ترجعون .
5625 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإليه ترجعون " من التراب خلقهم ، وإلى التراب يعودون .
القول في تأويل قوله : ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " ألم تر " ألم تر يا محمد بقلبك فتعلم بخبري إياك يا محمد " إلى الملأ " يعني : إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم " من بعد موسى " يقول : من بعد ما قبض موسى فمات " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل بن بالى بن علقمة بن يرحام بن إليهو بن تهو بن [ ص: 292 ] صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
5626 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه .
5627 - وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : هو شمويل ، هو شمويل - ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق .
وقال السدي : بل اسمه شمعون . وقال : إنما سمي " شمعون " ؛ لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما ، فاستجاب الله لها دعاءها ، فرزقها ، فولدت غلاما فسمته [ ص: 293 ] " شمعون " تقول : الله تعالى سمع دعائي .
5628 - حدثني [ بذلك ] موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .
فكأن " شمعون " " فعلون " عند السدي من قولها : إنه سمع الله دعاءها .
5629 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم " قال : شمؤل .
وقال آخرون : بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله ، يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
5630 - حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وقال لهم نبيهم ) قال : كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون ، قال : وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما .
وأما قوله : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " فاختلف أهل التأويل في [ ص: 294 ] السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك .
فقال بعضهم : كان سبب مسألتهم إياه ما : -
5631 - حدثنا به محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه قال : خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون ، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله . ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى . ثم خلف فيهم حزقيل بن بوزي ، وهو ابن العجوز . ثم إن الله قبض حزقيل ، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم ، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله . فبعث الله إليهم إلياس بن نسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا . وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة . وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب ، وكان يسمع منه ويصدقه . فكان إلياس يقيم له أمره . وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله ، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله ، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا ، إلا ما كان من ذلك الملك . والملوك متفرقة بالشام ، كل ملك [ ص: 295 ] له ناحية منها يأكلها . فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره ، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما : يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا ! والله ما أرى فلانا وفلانا - وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل - قد عبدوا الأوثان من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه ، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين ، ما ينقص من دنياهم [ أمرهم الذي تزعم أنه باطل ] وما نرى لنا عليهم من فضل . ويزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده ، ثم رفضه وخرج عنه . ففعل ذلك الملك فعل أصحابه ، عبد الأوثان ، وصنع ما يصنعون . ثم خلف من بعده فيهم اليسع ، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون ، ثم قبضه الله إليه . وخلفت فيهم الخلوف ، وعظمت فيهم الخطايا ، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر ، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون . فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو . ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء ، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم [ ص: 296 ] من إيليا ، لا يدخله عليهم عدو ، ولا يحتاجون معه إلى غيره . وكان أحدهم - فيما يذكرون - يجمع التراب على الصخرة ، ثم ينبذ فيه الحب ، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله . ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته . فلما عظمت أحداثهم ، وتركوا عهد الله إليهم ، نزل بهم عدو فخرجوا إليه ، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه ، ثم زحفوا به ، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم . فأتي ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب ، فمالت عنقه ، فمات كمدا عليه . فمرج أمرهم عليهم ، ووطئهم عدوهم ، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم . وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم ، فكانوا لا يقبلون منه شيئا ، يقال له " شمويل " وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " إلى قوله : " وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " يقول الله : " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم " إلى قوله : " إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين " .
قال ابن إسحاق : فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم ، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك أنبياءهم . وكان الملك هو يسير بالجموع ، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه . فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم ، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم . فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر [ ص: 297 ] الرسل ، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا ، وفريقا يقتلون . فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " . فقال لهم : إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد . فقالوا : إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه ، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد ، فلا يظهر علينا فيها عدو ، فأما إذ بلغ ذلك ، فإنه لا بد من الجهاد ، فنطيع ربنا في جهاد عدونا ، ونمنع أبناءنا ونساءنا وذرارينا .
5632 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل " إلى : " والله عليم بالظالمين " قال الربيع : ذكر لنا - والله أعلم - أن موسى لما حضرته الوفاة ، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل ، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى . ثم إن يوشع بن نون توفي ، واستخلف فيهم آخر ، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى - صلى الله عليه وسلم - . ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه . ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا . ثم استخلف آخر ، فأنكروا عامة أمره . ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله . ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم ، فقالوا له : سل ربك أن يكتب علينا القتال . فقال لهم ذلك النبي : " هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا " إلى قوله : " والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم " .
5633 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " قال : قال ابن عباس : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم .
[ ص: 298 ] 5634 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا " قال : هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان .
وقال آخرون : كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك ما : -
5635 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " قال : كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة ، وكان ملك العمالقة جالوت ، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم . وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه . وكان سبط النبوة قد هلكوا ، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى ، فأخذوها فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام ؛ لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها . فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما ، فولدت غلاما فسمته شمعون . فكبر الغلام ، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم وتبناه . فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا ، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يتمن عليه أحدا غيره فدعاه بلحن الشيخ : " يا شماول " فقام [ ص: 299 ] الغلام فزعا إلى الشيخ ، فقال : يا أبتاه ، دعوتني ؟ فكره الشيخ أن يقول : " لا " فيفزع الغلام ، فقال : يا بني ارجع فنم . فرجع فنام . ثم دعاه الثانية ، فأتاه الغلام - أيضا - فقال : دعوتني ؟ فقال : ارجع فنم ، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني . فلما كانت الثالثة ، ظهر له جبريل فقال : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك ، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا . فلما أتاهم كذبوه وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم تئن لك . وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ، آية من نبوتك . فقال لهم شمعون : عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا .
قال أبو جعفر : وغير جائز في قول الله - تعالى ذكره - : " نقاتل في سبيل الله " إذا قرئ " بالنون " غير الجزم على معنى المجازاة وشرط الأمر . فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون بمعنى : الذي نقاتل به في سبيل الله ، فإن ذلك غير جائز ؛ لأن العرب لا تضمر حرفين . ولكن لو كان قرئ ذلك " بالياء " لجاز رفعه ؛ لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل " الملك " فيصير تأويل الكلام حينئذ : ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله كما قال - تعالى ذكره - : ( وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) [ سورة البقرة : 129 ] ، لأن قوله " يتلو " من صلة الرسول .
القول في تأويل قوله تعالى ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : وقال للملأ من بني إسرائيل نبيهم شمويل : إن الله قد أعطاكم ما سألتم ، وبعث لكم طالوت ملكا . فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك ، قالوا : أنى يكون لطالوت الملك علينا ، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوة ونحن أحق بالملك منه ؛ لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب ، " ولم يؤت سعة من المال " يعني : ولم يؤت طالوت كثيرا من المال ، لأنه سقاء ، وقيل : كان دباغا .
وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل ، وقولهم ما قالوا لنبيهم شمويل : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " ما : -
5636 - حدثنا به ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له ، سأل الله نبيهم شمويل أن يبعث [ ص: 307 ] لهم ملكا ، فقال الله له : انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك ، فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن ، فهو ملك بني إسرائيل ، فادهن رأسه منه وملكه عليهم ، وأخبره بالذي جاءه - فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه . وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم ، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب . وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوة ولا ملك . فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته ، ومعه غلام له . فمرا ببيت النبي - عليه السلام - فقال غلام طالوت لطالوت : لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا ، فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير ! فقال طالوت : ما بما قلت من بأس ! فدخلا عليه ، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها ، إذ نش الدهن الذي في القرن ، فقام إليه النبي - عليه السلام - فأخذه ، ثم قال لطالوت : قرب رأسك ! فقربه ، فدهنه منه ، ثم قال : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم ! وكان اسم " طالوت " بالسريانية : شاول بن قيس بن [ ص: 308 ] أبيال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن آيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فجلس عنده ، وقال الناس : ملك طالوت ، فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم وقالوا له : ما شأن طالوت يملك علينا ، وليس في بيت النبوة المملكة ؟ قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا ! فقال لهم : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5637 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل ، عن عبد الكريم ، عن عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه قال : قالت بنو إسرائيل لأشمويل : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ! قال : قد كفاكم الله القتال ! قالوا : إنا نتخوف من حولنا ، فيكون لنا ملك نفزع إليه ! فأوحى الله إلى أشمويل : أن ابعث لهم طالوت ملكا ، وادهنه بدهن القدس . فضلت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاما له يطلبانها ، فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها ، فقال : إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل . قال : أنا ؟ قال : نعم ! قال : أوما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل ؟ قال : بلى . قال : أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي ؟ ! قال : بلى ! قال : أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي ؟ قال : [ ص: 309 ] بلى ! قال : فبأية آية ؟ قال : بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره ، وإذا كنت بمكان كذا وكذا نزل عليك الوحي ! فدهنه بدهن القدس . فقال لبني إسرائيل : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5638 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما كذبت بنو إسرائيل شمعون ، وقالوا له : إن كنت صادقا ، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك ، قال لهم شمعون : عسى إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ؟ " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله " الآية . دعا الله فأتي بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا ، فقال : إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا ، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها . وكان طالوت رجلا سقاء يسقي على حمار له ، فضل حماره ، فانطلق يطلبه في الطريق . فلما رأوه دعوه فقاسوه بها ، فكان مثلها ، فقال لهم نبيهم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " . قال القوم : ما كنت قط أكذب منك الساعة ! ونحن من سبط المملكة ، وليس هو من سبط المملكة ، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك ! فقال النبي : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5639 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : كان طالوت سقاء يبيع الماء .
5640 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : بعث الله طالوت ملكا ، وكان من سبط بنيامين سبط لم يكن فيهم [ ص: 310 ] مملكة ولا نبوة . وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة ، وسبط مملكة . وكان سبط النبوة سبط لاوى ، إليه موسى وسبط المملكة يهوذا ، إليه داود وسليمان . فلما بعث من غير سبط النبوة والمملكة ، أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " ؟ قالوا : وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ! فقال الله - تعالى ذكره - : " إن الله اصطفاه عليكم " .
5641 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ابعث لنا ملكا " قال لهم نبيهم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا " ؟ قال : وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة ، فقال : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5642 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة ، وسبط خلافة ، فلذلك قالوا : " أنى يكون له الملك علينا " ؟ يقولون : ومن أين يكون له الملك علينا ، وليس من سبط النبوة ولا سبط الخلافة " ؟ قال : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " .
5643 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " أنى يكون له الملك علينا " فذكر نحوه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(351)
الحلقة (365)
صــ 311 إلى صــ 330
5644 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم : سل ربك أن يكتب علينا القتال ! فقال لهم ذلك النبي : " هل عسيتم إن كتب عليكم القتال " ؟ الآية ، قال : فبعث الله طالوت ملكا . قال : وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة وسبط مملكة ، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة . فلما بعث لهم [ ص: 311 ] ملكا أنكروا ذلك وعجبوا وقالوا : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " ؟ قالوا : وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ؟ فقال : " إن الله اصطفاه عليكم " الآية .
5645 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أما ذكر طالوت إذ قالوا : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " ؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان : كان في أحدهما النبوة ، وكان في الآخر الملك ، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوة ، ولا يملك على الأرض أحد إلا من كان من سبط الملك . وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من أحد السبطين ، واختاره عليهم ، وزاده بسطة في العلم والجسم ، ومن أجل ذلك قالوا : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " وليس من واحد من السبطين ؟ قال : ف " إن الله اصطفاه عليكم " إلى : " والله واسع عليم " .
5646 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس قوله : " ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى " الآية ، هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم "فلما كتب عليهم القتال " وذلك حين أتاهم التابوت . قال : وكان من بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة وسبط خلافة ، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة ، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة ، فقال لهم نبيهم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " وليس من أحد السبطين : لا من سبط النبوة ، ولا سبط الخلافة ؟ " قال إن الله اصطفاه عليكم " الآية . [ ص: 312 ]
وقد قيل : إن معنى " الملك " في هذا الموضع : الإمرة على الجيش .
ذكر من قال ذلك :
5647 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد قوله : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " قال : كان أمير الجيش .
5648 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله إلا أنه قال : كان أميرا على الجيش .
قال أبو جعفر : وقد بينا معنى " أنى " ومعنى " الملك " فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله ( قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " إن الله اصطفاه عليكم " قال نبيهم شمويل لهم : " إن الله اصطفاه عليكم " يعني : اختاره عليكم كما : -
5649 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " اصطفاه عليكم " اختاره .
5650 - حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " إن الله اصطفاه عليكم " قال : اختاره عليكم . [ ص: 313 ]
5651 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " إن الله اصطفاه عليكم " اختاره .
وأما قوله : " وزاده بسطة في العلم والجسم " فإنه يعني بذلك أن الله بسط له في العلم والجسم ، وآتاه من العلم فضلا على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب . وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله ، وأما " في الجسم " فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم كما : -
5652 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه قال : لما قالت بنو إسرائيل : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " . قال : واجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا .
وقال السدي : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا ، فقال : إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا . فقاسوا أنفسهم بها ، فلم يكونوا مثلها . فقاسوا طالوت بها فكان مثلها .
5653 - حدثني بذلك موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده " مع اصطفائه إياه " بسطة في العلم والجسم " يعني بذلك : بسط له مع ذلك في العلم والجسم .
ذكر من قال ذلك :
5654 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " بعد هذا .
[ ص: 314 ] القول في تأويل قوله ( والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ( 247 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : أن الملك لله وبيده دون غيره " يؤتيه " يقول : يؤتي ذلك من يشاء ، فيضعه عنده ويخصه به ، ويمنعه من أحب من خلقه . يقول : فلا تستنكروا يا معشر الملإ من بني إسرائيل ، أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم ، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة ، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف ، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه ، فلا تتخيروا على الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5655 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : " والله يؤتي ملكه من يشاء " الملك بيد الله يضعه حيث شاء ، ليس لكم أن تختاروا فيه .
