-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهذا الجواب فيه نظر .
فإن قصد التعميم المحيط
ظاهر من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم
بهذه الكلمة الجامعة ،
فلا يعدل عن مقصوده
– بأبي هو وأمي
صلى الله عليه وسلم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فأما صلاة التراويح :
فليست بدعة في الشريعة ،
بل هي سنة ،
بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله ،
فإنه قال :
( إن الله فرض عليكم صيام رمضان
وسننتُ لكم قيامه ) .
ولا صلاتها جماعة بدعة ،
بل هي سنة في الشريعة ،
بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة
في أول شهر رمضان ليلتين ، بل ثلاثاً ،
وصلاها أيضاً في العشر الآواخر في جماعة مرات ،
وقال :
( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف
كُتب له قيام ليلة ) ،
لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح .
رواه أهل السنن .
وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره
على أن فعلها في الجماعة أفضل
من فعلها في حال الانفراد .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وفي قوله هذا ;
ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام ،
وذلك أوكد من أن يكون سنـّة مطلقة .
وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد
على عهده صلى الله عليه وسلم ،
ويقرُّهم ،
وإقراره سنـّة منه صلى الله عليه وسلم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وأما قول عمر
( نعمت البدعة هذه ) ،
فأكثر المحتجين بهذا
- لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر الذي لم يخالف فيه –
لقالوا ( قول الصاحب ليس بحجة ) ،
فكيف يكون حجة لهم في خلاف
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة
فلا يعتقده إذا خالف الحديث .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فعلى التقديرين :
لا تصلح معارضة الحديث
بقول الصاحب .
نعم يجوز تخصيص عموم الحديث
بقول الصاحب الذي لم يخالف ،
على إحدى الروايتين ،
فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة ،
أما غيرها فلا .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ثم نقول:
أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة ;
مع حسنها،
وهذه تسمية لغوية ،
لا تسمية شرعية ،
وذلك أن ( البدعة ) في اللغة :
تعم كل ما فُعل ابتداء من غير مثال سابق ،
وأما البدعة الشرعية :
فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته ،
أو دل عليه مطلقاً ولم يعمل به بعد موته ;
ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ،
فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته
صح أن يسمى بدعة في اللغة ،
لأنه عمل مبتدأ ،
كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي
صلى الله عليه وسلم
يسمى بدعة ،
ويسمى محدثاً في اللغة .
قالت رسل قريش للنجاشي
عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
المهاجـرين إلى الحبشـة
( إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ،
ولم يدخلوا في دين الملك ،
وجاءوا بدين مُحدَث لا يُعرف ) .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ثم إن ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة
ليس بدعة في الشريعة ،
وإن سُمي بدعة في اللغة ،
فلفظ ( البدعة ) في اللغة
أعم من لفظ ( البدعة ) في الشريعة ،
وقد عُـلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم
( كل بدعة ضلالة )
لم يُرد به كل عمل مبتدأ ،
فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل ;
فهو عمل مبتدأ ،
وإنما أراد :
ما ابتدئ من الأعمال
التي لم يشرعها هو
صلى الله عليه وسلم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وإذا كان كذلك ،
فالنبي صلى الله عليه وسلم
قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى ،
وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا :
( إنه لم يمنعـني أن أخرج إليكم
إلا كراهة أن يُـفرض عليكم ،
فصلوا في بيـوتـكم ،
فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) ،
فعلـل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض ،
فعلم بذلك أن المقتضى للخروج قائم ،
وأنه لولا الافتراض لخرج إليهم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد ،
وأسرج المسجد ،
فصارت هذه الهيئة
– وهي هيئة اجتماعهم في المسجد
على إمام واحد مع الإسراج –
عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل ،
فسمي بدعة ،
لأنه في اللغة يُسمى كذلك ،
وإن لم يكن بدعة شرعية ،
لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح
لولا خوف الافتراض ،
وخوف الافتراض قد زال
بموته صلى الله عليه وسلم ،