5656 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قال : مجاهد : ملكه سلطانه .
5657 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " والله يؤتي ملكه من يشاء " سلطانه .
وأما قوله : " والله واسع عليم " فإنه يعني بذلك " والله واسع " بفضله فينعم به على من أحب ، ويريد به من يشاء " عليم " بمن هو أهل لملكه الذي [ ص: 315 ] يؤتيه ، وفضله الذي يعطيه ، فيعطيه ذلك لعلمه به ، وبأنه لما أعطاه أهل : إما للإصلاح به ، وإما لأن ينتفع هو به .
القول في تأويل قوله ( وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت )
قال أبو جعفر : وهذا الخبر من الله - تعالى ذكره - عن نبيه الذي أخبر عنه به دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم نبيهم بذلك ، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها ، ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به . فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : " والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم " فقالوا له : ما آية ذلك إن كنت من الصادقين ؟ " وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت " . وهذه القصة - وإن كانت خبرا من الله - تعالى ذكره - عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم ، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله ، ونبأ عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته ، ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله من [ ص: 316 ] الجهاد في سبيل الله بالتخلف عنه حين استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه ، وفتح الله على القليل من الفئة ، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه - فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير ، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما أمرهم به ونهاهم عنه مع علمهم بصدقه ، ومعرفتهم بحقيقة نبوته ، بعدما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته ، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي ، مع علمهم بصدقه ، ومعرفتهم بحقية نبوته ، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم ، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم ويجاهدون معه في سبيل ربهم ، ابتداء منهم بذلك نبيهم ، وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك ، وحض لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على الجهاد في سبيله ، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - عند لقائه العدو ، ومناهضته أهل الكفر بالله وبه على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت ، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله ، وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب ، وترك تهيب قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله : ( قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) [ سورة البقرة : 249 ] ، وإعلام منه [ ص: 317 ] - تعالى ذكره - عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشر .
وأما تأويل قوله : " وقال لهم نبيهم " فإنه يعني : للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم : " ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " .
وقوله : " إن آية ملكه " : إن علامة ملك طالوت التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي : إن الله بعثه عليكم ملكا ، وإن كان من غير سبط المملكة " أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوا لهم قدموه أمامهم ، وزحفوا معه ، فلا يقوم لهم معه عدو ، ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم ، حتى ضيعوا أمر الله ، وكثر اختلافهم على أنبيائهم ، فسلبهم الله إياه مرة بعد مرة ، يرده إليهم في كل ذلك ، حتى سلبهم آخرها مرة فلم يرده عليهم ، ولن يرده إليهم آخر الأبد .
ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " وهل كانت بنو إسرائيل سلبوه قبل ذلك فرده الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت ، أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك ، ولكن الله ابتدأهم به ابتداء ؟
فقال بعضهم : بل كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه ، حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به ، ثم رده الله عليهم آية لملك طالوت . وقال في [ ص: 318 ] سبب رده عليهم ما أنا ذاكره وهو ما : -
5658 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه قال : كان لعيلى الذي ربى شمويل ، ابنان شابان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه ، كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه ، فجعله ابناه كلاليب . وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن . فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلى إذ سمع صوتا يقول : أشمويل ! ! فوثب إلى عيلى فقال : لبيك ! ما لك ! دعوتني ؟ فقال : لا ! ارجع فنم ! فرجع فنام ، ثم سمع صوتا آخر يقول : أشمويل ! ! فوثب إلى عيلى - أيضا - فقال : لبيك ! ما لك ! دعوتني ؟ فقال : لم أفعل ، ارجع فنم ، فإن سمعت شيئا فقل : " لبيك " مكانك " مرني فأفعل " ! فرجع فنام ، فسمع صوتا أيضا يقول : أشمويل ! ! فقال : لبيك أنا هذا ! مرني أفعل ! قال : انطلق إلى عيلى فقل له : " منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني ، وأن يعصياني ، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده ، ولأهلكنه وإياهما " ! فلما أصبح سأله عيلى فأخبره ، ففزع لذلك فزعا شديدا . فسار إليهم عدو ممن [ ص: 319 ] حولهم ، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو . فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان وعصا موسى لينصروا به . فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم ، جعل عيلى يتوقع الخبر ماذا صنعوا ؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه : إن ابنيك قد قتلا وإن الناس قد انهزموا ! قال : فما فعل التابوت ؟ قال : ذهب به العدو ! قال : فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات . وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم ، ولهم صنم يعبدونه ، فوضعوه تحت الصنم ، والصنم من فوقه ، فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم . ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت ، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه ، وأصبح ملقى تحت التابوت . فقال بعضهم لبعض : قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء ، فأخرجوه من بيت آلهتكم ! فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم ، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم ، فقالوا : ما هذا ؟ ! فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل : لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم ! فأخرجوه من قريتكم ! قالوا : كذبت ! قالت : إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط ، ثم تضعوا وراءهم العجل ، ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما ، فإنهما تنطلقان به مذعنتين ، حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما ، وأقبلتا إلى أولادهما . ففعلوا ذلك ، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما ، وأقبلتا إلى أولادهما . ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل ، ففزع إليه [ ص: 320 ] بنو إسرائيل وأقبلوا إليه ، فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات . فقال لهم نبيهم شمويل : اعترضوا ، فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه . فعرضوا عليه الناس ، فلم يقدر أحد يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل ، أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما ، وهي أرملة . فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت ، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل .
5659 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له : أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ؟ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، وإن آية ملكه - وإن تمليكه من قبل الله - أن يأتيكم التابوت ، فيرد عليكم الذي فيه من السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو ، وتظهرون به عليه . قالوا : فإن جاءنا التابوت فقد رضينا وسلمنا ! وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل جبل إيليا فيما بينهم وبين مصر ، وكانوا أصحاب أوثان ، وكان فيهم جالوت . وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم ، وقوة في البطش ، وشدة في الحرب ، مذكورا بذلك في الناس . وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين يقال لها : " أزدود " فكانوا قد جعلوا التابوت في [ ص: 321 ] كنيسة فيها أصنامهم . فلما كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان : من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم - جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رءوسها ، وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا ، تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا ، قد أكلت ما في جوفه من دبره . قالوا : تعلمون والله لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم مثله ، وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا ! ! مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة ، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها ! فأخرجوه من بين أظهركم . فدعوا بعجلة فحملوا عليها التابوت ، ثم علقوها بثورين ، ثم ضربوا على جنوبهما ، وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما ، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان قدسا . فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران ، حتى وقف على بني إسرائيل ، فكبروا وحمدوا الله ، وجدوا في حربهم ، واستوسقوا على طالوت .
5660 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : لما قال لهم نبيهم : إن الله اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم - أبوا أن يسلموا له الرياسة ، حتى قال لهم : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " . فقال لهم : أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ! ! [ ص: 322 ] وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها . فنزل فجمع ما بقي فجعله في ذلك التابوت . قال ابن جريج : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه لم يبق من الألواح إلا سدسها . قال : وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت - والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا - فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت ، حتى وضعته عند طالوت . فلما رأوا ذلك قالوا : نعم ! فسلموا له وملكوه . قال : وكان الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين يديهم . ويقولون : إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن . وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة .
5661 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : إن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام " . ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته ، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة . فلما ذهبت المئة ، رد الله إليه روحه ، وقد عمرت ، فهي على حالتها الأولى .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلما أراد أن يرد عليهم التابوت أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم إما دانيال وإما غيره : إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض ، فأخرجوا عنكم هذا التابوت ! قالوا : بآية ماذا ؟ قال : بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملا قط ، فإذا نظرتا [ ص: 323 ] إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشد عليهما ، ثم يشد التابوت على عجل ، ثم يعلق على البقرتين ، ثم يخليان فيسيران حيث يريد الله أن يبلغهما . ففعلوا ذلك ، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فسارت البقرتان سيرا سريعا ، حتى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما ، وقطعتا حبالهما ، وذهبتا . فنزل إليهما داود ومن معه ، فلما رأى داود التابوت حجل إليه فرحا به - فقلنا لوهب : ما حجل إليه ؟ قال : شبيه بالرقص - فقالت له امرأته : لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت ! قال : أتبطئيني عن طاعة ربي ! ! لا تكونين لي زوجة بعد هذا . ففارقها .
وقال آخرون : بل التابوت الذي جعله الله آية لملك طالوت كان في البرية ، وكان موسى - صلى الله عليه وسلم - خلفه عند فتاه يوشع ، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت . [ ص: 324 ]
ذكر من قال ذلك :
5662 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " الآية . كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية ، وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره .
5663 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت " الآية ، قال : كان موسى - فيما ذكر لنا - ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو في البرية . فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت ، فأصبح التابوت في داره .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه : من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه . وذلك أن الله - تعالى ذكره - قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت " و " الألف واللام " لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به . وقد عرفه المخبر والمخبر . فقد علم بذلك أن معنى الكلام : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه ، الذي كنتم تستنصرون به ، فيه سكينة من ربكم . ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره [ ص: 325 ] ومبلغ نفعه قبل ذلك ، لقيل : إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم .
فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع ، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه . وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع ، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما ، وكذلك أمره وأمر الجبارين . وأما فتاه يوشع ، فإن الذين قالوا هذه المقالة زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت . فإن كان الأمر على ما وصفوه فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها ، فجاز أن يقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره ؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا أبين الدلالة على صحة القول الآخر ، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما .
وكانت صفة التابوت فيما بلغنا كما :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(352)
الحلقة (366)
صــ 326 إلى صــ 340
[ ص: 326 ] القول في تأويل قوله ( فيه سكينة من ربكم )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " فيه " في التابوت " سكينة من ربكم " .
واختلف أهل التأويل في معنى " السكينة " .
فقال بعضهم : هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان .
ذكر من قال ذلك :
5665 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال : حدثنا محمد بن جحادة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي وائل ، عن علي بن أبي طالب قال : السكينة ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان .
5666 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الأحوص ، عن علي قال : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، ثم هي ريح هفافة .
5667 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن العوام بن حوشب ، عن سلمة بن كهيل ، عن علي بن أبي طالب في قوله : " فيه سكينة من ربكم " قال : ريح هفافة لها صورة . وقال يعقوب في حديثه : لها وجه . وقال ابن المثنى : كوجه الإنسان .
5668 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سلمة بن كهيل قال : قال علي : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي ريح هفافة . [ ص: 327 ]
5669 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة قال : قال علي : السكينة ريح خجوج ، ولها رأسان .
5670 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك قال : سمعت خالد بن عرعرة ، يحدث عن علي نحوه .
5671 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا شعبة ، وحماد بن سلمة ، وأبو الأحوص ، كلهم عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن علي نحوه .
وقال آخرون : لها رأس كرأس الهرة وجناحان .
ذكر من قال ذلك :
5672 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " فيه سكينة من ربكم " قال : أقبلت السكينة [ والصرد ] وجبريل مع إبراهيم من الشأم قال ابن أبي نجيح ، سمعت مجاهدا يقول : السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان .
5673 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .
5674 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قال : السكينة لها جناحان وذنب . [ ص: 328 ]
5675 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : لها جناحان وذنب مثل ذنب الهرة .
وقال آخرون : بل هي رأس هرة ميتة .
ذكر من قال ذلك :
5677 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه ، عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال : السكينة رأس هرة ميتة ، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر ، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح .
وقال آخرون : إنما هي طست من ذهب من الجنة ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء .
ذكر من قال ذلك :
5678 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : " فيه سكينة من ربكم " قال : طست من ذهب من الجنة ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء .
5679 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فيه سكينة من ربكم " السكينة : طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء ، أعطاها الله موسى ، وفيها وضع الألواح . وكانت الألواح - فيما بلغنا - من در وياقوت وزبرجد .
وقال آخرون : " السكينة " روح من الله تتكلم .
ذكر من قال ذلك :
5680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا بكار [ ص: 329 ] بن عبد الله قال : سألنا وهب بن منبه فقلنا له : السكينة ؟ قال : روح من الله يتكلم ، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون .
5681 - حدثنا محمد بن عسكر قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا بكار بن عبد الله : أنه سمع وهب بن منبه ، فذكر نحوه .
وقال آخرون : " السكينة " ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه .
ذكر من قال ذلك :
5682 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : " فيه سكينة من ربكم " الآية ، قال : أما السكينة فما يعرفون من الآيات ، يسكنون إليها .
وقال آخرون : " السكينة " الرحمة .
ذكر من قال ذلك :
5683 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فيه سكينة من ربكم " أي رحمة من ربكم .
وقال آخرون : " السكينة " هي الوقار .
ذكر من قال ذلك :
5684 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فيه سكينة من ربكم " أي وقار .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى " السكينة " ما قاله عطاء بن أبي رباح : من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي يعرفونها . وذلك أن [ ص: 330 ] " السكينة " في كلام العرب " الفعيلة " من قول القائل : " سكن فلان إلى كذا وكذا " إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه " فهو يسكن سكونا وسكينة " مثل قولك : " عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة " " وقضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية " ومنه قول الشاعر :
لله قبر غالها ! ماذا يجن ؟ لقد أجن سكينة ووقارا
وإذا كان معنى " السكينة " ما وصفت ، فجائز أن يكون ذلك على ما قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه ، وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه ، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه وما قاله السدي ؛ لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس ، وتثلج بهن الصدور . وإذا كان معنى " السكينة " ما وصفنا ، فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت ، التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها ، إنما هي مسماة بالفعل وهي غيره ، لدلالة الكلام عليه .
القول في تأويل قوله ( وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " وبقية " الشيء الباقي ، من قول القائل : " قد بقي من هذا الأمر بقية " وهي " فعيلة " منه ، نظير " السكينة " من " سكن " . [ ص: 331 ]
وقوله : " مما ترك آل موسى وآل هارون " يعني به : من تركة آل موسى ، وآل هارون .
واختلف أهل التأويل في " البقية " التي كانت بقيت من تركتهم .
فقال بعضهم : كانت تلك " البقية " عصا موسى ورضاض الألواح .
ذكر من قال ذلك :
5685 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود ، عن عكرمة قال : أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : رضاض الألواح .
5686 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال : حدثنا بشر قال : حدثنا داود ، عن عكرمة قال داود : وأحسبه عن ابن عباس مثله .
5687 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا أبو الوليد قال : حدثنا حماد ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الآية : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : عصا موسى ورضاض الألواح .
5688 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : فكان في التابوت عصا موسى ورضاض الألواح ، فيما ذكر لنا .
5689 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : البقية عصا موسى ورضاض الألواح .
5690 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، أما البقية ، فإنها عصا موسى [ ص: 332 ] ورضاضة الألواح .
5691 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " عصا موسى وأثور من التوراة .
5692 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة في هذه الآية : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : التوراة ورضاض الألواح والعصا قال إسحاق ، قال وكيع : ورضاضه كسره .
5693 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : رضاض الألواح .
وقال آخرون : بل تلك " البقية " عصا موسى وعصا هارون ، وشيء من الألواح .
ذكر من قال ذلك :
5694 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي صالح : " أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : كان فيه عصا موسى وعصا هارون ، ولوحان من التوراة ، والمن . [ ص: 333 ]
5695 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : عصا موسى ، وعصا هارون ، وثياب موسى ، وثياب هارون ، ورضاض الألواح .
وقال آخرون : بل هي العصا والنعلان .
ذكر من قال ذلك :
5696 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : سألت الثوري عن قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : منهم من يقول : البقية قفيز من من ورضاض الألواح ، ومنهم من يقول : العصا والنعلان .
وقال آخرون : بل كان ذلك العصا وحدها .
ذكر من قال ذلك :
5697 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا بكار بن عبد الله قال : قلنا لوهب بن منبه : ما كان فيه ؟ يعني في التابوت قال : كان فيه عصا موسى والسكينة .
وقال آخرون : بل كان ذلك ، رضاض الألواح وما تكسر منها .
ذكر من قال ذلك :
5698 - حدثنا القاسم قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال : كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها ، فجعل الباقي في ذلك التابوت . [ ص: 334 ]
5699 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " [ قال ] العلم والتوراة .
وقال آخرون : بل ذلك الجهاد في سبيل الله .
ذكر من قال ذلك :
5700 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " يعني ب " البقية " القتال في سبيل الله ، وبذلك قاتلوا مع طالوت ، وبذلك أمروا .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه - صلى الله عليه - الذي قال لأمته : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " أن فيه سكينة منه وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون . وجائز أن يكون تلك البقية : العصا ، وكسر الألواح والتوراة ، أو بعضها ، والنعلين ، والثياب ، والجهاد في سبيل الله . وجائز أن يكون بعض ذلك ، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة ، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم . ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا . وإذ كان كذلك ، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره ، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول .
[ ص: 335 ] القول في تأويل قوله ( تحمله الملائكة )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت .
فقال بعضهم : معنى ذلك : تحمله بين السماء والأرض ، حتى تضعه بين أظهرهم .
ذكر من قال ذلك :
5701 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه ، حتى وضعته عند طالوت .
5702 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : لما قال لهم - يعني - النبي لبني إسرائيل : " والله يؤتي ملكه من يشاء " . قالوا : فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا ! ما هو إلا لهواك فيه ! قال : إن كنتم قد كذبتموني واتهمتموني ، فإن آية ملكه : " أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " الآية . قال : فنزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا ، حتى وضعوه بين أظهرهم ، فأقروا غير راضين ، وخرجوا ساخطين ، وقرأ حتى بلغ : " والله مع الصابرين " .
5703 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما قال لهم نبيهم : " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم " قالوا : فإن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك ! قال : " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة " . وأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت ، فآمنوا بنبوة شمعون ، وسلموا ملك طالوت .
5704 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 336 ] معمر ، عن قتادة في قوله : " تحمله الملائكة " قال : تحمله حتى تضعه في بيت طالوت .
وقال آخرون : معنى ذلك : تسوق الملائكة الدواب التي تحمله .
ذكر من قال ذلك :
5705 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن بعض أشياخه قال : تحمله الملائكة على عجلة على بقرة .
5706 - حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه يقول : وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما ، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا ، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : " حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل " . وذلك أن الله - تعالى ذكره - قال : " تحمله الملائكة " ولم يقل : تأتي به الملائكة . وما جرته البقر على عجل - وإن كانت الملائكة هي سائقتها - فهي غير حاملته ؛ لأن " الحمل " المعروف هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل ، فأما ما حمله على غيره - وإن كان جائزا في اللغة أن يقال " حمله " بمعنى معونته الحامل ، وبأن حمله كان عن سببه - فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه ، في تعارف الناس إياه [ ص: 337 ] بينهم . وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات ، أولى من توجيهه إلى الأنكر ، ما وجد إلى ذلك سبيل .
القول في تأويل قوله ( إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ( 248 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل : إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة " لآية لكم " يعني : لعلامة لكم ودلالة - أيها الناس - على صدقي فيما أخبرتكم أن الله بعث لكم طالوت ملكا ، إن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم ، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك " إن كنتم مؤمنين " يعني بذلك : إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه .
وإنما قلنا ذلك معناه ؛ لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " بقولهم : " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه " وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه . فإذ كان ذلك منهم كفرا ،
فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار : لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله . ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه ؛ لأنهم سألوا الآية [ ص: 338 ] على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه . فقال لهم : في مجيء التابوت - على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به .
القول في تأويل قوله تعالى ( فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم )
قال أبو جعفر : وفي هذا الخبر من الله - تعالى ذكره - متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره . ومعنى الكلام : " إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين " فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ، فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم ، وأذعنوا له بذلك . يدل على ذلك قوله : " فلما فصل طالوت بالجنود " . وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له ؛ لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك ، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها .
وأما قوله : " فصل " فإنه يعني به : شخص بالجند ورحل بهم .
وأصل " الفصل " القطع ، يقال منه : " فصل الرجل من موضع كذا وكذا " يعني به قطع ذلك ، فجاوزه شاخصا إلى غيره " يفصل فصولا " " وفصل العظم والقول من غيره ، فهو يفصله فصلا " إذا قطعه فأبانه ، " وفصل الصبي فصالا " إذا قطعه عن اللبن . " وقول فصل " يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد . [ ص: 339 ]
وقيل : إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل ، لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته ، أو كبير لهرمه ، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه .
ذكر من قال ذلك :
5707 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : خرج بهم طالوت حين استوثقوا له ، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة ، أو ضرير معذور ، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها .
5708 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون ، وسلموا ملك طالوت ، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا .
قال أبو جعفر : فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا ، قال : " إن الله مبتليكم بنهر " يقول : إن الله مختبركم بنهر ، ليعلم كيف طاعتكم له .
وقد دللنا على أن معنى " الابتلاء " الاختبار فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول .
5709 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قول الله تعالى : " إن الله مبتليكم بنهر " قال : إن الله يبتلي خلقه بما يشاء ؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . [ ص: 340 ]
وقيل : إن طالوت قال : " إن الله مبتليكم بنهر " لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم ، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا ، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله : " إن الله مبتليكم بنهر " .
ذكر من قال ذلك :
5710 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : لما فصل طالوت بالجنود قالوا : إن المياه لا تحملنا ، فادع الله لنا يجر لنا نهرا ! فقال لهم طالوت : " إن الله مبتليكم بنهر " الآية .
" والنهر " الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به ، قيل : هو نهر بين الأردن وفلسطين .
ذكر من قال ذلك :
5712 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : " إن الله مبتليكم بنهر ، قال الربيع : ذكر لنا - والله أعلم - أنه نهر بين الأردن وفلسطين .
5712 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إن الله مبتليكم بنهر " قال : ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين .
5713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " إن الله مبتليكم بنهر " قال : هو نهر بين الأردن وفلسطين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(353)
الحلقة (367)
صــ 341 إلى صــ 360
5714 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس : فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت ، قال طالوت لبني إسرائيل : " إن الله مبتليكم بنهر " قال : نهر بين فلسطين والأردن ، نهر عذب الماء طيبه . [ ص: 341 ]
وقال آخرون : بل هو نهر فلسطين .
ذكر من قال ذلك :
5715 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " إن الله مبتليكم بنهر " فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل ، نهر فلسطين .
5716 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الله مبتليكم بنهر " هو نهر فلسطين .
وأما قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم " . فإنه خبر من الله - تعالى ذكره - عن طالوت بما قال لجنوده ، إذ شكوا إليه العطش ، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر ، ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر ، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه يعني بذلك : أنه ليس من أهل ولايته وطاعته ، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه . ويدل على أن ذلك كذلك قول الله - تعالى ذكره - : ( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه ) ، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا ، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله : ( قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) ، وأخبرهم أنه من لم يطعمه يعني : من لم يطعم الماء من ذلك النهر . " والهاء " في قوله : " فمن شرب منه " وفي قوله : " ومن لم يطعمه " عائدة على " النهر " [ ص: 342 ] والمعنى لمائه . وإنما ترك ذكر " الماء " اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك أن المراد به الماء الذي فيه .
ومعنى قوله : " لم يطعمه " لم يذقه ، يعني : ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني يقول : هو من أهل ولايتي وطاعتي ، والمؤمنين بالله وبلقائه . ثم استثنى من " من " في قوله : " ومن لم يطعمه " المغترفين بأيديهم غرفة ، فقال : ومن لم يطعم ماء ذلك النهر إلا غرفة يغترفها بيده ، فإنه مني .
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : " إلا من اغترف غرفة بيده " .
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة : ( غرفة ) بنصب " الغين " من " الغرفة " بمعنى الغرفة الواحدة ، من قولك ، " اغترفت غرفة " " والغرفة " " والغرفة " هي الفعل [ ص: 343 ] بعينه من " الاغتراف " .
وقرأه آخرون بالضم ، بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف . ف " الغرفة " الاسم " و " الغرفة " المصدر .
وأعجب القراءتين في ذلك إلي ، ضم " الغين " في " الغرفة " بمعنى : إلا من اغترف كفا من ماء لاختلاف " غرفة " إذا فتحت غينها وما هي له مصدر . وذلك أن مصدر " اغترف " " اغترافة " وإنما " غرفة " مصدر : " غرفت " . فلما كانت : " غرفة " مخالفة مصدر " اغترف " كانت " الغرفة " التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا ، أشبه منها ب " الغرفة " التي هي بمعنى الفعل .
قال أبو جعفر : وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء ، فكان من شرب منه عطش ، ومن اغترف غرفة روي .
ذكر من قال ذلك :
5717 - حدثني بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم " فشرب القوم على قدر يقينهم . أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون ، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه .
5718 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده " قال : كان الكفار يشربون فلا يروون ، وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك . [ ص: 344 ]
5719 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم " يعني المؤمنين منهم . وكان القوم كثيرا ، فشربوا منه إلا قليلا منهم يعني المؤمنين منهم . كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه .
5720 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت ، آمنوا بنبوة شمعون ، وسلموا ملك طالوت ، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا . وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا ، فخرج يسير بين يدي الجند ، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي . فلما خرجوا قال لهم طالوت : " إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني " فشربوا منه هيبة من جالوت ، فعبر منهم أربعة آلاف ، ورجع ستة وسبعون ألفا ، فمن شرب منه عطش ، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي .
5721 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود ، فقال : لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد . فلم يتخلف عنه مؤمن ، ولم يتبعه منافق . رجعوا كفارا ؛ لكذبهم في قيلهم إذ قالوا : " لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير " . وذلك [ ص: 345 ] أنه قال لهم : " إن الله مبتليكم بنهر " الآية فقالوا : لن نمس من هذا غرفة ولا غير غرفة قال : وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم ، وفضل منهم . قال : والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها .
5722 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس في قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده " فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه . فمن اغترف غرفة وأطاعه روي لطاعته . ومن شرب فأكثر عصى فلم يرو لمعصيته .
5723 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في حديث ذكره عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه في قوله : " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده " يقول الله - تعالى ذكره - : " فشربوا منه إلا قليلا منهم " وكان - فيما يزعمون - من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه ، ومن لم يطعمه إلا كما أمر غرفة بيده ، أجزاه وكفاه .
القول في تأويل قوله تعالى ( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " فلما جاوزه هو " فلما جاوز النهر طالوت . " والهاء " في " جاوزه " عائدة على النهر وهو كناية [ ص: 346 ] اسم طالوت . وقوله : " والذين آمنوا معه " يعني : وجاوز النهر معه الذين آمنوا . قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده .
ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ ، ومن قال منهم : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " .
فقال بعضهم : كانت عدتهم عدة أهل بدر : ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا .
ذكر من قال ذلك :
5724 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال : حدثنا مصعب بن المقدام وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قالا جميعا : حدثنا إسرائيل قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه ، ولم يجز معه إلا مؤمن : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا .
5725 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : كنا نتحدث أن أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت : ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر . [ ص: 347 ]
5726 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه ، وما جاز معه إلا مؤمن .