فانتفى المعارض .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهكذا جمع القرآن ،
فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان أن الوحي كان لا يزال ينزل ،
فيغيّر الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ،
فلو جمع في مصحف واحد
لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت ،
فلما استقر القرآن بموته صلى الله عليه وسلم
واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم
أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه ،
وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم ،
والمقتضى للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وسلم ،
فعمل المسلمون بمقتضى سنته ،
وذلك العمل من سنته ،
وإن كان يسمى هذا في اللغة بدعة ،
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وصار هذا كنفي عمر ليهود خيبر ونصارى نجران
ونحوهم من أرض العرب ،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك في مرضه ،
فقال:
( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ) ،
وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه
لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة ،
وبشروعه في قتال فارس والروم ،
وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر
لاشتغاله بقتال فارس والروم ،
فلما تمكن من ذلك ;
فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ،
وإن كان هذا الفعل
قد يسمى بدعة في اللغة ،
كما قال له اليهود
( كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم ؟ ) ،
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته
فأرادوا منه إعادتهم ،
وقالوا ( كتابك بخطك )
فامتنع من ذلك ،
لأن ذلك الفعل من عمر
كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإن كان محدثاً بعده ،
مغيراً لما فعله هو صلى الله عليه وسلم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وكذلك دفعه إلى أهبان بن صيفي سيفاً ،
وقوله :
( قاتل به المشركين ،
فإذا رأيت المسلمين قد اقتتلوا فاكسره ) ،
فإن كسره لسيفه وإن كان محدثاً
حيث لم يكن المسلمون يكسرون سيوفهم
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ولكن هو بأمره صلى الله عليه وسلم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
( خذوا العطاء ما كان عطاء ،
فإذا كان عوضاً عن دين أحدكم فلا تأخذوه ) ،
فلما صار الأمراء يعطون مال الله لمن يعينهم على أهوائهم
وإن كانت معصية ;
كان من امتنع من أخذه متبعاً لسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،
وإن كان ترك قبول العطاء من أولي الأمر محدثاً ،
لكن لما أحدثوا ما أحدثوه
أحدث لهم حكم آخر بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومن هذا الباب :
قتال أبو بكر لمانعي الزكاة ،
فإنه وإن كان بدعة لغوية
من حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل أحداً
على إيتاء الزكاة فقط ،
لكن لما قال :
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ،
وأن محمداً رسول الله ،
فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهـم وأموالهـم إلا بحقها ،
وحسابهم على الله ) .
وقد علم أن الزكاة من حق لا إله إلا الله ،
فلم يعصم بمجرد قولها من منع الزكاة ،
كما بينه في الحديث الآخر الصحيح :
( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ،
وأن محمداً رسول الله ،
ويقيموا الصلاة ،
ويُؤتوا الزكاة ) ،
وهذا باب واسع .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
والضابط في هذا
- والله أعلم-
أن يُقال إن الناس لا يحدثون شيئاً
إلا لأنهم يرونه مصلحة ،
إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه ،
فإنه لا يدعوا إليه عقل ولا دين .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فما رآه المسلمون مصلحة
نُظر في السبب المحوج إليه ،
فإن كان السبب المحوج إليه
أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم
لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم
من غير تفريط منا ;
فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه ،
وكذلك تركه
إن كان المقتضى لفعله قائماً على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم
لمعارض قد زال بموته .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه ،
أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد ;
فهنا لا يجوز الإحداث .
فكل أمر يكون المقتضى لفعله على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
موجوداً لو كان مصلحة ولم يُفعل ;
يُعلم أنه ليس بمصلحة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وأما ما حدث المقتضى له بعد موته
من غير معصية الخالق ;
قد يكون مصلحة .
ثم هنا للفـقهاء طريقان :
أحدهما :
أن ذلك يُفعل ما لم يُنـه عنه .
وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
والثاني :
أن ذلك لا يفعل ما لم يُؤمر به .
وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة .
وهؤلاء ضربان :
منهم من لا يثبت الحكم
إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره ،
وهم نفاة القياس .
ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه ،
وهو القياسيون .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فأما ما كان المقتضى لفعله موجوداً لو كان مصلحة ،
وهو مع هذا
لم يشرعه ،
فوضعه تغيير لدين الله تعالى ،
وإنما أدخله فيه
من نسب إلى تغيير الدين
من الملوك والعلماء والعباد ،
أو من زل منهم باجتهاد ،
كما روي عن النبي صلى الله عليه سلم
وغير واحد من الصحابة
( إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم ،
أو جدال منافق بالقرآن ،
وأئمة مضلون ) .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فمثال هذا القسم :
الأذان في العيدين ،
فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء
أنكره المسلمون لأنه بدعة ،
فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته،
وإلا لقيل:هذا ذكر الله ،
ودعاء للخلق إلى عبادة الله ،
فيدخل في العمومات
كقوله تعالى :
{ اُذْكُرُوا اللَّه ذِكْرًا كَثِيرًا }[1] ،
وقوله تعالى :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ }[2] .
أو يقاس على الأذان يوم الجمعة ،
فإن الاستدلال على الأذان في العيدين
أقوى من الاستدلال على حُسْن أكبر البدع .
===========
[1] - سورة الأحزاب ، الآية 41 .
[2] - سورة فصلت ، الآية : 33 .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
بل يقال :
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم له
مع وجود ما يعتقد مقتضياً،
وزوال المانع ;
سنـّة ،
كما أن فعله سنـّة .
فلما أمر بالأذان في الجمعة ،
وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة ،
كان ترك الأذان فيهما سنـّة ،
فليس لأحد
أن يزيد في ذلك ،
بل الزيادة في ذلك
كالزيادة في أعداد الصلاة ،
وأعداد الركعات ،
أو الحج ،
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال :
هذا زيادة عمل صالح ،
لم يكن له ذلك .
وكذلك لو أراد أن ينصب مكاناً آخر
يُقصد لدعاء الله فيه وذكره ،
لم يكن له ذلك ،
وليس له أن يقول : هذه بدعة حسنة ،
بل يقال له :
كل بدعة ضلالة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ونحن نعلم أن هذا ضلالة
قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها ،
أو نعلم ما فيها من المفسدة ،
فهذا مثال لما حدث ،
مع قيام المقتضى له وزوال المانع ،
لو كان خيراً
فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة ،
أو يستدل به من الأدلة
قد كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ومع هذا
لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،
فهذا الترك سنـّة خاصة ،
مقدمة على كل عموم وكل قياس .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومثال ما حدثت الحاجة له من البدع
بتفريط من الناس
تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين ،
فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون ،
لأنه بدعة ،
واعتذار من أحدثه
بأن الناس قد صاروا ينفضّون قبل سماع الخطبة ،
وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا ينفضّون حتى يسمعوا
أو أكثرهم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فيقال له :
سبب هذا تفريطك ،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطبهم خطبة
يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم ،
وأنت تقصد إقامة رياستك ،
وإن قصدت صلاح دينهم
فلست تعلمهم ما ينفعهم ،
فهذه المعصية منك
لا تبيح لك
إحداث معصية أخرى ،
بل الطريق في ذلك
أن تتوب إلى الله
وتتبع سنـّة نبيه ،
وقد استقام الأمر .
وإن لم يستقم
فلا يسألك الله إلا عن عملك
لا عن عملهم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهذان المعنيان مَن فهمهما
انحل عنه كثير من شُبه البدع المحدَثة ،
فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال :
( ما أحدث قوم بدعة
إلا نزع الله عنهم
من السنـّة مثلها ) .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم ،
وبيّـنت أن
الشرائع أغذية القلوب ،
فمتى ما اغتذت القلوب بالبدع
لم يبقَ فيها فضل للسنن ،
فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث .
وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعاً من السياسات الجائرة ،
من أخذ أموال لا يجوز أخذها ،
وعقوبات على الجرائم لا تجوز ،
لأنهم فرّطوا في المشروع
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه ،
ووضعوه حيث يسوغ وضعه ،
طالبين بذلك إقامة دين الله
لا رياسة أنفسهم ،
وأقاموا الحدود المشروعة
على الشريف والوضيع ،
والقريب والبعيد ،
متحررين في ترغيبهم وترهيبهم
للعدل الذي شرعه الله ;
لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة ،
ولا إلى العقوبات الجائرة ،
ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين ،
كما كان
الخلفاء الراشدون
وعمر بن عبدالعزيز
وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وكذلك العلماء إذا أقاموا كتاب الله ،
وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله ،
وما فيه من الهدى
الذي هو العلم النافع والعمل الصالح ،
وأقاموا حكمة الله
التي بعث بها رسوله صلى الله عليه وسلم وهي سنته ;
لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة
ما يحيط بعلم عامة الناس ،
ولميزوا حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق ،
بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة ،
حيث يقول الله عز وجل :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }[1]،
ولاستغنوا بذلك
عما ابتدعه المبتدعون
من الحجج الفاسدة ،
التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين،
ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يتمون به فروع الدين ،
وما كان من الحجج صحيحاً ،
ومن الرأي سديداً
فذلك له أصل
في كـتاب الله وسنـّة رسوله ،
فهمه من فهمه ،
وحرمه من حرمه .
============
[1] - سورة البقرة ، الآية : 143 .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وكذلك العباد ;
إذا تعبّدوا بما شرع الله
من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناُ ،
وذاقوا طعم الكلم الطيب ،
والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله ;
لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكية ،
والمقامات العلية ، والنتائج العظيمة ;
ما يغنيهم عما قد حدث في نوعه ،
كالتغبير ونحوه من السماعات المبتدعة
الصارفة عن سماع القرآن ،
وأنواع من الأذكار والأوراد لفَّـقها بعض الناس ،
أو في قدره كزيادات من التعبّدات
أحدَثها من أحدثها
لنقص تمسكه بالمشروع منها ،
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وإن كان كثير من العباد والعلماء بل والأمراء
قد يكون معذوراً فيما أحدثه لنوع اجتهاد .
فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح ،
وإن كان التارك له قد يكون معذوراً لاجتهاده ،
بل قد يكون صديقاً عظيماً ،
فليس من شرط
الصديق أن يكون قوله كله صحيحاً ،
وعمله كله سنـّة ،
إذ قـد يكون بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وهذا باب واسع .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها
لا يتسع له هذا الكتاب ،
وإنما الغرض التنبيه
على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح الذي ذكرناه ،
و التعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع
مما يجب العمل بها .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
والوجه الثاني
في ذم المواسم والأعياد المحدثة :
ما تشتمل عليه من الفساد في الدين ،
واعلم أنه ليس كل واحد ;
بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع ،
ولا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة ،
بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد ،
والواجب على الخلق
اتباع الكتاب والسنـّة ،
وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة ،
فننبّـه على بعض مفاسدها .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فمن ذلك ;
أن من أحدثَ عملاً في يوم ،
كإحداث صوم أول خميس من رجب ،
والصلاة في ليلة تلك الجمعة
التي يسميها الجاهلون
صلاة الرغائب مثلاً ،
وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة ،
وتوسيع في النفقة ،
ونحو ذلك ;
فلا بد أن يتبع هذا العمل
اعتقاد في القلب .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وذلك ;
لأنه يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله ،
وأن الصوم فيه
مستحب فيه استحباباً زائداً
على الخميس الذي قبله ،
والذي بعده مثلاً ،
وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من ليالي الجمع ،
وأن الصلاة فيها
أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع ، خصوصاً ،
وسائر الليالي عموماً ،
إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه
أو في قلب متبوعه ;
لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة ،
فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم ،
ونص على تأثيره ،
فهو من المعاني المناسبة المؤثرة ،
فإن مجرد المناسبة مع الاقتران
يدل على العلة عند من يقول بالمناسب الغريب ،
وهم كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ،
ومن لا يقول إلا بالمؤثرة ;
فلا يكتفى بمجرد المناسبة ،
حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف
مؤثر في مثل ذلك الحكم ،
وهو قول كثير من الفقهاء أيضاً من أصحابنا وغيرهم .