5727 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بنحوه .
5728 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كنا نتحدث أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر ، وما جاوز معه إلا مسلم .
5729 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن البراء مثله .
5730 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يوم بدر : أنتم بعدة [ ص: 348 ] أصحاب طالوت يوم لقي . وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا .
5731 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : محص الله الذين آمنوا عند النهر ، وكانوا ثلاثمائة ، وفوق العشرة ودون العشرين ، فجاء داود - صلى الله عليه وسلم - فأكمل به العدة .
وقال آخرون : بل جاوز معه النهر أربعة آلاف ، وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق ، حين لقوا جالوت .
ذكر من قال ذلك :
5732 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت ، رجعوا أيضا وقالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " . فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، وخلص في ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر .
5733 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : لما جاوزه هو والذين آمنوا معه ، قال الذين شربوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي ; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة ، والكافر الذي شرب منه الكثير . ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت [ ص: 349 ] ولقائه ، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق وهم الذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم ، وهم أهل الثبات على الإيمان ، فقالوا : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " .
فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم ، ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة ؛ لأن الله - تعالى ذكره - قال : " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه " فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب ؛ ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان ، لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان - أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر ، وأخبر الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن المؤمنين بالمجاوزة ؛ لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر ، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين .
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول الله - تعالى ذكره - : " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " فأوجب الله - تعالى ذكره - أن " الذين يظنون أنهم ملاقو الله " هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو [ ص: 350 ] الله - وأن " الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله " هم الذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " . وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله ، أو شك فيه .
القول في تأويل قوله تعالى ( قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ( 249 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين أعني القائلين : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " والقائلين : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " من هما ؟
فقال بعضهم : الفريق الذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " هم أهل كفر بالله ونفاق ، وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده ؛ لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه ، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر .
ذكر من قال ذلك :
5734 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي بذلك .
وهو قول ابن عباس . وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا .
5735 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 351 ] ابن جريج : " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله " الذين اغترفوا وأطاعوا ، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون ، وجلس الذين شكوا .
وقال آخرون : كلا الفريقين كان أهل إيمان ، ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة ، بل كانوا جميعا أهل طاعة ، ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض . وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " . والآخرون كانوا أضعف يقينا . وهم الذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " .
ذكر من قال ذلك :
5736 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " ويكون [ والله ] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض ، وهم مؤمنون كلهم .
5737 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : أنتم بعدة أصحاب طالوت : ثلاثمائة . قال قتادة : وكان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر .
5438 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا ، وهم الذين قالوا : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " .
ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب : أنه لم يجاوز النهر مع طالوت [ ص: 352 ] إلا عدة أصحاب بدر - أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج ، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا .
وأما تأويل قوله : " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله " فإنه يعني : قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله .
5739 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله " الذين يستيقنون .
فتأويل الكلام : قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله للذين قالوا : " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " " كم من فئة قليلة " يعني ب " كم " كثيرا ، غلبت فئة قليلة " فئة كثيرة بإذن الله " يعني : بقضاء الله وقدره " والله مع الصابرين " يقول : مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته .
وقد أتينا على البيان عن وجوه " الظن " وأن أحد معانيه : العلم واليقين ، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى ، فكرهنا إعادته .
وأما " الفئة " فإنهم الجماعة من الناس ، لا واحد له من لفظه ، وهو مثل " الرهط " و " النفر " يجمع " : فئات " و " فئون " في الرفع ، و " فئين " في [ ص: 353 ] النصب والخفض ، بفتح نونها في كل حال . " وفئين " بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها ، وفي النصب " فئينا " وفي الخفض " فئين " فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها . وفي كل ذلك مقرة فيها " الياء " على حالها . فإن أضيفت قيل : " هؤلاء فئينك " بإقرار النون وحذف التنوين ، كما قال الذين لغتهم : " هذه سنين " في جمع " السنة " : " هذه سنينك " بإثبات النون وإعرابها وحذف التنوين منها للإضافة . وكذلك العمل في كل منقوص مثل " مئة " " وثبة " " وقلة " " وعزة " : فأما ما كان نقصه من أوله ، فإن جمعه بالتاء ، مثل " عدة وعدات " و " صلة وصلات " .
وأما قوله : " والله مع الصابرين " فإنه يعني : والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته ، وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله ، المخالفين منهاج دينه .
وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره : " هو معه " بمعنى هو معه بالعون له والنصرة .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( 250 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " ولما برزوا لجالوت وجنوده " ولما برز طالوت وجنوده لجالوت وجنوده . [ ص: 354 ]
ومعنى قوله : " برزوا " صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر منها واستوى . ولذلك قيل للرجل القاضي حاجته : " تبرز " لأن الناس قديما في الجاهلية إنما كانوا يقضون حاجتهم في البراز من الأرض . وذلك كما قيل : " تغوط " ؛ لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في " الغائط " من الأرض ، وهو المطمئن منها ، فقيل للرجل : " تغوط " أي صار إلى الغائط من الأرض .
وأما قوله : " ربنا أفرغ علينا صبرا " فإنه يعني أن طالوت وأصحابه قالوا : " ربنا أفرغ علينا صبرا " يعني أنزل علينا صبرا .
وقوله : " وثبت أقدامنا " يعني : وقو قلوبنا على جهادهم ؛ لتثبت أقدامنا فلا نهزم عنهم " وانصرنا على القوم الكافرين " الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك ، واتخذوا الأوثان أربابا .
القول في تأويل قوله تعالى ( فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " فهزموهم " فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت ، وقتل داود جالوت .
وفي هذا الكلام متروك ، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه . وذلك أن معنى الكلام : " ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " [ ص: 355 ] فاستجاب لهم ربهم ، فأفرغ عليهم صبره وثبت أقدامهم ، ونصرهم على القوم الكافرين " فهزموهم بإذن الله " ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله : " فهزموهم بإذن الله " على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به .
ومعنى قوله : " فهزموهم بإذن الله " فلوهم بقضاء الله وقدره . يقال منه : " هزم القوم الجيش هزيمة وهزيمى " .
" وقتل داود جالوت " . وداود هذا هو داود بن إيشى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - . وكان سبب قتله إياه كما : -
5740 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا بكار بن عبد الله قال : سمعت وهب بن منبه يحدث قال : لما خرج أو قال : لما برز طالوت لجالوت ، قال جالوت : أبرزوا إلي من يقاتلني ، فإن قتلني فلكم ملكي ، وإن قتلته فلي ملككم ! فأتي بداود إلى طالوت ، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته ، وأن يحكمه في ماله . فألبسه طالوت سلاحا ، فكره داود أن يقاتله بسلاح ، وقال : إن الله لم ينصرني عليه لم يغن السلاح ! فخرج إليه بالمقلاع ، وبمخلاة فيها أحجار ، ثم برز له . قال له جالوت : أنت تقاتلني ! ! قال داود : [ ص: 356 ] نعم ! قال : ويلك ! ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة ! لأبددن لحمك ، ولأطعمنه اليوم الطير والسباع ! فقال له داود : بل أنت عدو الله شر من الكلب ! فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع ، فأصابت بين عينيه حتى نفذ في دماغه ، فصرع جالوت وانهزم من معه ، واحتز داود رأسه . فلما رجعوا إلى طالوت ، ادعى الناس قتل جالوت ، فمنهم من يأتي بالسيف ، وبالشيء من سلاحه أو جسده ، وخبأ داود رأسه . فقال طالوت : من جاء برأسه فهو الذي قتله ! فجاء به داود ، ثم قال لطالوت : أعطني ما وعدتني ! فندم طالوت على ما كان شرط له ، وقال : إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع ، فاحتمل صداقها ثلاثمائة غلفة من أعدائنا . وكان يرجو بذلك أن يقتل داود . فغزا داود وأسر منهم ثلاثمائة وقطع غلفهم ، وجاء بها . فلم يجد طالوت بدا من أن يزوجه ، ثم أدركته الندامة . فأراد قتل داود حتى هرب منه إلى الجبل ، فنهض إليه طالوت فحاصره . فلما كان ذات ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه ، فهبط إليهم داود فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ ، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه ، ثم رجع داود إلى مكانه فناداه : أن [ قد نمت ونام ] حرسك ، فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت ، [ ص: 357 ] فإنه هذا إبريقك ، وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك ! وبعث [ به ] إليه ، فعلم طالوت أنه لو شاء قتله ، فعطفه ذلك عليه فأمنه ، وعاهده بالله لا يرى منه بأسا ، ثم انصرف . ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدس لقتله . وكان طالوت لا يقاتل عدوا إلا هزم ، حتى مات . قال بكار : وسئل وهب وأنا أسمع : أنبيا كان طالوت يوحى إليه ؟ فقال : لم يأته وحي ، ولكن كان معه نبي يقال له أشمويل يوحى إليه ، وهو الذي ملك طالوت .
5741 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان داود النبي وإخوة له أربعة ، معهم أبوهم شيخ كبير ، فتخلف أبوهم ، وتخلف معه داود من بين إخوته في غنم أبيه يرعاها له ، وكان من أصغرهم . وخرج إخوته الأربعة مع طالوت ، فدعاه أبوه وقد تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض .
قال ابن إسحاق : وكان داود فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب بن منبه : رجلا قصيرا أزرق ، قليل شعر الرأس ، وكان طاهر القلب نقيه . فقال له أبوه : يا بني ، إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوون به على عدوهم ، فاخرج به إليهم ، فإذا دفعته إليهم فأقبل إلي سريعا ! فقال : أفعل . فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته ، ومعه مخلاته التي يحمل فيها الحجارة ، ومقلاعه الذي كان يرمي به عن غنمه . حتى إذا فصل من عند أبيه ، فمر بحجر فقال : يا داود ! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت ، فإني حجر يعقوب ! فأخذه فجعله في مخلاته ومشى ، فبينا هو يمشي إذ مر بحجر آخر فقال : يا داود خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي [ ص: 358 ] جالوت ، فإني حجر إسحاق ! فأخذه فجعله في مخلاته ، ثم مضى . فبينا هو يمشي إذ مر بحجر فقال : يا داود ! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت ، فإني حجر إبراهيم ! فأخذه فجعله في مخلاته . ثم مضى بما معه حتى انتهى إلى القوم ، فأعطى إخوته ما بعث إليهم معه . وسمع في العسكر خوض الناس بذكر جالوت وعظم شأنه فيهم ، وبهيبة الناس إياه ، وبما يعظمون من أمره ، فقال لهم : والله إنكم لتعظمون من أمر هذا العدو شيئا ما أدري ما هو ! ! والله إني لو أراه لقتلته ! فأدخلوني على الملك . فأدخل على الملك طالوت ، فقال : أيها الملك ، إني أراكم تعظمون شأن هذا العدو ! والله إني لو أراه لقتلته ! فقال : يا بني ! ما عندك من القوة على ذلك ؟ وما جربت من نفسك ؟ قال : قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه ، فآخذ برأسه ، فأفك لحييه عنها ، فآخذها من فيه ، فادع لي بدرع حتى ألقيها علي . فأتي بدرع فقذفها في عنقه ، ومثل فيها ملء عين طالوت ونفسه ومن حضره من بني إسرائيل ، فقال طالوت : والله لعسى الله أن يهلكه به ! فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت ، فلما التقى الناس قال داود : أروني جالوت ! فأروه إياه على فرس عليه لأمته ، فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته ، فيقول هذا : خذني ! ويقول هذا : خذني ! ويقول هذا : خذني ! فأخذ أحدها فجعله في مقذافه ، ثم فتله به ، ثم أرسله ، فصك [ ص: 359 ] به بين عيني جالوت فدمغه ، وتنكس عن دابته ، فقتله . ثم انهزم جنده ، وقال الناس : قتل داود جالوت ! وخلع طالوت وأقبل الناس على داود مكانه ، حتى لم يسمع لطالوت بذكر إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داود ، هم بأن يغتال داود وأراد قتله ، فصرف الله ذلك عنه وعن داود ، وعرف خطيئته ، والتمس التوبة منها إلى الله .
وقد روي عن وهب بن منبه في أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتين اللتين ذكرنا قبل وهو ما : -
5742 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهب بن منبه قال : لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت ، أوحي إلى نبي بني إسرائيل : أن قل لطالوت فليغز أهل مدين ، فلا يترك فيها حيا إلا قتله ، فإني سأظهره عليهم . فخرج بالناس حتى أتى مدين ، فقتل من كان فيها إلا ملكهم فإنه أسره ، وساق مواشيهم . فأوحى الله إلى أشمويل : ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه ، فجاء بملكهم أسيرا ، وساق مواشيهم ! فالقه فقل له : لأنزعن الملك من بيته ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة ، فإني إنما أكرم من أطاعني ، وأهين من هان [ ص: 360 ] عليه أمري ! فلقيه فقال له : ما صنعت ! ! لم جئت بملكهم أسيرا ، ولم سقت مواشيهم ؟ قال : إنما سقت المواشي لأقربها . قال له أشمويل : إن الله قد نزع من بيتك الملك ، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة ! فأوحى الله إلى أشمويل : أن انطلق إلى إيشى ، فيعرض عليك بنيه ، فادهن الذي آمرك بدهن القدس ، يكن ملكا على بني إسرائيل . فانطلق حتى أتى إيشى فقال : اعرض علي بنيك ! فدعا إيشى أكبر ولده ، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر ، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه فقال : الحمد لله ، إن الله لبصير بالعباد ! فأوحى الله إليه : إن عينيك يبصران ما ظهر ، وإني أطلع على ما في القلوب ، ليس بهذا ! فقال : ليس بهذا ، اعرض علي غيره ، فعرض عليه ستة في كل ذلك يقول : ليس بهذا . فقال : هل لك من ولد غيرهم ؟ فقال : بلى ! لي غلام أمغر ، وهو راع في الغنم . فقال : أرسل إليه . فلما أن جاء داود ، جاء غلام أمغر ، فدهنه بدهن القدس وقال لأبيه : اكتم هذا ، فإن طالوت لو يطلع عليه قتله . فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل ، فعسكر ، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر ، وتهيئوا للقتال . فأرسل جالوت إلى طالوت : لم يقتل قومي وقومك ؟ ابرز لي ، أو أبرز لي من شئت ، فإن قتلتك كان الملك لي ، وإن قتلتني كان الملك لك . فأرسل طالوت في عسكره صائحا : من يبرز لجالوت ، فإن قتله فإن الملك ينكحه ابنته ، ويشركه في ملكه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(354)
الحلقة (368)
صــ 361 إلى صــ 380
.فأرسل إيشى داود إلى إخوته . قال الطبري : هو أيشى ، ولكن قال المحدث : [ ص: 361 ] إشى وكانوا في العسكر فقال : اذهب فزود إخوتك ، وأخبرني خبر الناس ماذا صنعوا ؟ فجاء إلى إخوته وسمع صوتا : إن الملك يقول : من يبرز لجالوت ! فإن قتله أنكحه الملك ابنته . فقال داود لإخوته : ما منكم رجل يبرز لجالوت فيقتله وينكح ابنة الملك ؟ فقالوا : إنك غلام أحمق ! ومن يطيق جالوت ، وهو من بقية الجبارين ! ! فلما لم يرهم رغبوا في ذلك قال : فأنا أذهب فأقتله ! فانتهروه وغضبوا عليه ، فلما غفلوا عنه ذهب حتى جاء الصائح فقال : أنا أبرز لجالوت ! فذهب به إلى الملك ، فقال له : لم يجبني أحد إلا غلام من بني إسرائيل ، هو هذا ! قال : يا بني ، أنت تبرز لجالوت فتقاتله ! قال : نعم . قال : وهل آنست من نفسك شيئا ؟ قال : نعم ، كنت راعيا في الغنم فأغار علي الأسد ، فأخذت بلحييه ففككتهما . فدعا له بقوس وأداة كاملة ، فلبسها وركب الفرس ، ثم سار منهم قريبا ، ثم صرف فرسه ، فرجع إلى الملك ، فقال الملك ومن حوله : جبن الغلام ! فجاء فوقف على الملك ، فقال : ما شأنك ؟ قال داود : إن لم يقتله الله لي ، لم يقتله هذا الفرس وهذا السلاح ! فدعني فأقاتل كما أريد . فقال : نعم يا بني . فأخذ داود مخلاته فتقلدها ، وألقى فيها أحجارا ، وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى به ، ثم مضى نحو جالوت . فلما دنا من عسكره قال : أين جالوت يبرز لي ؟ فبرز له على فرس عليه السلاح كله ، فلما رآه جالوت قال : إليك أبرز ؟ ! قال نعم . قال : فأتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى إلى الكلب ! قال : هو ذاك . قال : لا جرم أني سوف أقسم لحمك بين طير السماء وسباع الأرض ! قال داود : أو يقسم الله لحمك ! فوضع داود حجرا في مقلاعه ثم دوره فأرسله نحو جالوت ، فأصاب أنف البيضة التي على جالوت حتى خالط دماغه ، فوقع من فرسه . فمضى داود إليه فقطع [ ص: 362 ] رأسه بسيفه ، فأقبل به في مخلاته ، وبسلبه يجره ، حتى ألقاه بين يدي طالوت ، ففرحوا فرحا شديدا . وانصرف طالوت ، فلما كان داخل المدينة سمع الناس يذكرون داود ، فوجد في نفسه . فجاءه داود فقال : أعطني امرأتي ! فقال : أتريد ابنة الملك بغير صداق ؟ فقال داود : ما اشترطت علي صداقا ، وما لي من شيء ! ! قال : لا أكلفك إلا ما تطيق ، أنت رجل جريء ، وفي جبالنا هذه جراجمة يحتربون الناس ، وهم غلف ، فإذا قتلت منهم مائتي رجل فأتني بغلفهم . فجعل كلما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيط ، حتى نظم مائتي غلفة . ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى بها إليه فقال : ادفع إلي امرأتي ، قد جئت بما اشترطت . فزوجه ابنته ، وأكثر الناس ذكر داود ، وزاده عند الناس عجبا . فقال طالوت لابنه : لتقتلن داود ! قال : سبحان الله ، ليس بأهل ذلك منك ! قال : إنك غلام أحمق ! ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بيتك من الملك ! فلما سمع ذلك من أبيه انطلق إلى أخته فقال لها : إني قد خفت أباك أن يقتل زوجك داود ، فمريه أن يأخذ حذره ويتغيب منه . فقالت له امرأته ذلك ، فتغيب . فلما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود ، وقد صنعت امرأته على فراشه كهيئة النائم ولحفته . فلما جاء [ ص: 363 ] رسول طالوت قال : أين داود ؟ ليجب الملك ! فقالت له : بات شاكيا ونام الآن ، ترونه على الفراش . فرجعوا إلى طالوت فأخبروه ذلك ، فمكث ساعة ثم أرسل إليه ، فقالت : هو نائم لم يستيقظ بعد . فرجعوا إلى الملك فقال : ائتوني به وإن كان نائما ! فجاءوا إلى الفراش فلم يجدوا عليه أحدا ، فجاءوا الملك فأخبروه ، فأرسل إلى ابنته فقال : ما حملك على أن تكذبين ؟ قالت : هو أمرني بذلك ، وخفت إن لم أفعل أمره أن يقتلني ! وكان داود فارا في الجبل حتى قتل طالوت وملك داود بعده .
5743 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان طالوت أميرا على الجيش ، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته ، فقال داود لطالوت : ماذا لي فأقتل جالوت ؟ قال : لك ثلث ملكي ، وأنكحك ابنتي . فأخذ مخلاته ، فجعل فيها ثلاث مروات ، ثم سمى حجارته تلك : " إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب " ثم أدخل يده فقال : باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ! فخرج على " إبراهيم " فجعله في مرجمته ، فخرقت ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه ، وقتلت ثلاثين ألفا من ورائه .
5744 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر ، مع ثلاثة عشر ابنا له ، وكان داود أصغر بنيه . فأتاه ذات يوم فقال : يا أبتاه ، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته ! فقال : أبشر يا بني ! فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك . ثم أتاه مرة أخرى فقال : يا أبتاه ، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا ، فركبت عليه فأخذت بأذنيه ، فلم يهجني ! قال : أبشر يا بني ! فإن هذا خير يعطيكه [ ص: 364 ] الله . ثم أتاه يوما آخر فقال : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح ، فما يبقى جبل إلا سبح معي ! فقال : أبشر يا بني ! فإن هذا خير أعطاكه الله . وكان داود راعيا ، وكان أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام . فأتى النبي [ عليه السلام ] بقرن فيه دهن وسنور من حديد ، فبعث به إلى طالوت فقال : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي حتى يدهن منه ، ولا يسيل على وجهه ، يكون على رأسه كهيئة الإكليل ، ويدخل في هذا السنور فيملأه . فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم به ، فلم يوافقه منهم أحد . فلما فرغوا ، قال طالوت لأبي داود : هل بقي لك من ولد لم يشهدنا ؟ قال : نعم ! بقي ابني داود ، وهو يأتينا بطعام . فلما أتاه داود ، مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له : خذنا يا داود تقتل بنا جالوت ! قال : فأخذهن فجعلهن في مخلاته . وكان طالوت قال : من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي . فلما جاء داود ، وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه ، ولبس السنور فملأه وكان رجلا مسقاما مصفارا ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه . فلما لبسه داود [ ص: 365 ] تضايق الثوب عليه حتى تنقض . ثم مشى إلى جالوت وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه ، فقال له : يا فتى ! ارجع ، فإني أرحمك أن أقتلك ! قال داود : لا بل أنا أقتلك ! فأخرج الحجارة فجعلها في القذافة ، كلما رفع حجرا سماه ، فقال : هذا باسم أبي إبراهيم ، والثاني باسم أبي إسحاق ، والثالث باسم أبي إسرائيل . ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا ، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت ، فنقبت رأسه فقتلته ، ثم لم تزل تقتل كل إنسان تصيبه ، تنفذ منه حتى لم يكن يحيا لها أحد . فهزموهم عند ذلك ، وقتل داود جالوت ، ورجع طالوت ، فأنكح داود ابنته ، وأجرى خاتمه في ملكه . فمال الناس إلى داود فأحبوه . فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده ، فأراد قتله . فعلم به داود أنه يريد به ذلك ، فسجى له زق خمر في مضجعه ، فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود ، فضرب الزق ضربة فخرقه ، فسالت الخمر منه ، فوقعت قطرة من خمر في فيه ، فقال : يرحم الله داود ! ما كان أكثر شربه للخمر . ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم ، فوضع سهمين عند رأسه ، وعند رجليه ، وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين ، ثم نزل . فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها ، فقال : يرحم الله داود ! هو خير مني ، ظفرت به فقتلته ، وظفر بي فكف عني ! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية [ ص: 366 ] وطالوت على فرس ، فقال طالوت : اليوم أقتل داود ! وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ، ففزع داود فاشتد فدخل غارا ، وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا . فلما انتهى طالوت إلى الغار ، نظر إلى بناء العنكبوت فقال : لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت ! ! فخيل إليه ، فتركه .
5745 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل معه مخلاة فيها ثلاثة أحجار . وإن جالوت برز لهم فنادى : ألا رجل لرجل ! فقال طالوت : من يبرز له ؟ وإلا برزت له ؟ فقام داود فقال : أنا ! فقام له طالوت فشد عليه درعه ، فجعل يراه يشخص فيها ويرتفع ، فعجب من ذلك طالوت ، فشد عليه أداته كلها وإن داود رماهم بحجر من تلك الحجارة ، فأصاب في القوم ، ثم رمى الثانية بحجر ، فأصاب فيهم ، ثم رمى الثالثة فقتلجالوت . فآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ، وصار هو الرئيس عليهم ، وأعطوه الطاعة .
5746 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني ابن زيد في قول الله - تعالى ذكره - : ( ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل ) ، فقرأ حتى بلغ : ( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ) قال : أوحى الله إلى نبيهم : إن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت ، ومن علامته هذا القرن تضعه على رأسه فيفيض ماء . فأتاه فقال : إن الله أوحى إلي أن في ولدك رجلا [ ص: 367 ] يقتل الله به جالوت ! فقال : نعم يا نبي الله ! قال : فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري ، وفيهم رجل بارع عليهم ، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا ، فيقول لذلك الجسيم : ارجع ! فيردده عليه . فأوحى الله إليه : إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم . قال : يا رب ، قد زعم أنه ليس له ولد غيره ! فقال : كذب ! فقال : إن ربي قد كذبك ! وقال : إن لك ولدا غيرهم ! فقال : صدق يا نبي الله لي ولد قصير استحييت أن يراه الناس ، فجعلته في الغنم ! قال : فأين هو ؟ قال في شعب كذا وكذا من جبل كذا وكذا . فخرج إليه ، فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها ، قال : ووجده يحمل شاتين يجيز بهما ولا يخوض بهما السيل . فلما رآه قال : هذا هو لا شك فيه ! هذا يرحم البهائم ، فهو بالناس أرحم ! قال : فوضع القرن على رأسه ففاض . فقال له : ابن أخي ! هل رأيت هاهنا من شيء يعجبك ؟ قال : نعم ، إذا سبحت سبحت معي الجبال ، [ ص: 368 ] وإذا أتى النمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة قمت إليه فأفتح لحييه عنها فلا يهيجني ! قال : وألفى معه صفنه . قال : فمر بثلاثة أحجار ينتزى بعضها على بعض ، كل واحد منها يقول : أنا الذي يأخذ ! ويقول هذا : لا ! بل إياي يأخذ ! ويقول الآخر مثل ذلك . قال : فأخذهن جميعا فطرحهن في صفنه . فلما جاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرجوا ، قال لهم نبيهم : " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " فكان من قصة نبيهم وقصتهم ما ذكر الله في كتابه ، وقرأ حتى بلغ : " والله مع الصابرين " . قال : واجتمع أمرهم وكانوا جميعا ، وقرأ : " وانصرنا على القوم الكافرين " . وبرز جالوت على برذون له أبلق ، في يده قوس نشاب ، فقال : من يبرز ؟ أبرزوا إلي رأسكم ! قال : ففظع به طالوت قال : فالتفت إلى أصحابه فقال : من رجل يكفيني اليوم جالوت ؟ فقال داود : أنا . فقال : تعال ! قال : [ ص: 369 ] فنزع درعا له ، فألبسه إياها . قال : ونفخ الله من روحه فيه حتى ملأه . قال : فرمى بنشابة فوضعها في الدرع . قال : فكسرها داود ولم تضره شيئا ثلاث مرات . ثم قال له : خذ الآن ! فقال داود : اللهم اجعله حجرا واحدا . قال : وسمى واحدا إبراهيم ، وآخر إسحاق ، وآخر يعقوب . قال : فجمعهن جميعا فكن حجرا واحدا . قال : فأخذهن وأخذ مقلاعا ، فأدارها ليرمي بها فقال : أترميني كما يرمى السبع والذئب ؟ ارمني بالقوس ! قال : لا أرميك اليوم إلا بها ! فقال له مثل ذلك أيضا ، فقال : نعم ! وأنت أهون علي من الذئب ! فأدارها وفيها أمر الله وسلطان الله . قال : فخلى سبيلها مأمورة . قال : فجاءت مظلة فضربت بين عينيه حتى خرجت من قفاه ، ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا ، وهزمهم الله .