وهؤلاء إذا رأوا أن في الحكم المنصوص
معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم ،
في موضوع آخر ،
عللوا ذلك الحكم المنصوص به .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهنا قول ثالث
قاله كثير من أصحابنا وغيرهم أيضاً وهو :
أن الحكم المنصوص لا يُعلل
إلا بوصف
دلَّ الشرع على أنه معلل به ،
ولا يكتفى بكونه علل به نظيره أو نوعه .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وتلخيص الفرق بين الأقوال الثلاثة :
أنا إذا رأينا الشارع قد نص على الحكم ودل على علته ،
كما قال في الهرة
( إنها ليست بنجس
إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) .
فهذه العلة تسمى المنصوصة أو المومى إليها ،
علمت مناسبتها أو لم تعلم ،
فيعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاث ،
وإن اختلفوا :
هل يسمى هذا قياساً ، أو لا يسمى ؟ .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومثاله في كلام الناس:
ما لو قال السيد لعبده:
لا تُدخل داري فلاناً ،
فإنه مبتدع ،
أو فإنه أسود ونحو ذلك ،
فإنه يفهم منه :
أنه لا يُدخل داره من كان مبتدعاً ،
أو من كان أسود .
وهو نظير أن يقول :
لا تدخل داري مبتدعاً ولا أسودا .
ولهذا نعمل نحن بمثل هذا من باب الإيمان ،
فلو قال :
لا لبست هذا الثوب الذي يمنُّ به عليَّ فلان ;
حنث بما كانت منته فيه
مثل منته وهو ثمنه
ونحو ذلك .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم
ولم يذكر علته ،
لكن قد ذكر علة نظيره أو نوعه ،
مثل أنه جوَّز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها ،
وقد رأيناه جوَّز له الاستيلاء على مالها لكونها صغيرة ،
فهل نعتقد أن علة النكاح هي الصغر مثلاً ؟ .
كما أن ولاية المال كذلك ،
أم نقول :
بل قد يكون لنكاح الصغيرة علة أخرى ،
وهي البكارة مثلاً ،
فهذه العلة هي المؤثرة .
أي قد بين الشارع تأثيرها في حكم منصوص ،
وسكت عن بيان تأثيرها
في نظير ذلك الحكم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فالفريقان الأولان
يقولان بها ،
وهو في الحقيقة إثبات للعلة بالقياس ،
فإنه يقول :
كما أن هذا الوصف أثر في الحكم في ذلك المكان ،
كذلك يؤثر فيه في هذا المكان .
والفريق الثالث :
لا يقول بها إلا بدلالة خاصة ،
لجواز أن يكون النوع الواحد من الأحكام
له علل مختلفة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومن هذا النوع :
أنه صلى الله عليه وسلم
( نهى عن بيع الرجل على بيع أخيه ،
أو أن يسوم الرجل على سوم أخيه ،
أو يخطب الرجل على خطبة أخيه ) .
فيعلل ذلك بما فيه من فساد ذات البين ،
كما علل به في قوله :
( لا تنكح المرأة على عمتها ،
ولا على خالتها ،
فإنكم إذا فعلتم ذلك ;
قطعتم أرحامكم ) .