5747 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : لما قطعوا ذلك يعني النهر الذي قال الله فيه مخبرا عن قيل طالوت لجنوده : " إن الله مبتليكم بنهر " وجاء جالوت ، وشق على طالوت قتاله ، فقال طالوت للناس : لو أن جالوت قتل ، أعطيت الذي يقتله نصف ملكي ، وناصفته كل شيء أملكه ! فبعث الله داود وداود يومئذ في الجبل راعي غنم ، وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة لداود ، وهم أبد منه ، وأغنى منه ، وأعرف في الناس منه ، وأوجه عند طالوت منه ، فغزوا وتركوه في غنمهم فقال داود حين ألقى الله في نفسه ما ألقى ، وأكرمه : لأستودعن ربي غنمي اليوم ، ولآتين الناس ، فلأنظرن ما الذي بلغني من قول الملك لمن قتل جالوت ! فأتى داود إخوته ، فلاموه [ ص: 370 ] حين أتاهم ، فقالوا : لم جئت ؟ قال : لأقتل جالوت ، فإن الله قادر أن أقتله ، فسخروا منه . قال ابن جريج : قال مجاهد : كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته ، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات ، ثم سماهن " إبراهيم " " وإسحاق " " ويعقوب " . قال ابن جريج : قالوا : وهو ضعيف رث الحال ، فمر بثلاثة أحجار فقلن له : خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت ! فأخذهن داود وألقاهن في مخلاته . فلما ألقاهن سمع حجرا منهن يقول لصاحبه : أنا حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا . قال الثاني : أنا حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا . قال الثالث : أنا حجر داود الذي أقتل جالوت ! فقال الحجران : يا حجر داود نحن أعوان لك ! فصرن حجرا واحدا . وقال الحجر : يا داود ، اقذف بي ، فإني سأستعين بالريح - وكانت بيضته فيما يقولون والله أعلم فيها ستمائة رطل - فأقع في رأس جالوت فأقتله ! قال ابن جريج ، وقال مجاهد : سمى واحدا إبراهيم ، والآخر إسحاق ، والآخر يعقوب ، وقال : باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ وجعلهن في مرجمته - قال ابن جريج : فانطلق حتى نفذ إلى طالوت فقال : إنك قد جعلت لمن قتل جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تملكه ! أفلي ذلك إن قتلته ؟ قال : نعم ! والناس يستهزئون بداود ، وإخوة داود أشد من هنالك عليه . وكان طالوت لا ينتدب إليه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه درعا عنده ، فإذا لم تكن قدرا عليه نزعها عنه . وكانت درعا سابغة من دروع طالوت ، فألبسها داود ، فلما رأى قدرها عليه أمره أن يتقدم . فتقدم داود ، فقام مقاما لا يقوم فيه أحد ، وعليه الدرع . فقال له جالوت : ويحك ! من أنت ؟ إني [ ص: 371 ] أرحمك ! ليتقدم إلي غيرك من هذه الملوك ! أنت إنسان ضعيف مسكين ! فارجع . فقال داود : أنا الذي أقتلك بإذن الله ، ولن أرجع حتى أقتلك ! فلما أبى داود إلا قتاله ، تقدم جالوت إليه ليأخذه بيده مقتدرا عليه ، فأخرج الحجر من المخلاة ، فدعا ربه ورماه بالحجر ، فألقت الريح بيضته عن رأسه ، فوقع الحجر في رأس جالوت حتى دخل في جوفه فقتله . قال ابن جريج : وقال مجاهد : لما رمى جالوت بالحجر خرق ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه ، وقتلت من ورائه ثلاثين ألفا . قال الله تعالى : " وقتل داود جالوت " . فقال داود لطالوت : ف لي بما جعلت . فأبى طالوت أن يعطيه ذلك . فانطلق داود فسكن مدينة من مدائن بني إسرائيل حتى مات طالوت . فلما مات عمد بنو إسرائيل إلى داود فجاءوا به فملكوه ، وأعطوه خزائن طالوت ، وقالوا : لم يقتل جالوت إلا نبي ! قال الله : " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " .
القول في تأويل قوله تعالى ( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه مما يشاء " والهاء " في قوله : " وآتاه الله " عائدة على داود . والملك : السلطان ، والحكمة : النبوة . وقوله : " وعلمه مما يشاء " يعني : علمه صنعة الدروع والتقدير في السرد ، كما قال الله - تعالى ذكره - : ( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم [ ص: 372 ] ) [ سورة الأنبياء : 80 ] .
وقد قيل إن معنى قوله : " وآتاه الله الملك والحكمة " أن الله آتى داود ملك طالوت ونبوة أشمويل .
ذكر من قال ذلك :
5748 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ملك داود بعدما قتل طالوت ، وجعله الله نبيا ، وذلك قوله : " وآتاه الله الملك والحكمة " قال : الحكمة هي النبوة ، آتاه نبوة شمعون وملك طالوت .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( 251 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ولولا أن الله يدفع ببعض الناس وهم أهل الطاعة له والإيمان به بعضا وهم أهل المعصية لله والشرك به ، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له - وقد أعطاهم ما سألوا ربهم ابتداء من بعثة ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر - جالوت وجنوده " لفسدت الأرض " يعني : لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم ، ففسدت بذلك الأرض ولكن الله ذو من على خلقه وتطول عليهم بدفعه بالبر من خلقه عن الفاجر ، وبالمطيع عن العاصي منهم ، وبالمؤمن عن الكافر . [ ص: 373 ]
وهذه الآية إعلام من الله - تعالى ذكره - أهل النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتخلفين عن مشاهده والجهاد معه للشك الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم ، والمشركين وأهل الكفر منهم ، وأنه إنما يدفع عنهم معاجلتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله الذين هم أهل البصائر والجد في أمر الله ، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعده على جهاد أعدائه وأعداء رسوله من النصر في العاجل ، والفوز بجنانه في الآجل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5749 - حدثني محمد بن عمر قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " يقول : ولولا دفع الله بالبر عن الفاجر ، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض " لفسدت الأرض " بهلاك أهلها .
5750 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " يقول : ولولا دفاع الله بالبر عن الفاجر ، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض لهلك أهلها .
5751 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حنظلة ، عن أبي مسلم قال : سمعت عليا يقول : لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم . [ ص: 374 ]
5752 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " يقول : لهلك من في الأرض .
5753 - حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا حفص بن سليمان ، عن محمد بن سوقة ، عن وبرة بن عبد الرحمن ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء " ثم قرأ ابن عمر : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " .
5754 - حدثني أحمد أبو حميد الحمصي قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : [ ص: 375 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم .
قال أبو جعفر : وقد دللنا على قوله : " العالمين " وذكرنا الرواية فيه .
وأما القرأة ، فإنها اختلفت في قراءة قوله : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " .
فقرأته جماعة من القرأة : ( ولولا دفع الله ) على وجه المصدر من قول القائل : [ ص: 376 ] " دفع الله عن خلقه فهو يدفع دفعا " . واحتجت لاختيارها ذلك بأن الله - تعالى ذكره - هو المتفرد بالدفع عن خلقه ، ولا أحد يدافعه فيغالبه .
وقرأت ذلك جماعة أخر من القرأة : ( ولولا دفاع الله الناس ) على وجه المصدر من قول القائل : " دافع الله عن خلقه فهو يدافع مدافعة ودفاعا " واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرا من خلقه يعادون أهل دين الله وولايته والمؤمنين به ، فهم بمحاربتهم إياهم ومعاداتهم لهم لله مدافعون بظنونهم ، ومغالبون بجهلهم ، والله مدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به .
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القرأة ، وجاءت بهما جماعة الأمة ، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالة معنى الآخر . وذلك أن من دافع غيره عن شيء فمدافعه عنه بشيء دافع . ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع فهو لمدافعه مدافع . ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده محاولين مغالبة حزب الله وجنده ، وكان في محاولتهم ذلك محاولة مغالبة الله ودفاعه عما قد تضمن لهم من النصرة . وذلك هو معنى " مدافعة الله " عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه . فبين إذا أن سواء قراءة من قرأ : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) وقراءة من قرأ : ( ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض ) في التأويل والمعنى .
[ ص: 377 ] القول في تأويل قوله تعالى ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين ( 252 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " تلك آيات الله " هذه الآيات التي اقتص الله فيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وأمر الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الذين سألوا نبيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الآيات إلى قوله : " والله ذو فضل على العالمين " .
ويعني بقوله : " آيات الله " : حججه وأعلامه وأدلته .
يقول الله - تعالى ذكره - : فهذه الحجج التي أخبرتك بها يا محمد ، وأعلمتك - من قدرتي على إماتة من هرب من الموت في ساعة واحدة وهم ألوف ، وإحيائي إياهم بعد ذلك ، وتمليكي طالوت أمر بني إسرائيل بعد إذ كان سقاء أو دباغا من غير أهل بيت المملكة ، وسلبي ذلك إياه بمعصيته أمري ، وصرفي ملكه إلى داود لطاعته إياي ، ونصرتي أصحاب طالوت مع قلة عددهم ، وضعف شوكتهم على جالوت وجنوده مع كثرة عددهم ، وشدة بطشهم - حججي على من جحد نعمتي ، وخالف أمري ، وكفر برسولي من أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، العالمين بما اقتصصت عليك من الأنباء الخفية ، التي يعلمون أنها من عندي لم تتخرصها ولم تتقولها أنت يا محمد ؛ لأنك أمي ، ولست ممن قرأ الكتب ، فيلتبس عليهم أمرك ، ويدعوا أنك قرأت ذلك فعلمته من بعض أسفارهم ، ولكنها حججي عليهم أتلوها [ ص: 378 ] عليك يا محمد بالحق اليقين كما كان ، لا زيادة فيه ولا تحريف ولا تغيير شيء منه عما كان . " وإنك " يا محمد " لمن المرسلين " يقول : إنك لمرسل متبع في طاعتي ، وإيثار مرضاتي على هواك ، فسالك في ذلك من أمرك سبيل من قبلك من رسلي الذين أقاموا على أمري ، وآثروا رضاي على هواهم ، ولم تغيرهم الأهواء ، ومطامع الدنيا ، كما غير طالوت هواه ، وإيثاره ملكه على ما عندي لأهل ولايتي ، ولكنك مؤثر أمري كما آثره المرسلون الذين قبلك .
القول في تأويل قوله تعالى ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " تلك " الرسل الذين قص الله قصصهم في هذه السورة ، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود ، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة يقول - تعالى ذكره - : هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض ، فكلمت بعضهم والذي كلمته منهم موسى - صلى الله عليه وسلم - ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة كما : -
5755 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله - تعالى ذكره - : " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " قال : يقول : منهم من كلم الله ، ورفع بعضهم على بعض درجات . يقول : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافة .
5756 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه . [ ص: 379 ]
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك :
5757 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود ، ونصرت بالرعب فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي ، وقيل لي : سل تعطه ، فاختبأتها شفاعة لأمتي ، فهي نائلة منكم - إن شاء الله - من لا يشرك بالله شيئا " .
القول في تأويل قوله تعالى ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته : من إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وما أشبه ذلك مع الإنجيل الذي أنزلته إليه ، فبينت فيه ما فرضت عليه .
ويعني - تعالى ذكره - بقوله : " وأيدناه " وقويناه وأعناه " بروح القدس " يعني بروح الله ، وهو جبريل . وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح [ ص: 380 ] القدس ، والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ولو أراد الله " ما اقتتل الذين من بعدهم " يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم درجات ، وبعد عيسى ابن مريم ، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه .
ويعني بقوله : " من بعد ما جاءتهم البينات " يعني : من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق ، وأوضح لهم السبيل .
وقد قيل : إن " الهاء " " والميم " في قوله : " من بعدهم " من ذكر موسى وعيسى . ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(355)
الحلقة (369)
صــ 381 إلى صــ 400
5758 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات " يقول : من بعد موسى وعيسى . [ ص: 381 ]
5759 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات " يقول : من بعد موسى وعيسى .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ( 253 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل ، لما لم يشأ الله منهم - تعالى ذكره - أن لا يقتتلوا ، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف ، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه ، فكفر بالله وبآياته بعضهم ، وآمن بذلك بعضهم . فأخبر - تعالى ذكره - أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته .
ثم قال - تعالى ذكره - لعباده : " ولو شاء الله ما اقتتلوا " يقول : ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم - عن معصيته فلا يقتتلوا ما اقتتلوا ولا اختلفوا " ولكن الله يفعل ما يريد " بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه ، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه .
[ ص: 382 ] القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون ( 254 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم ، وتصدقوا منها ، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم . وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه :
5760 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم " قال : من الزكاة والتطوع .
" من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " يقول : ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم بالنفقة منها في سبيل الله والصدقة على أهل المسكنة والحاجة ، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها ، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من الكرامة بتقديم ذلك لأنفسكم ، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه ، بما ندبتكم إليه ، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه " يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه ، يقول : لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه - بالنفقة من أموالكم التي رزقتكموها بما أمرتكم به أو ندبتكم إليه - في الدنيا قادرين ؛ لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب ، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية ، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ أو [ ص: 383 ] بالعمل بطاعة الله سبيل .
ثم أعلمهم - تعالى ذكره - أن ذلك اليوم - مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضا الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به - يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا ، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء ، والمظاهرة له على ذلك . فآيسهم - تعالى ذكره - أيضا من ذلك ؛ لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله ، بل ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) كما قال الله - تعالى ذكره - وأخبرهم - أيضا - أنهم يومئذ - مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم ، والعمل بأبدانهم ، وعدمهم النصراء من الخلان ، والظهراء من الإخوان - لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا ، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة ، وغير ذلك من الأسباب ، فبطل ذلك كله يومئذ ، كما أخبر - تعالى ذكره - عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) [ الشعراء : 100 - 101 ]
وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص ، وإنما معناه : " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " لأهل الكفر بالله ؛ لأن أهل [ ص: 384 ] ولاية الله والإيمان به يشفع بعضهم لبعض . وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وكان قتادة يقول في ذلك بما : -
5761 - حدثنا به بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا ، ويشفع بعضهم لبعض ، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين .
وأما قوله : " والكافرون هم الظالمون " فإنه يعني - تعالى ذكره - بذلك : والجاحدون لله المكذبون به وبرسله " هم الظالمون " يقول : هم الواضعون جحودهم في غير موضعه ، والفاعلون غير ما لهم فعله ، والقائلون ما ليس لهم قوله .
وقد دللنا على معنى " الظلم " بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
قال أبو جعفر : وفي قوله - تعالى ذكره - في هذا الموضع : " والكافرون هم الظالمون " دلالة واضحة على صحة ما قلناه ، وأن قوله : " ولا خلة ولا شفاعة " إنما هو مراد به أهل الكفر ، فلذلك أتبع قوله ذلك : " والكافرون هم الظالمون " . فدل بذلك على أن معنى ذلك : حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء ، والشفاعة من الأولياء والأقرباء ، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين ، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا ، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم . [ ص: 385 ]
فإن قال قائل : وكيف صرف الوعيد إلى الكفار ، والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان ؟
قيل له : إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس : أحدهما أهل كفر ، والآخر أهل إيمان ، وذلك قوله : " ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر " . ثم عقب الله - تعالى ذكره - الصنفين بما ذكرهم به بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به ، قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته . وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به ، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ، ونفقتهم في الصد عن سبيله ، فقال - تعالى ذكره - : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي ، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني ، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي . وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم ، وهم الظالمون أنفسهم دوني ؛ لأني غير ظلام لعبيدي . وقد : -
5762 - حدثني محمد بن عبد الرحيم قال : حدثني عمرو بن أبي سلمة قال : سمعت عمر بن سليمان يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال : " والكافرون هم الظالمون " ولم يقل : " الظالمون هم الكافرون " .
[ ص: 386 ] القول في تأويل قوله تعالى ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله : " الله " .
وأما تأويل قوله : " لا إله إلا هو " فإن معناه : النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه - تعالى ذكره - في هذه الآية . يقول : " الله " الذي له عبادة الخلق " الحي القيوم " لا إله سواه ، لا معبود سواه ، يعني : ولا تعبدوا شيئا سوى الحي القيوم الذي لا يأخذه سنة ولا نوم ، والذي صفته ما وصف في هذه الآية .
وهذه الآية إبانة من الله - تعالى ذكره - للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات من بعد الرسل الذين أخبرنا - تعالى ذكره - أنه فضل بعضهم على بعض واختلفوا فيه ، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض ، وإيمانا به من بعض . فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به ، ووفقنا للإقرار .
وأما قوله : " الحي " فإنه يعني : الذي له الحياة الدائمة ، والبقاء الذي لا أول له بحد ، ولا آخر له بأمد ، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا [ ص: 387 ] فلحياته أول محدود ، وآخر ممدود ، ينقطع بانقطاع أمدها ، وينقضي بانقضاء غايتها .
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5763 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الحي " حي لا يموت .
5764 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
قال أبو جعفر : وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : إنما سمى الله نفسه " حيا " لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها ، فهو حي بالتدبير لا بحياة .
وقال آخرون : بل هو حي بحياة هي له صفة .
وقال آخرون : بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به ، فقلناه تسليما لأمره . [ ص: 388 ]
وأما قوله : " القيوم " فإنه " الفيعول " من " القيام " وأصله " القيووم " : سبق عين الفعل ، وهي " واو " " ياء " ساكنة ، فأدغمتا فصارتا " ياء " مشددة .
وكذلك تفعل العرب في كل " واو " كانت للفعل عينا ، سبقتها " ياء " ساكنة . ومعنى قوله : " القيوم " القائم برزق ما خلق وحفظه ، كما قال أمية :
لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يعوم قدره المهيمن القيوم
والجسر والجنة والجحيم إلا لأمر شأنه عظيم
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5765 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " القيوم " قال : القائم على كل شيء .
5766 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " القيوم " قيم كل شيء ، يكلؤه ويرزقه ويحفظه .
5767 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " القيوم " وهو القائم . [ ص: 389 ]
5768 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " الحي القيوم " قال : القائم الدائم .
القول في تأويل قوله تعالى ( لا تأخذه سنة ولا نوم )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " لا تأخذه سنة " لا يأخذه نعاس فينعس ، ولا نوم فيستثقل نوما .
" والوسن " خثورة النوم ، ومنه قول عدي بن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم
[ ص: 390 ]
ومن الدليل على ما قلنا من أنها خثورة النوم في عين الإنسان ، قول الأعشى ميمون بن قيس :
تعاطي الضجيع إذا أقبلت بعيد النعاس وقبل الوسن
وقال آخر :
باكرتها الأغراب في سنة النو م فتجري خلال شوك السيال
[ ص: 391 ]
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها ، يقال منه : " وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان " إذا كان كذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5769 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله تعالى : " لا تأخذه سنة " قال : السنة : النعاس ، والنوم : هو النوم .
5770 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا تأخذه سنة " السنة : النعاس .
5771 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : " لا تأخذه سنة " قالا نعسة .
5772 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " قال : السنة : الوسنة ، وهو دون النوم ، والنوم : الاستثقال ،
5773 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن [ ص: 392 ] جويبر ، عن الضحاك : " لا تأخذه سنة ولا نوم " السنة : النعاس ، والنوم : الاستثقال .
5774 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك مثله سواء .
5775 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا تأخذه سنة ولا نوم " أما " سنة " فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان .
5776 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " لا تأخذه سنة ولا نوم " قال : " السنة " الوسنان بين النائم واليقظان .
5777 - حدثني عباس بن أبي طالب قال : حدثنا منجاب بن الحرث قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع : " لا تأخذه سنة " قال : النعاس .
5778 - حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " قال : " الوسنان " : الذي يقوم من النوم لا يعقل ، حتى [ ص: 393 ] ربما أخذ السيف على أهله .
قال أبو جعفر : وإنما عنى - تعالى ذكره - بقوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " لا تحله الآفات ، ولا تناله العاهات . وذلك أن " السنة " " والنوم " معنيان يغمران فهم ذي الفهم ، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه .
فتأويل الكلام - إذ كان الأمر على ما وصفنا - : " الله لا إله إلا هو الحي " الذي لا يموت " القيوم " على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال " لا تأخذه سنة ولا نوم " لا يغيره ما يغير غيره ، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام ، بل هو الدائم على حال ، والقيوم على جميع الأنام ، لو نام كان مغلوبا مقهورا ؛ لأن النوم غالب النائم قاهره ، ولو وسن لكانت السماوات والأرض وما فيهما دكا ؛ لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته ، والنوم شاغل المدبر عن التدبير ، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوسنه كما :
5779 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : أخبرني الحكم بن أبان ، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " أن موسى سأل الملائكة : هل ينام الله ؟ فأوحى الله إلى الملائكة ، وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام . ففعلوا ، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه ، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما . قال : فجعل ينعس وهما في يديه ، [ ص: 394 ] في كل يد واحدة . قال : فجعل ينعس وينتبه ، وينعس وينتبه ، حتى نعس نعسة ، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما . قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله ، يقول : فكذلك السماوات والأرض في يديه .
5780 - حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال : حدثنا هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن موسى - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، قال : وقع في نفس موسى : هل ينام الله - تعالى ذكره - ؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة ، أمره أن يحتفظ بهما . قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى ، ثم نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان . قال : ضرب الله مثلا له أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض .
[ ص: 395 ] القول في تأويل قوله تعالى ( له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " له ما في السماوات وما في الأرض " أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد ، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود .
وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه ؛ لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه ، وليس له خدمة غيره إلا بأمره . يقول : فجميع ما في السماوات والأرض ملكي وخلقي ، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه ؛ لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه ، ولا يطيع سوى مولاه .
وأما قوله : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " يعني بذلك : من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم إلا أن يخليه ، ويأذن له بالشفاعة لهم . وإنما قال ذلك - تعالى ذكره - لأن المشركين قالوا : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى ! فقال الله - تعالى ذكره - لهم : لي ما في السماوات وما في الأرض مع السماوات والأرض ملكا ، فلا ينبغي العبادة لغيري ، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى ، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا ، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي .
[ ص: 396 ] القول في تأويل قوله تعالى ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما ، لا يخفى عليه شيء منه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5781 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم : " يعلم ما بين أيديهم " الدنيا " وما خلفهم " الآخرة .
5782 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يعلم ما بين أيديهم " ما مضى من الدنيا " وما خلفهم " من الآخرة .
5783 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قوله : " يعلم ما بين أيديهم " ما مضى أمامهم من الدنيا " وما خلفهم " ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة .
5784 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يعلم ما بين أيديهم " قال : [ وأما ] " ما بين أيديهم " فالدنيا " وما خلفهم " فالآخرة .
وأما قوله : " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " فإنه يعني - تعالى ذكره - : أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء ، محيط بذلك كله ، [ ص: 397 ] محص له دون سائر من دونه وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه ، فأراد فعلمه ، وإنما يعني بذلك : أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا ألبتة من وثن وصنم ؟ ! يقول : أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها ، يعلمها ، لا يخفى عليه صغيرها وكبيرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5786 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا يحيطون بشيء من علمه " يقول : لا يعلمون بشيء من علمه " إلا بما شاء " هو أن يعلمهم .
القول في تأويل قوله تعالى ( وسع كرسيه السماوات والأرض )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الكرسي " الذي أخبر الله - تعالى ذكره - في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض .
فقال بعضهم : هو علم الله - تعالى ذكره - .
ذكر من قال ذلك :
5787 - حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن مطرف ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وسع كرسيه " قال : كرسيه علمه .
5788 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مطرف ، [ ص: 398 ] عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله . وزاد فيه : ألا ترى إلى قوله : " ولا يئوده حفظهما " ؟
وقال آخرون : " الكرسي " : موضع القدمين .
ذكر من قال ذلك :
5789 - حدثني علي بن مسلم الطوسي قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثني أبي ، قال : حدثني محمد بن جحادة ، عن سلمة بن كهيل ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي موسى قال : الكرسي : موضع القدمين ، وله أطيط كأطيط الرحل .
5790 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وسع كرسيه السماوات والأرض " فإن السموات والأرض في جوف الكرسي ، والكرسي بين يدي العرش ، وهو موضع قدميه .
5791 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : " وسع كرسيه السماوات والأرض " قال : كرسيه الذي يوضع تحت العرش ، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم .
5792 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن عمار الدهني ، عن مسلم البطين قال : الكرسي : موضع القدمين . [ ص: 399 ]
5793 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وسع كرسيه السماوات والأرض " قال : لما نزلت : " وسع كرسيه السموات والأرض " قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض ، فكيف العرش ؟ فأنزل الله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) إلى قوله : ( سبحانه وتعالى عما يشركون ) [ الزمر : 67 ] .
5794 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وسع كرسيه السماوات والأرض " قال ابن زيد : فحدثني أبي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس " . قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض .
وقال آخرون : الكرسي : هو العرش نفسه .
ذكر من قال ذلك :
5795 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كان الحسن يقول : الكرسي هو العرش .
قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب ، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما : - [ ص: 400 ]
5796 - حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني قال : حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ! فعظم الرب - تعالى ذكره - ثم قال : إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع - ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد ، إذا ركب من ثقله " .
5797 - حدثني عبد الله بن أبى زياد قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(356)
الحلقة (370)
صــ 401 إلى صــ 420
5798 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : جاءت امرأة ، فذكر نحوه . [ ص: 401 ]
وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عنه أنه قال : " هو علمه " . وذلك لدلالة قوله - تعالى ذكره - : " ولا يئوده حفظهما " على أن ذلك كذلك ، فأخبر أنه لا يئوده حفظ ما علم ، وأحاط به مما في السموات والأرض ، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) [ غافر : 7 ] [ ص: 402 ] فأخبر - تعالى ذكره - أن علمه وسع كل شيء ، فكذلك قوله : " وسع كرسيه السموات والأرض " .
قال أبو جعفر : وأصل " الكرسي " العلم . ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب " كراسة " ومنه قول الراجز في صفة قانص :
حتى إذا ما احتازها تكرسا
.
يعني علم . ومنه يقال للعلماء " الكراسي " ؛ لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : " أوتاد الأرض " . يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الأرض ، ومنه قول الشاعر :
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب
يعني بذلك : علماء بحوادث الأمور ونوازلها . والعرب تسمي أصل كل شيء " الكرس " يقال منه : " فلان كريم الكرس " أي كريم الأصل ، قال العجاج : [ ص: 403 ]
قد علم القدوس مولى القدس أن أبا العباس أولى نفس
بمعدن الملك الكريم الكرس
يعني بذلك : الكريم الأصل . ويروى :
في معدن العز الكريم الكرس
القول في تأويل قوله تعالى ( ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ( 255 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " ولا يئوده حفظهما " ولا يشق عليه ولا يثقله .
يقال منه : " قد آدني هذا الأمر فهو يؤودني أودا وإيادا " ويقال : " ما آدك فهو لي آئد " يعني بذلك : ما أثقلك فهو لي مثقل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5799 - حدثنا المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : [ ص: 404 ] حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولا يئوده حفظهما " يقول : لا يثقل عليه .
5800 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ولا يئوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه حفظهما .
5801 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولا يئوده حفظهما " لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما .
5802 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله : " ولا يئوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه شيء .
5803 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " ولا يئوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه حفظهما .