وإن كان هذا المثال يظهر التعليل فيه
مالا يظهر في الأول ;
فإنما ذاك
لأنه لا يظهر فيه وصف مناسب للنهي إلا هذا .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وأكبر دليل خاص على العلة ونظيره
من كلام الناس ;
أن يقول :
لا تعط هذا الفقير فإنه مبتدع ،
ثم يسأله فقير آخر مبتدع ،
فيقول : لا تعطه ،
وقد يكون ذلك الفقير عدواً له ،
فهل يحكم بأن العلة هي البدعة ، أم يتردد ؟
لجواز أن تكون العلة هي العداوة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ،
ورأينا فيه وصفاً مناسباً له ،
لكن الشارع لم يذكر تلك العلة ،
ولا علل بها نظير لك الحكم في موضوع آخر ;
فهذا هو الوصف المناسب الغريب ،
لأنه لا نظير له في الشرع ،
ولا دلَّ كلام الشارع وإيماؤه عليه .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فجوَّز الفريق الأول اتباعه ،
ونفاه الآخران .
وهذا إدراك لعلة الشارع ،
بنفس عقولنا من غير دلالة منه ،
كما أن الذي قبله إدراك لعلته بنفس القياس على كلامه ،
والأول إدراك لعلته بنفس كلامه .
ومع هذا فقد تعلم علة الحكم المعين بالسبر ،
وبدلالات أخرى .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فإذا ثبتت هذه الأقسام
فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع،
المؤثرة في موضوع آخر .
وذلك:
أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو صيام ،
وأباح ذلك
إذا لم يكن على وجه التخصيص .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فروى مسلم في صحيحه
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ،
ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ،
إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ) .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( لا يصومن أحدكم يوم الجمعة
إلا يوماً قبله أو يوماً بعده ) .
وهذا لفظ البخاري .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وروى البخاري عن جويرية بنت الحارث :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها
يوم الجمعة وهي صائمة ،
فقال : أصمت أمس ؟ ،
قالت : لا .
قال : أتريدين أن تصومي غداً ؟ .
قالت : لا ،
قال : فافطري ) .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وفي الصحيحين
عن محمد بن عباد بن جعفر قال :
( سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت :
أنـَهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن صيام يوم الجمعة ؟ ،
قال : نعم ، ورب البيت )
وهذا لفظ مسلم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وعن ابن عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لا تصوموا يوم الجمعـة وحده )
رواه أحمد .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومثل هذا ما أخرجناه في الصحيحين
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
قال :
( لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين ،
إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً
فليصم ذلك اليوم ) ،
لفظ البخاري
( يصوم عادته ) .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فوجه الدلالة :
أن الشارع قسم الأيام باعتبار الصوم
ثلاثة أقسام :
قسم شرع تخصيصه بالصيام ،
إما إيجاباً : كصيام رمضان ،
وإما استحباباً : كيوم عرفة وعاشوراء .
وقسم نهى عن صومه مطلقاُ :
كيوم العيدين .
وقسم إنما نهى عن تخصيصه :
كيوم الجمعة وشهر شعبان .
فهذا النوع لو صيم مع غيره لم يكره ،
فإذا خُصصَ بالفعل نهي عن ذلك ،
سواء قصد الصائم التخصيص
أو لم يقصده ،
وسواء اعتقد بالرجحان
أو لم يعتقده .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومعلوم أن مفسدة هذا العمل
لولا أنها موجودة في التخصيص دون غيره ;
لكان إما أن ينهى عنه مطلقاً كيوم العيد ،
أو لا ينهى عنه كيوم عرفة ،
وتلك المفسدة ليست موجودة في سائر الأوقات ،
وإلا لم يكن للتخصيص بالنهي فائدة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فظهر أن المفسدة تنشأ
من تخصيص
ما لا خصيصة له ،
كما أشعر به لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ،
فإن نفس الفعل المنهي عنه أو المأمور به ;
قد يشتمل على حكمة الأمر والنهي ،
كما في قوله :
( خالفوا المشركين ) .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فلفظ النهي عن تخصيص وقت بصوم أو صلاة
يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص ،
فإذا كان يوم الجمعة يوماً فاضلاً ;
يستحب فيه من الصلاة والدعاء
والذكر والقرآءة والطهارة
والطيب والزينة مالا يستحب في غيره ;
كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره ،
ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره ،
لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي ،
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن التخصيص
دفعاً لهذه المفسدة
التي لا تنشأ إلا
من التخصيص .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وكذلك تلقي رمضان ;
قد يتوهم أن فيه فضلا ،
لما فيه من الاحتياط للصوم ،
ولا فضل فيه في الشرع ،
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن تلقيه لذلك .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهذا المعنى موجود في مسألتنا ،
فإن الناس قد يخصون هذه المواسم
لاعتقادهم فيها فضيلة ،
ومتى كان تخصيص هذا الوقت بصوم أو بصلاة
قد يقترن باعتقاد فضل ذلك ولا فضل فيه ;
نُهي عن التخصيص ،
إذ لا ينبعث التخصيص
إلا عن اعتقاد الاختصاص .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومن قال :
إن الصلاة والصوم في هذه الليلة كغيرها ;
هذا اعتقادي ،
ومع ذلك أنا أخصها;
فلا بد أن يكون باعثه إما تقليد غيره ،
وإما اتباع العادة ،
وإما خوف اللوم له ، ونحو ذلك ،
وإلا هو كاذب .
فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط
من أن يكون ذلك عن الاعتقاد الفاسد ،
أو عن باعث آخر غير ديني .
وذلك الاعتقاد ضلال .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فإنا قد علمنا يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وسائر الأئمة
لم يذكروا في فضل هذا اليوم
ولا في فضل صومه بخصوصه ،
وفضل قيام هذه الليلة بخصوصها
حرفاً واحداً ،
وأن الحديث المأثور فيها موضوع ،
وأنها إنما حدثت في الإسلام
بعد المائة الرابعة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ولا يجوز - والحال هذه -
أن يكون لها فضل .
لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي
صلى الله عليه وسلم ،
ولا أصحابه
ولا التابعون ،
ولا سائر الأئمة ;
امتنع أن نعلم نحن من الدين
الذي يقرب إلى الله
ما لم يعلمه النبي
صلى الله عليه وسلم ،
ولا الصحابة ،
ولا التابعون وسائر الأئمة .
وإن علموه
امتنع مع توفر دواعيهم على العمل الصالح ،
وتعليم الخلق والنصيحة ;
أن لا يعلموا أحداً بهذا الفضل ،
ولا يسارع إليه واحد منهم .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فإذا كان هذا الفضل المُدَّعى
مستلزماً لعدم علم الرسول
وخير القرون ببعض دين الله ،
أو لكتمانهم وتركهم
ما تقتضي شريعتهم وعادتهم
أن لا يكتموه ولا يتركوه ،
وكل واحد من اللازمين مُنتفٍ :
إما بالشرع ،
وإما بالعادة مع الشرع ;
عُلم انتفاء الملزوم ،
وهو الفضل المُدَّعى .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ثم هذا العمل المبتدَع مستلزم :
إما لاعتقادٍ هو ضلال في الدين ،
أو عمل دين لغير الله ،
والتدين بالاعتقادات الفاسدة ،
أو التدين لغير الله ;
لا يجوز .
فهذه البدع وأمثالها مستلزمة قطعاً أو ظاهراً
لفعل ما لا يجوز ،
فأقل أحوال المستلزم
إن لم يكن محرماً أن يكون مكروهاً .
وهذا المعنى سارٍ في سائر البدع المحدَثة .
ثم هذا الاعتقاد
يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال ،
وتلك الأحوال أيضاً باطلة ،
ليست من دين الله .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ولو فرض أن الرجل قد يقول :
أنا لا أعتقد الفضل ،
فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه
من التعظيم والإجلال .
والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد ،
ولو أنه توهم أو ظن أن هذا الأمر ضروري ،
فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيء ;
امتنعت مع ذلك أن تعظمه ،
ولكن قد تقوم به خواطر متقابلة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة ;
يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه ،
ومن حيث شعوره بما روي فيه ،
أو بفعل الناس له ،
أو بأن فلاناً وفلاناً فعلوه ،
أو بما يظهر له فيه من المنفعة ;
يقوم بفعله وتعظيمه .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فعلمت أن فعل هذه البدع
تناقض الاعتقادات الواجبة ،
وتنازع الرسل ما جاءوا به عن الله ،
وأنها تورث القلب نفاقاً ،
ولو كان نفاقاً خفيفاً .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومثلها مثل أقوام كانوا يُعظمون أبا جهل ،
أو عبدالله بن أبي سلول ;
لرياسته وماله ونسبه وإحسانه إليهم وسلطانه عليهم ،
فإذا ذمه الرسول أو بيَّن نقصه ،
أو أمر بقتله ;
فمَن لم يخلص إيمانه ،
وإلاَّ يبقى في قلبه منازعة
بين طاعة الرسول التابعة لاعتقاده الصحيح ،
واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فمن تدبر هذا ;
علم يقيناً ما في حشو البدع
من السموم المضعفة للإيمان ،
ولهذا قيل :
إن البدع مشتقة من الكفر .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهذا المعنى الذي ذكرته
معتبر في كل ما نهى عنه الشارع من أنواع العبادات ،
التي لا مزية لها في الشرع ،
إذا جاز أن يتوهم لها مزية ،
كالصلاة عند القبور،
والذبح عند الأصنام،
ونحو ذلك ،
وإن لم يكن الفاعل معتقداً للمزية ،
لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية .
وكما أن
إثبات الفضيلة الشرعية مقصود ،
فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضاً .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فإن قيل :
هذا يعارضه :
إن هذه المواسم مثلاً
فعلها قوم من أولي العلم والفضل
الصديقين فمن دونهم ،
وفيها من الفوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه ،
من طهارة قلبه ورقته ،
وزوال آثار الذنوب عنه ،
وإجابة دعائه ونحو ذلك ،
مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة
على فضل الصلاة والصيام ،
كقوله تعالى :
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى }[1] ،
وقوله صلى الله عليه وسلم :
( الصلاة نور وبرهان ) ،
ونحو ذلك .
============
[1] - سورة إقرأ ، الآية : 9 ، 10 .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
قلنا:
لا ريب أن من فعلها متأولاً مجتهداً أو مقلداً;
كان له أجر على حسن قصده ،
وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع ،
وكان ما فيه من المبتدَع مغفوراً له ،
إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين،
وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها ،
إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه ;
كالصوم ، والذكر، و القرآءة ، والركوع والسجود ،
وحسن القصد في عبادة الله ،
وطاعته ودعائه ،
وما اشتملت عليه من المكروه ،
وانتفى موجبه بعفو الله ،
لا اجتهاد صاحبه أو تقليده .
وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر
في بعض البدع المكروهة من الفائدة .
-
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
لكن هذا القدر
لا يمنع كراهتها والنهي عنها ،
والاعتياض عنها بالمشروع
الذي لا بدعة فيه .
كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك ;
بل اليهود والنصارى يجدون في عبادتهم أيضاً فوائد .
وذلك ;
لأنه لابد أن تشتمل عبادتهم على نوع ما مشروع في جنسه ،
كما أن قولهم لابد أن يشتمل على صدق ما مأثور عن الأنبياء ،
ثم مع ذلك
لا يوجب أن تفعل عباداتهم أو تروى كلماتهم ،
لأن جميع المبتدعات
لابد أن تشتمل على شر راجح
على ما فيها من خير ،
إذ لو كان خيرها راجحاً
لما أهملتها الشريعة .
فنحن نستدل بكونها بدعة
على أن إثمها أكبر من نفعها،
وذلك هو الموجب للنهي .