5804 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن أبي زائدة وحدثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قالا جميعا : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " ولا يئوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه .
5805 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن عبيد ، عن الضحاك مثله .
5806 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعته يعني خلادا يقول : سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية : " ولا يئوده حفظهما " قال : لا يكبر عليه .
5807 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن [ ص: 405 ] ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولا يئوده حفظهما " قال : لا يكرثه .
5808 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا يئوده حفظهما " قال : لا يثقل عليه .
5809 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا يئوده حفظهما " يقول : لا يثقل عليه حفظهما .
5810 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا يئوده حفظهما " قال : لا يعز عليه حفظهما .
قال أبو جعفر : " والهاء " " والميم " " والألف " في قوله : " حفظهما " من ذكر " السموات والأرض " . فتأويل الكلام : وسع كرسيه السموات والأرض ، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض .
وأما تأويل قوله : " وهو العلي " فإنه يعني : والله العلي .
" والعلي " " الفعيل " من قولك : " علا يعلو علوا " إذا ارتفع ، " فهو عال وعلي " " والعلي " ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته .
وكذلك قوله : " العظيم " ذو العظمة ، الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه كما : -
5811 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " العظيم " الذي قد كمل في عظمته . [ ص: 406 ]
قال أبو جعفر : واختلف أهل البحث في معنى قوله : .
" وهو العلي " .
فقال بعضهم : يعني بذلك ; وهو العلي عن النظير والأشباه ، وأنكروا أن يكون معنى ذلك : " وهو العلي المكان " . وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا معنى لوصفه بعلو المكان ؛ لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهو العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ؛ لأنه - تعالى ذكره - فوق جميع خلقه وخلقه دونه ، كما وصف به نفسه أنه على العرش ، فهو عال بذلك عليهم .
وكذلك اختلفوا في معنى قوله : " العظيم " .
فقال بعضهم : معنى " العظيم " في هذا الموضع : المعظم ، صرف " المفعل " إلى " فعيل " كما قيل للخمر المعتقة : " خمر عتيق " كما قال الشاعر : .
وكأن الخمر العتيق من الإس فنط ممزوجة بماء زلال
وإنما هي " معتقة " . قالوا : فقوله " العظيم " معناه : المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه . قالوا : وإنما يحتمل قول القائل : " هو عظيم " أحد معنيين : أحدهما : ما وصفنا من أنه معظم ، والآخر : أنه عظيم في المساحة والوزن . قالوا : وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك : أنه عظيم في المساحة والوزن صحة القول بما قلنا . [ ص: 407 ]
وقال آخرون : بل تأويل قوله : " العظيم " هو أن له عظمة هي له صفة .
وقالوا : لا نصف عظمته بكيفية ، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد ؛ لأن ذلك تشبيه له بخلقه ، وليس كذلك . وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها ، وقالوا : لو كان معنى ذلك أنه " معظم " لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق ، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق ؛ لأنه لا معظم له في هذه الأحوال .
وقال آخرون : بل قوله : إنه " العظيم " وصف منه نفسه بالعظم . وقالوا : كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته .
القول في تأويل قوله ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك .
فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار - أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم ، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه ، فنهاهم الله عن ذلك ، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام .
ذكر من قال ذلك :
5812 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، [ ص: 408 ] عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مقلاتا ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده . فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ! فأنزل الله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
5813 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد - قال شعبة : وإنما هو مقلات - فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه . قال : فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم ، فقالت الأنصار : كيف نصنع بأبنائنا ؟ فنزلت هذه الآية : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " . قال : من شاء أن يقيم أقام ، ومن شاء أن يذهب ذهب .
5814 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن داود عن عامر قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد ، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم ، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم ، فقالوا : إنما جعلناهم على دينهم ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ! وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم ! فنزلت : " لا إكراه في الدين " فكان [ ص: 409 ] فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام ، فمن لحق بهم اختار اليهودية ، ومن أقام اختار الإسلام ولفظ الحديث لحميد .
5815 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا معتمر بن سليمان قال : سمعت داود ، عن عامر ، بنحو معناه إلا أنه قال : فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير ، فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم ، وبقي من أسلم .
5816 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عامر بنحوه إلا أنه قال : إجلاء النضير إلى خيبر ، فمن اختار الإسلام أقام ، ومن كره لحق بخيبر .
5817 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن أبي إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلما ، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك .
5818 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " قال : نزلت هذه في الأنصار ، قال : قلت خاصة ! قال : خاصة ! قال : كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود ، [ ص: 410 ] تلتمس بذلك طول بقائه . قال : فجاء الإسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت النضير قالوا : يا رسول الله ، أبناؤنا وإخواننا فيهم ، قال : فسكت عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قد خير أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم " قال : فأجلوهم معهم .
5819 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " إلى : " لا انفصام لها " قال : نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين : كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت . فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين ، فدعوهما إلى النصرانية ، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم . فأتى أبوهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إن ابني تنصرا وخرجا ، فأطلبهما ؟ فقال : " لا إكراه في الدين " .
ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : أبعدهما الله ! هما أول من كفر ! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لم يبعث في طلبهما ، فنزلت : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [ سورة النساء : 65 ] ثم إنه نسخ : " لا إكراه في الدين " فأمر بقتال أهل الكتاب في " سورة براءة " . [ ص: 411 ]
5820 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " لا إكراه في الدين " قال : كانت في اليهود بني النضير ، أرضعوا رجالا من الأوس ، فلما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجلائهم ، قال أبناؤهم من الأوس : لنذهبن معهم ، ولندينن بدينهم ! فمنعهم أهلوهم ، وأكرهوهم على الإسلام ، ففيهم نزلت هذه الآية .
5821 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد جميعا ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : " لا إكراه في الدين " قال : كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة ، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام ، فنزلت : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
5822 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني الحجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : كانت النضير يهودا فأرضعوا ، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الكريم ، عن مجاهد : أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس ، دانوا بدين النضير .
5823 - حدثني المثنى قال : لنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي : أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب ، فلما جاء الإسلام قالت الأنصار : [ ص: 412 ] يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام ، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان ؟ فأما إذ جاء الله بالإسلام أفلا نكرههم على الإسلام ؟ فأنزل الله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
5824 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود ، عن الشعبي مثله ، وزاد قال : كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام إجلاء بني النضير ، فمن خرج مع بني النضير كان منهم ، ومن تركهم اختار الإسلام .
5825 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا إكراه في الدين " إلى قوله : " العروة الوثقى " قال : قال منسوخ .
5826 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ووائل ، عن الحسن : أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير ، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم ، فنزلت : " لا إكراه في الدين " .
وقال آخرون : بل معنى ذلك لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية ، ولكنهم يقرون على دينهم . وقالوا : الآية في خاص من الكفار ، ولم ينسخ منها شيء .
ذكر من قال ذلك :
5827 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن [ ص: 413 ] قتادة : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " قال : أكره عليه هذا الحي من العرب ؛ لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه ، فلم يقبل منهم غير الإسلام . ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج ، ولم يفتنوا عن دينهم ، فيخلى عنهم .
5828 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا سليمان قال : حدثنا أبو هلال قال : حدثنا قتادة في قوله : " لا إكراه في الدين " قال : هو هذا الحي من العرب أكرهوا على الدين ، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام ، وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية ، ولم يقتلوا .
5829 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا الحكم بن بشير قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا إكراه في الدين " قال : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان ، فلم يقبل منهم إلا " لا إله إلا الله " أو السيف . ثم أمر في من سواهم بأن يقبل منهم الجزية ، فقال : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
5830 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا إكراه في الدين " قال : كانت العرب ليس لها دين ، فأكرهوا على الدين بالسيف . قال : ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس ، إذا أعطوا الجزية .
5831 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح قال : سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني : يا جرير أسلم . ثم قال : هكذا كان يقال لهم .
5832 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : [ ص: 414 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " قال : وذلك لما دخل الناس في الإسلام ، وأعطى أهل الكتاب الجزية .
وقال آخرون : هذه الآية منسوخة ، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال .
ذكر من قال ذلك :
5833 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال : سألت زيد بن أسلم عن قول الله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين " قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية في خاص من الناس - وقال : عنى بقوله - تعالى ذكره - : " لا إكراه في الدين " أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق ، وأخذ الجزية منه ، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ؛ لما قد دللنا عليه في كتابنا ( كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام ) : من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ ، فلم يجز اجتماعهما . فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي ، وباطنه الخصوص ، فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل .
وإذ كان ذلك كذلك - وكان غير مستحيل أن يقال : لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين ، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك ، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أنه [ ص: 415 ] أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام ، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه ، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب ، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم ، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل ، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم - كان بينا بذلك أن معنى قوله : " لا إكراه في الدين " إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ، ورضاه بحكم الإسلام .
ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم ، بالإذن بالمحاربة .
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي عنه من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام ؟
قلنا : ذلك غير مدفوعة صحته ، ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر ، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه . فالذين أنزلت فيهم هذه الآية - على ما ذكر ابن عباس وغيره - إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم ، فنهى الله - تعالى ذكره - عن إكراههم على الإسلام ، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم ، ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها ، وإقرارهم عليها ، على النحو الذي قلنا في ذلك .
قال أبو جعفر : ومعنى قوله : " لا إكراه في الدين " . لا يكره أحد في دين الإسلام عليه ، وإنما أدخلت " الألف واللام " في " الدين " تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله لا إكراه فيه ، وأنه هو الإسلام . [ ص: 416 ]
وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من " الهاء " المنوية في " الدين " فيكون معنى الكلام حينئذ : وهو العلي العظيم ، لا إكراه في دينه ، قد تبين الرشد من الغي . وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي .
قال أبو جعفر : وأما قوله : " قد تبين الرشد " فإنه مصدر من قول القائل : " رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا " وذلك إذا أصاب الحق والصواب .
وأما " الغي " فإنه مصدر من قول القائل : " قد غوى فلان فهو يغوى غيا وغواية " وبعض العرب يقول : " غوي فلان يغوى " والذي عليه قراءة القرأة : ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) [ سورة النجم : 2 ] بالفتح ، وهي أفصح اللغتين ، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه ، فضل .
فتأويل الكلام إذا : قد وضح الحق من الباطل ، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه ، فتميز من الضلالة والغواية ، فلا تكرهوا من أهل الكتابين - ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه - [ أحدا ] على دينكم دين الحق ، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له ، فإلى ربه أمره ، وهو ولي عقوبته في معاده .
القول في تأويل قوله ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الطاغوت " .
فقال بعضهم : هو الشيطان . [ ص: 417 ]
ذكر من قال ذلك :
5834 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن فائد العبسي قال : قال عمر بن الخطاب : الطاغوت : الشيطان .
5835 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثني ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن فائد ، عن عمر مثله .
5836 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عمن حدثه ، عن مجاهد قال : الطاغوت : الشيطان .
5837 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي قال : الطاغوت : الشيطان .
5838 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فمن يكفر بالطاغوت " قال : الشيطان .
5839 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة الطاغوت : الشيطان .
5840 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " فمن يكفر بالطاغوت " بالشيطان .
وقال آخرون : الطاغوت : هو الساحر .
ذكر من قال ذلك :
5841 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، [ ص: 418 ] عن أبي العالية ، أنه قال : الطاغوت : الساحر .
وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية ، وأنا ذاكر الخلاف بعد .
5842 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا عوف ، عن محمد قال : الطاغوت : الساحر .
وقال آخرون : بل " الطاغوت " هو الكاهن .
ذكر من قال ذلك :
5843 - حدثني ابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : الطاغوت : الكاهن .
5844 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن رفيع قال : الطاغوت : الكاهن .
5845 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " فمن يكفر بالطاغوت " قال : كهان تنزل عليها شياطين ، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم . أخبرني أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، أنه سمعه يقول : - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال - : كان في جهينة واحد ، وفي أسلم واحد ، وفي كل حي واحد ، وهي كهان ينزل عليها الشيطان . [ ص: 419 ]
قال أبو جعفر : والصواب من القول عندي في " الطاغوت " أنه كل ذي طغيان على الله ، فعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، وإما بطاعة ممن عبده له ، وإنسانا كان ذلك المعبود ، أو شيطانا ، أو وثنا ، أو صنما ، أو كائنا ما كان من شيء .
وأرى أن أصل " الطاغوت " " الطغووت " من قول القائل : " طغا فلان يطغو " إذا عدا قدره ، فتجاوز حده ، ك " الجبروت " " من التجبر "و " الخلبوت " من " الخلب " . ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي على تقدير " فعلوت " بزيادة الواو والتاء . ثم نقلت لامه - أعني لام " الطغووت " فجعلت له عينا ، وحولت عينه فجعلت مكان لامه ، كما قيل : " جذب وجبذ " " وجاذب وجابذ " " وصاعقة وصاقعة " وما أشبه ذلك من الأسماء التي على هذا المثال .
فتأويل الكلام إذا : فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله ، فيكفر به " ويؤمن بالله " يقول : ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده " فقد استمسك بالعروة الوثقى " يقول : فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه كما : -
5846 - حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي قال : حدثنا بقية بن الوليد قال : حدثنا ابن أبي مريم ، عن حميد بن عقبة ، عن أبي الدرداء : أنه عاد مريضا من جيرته ، فوجده في السوق وهو يغرغر ، لا يفقهون ما يريد . [ ص: 420 ]
فسألهم : يريد أن ينطق ؟ قالوا : نعم يريد أن يقول : " آمنت بالله وكفرت بالطاغوت " . قال أبو الدرداء : وما علمكم بذلك ؟ قالوا : لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه ، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها . فقال أبو الدرداء : أفلح صاحبكم ! إن الله يقول : " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد