رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (321)
صـــــ(1) إلى صــ(24)
شرح زاد المستقنع -** باب الرهن [6]
ينقسم الرهن إلى قسمين: قسم يحتاج إلى مئونة وكلفة، فللمرتهن أن ينتفع به بقدر ما ينفق عليه، ويكون ذلك في المركوب والمحلوب، وقسم لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، وله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الرهن لقاء الدين، وله ثلاث صور: - الأولى: أن ينتفع بالرهن دون إذن الراهن، فهذا لا يجوز بالإجماع.
- الثانية: أن ينتفع بالرهن بدون عوض، أو بأقل من عوض المثل، فهذا أيضاً لا يجوز.
- الثالثة: أن ينتفع بالرهن بعوض المثل فهذا جائز.
الحالة الثانية: أن يكون الرهن لقاء ثمن المبيع، ففي هذه الحالة يجوز الانتفاع بالرهن بعوض المثل، أو بدون عوض المثل، أو بدون عوض
**أقسام الرهن من حيث الكلفة والمئونة وعدمها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصلٌ: وللمرتَهِن أن يركَب ما يُركب ويحلب ما يُحلب بقدر نفقته بلا إذن].
هذا الفصل فصلٌ مهم جداً في باب الرهن.
والرهون إذا أخذها أصحاب الديون فإنها تنقسم إلى أقسام: قسم يحتاج إلى مئونة وكلفة، وهذا الذي يحتاج إلى مئونة وكلفة قد يكون فيه فوائد، مثل الركوب، كالسيارات ونحوها، وبعض الأحيان تكون فيها منافع، كالأنعام التي تحلب كالإبل، والبقر والغنم، ويكون منها الصوف والوبر، فهناك منافع تكون في هذه الأعيان المرهونة
**الرهن الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة
فالأعيان المرهونة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون من الأعيان التي لا تحتاج إلى مئونة في حفظها، ولا تحتاج إلى كلفة.
القسم الثاني: أن تكون من الأعيان التي تحتاج إلى مئونة وكلفة في حفظها.
أما بالنسبة لتصوير القسمين ثم الدخول في أحكامهما، فالقسم الأول: هو الذي لا يحتاج إلى مئونة؛ كرجلٍ قال لك: بعني عمارتك، فقلتَ له: أبيع لك هذه العمارة بنصف مليون، فقال لك: قبلت، فقلت له: أعطني ثمنها، فقال: ما عندي الآن ولكن سأعطيك في نهاية السنة، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك أرضي التي في جدة، وهي الأرض الفلانية، وجعل الأرض بصكِّها رهناً عندك، فالأرض التي رهنها لا تحتاج إلى كلفة، فهذا مثال في العقارات التي لا تحتاج إلى كلفة.
ومثاله في المنقولات التي لا تحتاج إلى كلفة: كالسيارات، فإن السيارة لا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، فإذا قال لك: أعطني عشرة آلاف ديناً إلى نهاية السنة، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك سيارتي، ويأتي بسيارته ويدخلها في مكان آمن.
إذاً: هي من جنس المنقولات التي لا تحتاج إلى كلفة، وكذلك لو قال لك: أعطني مائة ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال لك: أرهن عندك هذا الكيس من الأرز، والكيس من الأرز لا يحتاج إلى كلفة في غالبه وأكثر أنواعه، وكذلك لو قلت له: أعطني ديناً مائة، فقال: أعطني رهناً، فقلت: أرهن عندك هذا (البشت) أو هذا الثوب، و (البشت) أو الثوب لا يحتاجان إلى طعام ولا إلى شراب.
إذاً: النوع الأول هو ما لا يحتاج إلى مئونة.
ولابد من فهم هذا فهماً جيداً؛ لأن التفصيلات التي ستأتي مهمة جداً في مسألة الرهن؛ ففيها مداخل للربا، ومداخل للقرض الذي جر نفعاً، فنحن نقرر الآن القسمين ونضبطهما بالأمثلة.
فالقسم الأول كما ذكرنا: أن يكون الرهن لا يحتاج إلى مئونة ولا كلفة، ومن أمثلته في العقارات: الأراضي، والدور، والعمائر ونحوها، فإنها تُقفل وتصك أبوابها ثم تترك، فهذه لا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، وهذا في العقارات، أما في المنقولات مثل: الأطعمة، والأكسية، والثياب، والأغذية مثل: البر، والشعير، فهذه كلها لا تحتاج إلى طعام ولا تحتاج إلى مئونة
**الرهن الذي يحتاج الى مئونة وكلفة
القسم الثاني: ما يحتاج إلى مئونة وكلفة؛ كالإبل، والبقر، والغنم، فهذا فيه ما يُحلب ويُركب، وفيه ما يُركب ولا يحلب، وفيه ما يحلب ولا يركب، وفيه ما لا يركب ولا يحلب، فهو على أربعة أنواع: النوع الأول: أن يكون مركوباً محلوباً، فهو يحتاج إلى مئونة وكلفة، ولكن فيه منفعة الركوب، ومنفعة الحليب، ومن أمثلته: الناقة، فإن الناقة تحتاج إلى أن تطعمها وتعلفها، وهي تُركب، فله أن يركب عليها، وهي تُحلَب، فله أن يأخذ من حليبها ودرّها، هذا بالنسبة للنوع الأول من القسم الثاني.
النوع الثاني: أن يكون مما لا يحلب ولا يركب، مثل: الأرقاء قديماً، ومثل: التيس من الغنم والفحل من الشياه والغنم، فإنه لا يحلب، وأيضاً لا يركب، والفحل من البقر ليس فيه حليب ولا يمكن أيضاً ركوبه في الغالب، هذا بالنسبة للنوع الثاني، أن يكون مما لا يحلب ولا يركب.
النوع الثالث: أن يكون مما يحلب ولا يركب، مثل الشاة، فإذا كان فيها حليب فله أن يحلبها، لكن لا يمكن أن يركبها، وكذلك البقرة فيها حليب وله أن يحلبها، لكن لا يمكن أن يركبها في الغالب، فهذا مما يُحلب ولا يركب.
النوع الرابع: أن يكون مما يركب ولا يحلب، كالفحل من الإبل، فإنه يركب عليه ولكن لا يحلب
**حكم الانتفاع بالرهن الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة
إذاً: هذا هو القسم الثاني: أن يكون من جنس ما يحتاج إلى مئونة وكلفة من طعام وشراب وقيام عليه.
وبهذا نكون قد عرفنا أن الرهن فيه ما يحتاج إلى مئونة وكلفة، وفيه ما لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، فنبدأ بالذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، كالبيوت والدور والأرضين إذا وُضِعت رهناً، فإنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين -الذي هو المرتَهِن- أي منفعة منها إلا بحقها، هذا من حيث الأصل، أو إذنِ صاحبها.
ويرد التفصيل في هذا النوع، وهو الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة: فقالوا: لا يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن إذا لم يأذن له صاحب الرهن، مثاله: رجل استدان خمسمائة ألف، ورهن في مقابلها عمارة، فلا يجوز لصاحب الدين أن يسكن العمارة، ولا يجوز له أن يؤجرها للغير، ولا أن ينتفع بأي منفعة موجودة في العمارة، هذا من حيث الأصل.
وما هو الدليل على أنه يحرم عليه أن يأخذ ذلك؟ نقول: إن الأصل في الرهن أنه ملكٌ لك أنت أيها المديون، والأملاك لا يجوز أن يؤخذ منها -أي: من منافعها- إلا بإذن أصحابها ورضاهم، فإذا كان صاحب الرهن -وهو الذي أعطاك العمارة- لم يأذن لك بتأجيرها، ولم يأذن لك بمنفعتها، فلا يجوز لك أن تأخذ منها، وهذا بإجماع العلماء.
أما لو أذن لك أن تتصرف في هذا المال، وأذن لك أن تنتفع به، فلا يخلو سبب الرهن من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يأذن بحقه، فيقول: أجِّر العمارة، ولكن الأجرة لي، وليست لك، فأذن لك بتأجيرها على أن تكون الأجرة له، فقلت له: أريد أن أستأجرها أنا، فقال لك: انتفع أنت بالعمارة على أن تدفع الأجرة، فالحكم حينئذٍ أنه انتفع بالرهن بإذن صاحبه، فإن أذِن له بعوض فلا إشكال في الجواز، وحينئذٍ تكون إجارة.
لكن
**السؤال
هل الأصل في العمارة أنها رهن أو عين مؤجرة؟ الأصل أنها رهن، وقد ذكرنا في أول باب الرهن يكون لازماً بالقبض، فإذا قبض صاحب الدين الرهن وحازه عنده فإنه يكون لازماً.
وإذا لم يقبض الرهن، وأردت أن لا تعطيه الرهن، فإن هذا من حقك؛ لأن الرهن لا يصير لازماً إلا إذا قُبِض، فمثلاً لو قلتُ لك: أعطيك سيارتي، ولم تقبِضها، فمن حقي أن أرجع عن رهن سيارتي؛ لأن الرهن لا يصير لازماً عليّ إلا إذا قبضتَه، وفائدة ذلك: أنه إذا صار لازماً فلن يستطيع صاحبه أن يغيِّره أو يبدِّله، لكن إذا لم يكن لازماً جاز له أن يغير ويبدل.
فالعمارة إذا قُبِضت من صاحب الدين فجاء وقال للمديون: أريد أن أستأجر منك العمارة، بدلاً من أن تكون فارغة فأنا أريد أن أسكن فيها وأستأجرها، فقلنا: ذلك، وحينما قلنا بالجواز انتقلت من الرهن إلى الإجارة، فإذا انتقلت من الرهن إلى الإجارة فللعلماء وجهان: قال بعض العلماء: يزول اللزوم للرهن، وتصبح اليد يد إجارة وهي يد ضمان، بخلاف اليد الأولى فإنها يد أمان لا تضمن إلا إذا فرّطت، فإذا انتقلت إلى عين مؤجرة أُلغيت يد الرهن.
وفائدة ذلك: أنه إذا استأجرها شهراً، والرهن لسنة، أنه بعد شهر إذا انتهت الإجارة، وأراد صاحب العمارة أن يمتنع من تسليمها رهناً، كان له ذلك؛ لأنه قد زال لزوم الرهن، وعلى هذا يُحكم بزواله لوجود الانتقال في اليد.
الحالة الثانية: أن يأذن بغير عوض، فهذا لا يجوز؛ لأنه قرض جر نفعاً، وكذلك لو انتفع بالرهن بإذن الراهن، لكن بأجرة فيها شيء من المحاباة والمراعاة، فحينئذٍ لا يجوز؛ لأنه دخلت شبهة قرض جر نفعاً
**حكم انتفاع المرتهن بالرهن
قوله: (فصلٌ وللمرتَهِن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب).
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالانتفاع بالرهن، ومن المعلوم أن الرهن تكون فيه منافع، وقد يحتاج إلى مئونة يقوم بها الراهن أو المرتَهِن، ومن هنا يرد السؤال عن هذه المنافع التي تكون في الرهن: هل يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن أو لا يجوز؟ وقد سبق أن ذكرنا أن الرهن له أحوال: فتارةً يكون من الأشياء التي لا تحتاج إلى مئونة، وتارةً يكون من الأشياء التي تحتاج إلى مئونة، ثم فصّلنا في النوع الثاني، وهو الذي يحتاج إلى مئونة، فذكرنا أنه منه ما يكون محلوباً مركوباً، ومنه ما يكون مركوباً غير محلوب، ومنه ما يكون محلوباً غير مركوب، ومنه ما يكون غير محلوب وغير مركوب؛ كالأرقاء.
والسؤال في هذه المسألة يقوم على قضية انتفاع المرتَهِن بالرهن هل يجوز أو لا يجوز؟ فمثلاً: قد تضع سيارةً عند شخصٍ رهناً لقاء دين، فتقول: يا فلان! أعطني مائة ألف قرضاً إلى نهاية العام مثلاً، فقال لك: أعطني رهناً، فأعطيته السيارة، أو أعطيته أرضاً، أو أعطيته عمارةً رهناً، ف
**السؤال
هل يجوز أن ينتفع صاحب الدين من رهنك الذي وضعته عنده أو لا؟ وكل الذي سنتكلم عليه الآن مسألة انتفاع المرتهن بالرهن، وهناك قاعدة عامة ثم فروعٌ تفصيلية.
أولاً: أجمع العلماء على أن منافع الرهن من سيارة، أو عمارة، أو أرضٍ، أو دابة، ملكٌ للراهن في الأصل، ولا يحل مال المسلم إلا بطبيب نفسٍ منه، فمن حيث القاعدة العامة، وأصول الشريعة، كلها تدل على أن منافع الرهن سواءً كان من العقارات أو المنقولات ليست من حق المرتهن، أي: لا يجوز للمرتهن أن يعتدي عليها، فينتفع بها بحجة أنها رهنٌ عنده؛ بل إن يده يد أمانة كما ذكرنا، وينبغي عليه أن يحفظ الرهن كما هو بمنافعه.
أما لو استأذنك فأذنت له، كأن قال لك: هذه العمارة أريد أن أستأجرها منك مدة الرهن، ومدة الرهن شهر، أو سنة، فقال: أريد أن أستأجرها سنة، فدفع العِوض عن المنفعة، فالسؤال: هل يجوز أن يأخذ المنافع إذا أذنت له أو لا يجوز؟ والإجابة على هذا السؤال تستلزم بيان أنواع الأشياء التي تُرهن، ثم نفصِّل متى يجوز أن ينتفع المرتهن إذا أذن الراهن، ومتى لا يجوز أن ينتفع إذا أذِن الراهن أيضاً.
والرهن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما لا يحتاج إلى مئونة، وهذا القسم مثل: الأرضين، والدور، فالعمارة مثلاً إذا وضعتها رهناً لقاء دينٍ أخذته، فإنها تقفل، ثم هي لا تحتاج إلى مئونة، فلا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، وإنما تغلق حتى إذا جاء وقت السداد فإن أعطاك الدين وإلا قمت ببيع العمارة، صحيح أنها تحتاج إلى كنسٍ ونحو ذلك إذا كان الإنسان يريد أن ينتفع بها، هذا النوع الذي لا يحتاج إلى مئونة.
مثال آخر للذي لا يحتاج إلى مئونة: كأن يقول المرتهن: أريد أن أسكن العمارة، وهو لا يريد أن يدفع العِوض، فهل يجوز؟ أو يقول: أريد أن أسكن العمارة، وهو يريد أن يدفع العِوض، فهل يجوز؟ لذلك حالتان
**حكم الانتفاع بالرهن بعوض وبدون عوض
الحالة الأولى: كأن يقول: يا فلان! هذه العمارة التي رهنتها عندي، أريد أن أسكنها مدة الرهن، أو شهراً مثلاً، فهل يجوز إذا استأذنك؟ إن لم تأذن له فلا يجوز بالإجماع، لكن لو أذنت له فهل يجوز ذلك أم لا؟
**الجواب
إذا استأذنك وأذنت له أن يسكن بدون عوض، ففيه تفصيل: فإن كان الرهن لقاء دين فإنه لا يجوز أن ينتفع به، وإن كان الرهن لقاء قيمة مبيع فإنه يجوز الانتفاع به.
إذاً: الذي لا مئونة له إذا كانت له منفعة، وطلبها المرتهن، ولم يأذن صاحب الرهن، فلا يجوز بالإجماع.
وإن استأذنه وأذن له فعلى صورتين: إما أن يكون بدون عوض، وإما أن يكون بعوض.
فإن كان بدون عوض فلا يخلو سبب الرهن: إما أن يكون قرضاً، أو غير قرض، فالقرض: مثل أن تقول له: أعطني مائة ألف وعمارتي رهن عندك، وغير القرض: مثل أن تقول له: بعني أرضك هذه، فيقول: بمائة ألف، فتقول له: اشتريتها منك بمائة ألف إلى نهاية السنة، فيقول: قبلت، ولكن أعطني رهناً، فقلت: هذه عمارتي، أو سيارتي.
إلخ.
إذاً: الرهن إما أن يكون لقاء دين، أو غير دين، فإن كان لقاء دين، وأذِنت له أن يأخذ المنفعة بدون عوض، فإنه لا يجوز؛ لأنه قرضٌ جرّ نفعاً، وهو من الربا، ووجه ذلك: أن العمارة إذا سكنها شهراً وقيمة أجرتها ألف ريال، فكأنه ديّنك مائة ألف وألفاً، فيكون أخذ فائدة على ذلك القرض؛ لأنك إنما أعطيته لكونك مستديناً منه، فصار قرضاً جر نفعاً.
وعلى هذا فالصورة الأولى: إذا كان يريد منفعة الدار أو منفعة الشيء المرهون بدون عوض في لقاء قرضٍ فلا يجوز؛ لأنه يئول إلى قرضٍ جر نفعاً.
الصورة الثانية: أن يقول لك: أنا أريد أن آخذ هذه المنفعة وأسكن في الدار بأجرتها، فإذا قال لك: بعوض، أو قلت له: لا أعطيك إلا بعِوض، فأيضاً لا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن يكون بمثلها، بمعنى: أجرة المثل، لا وكس فيها ولا شطط، فيجوز.
الضرب الثاني: أن تكون الأجرة فيها شيء من المراعاة والمحاباة، فدخلت شبهة قرضٍ جر نفعاً.
إذاً: مسألة الانتفاع بالرهن -سواءً كان بعوض أو بدون عِوض- إذا كان الرهن لقاء دين، فإنه لا يجوز أن يأخذ المرتَهِن العين المرهونة فينتفع بها، أو بعوض دون مثلها، فإنه في هذه الحالة لا يجوز الانتفاع بها أيضاً.
أما لو أخذها في رهن الدين بعوضٍ مقابلٍ لمثلها لا ظلم فيه، فإنه يجوز.
فالخلاصة: أن الرهن إذا أُعطي لقاء الدين، وكانت فيه منفعة، وطلبها صاحب الدين، فأخذها بعوض مثلها جاز، ولكن إن طلبها بدون عوض، أو طلبها بعوض دون حقها، لم يجز؛ لأنه قرضٌ جر نفعاً.
هذا في الحالة الأولى وهي: أن يكون الرهن لقاء قرض
**حكم الانتفاع بالرهن لقاء ثمن المبيع
الحالة الثانية: أن يكون الرهن لقاء ثمن مبيع، مثل أن يبيعك قطعة من الأرض في مخطّط ويشترط رهناً، فتعطيه عمارةً رهناً، فهذه العمارة أعطيت رهناً لقاء قيمة مبيع، فإذا كانت لقاء قيمة مبيعٍ فالمشهور أنه يجوز أن يأخذ المنفعة بدون عوض، وأن يأخذها بعوض مثلها أو دونه؛ لأن شبهة الربا في هذا منتفية، ومن هنا قالوا: كأنه باعه بالثمن المؤجل، ودخول المنفعة لا يضر على أصل الاستحقاق.
هذا بالنسبة لحالة ما إذا كان للرهن منفعة وأراد المرتهن أن يأخذها.
إذاً: الخلاصة: أنه إذا طلب صاحب الدين منفعة الرهن، فإن طلبها بدون عوض أو بعوض دون حق مثلها في قرضٍ لم يجز، وإن طلبها بعوض مثلها في قرض جاز.
وأما في رهن غير القروض، فإن طلبها بعوض مثلها، أو بدون عوض مثلها، أو بدون عوضٍ أصلاً؛ فإنه يجوز
**انتقال العقد من الرهن إلى الإجارة
وإذا كنا نقول: إنه يجوز له أن ينتفع بالرهن بعوض بعوض مثله في حالة القرض، فمثال ذلك: رجل أعطاك مائة ألف ديناً فأعطيته عمارة، فطلب منك أن يأخذ منفعتها في الموسم، وأجرة هذه العمارة إذا أجِّرت في الموسم على من يريد استغلالها مثلاً خمسون ألفاً، فإذا أعطاك خمسين ألفاً فإنه يجوز؛ لأنه أخذ الرهن لقاء إجارة، وقد ذكرنا في أول باب الرهن أن يد المرتَهِن تكون يد أمانة، فهو الآن أراد أن يستأجر الرهن، فهل تنتقل يده من يد الأمانة إلى يد الضمان؟
**الجواب
نعم؛ لأنه بالإجارة حينئذٍ يصبح ضامناً، فتخرج يده من يد أمانة إلى يد ضمان، فلو تلف شيءٌ في العمارة فإنه يضمنه.
هذا بالنسبة إذا قلنا: إنه تنتقل بالإجارة، ويجوز أن يستأجره، وهناك عقدان: العقد الأول: الرهن، والعقد الثاني: عقد الإجارة، سواءً استغرق عقد الإجارة مدة الدين، كأن يكون مدة الدين سنة، وعقد الإجارة سنة، فلا إشكال، أما دون السنة كشهرين، أو مدة الموسم، أو ثلاثة أشهر، ففي هذه الحالة، عندما أخذها إجارةً انتقلت اليد وزالت يد الرهن، وأصبحت عيناً مؤجرة، وإذا انتهت المدة فهل تعود رهناً؟ الجواب: لا، إذا انتهت المدة فإن صاحب العمارة بالخيار، فإن شاء ردها رهناً، وإن شاء رهن غيرها، وفائدة ذلك: أنه ربما ترهن العمارة وقيمتها مثلاً خمسمائة ألف، وخلال الشهرين تصبح قيمتها مثلاً مليوناً، ويكون من الضرر أن تجعلها رهناً، وقد ترهنها وأنت لا تحتاج إلى أن تستغلّها، ثم لما صار الشهر والشهران بانتفاعها بالإجارة طرأ استغلال لك عليها أو حاجة لك عليها، فحينئذٍ بعد انتهاء المدة أنت بالخيار، فإن شئت أن تعيد العمارة أعدتها، وإن شئت أن تدخل عيناً رهناً بدلاً عنها كان لك ذلك، فكأن صاحب الدين هو الذي ضيّع حقه بزوال اليد، وحينئذٍ يزول لزوم الرهن؛ لأننا اشترطنا أن اللزوم يستديم فيه ببقاء اليد.
فإذا كانت اليد دخلت عليها الإجارة، وانتقل الرهن من كونه رهناً إلى إجارة؛ فحينئذٍ يزول لزوم الرهن، هذا هو معنى لزوم الرهن.
لزوم الرهن: لو أنك رهنت العمارة وقيمتها مثلاً مائة ألف، والدين لثلاث سنوات، وبعد شهر أو شهرين أصبحت قيمتها مليوناً، فتبقى لازمة عليك، أي: تبقى رهناً، ولو أصبحت بالملايين، لكن إذا أدخلت الإجارة عليها ورضي صاحب الدين، فحينئذٍ انفك اللزوم؛ لأنه قد سبق أن ذكرنا أن المذهب -وهذا مذهب طائفة من العلماء- على أن الرهن يلزم إذا قُبِض واستديم القبض، لكن عندما دخلت الإجارة رفعت استدامة اليد، وحينئذٍ ينتقل من كونه لازماً على المديون، إلا أنه بعد انتهاء مدة الإجارة فهو بالخيار، إن شاء أدخله رهناً مرة ثانية، وإن شاء امتنع عن إدخاله، وأدخل عيناً أخرى مكانه، على ما يتفقان عليه.
هذا بالنسبة إذا كانت العين لا تحتاج إلى مئونة كالعمائر والأرضين، فخلاصة ما فيها: أن الأصل العام أنه لا يجوز لصاحب الدين أن يأخذ منفعة من الرهن إلا بإذن صاحبه، فإذا اعتدى على ذلك ضَمِن، ويتفرع تفرّع على هذا لو أنه استأذنه بعوض وكان العوض لمثل العين جاز، سواءً كان في رهن القروض أو غيرها.
وإن استأذنه بعوض دونه، أو بدون عوض في عينٍ مرهونة لقاء دينٍ لم يجز؛ لأنه قرض جر نفعاً، وأما إذا كان في غير رهن القروض، فإنه يجوز؛ لزوال الشبهة الموجبة للتحريم، والقاعدة: أن الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً، فقد منعنا انتفاعه بدون عوض أو بدون عوض المثل إذا كان في القرض؛ لخوف الربا، وذلك منتفٍ في رهن غير القروض، فيصبح جائزاً على الأصل
**انتفاع المرتهن بالرهن المحتاج إلى مئونة إن أنفق عليه
القسم الثاني: أن يكون الرهن يحتاج إلى مئونة، فمثلاً: عندك من هذه الدواب: من الإبل، أو البقر، أو الغنم، فهذه تحتاج إلى مئونة، فهي تحتاج إلى طعام، وتحتاج إلى شراب، ففي هذه الحالة هل يجوز لصاحب الدين أن ينتفع بها؟ هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كانت العين المرهونة تحتاج إلى نفقة، وقال صاحبها: أنا أنفق عليها، وقام بالنفقة على عينه، فلا إشكال، مثلاً جاء وقال لك: أعطني ألف ريال، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: هذه الناقة رهن حتى أسدد، فأخذت الناقة وأصبح كل يوم -كأن يكون جارك- يقوم على الناقة ويعلفها، أو تكون الناقة عنده ورضيت له بذلك على أن يعلفها ويقوم عليها، فهذا لا إشكال فيه، لكن المشكلة إذا كانت العين تحتاج إلى مئونة وصاحبها غير موجود، أو يتعذر على صاحبها أن يقوم بالنفقة عليها، فأنت تريد الرهن أن يكون عندك، وصاحبها في بلد غير بلدك، فغير معقول أنه كل يوم يأتي ويعلفها أو يقوم عليها، وقد يكون في البلد الواحد، ومن المشقة أن يأتي فيعلفها ويقوم عليها، فحينئذٍ إذا كانت العين المرهونة عندك تحتاج إلى نفقة من طعام أو شراب أو نحو ذلك، فلها أربع حالات: الحالة الأولى: أن تكون محلوبة مركوبة، مثل الناقة.
الحالة الثانية: أن تكون محلوبة غير مركوبة، كالشاة فإنها تحلب ولكن لا يمكن الانتفاع بالركوب عليها، وكذلك البقرة تحلب ولكن لا يركب عليها.
الحالة الثالثة: أن تكون مركوبة غير محلوبة؛ كفحل الإبل، فإنه يُركب ولا يحلب.
الحالة الرابعة: أن تكون غير محلوبة ولا مركوبة، مثل فحل الغنم، فإنه غير محلوب ولا مركوب، وكذلك الأرقاء.
فهذه أربعة أحوال وفيه هذه المنافع.
ويرد
**السؤال
إذا كان صاحب الدين يُنفق على هذه العين المرهونة وهي الناقة، فهل يجوز له أن ينتفع في حدود نفقته أو لا يجوز؟ ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن الرهن إذا كان يُركب أو يحلب، أو يجمع بين منفعة الركوب والحليب، فإن من حقك إذا أنفقت عليه أن تركبه وتحلب منه بقدر ما أنفقت عليه.
مثال ذلك: لو قال لك: هذه الناقة رهنٌ عندك مقابل الألف التي لك عليّ، فقمت على الناقة وعلفتها بما قيمته مثلاً خمسون ريالاً، فحينئذٍ يجوز لك أن تشرب من حليبها بقدر الخمسين، وأن تركب على ظهرها بقدر الخمسين، ويجوز أن تجمع بين الحليب وبين الركوب بقدر الخمسين، فتجعل -مثلاً- ثلاثين للحليب وعشرين للركوب، فتقدر أن ذهابك على ظهرها إلى داخل المدينة والرجوع بعشرين، عشرة ذاهباً وعشرة آيباً؛ وهذا يتقدَّر بالعُرف، ثم حليبها هذا الذي احتلبته في اليوم الذي أنفقت عليها، قيمته ثلاثون، فحينئذٍ تكون الثلاثين مع العشرين مساوية لنفقتك عليها.
فتُقدِّر ما أنفقته وتركب وتحلب على قدر ما أنفقت، فإن كان مركوباً تمحّض انتفاعك بالركوب، وإن كان محلوباً تمحّض انتفاعك بالحليب، وإن كان محلوباً مركوباً جمعت بين الأمرين، أو أخذت منفعة من المنفعتين بقدر حصتها من النفقة، هذا من حيث الأصل الذي ذكرناه.
والدليل عليه ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)، أي: عليه أن يعلف الدابة، ويقوم عليها في حدود ما أنفق، وهذا هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، لا يُظلم صاحب الرهن، ولا يُظلم صاحب الدين، ولا تتلف العين؛ لأنها لو تُركت بدون طعام ولا شراب لتلفت.
وعلى هذا أخذ المصنف رحمه الله هذا الحكم، فبيّن أنه يجوز للمرتَهِن ومن له الدين أن يركب الرهن وأن يشرب منه بقدر ما أنفق عليه في طعامه وشرابه
**جواز الانتفاع بالرهن المحتاج إلى مئونة بدون إذن الراهن
وقوله: (بقدر نفقته بلا إذن).
الفائدة هنا أنه لا يحتاج إلى إذن؛ والسبب في ذلك: أن الإذن موجودٌ من الشرع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً)، فهذا إذنٌ شرعي، والله عز وجل يملك العباد وما ملكوا، فالله ملّكنا ذلك، وبيّن أنه إذا رهن أحدٌ عندك عيناً تُركب وتحلب، وأنفقت عليها، وركبت وحلبت بقدر ما أنفقت؛ فقد عدلت وأقسطت، والله يحب المقسطين، ولا تحتاج في ذلك إلى إذن المالك، هذا بالنسبة للشرب والركوب
يتبع
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (322)
صـــــ(1) إلى صــ(24)
**حكم انتفاع المرتهن بالرهن غير المحلوب
يبقى
**السؤال
غير المركوب وغير المحلوب إذا احتاج إلى نفقة، فهل يُقاس على المركوب والمحلوب؟ جماهير العلماء على أنه لا يُقاس ولا يُلحق، وحتى الإمام أحمد رحمه الله لما قال بهذه السنة وعمل بها، سُئِل عن غيرها، فخصّص الحديث بما ورد؛ لأن الأصل يقتضي أنه لا يجوز لك أن تنتفع بمال غيرك إلا بإذنه، وبحقه، فلما جاءت السنة تستثني هذا الأصل فيما يُركب ويحلب، بقي ما عداه على الأصل الذي يوجب عدم ملكية المنافع إلا لأصحابها، ولا يجوز لمن له الدين أن ينتفع إلا بإذن المالك الحقيقي هذه خلاصة ما ذُكِر.
فالحاصل: أنه يجوز في القسم الثاني إذا كان الرهن يحتاج إلى مئونة وكان مركوباً محلوباً، جامعاً بينهما، أو فيه إحدى الخصلتين يجوز لمن له الدين أن ينتفع في حدود ما أنفق.
فإن كان غير محلوبٍ ولا مركوب، فإنه لا يجوز أن ينتفع به، وحينئذٍ يفصل فيه من ناحية إذا أنفق فإنه يحتسب قدر ما أنفق على ذلك المرهون، ثم يطالب المالك الحقيقي بنفقته، كما سيأتي إن شاء الله
**الإنفاق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكان الرجوع إليه
قال رحمه الله: [وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع].
قوله: (وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه) إذا استأذنه فلا إشكال، وقد ذكرنا المحلوب والمركوب، فالمحلوب والمركوب لا يحتاج إلى إذن، وغير المحلوب والمركوب -كما كان في الأرقاء في القديم ونحوهم- إذا احتاج إلى نفقة، فإنه إذا أنفق عليه بدون إذن صاحبه مع إمكان أن يستأذنه، فإنه لا يُعطى نفقته؛ والسبب في ذلك: أن المطالب في الأصل هو المالك، فكونه لم يستأذن ولم يأمره أحد أن يُعطي بل أعطى تلقائياً، دلّ على أن العطية محض تبرّع، وهذا يسمونه: الاستناد إلى الظاهر؛ لأن المالك الحقيقي موجود، فكونه موجوداً ويمكنه أن يتصل به أو يرسل إليه، أو يأتيه بنفسه ويقول له: إني سأنفق على الرهن فهل تأذن لي؟ فكونه لم يفعل ذلك، هذا يسمونه: دلالة الظاهر، وقد سبق أن ذكرنا الظاهر والأصل، فهذا من الظاهر فيُعمل به، ويقال: هذا محض تبرّع.
وقال بعض العلماء: يرجع إلى نيته، فإن كان نوى أنها تُحتسب احتسبت، وإن كان نوى أنها لا تحتسب فإنها لا تحتسب، وتكون محض التبرع.
والمراد بقوله: (لم يرجع)، أي: ليس من حقه أن يرجع على المالك الحقيقي فيطالبه، فيقولون: رجع، لم يرجع، وعليه أن يرجع، هذا هو المراد به، أنه إذا دفع مثلاً ما قيمته خمسمائة ريال نفقة، وكان بإمكانه أن يستأذن المالك الحقيقي ولم يستأذنه، فحينئذٍ ليس من حقه أن يرجع ويطالب المالك الحقيقي بالنفقة
**النفقة على الرهن عند تعذر الرجوع إلى الراهن
قال رحمه الله: [وإن تعذّر رجع ولو لم يستأذن الحاكم].
قوله: (وإن تعذر) أي: إن تعذر عليه أن يرجع إلى المالك الحقيقي، وإن لم ينفق صارت الدابة معرضة للموت، والوقت ضيق، فتعذّر عليه أن يرجع؛ وذلك لصعوبة الاتصال به، أو سافر الراهن، وتعذر أن يتصل به أو يجد وكيلاً عنه، فقام وأنفق، فإنه يرجع؛ لأن الشبهة هنا قائمة، والأصل أن نفقته محسوبة، وقد قلنا هنا: إنه يرجع؛ لأنه لما أنفق هذا المال، فالأصل أن يرجع في ضمانه، هذا هو الأصل، ولما تعذّر عليه الرجوع سقط تأثير الظاهر؛ لأن في الظاهر ما يدل على الشبهة لوجود العذر، وحينئذٍ لا نلزمه، ولا نقول له: يسقط حقك؛ بل نقول: إن من حقك أن ترجع عليه بقدر النفقة.
فلو أنفق عليه مثلاً في حدود خمسمائة ريال، وقيمة الرهن عشرة آلاف ريال، والدين تسعة آلاف ريال، فلما انتهى الوقت جاء وسدد تسعة آلاف ريال، وقال له: أعطني الرهن، فقال: بقي خمسمائة تكفّلتُها نفقة على الرهن، فإن قال: لا أعطيك، فحينئذٍ من حقه أن يطالبه، ويقول له: أعطني هذه الخمسمائة وهي تابعة للدين، فيُلزم بإعطائه، ويجب عليه أن يعطيه، سواءً استأذن الحاكم أو لم يستأذنه.
وبعضهم يقول: عليه أن يستأذن الحاكم والوالي، والمراد بالحاكم هنا القاضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فالسلطان ولي من لا ولي له)، فجعل القضاة والحكام إنما يُرجع إليهم إذا تعذّر الرجوع إلى الأصل، فهم يقومون مقام الناس في القيام على مصالحهم، وعلى هذا قالوا: إنه يرجع إلى الحاكم فيستأذنه أولاً ثم ينفق، ولا شك أن الرجوع إلى القاضي متى أمكنه الرجوع إلى القاضي أحوط
**النفقة على الوديعة مع إمكان الاستئذان من المالك وعدمه
قال رحمه الله: [وكذا وديعة].
أي: إذا أنفق على وديعة، ومثاله: رجلٌ أعطاك وديعة، فإذا احتاجت هذه الوديعة إلى نفقة، وأمكنك الاتصال به، فإنه يجب عليك أن تتصل به وتستأذنه، وإن لم يمكنك الاتصال به على التفصيل الذي ذكرناه في الرهن، فمن حقك أن تطالبه بنفقتك على وديعته، سواءً قلنا باستئذان الحاكم أو بدونه، وأما إذا أمكنك أن تستأذنه ولم تستأذنه، فإن نفقتك على الوديعة تعتبر محض التبرّع، وليس من حقك أن تطالب بالنفقة
**النفقة على العارية مع إمكان الاستئذان من المالك وعدمه
قال رحمه الله: [وعارية].
أي: إذا استعار شخصٌ شيئاً، واحتاج هذا الشيء إلى نفقة، فإنه يرجع إلى مالكه الحقيقي ويستأذنه، فإذا لم يستأذنه مع إمكان الاستئذان، فإنه يتحمل مسئولية النفقة، وأما إذا لم يمكنه وتعذر عليه الاستئذان وقام بالنفقة، فإنها تضمن على التفصيل الذي ذكرناه في استئذان الوالي وعدم استئذانه
**النفقة على الدواب المستأجرة الهارب صاحبها
قال رحمه الله: [ودواب مستأجرة هرب ربها].
وذلك مثل الإبل في القديم، فإذا أستأجرها الإنسان من أجل الركوب، ثم هرب صاحبها، فهذه الدواب ستبقى عندك، وتكون يدك عليها قائمة، يد حفظ، فتحفظها لأخيك المسلم، وبعض العلماء يُلزمك بالحفظ هنا، ولا خيار لك، تُلزم بحفظها، وتقوم عليها حتى يأتي ربها وصاحبها، ثم تنفق عليها منها، فإذا أنفقت عليها منها فلا إشكال، وأما إذا لم تجد منها شيئاً وقمت أنت بنفسك وأنفقت من مالك، فحينئذٍ يكون من حقك الرجوع على مالكها الحقيقي إن جاء يطالبك يوماً من الأيام؛ لأنه تعذر عليك أن تتصل به وتطالبه، فيجوز لك حينئذٍ أن تؤاخذه بضمان؛ لأن هذه العين التي هي الإبل أو الدواب التي تُستأجر للركوب أو نحو ذلك مثل الثيران، فقد كانت في القديم تستأجر للحراثة، وفي زماننا لو كانت السيارة مستأجرة، ثم حصل ظرف لصاحبها وغاب فجأة، وأصبحت السيارة عندك واحتاجت إلى نفقة، أو إلى رعاية، فأنفقت عليها مع تعذر الاتصال بصاحبها، فإنه حينئذٍ إذا رجع طالبته بضمان ذلك الشيء الذي أنفقته على عينه؛ ووجه ذلك: أن هذه العين غُرمها وغنمها على مالكها الحقيقي؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (الخراج بالضمان)، فغرمها وغنمها لمن يضمن، أي: يأخذ الغنم وعليه الغرم، فلما كان ربحها له، كذلك أيضاً غرمها ونفقتها وخسارتها وأعباؤها وتكاليفها على مالكها الحقيقي، أما يدك فإنها يد حفظ.
ففي هذه الحالة -في العارية، وفي الرهن، وفي العين المستأجرة- إذا لم يتيسر الاتصال بمالكها الحقيقي وكنت معذوراً، جاز لك أن تقوم بالمعروف بالنفقة عليها، ثم تطالبه بضمان ما أنفقت
**تعمير المرتهن لخراب الدور والأراضي المرهونة ونحوها
قال رحمه الله: [ولو خرِب الرهن فعمّره بلا إذن رجع بآلته فقط].
الخراب: ضد العمار، فلو أن العين المرهونة -كالمزارع، والأرضين ونحوها- أصبحت خراباً، أو اخترب بعضها، فقام المرتهن باستصلاحه، فإنه في هذه الحالة العين والرقبة موجودة، ويمكن أن تبقى وتبقى ماليتها بحالها، بخلاف الإبل والبقر والدواب، فإنه إذا لم تنفق عليها فستموت وتتلف وتذهب ماليتها، فهناك فرق بين الاثنين، ثم في هذه الحالة يكون الدفع هنا دفع إجارة، وفيه مبايعة من جهة المئونة، فيلتزم به فقط بقيمة الآلة التي تم بها الاستصلاح، ولا يطالبه بالفضل، وليس له أن يقايضه على ذلك منفعة، وذلك بالعرف، فتكون مثلاً بناء هذه الدار واستصلاحها بخمسين ألفاً، وتكلفتها بالعرف أربعون ألفاً، وعشرة آلاف تكون ربحاً لمن يقوم باستصلاحها، فهنا ليس له أن يربح، وإنما يكون له فقط أجرة الآلة التي استصلح بها، فيملك فقط المئونة، وليس من حقه أن يقايض على ما فيه مصلحة ونماءٌ زائد.
وهذا بالنسبة لمنفعة الاستصلاح، بخلاف منفعة النفقة التي تبقى بها العين، فهنا محض تبرع فيه نوع من الفضل؛ فأرضي إذا انهدمت فإن من حقي أن أبنيها أو لا أبنيها، لكن الدابة إذا ماتت ففي الغالب أنني لا أرضى بموتها، فكونه في هذه الحالة عندما خربت الأرض أتى وعمرها، فأنا قد أرضى أن تسقط وتخرب وتبقى على حالها، لكن الإبل والبقر والغنم التي حياتها وماليتها موقوفة على النفقة لا أرضى بتلفها.
فهناك فرق بين الحالتين، فالنفقة في الأولى مستحقة ولازمة، وتبقى المالية عليها، وكأنه محض التصرف الرشيد، وفي موضعه، أن تنفق لبقاء الإبل والغنم والبقر ونحوها من الرقاب المرهونة أو المستعارة أو المؤجرة، لكن في حالة ما إذا كانت العين داراً فانهدمت، أو مزارع مثلاً فعطشت، فأصلح آبارها أو نحو ذلك، فإنه لا يأخذ إلا نفقة الآلات التي بها تحققت المنفعة، وليس من حقه أن يقايض أو يطلب الربح أو النماء الزائد.
أما لو استأذن فإنه يملك مطالبته بجميع ما أذن له به، وذلك في حدود الإذن، فلو قال له مثلاً: ابن هذا دورين، فبناهما دورين على نفس الصفة المتفق عليها، فله أن يطالبه بالنفقة كاملة
**الأسئلة
**جواز إدخال الإجارة على الرهن ومباينته لعقد البيعتين في بيعة
**السؤال
أشكل عليَّ انتقال يد الراهن من الأمانة إلى الضمان، وذلك إذا استأجر الرهن، فهنا ابتدأ بعقد الرهن وانتهى إلى الإجارة، فوسع هنا في هذه المسألة، وحرم في البيوع عن بيعتين في بيعة، وتردد العقد بين البيع والإجارة، فهل من حكمة في التوسيع هنا، والتضييق هناك؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأما بالنسبة لمسألة الرهن وانتقاله إلى الإجارة فليس هو على سبيل التشريك، فينبغي أن يُفرّق بين هذا وبين عقد البيعتين في بيعة، وعقد الإجارة الذي ينتهي بالتمليك عقدان في عقد.
أما الرهن مع الإجارة فعقدان منفصلان: الرهن عقد منفصل له شروطه وله ضوابطه، والإجارة عقد مستقل له شروطه وله ضوابطه، فإذا تعاقدا على رهن وأبقيا يد الرهن على ما هي عليه فرهن، وإن رفعا الرهن باختيارهما ورضاهما فهذا جائز، فمثلاً: لو أنني أخذت رهناً منك، ثم جئتني وقلت: يا فلان! أنا محتاج للرهن وأريد أن أنتفع به، فهلا سامحتني وأقلتني، فقلت لك: قد سامحتك، وأخذتَ الرهن، فإنه يجوز بالإجماع.
فانتقلت يد الرهن من الرهن إلى عقد آخر، دون أن يجتمعا.
لكن العقد في بيعتين في بيعة هنا اجتمع العقدان في عقد واحد، كأن يقول لك: أبيعك هذه الدار بعشرة آلاف حاضرة، أو بعشرين إلى نهاية السنة، وتفترقا قبل التحديد، أما لو حددتما فليس هناك إشكال، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما -كما روي عنه في مصنف ابن أبي شيبة وغيره-: أما إذا بت فلا إشكال.
فجمهور السلف رحمهم الله على أنه إذا قال له: بعني بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، وأخذ بإحدى البيعتين، فإنه خرج عن بيعتين في بيعة، وليس هناك خلاف إلا قول سماك ورواية عن طاووس رحمهما الله؛ وذلك لأن العقدين لا يدخلان في عقد واحد إلا إذا افترقا، فإن افترقا، وقد أعطاه البيعتين ولم يحدد، فقد أدخل العقدين في عقد، أما هنا -في عقد الرهن والإجارة- فإنه لم يدخل العقدين في عقد؛ لأن عقد الرهن على حدة، ثم اتفقا على انتقاله من الرهن إلى الإجارة، كما لو اتفقا على أن يعود على صاحبه.
إذاً: ليس هناك أي إشكال، فهذا شيء وهذا شيء، ولا يعتبر هذا من تداخل العقود.
وهكذا لو قال لك: استأجِر العمارة عشرين شهراً بعشرة آلاف كل شهر، ثم بعد سنة تملكها، فهو ليس بعقد إجارة، وليس بعقد بيعٍ محض، وإنما أدخل البيعتين في بيعة، أو أدخل العقدين في عقد، على القول بأن الإجارة بيع، ولا شك أنها نوع من البيع الذي هو بيع المنافع، فأدخل البيعتين في بيعة من جهة بيع منفعة، وبيع عين، أدخلهما في عقد واحد، وقد استأجرتَ العمارة وفي نيتك أن تملكها، والتزم لك أن يملكَك في نهاية العام، فأدخلتما عقدين في عقد واحد، فالغرر في هذا واضح.
وهكذا لو قال له: أبيعك بعشرة حاضرة وبعشرين إلى أجل، وافترقا قبل التحديد، فقد أدخلا الصفقتين في صفقة واحدة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في تتمة حديث البيعتين في بيعة: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)؛ وذلك لأنه إذا قال له: بعني بمائة حاضرة وبمائتين إلى أجل، وفارقك قبل أن يحدد، فإما أن يعطيك الوكس وأنت ترجو المائتين إلى أجل، فيقول لك: أريد أن أشتريها بمائة حاضرة، فضيّع عليك المائتين إلى أجل، وأنت تحب أن تكون إلى أجل، وهذا هو أوكسهما، أو أخذها وهو يريد أن يدفعها مائة، ثم قال: هلا خففت عليَّ فجعلتها إلى أجل، فوقع في الربا، فعاوض عن المائة التي في نيته أن يشتري بها إلى المائتين في أجل، فتحقق فيه ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، أما لو بتَّ، واشترى بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، كما هو موجود في بيع التقسيط، فليس هذا ببيعتين في بيعة؛ لأنه ليس له أوكسهما ولا الربا؛ ولأن العقد تم على سعرٍ معيّن، فالسلعة قيمتها حاضرة بمائة، وقيمتها إلى أجل بمائتين، ستشتريها بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، فهذا ليس من بيعتين في بيعة في شيء.
ولو قلنا: إن كونه يعرض عليه القيمتين في الصفقة يدل على أنه بيعتين في بيعة، لدخلت جميع البيوعات في المساومات؛ لأنه في المساومة يقول له: بعني بعشرين، فيقول: لا، بل بثلاثين، كما لو قال له: بعني بعشرة حاضرة أو بعشرين إلى أجل، فالمعنى في هذا واضح.
وعلى هذا لا يُعتبر إدخال الإجارة على الرهن كالبيعتين في بيعة، ولا يعتبر هذا موجباً للإشكال؛ لأن الرهن مستقل وعقدٌ قصد به الاستيثاق على وجه شرعي معتبر، وتم وبت على الصفة المشروعة، ثم اتفق الطرفان على إلغائه وإنشاء عقد الإجارة، وليس هذا من التداخل في شيء، وعليه فإنه يزول الإشكال، والله تعالى أعلم
**حكم تلف الرهن عند المرتهن
**السؤال
إذا رهن عندي رجلٌ بعيراً، ثم مات هذا الرهن عندي قبل السداد، ثم طالبني به، فما الحكم أثابكم الله؟
**الجواب
إذا مات البعير، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يموت بدون تفريط منك، فليس من حقه أن يطالبك، ويدك يد أمانة.
الحالة الثانية: أن يموت بتفريطٍ منك، فإنك تضمن، وعلى هذا يفصّل في مسألة ضمان الرهن.
مثاله: قال لك شخص: أعطني مائة ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فأعطاك ساعة أو مسجلاً أو كتاباً، فتلفت الساعة، أو تلف الكتاب، أو تلف المسجل، فإنه لا يضمن إلا إذا فرّط، فإن كان تلف هذه الأعيان بسبب تفريط منه فإنه يضمن، وأما إذا لم يفرِّط في ذلك فإنه لا ضمان عليه، وحينئذٍ تكون يده يد أمانة على التفصيل الذي سبق بيانه، والله تعالى أعلم
**حكم استصلاح الدور المؤجرة من قبل المستأجر
**السؤال
من كان مستأجراً لدار، وأراد أن يصلح فيها ما خرب، فهل لا بد أن يستأذن من المالك عموماً، أم يصلح مرافقها ويحتسب ما أنفقه من قيمة الإيجار؟
**الجواب
إذا استأجرت داراً فليس من حقك أن تتصرف في عين الدار، فتغير فيها أو تُحدث فيها إلا إذا استأذنت مالكها، أما ما يكون من جنس المنافع ومن حقك عرفاً أن تفعله، فإنك تفعله، فإذا كان هذا الذي تفعله فيه ضرر أو فيه زيادة أو نقصاً أو تغيير لصفة العين المؤجرة، فلابد أن تستأذن.
فلو استأجرت داراً مكونة من أربع غرف، وكان بالإمكان أن تفتح كل غرفتين على بعضها، فلابد أن تستأذن، ولا تنقل الجدار الحائل إلا بإذن، وكذلك أيضاً لو أردت أن تحدث أشياء، كوضع المسامير في الجدار أو نحوها، فلابد أن تستأذن، فإن لم يأذن لك وفعلت ذلك من عندك، فإنه يجب عليك شرعاً إذا فرّغت الدار أن تسلمها بالصفة التي استلمتها عليها.
وهذه مسألة من أعظم المسائل التي يعظم فيها الضرر، وأحبِّذ للخطباء وأئمة المساجد أن يذكِّروا الناس بالله عز وجل، فإن حقوق العيون المؤجرة -في هذا الزمن- ضائعة بين الناس إلا من رحمهم الله، فالمستأجر إذا انتهى وخرج من البيت، أو خرج من الدكان أو العين المؤجرة، فإنه يخرج منها بحالة قد تحتاج إلى استصلاح يقارب نصف قيمة الأجرة، ومما لا يخفى أنه قد تكون هذه العين أو هذه العمارة ملكاً لأيتام، وقد تكون ملكاً لأرامل وقفاً عليهم، ولذلك يعتبر هذا المال الذي أفسده المستأجر في ذمته ورقبته يوم القيامة، فلو أفسد العين المؤجرة، وأحدث وغيّر وتصرّف فيها، فإنه يجب عليه أن يعيدها على الصفة التي استلمها بها، حتى ذكر العلماء الكنيف الذي هو محل قضاء الحاجة، فقد كان في القديم ينزح وينظف، فقالوا: إذا استلمه نظيفاً، فلابد أن يخرج وهو نظيف، بمعنى أنه لا يبقيه بفضلته، وذلك كله من باب التشديد في الحقوق.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الناس في عرصات يوم القيامة تطيش عقولهم من الذنوب والمظالم؛ لأنه يؤتى بالمظالم مثل الخردلة وأدنى من ذلك: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، والله عز وجل قد أمر العباد برد الحقوق إلى أهلها، فهذا حق، فإذا استأجرت العين كاملة فتردها كاملة، وإذا استأجرتها سليمة فتردها سليمة، أما لو أضر بأرضيتها، أو بسقفها، أو بجدارها، أو بأي شيء فيها، فإنه يضمن ذلك ويرده كاملاً إلى صاحبه.
فينبغي تنبيه الناس في هذا الأمر؛ لأنها من الحقوق التي تضيع بين الناس، ويُنبَّهون على الأمور التي ينبغي أن يراعيها المسلم مع أخيه المسلم في مثل هذه العقود؛ من ضمان الحقوق، وعدم الظلم، وعدم الأذية، وعدم الإضرار، فليتق الله المسلم في حقوق إخوانه، خاصة الأوقاف المؤجرة؛ لأنها تكون ملكاً لأناس مستحقين؛ كالضعفة والعجزة، وتصرف غلّتها عليهم، فإذا أُفسِدت هذه الأوقاف وضُيِّعت، فحينئذٍ تضيع حقوق من تصرف لهم.
والناظر هو المسئول أمام الله عز وجل؛ لأن تساهل الناظر وسكوته يمكِّن المفسد من إفساده، فإذا جاء الناظر ليستلم العين المؤجرة، فعليه أن يطالب المستأجر أن يسلمها كما استلمها، أما أن يتركه يفسد فيها ويغيّر فيها ويعبث على مرأى منه ومسمع، فإذا سلمها سلمها ناقصة، ثم صرف من غلة الوقف لاستصلاحها؛ فهذا ظلم لأصحاب الحقوق، وينبغي التنبه لمثل هذه الحقوق والتنبيه عليها؛ لما فيها من الأذية والإضرار الذي نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، نسأل الله العظيم أن يجنبنا الزلل، وأن يعصمنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم
**جواز انتفاع المرتهن بصوف البهيمة إن أذن له الراهن
**السؤال
هل يدخل في الانتفاع صوف الشاة، فله أن يجزّه ويبيعه أثابكم الله؟
**الجواب
ظاهر النص الانتفاع بالحليب والركوب، هذا الذي ورد به النص، سواءً أذن أو لم يأذن، ويبقى فيه الحكم على التفصيل الذي ذكرناه، أما صوف البهيمة وشعرها، فليس من حقه أن ينتفع به بدون إذن إذا أنفق عليها؛ بل يبقى على الأصل من وجوب الاستئذان على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم
**حكم القراءة في الكتب المرهونة بإذن وعدمه
**السؤال
إذا كان الرهن كتباً للعلم، فهل القراءة فيها من باب الانتفاع، ويدخل في مسألة القرض الذي جر نفعاً أثابكم الله؟
**الجواب
مسألة قراءة الكتب، بعض العلماء يرى أن العلم لا يُملك، فكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ليس ملكاً لأحد، ولذلك قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57]، فقالوا -بناءً على هذا الأصل-: يجوز أن تقرأ في كتاب الغير ولو لم تستأذنه.
ومن ذلك: القصة المشهورة بين سحنون وهو عبد السلام الفقيه المالكي المشهور، وبين أسد بن الفرات، وأسد بن الفرات من الفقهاء الأجلاء الذين ارتحلوا إلى ابن القاسم في مصر، وكان أسد بن الفرات يريد أن يلقى الإمام مالكاً بنفسه ويسأله، فتوفي الإمام مالك وهو في مصر، فسأل عن أعلم أصحابه، فقيل: ابن القاسم، فجاء إلى ابن القاسم، وقال: إني سائلك، فما كان عندك من قول مالك فأخبرني عنه، وما لا قول لـ مالك فيه فأخبرني عن الأشبه بقوله، -ويسمَّى: التخريج على القواعد والأصول-، فأفتاه وبيّن ما يُسمى: بالمدونة، ثم رجع إلى المغرب، فجاء سحنون، وهو عبد السلام، ويقال: سُحنون وسَحنون، قال الناظم: وسين سَحنون بفتح قد ترام وقد تضم واسمه: عبد السلام الشاهد: أن سحنون جاء إليه وقال له: أعطني مدوّنتك أنقل ما فيها، فقال له: لا أعطيك، فقال: إنه لا يجوز لك أن تخفي هذا العلم عني، فقال له: كتابي، ولي الحق أن أعطيه من أشاء وأمنعه ممن أشاء، فقال: لكن العلم ليس ملكاً لك، فاختصما إلى القاضي، فقال أسد بن الفرات: الكتاب كتابي، والمداد مدادي، والقلم قلمي، يعني: أنا الذي كتبت، وهذا الشيء المكتوب ملكٌ لي، فأنا لا أدعي ملك العلم، ولكني أدعي ملكية الكتاب، والكتاب يُملك، الذي هو الصفحات والأوراق والجلد، والمداد ملكٌ لي، والقلم الذي خط ملك لي، وهذا هو الذي يفرِّعون عليه الآن حقوق الطبع.
فقال سحنون: إن العلم لا يُملك، فقال القاضي: إن الكتاب كتابه -ولكن هذا لحكمة من الله، وقل أن يبخل إنسان بالعلم إلا محق الله بركته-، فلما قضى القاضي لـ أسد بن الفرات، ارتحل سحنون إلى ابن القاسم في مصر، فأخبره القصة، فدوّن له مدوّنة أخرى، ورجع عن مسائل في مدوّنة أسد، وسأل الله أن ينزع البركة من مدوّنة أسد، فتلِفت وضاعت وما بقيت إلا مدوّنة سحنون إلى يومنا هذا.
إذاً: العلم ما يبخل به أحد إلا محقت بركته، نسأل الله السلامة والعافية.
فالشاهد: أن مسألة ملكية الكتاب بذاته، إذا قلنا: إن العلم لا يملك؛ كان من حقه أن يقرأ، ويقرأ باستحقاق شرعي خارج عن العين المرهونة، وإن قلنا: إن الكتاب يُملك، فحينئذٍ تكون العين مملوكة، وليس من حقه أن يفتحها ويقرأ إلا بإذن من المالك.
وفي الحقيقة: النفس تميل أكثر إلى أن العلم لا يُملك، وهذا هو الذي تقرِّره النصوص وتدل عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (323)
صـــــ(1) إلى صــ(20)
شرح زاد المستقنع -** باب الضمان
لقد جاء الإسلام بحفظ الكليات الخمس: الدين والمال والنفس والعرض والعقل، ومما يحفظ به المال ما ذكره الفقهاء في كتب الفقه من الرهن والحوالة والضمان، فهذه كلها عقود يستفاد منها الرفق واستيفاء الحقوق، والضمان هو أحد هذه العقود، والذي يكون بإضافة ذمة إلى ذمة في دين أو عين، ولكي يثق الإنسان من رجوع حقوقه؛ فإنه لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف؛ لأنه لو ضمن غير جائز التصرف لضاع المال.
والضمان له أحكام ومسائل عدة بينها أهل العلم
**مشروعية عقود الاستيثاق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: قال رحمه الله: [باب الضمان] هنا ثلاثة أبواب مهمة، الباب الأول: الرهن، الباب الثاني: الضمان، الباب الثالث: الحوالة، وإذا تأملت الأبواب الثلاثة حيث جاءت وراء بعضها، ذكر المصنف الرهن، والرهن متصل بالقروض، فالمناسبة واضحة، وبعد أن فرغ من أحكام الرهن دخل في الضمان، وباب الضمان من أهم الأبواب، وتعم به البلوى، والناس دائماً يسألون عن أحكامه، وهو موجود إلى زماننا اليوم، وهو ما يسمى: بالكفالة: كفالة مال، وكفالة وجه، وكفالة حضور، كل هذه مما تعم بها البلوى حتى في زماننا.
فباب الرهن، وباب الضمان، وباب الحوالة، ثلاثة أبواب توصف في الفقه الإسلامي بأنها عقود استيثاق، يعني: يتوثق بها في الحقوق.
ففي الرهن يستوثق صاحب الحق -المال الذي دفعه، أو العين التي باعها- من حقه بالرهن، وفي الضمان يستوثق صاحب الحق أيضاً بالرجل الكافل، أو الضمين أو الضامن، أو الحميل أو الزعيم، أو الغارم، كلها بمعنىً، يستوثق من حقه، فيقول لك مثلاً: أنا أعطيك مائة ألف، ولكن أعطني كفيلاً، مثلما قال لك: أعطني رهناً، فهنا يقول: أعطني كفيلاً، فهناك استيثاق بالعين، وهنا استيثاق بالأشخاص والذمم، كذلك أيضاً الحوالة فيها نوع استيثاق؛ لأنه إذا عجز عن السداد، فإنه يحيلك على شخص له دين عليه، وقد يكون ليس له دين عليه، فيحيلك لكي تستوثق من حقك وتصل إليه، فهذه ثلاثة أبواب مرتّبة على ترتيب المصنف رحمه الله.
فالضمان والكفالة والزعامة والحمالة، كلها بمعنىً، والضمين والحميل والكفيل والزعيم كله بمعنىً، وإن كان في بعض الأحوال يقع تفصيل، فالضمين الغالب أن يكون ضميناً في الأموال، والكفالة تكون في الأموال وتكون في الوجه وفي الأبدان، فتتكفل بإحضار الشخص، وقد تكون في قصاصٍ أو نحو ذلك، هذا بالنسبة للكفيل، وأما بالنسبة للزعيم، فهو الذي يتحمل الأموال الباهضة، فلا يقال: زعيم إلا إذا كان في شيء باهضاً، مثل شيوخ القبائل، وشيوخ العشائر إذا أصلحوا بين الناس في الخصومات، يقول: أنا زعيم، يعني: أنا أضمن ما وقع من الخطأ من طرف على آخر، هذا بالنسبة للزعيم، ومنه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، يعني: أنا به ضمين، وأنا به كفيل، وأنا أتحمّله، هذا بالنسبة للكفالة.
أما فيما يتعلق بالحمالة، فالحميل في لغة العرب في القديم -ولا زال إلى عهد قريب- هو الذي يتحمل الديات، فالحمالة تكون في الديات، وهناك ألفاظ مثل: الصبير، والقبيل، فالصبير والقبيل يشمل هذا كله، يكون صبيراً في الأموال، يكون صبيراً في الأنفس، فيقول: أنا صبير، يعني: الصبير أصله من الشاة المصبورة المحبوسة، كأنها مصبّرة، فكأنه حبس نفسه ورهن نفسه لقاء هذا الحق.
والقبيل يكون نداً ويتحمل، وكان هذا موجوداً ولا يزال إلى زماننا هذا -وإن كان بصورة أقل في زماننا- فحينما كان الخير منتشراً بين الناس كانوا يتحملون، ولا يكون للحمالات ولا للضمانات إلا أهلها الذين عُرِفوا بالكرم وبقوة النفس، وهذا فضل من الله يعطيه من يشاء، ويعتبر مثل هذا من السؤدد.
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال فالسيادة والزعامة في الناس لا تكون إلا ببذل الثمن والتضحية، فكان في الناس من يتحمل ويتكفّل، وتجد فيه شهامة وقوة نفس، وجلَداً من أجل أن يتحمل هذه الحقوق، ولا شك أنها مخاطرة، ولذلك يقولون: أولها ملامة: أي: الناس تلومك، وأوسطها ندامة: أي: إذا انتصفت المدة يبدأ الإنسان يندم، عندما يتكفّل على أحد، وآخرها غرامة: أي: أنه بتحمله وضمانه وكفالته سيغرم، ولذلك لا يقوى على هذا إلا من أعانه الله.
وهذه الأعمال من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهي من الشيم المحمودة التي يرفع الله عز وجل أصحابها ويعلي شأنهم في الدنيا والآخرة، ولذلك كم مِن أناس ماتوا وما ماتت مكارمهم، وهم أحياء في مجالس الناس، مع أنهم قد قبروا وماتوا ربما من قرون، ولكن أبقى الله لهم جميل الذكر والثناء الحسن، وبقيت أخبارهم ومآثرهم في قلوب الناس وعلى ألسنتهم جزاءً وفاقاً، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
والعلماء رحمهم الله، ينصون على فضل الكفالات والضمان، لكن على تفصيل في الحقيقة، ففي بعض الأحيان تكون محمودة ومشكورة، ويكون صاحبها مأجوراً، خاصة إذا قصد بها وجه الله عز وجل، ففي بعض الأحيان يعطيك الله الدنيا ويبسط لك من الرزق فتنظر إلى من هو محتاج قد غرِم في دينٍ معقول ومقبول، كإنسانٍ مثلاً استدان من بقالة لطعام أولاده، ثم حضر وقت القضاء، فتحمل مثلاً خمسمائة ريال، وأنت قادر على السداد عنه، فتقول لصاحب البقالة: أنا ضمين لك بهذا المال، أو أنا كفيل، فإن فعلت ذلك فإن الله يأجرك، خاصة إذا كان على أيتام أو على أرامل أو على ضعفة أو نحو ذلك، فإن الأجر في ذلك عظيم، والدين الذي استدان به الغريم دينٌ شرعي، ومقبول من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية، وهذه الكفالة وهذه الحمالة من أحب القربات إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في نفس الحديث: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فمن كان في حوائج الناس في مثل هذه الأمور، وعلم أن فلاناً تحمل الحق فأدى ذلك فهو على خير عظيم، وثوابٍ من الله كريم، لكن إن كان هذا الدين على سفَهٍ وطيشٍ، أو كان على حرام، فإنه إذا تاب إلى الله وأناب إلى الله، وأردت أن تتحمل عنه لاستصلاحه واستقامته، وإرادة الخير له في آخرته، فإن الله يأجرك؛ لأنه إذا تاب وندم فقد عفا الله عما سلف، ومن تاب تاب الله عليه، وحينئذٍ إذا غرِم للناس ديوناً، وكان قد أنفقها في حرام ثم تاب ورجع، وأردت أن تتحمل عنه، فإن هذا فيه تفريج كربة يُقصد منها الخير والإحسان.
وتارةً لا يكون لك بها أجر، وصورتها أن تكون حميَّة وعصبية، وليست حمية دينية، وإنما من أجل أنه قريب لك، أو من أجل أنه أحرجك أو نحو ذلك، فإذا كان من أجل المحاباة والرياء والسمعة، فهذه لا أجر لك فيها ولا وزر، فإذا كان الإنسان يريد بها المفاخرة في الدنيا، أو نحو ذلك، فإن الله عز وجل يعطيه متاع الدنيا، وهذه ليست مما يدخل في التعبديات، ولذلك لا أجر له ولا وزر، ولذلك لا ينال فيها أجر الآخرة لعدم قصد الآخرة، بل ينال فيها عاجل الدنيا؛ لأنه أراد الدنيا.
أما لو كان إنفاقه على وجه أُحرِج به، فمثلاً لو أن قريباً لإنسان جاءه في دين، وأحرجه بأُناس، أو جاء المديون وأدخل عليك بعض القرابة، وأُحرِجت، فأعطيت وأنت مكره، فأنت مأجور وإن كنت مكرهاً، لكن أجرك وأنت راضٍ ليس كأجرك وأنت مكره، لكن تنوي الآخرة، ومن هنا تقاد إلى الجنة بالسلاسل، يعني: بالكره الذي تعرضت له.
وعلى هذا فإن الإنسان إذا أُحرج وهو يحب هذا الخير، لكنه في بعض الأحيان تميل النفوس إلى حب الأموال، فإذا أُحرِج من قبل قريب أو نحو ذلك فدفع فإنه في هذه الحالة يكون أجره أقل ممن يدفع بطيبة نفس، لكن إذا دفع في حال الإحراج من أجل تطييب خواطر من أحرجه، فإنه لا أجر له، فيُفرَّق بين كونه ينفق لله عز وجل، حتى قال الحسن البصري رحمه الله، لما سئل عن الرجل يخرج في جنازة رجل لا يحبه، وإنما خرج من أجل أهل حيه، ومن أجل أن يطيب خواطرهم لما أحرجوه، قال: له أجران، أجر الخروج، وأجر تطييب خواطر جيرانه، فأنت إذا أحرجك قريب، فما فعلت هذا إلا من أجله، وما فعلت هذا إلا من أجل صلة الرحم، ففي مثل هذه الصورة يحصل الخلط والغلط عند بعض الأخيار؛ لأنهم يظنون أن هذا من الرياء، والواقع إن كان السبب الحامل في الأصل المودة والقرابة، فهذه محاباة ولا أجر فيها، لكن كونك أنت تحب هذا العمل الصالح وتفعله وأنت ترجو الثواب من الله، ولكنك أُحرجت ودُفِعت إليه فعجّلت هذا الخير لوجود الإحراج، فإنك تؤجر من الوجهين، أجر العمل نفسه، وأجر تطييب خاطر ابن عمك الذي جاءك في وجهه، أو جاءك في شفاعته، فأحببت أن تكرمه وتصل الرحم، فإنك تؤجر على ذلك، وتكون كفالتك من هذا الوجه أجراً لك في الآخرة
**حقيقة الضمان والأحكام المترتبة عليه
وقوله رحمه الله: (باب الضمان)، الضمان يقوم على إضافة ذمّة إلى ذمة في دين أو عين، وهذا في المطالبة، والمراد بذلك أنه إذا تحمّل رجلٌ ديناً وقال صاحب الدين: ائتني بمن يكفلك، وأتيت وقلت: أنا كفيلٌ له، أو أنا ضمينٌ له، فمعناه أنك تضيف ذمَتك إلى ذمة المديون، وأنت تتحمل سداد الدين إذا لم يسدد المديون، ومن هنا أصبح باب الرهن وباب الضمان متقاربين من حيث المعنى، في كون كلٍ منهما تحفظ به الحقوق ويستوثق به في الديون، فكأن الكفيل يطمئن صاحب الدين، ويتحمل مع المديون وتنشغل ذمته مع ذمة المديون، ولذلك نجد العلماء يقولون: الكفالة ضم ذمةٍ إلى ذمة، فأنت تضيف ذمّتك إلى ذمة المديون، وتعطي صاحب الدين ثقة أنه إذا امتنع المديون من السداد؛ إما لعجزٍ أو لمماطلة أنك تقوم بالسداد عنه، هذا إذا كان الضمان في الدين.
وقد يكون الضمان في العين، فمثلاً: لو أن رجلاً قال لرجل: أعطني سيارتك، أريدها لمصلحةٍ معيّنة، أو أريد أن أذهب بها إلى موضع كذا، أو أريدها عارية إلى غد، أو بعد غد فقال صاحب السيارة: أعطني كفيلاً، فتقول: أنا أكفله بأن يرد لك السيارة، وأتحمل ذلك، هنا ضمنته في عين، فالكفالة تكون في ضمان الدين، وتكون في ضمان العين، وقد تتكفل بإحضار الشخص، كأن يقول صاحب الدين للشخص المديون: أعطني كفيلاً يكفل حضورك إذا حضر الأجل، فتقول: أنا أتكفّل بحضور فلان حال المطالبة، أو يوم المطالبة، وقد يكون الضمان بالحضور في الحقوق كالقصاص ونحو ذلك، كما كان يفعله وجهاء الناس، كأمراء القبائل، ومشايخ القبائل إذا وقع على أحد ضمان بحق، فيقول: أنا أتكفل بحضوره، فهذه كفالة.
فيقع الضمان في الأموال وغير الأموال، وتقع الكفالة في الأموال وغير الأموال، إلا أن فقهاء الحنابلة رحمهم الله جعلوا الضمان في الأموال خاصة، ولذلك لا يتكلم المصنف هنا إلا حول مسألة الضمان في الأموال، وتركوا باب الكفالة وجعلوها في ضمان الوجه، حينما تقول: في وجهي، أنا آتي به، أو أنا أتحمل إحضاره، ونحو ذلك، وجعلوها في باب الجنايات.
يقول رحمه الله [باب الضمان].
أي: في باب الضمان سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام، التي تتعلق في ضم الذمم بعضها إلى بعض، عند المطالبة بالديون، بناءً على هذا إذا تكفّل رجلٌ أو ضمِن الكفيل المكفول، فمعناه أنه إذا حضر الأجل فمن حقك أن تطالب المديون، ومن حقك أن تطالب الكفيل، فأصبحت هناك ذمتان، ذمة المديون، وذمة من كفله، فأنت بالخيار، إن شئت أن تطالب المديون، فحينئذٍ تطالبه ولك الحق؛ لأنه أصيل، وإن شئت أن تطالب الكفيل، أو الضمين، فأنت بالخيار بين الأمرين، أو طالبتهما معاً
**عدم صحة الضمان إلا من جائز التصرف
قال رحمه الله: [لا يصح إلا من جائز التصرف] لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف، ففي الضمانة هناك كفيل وهناك مكفول، والمكفول: وهو الشخص الذي ضممت ذمتك إلى ذمته، وهناك مكفولٌ به: وهو الشيء الذي تكفّلت به وهو سداد الدين، أو إحضار المديون، فهناك كفالة غرم، وهناك كفالة حضور، فإذا جيء وقيل لك: هذا مديون هل تكفله؟ تقول: نعم، يقولون لك: تكفله كفالة غرم، أو كفالة حضور، تقول: أكفله كفالة غرم، بمعنى: أنه إذا لم يسدد أسدد عنه، فهذا نوع من الكفالة، أو تقول: أكفل حضوره، فهذه كفالة حضور، أو تقول: أكفل التعريف به، يعني علي أن أعرِّفك من هذا الشخص الذي أعطيته الدين، أعرِّفك به وباسمه وبأهله، وكذلك موضعه إلى آخره، فإذا قلت ذلك، فمعناه: أنه لابد وأن تتوفر الأهلية في الشخص الضامن والشخص الكفيل، فلا يصح الضمان إلا من جائز التصرف
**معنى قول العلماء: جواز التصرف وصحة التصرف
ترد كلمتان عند العلماء وهما: جواز التصرف وصحة التصرف، فما معنى جواز التصرف وصحة التصرف؟ كثيراً ما ترد هذه الكلمة خاصة في باب المعاملات.
التصرف: بذل الشيء وإعطاء الشيء، وتصرّفك في الشيء يكون إما ببذل عين الشيء، أو يبذل منافعه.
أما بذل عين الشيء فهو على حالتين: إما أن تبذله بعوض، كأن تقول: أعطيك هذه السيارة بعشرة آلاف فهذا بيع.
وإما أن تبذلها بدون عوض على قصد مرضاة الله عز وجل فهذه صدقة، كأن تقول: هذا الطعام لك، فتكون قد بذلته بدون عوض.
وإما على سبيل المحبة، فهذه هدية.
أما بذل منفعة العين، فلا تخلو من حالتين: إما أن تبذلها بعوض، كأن تقول: أجرّتك داري، فهذه إجارة، أو تبذل المنفعة بدون عوض، كأن تقول: خذ سيارتي واقض بها غرضك، فهذه عارية.
فهذه كلها تصرفات: بعضها تصرفات في الأعيان، وبعضها تصرفات في المنافع، فإذا قال العلماء: لا يصح إلا من جائز التصرف، أي: لا تصح الكفالة إلا من شخص تجوز تصرّفاته المالية، فالناس على قسمين: منهم من أجاز الله تصرفاته المالية، فيبيع ويشتري ويتصدق، ولا أحد يعترض عليه، وهذا هو البالغ العاقل الرشيد غير المحجور عليه.
فالبالغ: يخرج الصبي، فالصبي لو جاء وأعطاك ألف ريال هبة منه لا تصح؛ لأنه محجورٌ عليه، والله تعالى يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6]، فأمرنا بالحجر على الأيتام، واليتيم: هو الذي لم يبلغ، فدل على أنه لو تصرف اليتيم كأن تصدق بماله، أو وهبه وأعطاه للغير لم تصح هبته ولا صدقته ولا تبرعه.
العاقل: فيخرج بذلك المجنون، فلو جاء مجنون نقول: إن المجنون لا تصح تصرفاته كما لو باع أو اشترى.
الرشيد: فيخرج بذلك السفيه المحجور عليه، فإن السفيه المحجور عليه في حكم المجنون واليتيم؛ لأنه محجور عليه لحق نفسه، والمحجور عليه يشمل المفلس، على خلافٍ في المفلس هل يكفل أو لا يكفل.
توضيح هذه المسألة: فلو كنت قاضياً أو مفتياً وجاءك رجل وقال: فلانٌ يريد أن يكفل فلاناً، فعليك أن تسأل أهذا الكفيل بالغ؟ فإن قالوا: نعم، تقول: يصح، وإن قالوا: ليس ببالغ، بل هو صبي، تقول: الصبي لا يكفل؛ لأنه ليس له حق التصرف في ماله إلا بإذن وليه، وأنتم تعلمون أن الكفالة فيها شيء من التبرع، لأنك حينما تكفل رجلاً بعشرة آلاف ريال، فمعناه أنك ستدفع هذا المبلغ إذا عجز عن السداد، والصبيان والمحجور عليهم لا يصح تبرعهم، كما سيأتي إن شاء الله، فإذن لابد وأن يكون بالغاً، وأن يكون عاقلاً، فلو أن رجلاً مجنوناً سكران، أو خدره رجل، فجاء وكفل إنساناً، وثبت عند القاضي أنه كفل في حال جنونه أو سكره، أو حال كونه مخدراً، فكل ذلك لا يصح فيه الضمان؛ لأن من شرط صحة الضمان أن يكون الضمين وأن يكون الكفيل بالغاً عاقلاً رشيداً غير محجورٍ عليه.
هذا بالنسبة للشخص الذي يكفل، فإذا توفرت الشروط فكان رجلاً بالغاً عاقلاً رشيداً غير محجور عليه، فمعناه أنه يدخل على الكفالة بأهلية، وهذه الأهلية تجعله ينظر بها إلى المصالح والمفاسد، فإن علم من نفسه أنه يقدر على تحمل هذه الكفالة أقدم عليها، وإن علم من نفسه أنه لا يستطيع تحمّلها أحجم عنها، فإذن لابد وأن تكون عنده الأهلية التي لا يدخل بها الضرر على نفسه وأهله؛ لأنه لو تحمّل حمالة وكفالة لا يطيقها لربما أضر بأولاده، فلو رأيت رجلاً قليل المال تحمّل كفالة بعشرة آلاف، وهو ليس عنده دخل، ولا يستطيع أن يسدد المبلغ كاملاً، فمعنى ذلك أنه إذا تحمل العشرة آلاف فسيغرم، وحينئذٍ يتعرّض أولاده وأهله للضرر، وهذا لا شك أن فيه مفاسد، والشريعة جاءت بدفع المفاسد وجلب المصالح.
وعلى هذا قالوا: يشترط في جواز الكفالة أن تكون من شخصٍ صحيح التصرف، أو جائز التصرف والمعنى واحد
**الخيار لصاحب الحق في مطالبة المديون أو الضامن ولو بعد الموت
قال رحمه الله: [ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت] قوله: (ولرب الحق) أي: لصاحب الدين أن يطالب من شاء منهما في الحياة وبعد الموت.
إذا جاء رجل إلى مؤسسة واشترى منها سيارةً أو أرضاً، وقيمة السيارة أو الأرض عشرة آلاف ريال، وجئت وكفلت هذا المديون، وقلت: أنا كفيل لفلان أنه إذا لم يُسدد أسدد عنه، وثبتت الكفالة من جائز التصرف، فإنه إذا حضر الأجل إلى نهاية السنة -لو فرضنا أن المؤسسة أعطت فرصة للسداد إلى نهاية السنة- فلما انتهت السنة تُخيّر المؤسسة ويُخيّر صاحب الدين بين أمرين، إن شاءت خاطبت المديون وطالبته بالسداد، وإن شاءت خاطبت الكفيل، فلو خاطبت الكفيل فقال الكفيل: اطلبوا من المديون فإن هذا ليس من حقه، بمعنى أنه ليس من حق الكفيل أن يقول: طالبوا فلاناً.
بل إن المؤسسة بالخيار إن شاءت طالبت هذا أو طالبت هذا، فإنّ تحمل الكفيل والتزامه للكفالة معناه أنه إذا حضر الأجل فعليه أن يسدد، بشرط أن لا يكون المديون قد سدد وأبرأ عن نفسه.
قوله: (في الحياة والموت) أي: من حقهم أن يطالبوا ورثة الكفيل إذا حل؛ لأنه دينٌ مستحق عليه، وحينئذٍ من حقهم أن يطالبوا المديون والكفيل سواءً كانا حيين أو ميتين؛ فالحقوق لا تتغير ولا تتبدل بالحياة والموت؛ لأن ذمته مرهونة ومشغولة بهذا الحق، فلو اتجهت المؤسسة إلى ورثة الميت وطالبتهم بالكفالة التي تحمّلها مورثهم، فإنه من حقها ذلك، كما أن من حقها أن تطالب المديون في حال حياته
**براءة ذمة الضامن ببراءة ذمة المضمون عنه لا العكس
قال رحمه الله: [فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمت الضامن لا عكسه] (فإن برئت ذمة المضمون عنه) هنا مسألة: الكفالة مبنية على السداد، وحينئذٍ نقول: عندنا أصل وعندنا فرع، فالعلماء رحمهم الله يجعلون المديون -الذي تحمل الدين- أصلاً، وجعلوا الكفيل والضمين -الذي تحمّل أن يسدد- فرعاً مبنياً على الأصل، وبناءً على ذلك قالوا: إذا برئت ذمة المديون الذي هو الأصيل، برئت ذمة الكفيل، وإذا برئت ذمة الكفيل لم يستلزم ذلك براءة ذمة الأصيل.
توضيح ذلك: البراءة هنا لها حالتان: الأولى: أن تكون بسبب السداد، فمثلاً لو أن شخصاً استدان عشرة آلاف ريال، فقلت: أنا أكفل هذا في العشرة آلاف التي عليه إلى نهاية السنة، قبل نهاية السنة قام المديون بالسداد، فمعناه أن ذمته قد برئت، فإن برئت حكم الشرع ببراءة ذمتك أنت، لأن ذمتك مضمومة إلى ذمته، فإن كان الدين باقياً وذمته مشغولة به، فأنت ملزمٌ به، وإن برئت ذمته بسداد الدين سقط الالتزام منك، بمعنى أنك لست بملزم، وحينئذٍ تبرأ ذمتك ببراءة ذمة الأصيل.
الحالة الثانية، أن تكون بسبب العفو، فمثلاً: لو أن صاحب الدين قال للمديون: عفوت عنك، والمال الذي لي عليك قد أبرأتك منه.
فإنه عندما عفا عنه برئت ذمة المديون، فإذا برئت ذمة المديون برئت ذمة الكفيل؛ لأن الفرع مبنيٌ على أصله، وإذا برئت ذمة الأصل برئت ذمة الفرع، وعلى هذا نقول: ليس من حق صاحب الدين بعد ذلك أن يقول: أنا سامحت صاحب الدين وأطالب الكفيل؛ لأن الكفيل لا يُطالب إلا بعد ثبوت الدين واستقراره على الأصيل، فإن برئت ذمة الأصيل برئت ذمة الكفيل لا العكس.
قوله: (لا عكسه).
مثال ذلك: لو أن رجلاً جاء يستدين منك مالاً، أو يشتري منك أرضاً، فقلت له: أعطني كفيلاً فأحرجك، وجاءك بابن عمك، أو جاءك بقريبٍ لك، واضطررت أن تديّنه على أن قريبك هو الكفيل، وأنت لا تريد الإحراج مع قريبك، فلما تم الدين، قلت لقريبك: أنت في حل من كفالتك، إذا قلت هذا الكلام، فإن هذا لا يستلزم أن المديون تسقط وتبرأ ذمته، وبناءً على ذلك فلك أن تبقي الحق والمطالبة على المديون، ومن هنا قال: إذا برئت ذمة الأصيل برئت ذمة الكفيل لا العكس.
أي: إذا برئت ذمة الكفيل لا تبرأ ذمة الأصيل.
الخلاصة: أنه إذا برئت ذمة الفرع لا يستلزم هذا براءة ذمة الأصل، وإذا برئت ذمة الأصل استلزم ذلك براءة ذمة الفرع
**جواز الضمان مع عدم معرفة الضامن للمضمون عنه
أي: لا يشترط معرفة الكفيل للشخص الذي كفله، وبالإمكان أن يكفل شخصاً لا يعرفه ومثال ذلك: لو أنك دخلت على صاحب البقالة فوجدت رجلاً مسكيناً لا تعرفه، ولكن ترى من حاله وسمته ودله ما يدل على الفقر والحاجة، فوجدته يقول له: ادفع حقي، فقال: ما عندي شيء أدفعه، أنظرني إلى نهاية الأسبوع، فقلت له: يا فلان! أنظره، فقال لك: تكفله إلى نهاية الأسبوع وإذا لم يسدد تسدد.
قلت له: نعم، أنا أكفله إذا لم يسدد نهاية الأسبوع أسدد عنه.
فأنت في هذه الحالة تكفل شخصاً لا تعرفه، فهل يصح ذلك؟ وهل يشترط في الكفالة أن تعرف المكفول؟
**الجواب
نعم يصح ذلك، ولا يشترط في الكفالة معرفتك للمكفول؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتِي برجلٍ ليصلي عليه فقال: (أعليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ) يعني: أنا أتحمل هذين الدينارين أن أعطيهما لصاحب الدين، فانظر إلى أبي قتادة كفل من لا يعرفه، فقبل منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكفالة، وحينئذٍ فرّع العلماء: أنه لا يشترط في الكفالة معرفتك للشخص الذي تكفل عنه، وأنه يجوز أن تكفل الشخص الذي لا تعرفه، وعلى هذا قالوا: إذا لم يسدد تُلزم بالسداد سواء كنت تعرفه أو لا تعرفه
**جواز الضمان مع عدم معرفة المضمون عنه للضامن
قال: [ولا له] أي: ولا يعتبر أيضاً معرفة المضمون لك، فهذا الشخص الذي تضمنه لا يشترط أن يكون يعرفك، فلا يشترط أن تعرفه، ولا يشترط أن يعرفك، فبينكما أخوة الإسلام، خاصة إذا قصدت من هذه الكفالة التيسير على المعسر، وتفريج عن كربة المكروب، فإن الله يأجرك، وهذا من أعظم ما يكون من الأجور في الكفالة، بشرط أن لا يدخل الإنسان على نفسه الخطر والضرر والغرر، أما إذا كان على سبيل الرفق بالناس والإحسان إلى الناس، فإن الله سبحانه وتعالى يلطف بصاحبه، ويكون من أعظم ما يكون في الكفالة؛ لأنك تكفل إنساناً دون قصد المحاباة، ولا يدخل عليك على سبيل الإحراج، فأنت لا تعرفه وهو لا يعرفك، ولكن تعلم أن هذا العمل الذي تفعله إنما هو من صالح الأعمال وأجلِّ القربات لذي العزة والجلال، فتقدم عليه رغبة فيما عند الله من الثواب، ورهبة مما عند الله من العقاب؛ لأنك تخشى أن الله يسألك عن هذا المكروب، لماذا لم تفرِّج كربته؟! وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول: (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: يا رب! كيف أُطعمك وأنت رب العالمين، فيقول الله تعالى: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه -يعني وأنت قادر على إطعامه- أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي).
فإذا وجد الإنسان إنساناً لا يعرفه، وهو يرى عليه أثر الضعف، وأثر الفاقة والفقر، وأقدم على ذلك فإنه يؤجر.
وهكذا لو جاء إلى صاحب بقالة، وقال له: أي شخص تراه محتاجاً أو ضعيفاً أو كبيراً في السن، أو من هذا الحي من جيراني لا داعي أن تذكر لي اسمه، أريد الأجر والثواب، إذا علمت أنه يستدين منك وفيه فاقة وحاجة، فديِّنه واجعل سداده علي، فأنا كفيلٌ له.
فأنت تكفل المجهول؛ لأنك قلت له: أي شخص، فهذه كفالة بالمجهول، فحينئذٍ لا يعرفك المدين؛ لأنك قلت له لا تخبر أحداً.
فتسدد عنه لله وفي الله، إذاً: كَفِلتَه وهو مجهول لا تعرفه ولا يعرفك، فلا يشترط معرفته لك، ولا معرفتك له، فيجوز لك أن تكفل من يجهلك ومن تجهله
**عدم صحة الضمان بدون رضا الضامن
قال رحمه الله: [بل رضا الضامن] أي: يشترط رضا الضامن، وعلى هذا لا تصح الكفالة بالإكراه، فلو أن شخصاً أُكره على كفالة شخص وثبت عند القاضي أنه مكره لا تصح الكفالة، بل يشترط الرضا؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فحرّم الله عز وجل أكل المال بالباطل، واشترط الرضا في حل مال المسلم، فأنت إذا كفلت يُشترط أن تكون راضياً بهذه الكفالة، وعلى هذا فإنك إذا كفلت بالرضا أُلزِمت بما تحمّلته والتزمته للناس
**صحة ضمان المجهول إذا آل إلى العلم
قال رحمه الله: [ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم] المجهول: ضد المعلوم، وضمان المجهول أن تقول: هذا الدين الذي يأخذه فلان منك أنا أتحمله، أو تقول: دَيِّن فلاناً، أو أعطِ فلاناً، أو بِع من فلان، وأنا متحمِّلٌ به، فهو مجهولٌ يئول إلى العلم، وقالوا: إن الدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، فإن حمل البعير مجهول؛ لأن حمل البعير كما هو معلوم مجهول النوع ومجهول الصفة، ولكنه يئول إلى العلم؛ لأنه يتقدر بالعرف، ومن هنا قالوا: يجوز أن يضمن المجهول الذي يئول إلى العلم
**جواز ضمان العارية
قال: [والعواري] والعواري: جمع عارية، فالضمان كما يقع في الدين، يقع في العواري، كما لو جاء شخص يريد أن يستعير سيارة، أو يريد أن يستعير أمتعة، كما يقع في بعض الأحيان، يكون عند الشخص مثلاً أمتعة تصلح لقضاء الأغراض والحوائج، مثل: الأواني للطبخ، أو المفارش للجلوس عليها، فجاء شخص عنده زواج أو عنده مناسبة، وهذا الشخص لا يعرفك ولا تعرفه، لكنه يعرف أن عندك هذه الأشياء، فقال لك: يا فلان! أعطني هذه المفارش، أو أعطني هذه الأواني، فتقول له: لا أعرفك، ولكن ائتني بشخص يتكفّل بضمان حقي، أو برد هذه العارية إذا أعطيتها لك، فحينئذٍ إذا جاء بشخص يعرفه، فقد ضمن العارية.
والعارية: هي بذل المنفعة بدون عوض، وتقع أيضاً في المنائح، كما في الإبل والبقر والغنم، كأن يكون عند الشخص الفحل من الإبل والبقر والغنم، فيحتاجه جاره، أو يحتاجه أحد فيقول: أعطني الفحل للضِّراب، فيقول: أعطني كفيلاً، أو أعطني حميلاً، أو أعطني ضامناً، فيضمن المنيحة.
وبهذا تُضمن العواري، وكل ذلك جائزٌ ومشروع؛ لأنه كما ضُمنت العين تضمن المنافع
**جواز ضمان المغصوب
قال: [والمغصوب] أي: يجوز ضمان المغصوب.
مثاله: لو أن شخصاً غصب سيارة، فخاصمه صاحب السيارة إلى القاضي، فحكم القاضي بأن على فلان أن يرد الغصب، فقال الغاصب: سأحضِرُ المغصوب بعد يوم أو بعد أسبوع، فقال صاحب الحق: لا أرضى حتى يعطيني كفيلاً، هذا رجل كذاب، أو رجل مماطل، أُريد كفيلاً، فجاء بكفيل يضمن أنه يحضر المغصوب بعد يوم أو بعد أسبوع، فهذا جائز في المغصوبات
**حقيقة المقبوض بسوم وصحة الضمان فيه
قال: [والمقبوض بسوم] أي: تصح الكفالة في المقبوض بسوم، وهذا يقع في المزادات، كما لو رسا المزاد على عشرة آلاف ريال في شيء من الألبسة، أو الأغذية أو نحوه، مثال ذلك: لو كان من لباس النساء، والرجل ليس معه أهله، فقال: أنا أقبض هذا اللباس، وأريه لأسرتي -لزوجته أو أخواته- فإن أعجبهم أخذته، وإن لم يعجبهم رددته، فهذا قبضه بسوم؛ لأن قيمته حُدِّدت بسوم، وعلى هذا إذا التزم بهذه القيمة، ورضيت أسرته بالملابس فعليه أن يدفع القيمة، وإذا كان الشخص لا تعرفه، فقلت له: أعطيك هذا الفستان أو هذا اللباس، أو هذا الشيء الذي أنت رضيت أن تعرضه على أهلك، ولكن بشرط أن تعطيني كفيلاً، فالمقبوض بسوم ثبتت قيمته والدين فيه ثابت متى ما رضي، وحينئذٍ يصح ضمانه، لكن إذا كان غير معلوم القيمة، ولم يثبت على قيمة فإنه لا يصح ضمانه، إذاً لابد من ضمانه بعد ثبوت قيمته حتى تصح الكفالة بالمعلوم؛ لأنه لو لم يقبض بسوم لم يتحدد ولم تتبين قيمته، بل يكون من ضمان المجهول الذي لا يئول إلى العلم؛ لأنه يحدث فيه نوع من الغرر، وعلى هذا قالوا: لا يُضمَن إلا إذا ثبتت قيمته وعُرِف استحقاقه، فيقول الكفيل لصاحب السلعة: أعطِه هذا الثوب يريه أهله، فإن أعجبهم ورضوا به، فأنا أتحمّل لك أن يعطيك عشرة آلاف قيمته، فإن لم يحضرها لك غداً، أو إن لم يحضرها لك بعد غد، فأنا كفيله أحضِرها عنه، وبناءً على ذلك كفلت، وكانت الكفالة في مقبوضٍ بسوم، وتكفّلتَ على أن تدفع المبلغ الذي ثبت استحقاقه، لكن لو كان غير معلوم القيمة، تكفَل ماذا؟ وكيف سيطالبك؟ وبناءً على ذلك قالوا: لابد أن يكون مقبوضاً بسوم حتى تُعلم قيمته، يعني: يتحدد قيمته.
فالمقصود من كلمة: مقبوض بسوم، أن تتحدد القيمة، فخرج المقبوض الذي لم تثبُت قيمته بعد بأن يكون متردداً؛ لأنه يحدث فتنة، فلربما قال له: نعم، هذا قيمته عشرة آلاف، فيقول الكفيل: لا، بل قيمته ثمانية آلاف، فيحدث مثلما يحدث في بيع الغرر، فإذا لم تثبت قيمته وثمنه على شيءٍ معيّن، فإنه لا يصح ضمانه، إنما يصح ضمان المقبوض بسوم وهو الذي حُدِّدت قيمته
**حقيقة عهدة المبيع وجواز الضمان فيه
قال: [وعهدة مبيع] مسألة العهدة في القديم من صورها أنهم كانوا يبيعون الدواب ويبيعون الأرقاء، ويحتاج هذا المبيع إلى تجربة، فلربما ظهر العيب فيه، فكانوا يعطون العهدة ثلاثة أيام، تأخذ هذا المبيع وتجرِّبه، فإن ظهر به أي عيبٍ رددته عليه ويضمنه، وهذا معروف في زماننا بما يسمّى: بالضمان، فالسيارة إذا اشتريتها تتعهد المؤسسة أنها تضمنها سنة، أنه لو ظهر فيها عيب، مثلاً في محرِّكها، بحيث يكون العيب راجعاً إلى ذات السلعة المبيعة، وناشئاً من ذات الرقبة المبيعة، وليس من تصرُّفِك أنت.
فمثلاً يعطيك سيارة، ويقول لك: أنا أضمن لك هذه السيارة سنة كاملة، أنك تقضي عليها مصالحك، وتقودها بالصفة المعتبرة، فإن حدث فيها أي عيبٍ في محرِّكها، أو في هيكلها، راجعاً إلى سوء الصنعة لا إلى سوء الاستخدام، فإنه على هذا الوجه يضمن، وحينئذٍ يصح الضمان، ويتحمّل المسئولية بحيث أنه إذا ظهر بها عيب على هذا الوجه، يستحق أن يُرد المبيع، ويضمن الشخص الذي تحمّل بالضمان.
هذا بالنسبة لمسألة الضمان في عهدة المبيع.
فرَّع العلماء في زماننا الحاضر على مسألة عهدة المبيع، عهدة السيارات سنة، لكن بعض أهل العلم من المتأخرين ينازع، ويقول: إنما تُعرف العهدة بالمدة التي لا غرر فيها، فلا غرر في المدة الطويلة والأجل الطويل، كالسنوات ونحوها، ولكن الحقيقة هذا النوع من الضمان الموجود في السيارات في العصر الحاضر له وجهٌ من الصحة، وأنه إذا التزم بأن السيارة يستخدمها سنةً، فإن ظهر فيها عيبٌ من الصنعة لا من الاستخدام ضَمِنه، فإن هذا له وجه، ويُعتبر من الضمان الشرعي.
الخلاصة أنه لو قال له: أنا أضمن أن هذه السيارة إن ظهر بها عيب تردها لي، هذا إذا كانت مؤسسة أو شركة تتحمل هذا الضمان، وليس عندنا إشكال، لكن في بعض الأحيان يبيعك فرد أو شخص فيقول لك: خذ هذه السيارة وأضمنها لك شهراً، على أنه إذا ظهر فيها عيب من سوء الصنعة تردها لي، لكن أنت لا تثق به، فتقول له: أعطني كفيلاً يضمن أنه إذا ظهر بها عيب أردها عليك.
فحينئذٍ يعطيك الكفيل وتصح الكفالة على هذا الوجه
**حكم الضمان في الأمانات
قال رحمه الله: [لا ضمان الأمانات] يقول رحمه الله: (لا ضمان الأمانات) الأمانات: جمع أمانة، وقد قدّمنا أن اليد تنقسم إلى قسمين: يد ضمان، ويد أمانة، ويد الضمان: أن تأخذ الشيء وتتحمل المسئولية عنه غنماً وغرماً، وإذا حدث بذلك الشيء ضرر فأنت المسئول عن هذا الضرر، فهذا مفهوم يد الضمان، وأما يد الأمانة: فهي أنك لا تضمن إلا إذا فرّطت، وبناءً على ذلك ذكرنا: أنه إذا أخذ شيئاً وكان من جنس ما يُضمن صح الضمان، وإن كان من جنس ما لا يضمن لا يصح الضمان، فالعارية لو أتينا بصورتها في مثال: هي أن يأتي ويقول لك: أعطني سيارتك أذهب بها إلى مكان كذا، أو أستخدمها يومين أو شهراً أو أسبوعاً، هذه عارية، والعارية فيها قولان: الأول: أن اليد فيها يد أمانة، الثاني: أن اليد يد ضمان، والمصنِّف رحمه الله رجّح أنها يد ضمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ل صفوان بن أمية رضي الله عنه لما قال له: (أغصباً يا محمد! قال: بل عارية مؤداة) هذا عندما أخذ منه أدرعه ومتاعه لغزوة حنين، وقال في خطبة حجة الوداع: (العارية مؤداة، والمنيحة مردودة، والزعيم غارم، والدين مقضي)، فلما قال: (العارية مؤداة)، يعني: مضمونة، فلو أخذ شيئاً عارية فعليه أن يضمنه، أما الودائع فقلنا: إن الوديعة أمانة، فلو أن شخصاً جاء وأعطى شخصاً ساعة، وقال: هذه الساعة ضعها وديعة وأمانة عندك، قال له: لا بأس قبلتُها أمانة عندي.
فلما رضي الشخص الآخر أن يضعها أمانة عنده، فإنه ليس من حق صاحب الساعة أن يقول له: أعطني كفيلاً؛ لأن الكفيل لا يقع في الأمانات؛ لأن يد هذا الرجل يد أمانة وليست بيد ضمان، إلا إذا كان من جنس الأمانات التي تئول إلى الضمان، فهذا استثناه بعض العلماء رحمهم الله حيث قالوا: إن الأمانات التي تئول إلى الضمان يصح فيها الضمان، وذلك في حال ما إذا صارت إلى الضمان أو إذا آلت إلى الضمان
**التعدي في الأمانات يوجب الضمان
قال: [بل التعدي فيها] قوله: (بل التعدي فيها) فما معنى التعدي فيها؟ يعني: من حقك أن تقول له: هذه الساعة ضعها أمانة عندك، قال: قبلت.
فقل له: لكن أحتاج إلى كفيل يكفلك بأنك إذا تعدَّيت فإنك تضمن، فالأصل أن يده يد أمانة، لكن تنتقل إلى الضمان متى؟ إذا تعدَّى فيها، ومثال آخر: إذا أعطيته مائة ألف ريال وديعةً عنده، أو أعطيته كيلو من ذهب وديعة عنده، فقال لك: أنا قبلت أن نضع هذا الذهب وديعةً عندي.
فتقول له: أعطني كفيلاً أنك إذا تعدَّيت وتصرّفت فيها فإنك تضمنها، حينئذٍ صارت ضماناً وذلك بعد خروجها من يد الأمانة إلى يد الضمان؛ لأنه إذا تعدى في الأمانة ضمِن، ومن هنا قالوا: لو أعطاه صندوقاً مقفولاً فإنه أمانة، لكن لو فتش الصندوق المقفول انتقل من الأمانة إلى الضمان، فحينئذٍ أنت من حقك أن تقول: هي أمانة، والأمانة لا تضمن، لكني أريد كفيلاً بحيث لو تعدّيت أو فرّطت فيها فهو يكفلك أو يكون ضميناً عنك، فحينئذٍ يصح ويجوز الضمان
**الأسئلة
**جواز ضمان المجهول الذي يئول إلى العلم
**السؤال
أشكل علي اشتراط تحديد القيمة في المقبوض بسوم مع جواز ضمان المجهول أثابكم الله؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن سؤالك جيد واستشكالك في محله، لكن ينبغي أن تتنبه لمسألة ضمان المجهول، حيث قلنا: يُضمن المجهول إذا آل إلى العلم، ولم نقل: المجهول المطلق، فالمجهول الذي يئول إلى العلم هو الذي يُضمن، صحيح أننا لو قلنا: يُضمن المجهول مطلقاً لما صح ذلك، أما كوننا نقول: المجهول الذي يئول إلى العلم، فهو مجهول ابتداءً لكنه يئول إلى العلم انتهاءً ومآلاً، وعلى هذا فالجهالة فيه مغتفرة؛ لأنها ليست بمستديمة، وإنما يتقيد الحكم بوجود الجهالة المستديمة، أما الجهالة التي تزول فإن وجودها وعدمها على حد سواء؛ لأنها تئول إلى العلم، وعلى هذا لا يستقيم الإشكال إلا إذا كان المجهول لا يئول إلى العلم، وتبقى الجهالة مستصحبة إلى أن تثبُت الكفالة ويُحكم بها، أما إذا آل إلى العلم فإن الجهالة مرتفعة، والله تعالى أعلم
**حكم تصرف المرأة في مالها ومتى يحجر عليها
**السؤال
هل المرأة تعتبر من المحجور عليهم، وهل لها التصرف في مالها دون استئذان زوجها أثابكم الله؟
**الجواب
اختلف أهل العلم في حكم تصرف المرأة بمالها إذا كانت بالغة، فجمهور العلماء وجمهور السلف والخلف على أن من حق المرأة أن تتصرف في مالها، والنصوص دالة على هذا، ولكن خالف في هذه المسألة بعض السلف، كما روي عن شريح وهو قاضي أمير المؤمنين عمر، وكان قاضياً لثلاثة من الخلفاء، ل عمر وعثمان وعلي.
أبو أمية شريح الكندي رحمه الله برحمته الواسعة، من أجلاء القضاة وأهل العلم، وهو الذي قضى على علي بن أبي طالب، فآمن اليهودي لما رآه قضى على أمير المؤمنين، وكان ممن لا تأخذهم في الله لومة لائم.
هذا الفقيه يقول: عهِد إليّ عمر أن لا أُجيز لامرأة عطيّتها حتى تحول حولاً أو تلد ولداً، فأخذ منه بعض الفقهاء كما هو مذهب المالكية قالوا: المرأة يجوز لها أن تتصرف في حدود الثلث، والزائد عن الثلث ينظر فيه زوجها، إن كان مصلحة أجازه، وإن لم يكن ثم مصلحة لم يُجِزه، ولذلك يقول بعض فقهائهم في هذه المسألة: وزوجةٌ في غير ثلث تُعترض كذا مريض مات في ذاك المرض حينما بين أصناف المحجور عليهم.
فذكر المحجور عليهم في حدود الثلث، فقسموه إلى قسمين: المريض مرض الموت يُحجر عليه فيما زاد عن الثلث، إذا تصرّف فيه بالهبة، والمرأة فيما زاد عن الثلث إذا تصرّفت بالهبة، والسبب في هذا -وقد يستغرب البعض هذا القول، وقد يكون مدخلاً لبعض أمراض النفوس، والواقع أن من نظر في حال السلف يعرف مدخل هذا القول وسببه- أن المرأة في القديم كانت لازمة لبيتها، لا تعرف الخروج ولا تخالط الناس، حتى قالت أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نُخرِج العواتق وذوات الخدور).
فالمرأة التي لم تتزوج كانت لا تعرف شيئاً، ماكثة في بيتها، بل منهن من لا تخرج من بيتها إلا إلى بيت زوجها، لا تعرف كيف تبيع، ولا تعرف كيف تشتري، ولا تأخذ ولا تعطي، إنما جاهلة بدنياها عالمة بدينها، إذا ربّت ربّت رجالاً على الصلاح والدين والاستقامة، حتى أُثِر عن بعضهن أنها خرجت ذات يومٍ لحاجة فبكت أنها رأت رجلاً؛ وذلك دليل لما كن عليه من العفة والصلاح والديانة، فكانت المرأة في بيتها ربة بيت تملأ العين، تقوم على حقوق بعلها، وبيتها على أتم الوجوه وأكملها، لا تعرف الرجال، ولا تخالطهم، ولا تخاطبهم، ولا تعرف لا بيعاً ولا شراءً، فمن هنا كانت المرأة غالباً لا تُحسن التصرُّف، ولذلك كانوا يجدون الحرج في اختبار اليتيمات، لقد كانوا يختبرونهن بالغزل وبيع ما يغزلن، فإذا باعت غزلها نُظِر كيف تتصرف في البيع، هل تبيع بمثل القيمة أو بأقل، ثم يُحكم برشدها؛ لأن الله يقول: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء:6]، فشمل الذكور والإناث.
الشاهد أن المرأة كانت على هذه الصفة من الجهل في التعامل، ولذلك تجد بعض من لا يعرف أحكام الشريعة يتمسك بهذا الحكم والقول، ولا يعرف مغزاه، ولا يعرف البيئة التي نشأ فيها هذا القول، فالنساء كنّ لا يعرفن هذه الأمور ولا يخالطن الرجال، ولا يتعاملن بالأخذ والعطاء إلا النزر القليل، وكانت المرأة إذا جاءها المال يُصبح عندها ويمسي وقد جعلته في آخرتها، تتصدق به، وتصل به الرحم، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه أتاها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية ستين ألف درهم وهي صائمة، فوزّعتها من ساعتها، ثم أرادت أن تفطر فلم تجد شيئاً تفطر به، فتقول لها إحدى إمائها: هلا أمسكتِ شيئاً مما جاءك فقالت رضي الله عنها: لقد نسيت هلا ذكرتني.
الله أكبر، الله أكبر، كنّ جاهلات بالدنيا، ولكنهن عالمات بالدين، وكانت المرأة عن أُمّة، رضي الله عنهن وأرضاهن، من الذي ثبّت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الله عز وجل، إنها خديجة بنت خويلد، تلك المرأة العاقلة الحكيمة، فكانت المرأة عن أمة من الناس.
وسفيان الثوري رحمه الله برحمته الواسعة لما توفي والده وهو صغير نشأ يتيماً، فقالت له أمه: يا بني اطلب العلم.
فقال: إني أريد أن أسعى لطلب الرزق.
يعني أكفيك الرزق، قالت: لا، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.
فكانت تغزل وتسهر وتكدح، كل هذا من أجل أن يتعلم ابنها العلم، فصار الإمام سفيان الثوري من أئمة السلف ومن دواوين العلم، فهو الحجة الثبت الذي كان آية في العلم والعمل والصلاح أن المعرفة، هذا الإمام العظيم حسناته في ميزان حسنات أمه الصالحة، فكانت المرأة عن أُمَّة.
فالمرأة إذا تصرفت في مالها بالرشد فإن المال مالها والحق حقها، وليس من حق الرجل والزوج أن يتدخل في راتب زوجته، وليس من حقه أن يحجر عليها، ولا يجوز له ذلك؛ لأن المال مالها ولا يجوز أن يضيق عليها ولا أن يظلمها، وبالمناسبة، أنبِّه على أن بعض الأزواج يجرؤ على مال زوجته، حتى إن بعض النساء تعمل في تدريسها وتعليمها، ويطالبها زوجها بمالها كاملاً، وهذا من أكل المال بالباطل، فلا يجوز ذلك إلا إذا كان كما قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]، أما ما لم تطِب به النفس، أو جاء عن إكراه، أو جاء عن إحراج، فإنه الحرام الذي حرّم الله ورسوله، ولا يجوز الاعتداء على أموالهن، والأذية والإضرار بهن، وينبغي على المرأة أيضاً أن تتقي الله في إنفاقها، وأن تكون رشيدة في تصرُّفها في المال، وبالمقابل فإنه من حق الزوج إذا نظر من زوجته أنها لا تحسن التصرف في المال أن يأخذ على يدها، مثلاً عندما يكون راتب المرأة خمسة آلاف ريال، ولا يأتي نصف الشهر إلا وهي تستلف وتقترض، وتتحمل الديون، ويجد أن هذه الخمسة الآلاف تصرف في المظاهر والملابس، وكل يوم لها ملبس، وكل يوم لها شيء تتجمل به، فهذا فيه سرَف ومن حقه أن يحجر عليها، أما إذا تصرفت تصرفاً رشيداً، فهذا مالها ولا يجوز أكله بالباطل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (324)
صـــــ(1) إلى صــ(19)
شرح زاد المستقنع -** فصل في الكفالة
الكفالة لها تعلق بمسألة إحضار الغريم، وتسمى: كفالة الأبدان، وإحضار الغريم إما لتسليم ما عليه من حقوق، وإما لمثوله أمام مجلس القضاء.
وتكون الكفالة فيما يتعلق بالحدود والقصاص ممن لديه القدرة على إحضار من عليه الحق، كرؤساء العشائر وأشباههم، والكفالة مشروعة كالضمان؛ لما فيها من حفظ الحقوق للناس، وفي مشروعية الكفالة حكم عظيمة وفوائد جليلة، وبها تجلب المصالح وتدفع المفاسد.
وتصح الكفالة في العواري والمغصوبات كما تصح في الأبدان، ولها أحكام عدة تتوقف عليها صحتها كرضا الكفيل وغيرها من الأحكام
**الكفالة معناها ومشروعيتها وما يتعلق بها من أحكام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن المصنف رحمه الله تعالى يقول: [فصلٌ: وتصح الكفالة بكل عين مضمونة وببدن من عليه دين] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالكفالة، والعلماء رحمهم الله كما تقدم، منهم من جعل الضمان والكفالة والقبالة والزعامة والحمالة بمعنى واحدة، فيقولون: الكفيل والضمين والحميل والصبير والقبيل كلها بمعنى واحد.
وعلى هذا قالوا: لا فرق بين الكفالة والضمان، لكن فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله يفرِّقون بين الكفالة والضمان، فيجعلون الضمان للأموال.
ومن كان عليه دين أو لآخر عليه حق فإنه يمكنك أن تضمن عنه وذلك بأن تضيف ذمتك إلى ذمته.
وأما الكفالة، فإنهم في الغالب يجعلونها للحضور، أي: تكون متعلقة بالأبدان والأعيان، وإن كان في بعض الأحوال يُلزَم فيها بالضمان، ولكنهم في الأصل يجعلونها متعلقة بالعين وبالبدن.
والكفالة في لغة العرب تطلق بمعانٍ، يقال: كفل الشيء وتكفَّل بالشيء إذا قام به وضمّه إليه، قال تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، أي: ضمّها زكريا إليه فقام عليها، وقال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [القصص:12]، أي يقومون عليه برضاعه وما يتعلق من شأنه.
فالكفالة تطلق بهذا المعنى، كما أنها بالتحريك يقال: كَفَل، الكَفَل هو العَجُز من الإنسان، ويطلق الكِفْل بالكسر على الحظ والأجر والثواب، كما قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28]، أي: حظاً وأجراً، قيل: مضاعفاً.
وأما بالنسبة للاصطلاح، فالكفالة: هي التزام رشيدٍ بإحضار من عليه الدين لربه، وكذلك بعض العلماء يضيف إليها: التزام رشيد ببدن من عليه الحق لربه بماله أو ببدنه.
ويتعلق بهذا الخلاف المشهور، هل الكفالة تكون فقط في الأموال، أو تشمل الأموال والأبدان، حيث يمكن أن يُضمن أو يتكفَّل بإحضاره للحدود والقصاص؟ كان هذا يقع في القديم، فإذا كان الشخص معتدياً على الغير بحق في عرضه أو في نفسه، فحينئذٍ يجب القصاص، أو يُطالب بحدٍ فيطلب من صاحب الحق أن يذهب إلى أهله أو إلى عشيرته، فيقال: ائتنا بمن يكفل حضورك، فهذا النوع اختلف فيه العلماء والأئمة من السلف رحمهم الله، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إليه.
والمصنِّف رحمه الله ذكر أحكام الكفالة بعد الضمان، ويتعلق بها مسألة إحضار الغريم، فإذا كان هناك شخصان لأحدهما على الآخر دين، وقال المدين لصاحب الدين: أمهلني أُسبوعاً أُحضر لك حقك.
وغالباً ما تقع الكفالة فيما لو إذا حصل أو حضر وقت السداد، فيقول صاحب الدين: لا أمهلك فيقول له: آتيك بكفيل يتكفل بإحضاري إن غبت، خاصة إذا كان يريد أن يقاضيه، فإنه يحتاج إلى من يكفله للحضور.
فيقول: ائتني بمن يكفل حضورك، فحينئذٍ يقول الشخص: أنا متكفِّل ببدنه، أي: متكفِّل بإحضاره.
هذه صورة من صور الكفالة، والإحضار إما أن تحضره لصاحب الدين، ويكون عند صاحب الدين قوة يستطيع أن يتوصل بها إلى حقه إذا حضر المدين، وإما أن يطالبك بإحضاره إلى القضاء، فتقول له: أنا متكفِّل إذا لم يسددك الجمعة أن أُحضره يوم السبت إلى مجلس القضاء، فهذه كفالة حضور، فالكفالة كفالة ضمان بالحق، وكفالة حضور، وهذا النوع قال به جماهير السلف رحمهم الله والأئمة والخلف، فيقولون: يشرع أن يتكفل لك الشخص بإحضار من عليه الدين، قالوا: والحاجة داعية إلى ذلك، فإنه ربما احتاج المدين إلى مهلة وإلى وقت، ولا يثق صاحب الدين فيه، ووجود الكفالة فيه يسر على الناس ورحمة وتوسعة، ثم إن المدين قد لا يثق فيه صاحب الدين، وقد تكون الحقوق بين أشخاص ليست بينهم معرفة، فيعطيه كفيلاً أو يحضر له كفيلاً يعرفه، ففي هذا من التوسعة على الناس ما لا يخفى.
وقالوا: إن الكفالة لها أصل من السنة في حديث الرجل الذي استدان المال، فقال له صاحب الدين: ائتني بشهيد، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: ائتني بكفيل يكفلك، قال: كفى بالله كفيلاً، فدفع إليه المال -وهذا يظهر لنا صدق الإيمان! وقوة اليقين بالله عز وجل! وصلاح الناس! - فبعض الناس إذا تعامل بالدنيا رماها وراء ظهره، وجعل الآخرة نصب عينيه، فإن قال صدق، وإن وعد وفَّى، فلا يكذب ولا يغش، وإذا أعطى كلمة لا يمكن أن يتراجع فيها، فلما استشهد الله وكفى بالله شهيداً، وجعل الله كفيله، وكفى بالله كفيلاً ووكيلاً سبحانه وتعالى، فمضى ذاك الرجل إلى بلده، ثم لما حضر أو قرب وقت السداد والمطالبة التمس سفينة يركبها فلم يتيسر له ذلك، فلما أعياه الأمر أخذ جذعاً من النخل، ثم احتفره ووضع فيه المال، وكتب فيه اسم صاحبه، ثم وضعها بين ذلك اللوح، ثم ألقاه في البحر، وقال: اللهم! إني قد جعلتك شهيداً وكفيلاً.
ثم رمى به في البحر وسأل الله أن يوصله لصاحبه.
ثم إن صاحب الدين لما استبطأ الرجل خرج يلتمس حضوره، فكان ينتظر أن يأتيه فإذا به يجد ذلك اللوح، فقال: لو أخذته حتى يكون حطباً لأهلي، فلما جاء به إلى بيته وشطره إذا به يجد الكتاب والمال، فقرأ الكتاب وعد المال فإذا هو حقه كاملاً.
ولا شك أن من صدق مع الله صدق الله معه، فما ضر الناس إلا ضعف الإيمان بالله عز وجل، وإلا لو أن القلوب صلحت لله عز وجل، لرأت من تيسيره ومنِّه ووفائه وبره وكرمه سبحانه وتعالى ما لم يخطر لها على بال، ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111]، مَن: بمعنى لا، أي: ولا أوفى بعهده من الله.
فأخذ الرجل حقه، ثم لما حضرت السفينة على المدين، وهو يشك في كون المال وصل إلى صاحبه، بناءً على أن ذمته مشغولة، فجاء إلى صاحب الدين، وقال له: اعذرني فإني لم أجد مركباً، وجلس يعتذر إليه، فقال له: قد جاءني حقي، ثم ذكر له الخبر، وذكر له القصة.
فالشاهد في قوله: ائتني بكفيل.
فقال: كفى بالله كفيلاً.
فقوله: ائتني بكفيل، هذا أصل من السنة على مشروعية الكفالة، وأخذ به طائفة من العلماء، وترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، وهو أصل عند أهل العلم، ولذلك قال جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم بمشروعية الكفالة، وإن كان هناك اختلاف في قول عن الإمام الشافعي رحمه الله في مسألة الكفالة أنها لا تصح، وصحح طائفة من أصحابه قوله بجوازها ومشروعيتها.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور.
وعلى هذا فإن الكفالة مشروعة كالضمان؛ لأن المقصود من الكفالة ومن الضمان حفظ حقوق الناس، ووجود الكفلاء ووجود من يضمن يعتبر شيئاً من الاستيثاق، وعلى هذا تطمئن لحقك، فإنك قد تثق بزيد الكفيل أكثر من ثقتك بغيره، وفي مشروعية هذا النوع من المعاملات لا شك أن فيه حكماً عظيمة وفوائد جليلة كريمة، فبهذا النوع من المعاملات تتحصل المصالح وتدفع المفاسد.
والمصنف رحمه الله من دقّته ذكر المسائل التالية: المسألة الأولى ذكر فيها ضمان الديون الواجبة، ومثّلنا لذلك وبيّنا دليل مشروعيته والأصل فيه، ثم بعد أن فرغ من بيان الديون الواجبة والمستقرة شرَع في ضمان الديون التي تئول إلى الوجوب، كما ذكرنا في العارية والأمانات إذا تعدى فيها المتعدي، ثم كذلك أشرنا إلى النوع الثالث من الضمان، وهو ضمان الديون المضافة إلى المستقبل، كقولك: أعط فلاناً ما يحتاجه وأنا ضامنٌ لك.
كأن تقول: لصاحب بقالة: إذا أتاك صاحب عائلة، فأعطه ما يحتاج، وأنا أضمن لك نهاية الشهر إن لم يسددك أسددك، فهذا ضمان بما يئول في المستقبل إلى الدين.
فعندنا ثلاثة أنواع من الديون: الديون المستقرة الثابتة، كرجل له على آخر مائة ألف، فتقول: أنا أضمنه أن يسددها، في دين ثابت مستقر، والديون التي تئول إلى الوجوب، وذلك كما في العارية إذا تعدى عليها، وكذلك أيضاً في الأمانات إذا تعدى فيها.
كذلك النوع الثالث: وهو الضمان فيما يئول إلى الدين مستقبلاً، كما مثلنا بصاحب البقالة، فهذا ضمانٌ بدينٍ في المستقبل فليس بحال ولا ثابت.
وعلى هذا بعد أن فرغ من الثلاثة الأنواع شرع في النوع الرابع، وهو مضاف إلى ما قبله، وحقيقته أن تتكفل بضمان الشخص نفسه، أي: تتكفل بإحضار الشخص نفسه لأخذ الحق منه، فإن تكفّلت بإحضاره، فحينئذٍ تكون ملزماً شرعاً بإحضار هذا الخصم أو إحضار هذا المدين لصاحب الحق، على حسب ما وقع الاتفاق بينكما، ومن هنا تكون الكفالة أشبه بالعقد، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فأنت إذا قلت: أنا كفيل بأن أحضِر لك فلاناً في نهاية الشهر إلى مجلس القضاء أو نحو ذلك، فقد ألزمت نفسك، وحينئذٍ يكون عقد الكفالة عقداً إلزامياً، فلا تملك الخروج من الكفالة إلا بصفة شرعية، أو بإذنٍ شرعي يبيح لك أن تخرج من هذا الالتزام.
والله تعالى أوجب علينا أن نفي بالعقود، فأنت إذا قلت: أنا كفيله أو أنا متكفِّل به، فأنت ملزم به، ثم تقوم الكفالة على كافل، وهو الشخص الذي يتحمّل، وهي اسم فاعل، فالكافل هو الذي يفعل الكفالة ويقوم بها، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) يعني الذي يقوم بكفالة اليتيم، فالكافل هو الشخص نفسه، والمكفول هو الذي عليه الدين وعليه الحق، أو الذي يجب حضوره إلى مجلس القضاء.
وقد يكون المكفول عيناً كما يكون شخصاً، كما تقول: أنا متكفل بإحضار فلان، فقد تتكفل بالعين، والكفالة بالعين مثلما يقع في العواري، كرجلٍ جاء إلى آخر وقال له: أعطني سيارتك أريد أن أذهب بها إلى مكان كذا، فيقول له: أعطيكها ولكن بشرط أن تحضرها لي غداً، فقال له: قبلت، يقول له: أعطني كفيلاً بإحضارك لها غداً، فيأتي الشخص بكفيل ويقول: أنا متكفلٌ بإحضار السيارة لك غداً، فهذه كفالة بعين، فهناك كفالة للشخص وكفالة للعين.
إذا قلت: أنا متكفلٌ بإحضاره، أو متكفلٌ ببدنه، أو متكفلٌ بذاته لا إشكال، لكن الإشكال إذا أضفت الكفالة إلى الجزء، فقلت: أنا كفيل برأسه، أو كفيل بيده، أو ك
**حكم الكفالة في الحد والقصاص
كفالة البدن في الحقوق كالقصاص، وهذه كانت تقع في القديم، ويحتاج إليها كثيراً، كرجلٍ اعتدى على رجل، وحكم القاضي بالقصاص، فالتمس من الأولياء الذين لهم الحق أن يذهب إلى أهله، ويبرئ ذمته من الحقوق التي عليه، فقال لهم: أريد مهلة أسبوعاً قبل القصاص، أن أذهب إلى أهلي وأستوفي ما عليَّ من الحقوق، وأفعل وأفعل، فأولياء المقتول، أو صاحب الحق الذي له القصاص، قال: أعطني كفيلاً يقوم ويتكفل بإحضارك، فيقول شخص: أنا كفيله، وأنا متكفل بإحضاره.
وكثيراً ما كانت تقع هذه الكفالات من الوجهاء، كمشايخ العشائر ونحوهم ممن لهم قوة على الإحضار.
هذا النوع اختلف فيه العلماء على وجهين مشهورين: بعض العلماء يقولون: يصح هذا النوع من الكفالة، ومذهب الحنابلة على عدم صحته، فهم يرون أن الكفالة لا تقع إلا في البدن الذي عليه دين، دون الذي عليه حد أو قصاص، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا كان كفيلاً ببدن من عليه الدين فإنه يتحمل عنه كالضمان، لكن إذا كان في قصاص فإنه لا يمكننا أن نقتص من هذا الكفيل.
وقد أجاب عنهم من قال بجوازه، وهم طائفة من السلف منهم المالكية، قالوا: إنه لا يكفل إلا من كان قادراً على إحضاره، وفي بعض الأحيان يعجز غيره عن الإحضار، فالناس بحاجة إلى هذا النوع من الكفالة، كما يفعله وجهاء العشائر ونحوهم؛ وذلك لاستطاعتهم، فأنت تريد أن تمهل هذا الخصم، ولكن تريد ما تستوثق به، فإذا وُجِد من يتكفل بإحضاره فلا شك أنه تتحصل بذلك المصالح العظيمة، ثم إننا لا نقتص من الكافل، وإنما نقتص من المكفول، إلا أن فائدة هذا النوع من الكفالة المعونة على إحضاره، والمعونة على الرفق، فإذا رضي أولياء الحق في الحد والقصاص بذلك فلا وجه للمنع.
في هذه الحالة تكون الكفالة في بعض الأحيان بإحضار من عليه قصاص إلى مجلس القضاء.
كأن تقول: أنا كفيل بإحضاره إلى مجلس القضاء، أو إلى موضع القصاص في يوم كذا، ففي هذه الحالة تكون متكفلاً بالإحضار.
هذا بالنسبة لمسألة الكفالة في الحدود والقصاص.
نرجع إلى الكفالة التي اختارها المصنف، وهي الكفالة بالبدن في مالٍ مضمون كالدَّين ونحوه، إذا تكفّل بالبدن فإنه يقول: أنا كفيلٌ بحضور فلان، فإذا أحضره إلى مجلس القضاء برئت ذمته، فتكون متعلِّقة بالبدن.
قال: [لا حد ولا قصاص] قوله: (لا حد ولا قصاص) أي: لا تقع الكفالة في الحد، ولا تقع الكفالة في القصاص؛ لأنه إذا تعذّر في هذه الحالة إحضار المكفول، فإنه لا يمكننا أن نقتص من الكافل، وعلى هذا قالوا: إنه لا تقع الكفالة لا في الحدود ولا في القصاص، ولكن الفائدة عند من قال بمشروعيتها أنه يلزم بحضور المكفول، وفي هذه الحالة يضغط عليه القاضي، وعند المالكية وجه أنه إذا ثبت عند القاضي أنه قادرٌ على إحضاره ولم يحضره، أو تساهل في إحضاره عزَّره، ولربما اضطر إلى الضغط عليه حتى يحضره، وهذا النوع من الكفالة لا شك أن القول بمشروعيته وجوازه فيه قوة.
قوله: لا حد، الحد: هو العقوبة المقدَّرة شرعاً، ويشمل هذا الزنا والعياذ بالله! ففي الزنا عقوبة محددة.
والعقوبات في الشريعة تنقسم إلى: عقوبة محددة، وعقوبة غير محددة، فالعقوبات المحددة يصطلح العلماء على تسميتها بالحدود، وسميت بذلك والمناسبة فيها واضحة، وأما بالنسبة للعقوبات غير المحددة، فهذه هي التعزيرات، وهي ترجع إلى نظر القاضي، إذ ينظر فيها إلى حال الجريمة وحال المجرم، والزمان والمكان والمعتدى عليه.
القصاص أصله من قص الأثر إذا تتبعه، والقصاص يقع في الأنفس ويقع في الأطراف، ومذهب طائفة من العلماء كما ذكرنا: أنه تجوز الكفالة في الحد وتجوز الكفالة في القصاص.
فإذا ضمِن أو تكفّل بإحضاره من أجل أن يقام عليه الحد، أو من أجل أن يقام عليه القصاص فإنه كفيله، وحينئذٍ يحبس مكانه إذا عُلِم أو ثبت عند القاضي تفريطه، أو ثبت عند القاضي تمالؤه مع الخصم على الفرار ونحو ذلك.
وفائدتها أنها تعين على الوصول إلى الحقوق وتساعد على ذلك
**عدم صحة الكفالة دون رضا الكفيل لا المكفول
قال رحمه الله: [ويعتبر رضا الكفيل لا مكفولٍ به] قوله رحمه الله: (ويعتبر رضا الكفيل)؛ لأنه يتحمل المسئولية ويدخل على نفسه الضرر، فلابد وأن يكون راضياً بذلك، وعلى هذا فلا تصح الكفالة بالإكراه، فلو هدده وأكرهه على أن يكفله، فإن الكفالة لا تثبت إذا ثبت ذلك عند القاضي، كرجلٍ مثلاً له على رجل مائة ألف، فقال له: أعطني كفيلاً، أو إذا أحضرت فلاناً من الناس يكفلك فأنا أعطيك هذا الدين، فذهب إلى رجل وهدده، وقال له: إذا لم تكفلني فإنني سأقتلك، فكفله مكرهاً.
وإذا ادعى هذا الكفيل عند القاضي أنه أُكرِه على الكفالة، وثبت ذلك عند القاضي فإن الكفالة لا تصح، فالكفالة لا تقع إلا إذا كان الكفيل راضياً بالكفالة؛ لأنه يدخل على نفسه الضرر، فلابد وأن يكون على بينة من أمره.
قوله: (لا مكفول به) الشخص الذي يُكْفَلُ أيضاً لا يشترط رضاه، كالوالد يكفل ابنه، سواءً رضي الابن أو لم يرض، ففي بعض الأحيان لا يرضى الابن بكفالة أبيه؛ لأنه يخشى على أبيه الضرر فيمتنع، فرضاه وعدم رضاه غير معتبر، يقولون: إن الرضا غير معتبر في الكفالة بالنسبة للشخص المكفول، سواءً رضي أو لم يرض، إلا أن بعض العلماء استثنى الكفالة من الأب لابنه، فقالوا: إنه في هذه الحالة يدخل الضرر على والده، ومن حقه أن يمتنع؛ لأن الله يقول: {وَبِالْوَالدين إِحْسَانًا} [البقرة:83]، فلا يكون المكفول سبباً في أذية والده والإضرار به
**الحكم إذا مات المكفول أو تلفت العين بآفة سماوية
قال رحمه الله: [فإن مات أو تلفت العين بفعل الله تعالى] قوله: (فإن مات) إذا كنت كفيلاً بإحضار شخصٍ ومات الشخص، فهذا عجز حقيقي، ويستحيل أن تحضره، وحينئذٍ لست مطالباً بهذا الإحضار؛ لأنه يتعذر إحضاره، فتسقط الكفالة وتصبح في هذه الحالة غير مطالبٍ بضمان الدين، وهذا وجه عند بعض العلماء، واختاره المصنف، والمذهب على ذلك، وقال بعض العلماء: بل تتحمل الدين كما لو كان حياً، فموته لا يبرئ ذمّتك، وإنما تبقى الكفالة على السنن المعتبرة حتى يحضر الأجل، ويقام ورثته مقامه وحينئذٍ تتحمّل، ويكون رجوعك إلى ورثته.
فإذا حضر الأجل وضمِنت ودفعت الدين، يكون لك وجه المطالبة على ورثته.
قوله: (أو تلفت العين بفعل الله تعالى) كأن تكون مثلاً السيارة التي ضمنت رجوعها تلفت بآفة سماوية، وليس بفعل آدمي، كأن يأتي سيل ويجتاحها، ويكون الذي أخذها واستعارها غير مفرط، أما لو فرّط كأن أوقفها في مكان السيل، فإنك تضمن؛ لأنك تضمن تعديه، فإذا أوقفها في أماكن هي عرضة فيه للتلف وللآفات فإنه يتحمّل، وحينئذٍ تكون متحملاً معه؛ لأن ذمتك انضافت إلى ذمته في الكفالة.
أما لو أنها تلفت بآفة سماوية، وبشيءٍ لا دخل للآدمي فيه، ولم يكن ثم تفريط، فإنك لا تضمن، وترتفع الكفالة بتعذر إحضار العين
**براءة الكفيل بتسليم المكفول عنه نفسه إلى القضاء
قال رحمه الله: [أو سلم نفسه برئ الكفيل] فمثلاً: لو قلت: إذا جاء أول محرم، فإني ألتزم بإحضار المذكور إلى مجلس القضاء، أو ألتزِم بتسليم المذكور إلى صاحب الدين.
فلما حضر الأجل جاء المكفول، وسلّم نفسه، فإنه إذا سلّم نفسه سقطت الكفالة، وعليه فلو سلّم نفسه وفر بعد استلامه لم تكن متحمّلاً لشيء؛ لأنه بتسليمه لنفسه تكون قد سقطت الكفالة، وبرئت أنت من هذه الكفالة؛ لأنه إن فرّ بعد تمكِّن صاحب الحق منه، أو فر بعد حضوره إلى مجلس القضاء، فالتفريط ليس منك، ولست بمتحمل مسئوليته، إنما يتحمل ذلك من فرّط فيه حتى فر.
وعلى هذا فإنه إذا سلم المكفول نفسه برئ الكافل
**حكم تسليم المكفول عنه نفسه قبل الأجل
لكن هنا مسألة ذكرها بعض العلماء: وهي فيما لو سلم نفسه، أو قمت بتسليمه قبل الأجل، لو قال: أنا ألتزم بإحضار محمد في أول محرم، فأحضره في شهر ذي القعدة، فبعض العلماء يقول: لا يبرأ الكفيل إلا إذا حل الأجل، وقال بعض العلماء فيه تفصيل: إن كان قد قدمه على الأجل على وجه فيه ضرر على صاحب الدين، فإنه لا وجه لهذا التقديم، وأما إذا لم يكن هناك ضرر على صاحب الدين وأحضره قبل الأجل، فإنه يتحمل المسئولية حينئذٍ، وهذا القول الثاني أوجه وأصح، ويختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله.
لقد ذكرنا أن باب الضمان وباب الرهن يجتمعان في مسألة الاستيثاق، والحوالة أيضاً تعين على الوصول إلى الحق، ونظراً لتجانس هذه الأبواب، باب الرهن، وباب الكفالة، وباب الضمان، وباب الحوالة، ذكرها المصنف رحمه الله تباعاً
**نصيحة لطلاب العلم بتعلم المسائل المعاصرة
لكن هذه المسائل كثيراً منها ما يقع في القديم وبيّناها وتكلمنا عليها، سواءً مسائل الضمان أو الكفالة، لكن في عصرنا الحاضر، بعض المسائل الموجودة التي خُرِّجت على الكفالة القديمة، وكثيراً ما تقع هذه المسائل في الديونات، وتشتهر في المعاملات الموجودة في المصارف، من ذلك ما يسمى: بالضمان البنكي، وخطاب الضمان، والاعتماد المستندي، و (الكمبيالة)، ونحو ذلك من البطاقات التي تُصدَر للاستيثاق بالديون، ونظراً لوجود الحاجة، وتعلقها بالأبواب التي بحثناها، والمسائل التي تعرضنا لها، فإننا نحتاج لبيان هذه المعاملات المعاصرة؛ لأن هذا أمر متصل بالمسائل التي معنا، ولا يمكن لطالب العلم أن يدرس المسائل القديمة، فيقرأ مثلاً عن البر والشعير والقمح، ثم لما يأتي يعايش الناس، وإذا به يجدهم يتعاملون بأشياء وبمسميات غريبة، وقد يقف حائراً، حتى إنه لربما وقف حائراً في معاملة تتعلق به نفسه، فلا يدري ما حقيقة هذا التعامل الموجود، وما موقف الشريعة الإسلامية منه، ولذلك كان لزاماً على طالب العلم أن يدرس هذه المسائل، وأن يعرف حكم الله عز وجل فيها، حتى يكون على بيِّنة من أمرها فيما يتعلق بنفسه، وفيما يتعلق بالناس إذا سألوه ونحن إن شاء الله سنذكر في الدروس القادمة خطاب الضمان، ونبيِّن حقيقته، وتعريفه، وكذلك أيضاً الاعتماد المستندي، والبطاقات، نبين حقيقتها، ثم بعد ذلك نبيِّن هل هي مخرَّجة على الكفالة؟ وإذا تخرّجت على الكفالة، ما الذي يجوز من صورها؟ وما الذي لا يجوز؟ ونفصل إن شاء الله في تلك المسائل سائلين الله عز وجل أن يلهمنا وإياكم السداد والرشاد! وأن يجعل ما نتعلمه ونعلمه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم
**ما يجب على أهل مكة تجاه حجاج بيت الله الحرام
أحب أن أنبه على أمر مهم جداً، وهو أنكم تعلمون أن هذه الأيام يعيش الناس فيها موسم الحج، ونظراً لما أكرمكم الله عز وجل به من جوار هذا البيت الذي شرّفه الله وكرّمه، وفضّله على سائر البقاع، وجعله مثابة للناس وأمناً، فالناس ينظرون إليكم نظرة إجلالٍ وإكبار، ومن جاور هذا البيت خليقٌ به أن يحفظ حرمته، وأن يحفظ كذلك لعماره وحجاجه حقوقهم، وأن يكون كأحسن ما يكون عليه المجاور لبيت الله الحرام، خاصة طلاب العلم، فإنهم قدوة للناس، والناس تهتدي بالأخيار، وتهتدي بالصالحين، وكم من سنن أُحْيِيَتْ، وكم من بدعٍ أُمِيْتَتْ حينما حرص الأخيار على بث الخير، والتخلق بآداب الأخيار في الأقوال والأفعال، فظهرت منهم الأقوال الحميدة، والخصال الكريمة، التي تدل على أن وراء هذه الأقوال وهذه الأفعال قلوباً تخاف الله جل جلاله، وترجو رحمته، وإن خير ما ينتظره منكم الحاج والمعتمر في بيت الله الحرام، القدوة الصالحة، وخير ما ينتظره منكم الاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن المسلم مطالب بأن يهتدي ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا كان بهذا الحال الذي يستوجب عليه الأمر أكثر.
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والحرص على السنة، والاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن اهتدى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله يرحمه، ويهديه ويوفقه، ولذلك قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه من المهتدين.
وهذا الفعل منا يستوجب أموراً: أولها وأعظمها وأكرمها عند الله: الإخلاص، فعلى الإنسان المسلم أن يعامل إخوانه وهو يريد ما عند الله عز وجل، فالحجاج والمعتمرون يحتاجون إلى المعاملة الحسنة، التي يبتغي صاحبها الأجر والمثوبة من الله، فالشخص الذي يتعامل معهم وهو يستشعر أنهم ضيوفٌ على الله، وأنهم أتوا طالبين لرحمة الله، راجين لعفوه ومنِّه وكرمه.
فخليقٌ بالمسلم أن يعامل الله سبحانه وتعالى حتى يعظم أجره في ذلك، ولا يزال الرجل بخير إذا أخلص العمل لله، وأراد ما عند الله سبحانه وتعالى، وكم من عملٍ قليل عظَّمْته النية، وبارك الله فيه بإخلاص صاحبه، والكلمة التي تخرج من القلب المخلص تقع في القلوب، وتؤتي ثمارها، ويعظم أجرها، ويرضى عنها ربها.
فالكلمة التي تخرج لله وفي الله هي التي تكون في ميزان العبد، {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11].
الأمر الثاني: الحرص على الخلق الحسن: (فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وسلموا من زلات جوارحه وأركانه، ولذلك ينبغي للمسلم دائماً أن يراقب تصرفاته وأفعاله، والله إنهم ينظرون إليكم نظرة قد لا يشعر الإنسان بقدرها، ولكنه لو تتبع مشاعر الحجاج والعمار، لوجدهم يراقبونه في كل تصرفاته، فكم من أمور يراها الحجاج ويراها المعتمرون تثبت من الخير والطاعة والبر، حببت إلى قلوبهم حينما رأوها من جيران بيت الله الحرام، وهذا شيء نعرفه من كلام الناس، ومن كثرة ما تناقلوه، فهم إذا قدموا على الحرمين ورأوا الخير من أهل الحرمين أحبوا الخير واقتدوا بهم، واهتدوا بهم، والعكس بالعكس، والأخلاق هي شيمة المسلم، إذا أراد الله أن يثقل ميزان العبد رزقه الخلق الحسن، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من شيءٍ أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من تقوى الله وحسن الخلق).
ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: (تقوى الله وحسن الخلق).
وثبت في الحديث الصحيح أنه قال: (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، فالعبد إذا حسنت أخلاقه، وطابت شمائله، وكان أليفاً موطأ الكنف، فإن الله عز وجل يثقل موازين حسناته بذلك، ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم مبيّنا فضل هذه الخصلة الكريمة، والخلة الجليلة العظيمة: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون)، هؤلاء إخوانكم في الله، وإخوانكم في الإسلام، وإذا لم يتراحم المسلمون فيما بينهم، ولم يحصل بينهم الألفة والمحبة والمودة والأخوة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، فأين تظهر؟! وإذا لم يكن جيران بيت الله الحرام يفعلون ذلك فمن الذي يفعله؟! هم ينتظرون منكم أن تفتحوا لهم صدوركم وقلوبكم بالمحبة والمودة، لا تنظروا إلى الناس بألوانهم، ولا تنظروا إلى الناس بغناهم وثرائهم، ولا تنظروا إلى الناس بمناصبهم ولا بجنسياتهم، ولكن انظروا إلى أخوة الإسلام التي بينكم وبينهم، وتنظر إلى كبيرهم كوالدٍ لك، وتحبهم وتجلهم لله وفي الله، والابتسامة التي تبتسم بها في وجه أخيك المسلم صدقة، فكيف وهم في غربة وبعدٍ عن الأوطان، مع مشقة السفر وعنائه، فإذا جاء ولقي منك الابتسامة، وهو يراك شيئاً كبيراً، كيف تقع هذه الابتسامة في قلبه، الله أعلم كم من مهموم مغموم حينما يرى أخاه المسلم مبتسماً في وجهه، تتبدد عنه أحزانه وأشجانه، الابتسامة التي تراها يسيرة، ولكنها عند الله كبيرة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق)، فإذا لقيهم المسلم يلقاهم بالابتسامة، ولا يبتسم من أجل الغنى واللون والحسن والنسب، لا، ولكن لله وفي الله، ومن أكمل الناس خلقاً الذي لا تفارق الابتسامة وجهه لأصغر الناس وأكبرهم، وطالب العلم الكامل هو الذي يبتسم للناس جميعاً بالإسلام، لا بأحوالهم، ولا بصفاتهم، ولا بمراتبهم، والله يعلم منه أنه يحب الكبير كما يحب الصغير، فإذا بلغ المسلم هذه المرتبة فهذه نعمة من الله، كذلك الكلمة الطيبة؛ فقد تجد منه ما يجرحك فتقابله بالكلمة الطيبة؛ لأنك تقدر مشاعره في غربته وتعبه ونصبه وعناء السفر، كذلك أيضاً ينتظرون منك الأخلاق الحميدة في تفريج الكربات وستر العورات، ولعل الله عز وجل أن يكف عن وجهك النار بصدقة تتصدق بها على ضيفه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أن امرأة دخلت على عائشة ومعها صبيتان، فاستطعمتها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة تمرة، ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أكلها، فلما أدنتها إلى فمها استطعمتها إحدى البنتين، فأعطتها التمرة، فعجِبت عائشة من صنيعها! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها أخبرته بخبرها، فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عائشة أتعجبين مما صنعت! إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك).
بتمرة واحدة حجبها الله بها عن النار، فكيف إذا جئت ووجدت أحدهم ضامئاً فسقيته الماء، فأطفأت حر ضمئه، فدعا لك دعوة تسعد بها في دينك ودنياك وآخرتك، كيف إذا رأيت من كان منهم كبير السن فتجده ضائعاً هائماً على وجهه، فتساعده كأنه والدك، وكأنه إنسان قريبٌ منك بأخوة الإسلام، فتضحي لأجله فيُكبِر هذا الشيء منك، فيدعو لك دعوة تكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة، ولربما ترى منهم المديون، وترى منهم المعسر، فتفرج كربته، وتعينه على عبادته، فهذا خير كبير وباب عظيم فتحه الله لك، وما عليك إلا أن تحتسب الأجر عند الله عز وجل، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم السداد والرشاد.
كذلك أيضاً مما ينبغي الحرص عليه تعليم الحجاج، فإنهم يحتاجون إلى التعليم والتوجيه، خاصة من طلاب العلم، وأهم ما ينبغي الاعتناء به: الإيمان، والتوحيد، والإخلاص؛ لأنه أساس الدين، فلابد من تعليمهم حق الله عز وجل، وأنه لا يجوز صرف حق الله لغيره كالدعاء، والاستغاثة، والاستجارة، فما الفائدة من أن يأتي يحج وهو يدعو غير الله! وما الفائدة من أن يأتي يحج وهو يستغيث بغير الله! وما الفائدة من أن يأتي ويحج وهو يذبح لغير الله! ويعتقد بغير الله، هذا أمرٌ عظيم ينبغي لطالب العلم أن ينتبه له، فالعقيدة هي أساس الدين الذي لا يمكن أن يقبل الله قول القائل، ولا عمل العامل إلا بتحقيقها، والقيام بحقوقها، وتذكيرهم بحق الله عز وجل.
كذلك أيضاً عليك أن تبين لهم صفة حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا رأيت الجاهل علّمته، وإذا رأيت المخطئ قوّمته وصوّبته، نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يتقبل منا ومنكم صالح القول والعمل، والله تعالى أعلم
**الأسئلة
**المبادرة بسداد الدين عن الميت وإن لم يحل أجلها
**السؤال
إذا ضمن الأبناء دين أبيهم المتوفّى فهل تبرأ ذمته بمجرد ضمانهم، أم بعد سداد الدين، خصوصاً إذا كان الدين على شكل أقساطٍ شهرية تستمر لسنوات، أثابكم الله؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالدين أمره عظيم، وخطبه جسيم، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينة) وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه أُتِي برجل من الأنصار فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله! -يعني: الدينارين اللذين كانا على الرجل- فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، قال: فلما لقيني من الغد، قال: ما فعل الديناران؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته)، فلو قال أولياء الميت: نحن نتكفّل بدين ميتنا، فإنه لا تزال نفسه مرهونة حتى يسدد الدين عنه، ولذلك يقول العلماء: من مات حلّت ديونه، حتى ولو كانت أقساطاً فإنها تحل، وتسدد مباشرة، ما دام أنه ترك سداداً يباع ذلك الشيء ويسدد حتى تبرأ ذمته، ويستريح في قبره، قال بعض العلماء: إنه يرهن، والرهين المحبوس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، قالوا: معناه أنه لا ينعم، ويحبس عن النعيم حتى يسدد دينه، وهذا أمر عظيم جداً، فعلى المسلم أن يبادر بسداد الدين، خاصة إذا توفِّي الميت وترك أشياء يمكن سداد دينه منها، كأن تكون هناك سيولة من نقد، بل حتى ولو ترك مزارع أو بيوتاً فتباع، ويسدد دينه، وتبرأ ذمته؛ لأنه بحاجة إلى ذلك، خاصة إذا كان من الوالدين، فعلى الأولاد أن يبادروا بسداد دينهم، وكان بعض العلماء يقول: إن هذا من أعظم البر بعد وفاة الوالد والوالدة، وهو المبادرة بسداد الديون، وهذا أمرٌ عظيم، وينبغي أن يعتنى به، ونسأل الله العظيم أن يسلمنا، ويسلِّم منا، والله تعالى أعلم
**التشابه بين النذر والضمان من حيث القياس
**السؤال
هل من الممكن القول بأن النذر في العبادات مشابهٌ للضمان في المعاملات بجامع كون كلٍ منهما التزاماً في الذمة، بيد أن النذر لا تراجع فيه، والضمان من الممكن أن يتراجع عنه أثابكم الله؟
**الجواب
النذر لا شك أنه إلزام للمكلّف ما لم يلزمه، والضمان يلتزم فيه ما لا يلزمه في الأصل، وأما مسألة النذر فيلزمه الوفاء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لـ عمر: (أوف بنذرك)، فالوفاء بالنذر واجب، ما دام أنه قد استوفى الشروط المعتبرة لانعقاده وصحته.
وأما بالنسبة لمسألة الضمان، فالضمان لا يستطيع أن ينفك عنه، فالتشابه بينهما قوي من حيث القياس، لكن الإشكال ليس هنا، الإشكال في جهة نوعية الحق، فإن حقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق المخلوقين مبنية على المقاصة، فمن ناحية جنس الحقين هناك تفاوت، ولذلك قد يُعترض بأنه قياس مع الفارق في بعض الصور، إذا كان حق الآدمي آكد، والله تعالى أعلم
**عدم جواز ضمان العين المستأجرة بالمال
**السؤال
هل من حق المؤجر أخذ ضمانٍ على العين المستأجرة، بحيث يتم الخصم من الضمان إذا أخل المستأجر بالعين المستأجرة أثابكم الله؟
**الجواب
بالنسبة للعين المؤجرة يضمن الشخص، لكن لا يقول: أعطني مالاً أخصم منه، أو نحو ذلك، إنما يقول: أنا ضمين، أو يأتي بشخص يقول: أنا أكفل أن ترجع لك العمارة كما هي، أو أكفل لك أن فلاناً يرد لك الدكان أو البقالة كما أخذها، فحينئذٍ تكون الكفالة من الشخص، لكن أن يعطيه مالاً وسيولة فلا، وعلى هذا فإنه لا تصح الكفالة إلا على الصفة الشرعية التي ذكرناها، والله تعالى أعلم
**لزوم عقد الإجارة بمجرد العقد
**السؤال
هل عقد الإجارة يُلزم به الطرفان لمجرد العقد، أم بالشروع فيما وقعت عليه الإجارة أثابكم الله؟
**الجواب
عقد الإجارة يعتبر لازماً في قول جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وبناءً على ذلك لو قال لك شخص: أجِّرني هذه العمارة بمائة ألفٍ شهرين، قلت له: قبلت، وافترقتما عن المجلس، فإنه يلزمك أن تمكِّنه من العمارة، ويلزمه أن يدفع المائة ألف، هذا بالنسبة لمعنى قولنا: إنه لازم، فلو عقدتما العقد وخرج من عندك، ثم قال: لا أريد أن أستأجرها، يلزمه القاضي بالاستئجار، ولو خرجتما وافترقتما، فقلت: لا أريد أن أؤجرك؛ تُلزَم بإجارتها.
وهكذا لو استأجرت من شخص شقة بستة آلاف في السنة، وكتبتما العقد، أو قلت له: أجِّرني شقتك بستة آلاف هذه السنة، فقال: قبلت، وتم العقد، فلكما خيار المجلس ما دمتما في المجلس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).
والإجارة بيع منافع، فإن افترقتما فحينئذٍ تُلزم بدفع الستة آلاف أجرةً للشقة، ويلزمه أن يمكِّنك من الشقة لأجل أن تسكنها، فلو قال لك: لا أريد تأجيرها وقد رجعت عن كلامي، وكان رجوعه بعد الافتراق، فإنه يُلزم شرعاً بالعقد، هذا معنى قولنا: إن الإجارة عقد لازم، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله ومنهم الأئمة الأربعة، ومن خالف فقال: إنها عقدٌ غير لازم فخلافه شاذ كما أشار إلى ذلك بعض العلماء، والله تعالى أعلم
**الأقوال في قاعدة: النسيان لا يسقط الضمان
**السؤال
القاعدة التي تقول: النسيان لا يسقط الضمان.
هل تشمل من فعل محظوراً من المحظورات ناسياً أثابكم الله؟
**الجواب
هذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، منهم من قال: يسقط الضمان مطلقاً، ومنهم من قال: لا يسقط الضمان مطلقاً، ومنهم من فصّل.
أما الذين قالوا: إن النسيان يُسقط الضمان، فاستدلوا بما ثبت في الصحيح قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لم أشعر فحلقت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج)، فما سُئِل عن شيء قدِّم ولا أُخِّر مما ينسى الإنسان -كما في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في السنن- إلا قال: (افعل ولا حرج)، فلم يوجب عليهم الضمان بالترتيب؛ مع أن الأصل في فعلها أن تكون مرتبة وهي واجبة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم).
فأسقط الضمان لهذا الواجب بسبب النسيان، هذا على القول بوجوب الترتيب، كما يختاره طائفة من العلماء رحمهم الله خلافاً للشافعية والحنابلة.
القول الثاني: إن النسيان لا يسقط الضمان، فمن نسي وجب عليه أن يضمن، وأكدوا هذا بأن النسيان والخطأ جاريان من باب واحد، ولذلك لو قتل خطأً لأُلزم بالضمان، وهكذا لو نسي فحصل منه حلق للشعر، أو تقليم للأظفار، فإنه يُلزم بالضمان.
القول الثالث: التفصيل، فبعض العلماء يفصِّل بين ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه، فالذي يمكن تداركه مثل الطيب وتغطية الرأس، ولبس المخيط، فهذه الأشياء إذا نسيها ولبس عمامة على رأسه وهو محرم، أو نسي ولبس ثوباً وهو محرم، فإنه إذا تذكّر ونزعها أمكنه التدارك، قالوا: في هذه الحالة لا شيء عليه، واحتجوا بحديث صفوان بن يعلى بن أمية -الثابت في الصحيح- عن أبيه: (أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالجعرّانة وعليه جبّة عليها أثر الطيب، فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجلٍ أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: انزع عنك جبتك واغسل أثر الطيب الذي بك، وافعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حجك)، فهذا الرجل أحرم بالعمرة وأخطأ عندما تطيب ولبس الجبة، ومع ذلك لم يُلزم بالضمان.
قالوا: هذا محظور يمكن تداركه، فقال له: (انزع عنك جبتك)، فلما نزعها مباشرة أمكنه التدارك، أما لو كان من جنس ما لا يمكن تداركه، كتقليم الأظفار، فلا يمكنه أن يعيد الظفر مرة ثانية، وهكذا بالنسبة لحلق الشعر، لا يمكن أن يرده، فإنه يُلزم بالضمان، وهذا القول يختاره جمعٌ من العلماء رحمهم الله، وهو الأشبه والأقوى، والله تعالى أعلم
**استقبال الحجر الأسود مع التقبيل وإن تعذر أشار
**السؤال
هل يلزم المحرم أن يستقبل الحجر الأسود بكله عند كل شوط، أم في بداية الشوط الأول أثابكم الله؟
**الجواب
الثابت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وغيره، أنه ابتدأ طوافه فاستلم الحجر، ومن هنا وقع منه عليه الصلاة والسلام استقبالٌ للحجر عند ابتدائه، فاستلم الحجر وقبّله، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام عند تعذُّر الاستلام الإشارة، ومن هنا قالوا: يكون استقباله بالتقبيل، أي: يستقبل الحجر ويقبِّل ويكون في حكم المقبِّل، وإذا تعذّّر عليه أن يقبل، فإنه يكتفي بالإشارة، والله تعالى أعلم
**صحة حج من عليه دين مقسط مع الاستئذان من الدائن وعدمه
**السؤال
إنسان عليه دينٌ مقسّط، فهو يسدد كل قسط في موعده، فهل يصح منه الحج تطوعاً أو فرضاً أثابكم الله؟
**الجواب
إذا كان عليه دين، واستأذن من صاحب الدين فلا بأس، إلا أن بعض العلماء رحمهم الله يقولون: الديون المقسطة إن دفع آخر قسطٍ منها وكان عنده سداد بحيث لا يفرِّط، أو لا يعرِّض صاحب الدين لضياع ماله، فإنه يصح منه أن يحج ولو لم يستأذن، وهذا القول له قوة، إلا أن الأول أحوط، والله تعالى أعلم
**حكم الاستئجار للحج
**السؤال
من حج عن غيره، فهل له أن يأخذ ما زاد من المال الذي حج به أثابكم الله؟
**الجواب
هذه داخلة في مسألة الإجارة على الحج، وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسمونها: إجارة البلاغ، وإجارة البلاغ أن تتكفل بدفع النفقة ذهاباً وإياباً، وتدفع ثمن الهدي ونحو ذلك مما يكون من مصاريف الإنسان في العرف، فإذا قال الشخص: أنا أحج عن ميِّتك فلان، وأنت تتحمّل مصاريف الزاد، ومصاريف الراحلة والركوب، صحّ هذا النوع من الإجارة، لقول جمهور العلماء رحمهم الله، ولا بأس به.
في هذه الحالة، يقوم هذا الشخص بفعل الحج، ويستأجر ويركب ويأكل، وينتفع في حدود المعروف، فإن بذخ وتجاوز وزاد على المعروف فإنه يتحمل مسئولية ذلك الشيء الزائد، مثال ذلك: لو أمكنه أن يركب بخمسمائة ركوب مثله، فركب بسبعمائة، فالواجب عليك دفع خمسمائة، فأنت تتكفل بنفقة الركوب ونفقة الطعام والشراب، وما يحتاج إليه مثله فقط.
هذا بالنسبة لمسألة إجارة البلاغ، إلا أن هذا النوع من الإجارة له أحكام خاصة، فيما لو فسد الحج، أو طرأت أمور في داخل الحج توجب فساده أو توفِّي إلى غير ذلك من الأمور التي قد تطرأ، وقد بحث العلماء رحمهم الله جميع هذه المسائل.
الحالة الثانية: ما يسمى: بإجارة المقاطعة، وإجارة المقاطعة أشبه بالبيع والشراء كأن يقول لك: أنا أحج عنه بخمسة آلاف، إن زادت فلي ما زاد، وإن نقصت فعلي تكميل ما نقص، وهذا النوع ضعيف، والأشبه عدم جوازه، والصحيح عند العلماء النوع الأول، وهو أن تكون الإجارة على الكلفة.
ففي النوع الأول، إذا أعطيته ثلاثة آلاف وذهب وحجّ، وزاد في تكلفة حجه خمسمائة ريال، وكان ذلك بالمعروف، فإنك تُلزَم بدفع الخمسمائة، وتكمِّل له ما نقص، ولو أخذ منك ثلاثة آلاف، فاستكفى بألفين وخمسمائة، لزمه أن يرد الخمسمائة، وإن سامحته وقلت له: خذها، فهذا أمرٌ لا بأس به؛ لأنه مالٌ بطيبة نفسٍ ورضا، والله تعالى أعلم
**جواز الفدية بأنثى الماعز بدلاً عن الشاة
**السؤال
هل تصح الفدية بأنثى الماعز بدلاً عن الشاة أثابكم الله؟
**الجواب
بالنسبة للشاة فيجزئ فيها الذكر والأنثى من الشياه والماعز، إلا أنها في جزاء قتل الصيد فيها تفصيل عند العلماء رحمهم الله، فإن كان الذي قتله من الصيد ذكراً، وجب أن يكون مثله ذكراً، فمثلاً لو قتل ذكر نعامة أو بقر الوحش للزِم ضمانه بالذكر، وهو الثور، وإن قتل الأنثى لزِم الضمان بالأنثى، إلا أن هناك خلافاً إذا كانت الأنثى حاملاً، وكان قتله لحامل، فهل يضمن بقتل الحامل؟ قالوا: إذا كان المقتول حاملاً، فإننا إذا أوجبنا عليه بقرة حاملة، وقلنا له: إنه يذبحها لأن الله يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95]، هذا الجزاء المثلي يُذبح بمكة ويُتصدق به على فقراء الحرم، فهل إذا قلنا: تكون من الأنثى الحامل، فهل ينحرها إذا كانت بدنة حاملاً، أو بقرةً حاملاً، أم أن الحكم فيه تفصيل؟ من العلماء من قال: إن كانت حملاً وأراد الذبح، فإنه لا يذبحها حاملاً، وأما إذا كان يريدها قيمة تكون عليه مقدَّرة حاملاً، ويدفع قيمتها كما سبقت الإشارة إليه في كتاب المناسك، والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (325)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
شرح زاد المستقنع -** باب الحوالة
عقد الحوالة من العقود التي أباحها الله لعباده، وهو من المعاملات المالية التي يقصد منها نقل الحق الثابت في ذمة الإنسان إلى شخص آخر، وعلى هذا فالحوالة عقد رفق واستيفاء.
ومناسبة ذكر المصنف لباب الحوالة بعد القرض والرهن والضمان والكفالة: لاشتماله على براءة الذمة واستيفاء الحقوق، وباب الحوالة يشتمل على العديد من المسائل والأحكام الهامة التي لابد من فهمها والإجابة بها
**تعريف الحوالة لغةً واصطلاحاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحوالة] الحوالة: مأخوذة من التحول، وأصل مادة التحول في لغة العرب تطلق بمعنى الانتقال يقال: تحول إلى الشيء إذا انتقل إليه.
والحوالة تطلق بهذا المعنى في غالب الاستعمال، ولذلك قال بعض العلماء: سمي الحول حولاً؛ لأنه يتحول الإنسان فيه وينتقل، فإذا مر العام ومرت السنة على الإنسان تغيرت أخلاقه وأموره وأحواله، فقد يتغير من الخير إلى الشر وقد يتغير من الشر إلى الخير، ولذلك سمي الحول حولاً من التحول بمعنى الانتقال.
وهذا الباب -وهو باب الحوالة- يقصد العلماء رحمهم الله منه: نوع من المعاملات التي أباحها الله عز وجل لعباده، وهي من المعاملات المالية التي يقصد منها نقل الحق الثابت في ذمة الإنسان إلى شخص آخر.
ولذلك عرف العلماء رحمهم الله الحوالة اصطلاحاً بقولهم: الحوالة انتقال الحق من ذمة إلى ذمة.
انتقال الحق: والمراد بالحق هنا الدين المستقر في الذمة، انتقال الحق من ذمة إلى ذمة: إذا كان لإنسان عليك دين عشرة آلاف -مثلاً- فإما أن تقوم بسداده بنفسك وإما أن تحوله إلى شخص آخر لك عليه نفس المبلغ، وحينئذٍ إذا حولت هذا الدين من ذمتك إلى ذمة الآخر الذي لك عليه عشرة آلاف وصف هذا النوع من المعاملات بكونه حوالة، فهي حوالة شرعية ولها أحكام خاصة في الشريعة الإسلامية.
وهذا النوع من العقود يصفه العلماء رحمهم الله: بكونه عقد رفق واستيفاء، أي عقد قصد الشرع منه أن يرفق بالعباد، وذلك من جهة كون الإنسان بدل أن يتكلف بمطالبة من له عليه الدين أحال الشخص الذي له عليه دين إلى شخص آخر.
وهذا لا شك أن فيه رفقاً بالعباد، وفيه تيسير عليك وإبراء لذمتك، ووفاء وفكاك من الحقوق.
وبناءً على ذلك فهناك مناسبة بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي، فالحوالة: معناها خاص في الاصطلاح وأما في اللغة فإن معناها عام؛ لأنها في الحقيقة اللغوية صادقة على كل انتقال، فكل انتقال يوصف بكونه حوالة ويوصف بكونه تحولاً، إلا أن الحوالة في الاصطلاح انتقال مخصوص على وجه مخصوص بكيفية مخصوصة
**أدلة مشروعية الحوالة
وعلى هذا يرد
**السؤال
ما هو الدليل على مشروعية الحوالة؟ ثبتت مشروعية الحوالة بدليل السنة وإجماع الأمة: أما دليل السنة: فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء فَلْيَتْبَعْ) وفي رواية: (فأتْبِعْهُ).
هذا الحديث يدل دلالة واضحة على مشروعية الحوالة وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا أحيل أحدكم على مليء).
وقوله عليه الصلاة والسلام (إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) دل على مسائل: المسألة الأولى: وهي مشروعية الحوالة، وأن الإنسان إذا كان له دين على غيره وأحال صاحب الدين على ذلك الغريم الذي له عليه حظ فإن ذلك مشروع وجائز.
وأما المسألة الثانية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم المحال أن يقبل الحوالة في قوله: (فليتبع) فلو طالبك رجل بخمسة آلاف ريال، وقال لك: لي على فلان خمسة آلاف اذهب وخذها، فإنه حينئذٍ -على ظاهر هذا الحديث- يلزمك أن تتبع غريمك.
واختلف العلماء في هذا اللفظ وهو قوله: (فَلْيَتْبَعْ) وفي رواية لـ ابن ماجة: (فأتْبِعْهُ) هل هو على الوجوب أو على الجواز؟ جمهور العلماء: على أنه للجواز؛ لأنه أمر بعد حظر، ومذهب الظاهرية والحنابلة وطائفة من أصحاب الإمام الشافعي على أنه للوجوب.
وهذا هو الصحيح والأقوى أنك إذا أحلت على رجل مليء قادر ولك على إنسان دين فأحالك على ذلك المليء القادر فإنه يجب عليك أن تتبع المليء القادر.
كذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (على مليء) صفة ومفهوم المخالفة في الصفة: أنك إذا أحلت على معسر أو أحلت على مماطل ومؤذٍ فإن من حقك أن تمتنع.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم) فالمماطلة تكون غير مشروعة إذا كان الإنسان قادراً على السداد؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني) أي: القادر أن يسددك.
وعلى هذا فلا يجوز للمسلم إذا كان عليه دين أن يماطل في السداد إذا حل الأجل، ولهذا قال بعض العلماء: إنه إذا ماطل في السداد ولو مرة واحدة وهو قادر فإنه يعتبر فاسقاً؛ لأنها كبيرة، ويوصف بكونه فاسقاً وتسقط عدالته وترد شهادته.
وقال بعض الجمهور رحمهم الله: إنه يشترط في الحكم بسقوط العدالة أن يتكرر مطله، فلا يكون مرتكباً للكبيرة في المرة الواحدة، بل لابد وأن يتكرر منه الامتناع والمماطلة.
فهذا الحديث دل على مشروعية الحوالة كما ذكرنا، ودل إجماع العلماء على مشروعية الحوالة أيضاً، فقد أجمع أهل العلم رحمهم الله على أن الحوالة مشروعة، وأنه إذا كان عليك دين ولك على شخص دين وأحببت أن تحيل من له عليك الدين على الشخص الآخر الذي تسأله حقك وهو حق متماثل -مستوفٍ للشروط التي سنذكرها في الحوالة- فإن ذلك جائز ومشروع.
وفي مشروعية الحوالة كما ذكرنا تيسير على العباد؛ لأن الحوالة تتضمن جلب المصلحة ودرء المفسدة، فجلبت المصلحة لك من جهة إبراء ذمتك، ودرأت المفسدة عنك من جهة أذية مطالبة الغير لك
**مناسبة ذكر باب الحوالة بعد الأبواب السابقة
ذكر المصنف رحمه الله خمسة عقود أولها القرض ثم يليه الرهن ثم يليه الضمان والكفالة ثم بعد ذلك باب الحوالة، وجميع هذه العقود تسمى عقود الرفق، وبعضها يختلف عن بعض لكنها تشترك من جهة إبراء الذمم واستيفاء الحقوق، فأنت إذا نظرت إلى القرض فهو منشأ هذه الأبواب التي ذكرنا فغالباً ما يقع الضمان والكفالة -سواءً كانت كفالة حضور أو كفالة غرم- في الديون، والرهن يتركب على الدين، ثم الحوالة تكون في الديون، وهذه الأبواب كلها جاءت وراء بعضها لوجود المناسبة بينها.
ولما كان عقد الحوالة يقصد منه الرفق شابه الأصل وهو القرض، ويقصد منه استيفاء الحقوق أيضاً؛ لأنك لما تحيل على المديون الذي لك عليه دين قصدت أن يستوفي صاحبك حقه من ذلك الدين، فهي من عقود الاستيفاء كالرهن، فإنك إذا وضعت السيارة رهناً أو الأرض رهناً إنما قصدت إذا عجزت عن السداد أن يسدد حقه من تلك العين المرهونة.
فهذه الأبواب كلها المناسبة بينها واضحة، وآخرها باب الحوالة لاشتماله على الإبراء.
إلا أن باب الحوالة يختلف عن الكفالة -التي كنا فيها في آخر دروسنا- من جهة كون الحوالة ينتقل الحق منك إلى الشخص الذي أحلت عليه، وبناءً على ذلك لا يستحق أن يطالبك بعد الحوالة، لكن في الضمان والكفالة من حقه أن يطالبك أو يطالب من كفلك، ولذلك قلنا: وله مطالبة أيهما شاء.
ففي الكفالة إما أن يطالبك أو يطالب من كفلك، وأما في الحوالة، فلا يستطيع، إنما يتوجه مباشرة إلى الشخص الذي لك عليه الحق.
وعلى هذا يختلف باب الكفالة عن باب الحوالة من هذا الوجه، وهو أن الحوالة توجب براءة الذمة، ولكن في الكفالة لا يبرأ المكفول إلا إذا أبرأه صاحب الدين على التفصيل الذي سبق بيانه والإشارة إليه.
يقول المصنف رحمه الله: [لا تصح إلا على دين مستقر]
**أركان الحوالة
الحوالة تتركب من أربعة أركان: - الركن الأول: المحيل.
- والركن الثاني: المحال.
- والركن الثالث: المحال عليه.
- والركن الرابع: المحال به.
أربعة أشياء: أولاً: المحيل، ثم المحال، ثم المحال عليه، ثم الرابع المحال به.
فالحوالة تستلزم الأركان السابقة، فلو فرضنا أن لي عليك عشرة آلاف ريال، ولك على زيد عشر آلاف ريال، ففي الأصل أطالبك بالعشرة والدين الثاني مطالبتك لزيد بنفس العشرة.
فإذاً هناك ثلاثة رءوس: من كان له الدين، ثم من عليه الدين، ثم هناك دين ثالث يتعلق به الرأس الثالث الذي قلنا هو زيد.
ففي الحوالة تحيلني بالدين الذي عليك -وهو العشرة آلاف- على زيد.
فإذاً أركان الحوالة أربعة هي: - محيل وهو أنت.
- ومحال وهو أنا.
- ومحال عليه وهو زيد.
- ومحال به وهو العشرة آلاف
**شروط صحة الحوالة
هناك شروط لابد من توفرها للحكم بصحة هذه الحوالة
**أن تكون الحوالة على دين مستقر
ذكر المصنف رحمه الله الشرط الأول بقوله: [لا تصح] أي: الحوالة [إلا على دين مستقر].
الديون تنقسم إلى ثلاثة أقسام: - دين لازم ومستقر.
- وعكسه دين غير لازم وغير مستقر.
- ودين لازم غير مستقر.
النوع الأول من الديون: وهو الدين اللازم المستقر: مثلوا له بأروش الجنايات، وقيم المتلفات، وثمن المعاوضات في المبيع المقبوض، هذه ثلاثة أمثلة.
المثال الأول: أروش الجنايات: يكون الدين فيها مستقراً؛ رجل اعتدى على رجل ولو كان خطأً، كأن يكون صدمه بسيارته أنه فتلفت رجله أو يده فانشلت، فثبت حكم القاضي بأن عليه نصف الدية، فإذاً يثبت للمجني عليه خمسون ألف ريال التي هي نصف الدية، فإذا حكم القاضي بذلك فمعناه أن المجني عليه يطالب الجاني بدين لازم مستقر.
لازم لأن الجناية ثابتة عليه، وهذا الأرش قد جعله الشرع مقابل الجناية.
فبوجود السبب ينشأ المسبب، فلا إشكال في ثبوت الجناية، وعليه لا إشكال في ثبوت الحق وهو نصف الدية، فإذاً أصبح لازماً؛ لأنه ليس من حق الجاني أن يقول: لا أعطيك، بل يلزمه ويطالب بها رغماً عن أنفه؛ لأن هذا من جناية يديه ومن كسبه وسعيه.
فإذاً أولاً: هو لازم ولا يملك أن يتصالح في الامتناع منه، وثانياً: مستقر لأنه لا يئول إلى السقوط، وليس بمتردد يحتمل أن يبقى ولا يبقى، فإذاً أروش الجنايات يكون الدين فيها لازماً ومستقراً.
المثال الثاني: قيم المتلفات: لو أن رجلاً صدم سيارة رجل فأتلفها أو كسر بها شيئاً، فقدر أهل الخبرة ذلك الإتلاف بعشرة آلاف ريال.
فإذاً يُلزم بضمان هذا التلف الذي قدر أهل الخبرة أن قيمته عشرة آلاف ريال، فنقول: هذا الدين الذي تعلق بالذمة إذا قضى به القاضي لازم مستقر؛ لأنه ليس بالمتردد الذي يحتمل أن يبقى ويحتمل أن يلغى، فهو ثابت بثبوت الإتلاف، كما ذكرنا في الجنايات.
المثال الثالث: كذلك أيضاً ثمن المعاوضات في المبيع المقبوض مثلاً: لو أن رجلاً اشترى منك سيارة بعشرين ألف ريال، قال لك: اشتريت سيارتك هذه بعشرين ألفاً، وقدمنا في البيع أن الإيجاب والقبول هو الصيغة للبيع، فإذا قال: قبلت لزمه البيع، فيبقى خيار المجلس إذا افترقتما وقبض السيارة لزمه أن يدفع ثمنها.
فإذاً صار عقداً لازماً لأن البيع لازم، وقد بينا أنه من العقود اللازمة، والعشرون ألفاً التي هي قيمة السيارة مستحقة بالقبض.
- أروش الجنايات.
- قيم المتلفات.
- ثمن المعاوضات في المبيع المقبوض.
النوع الثاني: الدين غير اللازم غير المستقر مثاله: كما ذكرنا في المكاتبة رجل قال لعبده: كاتبتك باثني عشر ألفاً تدفع كل شهر ألفاً، لكن الكتابة من حيث هي يحتمل أن يعجز العبد فيعود رقيقاً ويحتمل أن يقوى وتمضي الكتابة، فهي دين غير مستقر.
ولذلك يقولون: يشترط في صحة الحوالة أن تكون في الديون المستقرة، فالكتابة من حيث هي تعتبر من الديون غير المستقرة؛ وغير لازمة لأنه في هذه الحالة لو أن الرقيق قال: لا أريد، فإنه من حقه ولا يلزم بالكتابة.
كذلك الجعالة لو قال: من عثر على سيارتي فله عشرة آلاف، فقبل العثور على السيارة فإن هذه العشرة آلاف غير مستحقه، ويحتمل أن يعثر عليها فيثبت الدين ويحتمل ألا يعثر عليها فلا يثبت الدين، فهو دين غير مستقر.
وغير لازم لأن من حقه أن يفسخ الجعالة قبل، لو أنه قال: من وجد سيارة ضائعة أعطيه عشرة آلاف ثم قال: رجعت، فإن من حقه أن يرجع؛ لأنه عقد غير لازم، فإذاً غير لازم والدين أيضاً غير مستقر، فهذا النوع الثاني من الديون.
النوع الثالث: الديون غير اللازمة غير المستقرة، وذلك كما لو قال له: بعتك عمارتي بعشرة آلف على أن لكل واحد منا الخيار ثلاثة أيام، ففي مدة الخيار نقول: البيع لازم من حيث هو، والأصل أنه عقد شرعي صحيح وثابت لا إشكال فيه، ولكن بالنسبة لهذا الدين وهو قيمة العمارة يحتمل أن يرجع أحدهما في مدة الخيار ويحتمل أن لا يرجع، فهو دين غير مستقر.
وعلى هذا لما أجازت الشريعة هذه الأنواع الثلاثة من الديون فصّل العلماء رحمهم الله في الحوالة فقالوا: إنها لا تصح إلا في الديون المستقرة.
فلا تصح إلا على دين مستقر، فلا تصح بالمكاتبة، ولا تصح -مثلاً- بمؤخر مهر المرأة أو إذا كان قبل الدخول، فلو أن امرأة عقد عليها رجل بعشرة آلاف، فلها عليه عشرة آلاف، لكن إذا لم يدخل بها فهي لا تستحق العشرة آلاف، ولا تستحق المبلغ إلا إذا دخل بها.
فيحتمل أن يدخل بها وتستحق العشرة آلاف، ويحتمل أن لا يدخل بها، فلو أرادت أن تحيل على زوجها بهذا الدين لم يصح؛ لأنه في هذه الحالة لم يترك لها استحقاق العشرة آلاف أو استحقاق المبلغ الذي ذكرناه.
فإذاً الشرط الأول في صحة الحوالة: أن تكون بدين مستقر، وهذا الشرط راجع إلى الركن الثالث وهو المحال به، فإنه لا تقع الحوالة إلا في ديون مستقرة، فإن كان الدين غير مستقر لم تصح الحوالة.
قال رحمه الله: [ولا يعتبر استقرار المحال به] (المحال به): وهو الدين الذي لك على الشخص وتريد أن تحيله على الغير، فمن حقك في هذه الحالة أن تحيل على دين غير ثابت؛ لأن المحال به في الأصل غير ثابت، ويجوز في هذه الحالة أن يعاوض بالمثل.
وبناءً على ذلك فرقوا بين الزوج والزوجة، فإن الزوجة إذا أحالت على الدين الذي ليس لها حق المطالبة به إلا بعد الدخول لم تصح حوالتها؛ لأن الدين لم يستقر ولم يثبت، لكن لو أن هذا الدين وهو العشرة آلاف ريال أحال به الزوج فإنه يصح ويعتبر في هذه الحالة صحيحاً.
بمعنى: المرأة إذا طالبت الرجل بعشرة آلاف ولم يدخل بها فأحالها على رجل آخر صح؛ لأنه في هذه الحالة لا يشترط استقرار المحال به -يعني نفس الدين الذي للزوجة على الزوج- وإنما من حقه أن يمتنع من الإحالة، فيجوز له عندها أن يحيلها على طرف ثانٍ.
زيادة في التوضيح نقول: المحال به وهو الدين الذي تحيل عليه يشترط أن يكون مستقراً حتى لا تغرر بصاحب الحق، لكن عكسه الأمر فيه خفيف، فإن الشخص نفسه إذا كانت المرأة تطالبه بعشرة آلاف، ولم يثبت بعدُ مطالبتها فأحال به ذلك الدين صح؛ لأنه في هذه الحالة حتى لو رجع فإنه يصح له الرجوع، فالأمر فيه أوسع من غيره
**اتفاق الدينين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً
قال رحمه الله: [ويشترط اتفاق الدينين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً].
هذا الشرط الثاني من شروط صحة الحوالة: اتفاق الدينين جنساً ووصفاً وقدراً.
الجنس: أن يتفق الدينان -الدين الأول الذي تحيل به والدين الثاني الذي تحيل عليه- جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة ودنانير بدنانير ودراهم بدراهم وريالات بريالات ودولارات بدولارات.
فلا يصح أن يحيل بذهب على فضة، ولا يصح أن يحيل بريالات على دولارات؛ لأن رصيد الريالات من الفضة ورصيد الدولارات من الذهب، ولا يصح أن يحيل الريالات بالجنيهات ولا العكس؛ لأن رصيد الريالات من الفضة ورصيد الجنيهات من الذهب.
فلو أن شخصاً له على آخر ثلاثة آلاف ريال، والمديون له على شخص ثانٍ مبلغ ألف دولار، فالثلاثة آلاف ريال تعادل الألف دولار، فأراد أن يحيل، نقول: لا يصح؛ لأنه في هذه الحالة تدخله شبهة الربا.
ولذلك قال العلماء: لا يصح أن يحيل إلا مع اتحاد الدينين جنساً، وهذا راجع إلى مسألة أن الحوالة فيها شبهة بيع الدين بالدين.
ولذلك العلماء اختلفوا في الحوالة على وجهين، وبعضهم يقسمه إلى ثلاثة أوجه: قال بعض العلماء: الحوالة من بيع الدين بالدين.
فأنت لك عليّ عشرة آلاف دين، وأنا أُحيلك على شخص آخر لي عليه عشرة آلاف، فأصبح من باب بيع الدين بالدين، وهذا الوجه يقول به طائفة من العلماء رحمهم الله.
وفائدة هذا الوجه: أنك إذا قلت: إن الحوالة من باب بيع الدين بالدين يثبت فيها خيار المجلس، وتسري عليها أحكام البيوع، ويعتبر عقد الحوالة بناءً على هذا القول مستثنىً من الأصل وخارجاً عن الأصل، وهذا في الحقيقة من أقوى الأقوال في المسألة وهو أنه من بيع الدين بالدين، فإن الذين قالوا: بأنها عقد إرفاق أو عقد استيفاء لم يستطيعوا أن يطبقوا أوصاف الاستيفاء في الأثر.
ولذلك إذا أحال على مليء فاحتال فإنه لا يستطيع أن يرجع إليه، فدل على أن الذمة قد انتقلت، وهذا لا يمكن أن يقع في مسألة الاستيفاء كما ذكرنا في الرهونات، وإنما يقع في مسألة البيع.
ولذلك القول: بأنها من بيع الدين بالدين من القوة بمكان،
و
**السؤال
إذا كان الشرع قد حرم بيع الدين بالدين فكيف جازت الحوالة؟ قالوا: إن هذا مستثنى من الأصل.
ولذلك يجوز إخراج الخاص من العام، فالأصل العام يقتضي عدم جواز بيع الدين بالدين، ولكن جاز في الحوالة لورود إذن الشرع بها ولهذا نظائر؛ فإن الشرع يضع الشيء فتبقى قاعدة ثم يستثني فروعاً منها، وقد يأتي الحكم في الشرع على سبيل العموم ثم يخصص الشرع منه ما شاء.
وبناءً على ذلك تكون الحوالة فيها صورة البيع، وعلى هذا فإنهم يقولون: لابد وأن يكون الدينان متفقين جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة، فلا يصح أن يحيل ذهباً على فضة ولا فضة على ذهب، كذلك أيضاً: لابد أن يتفق الدينان صفة؛ لأن الدين يكون معجلاً ويكون مؤجلاً؛ فإذا كان لك على شخص دين إلى نهاية محرم وأحالك على شخص عليه دين مؤجل إلى نهاية محرم صحت الحوالة، فلو قال لك: يا محمد! لي على زيد عشرة آلاف في نهاية محرم، فالعشرة آلاف التي لك عليّ في نهاية محرم أحيلك على الدين الذي لي على زيد؛ صح ذلك لاتفاق الدينين تأجيلاً.
وكذلك تعجيلاً فلو أنه أعطاك خمسة عشر ألفاً وحل الأجل في يوم خمسة عشر من ذي الحجة، فجاءك وقال لك: يا فلان! لي عليك خمسة عشر ألفاً أعطنيها، فتقول: أنا لي على زيد من الناس خمسة عشر ألفاً، وقد حلت مثلما حل دينك، اذهب وخذها من فلان فحينئذٍ يصح؛ لأن الدينين اتفقا صفة فالعاجل بالعاجل والآجل بالآجل، لكن لو كان أحدهما مُعجلاً والآخر مؤجلاً لم يصح، فلابد من اتفاقهما تعجيلاً وتأجيلاً.
الوصف: معلوم أن الدنانير من الذهب تختلف، فهناك الدنانير المصرية والدنانير الأميرية والدراهم البغلية فيقولون: جنساً كذهب بذهب وفضة بفضة، ووصفاً وعليه فدراهم مصرية بأميرية لا يصح؛ لأن هذه لها صفة غير صفة هذه، أو دنانير مكسرة بدنانير صحيحة، أو دراهم مكسرة بدراهم صحيحة لا يصح، لكن دراهم صحيحة، بدراهم صحيحة ودنانير صحيحة بدنانير صحيحة يصح.
ويدخل في الوصف التعجيل والتأجيل، وبعض العلماء يفرق التعجيل والتأجيل في الوقت كما صنع المصنف فقال: (جنساً ووصفاً ووقتاً).
الوقت: هو التعجيل والتأجيل، ولابد في المؤجل أن يتفقا قرباً وبعداً، فلا يصح أن يكون الدينان أحدهما أجله قريب والثاني أجله بعيد، بل لابد وأن يتفق الأجلان حتى تصح الحوالة.
قدراً: كعشرة آلاف بعشرة آلاف وخمسة عشر، بخمسة عشر، لكن يجوز أن يحيله بعشرة آلاف على شخص له عليه عشرون، فيقول له: أعطه منها عشرة يصح، ولا يؤثر وجود الفضل والزيادة، وتكون الحوالة في الحق الثابت بالدين الأول، فيقول له: لك عليّ عشرة آلاف ولي على زيد عشرون، اذهب وخذ منها عشرة سداداً لدينك ووفاءً لحقك.
قال: [ولا يؤثر الفاضل].
كما ذكرنا كأن يحيله بعشرة آلاف على من له عليه عشرون
**أن تكون الحوالة بمعلوم
الشرط الثالث من شروط صحة الحوالة: أن تكون بالمعلوم فلا تصح بالمجهول؛ لأنها إبراء للذمم، فلا يصح أن تكون بالمجهولات، لابد وأن يتحقق فيها العلم، خاصة وأننا قلنا: إن فيها شبهة البيع، فعلى القول بأن فيها شبهة البيع؛ فالبيع لا يصح بالمجهول، وقد بينّا اشتراط العلم بالمبيع
**أن تكون الحوالة برضا المحيل
الشرط الرابع: رضا المحيل، فإذا أراد أن يحيلك اشترط أن يحيلك برضاه واختياره، ولا يصح دون رضا المحيل مثلاً، لو كان لك على زيد عشرة آلاف وأنت تعلم أن زيداً له على عمرو عشرة آلاف ليس من حقك أن تذهب إلى عمرو مباشرة دون أن يحيلك زيد، فإذاً: يتشرط فيها رضا المحيل، ولا يشترط رضا المحال كما سيأتي.
هذه أربعة شروط هي التي تصح بها الحوالة، وقد عبر المصنف بقوله: (ولا تصح) وهذا يدل على أن الشروط شروط صحة؛ لأننا قدمنا أن هناك شروط صحة، وهناك شروط إجزاء، وهناك شروط نفاذ، وهنا قصد المصنف أن يبيّن أن هذا الشرط إذا لم يوجد ولم يتحقق لا نحكم بصحة عقد الحوالة.
فإذاً هذه الأربعة شروط لا تصح الحوالة بدونها وهي: - الشرط الأول: أن يكون بدين ثابت مستقر.
- الشرط الثاني: أن يكون الدينان متفقين جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً.
- الشرط الثالث: أن تكون بمعلوم لا بمجهول.
- الشرط الرابع: أن تكون برضا المحيل.
هذه أربعة شروط لابد من توفرها، أما رضا المحيل: فقد حكى العلماء رحمهم الله الإجماع بهذه الصيغة بلا خلاف، فليس هناك أحد يخالف ويقول: إنها تقع حتى ولو لم يرض، إلا خلافاً شاذاً حكي عن الحسن البصري أحد أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن جماهير السلف والخلف على هذا القول أنها لا تصح إلا برضا المحيل
**الأثر المترتب على صحة الحوالة
قال رحمه الله: [وإذا صحت نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل].
(وإذا صحت): الضمير عائد إلى الحوالة.
فإذا صحت نقلت الدين والحق إلى ذمة المحال عليه.
فإذا كان لك عليّ عشرة آلاف وأحلتك وصحت حوالتي انتقل حقك عليّ إلى ذمة زيد الذي ليّ عليه عشرة آلاف.
وبناءً على ذلك يلاحظ أنها إلى البيع أقرب، ولذلك لو أحاله للاستيفاء لم يضر ولا نحكم باللزوم بمجرد الحكم كما ذكرنا في الرهن، وعلى هذا بمجرد وجود الشروط المعتبرة بصحة الحوالة لزمته، وليس من حقه أن يرجع لا المحيل ولا المحال.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) وفي رواية لـ ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما: (فأَتْبِعْهُ) وهذا يدل على أنها إذا صحت حينئذٍ نحكم بانتقال الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
وأنبه ما على مسألة مهمة ستأتي إن شاء الله، فنحن أخرنا مسائل من العقود المعاصرة التي إن شاء الله سنتكلم عليها بعد باب الحوالة؛ والمشكلة أنه تؤخذ أسماء العقود الشرعية وتوضع على الأشياء ويدعى أنها شرعية، ولذلك أحببنا أن لا نتعرض للمسائل المعاصرة إلا بعد انتهائنا من العقود الشرعية كي نتصورها ونفهمها، حتى إذا جئنا نقول: منهم من يقول: إنها حوالة نقول: أنتم تعرفون أن الحوالة ضابطها كذا وكذا فهل ينطبق الضابط هنا أو لا؟ بمعنى حينما يأتي رجل إلى المصرف ويعطيه عشرة آلاف ريال على أن يحيلها إلى بلد في الخارج بقيمة غير قيمة الريالات -إلى دولارات أو إلى جنيهات- فهذه لا تعتبر حوالة لعدم الاتفاق في الجنس، ثم ليس فيها دين مستقر أيضاً.
فما سبق يطلق عليه عامة الناس حوالة ولو جئت تقول: هذا لا يجوز؛ لأنه يشترط فيه التقابض فهو بيع وصرف، قال: لا هذا حوالة والحوالة جائزة شرعاً، فالعقود الشرعية لابد وأن تضبط بما ضبطها به أهل العلم مما استنبط من الكتاب والسنة.
إذاً المسألة السابقة ليست من باب الحوالة، وإنما تكون في هذه الحالة وكالة وصرفاً، صرف لأنه صرف العشرة آلاف ريال إلى دولارات أو جنيهات أو إلى أي عملة أخرى، ثم وكل أن يعطى فلان في ذلك البلد، فهي إلى الوكالة أشبه منها بالحوالة؛ لأنه ليس له على الطرف الثاني بالبلد الثاني دين، إذاً ليس هناك دينان فلا يمكن أن ينطبق عليها ضابط الحوالة، فالحوالة التي ذكرها العلماء سبق ذكرها وذكر ضوابطهما، فانظروا كيف يكون الاسم والمسمى في الظاهر شيء، ولكن في الحقيقة والجوهر واللب شيء آخر.
ومن هنا ننبه على مسألة مهمة -وإن شاء الله سننبه عليها أكثر- وهي قضية المسائل في المعاملات المعاصرة، لا تتحدث عن أي معاملة معاصرة تريد تخريجها على القديم إلا بعد ضبط القديم، فإذا قالوا: وديعة انظر ما هو ضابط الوديعة عند المتقدمين، وبعد أن تفهم ما هي الوديعة، وما هي حقيقتها عند المتقدمين، انظر في صورة المسألة المعاصر هل استوفت الأوصاف المعتبرة أم لا؟ إذا قال قائل: لو أردت أن أحيل عشرة آلاف من جدة إلى المدينة، فالدين واحد وهو عشرة آلاف بعشرة آلاف فحينئذٍ نقول: هذه المسألة ليست من باب الحوالة؛ لأنه ما مِن دين ثانٍ، يعني أنت الآن تتعامل مع شخص هو نفسه الذي سيفوض شخصاً آخر.
وبناءً على ذلك يقولون: إنها إلى الوكالة أشبه منها من الحوالة، وهناك وجه عند اتفاق المبلغ المحال جنيهات أو ريالات أن يعطى حكم الحوالة، وسنبين ذلك عند حديثنا عن أحكام الحوالات بعد الانتهاء من باب الحوالة إن شاء الله تعالى.
قال: [نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل] إذا أحلت شخصاً واستوفيت الشروط المعتبرة للحوالة، تكون عندها نقلت الحق وهو العشرة آلاف من ذمتك إلى ذمة من أحلت إليه، وبهذا تكون قد برئت ذمتك؛ لكن بالشروط التي ذكرناها في صحة الحوالة، وأن تكون الحوالة قد استوفي فيها شرط الإلزام، كأن تحيل على مليء، فلو أحلت على مفلس أو أحلت على غير مليء، فإنه لا تبرأ ذمتك ولا يلزم بالاتباع، لكن لو قبل برئت ذمتك.
فإذاً من حيث الأصل نقول: إذا استوفت الحوالة شروطها وكانت على مليء واحتال المحال فإنها تبرأ ذمة المحيل
**حكم من أحال على مليء افتقر
لكن هنا مسألة: نحن ذكرنا أن زيداً لو أحال عمراً على خالد بعشرة آلاف ريال، وخالد غني مقتدر وتمت الحوالة مستوفية للشروط، وبعد يومين أو ثلاثة أيام افتقر خالد أو أصبح معسراً فهل يرجع إلى المحيل؟
**الجواب
لا.
لأنه إذا تمت الحوالة وكانت في وقتها مستوفية للشروط وحكمنا بصحتها وبلزومها برئت ذمة المحيل مباشرة، وإذا برئت ذمته انقطعت الصلة بينه وبين من يطالبه، فحينئذٍ يكون وجهه على الطرف الثاني وهو المحال عليه
**المعتبر في الحوالة رضا المحيل لا المحال عليه
قال رحمه الله: [ويعتبر رضاه لا رضا المحال عليه].
أي ويعتبر رضا المحيل؛ لأنه في الحقيقة إذا كان لك عليّ دين وأردت أن أحيلك على شخص آخر فإن الشخص الآخر -الذي هو خالد- الذي لي عليه الدين من حقي أن أحيلك عليه ومن حقي أن أسدد دينك من مالي، فكونك تذهب مباشرة إلى خالد ليس من حقك ولا تثبت لك به الحوالة، فلو أنك ذهبت مباشرة إلى خالد وقلت: يا خالد لي على محمد عشرة آلاف ريال أريد أن آخذ منك العشرة آلاف التي لمحمد عليك، وأعطاك خالد المبلغ، فإن خالد! يُلزم شرعاً في هذه الحالة بدفع العشرة آلاف إليّ ويضمن؛ لأنني لم أوكله ولم آذن له بصرفها إلى ذلك الشخص الذي له عليّ الدين.
إذاً لا تصح الحوالة إلا برضا المحيل، واعتبرناه شرطاً كما ذكرنا وهذا بلا خلاف، وقد نقل هذه الصيغة الإمام ابن قدامة والشوكاني وغيرهما من الأئمة رحمهم الله بلا خلاف أن رضا المحيل معتبر.
قال: [لا رضا المحال عليه] في أصح قولي العلماء: أنه ليس من حق المحال عليه أن يمتنع وهو الطرف الثاني -خالد- الذي لي عليه عشرة آلاف، فلو أحلتك على خالد فليس من حق خالد أن يقول: لا، إنما يلزم؛ لأن ذمته مشغولة لي، ولي حق أن أصرفها إلى الغير، فهذا حق مستحق عليه سواءً دفعه لي أو دفعه لغيري، وليس من اللازم أن يرضى.
إلا أن بعض العلماء يقول: يشترط رضا المحال عليه.
والسبب في هذا: أن للناس كرامة ولهم حقوق، فقد أرضى أن آخذ الدين منك وتكون غريماً لي ولا أرضى بشخص آخر، فقالوا: إذا كان فيه ضرر كعدو يشمت به أو إنسان منّان يتحدث أو يؤذيه أو يضره فمن حقه أن يمتنع من الإحالة.
وهذا القول في الحقيقة من جهة مقاصد الشريعة العامة له وجهه، لكن من جهة المعاملات وضوابط المعاملات وأصول المعاملات والقواعد المقررة في شريعتنا في المعاملة ليس من حقه أن يرضى، يعني رضاه أو عدم رضاه ليس بمشترط، بمعنى أننا إذا جئنا إلى وجود الضرر -والقاعدة أن الضرر يزال- وأن الحوالة هنا تضمنت الضرر وقد شرعت للرفق ممكن أن تقول: ويشترط رضا المحال عليه.
وإذا جئت تنظر من جهة استيفاء الحقوق أن الرجل ما ظُلم، وأن الحق الذي على خالد سيدفعه لمحمد أو سيدفعه لي على حد سواء، وغاية هذا الأمر أنه نقل الحق من ذمة إلى ذمة وليس في هذا ضرر، فكما أنه مطالب بحق محمد فهو مطالب بحقي هذا يقتضي الجواز، أي: يقتضي أنه يجوز أن يحيله بدون رضاه وكلا القولين له وجهه
**لا عبرة في الحوالة برضا المحال
قال: [ولا المحتال على مليء]: أي لا يشترط رضاك إذا أُحلت على مليء، وهذا لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع) مفهوم قوله: (على مليء) أنك إذا أُحلت على غير مليء فإن من حقك أن تمتنع، فلو قال لك رجل: العشرة آلاف التي لك عليّ أحيلك على زيد وأنت تعرف أن زيداً مفلس، أو أن زيداً مماطل، وأنه مؤذٍ ولا تستطيع أن تستوفي حقك منه فمن حقك أن تمتنع، وهذا صحيح أنه لا تلزمك الحوالة إلا إذا كانت على مليء لا ضرر عليك من الحوالة عليه
**عدم نفاذ الإحالة على مفلس إلا برضا المحال
قال: [وإن كان مفلساً ولم يكن رضي رجع به].
(وإن كان مفلساً) يعني المحال عليه، (ولم يكن رضي) يعني المحال (رجع عليه) بمعنى أنه إذا رضي ليس من حقه أن يرجع.
فإذاً إذا أحلت على مفلس فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن لا ترضى، فلو أُحلت على مفلس ولم ترض، ثم ذهبت إلى المفلس فامتنع وأبى، فمن حقك أن ترجع إلى المحيل.
والصورة الثانية: أن تحال على مفلس وترضى، فلما رضيت وذهبت إلى المفلس وجدته سيتعبك فرجعت إلى المحيل، فليس من حقك أن ترجع.
إذاً الرضا يسقط الحق في الرجوع، فالمحال إذا رضي بالمفلس فإنه ليس من حقه أن يرجع
**الحكم فيمن أحيل بثمن مبيع ثم ظهر بطلان البيع
قال رحمه الله: [ومن أحيل بثمن مبيع أو أحيل به عليه فبان البيع باطلاً فلا حوالة].
فلو بعت عمارة بخمسمائة ألف ريال، ولما بعتها بهذا المبلغ قبض المشتري العمارة على أن يسدد لك المبلغ في نهاية السنة فالدين ثابت ومستقر، وأردت أن تحيل شخصاً له عليك نصف مليون فقلت له: النصف مليون التي لك عليّ أحيلك على فلان الذي اشترى مني العمارة، فهذه الحوالة صحيحة.
فهنا الدينان متفقان جنساً ووصفاً وقدراً ووقتاً وقد رضي المحال على أنه في نهاية السنة سيذهب ويأخذ المبلغ، يصح أن تحيل على ثمن العمارة إذا كنت أنت البائع، ويصح للمشتري منك الذي تطالبه بنصف المليون أن يحيلك على آخر، يعني بثمن العمارة الذي تطالبه به وهو نصف مليون، فيصح لكلا الطرفين البائع والمشتري.
البائع يُحيل بدين عليه يؤخذ من قيمة العمارة، هذا بالنسبة للبائع، والمشتري يحيل البائع بدين العمارة وهي نصف مليون على شخص آخر له عليه نصف مليون، هذا بالنسبة لأصل الحوالة، فالمبيع صحيح ولا إشكال فيه، ففي نهاية السنة ذهب صاحب العمارة إلى ذلك الشخص الذي أحلته عليه فأعطاه نصف مليون، فلا إشكال؛ لأن الحوالة تمت وبرئت الذمة.
العكس لو أن صاحب العمارة طالبه طرف ثانٍ بنصف مليون فأحال على المشتري، أي: أحال عليك رجل له عليه نصف مليون، فجاء في نهاية السنة وطالبك بنصف مليون وأعطيته إياها، فإذاً صحت من البائع وصحت من المشتري، هذا بالنسبة إذا كان المبيع مستوفياً للشروط.
لكن لو وقعت الحوالة في مبيع باطل من أصله كمن باع خمراً أو باع ميتة أو باع خنزيراً فالثمن غير مستحق في الأصل، فإذا كان الثمن غير مستحق في الأصل فالدين غير ثابت؛ لأننا بينّا أن من شروط صحة الحوالة أن تكون بدين مستقر، والدين إذا كان أصله باطلاً لم تثبت المطالبة.
فلو أنه باعه محرم العين بألف ريال، فإن هذه الألف لا تثبت والذمة لا تنشغل بها، فالبيع باطل من أصله وليس هناك دين أصلاً، فلو أحال عليه أو به لم تصح الحوالة.
إذاً يُشترط في صحة الحوالة كما ذكرنا أن يكون الدين من حيث الأصل ثابتاً، وإذا كان البيع من أصله باطلاً لم يثبت الدين، وإذا لم يثبت الدين لم تصح الحوالة ويُحكم ببطلانها.
هذا بالنسبة إذا بان أن البيع باطل، أو أن المبيع مستحق للغير؛ كرجل باعك عمارة بنصف مليون، وتبين أنه اغتصب العمارة أو أنها ملك لغيره، فالدين غير ثابت، فالحوالة باطلة فلو أحال عليه أو به لم تصح
**الحكم فيمن أحيل بثمن مبيع ثم انفسخ البيع
قال رحمه الله: [وإذا فسخ البيع لم تبطل ولهما أن يحيلا].
فرق العلماء بين بطلان البيع وفسخ البيع، وفقه المسألة راجع إلى مسألة استقرار الدين، وهي أشبه بالمسألة المتقدمة معنا حينما قلنا ليس من حق الزوجة أن تحيل على زوجها في صداق قبل أن يدخل بها؛ لأن الدين لم يستقر، ومن حق الزوج أن يحيل الزوجة بذلك الدين على شخص آخر؛ لأن من حقه أن يعجل المهر.
كذلك هنا فرقنا بين كون البيع باطلاً من أصله بحيث لا يثبت دين، وبين كونه ثابتاً ثم يطرأ الفسخ من المتعاقدين، أو يوجد سبب يوجب الخيار كخيار العيب ونحوه كما سنبينه.
لما قلنا للزوج في الحوالة أنه إذا كان الدين مستقراً صحت الحوالة عليه وبه كما ذكرنا، وإذا كان غير مستقر فإنه يصح أن يحيل على طرف ثانٍ في دين غير مستقر فالمرأة -مثلاً- إذا كان مهرها عشرة آلاف ريال فمن حقك أن تعطيها عشرة آلاف ريال قبل الدخول فتعجل لها ذلك، فكما أن من حقك أن تعطيها العشرة آلاف قبل الدخول فمن حقك أن تقول لها: هذه العشرة التي لك عليّ أو أعطيتك إياها مهراً أحيلك على زيد أو على عمرو الذي لي عليه عشرة آلاف؛ فأحلتها وهي تطالبك بدين غير مستقر.
فإذاً فقه المسألة كلها في الدين المستقر، وهنا في البيع إذا جاء وقال لها: بعتك عمارتي بعشرة آلاف ريال والعمارة صحيحة وقبضت وثبت الدين صحت الحوالة من البائع ومن المشتري بالتفصيل الذي ذكرناه، فلو أن هذا البيع الذي وقع بين الطرفين تبيّن أنه باطل من أصله، فإذاً لم يثبت استقرار الدين في الذمة فتبطل الحوالة؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، كما لو قال لك: العشرة آلاف التي لك عليّ خذها من زيد وهو ليس له على زيد عشرة آلاف وادعى أن له على زيد عشرة آلاف، فإذاً هي باطلة من أصلها.
فهنا إذا بان بطلان البيع فكأنه أحالك على شخص ليس له عليه شيء، لكن لو أن البيع صح ثم إن الطرفين اتفقا على الإقالة؛ فحينئذٍ يفرّق بينهما؛ لأن البيع أثبت الحق وإذا ثبت الحق فكونهما بعد ذلك يريان فسخه المهم أنها تثبت الحوالة كما قلنا: إذا كان مليئاً أثناء الحوالة ثبتت الحوالة، ثم بعد ملئه صار مفلساً، فيكون قد طرأ شيء وهذا لا يؤثر.
فإذاً إذا كان البيع بأصله صحيحاً ثم ظهر في المبيع عيب يقع به خيار العيب واستحق الفسخ، فإن الذمة قد شغلت في الأول إن صح البيع، فصح أن يحيل عليه وبه.
فكونه بعد ذلك يطرأ ما يوجب الخيار ويختار أحدهما الفسخ هذا أمر لا يلغي العقد؛ فحينئذٍ يصح أن يحيل به وأن يحيل عليه، ففرّق بين كونه باطلاً في أصله وبين كون الطرفين قد اتفقا على فسخه أو على الإقالة فانفسخ البيع بسببهما.
إن شاء الله بالنسبة للدرس القادم وما بعده سيكون الحديث عن المسائل المعاصرة، نتحدث فيها على جملة من المسائل المتعلقة بالحوالة والضمان، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا المعونة، وأن يجعل العلم خالصاً لوجه الكريم موجباً لرضوانه العظيم.
وسنبين فيها بعض الفروع والمسائل؛ لأن هذا متصل بموضوعنا، فالفقه قديمه جديد وجديده قديم، فالشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وكوننا ندرس الفقه القديم دون أن يكون هناك إلمام بالمسائل التي سميت بأسماء العقود القديمة حتى نعرف صوابها من خطئها وحقها من باطلها هذا لا شك أنه يكون بمعزل.
ولا يخفى أن الإنسان إذا قرأ الفقه وكانت الأمثلة قديمة لم يستطع أن يستوعب، ولن يستطيع أن يستفيد أو يفيد، فلذلك لابد من التعرض لهذه المسائل ومعرفة موقف الشريعة منها.
وهذا إن شاء الله وبإذن الله عز وجل سنسير فيه على منهج التصور، فإن كان عندنا عقد قديم نتصوره، وإذا كان عندنا عقد جديد نتصوره؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وبعد أن نتصوره بحقيقته وبطريقه المعروفة بعد ذلك يكون التخريج أو ما يسمى بالتكييف الفقهي، وهو معرفة كيفية العقد وصورته الفقهية هل هو مخرج على عقد شرعي؟ يعني إما أن يكون مخرجاً على عقد شرعي قديم أو غير مخرج، فإن كان مخرجاً على عقد شرعي قديم تنتقل إلى مسألة ثانية وهي ما هي شروط هذا العقد القديم؟ وهل استوفى هذا الجديد الشروط القديمة؟ أم حصل تغيير في شروطه وتغيير فيما ذكره العلماء من لوازمه؟ كل ذلك إن شاء الله سنبينه، ونسأل الله تعالى أن يعيننا بحوله وقوته، وأن يلهمنا الرشد والصواب، إنه ولي ذلك والقادر عليه
**الأسئلة
**الحكم فيما لو أحال المستأجر المؤجر بأجرته قبل استيفاء المنفعة
**السؤال
علمنا أنه يجوز أن يحيل الزوج زوجته بصداقها قبل الدخول، فهل يماثلها لو أحال المستأجر المؤجر من أجرته قبل استيفاء المنفعة؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: اختلف العلماء رحمهم الله في عقد الإجارة هل الأجرة لازمة بالعقد أو لازمة بالاستيفاء؟ هذان وجهان للعلماء: بعض العلماء يقول: الأجرة لازمة بالعقد، وبناءً على هذا القول تستحق الأجرة بمجرد العقد، ويشمل هذا إجارة المنافع والدور.
مثلاً لو استأجرت شقة سنة باثني عشر ألفاً، فإن كل شهر له ألف ريال، قالوا: إن الأجرة تستحق بمجرد العقد، فأشكل على هذا القول كيف تقولون: إن صاحب الشقة يستحق الاثني عشر ألفاً مع أن المستأجر لم يستنفع بعد والمنافع غير موجودة؟ قالوا: تمكين المؤجر للمستأجر من السلعة ينزل فيه المعدوم منزلة الموجود، يعني ما دام خلى بينه وبين الشقة ومكنه منها فمعنى ذلك أنه سيستوفي فينزل المعدوم منزلة الموجود.
والوجه الثاني: أن الأجرة تستحق بالاستيفاء، وعلى هذا تستحق شيئاً فشيئاً، فإذا تمت السنة استحق الاثني عشر ألفاً.
فائدة الخلاف: لو أعطاك الأجرة مقدماً فحينئذٍ أنت تستحقها شيئاً فشيئاً شهراً فشهراً، وعلى هذا لا تلزمك زكاتها إلا بعد الاستحقاق.
وأما إذا قلنا: إنها تستحق بالعقد فينشأ حولها من القبض، فإن قبضت الأجرة تصبح في هذه الحالة تستقبل الحول بالاثني عشر كاملاً، لكن إذا قلنا: إنها تستحق بالمنافع فلكل شهر أجرته ولكل شهر حوله.
والله تعالى أعلم
**صيغة انعقاد الحوالة
**السؤال
هل للحوالة صيغة معينة أم تنعقد بكل ما دل عليها؟
**الجواب
الحوالة تنعقد بالصيغة الصريحة، أحلت على فلان، وهذا من صريح الألفاظ، وبعض العلماء أجاز أن تكون بلفظ الوكالة وبالألفاظ التي جرى العرف بها كقولك: خذ حقك من فلان أو خذ مالك عليّ من فلان فلا ذكر هنا للحوالة، لكن هذا يعتبر من الكنايات ورجح شيخ الإسلام رحمه الله وطائفة: أن صيغ العقود لا تتقيد بالألفاظ المخصوصة، وإنما يرد فيها إلى كل عرف بحسبه، فإن فهم الطرفان معنى الحوالة، أخذت حكم الحوالة وإن لم يكن ذلك فلا.
والله تعالى أعلم
**حكم إحالة المحال عليه إلى آخر
**السؤال
هل للمُحال عليه أن يحيل على آخر؟
**الجواب
إذا ثبت الدين واستقر فإنه في هذه الحالة يكون الحق للأول ولا يجوز صرفه إلى الثاني؛ لأن الحوالة خارجة عن الأصل، ولذلك تشرع بالحوالة الأولى ولا تنتقل إلى حوالة ثانية لشُبهة البيع كما ذكرنا، وقالوا: خاصة إذا كان من جنس ما يشترط فيه القبض؛ لأن ما يشترط فيه القبض -كما قال العلماء- لا يصح بيعه قبل قبضه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (326)
صـــــ(1) إلى صــ(15)
شرح زاد المستقنع -** بعض المعاملات المالية المعاصرة وبطاقة الائتمان [1]
الفقه الإسلامي كل ما يتعلق بالمسائل المالية، ومن هذه المسائل ما يتعلق بالقرض والرهن والضمان وغيرها من الأبواب الأخرى.
ونظراً لما في الشريعة من المرونة والشمول لكل ما يستجد في حياة الناس، فقد أدرجت تحت هذه الأبواب بعض المعاملات المالية المعاصرة والتي منها بطاقة الائتمان، فبينت ما يتعلق بها من أحكام، وفرقت بين ما يجوز فيها من معاملات وما لا يجوز
**توطئة في المعاملات المالية المعاصرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تقدمت معنا جملة من الأبواب التي تتعلق بالمسائل الفقهية المالية، وكان آخرها باب القرض والرهن والضمان والكفالة والحوالة، وهذه الأبواب ترتب بعضها على بعض.
وذكرنا أن العلماء رحمهم الله من المحدثين والفقهاء ذكروا القرض؛ لأن الرهن ينبني عليه فأتبعوه بالرهن، وكذلك الكفالة والضمان كلٌ منهما متعلق بالذمم، ومن هنا أتبعوا باب الرهن بباب الضمان.
ثم ذكرنا باب الحوالة؛ لأنه يتعلق بالديون وشغل الذمم، فهو طريق لإبراء الذمة بإحالة صاحب الدين على مدينٍ آخر، وذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأبواب.
ونظراً إلى أن بعض المعاملات المالية المعاصرة تندرج تحت بعض هذه الأبواب، كان من الأهمية بمكان أن يعتنى ببيان حكمها الشرعي، وما يتعلق بها من مسائل؛ لأن قديم الإسلام جديد وجديده قديم، وحكم الله سبحانه وتعالى في المسائل المالية كحكمه في المسائل المتعلقة بالعبادات، فالإسلام دين كامل، ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا بيّن حكمها وأصلها، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فمن كمال هذه الشريعة أنها وفّت للناس لبيان حكم الله عز وجل في كل صغير وكبير، وجليل وحقير.
وقد اعتنت الشريعة الإسلامية واعتنى العلماء من المحدثين والفقهاء ببيان الأحكام لكل ما جدّ وطرأ، ولم تقف الشريعة يوماً من الأيام عاجزة أمام مسألة أياً كانت المسألة، وإن قصرت أفهام بعض العلماء عن فهم بعض المسائل، فهذا لا يعني أن الشريعة عاجزة عن بيان الحكم: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فكلمات الله تامة، والقواعد التي جاءت بها آيات الكتاب وأحاديث السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد عامة جامعة شاملة، اندرجت تحتها المسائل وأيضاً تبعتها النوازل؛ ولذلك لما شعّ ضياء الإسلام على مشارق الأرض ومغاربها، وكانت الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط ما وقفت يوماً من الأيام عاجزة عن بيان حكم من أحكام الله عز وجل في مسألة أياً كانت المسألة.
وعلى هذا كان من الأهمية بمكان لطالب العلم أن يربط بين المسائل المعاصرة والمسائل القديمة، وأن يعرف حكم الله عز وجل في هذه المسائل، وإذا كانت المسألة قد طرأت وجدّت في أي عصر من العصور، خاصة إذا كانت مسألة متعلقة بالمعاملات المالية، فإن على طالب العلم أولاً أن يعرف حقيقة المعاملة أو صورة المسألة، فأول ما ينبغي على طالب العلم في المسائل العصرية مرحلة التصور، ومرحلة التصور تحتاج من طالب العلم أن يسأل أهل الخبرة وأهل المعرفة عن هذه المسائل، فإن كانت المسألة التي طرأت عليك في الفقه متعلقة بالأموال، رجعت إلى من عنده خبرة بمسائل الاقتصاد والمال وسألته، وإن كانت المسألة متعلقة بالطب رجعت إلى الأطباء وسألتهم، وخلال ذلك ينبغي على السائل عند سؤال للمختصين أن يكون سؤاله لأوثق الناس وأعرف الناس وأعلم الناس في كل فن، وقد قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله وأئمة الإسلام الأعلام، أنه يرجع في كل فن إلى أهل العلم به، فإذا سألتهم وبينوا لك حقيقة المعاملة حينئذٍ تصورت، وبعد أن تتصور تكون قد درست الباب الذي تندرج تحته المسألة، فإن كانت المسألة مالية متعلقة مثلاً بباب الشركات تتصور ما هي حقيقة الشركة المعاصرة، وقد بين الفقهاء رحمهم الله في كتبهم كنوزاً عظيمة ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها أيما عناية، فتجدهم يذكرون في كل باب أركانه وشروطه وواجباته، وهذه الأمور التي ذكروها إذا أتقنها طالب العلم يستطيع في أي مسألة أن يلمّ بشتاتها؛ لأنه إذا كانت المسألة متعلقة بالشركات -وهي مسألة معاصرة- سألت فاستبانت حقيقة الشركة، وعرفت أطراف الأفراد المشتركين فيها، والمقصودة منها، ومجال التعامل فيها، ثم بعد ذلك رجعت إلى ما قرره العلماء: ما هي أركان هذه الشركة، وما هي الشروط المعتبرة للحكم بصحة الشركة، وما هي الأمور التي ينبغي توفرها للحكم بسلامة عقود الشركات، ثم بعد ذلك تبيّن هل هي جائزة أو غير جائزة.
فإذاً: عندنا أمران: الأمر الأول: يتعلق بالتصور.
والأمر الثاني: يتعلق بما يسمى بالتخريج الفقهي.
فأنت إذا تصورت الذي أمامك مما جدّ ونزل من المسائل، بعد ذلك تكون عندك الخلفية القديمة للمسائل القديمة التي قعّدها العلماء فتنظر، قالوا: هذا عقد حوالة، وسموه حوالة مثلاً، ترجع إلى باب الحوالة في الفقه، وتسأل: ما هي حقيقة الحوالة أولاً؟ ثم ما هي أركانها؟ وما هي شروطها المعتبرة للحكم بصحتها؟ ثم تنظر في الذي أمامك هل ينطبق عليه تعريف الحوالة الذي ذكره العلماء؟ وما هي الأركان في هذا العقد المعاصر للحوالة المعاصرة؟ فإن وجدته تنطبق عليه الصفات حينئذٍ تفرّع عليه ما ذكره العلماء، وتكون حوالة إلا أنها اختلفت باختلاف الأزمنة والأمكنة، إلا أن الحقيقة والجوهر شيء واحد.
هذا بالنسبة لمسألة التخريج.
في بعض الأحيان قد تجد أن الاسم شيء والحقيقة شيء آخر، فيقال: هذه وديعة، فترجع إلى أساس الوديعة وضابط الوديعة عند الفقهاء فتجده لا ينطبق على ما يسمونه مثلاً وديعة، فتقول: هذا العقد يسمى في زماننا بالوديعة، ولكنه في الحقيقة قرض وآخذ حكم القروض.
فإذاً مسألة الخلط في الفتوى في المسائل المعاصرة، تأتي بقصور في التصور، وهنا أنبّه على أنه إذا كان طالب العلم يريد أن يتكلم في مسألة ينبغي ألا يستعجل، وعلى العالم ألا يستعجل الفتوى في المسألة حتى يرجع لأهل الخبرة؛ لأن عرض الناس وسؤال الناس يؤثر في الفتوى أحياناً؛ فلربما دخل في السؤال عاطفة، أو دخل نوع من التحيل لإقناع العالم بالتحريم، ونحو ذلك من الأخطاء التي قد يقع فيها من يستعجل في فتواه دون الرجوع إلى أهل الخبرة؛ لأنه ليس الهدف أن نتكلم في زيد أو عمرو، إنما الهدف أن نعرف حكم الله عز وجل، وليس الهدف أن ينجرّ الإنسان وراء عاطفته بتحليل أمر أو تحريم أمر يتحمل مسئوليته أمام الله عز وجل، وإنما المهم أن ينصح لله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين وللأمة ببيان حقيقة الحكم الشرعي في المسائل.
فإذاً لابد من العناية بهذه الأمور التي حصل فيها الاختلاف وتباينت فيها وجهات النظر بسبب دخول العواطف، وينبغي إذا اخترت أحداً من أهل الخبرة أن يكون معروفاً بالورع والعدالة، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله وكذلك الإمام ابن فرحون في تبصرة الحكّام: أن الرجوع لأهل الخبرة على حسب الأوثق منهم، ولو كانوا من غير ديننا، كأن يكون من أهل الكتاب وعنده خبرة ولكن يعرف بالأمانة والنصيحة، وقد ذكر هذه المسألة شيخ الإسلام في الفتاوى المصرية، وبيّن رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستطب الحارث بن كلدة ويأمر الصحابة باستطبابه، وكذلك استأجر عبد الله بن أريقط وهو رجل من بني الديل هادياً خريتاً وذلك لمعرفة الطرق، فإذا أعجز الإنسان أن يجد العدل المأمون فلا بأس أن يرجع إلى أمثل أهل الخبرة في كل فنٍ ممن عرف بالإتقان والضبط.
وإذا علم هذا فإن المسائل المالية المعاصرة كبطاقة الائتمان أو خطاب الضمان أو الاعتماد المستندي أو الكمبيالات أو الأوراق التجارية أو الحوالات المصرفية، ينبغي أن نفرق في تصورها بين أمرين: الأمر الأول: فهم وتصور ماهية المعاملة وحقيقتها وأركانها وما يتبع ذلك من شروط التعاقد فيها.
الأمر الثاني: عدم الخوض في مسألة كيفية العقود بطريقة مفصلة والتي هي من شأن أهل الاختصاص، وليست من شأن طالب الفقه أو طالب العلم.
وبناءً على ذلك: سنتكلم إن شاء الله على بطاقة الائتمان.
وقد اخترنا جملة من المسائل لتطبيق الأبواب التي ذكرناها سابقاً، فعندنا باب القرض والرهن والضمان والكفالة والحوالة، سنختار لباب القرض والرهن بطاقة الائتمان، وكذلك أيضاً نختار للكفالة والضمان خطاب الضمان، وبعد ذلك نتكلم على جملة من المسائل المتعلقة بالتحويلات أو الحوالات، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد وأن يلهمنا الرشاد، وأن يجعل ما نتعلمه ونُعلِّمه خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا وهو نعم الوكيل
**بطاقة الائتمان
**نبذة تاريخية عن نشأة بطائق الائتمان
بطاقة الائتمان نوع من المعاملات المعاصرة، جدّت وطرأت في هذا القرن المعاصر الذي نحن في آخره، فيقال: إنها أول ما نشأت في عام (1918م)، وكان التعامل بها على مستوى الشركات، فكانوا يعطونها لأفرادهم، ويقوم الفرد بالتعامل مع المحلات التجارية بواسطتها على أن تلتزم الشركات بالدفع عنه، وكانت أشبه ما تكون بعقد الوفاء.
ثم بعد ذلك تطورت هذه البطاقة في ما يقرب من عام (1950م) إلى عام (1958م)؛ والسبب في هذا أن الكتب التي تكلمت على تاريخها تتكلم بالتاريخ الميلادي، لكن المهم التصور عن نشأتها، في هذه الفترة صدرت بطاقات من هيئات مالية، وكانت هذه الهيئات قد وجدت الجدوى والفائدة في إصدار هذا النوع من البطاقات؛ لأنها تدر أرباحاً وفوائد وعوائد مالية، فدخلت البطاقة إلى البنوك والمصارف في هذه السنوات تقريباً، وصدرت بطاقات مشهورة في هذه الفترة، ثم انتشرت من بلاد الغرب حتى عمّت أكثر أرجاء المعمورة كما هو موجود في زماننا
**تعريف بطاقة الائتمان
هذه البطاقات وهي بطاقات الائتمان لم يوضع لها تعريف محدد، إلا أن بعض المجامع العلمية وضعت تعريفاً يعتبر من أنسب التعاريف لهذا النوع من البطاقات، وتعريف بطاقات الائتمان أمر من الأهمية بمكان؛ لأننا ذكرنا أنك إذا عرفت حقيقة المعاملة والعقد المعاصر، أمكنك تخريجه على ما تقدّم من أبواب الفقه، وأيضاً معرفة أركانه وشروطه على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله.
فبطاقة الائتمان حقيقتها: مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري، بناءً على عقد بينهما يمكِّنه من شراء السلع والخدمات مِن مَن يعتمد المستند، دون أن يدفع الثمن حالاً، لتضمنه التزام المصدِر الدفع عنه.
إلى هذا الحد يتمّ تعريف البطاقة، إلا أنهم ألحقوا بهذا التعريف جملة وهي: ومن أنواع هذا المستند ما يمكِّن صاحبه من صرف النقود أو سحبها من المصارف.
وهذا التعريف نريد أن نقف معه وقفة نتصور بها حقيقة ما يسمى ببطاقة الائتمان، وهذا التصور وهو في الحقيقة تعريف مجمع الفقه الإسلامي لبطائق الائتمان، وهو من أنسب التعاريف وأجمعها وأفضلها ويعطي تصوراً شبه كامل لما يسمى ببطاقة الائتمان.
فقالوا: (بطاقة الائتمان مستند) والمستند: هو عمدة الشيء، والمراد بالمستند هنا هو البطاقة، وعُبّر عنه بكونه مستنداً؛ لأن صاحبه يستند إليه في التعامل، وبطبيعة الحال هذه البطاقة تتميز من باب التصور بشعار معين ومعلومات معينة يمكن من خلالها معرفة حساب العميل أو رقم العميل.
قالوا: (مستند يعطيه مُصدِرُه) بطاقة الائتمان فيها مصطلحات معروفة عند من يتعامل بها، فهناك شيء يسمى المصدِر، والمصدِر: هو الجهة التي تقوم بإصدار هذا النوع من البطاقات، وتشمل في الغالب البنوك والشركات والمصارف، فقولهم: (مستند يعطيه مُصدِرُه) يعني الجهة التي تلتزم بما في هذه البطاقة مما ذكرنا.
قالوا: (لشخص طبيعي أو اعتباري) يعني هذه البطاقة تعطى لطرف ثانٍ، فعندنا في هذه الحالة طرفان: الطرف الأول: المصدِر وهو البنك أو الشركة أو المصنع، وعندنا الطرف الثاني: وهو الذي يستفيد من هذه البطاقة، ويسمى في الاصطلاح حامل البطاقة، ودائماً ما يعبّر عنه بالحامل، يقال: الحامل ويلتزم الحامل وعلى الحامل، والمراد بالحامل العميل، إلا أن هذا العميل جاء في التعريف أنه يشمل نوعين من العملاء الذين يتعاملون بهذا النوع من البطاقات، فقالوا: (لشخص طبيعي أو اعتباري)، الشخص الطبيعي هو أنت أو أنا أو أي شخص زيد أو عمرو من الناس، لكن الذي يهمنا قولهم: (أو اعتباري)، فمن هو الشخص الاعتباري؟ الشخصية الاعتبارية: مصطلح حادث، جدّ وطرأ في العصور المتأخرة، وتعاملوا به في الالتزامات وفي العقود لوجود الحاجة، والشخصية الاعتبارية في الحقيقة ليست شخصية طبيعية -يعني ذاتية وحقيقية- إنما هي شخصية مقدّرة، وتنطبق على الشركات والمجموعات، فلو أن عشرة منّا اجتمعوا واشتركوا في مؤسسة أو شركة، وهؤلاء العشرة تعاقدوا مع عامل مثلاً، فلا تستطيع أن تأتي تقول: اتفق محمد وعبد الله وصالح وزيد وبكر وتعدد أسماء المشتركين الذين قد يقاربون المائة في بعض الأحيان، أو أكثر من ذلك، فحينئذٍ يحتاجون إلى مصطلح يجمع هؤلاء كلهم: شركة النور شركة الإصلاح شركة السماحة شركة كذا، فاسم الشركة يعتبر شخصية اعتبارية، بمعنى: أنك لو جئت تقول: اتفقت شركة السماحة مع زيد، فقدرت شركة السماحة كشخص، هذا ما يسمى بالشخصية الاعتبارية، وهي في الحقيقة ليست بشخص معين وليس لها ذات أو حقيقة، وإنما نزلت في الاعتبار على أنها منزلة الشخص الواحد، ولذلك يقول: التزمت شركة السماحة، ففي الحقيقة هذا الاسم لا يلتزم ولا يُلزم، لكنه قدر تقديراً كأنه شخص حقيقي، وهذا ما يسمى بمصطلح الشخصية الاعتبارية.
فإذاً: الذي يحمل هذه البطاقة إما شخص بعينه أو شركة أو مجموعة أو نحوها، وهذا ما عبّر عنه بالشخصية الاعتبارية.
قالوا: (بناء على عقد بينهما) العقد الذي بين العميل -الذي هو حامل البطاقة- وبين المصدر -وهو البنك الملتزم- يتم على الصورة التالية: يتقدم العميل أو طالب البطاقة إلى البنك أو الشركة أو المؤسسة بطلب هذه البطاقة، وجرت العادة أن يعطى الأنموذج المشتمل على جملة من البيانات والشروط التي فيها التزامات من جهة البنك والتزامات من جهة العميل، وهذه الالتزامات والشروط يتفق عليها الطرفان، فتعطى للعميل ويقرأها، فإذا وافق عليها تقدم بالطلب، وتشتمل على معلومات كاملة، ويدرس هذا الطلب فإما أن يوافق على منحه وإلا فلا.
والذي يهمنا أن هناك اتفاقاً، ولابد لطالب العلم أن ينتبه لهذه الأمور كلها؛ لأن طبيعة البطاقة وحقيقتها فيها شيء من الالتزامات، ومعنى ذلك أنه لا يدخل العميل ولا يدخل حامل البطاقة للتعامل بهذا النوع من البطاقات إلا بعد أن يكون على بينة بجملة من الشروط وطبيعة التعامل بهذا النوع من البطاقات
**الالتزامات المناطة بحامل بطاقة الائتمان
الالتزام الأول: بأن يقوم بالسحب في حدود مبلغ معين متفق عليه بين الطرفين.
الالتزام الثاني: يلتزم هذا العميل أو هذا الحامل للبطاقة بدفع الرسوم التي تتضمن: أولاً: رسوم الاشتراك في البطاقة، وهذا أمر مهم جداً؛ لأنه إذا ثبت أن البطاقة نوع من القرض كانت الرسوم المعجلة أشبه بالفائدة الربوية المعجلة، فلذلك يلزم بالاشتراك، فإذا كنتُ أُريد أن أتعامل معك لماذا تلزمني بدفع قيمة وفائدة من أجل أن أتعامل معك، فأنا في الحقيقة أتعامل معك وتتعامل معي على أساس عقد معين، وعلى أساس منفعة لها قيمة شرعية معينة، فإذا كان العقد الذي بيني وبينك قرض، فالشريعة لا تجيز أن تأخذ على الاقتراض منفعة لا مقدمة ولا مؤخرة.
ثانياً: يلتزم بدفع الرسوم التي تسمى برسوم التجديد، وهذه الرسوم ليست بالهينة، مثلاً: إذا كانت البطاقة من النوع الذهبي أو الممتاز، يكون اشتراكها ربما يقارب الألف، وإذا كانت من النوع العادي يقارب خمسمائة، وهذا ليس بالسهل، فهذه البطاقة أدفع عليها رسماً سنوياً لماذا؟! وبأي حق؟! لأن الشريعة عندها قاعدة: لا تجوز للمسلم أن يأخذ مال أخيه المسلم إلا بحق، فأنا حينما آخذ البطاقة وتمضي عليّ سنة فما معنى أن أدفع الرسم السنوي؟! هذا أمر لابد من النظر فيه، لماذا نحن تعرضنا لمسألة العقد، فالعقد يلتزم فيه العميل -حامل البطاقة- بدفع هذه النسبة المعينة الذي يضعها البنك أو يحددها المصدر الذي يقوم بإصدار البطاقة.
إذاً: يلتزم أيضاً بدفع الرسوم المتعلقة بتجديد البطاقة على الفترات التي يحددها المصرف أو المصدر لها، فيدفع رسوماً على البطاقة -خمسمائة -مثلاً- على البطاقة الذهبية وثلاثمائة أو مائتين على البطاقة العادية- والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله؟!!)، هذه البطاقة تجديدها على أي أساس؟! ما الذي يكون فيها حتى تجدد؟!! هل فعلاً يقوم المصدِر بتجديد شيء فيها له قيمة محسوسة؟!! فإذا كان تجديد التعهّد بلا اقتراض كان أقبل للفائدة المعجلة.
ثالثاً: يلتزم بدفع جميع الفواتير والمستحقات على سحبه بناءً على هذه البطاقة؛ لأنه سيقوم بالسحب بناءً عليها، وإذا قام بالسحب بناء على هذه البطاقة فسيلتزم بكل ما ينشأ عن هذا السحب من قيمة السلع التي اشتراها أو الخدمات التي انتفع بها، فهذه أيضاً رسوم أخرى، وهي رسوم في الأصل وقد تكون مستحقة للمصدر على التفصيل الذي سنذكره.
فمثلاً: إذا جاء إلى فندق ونزل فيه، وكلفت إقامته خمسة آلاف، وسجلت في البطاقة، فيلتزم بدفع الخمسة آلاف بطريقة معينة، وليست كما هي فعلاً في الدين، بل يدفع عليها أيضاً رسوم خدمة، فتدفع نسبة إضافية على المبلغ نفسه.
رابعاً: يلتزم العميل بدفع قيمة الفواتير المستحقة للاتصالات أو نحوها كما لو كانت هناك تكاليف بريدية أو نحوها.
فكل هذه الالتزامات على كاهل العميل، ونحن نأخذ الأغلب أو الأكثر من الشروط؛ لأن الشروط الموجودة في البيانات وحسب الاطلاع على أنواع البطاقات المختلفة، منها ما هو شرط خاص ومنها ما هو شرط عام، فنحن نأخذ أغلب الشروط العامة التي في الغالب تكون موجودة، مثل رسوم التجديد رسوم تكاليف البطاقة وسحب البطاقة، فهذه شروط موجودة في البطاقات كلها، لكن هناك أيضاً شروط خاصة، قد يكون المصرف عنده نوع من التعامل أو طريقة للتعامل أو نوع من الرسوم يفرضه على العميل.
سادساً: أنه يلزم بتفويض المصدر بصرف العمولة بأي قدر يراه دون اعتراض أو امتناع، فلو فرضنا مثلاً أنه تعامل بالدولارات، فنزل في فندق أو استأجر سيارة أو حافلة أو قطاراً بالدولارات، وهو قد اتفق مع المصرف أو جهة المصدِر بالتعامل بالريالات، فمعناه: أن هناك عملية صرف ما بين المصدِر وما بين الجهة التي قامت ببذل هذه المنفعة أو دفع هذه السلعة المعينة، فلو كانت هذه المنفعة التي قدمت لحامل البطاقة تكلّف -مثلاً- ثلاثة آلاف دولار، ففي طبيعة الحال ستحوّل القيمة إلى الريالات، فيفوّض المصرف أو المصدِر سواء كان بنكاً أو مصرفاً أو شركة للتحويل بالصرف بأي قيمة يراها، أي لو كان الدولار يصرف بأربعة ريالات إلا ربعاً أو بثلاثة ريالات ونصف أو بثلاثة ريالات وربع، فعندنا قيم مختلفة، ويمكن للمصدر أن يصرف بأعلى قيمة؛ لأنه أربح له وأكثر فائدة وعائدة من جهة الخدمات، وهذا دون أي اعتراض، فمثل هذا البند يفرض على العميل، ولا يمكن أبداً أن يراجع في هذا.
فإذاً يفوض تفويضاً كاملاً في أن يصرف العملة أو العملات أياً كانت بأي قيمة يراها، سواءً كانت غالية أو رخيصة.
هذا أيضاً من الالتزامات، وهو لا شك التزام فيه مخاطرة، وفيه غرر وضرر.
كذلك أيضاً هناك التزامات أخرى قد تختلف كما ذكرنا من مصدر إلى آخر، لكن هذه من أهم الالتزامات، وفي بعض العقود يصل البيان إلى ما يقرب من عشرين بنداً.
ومما يجدر ذكره أنه من حق المصدِر أن يلغي هذه البطاقة في أي وقت شاء، سواء أشعر العميل أم لم يشعر، لكن لا يحق للعميل أن يلغي هذه البطاقة إلا بعد أن يتصل على المصدِر ويشعره، ويمزّق البطاقة أو يرسلها إلى مكتبها، فلاحظوا الفرق بين الطرفين، فمن جانب المصدِر يمكنه في أي وقت أن يلغيها ولا يحاسبه أحد، أما من جانب العميل فإذا أراد إلغاءها فلابد من إشعار المصدِر، ثم لو أنه ألغاها فإنه يتحمل التبعات والمسئولية الكاملة عن هذا الإلغاء
**الالتزامات المتعلقة بالمصْدِر لبطاقة الائتمان
أما الالتزامات من جهة المصدِر، فالمصدِر يلتزم للعميل بالتالي: أولاً: يلتزم له أن يقوم بالدفع عنه، فيقوم عقد البطاقة على التزام البنك بالدفع عن العميل، ومن هنا جاءت شبهة الكفالة وجاءت شبهة الضمان، وأنها بطاقة تأخذ حكم الضمان، لكن هذا أمر يحتاج إلى نظر سنبينه إن شاء الله في التخريج الفقهي، فلو أن العميل قام بشراء سلعة قيمتها خمسة آلاف ريال يلتزم المصرف أو المصدر أياً كان بدفع الخمسة آلاف ريال، لكن المشكلة ليست هنا، فالمصدر الذي يصدر البطاقة له اتفاق مع جهات معينة، فلا يمكن أن تستفيد من هذه البطاقة إلا من خلال متاجر معينة ومحلات معينة، بينها وبين المصدر اتفاق معين، هذا الاتفاق تقوم فيه هذه المحلات التجارية بإبرام عقد آخر مع البنك أو المصرف أو مصدر البطاقة، على أن تمكن من يحمل البطاقة من شراء ما شاء من السلع في الحدود التي اتفق عليها، ثم يفتح هذا المحل حساباً في البنك، وإذا حسبت القيمة لا تحسب كاملة، فلو كانت العملية التي تمت من العميل مع المتجر تكلف خمسة آلاف ريال، وهناك اتفاق على أخذ عمولة للبنك، فالبنك مثلاً يأخذ نسبة معينة -على فرض أنه يأخذ مائتي ريال- فهو لا يعطي الخمسة آلاف كاملة -وهذا أمر مهم جداً- وإنما يعطي أربعة آلاف وثمانمائة ريال تدخل لحساب المحل الذي اتفق معه، أيضاً فلو قلت: إن البطاقة نخرجها على أنه تكفل بدين على أن يقوم العميل بدفع هذا الدين، فإن هذا الدين يؤخذ بصورة ويدفع بصورة أخرى، ومن يتحمل هذه الكفالة أو يلتزم هذا الالتزام يأخذ عمولة، حتى على الطرف الثاني، ولا يمكن أبداً أن نمكِّن المصدِر أو البنك أو المصرف أو أي جهة من التعامل مع هذه البطاقة إلا إذا وضع شعاراً معيناً في التعامل معه، ولا تستطيع أن تقدم هذه البطاقة إلا لمن يعتمد هذه البطاقة، بمعنى: أنه يجب أن يكون بينه وبين المصدِر اتفاق ثانٍ، فالمصدر يلتزم للعميل بأن يمكنه من شراء السلع والخدمات كما سيأتي، ويقوم بالدفع عنه بالطريقة التي يتم الاتفاق بها بين المصدر وبين الطرف الثاني.
وفي التعريف قلنا: (مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكِّنه) أي: يمكِّن الحامل للبطاقة
**جوانب الانتفاع من بطاقة الائتمان
قالوا: (يمكِّنه من شراء السلع والخدمات) هذه العبارة تبيّن محل العقد، فالعقد منصبّ على بطاقة لها فائدتان: الفائدة الأولى: في شراء السلع، والفائدة الثانية: في شراء الخدمات.
وهناك فرق بين شراء السلع وبين شراء الخدمات، وكل منهما له مصطلح فقهي خاص، فشراء السلع بيع، وشراء الخدمات إجارة، شراء السلع كأن يدخل بالبطاقة إلى محل يريد أن يشتري ما شاء من الأطعمة أو الأدوية أو الأكسية أو ما شاء من القطع أو الأشياء التي يريدها، فالبطاقة تدخل في عقود البيوعات، وتدخل أيضاً في عقود الإجارات وهذا هو المعبر عنه بشراء الخدمات، إما في سكن أو ركوب أو غير ذلك من المصالح التي تكون من الخدمات في الإجارات، ومن ذلك خدمة السكن في الفندق، فإن نزول العميل في الفندق وبقاءه الليلة والليلتين والثلاث والأربع هذا يسمى إجارة، ودفع العميل المائة أو المائتين أو الألف مقابل السكن ليلة أو ليلتين أو ثلاث، هذا يسمى شراء خدمة سكن، وهناك خدمة تنقل كأن يبرز البطاقة للركوب في قطار أو طائرة أو سفينة أو عبّارة أو سيارة فهذا كله شراء منفعة تمكنه من الانتقال من موضع إلى موضع بقيمة معينة.
إذاً البطاقة تقع في البيوعات والإجارات، ويلتزم المصدِر السداد بدفع الثمن في المعاوضات المتعلقة بالبيوعات ودفع الثمن في المعاوضات المتعلقة بالإجارات.
قالوا: (مِن من يعتمد المستند) يعني: لا يتعامل بالبطاقة إلا مع من يعتمد المستند، فلو قدّم البطاقة إلى محل لا يعتمدها لا يمكن أن يقبلها، وبطبيعة الحال إذا قُدّمت البطاقة إلى محل تجاري أو شركة نقل أو نحوها فهناك آلة تقوم بفحص البطاقة وأخذ معلومات معينة عنها، كمعرفة مدة صلاحيتها وعدمها وأخذ المعلومات المتعلقة بها، ثم تسجل في الفاتورة، فإذاً (مِن من يعتمد المستند) وفي الاصطلاح من يقوم بالخدمة مثل المحل التجاري أو السوبر ماركت أو نحوه هذا يسمى بالمستفيد
**عقد بطاقة الائتمان عقد مؤجل
قالوا: (دون أن يدفع الثمن حالاً) أي أن الفائدة التي يريدها العميل أو العملاء أو حامل البطاقة في الغالب هو الأمن من حمل النقود، خاصة إذا كان في مواضع يخشى فيها من حمل النقود، وكذلك أيضاً سهولة الانتفاع بها دون وجود كلفة أو عبء حمل الأموال أو صرفها، كما لو كان في موضع تختلف فيه العملة عن عملة بلده أو نحو ذلك، فيستفيد العميل من هذه الفائدة دون أن يدفع الثمن حالاً وهو ثمن النقد، إذاً معنى ذلك أن عقد البطاقة عقد مؤجل، وأصبح عقد البطاقة فيه جانبان لابد من التنبه لهما: الجانب الأول: تعاقد حامل البطاقة مع المتجر، وفعلاً قد تعاقد معه؛ لأنه يحدد معه السعر ويحدد معه السلعة التي يريد شراءها وأخذها، أو يحدد نوعية الخدمة التي يريدها، ونوعية السكن الذي يريد أن ينزل فيه، معناه: أن الطرف الأول في العقد هو الحامل، والطرف الثاني هو الجهة التي تتكفل أو تقوم بتمكين العميل من هذه المنافع، وهذا عقد مبرم، ويصبح هذا العقد الذي بين العميل وبين المستفيد الذي هو التاجر أو نحوه، إما عقد بيع إذا كان على السلع، وإما عقد إجارة إذا كان على الخدمات.
الجانب الثاني: وهو التزام البنك بالدفع.
فإذاً: قالوا: (يمكِّنه من شراء السلع والخدمات مِن مَن يعتمد المستَند دون أن يدفع الثمن حالاً لتضمن المصدر الدفع عنه) اللام للتعليل، أي: امتنع دفع العميل للثمن نقداً وحالاً لوجود التزام من المصدر بالدفع عنه، وبناءً على ذلك فهناك عقد ما بين البنك أو المصرف أو الشركة التي تقوم بإصدار البطاقة وبين المحل التجاري كما ذكرنا لتضمنه التزام المصدِر الدفع عنه، فيلتزم بدفع المال قليلاً كان أو كثيراً وسواء كان بالعملة نفسها أو بغيرها.
وبهذا ينتهي التعريف، وتتضح الصورة للبطاقة وطبيعة التعامل بها
**بطاقة ائتمان لسحب النقود فقط
لكن قولهم: (ومن هذه المستندات ما يمكِّن العميل من سحب النقود) هناك نوع ثانٍ، هذا النوع الثاني من البطاقات لسحب النقود، أي مع وجود ما ذكر آنفاً هناك منفعة ثانية وهي منفعة سحب النقود، فيمكِّنه من سحب النقود وبنفس الالتزام، فإذا سحب من المصرف يلتزم طبعاً بالسحب في حدود الإطار المحدد المتفق عليه بين الطرفين، سواء كان مع اتحاد العملة أو اختلاف العملة، ويكون في كلتا الحالتين إذا قام بالسحب أو قام بشراء السلعة أو شراء الخدمات هناك أمر مهم جداً وهو أن المصرف أو المصدِر يعطي العميل فترة ما بين خمسة وعشرين يوماً إلى خمسة وخمسين يوماً في الغالب التي هي أعلى حد لتسديد الثمن المقدم، وبعد ذلك إذا لم يتم السداد تحسب الفائدة (1%) أو (2%) عن كل يوم يتأخر فيه عن السداد.
فإذاً: عندنا ثلاثة جوانب: بداية التعاقد بالبطاقة، وعندنا طبيعة الاستفادة من البطاقة، وعندنا الأثر المترتب على التعامل بالبطاقة.
وطبيعة التعاقد سبق أن بيّناها وبيّنا أصلها، وأنها تشتمل على نوعين من العقود، والعقد الذي يكون بين العميل وبين المصرف مع المستفيد، والعقد الذي يكون ما بين المستفيد وبين المصرف.
ثم بيّنا طبيعة الاستفادة التي يستفيدها العميل سواء كان في عقود البيع أو الإجارات، وإن كانت البطاقة من النوع الثاني الذي هو دفع النقود فحينئذ تكون مشتملة على بيع الصرف في بعض الصور، وهو يشتمل على إبدال العملة بالعملة مع وجود القرض، وأما بالنسبة للأثر فالأثر وجود الفوائد الربوية التي تتركب على التأخير عن السداد والدفع
**التخريج الفقهي لبطائق الائتمان
أما بالنسبة للجزئية الأخيرة وهي جزئية التخريج الفقهي: هذا النوع من المعاملات هل هو قرض، أم هو حوالة، أم هو كفالة؟ هذا أمر يحتاج إلى نظر، فالبطاقة إذا تأملناها وجدنا فيها الآتي: بالنسبة للعميل: تعاقد مع المحل التجاري أو الشركة التي تقوم بالخدمة، (بعقد بيع أو إجارة) عقد البيع والإجارة من حيث الأصل كونه يشتري السلع أو كونه يشتري الخدمات كأن ينزل في الفندق أو نحوه هذا أمر لا إشكال في جوازه، كونه مثلاً يستفيد في شراء السلع أو كونه يشتري الخدمات هذه أمور إذا كانت من جنس ما أحلّ الله لا كلام لنا فيه، إنما الكلام في مسألة الالتزام؛ لأن المصرف التزم بالدفع عن العميل الحامل، والعميل الحامل التزم بالدفع للمصرف.
فعلى هذا عندنا قرض وهو شراء السلعة من المحل بالأجل، وهذا الأجل لا يدفع، بدليل أن الحامل حينما اشترى البضاعة أو اشترى الخدمة؛ كما لو نزل في الفندق أو ركب السيارة أو القطار أو طائرة أو نحو ذلك لم يدفع الثمن حالاً، وإنما أنسأ الثمن وأخّره، وبتأخير الثمن صار بالبيع إلى أجل أو بالبيع المؤجل، وهذا البيع المؤجل لم يلتزم فيه العميل نفسه بدفع المال وإنما أحيل صاحب المتجر أو صاحب المحل على المصرف أو المصدِر.
فهنا حصل خلط في بعض الفتاوى المعاصرة قالوا: نعتبر هذا النوع من الضمان ووجه الضمان فيه قالوا: إن البنك أو المصرف تضمن والتزم في ذمته أن يدفع عن العميل، ونحن ذكرنا فعلاً في باب الضمان أنه يجوز أن يضمن الديون المجهولة التي تئول في المستقبل إلى العلم، وهذا يتخرّج على المسألة التي ذكرناها: أن يأتي إلى صاحب البقالة ويقول له: أعط محمداً ما شاء من البضائع، وأنا ألتزم بالدفع عنه إذا لم يسدد، فكأن صاحب البطاقة المصدر الذي هو البنك يقول للمتجر: أعط حامل البطاقة ما شاء في الحدود التي اتفق عليها في البطاقة، وأنا ألتزم بالدفع عنه.
إذاً فعلاً هناك نوع من المشابهة من كونها تدخل تحت الضمان؛ لأن المصرف فعلاً تضمن والتزم، وقالوا: بناءً على ذلك هذا أشبه ما يكون بعقد الضمان، وتسري عليه أحكام الضمان أو أحكام الكفالة عند من لا يفرق بين الضمان وبين الكفالة، فإن شئت سميتها كفالة وإن شئت سميتها ضماناً، على نفس التفصيل الذي ذكرناه.
إذاً: نريد أن نحدد طبيعة عقد الكفالة هنا، أصبح الكفيل الذي يغرم هو البنك، والمكفول هو حامل البطاقة، والذي تكفل به البنك قيمة التعامل الموجود أو المعاملة التي تمت بين الطرفين، وعلى هذا قالوا: تدخل تحت الكفالة، ومن حيث الأصل الشرعي يبقى
**السؤال
أنتم تعلمون أن هناك نوعاً من البطاقات يكون فيه للعميل رصيد، والذي هو غطاء للتعامل، فرضاً خمسة آلاف، هذا الغطاء في الحقيقة مثل الرهن، فهذه مسألة ثانية تحتاج إلى بحث، فقالوا: هذا يأخذ حكم الضمان، قالوا: ونعتبر الثمن المدفوع مقدماً الذي هو الغطاء الموجود في الحساب الجاري أو غيره آخذ حكم الرهن، كأن العميل أعطى البنك خمسة آلاف رهناً لسداد الحقوق المستحقة على تعامله.
فإذن عندنا جانبان: الجانب الأول: أن البنك لما التزم بالدفع عن العميل صار في حكم الضمان، وتخرّج على مسائل الكفالة.
ثانياً: وجود الغطاء البنكي أو المبلغ المدفوع أو الرصيد الموجود للعميل يعتبر بمثابة الرهن.
ومن المعلوم أنه يشرع في الديون وجود الرهن، لكن عند العلماء خلاف في مسألة: هل يجوز الرهن أن يكون من الذهب والفضة؟ صحح غير واحد من العلماء أنه يجوز رهن الذهب والفضة والنقود لقاء السداد؛ لأن الله تعالى يقول: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] وهذا نكرة عامة شاملة لأي شيء كان مرتهناً، ولم يفرق بين النقود وغيرها.
ولأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الحق، فإذا كان يجوز في السلع التي تباع من أجل السداد، فلأن يجوز بالنقود التي تسدد فوراً من باب أولى وأحرى؛ قالوا: لأن العلة في الرهن السداد، فأنت إذا استدنت عشرة آلاف وقيل لك: أعط رهناً، إنما قصد من قوله: أعط رهناً حتى يتمكن من بيعه إذا عجزت عن السداد، فقالوا: فبدلاً من أن يبيع إذا عجز عن السداد ويكون الرهن نقوداً لا تحتاج إلى بيع، فيأخذ منها حقه وينتهي.
النقطة الثانية: لو قلنا بطبيعة الحال: إنه ضمان واشتمل على الرهن، فهل يجوز الضمان بالرهن؟ هذه مسألة ثانية: هل يجوز أخذ الرهن على الكفالة؟ أي: لو أن شخصاً قال لك: اكفلني في عشرة آلاف ريال، فقلت له: أعطني رهناً، هل من حقك أن تقول ذلك؟ قال طائفة من العلماء: يجوز أخذ الرهن على الكفالة، ومن حقك أن تطالبه برهن تصل به إلى حقك إذا غرر بك في كفالة، كما أن الأصيل يجوز له أن يأخذ الكفالة.
وأنا أميل إلى هذا القول، وإنما ذكرت هذه الأقوال لأنها فعلاً صحيحة؛ أولاً: لما ذكرناه من وجود الأدلة التي تدل على جواز صحة الرهن بالذهب والفضة، وثانياً: جواز أخذ الرهن للكفالة.
وإذا ثبت هذا أصبح عندنا تخريجان: التخريج الأول: قالوا: التزام البنك والمصرف بالدفع عن العميل يعتبر في حكم الضمان أو الكفالة على التفصيل الذي ذكرناه: هل هما عقد واحد، أو عقدان؟ التخريج الثاني: يعتبر وضع الغطاء البنكي أو الدفع أو وجود الرصيد بمثابة الرهن المعجل، الذي دفعه العميل ضماناً لحق البنك عند عجزه عن السداد، ويتخرج هذا على مسألتين: المسألة الأولى: جواز أخذ الذهب والفضة رهناً.
والمسألة الثانية: جواز أخذ الرهن عن الكفالة.
لكن يبقى الإشكال إذا قلنا: إنها كفالة، وقلنا: إنها آخذة حكم الضمان، وفعلاً يسري عليها حكم القرض، ففي هذه الحال عندنا قرض، وعندنا ضمان للقرض، وعندنا رهن يتوصل به إلى هذا الضمان، لكن يبقى الإشكال في أخذ الفائدة على الكفالة، هل يجوز أخذ الفائدة على الكفالة؟ هناك فوائد التزم بها العميل لابد من النظر فيها.
الفائدة الأولى: دفع الرسم للاشتراك.
الفائدة الثانية: دفع الرسم للسند.
الفائدة الثالثة: التجديدات.
وهناك فوائد مركبة على الدين عند العجز عن السداد.
والواقع بالنسبة لهذه الفوائد: الرسم الذي للدخول، وفائدة التجديد السنوي، وفائدة الرسوم السندية، كل هذا يعتبر من أخذ الفائدة على الدين، ومخرّج على ما ذكرناه من أنه قرض جر منفعة، وقد ذكرنا إجماع العلماء على تحريم القرض الذي جر منفعة، (وأيما قرض جر منفعة فهو رباً) إما رباً صريحاً أو في حكم الربا الصريح فهذه الرسوم في الحقيقة هي عبارة عن فوائد معجلة باسم الرسم أو نحوه، وبدل أن تكون مؤخرة صارت مقدمة أو معجلة، ولأن هذه الرسوم ليس فيها استحقاق شرعي؛ فالعميل لا يأخذ لقاءها شيئاً له قيمة معتبرة شرعاً، وإذا قال قائل: يأخذ لقاءها الدين، نقول: هذا الدين ليس له قيمة؛ لأن الديون لا يجوز أخذ الفوائد عليها، فقد يكون المصدِر أو البنك أو نحوه يرى أن من حقه أن يأخذ على الدين فائدة؛ لأنه يرى أن الفوائد الربوية تعتبر استحقاقاً له على العميل إذا تعامل معه.
بعد أن ذكرنا التخريجات كلها، وذكرنا أولاً كونه ضماناً محملاً أو كون هذا الضمان مبني على رهن، ترد هنا مسألة مهمة وهي: أننا صححنا أصول المسائل، فقلنا: إن الضمان مشروع، وقلنا: إن الرهن مشروع، وقلنا: يجوز الرهن بالمال الذي هو الذهب والفضة، قررنا جواز الرهن المتقدم أو الضمان المتقدم، كل هذا قررنا جوازه، لكن لا يعني هذا صحة التخريج، وتوضيح ذلك: أن المبلغ الذي هو غطاء للسداد في الحقيقة المصرف لا يقوم بسحب استحقاقه مباشرة منه، هذا أمر مهم جداً؛ لأن المصرف من فائدته ألا يسدد المبلغ مباشرة؛ لترتب الفوائد على التأخير، والعميل يعتبر بتأخره ملزماً بدفع الفائدة المقررة والعائد المقرر الربوي على الدين بعد فوات الأجل المحدد للسداد، فإذاً مسألة كونه رهناً ليست من كل وجه صحيح؛ لأننا لا نجد المصرف يقول: بمجرد أن تمر خمسة وعشرون يوماً أو خمسة وخمسون يوماً ولم تسدد سنسحب من رصيدك المبلغ وانتهى الإشكال، لا، بل إن لم تسدد بعد الفترة المسموح بها سنحسب عليك فائدة (1%)، ومعنى ذلك أنه لا يعتبر رهناً بصورة الرهن الشرعي، فهو في الظاهر تراه رهناً، لكنه في الحقيقة والتعامل ليس برهن.
المسألة الأخيرة وهي المهمة: أن هذا الدين تركّب بعقد فيه التزام أنه إذا لم يسدد فعليه الفائدة، وهذا الالتزام محرم -بغض النظر عن كونه بادر بالتسديد، أو ترتب عليه فائدة أو لم تترتب ولا يجوز للمسلم أن يلتزم ذلك الأمر المحرم؛ لأنه يكون راضياً بالمحرم، وهذا من الربا الذي نص صريح الكتاب والسنة على تحريمه، وبناءً على ذلك لا يجوز الالتزام.
وهنا بعض الناس يقول: آخذ العشرة آلاف -والعياذ بالله- ديناً وأسدد في الأمد المحدد.
نقول: رضاك بالعقد يعتبر في حكم الفعل للعقد؛ لأن العقد فيه شرط والتزام بمحرم، وبناءً على ذلك يدخل في كتابة الربا المحرم الذي لعن فاعله -نسأل الله العافية-.
وعلى هذا خلاصة ما نقول: أولاً: إن بطاقة الائتمان تخريجها الفقهي دين.
ثانياً: الضمان فيها ليس بصحيح من كل وجه من جهة الالتزام، ووجه بطلان هذا الضمان أن نقول: إن المصرف التزم بدين كامل بدفع دين ناقص؛ لأنه يدفع إلى المستفيد أقل مما يأخذ من الحامل، وهذا أمر يبطل التخريج بكونه حوالة أو ضماناً؛ لأنه لم يتوفر فيه الشرط الشرعي.
ثالثاً: أنه لو كان ضماناً وديناً على الصفة المعتبرة، فوجود شرط الفائدة المركبة أو الرسم المقدم على الدين يدخله في قرض جر نفعاً، وهو محرم بالإجماع.
وبهذا يكون الحكم فيه عدم الجواز على التفصيل الذي تقدم بيانه، والله تعالى أعلم وأحكم، وهو المستعان وعليه التكلان
**الأسئلة
**مدى صحة قياس دفع رسوم اشتراك بطاقة الائتمان بعقود الإجارة
**السؤال
هل يصح قياس دفع رسوم تجهيز اشتراك البطاقة سنوياً بعقود الإجارة في كون الكل منصباً على المنفعة؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: دفع الرسم تخريجه على أنه إجارة.
فما هي حقيقة الإجارة؟ الإجارة: عقد على المنافع بعوض، والمنفعة الموجودة في البطاقة دين، والعوض لقاء الدين لا يصح، فمسألة أن تخرج على أنها إجارة ليست بصحيحة؛ لأنه لم يستأجر البنك من أجل منفعة السكن أو الركوب أو ما في حكمها، وإنما أخذ هذه البطاقة لقاء اقتراض والتزام بالدفع عنه، وهذا ما يدعونا إلى أن نقول: لابد من التصور ومعرفة حقيقة العقد حتى نعرف بعد ذلك هل تخرّج على هذا العقد أو غيره.
إذاً: لا يصح ولا يستقيم تخريجها على عقد الإجارة بحال، فأصل الإجارة معلوم ومحل الإجارة معلوم، ولا يعتبر هذا النوع من التعامل من الإجارات، وإنما هو من الديونات وآخذ حكم الدين بالتفصيل الذي ذكرناه.
والله تعالى أعلم
**حكم أخذ الأجرة مقابل تحويل الأموال من مكان إلى مكان
**السؤال
في تحويل العملة من بلد إلى آخر، هل يجوز أخذ الأجرة في مقابل خدمة التحويل؟
**الجواب
مسألة التحويل سنفصل فيها، لأن التحويل له صور: بعض الأحيان يحول من مصرف إلى نفس المصرف لفرع آخر، فيكون المصرف له فرع في نفس المكان الذي تحول إليه، وهذا أشبه ما يكون بالوكالة، وحينئذ يكون الوكيل الذي هو الفرع الثاني منزلاً منزلة الأصيل الذي هو الفرع الذي تعامل معك في البلد الآخر.
وهناك نوع من الحوالات يحيل فيها البنك أو المصرف أو الشركة إلى مصرف آخر غير المصرف الذي يدفع له، وهذا النوع من الحوالة أيضاً يكون في بعض الأحيان على دين، وتارة يكون على غير دين.
كل هذا يحتاج إلى تفصيل وهو مذكور في باب الحوالة.
والله تعالى أعلم
**الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية
**السؤال
ما الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية؟ وما هو القدر الذي يحتاجه طالب العلم منهما أثناء دراسة الفقه؟
**الجواب
القواعد الفقهية تخالف القواعد الأصولية، القواعد الأصولية: هي جملة من القضايا الكلية التي يمكن من خلالها فهم النصوص، فلا تتعلق بالمسائل، مثال ذلك لو قلت: الأمر للوجوب، فهذه قاعدة، فإذا وجدت أمراً في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الصلاة) (آتوا الزكاة) تقول: هذا أمر، والقاعدة: أن الأمر للوجوب، هذه قاعدة أصولية، ودائماً أصول الفقه تتعلق بفهم الأدلة، وكيفية الاستدلال منها، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل الذي هو المستفيد، وهذا يقتضي أن تكون هناك قواعد يستخدمها الأصولي فتأتي مثلاً للنص وتقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة:21] (يا أيها الناس) عام، والقاعدة في الأصول: أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، تقول: هذا عام، وتقول: هذا مطلق، والقاعدة: أن المطلق يبقى على إطلاقه، هذا منطوق وهذا مفهوم، إلى غير ذلك من القواعد التي تتعامل بها مع النص لا مع المسائل الفقهية، لاحظ حينما تأتي وتقول: الأمر للوجوب، فلم تأتِ في مسألة وضوء أو تيمم، إنما تتكلم على النص نفسه أن النص يدل على الوجوب، ويستفاد من قولك: إنه للوجوب، أن يأثم التارك ويثاب الفاعل، وأنه ملزم شرعاً بالقيام بما أمر الله عز وجل به، كذلك تقول: هذا نهي، والقاعدة: أن النهي للتحريم حتى يدل الدليل على صرفه عن ذلك الظاهر، فهذه تسمى قاعدة أصولية.
وأما بالنسبة للقاعدة الفقهية فهي لا تدرس إلا بعد دراسة الفقه كاملاً؛ لأن القواعد الفقهية مثل الخلاصة التي يستطيع أن يجمع الإنسان بها شتات الفقه، فبعد أن يقرأ الفقه بكامله عبادات ومعاملات، وبعد انتهائه من الفقه بكامله يدرس القواعد، فيأتي ويقول: القاعدة في الشريعة: أن الأعمال بالنيات، وهي نفسها: الأمور بمقاصدها، لاحظ: الأمور بمقاصدها لا تختص بالوضوء ولا بالصلاة ولا بالزكاة ولا بالحج ولا بالصوم بل تشمل جميع العبادات، فتقول: هذا الوضوء عبادة، والعبادة تجب لها النية، وتقول: الوضوء عمل، والقاعدة: لا عمل إلا بنية، فهنا لاحظ: الوضوء عمل ولا عمل إلا بنية، فأنت تتحدث عن المسألة الفقهية نفسها بخلاف القاعدة الأصولية، القاعدة الأصولية تقول: الأمر للوجوب، إلا أن القاعدة الفقهية قد تكون قاعدة جامعة لأبواب العبادات، وقد تكون قاعدة جامعة لأبواب المعاملات، وقد تكون ضابطاً، وهناك فرق بين القاعدة وبين الضابط، فالضابط يختص بالباب تقول -مثلاً-: الضابط في تأثير النسيان في المحظورات أن يكون مما يمكن تداركه وتلافيه، مثلاً: إذا تطيب المحرم وهو ناسٍ يغسل الطيب، وإذا غطى رأسه وهو ناسٍ يزيله، وإذا لبس الثوب وهو ناسٍ يزيله؛ لأنه لا يبقى أثر، لكن إذا قلم الأظفار أو حلق الشعر أو جامع استوى النسيان والعمد، فإذاً الضابط ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه، فكأنك جعلت هذا الضابط يفرق لك في المسائل العديدة.
فالذي لم يقرأ الفقه بكامله لا يستطيع أن يستفيد من هذه القواعد الفقهية، إلا أنه في بعض الأحيان أثناء دراسة الفقه قد تمر بك قواعد فقهية تعينك على فهم الباب أو تعينك على فهم المسألة، ولا بأس أن يستفاد منها وأن يسأل على القاعدة، لكن لا يغرق طالب العلم فيها، إنما يتركها إلى الدراسة المركزة الدقيقة.
وقد كنا أيام الطلب نأخذ القواعد الأصولية والفقهية بقدر المسألة، ولا نتوسع فيها؛ لأنك في بداية الطلب تكون متقيداً بالدرس الموجود وتركز عليه وتكرره المرة والمرتين والثلاث والأربع والخمس إلى العشر ولا تملّ، وتقوم وأنت تذكره ويصبح منسوخاً في عقلك، بعد ذلك إذا شئت أن تتوسع في أي شيء تتوسع، والأصل عندك ثابت بإذن الله عز وجل، لكن إذا جئت بمجرد ما تحضر الدرس تذهب إلى المغني أو إلى المجموع وتحضر وتدخل في الخلافات وفي أقوال العلماء وفي فروعهم فلن تستطيع أن تنتج شيئاً، فلا يثبت عندك ما قرأته في الدرس ولا ما قرأته في مطالعتك، فالعلم بالأصول تثبيتها وتكريرها ومراجعتها، والتركيز أثناء الدرس ثم المذاكرة مع طلاب العلم مما يجب أولاً، حتى إذا جمع الله لطالب العلم بين قراءة سابقة مرتين أو ثلاث للدرس، ثم التركيز أثناء الدرس ثم مراجعة بعد الدرس، خاصة المراجعة المنفردة بعد الدرس مباشرة ما أمكن، أو استماع الشريط المرة والمرتين والثلاث ثم مذاكرة مع طالب العلم؛ بإذن الله عز وجل لن ينسى مثل هذا إلا بمشقة وعناء، ويصبح له في كل شهر مراجعة ما استفاده من الشهر، وكل ثلاثة أشهر يرتب له مراجعة دورية متقنة، وبهذا يضبط الفقه، وإذا ضبطت الفقه وجدت حلاوته، والفقه إذا استولى على قلبك ووجدانك فتح الله عز وجل عليك فتوح العارفين، وتصبح تفكر فيه قائماً قاعداً فتجد لذته وحلاوته؛ لأنه مما يزيد الإيمان بالله عز وجل، هذه الأحكام الشريعة النظيفة النزيهة التي جاءت كاملة تامة: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [الأنعام:115] وفي قراءة: (وتمت كلمات ربك) {صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، وقال سبحانه: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، فإذا أخذت حكم الله عز وجل من الكتاب والسنة -حكم خير الفاصلين وأحكم الحاكمين- وجدت العجب في كمال حكمة الله عز وجل، وكمال علمه وكمال هذه الشريعة واستيعابها للمسائل، وعندها يصبح الفقه شغلك الشاغل، وإذا نظر الله إليك وقد تعبت في هذا الفقه وتعبت في تحصيله فبإذن الله سيبارك الله في علمك، ويبارك الله عز وجل في فقهك بفضله على قدر تعبك، ومن تعب اليوم فإن الله يبارك له في نشره للعلم غداً، ويرزقه الله آذاناً تصغي إليه، ويرزقه قلوباً تطمئن لفتواه، ولربما يأتيك الرجل الذي لا يعرفك إلا بالثناء ولربما لم يسمعك، ويأتي ويجلس معك ويستمع منك الفتوى، فيقذف الله في قلبه من الطمأنينة والرضا بقولك ما لا يستطيع أحد أن يشتريه بملايين الأموال؛ لأن هذا الشيء بيد الله؛ ولأن (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وهذا كله مبني على التعب والجد في التحصيل، ولذلك لن تجد أحداً من أئمة الإسلام ودواوين العلم الأعلام وضع له القبول إلا بعد التعب والعناء والمشقة والتضحية في سبيل هذا العلم، فالفقه يحتاج إلى تعب وعناء.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الفقه في الدين، واتباع سنة سيد المرسلين، وأن يحيينا على ذلك وأن يميتنا على ذلك، وأن يحشرنا في زمرة أهله والعاملين به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وإن شاء الله في المجلس القادم سيكون حديثنا عن خطاب الضمان وبعض المسائل المعاصرة، ونسأل الله العظيم التيسير والسداد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (327)
صـــــ(1) إلى صــ(14)
شرح زاد المستقنع -** بعض المعاملات المالية المعاصرة وبطاقة الائتمان [2]
لقد اعتنت الشريعة الإسلامية ببيان الأحكام لكل ما جدّ وطرأ من المعاملات المالية المعاصرة، وما ذاك إلا لأن قديم الإسلام جديد وجديده قديم، وحكم الله سبحانه وتعالى في المسائل المالية كحكمه في المسائل المتعلقة بالعبادات، فالإسلام دين كامل ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا بيَّن حكمها وأصلها، ومن المعاملات الطارئة التي تناولتها الشريعة ببيان أحكامها ما يسمى ببطاقة الائتمان وخطاب الضمان
**تفصيلات في التخريج الفقهي لأحكام بطاقة الائتمان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد كان حديثنا في المجلس الماضي عن نوع من المعاملات التي تعتبر مندرجةً تحت مسائل القرض وأحكامه، وقد بينا مسألة بطاقة الائتمان، وذكرنا حقيقة هذه البطاقة وتعريفها، ثم بينا أركان عقدها، وكذلك تعرضنا للحديث عن تخريج عقد بطاقة الائتمان، وكان حديثنا منصباً على جزئيات من التصور أكثر منها في الأحكام.
ونظراً لذلك سنتم الحديث على جوانب مهمة يمكن بها تلخيص التخريج الفقهي والحكم الشرعي لبطاقة الائتمان
**أركان البطاقة وأحوال حاملها
سبق وأن ذكرنا أن عقد البطاقة يقوم على مُصدِر وهو البنك أو المؤسسة أو الشركة التي تقوم بإصدار البطاقة، كما يقوم عقدها على طرفٍ ثانٍ وهو العميل الذي يوصف بكونه حاملاً للبطاقة، وتقوم بطاقة الائتمان على عقد واتفاقات والتزامات بين هذين الطرفين -المصدر والحامل- إلا أن هناك طرفاً ثالثاً يعتبر وسيطاً بين المصدر وبين العميل -حامل البطاقة- وهذا الطرف الثالث هو المستفيد الذي يكون تاجراً إذا كان حامل البطاقة قد استفاد من البطاقة في شراء السلع، ويكون غير تاجر إذا كان العميل أو حامل البطاقة قد استفاد منها في الخدمات.
وعقد بطاقة الائتمان تم تصويره وبيان جزئياته، إلا أن هنا أمراً لابد من بيانه لتصور الحكم الشرعي الذي سبق إيجازه وتلخيصه فيما سبق.
ومَن طلب البطاقة أو حمل البطاقة لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون له رصيد لدى المصدر.
والحالة الثانية: ألَّا يكون له رصيد.
فإن كان له رصيد، فإن المصدر أو البنك أثناء قيامه بتأمين وضمان هذا الحامل في التزاماته، لا يخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: إما أن يقوم بالسحب من رصيد الحامل للبطاقة للوفاء بالالتزامات والحقوق المترتبة عليه.
الحالة الثانية: وإما أن يقوم بتسديد هذه الالتزامات والفواتير والاستحقاقات من عنده، ثم يطالب العميل بالسداد.
فحينئذ عندنا الحالة الأولى: أن يكون لحامل البطاقة رصيد في البنك أو المصرف أو الشركة، فإن كان له رصيد إما أن يقوم البنك أو الشركة بالسحب من رصيده لسداد الحقوق التي عليه، وإما أن يقوم بالسداد من عنده ثم تكون هناك مخالصة بين البنك وبين حامل البطاقة
**التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات من رصيد الحامل
فأما في الصورة الأولى وهي أن يقوم البنك بالسحب من رصيد العميل، فإنه في هذه الحالة تكون طبيعة العقد والتعاقد وكالة: أي كأن البنك وكيلٌ عن صاحب البطاقة في سداد الحقوق والالتزامات التي عليه، مثال ذلك: لو أن حامل البطاقة ذهب ونزل في فندق وكلفه ذلك خمسة آلاف ريال، ثم اشترى جملة من السلع فكلفه ذلك ثلاثة آلاف ريال، فأصبح المجموع ثمانية آلاف ريال، هذه الثمانية آلاف ريال: كنا قد سبق وأن ذكرنا أن التاجر أو صاحب الفندق أو من يتعامل معه الحامل للبطاقة يقوم بإثباتها في فاتورة، ومن ثم تُدخل إلى حسابه، فإذا قام البنك بالسحب من الرصيد، يكون بمثابة الوكيل عن الحامل في سحب ذلك المبلغ المعين للوفاء بالالتزامات التي عليه، وأشبه بالشيك الذي يكتبه صاحب الرصيد للبنك الذي يدفع لفلان كذا وكذا، فهو بمثابة الوكيل، لكن الإشكال ليس هنا، الإشكال أننا لو اعتبرنا البنك أو المصرف وكيلاً عن صاحب الرصيد في الدفع فالأصل يقتضي أن يكون للموكل وهو العميل أو حامل البطاقة الحق كاملاً في التعامل مع هذا الطرف الثاني، وطبيعة العقد ما بين البنك وبين حامل البطاقة تخلي صاحب البطاقة من كثير من الحقوق، منها ما سبقت الإشارة إليه: أنه لو كان العميل قد اشترى بعملة غير العملة المعروفة؛ فإن هناك عقداً -عقد الصرف- يخول ويفوض البنك أن يصرف الريالات بالدولارات بأي سعرٍ كان، وهذا خلاف الوكالة؛ لأن الوكالة تجعل النظر في الأحظ للعميل عند التحويل إلى عملةٍ أخرى لا النظر في الأحظ للبنك أو المصرف، بيد أن التعاقد والأنموذج الذي تم الاتفاق عليه بين الحامل للبطاقة وبين المصدر -البنك- يلزم حامل البطاقة بالرضا بكل صرف قام به المصدر -أعني البنك- وهذا خلاف الوكالة؛ لأن الوكالة في الأصل، يكون الموكل هو الذي له الحق الكامل، هذا أول شيء.
الشيء الثاني: لو صورنا هذا العقد على أنه عقد وكالة، لابد أن يوضع في الحسبان الرسم والمبلغ الذي دفعه الموكل للمصدر، فالرسوم التي دُفِعت للبطاقة كرسوم الاشتراك المقدمة ورسوم الخدمة المؤجلة، فهنا رسمان طالب بهما البنك -المصدر- حامل البطاقة، فيمكن أن نعتبر هذا المبلغ الذي طولب به من قبيل أجرة، ومن المعلوم في الفقه أنه يجوز أن يوكل بأجرة، يعني يجوز للشخص أن يوكل غيره على أن يقوم بمهمة ويعطيه أجرةً عليها، مثال ذلك: لو قلت لرجل: اشتر لي بضاعةً من نوع كذا وكذا بخمسة آلاف، وأعطيته خمسة آلاف وقلت له: وهذه مائة أجرة لك على تعبك، حينئذ تكون تفويضاً ووكالة مقيدة بأجرة وهي جائزة ولا إشكال، لكن أين الإشكال فيما نحن فيه؟ أن هذه الرسوم -وهي الأجرة- إذا اعتبرنا العقد الذي بين حامل البطاقة وبين البنك وكالة بأجرة فينبغي أن تسري أحكام الإجارة الشرعية على هذا النوع من الوكالة، فلابد من النظر في شروط صحة الإيجار الشرعي، والتي منها باتفاق العلماء: العلم بالأجرة وبالمنفعة.
توضيح هذا الشرط حتى يمكن تطبيقه: أنك لو استأجرت شخصاً لكي يعمل أو يقوم بمنفعة لك فقلت له: اعمل عندي يوماً وأعطيك ما يرضيك لم يجز بالإجماع؛ لأن الذي يرضيه لا ندري كم هو، فقد يكون في ظنك أن المائة ترضيه وفي ظنه أنه لا تعطيه إلا مائة وخمسين فيحدث التشاحن، وبالإجماع لا يجوز أن تكون الأجرة مجهولة، هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: لا يجوز أن تكون المنفعة التي تستأجره لفعلها مجهولة، كأن تقول له: ابن لي جداراً وأعطيك مائةً، فلا تصح الإجارة حتى تحدد طول الجدار وعرض الجدار حتى يصبح كلٌ على بينة، ويعرف ما لهذا الأجير من حق، وما لصاحب العمل من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه، فهذا منهج الشريعة وهذه قواعد الشريعة الواضحة في التعامل والتي قامت على العدل وإعطاء الحقوق كاملة: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، المهم أنك تدفع المال لقاء شيء معلوم، وإذا ثبت هذا فلا يصح أن تكون الإجارة بقيمة مجهولة، ولا يصح أن تكون على عمل مجهول، وفي البطاقة إذا اعتبرنا أن البنك يقوم بالسحب من الرصيد وكيلاً عن صاحب الرصيد فإنه قد أخذ أجرةً على هذا السحب لقاء سحب مجهول، فلا ندري كم قدر تلك السحوبات، ولا ندري هل تكون مثلا في بلدٍ قريب، أو بلد بعيد فالعمل الذي دُفِع الرسم لقاءه مجهول، وقد لا يستخدم البطاقة إلا مرة واحدة، وقد يستخدمها عشرين أو ثلاثين أو أربعين مرة والأجرة واحدة، فهذا مجهول من جهة العمل.
ثانياً: مجهول من جهة الأجرة، وتوضيح ذلك أن الأجرة عن البطاقة اشتملت على نوعين من الرسوم: الرسم الأول: وهو الرسم المقدم الذي يكون في حال الاشتراك وهذا قد يعفى منه صاحب الرصيد، فعلاً في بعض الأحوال تعطى البطاقة لمن له رصيد بدون رسم الدخول، لكن بقي الإشكال في الرسم الثاني: وهو رسم الخدمة؛ وقد ذكرناها عند استعراضنا لبعض البنود التي تكون في العقد ويتفق عليها كل من العميل والمصرف عند صرف هذه البطاقة، فذكرنا أن العميل يلتزم بدفع رسم الخدمة على كل عملية، فلو أنه نزل في فندق وكلف نزوله ثلاثة آلاف ريال، فهناك رسم الخدمة، ولو فرضنا أنه (5%)، فثلاثة آلاف ريال سيكون نصيبها ما يقارب من مائة وخمسين، فنحن في هذه الحالة لا ندري بالنسبة في وقتها، فأصبحت الأجرة التي تستحق لعمل البنك مجهولة، فهي وإن كانت معلومة النسبة لكنها مجهولة القدر، وهذا نوع من الجهالة يبطل الإجارة.
إذاً فأصبحت الجهالة من وجهين: إذا كان للعميل رصيد وفوّض البنك في السحب من رصيده وفاءً للالتزامات والحقوق التي عليه، هو عقد وكالة بأجرة، إلا أنه شابه جهالة الثمن التي هي الأجرة، وجهالة العمل والمنفعة المستحقة لقاءه.
بناءً على ذلك في الحالة الأولى: وهي كون البنك يقوم بالسحب من الرصيد لتغطية الالتزامات تخرج على أنها وكالة بأجرة وفيها ما ذكرنا
**التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات من غير رصيد الحامل
الصورة الثانية من الحالة الأولى: وهي أن يقوم البنك بالوفاء بالالتزامات من عنده ثم يقسط الحقوق على العميل دفعات على ما يراه أو يتفق مع العميل عليه، ففي هذه الحالة: لا يسحب من الرصيد، ويكون رصيد العميل أشبه بالرهن والغطاء، فلو فرضنا أن العميل له عشرة آلاف ريال أو عشرين ألف ريالٍ والبطاقة يسحب بها في حدود خمسة آلاف ريال، فالخمسة آلاف الموجودة في الرصيد هي في الحقيقة غطاء لعمليات البطاقة التي هي في حدود خمسة آلاف ريال.
فيمكن لنا أن نقيّم الصورة الثانية وهي التي لا يتدخل فيها البنك في الرصيد إلا بأمر وإيعاز من العميل، ويكون الرصيد فيها عبارة عن غطاء، وهذا ما سبق وأن سميناه بالرهن؛ لأن الرهن يكون للاستيثاق من أجل أن يوفي منه صاحب الحق إذا لم يسدد وقد سبق شرطه وبيان ضوابطه، وفي هذه الحالة البنك يقوم بالتالي: إذا اشترى العميل بمبلغ ثلاثة آلاف ريال، فالبنك له طرف من التعاقد مع التاجر كما بيناه سابقاً، فهو يدخل لحساب التاجر مبلغ ثلاثة آلاف ريال، دون رسم الخدمة التي طالبه بها البنك، في هذه الحالة: إذا قام البنك بالسداد عن العميل وتوجه للعميل لأخذ ما يستحقه عليه من دفعات، كان طبيعة التعاقد أن البنك التزم بالدفع عن العميل وجعل رصيد العميل غطاءً لوفاء العميل، فلو تأخر العميل أو امتنع من السداد فالأمر يسير حيث يسحب من رصيده، والبنك في مأمن من الإخلالات بهذه الالتزامات التي سبق ذكرها.
الآن عرفنا طبيعة العقد، فيبقى السؤال من الناحية الفقهية، لو أن اعتبرنا الرصيد رهناً وغطاءً للعمليات التي يقوم بها العميل بالبطاقة، فالسؤال الأول: ما هو نوع هذا الرهن؟
و
**الجواب
أن الرهن من النقود: أعني الذهب أو الفضة، فهل يجوز أن تُرهن النقود أم أن الرهن يكون في المثمونات دون الأثمان؟ جمهور العلماء يجيزون رهن النقود، ونص على ذلك فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية، وهو مفهوم عبارات الحنابلة: كل ما جاز بيعه جاز رهنه، وبناءً على ذلك: مذهب الجمهور على جواز رهن النقود، والدليل على ذلك: أننا لو رهنا العقار كالبيت إنما قصدنا ضمان حق صاحب الدين، وسنبيع البيت عند عجز المدين عن السداد ثم نسدد، قال العلماء: فلأن يجوز رهن النقد المباشر من باب أولى وأحرى؛ لأنه إذا جاز رهن البيت والعمارة والدابة والأرض لكي تباع عند عدم الوفاء، فمن باب أولى أن يرهن النقد نفسه، وهذا واضح.
إذا ثبت هذا فإن النقود تعتبر رهناً لعملية البطاقة، لكن الإشكال ليس هنا، إنما الإشكال في المسألة الثانية: وهي هب أن الرصيد اعتبر رهنا، فقد تقدم معنا في باب الرهن: أن الرهن الشرعي لا يجوز لصاحب الدين أن يغيره، أو يبدله، أو يتصرف فيه، وهنا عند النظر في المبلغ المدفوع نجد أن البنك قد ضمن مثل الرهن لا عين الرهن.
توضيح ذلك: أجمع العلماء من حيث الأصل على أنك لو استدنت من رجل عشرة آلاف ريال، وقال لك الرجل: أعطني رهناً، فأعطيته سيارة عندك، تقدم معنا أن هذه السيارة إذا وضعت عند صاحب الدين فلا يحق له أن يتصرف فيها ولا أن ينتفع بها، وذكرنا الأحكام المتعلقة بالمحافظة على الرهن، كل ذلك لأجل الخوف من (كل قرض جر نفعاً فهو ربا).
إذا ثبت هذا وقلنا: إن الرهن لا يتصرف فيه، فطبيعة الرهن الشرعي أنك تأخذ العين وتردها بعينها، فإذا أعطاك سيارة لا يجوز أن تبدل السيارة بمثلها، ثم تقول له إذا سدد: خذ هذه سيارة مثل سيارتك، بل الواجب أن تضمن له عين سيارته، وهذا ذكرنا فيه الأصول والضوابط وقررنا: أن الرهن يضمن بعينه، فإذا ثبت أن الرهن يضمن بعينه، ف
**السؤال
الخمسة آلاف التي في رصيد زيد أو عمرو -وهو حامل البطاقة- إذا وضعت في الرصيد: هل الذي يضمن عين النقد الذي دُفِع أم يضمن مثله في القدر؟ الجواب: أنه يضمن مثله في القدر، فليست عين الخمسة آلاف المدفوعة؛ لأن الرهن يتعين وينبغي حفظه بعينه كما ذكرنا، وهنا لا يقصد بعينه إنما يحفظ بقدره ومثله.
بناء على ذلك في الصورة الثانية من الحالة الأولى: إذا كان له رصيد، ولا يسحب البنك من الرصيد يعتبر رصيده بمثابة الرهن والغطاء لعمليات البطاقة وإذا كان بمثابة الرهن ففيه مسألتان: المسألة الأولى: أن الرهن بالنقود جائزٌ في أصح قولي العلماء وهو قول الجماهير.
والمسألة الثانية: أنه يُشكل على هذا أن رهن النقود -الرصيد- لا يضمن ولا يحفظ بعينه، وإنما يضمن بمثله، فخرج عن ثمن الرهن في الشرع، لكن عندنا في هذه الحالة أيضاً إشكال، وهذا الإشكال يقوم على قاعدة: كل قرض جر منفعة فهو ربا، وتوضيحه: أننا سبق وأن ذكرنا في باب القرض أن العلماء مُجمعون على أنه إذا دفع رجل لآخر قرضاً فلا يجوز له أن ينتفع منه منفعة؛ لأن ذلك ذريعة إلى الربا، وقد بينا ذلك وذكرنا ما ورد عن السلف رحمهم الله من تحريم المنافع لقاء القروض، إذا ثبت أن صاحب القرض لا يجوز له أن ينتفع لقاء قرضه، فلو فرضنا أن صاحب البطاقة له رصيد -كما في الصورة التي معنا- وقام البنك بالسداد عنه، فإن صاحب البطاقة يعتبر في هذه الحالة قرض ما بين البنك وما بين العميل، فكأن البنك أقرض العميل قيمة الاستحقاقات التي في بطاقته، والتي فرضنا أنها خمسة آلاف، لكن البنك لم يقبل على دفع خمسة آلاف بدلاً عن رصيد العميل إلا لوجود المنفعة التي سيجنيها من الطرفين: من العميل -وهذا ما سنبينه في الرسوم المؤجلة- ومن التاجر.
والسؤال: أين المنفعة التي يستفيدها البنك من التاجر؟ سبق وأن ذكرنا في عقد البطاقة: أن المصدر الذي يصدر البطاقة يلزم العميل ألا يتعامل إلا مع محلات معينة، وتجد شعارات البطاقة التي يريد أن يتعامل بها موجودة، إما في الخدمات وإما في أماكن السلع.
إذا ثبت هذا فكأن البنك يقول له: أدينك بشرط أن تشتري من فلان وفلان -المحل الذي سيشتري منه- والبنك مستفيد؛ لأن بينه وبين هذا التاجر أو المستفيد عقداً، مفاده أن كل عملية يقوم العميل بفعلها كأن يشتري بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف فإنه يجب على التاجر أن يدفع للبنك رسم الخدمة، ورسم الخدمة لو فرضناه مثلاً (5%) فمعنى ذلك: أن العملية إذا تمت بخمسة آلاف ريال، وعليها (5%) فمعنى ذلك أن البنك سيستفيد ما مقداره مائتين وخمسين ريالاً، وعلى هذا فتكون حقيقة الأمر: أن البنك ديّن صاحب البطاقة الأربعة آلاف وسبعمائة وخمسين واستفاد المائتين والخمسين التي سيجنيها من التاجر، وأطبقها على العميل خمسة آلاف؛ لأن المسجل عند البنك أنها خمسة آلاف، والذي يسجل في الفاتورة عند التاجر خمسة آلاف، فأصبحت للبنك منفعتان: منفعة من العميل وهذا ما سنذكره إن شاء الله من جهة الربا، ومنفعة من جهة التاجر والمستفيد.
فإذاً: الحال في هذه الصورة الثانية: أن يكون البنك بمثابة المقرض للعميل؛ لأنك إذا جئت تكيف المسألة من الناحية العقلية فكون البنك يلتزم بالدفع عن العميل معناه: أنه سيقرض العميل؛ لأن الخمسة آلاف مستحقة على العميل لا على البنك، وفي هذه الحالة تعجل البنك بدفع الخمسة آلاف، والواقع أنه دفع أربعة آلاف وسبعمائة وخمسين واستفاد منها مائتين وخمسين، فهو يستفيد من التاجر، وقد يقال: هذا راجع إلى النظرة التي ينظرها البنك بأنه إذا أعطى العميل البطاقة وعين له المحل الذي يشتري منه يصبح عندها للبنك حق على هذا المحل، ومن حقه أن يستفيد من هذا المحل، طبعاً هذه وجهة نظر، لكن من الناحية الشرعية تعتبر قرضاً جر نفعاً، هذا بالنسبة للتخريج الأول المتعلق ببطاقة الائتمان التي لها رصيد.
والخلاصة: إن كان العميل له رصيد في البنك فلا يخلو البنك في تأمينه للحقوق والالتزامات المترتبة على التعامل بالبطاقة من حالتين أو صورتين: إما أن يقوم بالسحب من مال العميل وحينئذٍ هو وكيل مستأجر، والوكالة بأجرة اختل فيها هنا: شرط العلم بالأجرة، والعلم بالمنفعة، فالأجرة مبنية على النسبة وهي معلومة من جهة القدر، لكنها مجهولة من جهة القيمة.
كذلك أيضاً شابتها الجهالة: أعني إجارة الوكالة، من جهة جهالة المنفعة التي سيقدمها البنك للعميل، حيث لا يدرى عدد العمليات ولا يدرى هل هي في الداخل أو الخارج وهل هي في المحلات القريبة أو البعيدة، وهذا حاصل ما يقال في مسألة إذا كان للعميل رصيد عند تحرير البطاقة
**التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات دون أن يكون للعميل رصيد في الأصل
الحالة الثانية: ألا يكون للعميل رصيد، فإذا لم يكن للعميل رصيد، فحينئذٍ يكون البنك قد أعطى العميل البطاقة وألزمه بدفع الحقوق المترتبة عليه في أمد معين، وقام البنك بالتسديد عن العميل، فأنت بالخيار بين أمرين: الأمر الأول: إما أن تعتبر البنك مقرضاً للعميل، فالبنك أقرض العميل وسدد عنه ثم أخذ بعد ذلك حقه بالأقساط كما هو متبع في بعض الأحوال.
الأمر الثاني: أن تعتبره كافلاً للعميل، فكفل العميل ثم بعد كفالته للعميل غرم؛ لأن صاحب المحل التجاري لما رأى البطاقة لم يلتفت إلى العميل، وإنما التفت إلى مصدر البطاقة -البنك مثلاً- أنه سيؤمن له حقه، فيكون تخريجها بالكفالة أقوى، وقد سبق وأن شرحنا الكفالة، وبينا أنها ضم ذمة رشيد إلى ذمة آخر في الوفاء والسداد.
بناءً على ذلك فتصوير هذا العقد كالآتي عندنا كافل وعندنا مكفول وعندنا شيء تكفل به ذلك الكافل، وإذا جئت تطبق ذلك على واقع الحالة تقول: الكافل: البنك، والمكفول: العميل، والمكفول له: التاجر، والمتكفل به: سداد المبلغ الذي تم الشراء به أو أخذ الخدمات في مقابله.
بناءً على ذلك دعونا نطبق مسألة الكفالة: فالبنك تكفل للفندق أو تكفل للتجّار أياً كانوا أن من حمل هذه البطاقة أعطوه في حدود خمسة آلاف، فكيف نخرجها على ما تقدم معنا في مبحث الكفالة؟ سبق وأن بينا أن الكفالة لها صورتان: الصورة الأولى: وهي صورة مشهورة: أن يكون الشخص الذي عليه الدين قد طالبه صاحب الدين، فتأتي أنت وتقول: أنا أكفله أن يسددك في نهاية السنة، في هذه الحالة تكون قد كفلت ديناً ثابتاً مستقراً ولا إشكال.
الصورة الثانية: وقد سبق معنا دراستها في آخر باب الكفالة والضمان، وهي الديون التي تئول إلى الضمان في المستقبل.
وذكرنا أنه يجوز أن تتكفل بدين مجهول يئول إلى العلم ومسألة الكفالة بالبطاقة على دين مجهول آيلٌ إلى العلم تتخرج عليها، فأنت في مسألة الدين المجهول الذي يئول إلى العلم يجوز أن تأتي لصاحب البقالة وتقول له: ديّن فلاناً، وأعط فلاناً ما يريده وأنا أتكفل بسداد حقه أو أن حقك يعطى لك أو أنه يسددك في نهاية الشهر، فذكرنا هذا وبيناه وضربنا أمثلة على ذلك كأن تأتي وتتكفل نفقة أيتام أو نحو ذلك قلنا: هذا ضمان لدين في المستقبل، وكفالة لدين في المستقبل، فموضوع البطاقة في الصورة التي ذكرناها تتخرج على هذه الصورة؛ لأن الدين حال إحضار البطاقة غير معلوم، ولكنه آل إلى العلم، لكن يجب أن نتنبه إلى أن الكفالة غير الإجارة ففي الإجارة لا يصح أن تقول: المجهول يئول إلى العلم، بينما في الكفالة يصح؛ لأن الإجارة من عقود الغرر، أما الكفالة فمن عقود الرفق، وقد سبق عند كلامنا في بداية أبواب المعاملات المالية: أن هناك فرقاً بين عقود المعاوضات المبنية على الغرر والغبن وبين عقود المعاوضات المبنية على الرفق، وبينا هذا وذكرنا وجه منهج الشرع في كل منهما، ففي الكفالة: كفالة بمجهول يئول إلى العلم، والآن أثبتنا أن البطاقة إذا أُعطيت بدون رصيد لصاحبها، وتكفل البنك بالدفع عنه، وخرجنا على أنها كفالة، فلابد أن نعرف طبيعة هذه الكفالة، هل هي بأجرة أو بدون أجرة؟ هل البنك حينما التزم أن يسدد عن صاحب البطاقة، التزم أن يسدد تطوعاً على سنن الكفالة المعروفة أم أنه التزم أن يسدد لقاء أجرة؟
و
**الجواب
أن البنك لم يسدد إلا لقاء أجرة ورسم مقدم.
وتوضيح ذلك: أن البطاقة بدون رصيد جرى العرف على أنها لا تعطى إلا بعمولة، وهذ العمولة هي عبارة عن رسم الاشتراك، ثم عمولة الخدمة بعد ذلك، فأصبح عندنا نوعان من الأجرة تدفع على هذه الكفالة.
النوع الأول: الرسم الذي يدفع قبل الدخول وأخذ البطاقة، والنوع الثاني: الرسم الذي يؤخذ على عمليات البطاقة، وهو الذي يسمى في العرف التجاري برسم الخدمة، فإذا ثبت كل هذا فمعنى ذلك: أن عندنا كفالة بأجرة، فيرد السؤال في الحكم الشرعي.
إذاً: انتهينا الآن من تكييف عقدها فقهاً وتبين أنها كفالة بأجرة، فهل يجوز أخذ الأجرة على الكفالات؟ هل يجوز لشخص يأتيك ويقول لك: فلانٌ له عليَّ مائة ألف ويحتاج إلى كفيل، فاكفلني سنة أو سنتين وأعطيك ثلاثة آلاف أو أعطيك على كل سنة ألفاً؟ لا يجوز بإجماع العلماء أخذ الأجرة على الكفالة.
والسبب في ذلك يتضح ببيان الآتي: أنه لو كفل شخص شخصاً في مال أو دين، وأخذ أجرة على الكفالة فإنه في حال عجز المدين عن السداد يلزم شرعاً أن يسدد عنه، فلو سدد عنه المائة ألف أصبح المكفول مديناً للكافل بمائة ألف بالإضافة إلى المبلغ الذي اتفق عليه كأجرة، فتصبح المسألة: أن الكافل دفع مائة ألف وأخذ مائة ألف وزيادة، والزيادة هي الأجرة، ولذلك أجمع العلماء والسلف والخلف على تحريم أخذ الأجرة على الكفالات؛ لأنها من باب عقود الذرائع الربوية، وليست بالربوية الأصل؛ لأن الربا إما أن يكون أصلاً وإما أن يكون ذريعةً، فهي من عقود الذرائع الربوية، ويتذرع بها ويتوصل إلى الربا، فصارت الكفالةُ بعوض كفالةً لقاءَ الدين، وكأنه أعطاه الدين بالدين مع الفضل، وهو مبلغ الأجرة.
إذاً: لو خرجناها كفالةً لا تصح ولا تجوز؛ لأنها كفالة بأجرة، وحُكي الإجماع على عدم جواز الكفالة بأجرة.
قال بعض المتأخرين والمعاصرين ومنهم من توفي رحمة الله عليهم: يجوز أخذ الأجرة على الكفالة، وهذا قول شاذ وباطل، يُحكى ولا يعوّل عليه؛ لأن المعوَّل على مذاهب العلماء والأئمة، والاجتهاد بعد هذا الجمع العظيم من سلفنا الصالح وأئمة العلم ودواوين العلم بأن يأتي شخص ويحدث قولاً جديداً مخالفاً لقول الجماهير، فهذا لا يعد ولا يلتفت إليه، ونحن علينا بما درج عليه السلف.
قال الإمام مالك: حق على كل طالب علم أن تكون فيه سكينة ووقار واتباع لأثر من مضى قبله، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115]، فلا يجوز للمسلم أن ينحرف عن سبيل المؤمنين وسبيل هذه الأمة الصالحة التي مضت على قول، ولا شك أن الحق في قولها؛ لأن الله لا يجمع الأمة على ضلالة.
الخلاصة: أنه إذا ثبت هذا فإذاً: إذا قلنا: إن البطاقة لها رصيد تخرج فيها مسألة الرهن والوكالة، وإذا قلنا: إنها بدون رصيد تخرج فيها مسألة الكفالة بأجرة.
هذا كل الذي بحثناه الآن في العقد في مبتداه؛ لكن تبقى البطاقة في مآلها ونهايتها، فإن البطاقة في مآلها ونهايتها عليها رسم مترتب على الديونات المستحقة، فإذا نظرنا إلى طبيعة التعاقد فإن البنك والمصْدِر يعطي حامل البطاقة مهلة ما بين خمسة وعشرين إلى خمسة وخمسين يوماً، ليقوم بتسديد الجزء المستحق ثم بعد ذلك تتركب الفوائد الربوية على كل يوم يتأخر فيه عن السداد، وهذا بالإجماع يجعل البطاقة عقداً ربوياً بدون شك.
إذاً: عندنا هذه المسائل الأولى التي ذكرناها في أحوال الرصيد وغير الرصيد بحثناها إذا خلت عن الفائدة، يعني لو جاء شخص يقول: نسقط الفائدة الربوية ونجري البطاقة على هذا الوجه لشابه ما ذكرنا، ويبقى الإشكال إذا انضاف إليها علةٌ ثانية مما ذكرناه من وجود الفائدة المترتبة على التأخير، هناك جملة في تعريف بطاقة الائتمان وهي الجملة الأخيرة التي سنتعرض لها وهي السحب بالبطاقة، أو ببطاقة الصرف الموجودة الآن في ظاهر حالها، وبطاقة الصرف هذه إذا لم تؤخذ عليها عمولة مقدمة ولم تؤخذ عليها عمولة مؤجلة فهي جائزة إلا أن هناك إشكالاً قد يرد في مسألة قرض جر منفعة، وتوضيحه أنه لو كان لبطاقة الصرف رصيد، فرضنا عشرة آلاف ريال، والشخص أخذ البطاقة، فقد قررنا أن الوديعة المصرفية تعتبر قرضاً ولا تعتبر وديعة في الأصل، حتى إن المواد التجارية المتعارف عليها في العرف التجاري والنظام الاقتصادي تنص: على أن الودائع المصرفية تعتبر قرضاً ولا تعتبر وديعة، فهي قرض فإذا ثبت أن الوديعة ورصيد الإنسان في البنك يعتبر قرضاً على البنك؛ يرد الإشكال في أنه أقرض ووضع هذا الرصيد لينتفع بنقله وسحبه من موضع غير الموضع الذي وضعه فيه، فهو في الأصل ما أخذ البطاقة -خاصة إذا كان في السفر وغيره- إلا لأنه يريد منفعة ومصلحة في مكان غير المكان الذي صدرت منه فهذه تدخل تحت مسألة كل قرض جرّ منفعة فهو ربا، لكن في الحقيقة فيها وجه للجواز، وأرجو من الله تعالى أن يكون مغتفراً، خاصة وأنه في بعض الأحوال يأتي عرضاً ولا يأتي قصدًا.
والباقي من كون الإنسان يسحب في حدود رصيده من كونه لا ضريبة له على ذلك الرصيد إن شاء الله يؤذن بالجواز، إذا كان الإنسان يدفع ويأخذ، سواء سحب رصيده أو سحب عملة من غير الرصيد الأصلي، كأن يكون رصيده من الريالات فيسحب دولارات، فإن سحب من رصيده فلا إشكال، وإن سحب بعملة غير عملة الرصيد فالصرف سيكون في الحال؛ لأنه أعطى الجهاز طلباً لصرف ما قيمته عشرة آلاف أو خمسة آلاف -مثلاً- فالصرف سيكون فورياً، هذا إذا قلنا: إن مجلس العقد الذي هو المجلس الذي يكون فيه الإيجاب والقبول، وذكرنا صحة بيع المعاطاة، فإذا صح التعامل مع الآلة ونزلت منزلة الشخص الذي وضعها أو منزلة المصدر يتخرج على هذا أنه من باب الصرف في مجلس العقد، وحينئذٍ يقوى القول بجواز أن تصرف بالعملة نفسها وبعملة أخرى غير العملة التي أودعت
**خطاب الضمان
بعد انتهائنا من مسألة بطاقة الائتمان هناك خطاب الضمان، وباختصارٍ فخطاب الضمان هو في الأصل تعهد والتزام من مصدره لجهة وطرف بينه وبين طالب الخطاب التزامات على أن يقوم البنك بضمان ذلك الشخص للوفاء بهذه الالتزامات
**أركان خطاب الضمان
أركان خطاب الضمان كما يلي: أولاً: طالب الخطاب وهو الشخص الذي يطلب من البنك أن يكفله بخطاب الضمان.
والطرف الثاني: المصدر وهو البنك أو الجهة التي تصدر خطاب الضمان فتلتزم بما فيه من التزامات لبنك أو لشركة إلخ.
الجهة الثالثة: وهي الجهة المخاطِبة -المكفول له- وهي الجهة التي تطالب صاحب خطاب الضمان بحقوق والتزامات، وهناك ركن رابع في العقد وهو طبيعة الاتفاق الذي يبرم بين هذه الأطراف.
فأما طالب خطاب الضمان فغالباً ما يكون مؤسسة أو شركة أو مقاولاً أو نحو ذلك، ويكون على مستوى الأفراد أو المجموعات، والمطلوب منه خطاب الضمان هو المصدِر الذي هو البنك أو الشركة أو المؤسسة أو المصرف.
ينقسم هذا الطلب إلى نوعين: النوع الأول: إذا دخل الشخص في مناقصة ورست عليه عملية المناقصة يطالب بخطاب الضمان، لكي يُضمن إمضاؤه للعملية؛ لأنه فَوّت الأطراف الأخر والشركات الأخرى التي تقدمت بالمناقصات، فإذا رست عليه يطالب بضمان ويكون هذا الضمان في حدود مبلغ معين، يضمنه به البنك على أنه سيمضي في العملية وسيتم ما يلزم تجاه العقد المبرم في المناقصة، فإذا رست عليه العملية ووافق وتم هذا، هناك التزامات مبنية على رسوّ المناقصة عليه فيضمنه البنك ليفي بالعقد، فإن أخل قام البنك بالسداد والضمان والدفع عنه على أن تكون هناك مقايضه بينه وبين هذا الطالب.
فلو اعترض صاحب المقاولة أو صاحب الشركة وقال للبنك: لا تدفع، لن يلتفت إلى اعتراضه؛ لأن خطاب الضمان ألزم البنك بالدفع للطرف الثالث، فأصبح هناك طرف ثالث صاحب حق، حتى لو اعترض المكفول -طالب خطاب الضمان- وقال: لا، ألغ الكفالة وألغ خطاب الضمان، لم يلتفت إلى معارضته، ودفع الاستحقاق الذي اتفق عليه، وهذا يسمى بخطاب الضمان الابتدائي أو خطاب الضمان المؤقت.
النوع الثاني من خطابات الضمان: وهو الخطاب النهائي، وصفته: لو أن مقاولاً دخل في بناء مشروع وهذا المشروع من جهة ما خاصة أو عامة قد يفي به وقد لا يفي، إذ يكون هناك بنود للمقاول ينبغي أن ينفذها لإنجاز المقاولة التي تم الاتفاق عليها، وقد يأتي البناء ناقصاً، فيخل عند ذلك بالتزامات اتفق عليها بين الطرفين، وهذا النقص الذي يقع في الوفاء بالعقود وإمضاء العقود يلزم به من أصدر خطاب الضمان، فيلتزم البنك الذي ضمن المقاول، فإذا ثبت أنه أخل في هذه العملية بحدود مليون أو بحدود نصف مليون كان من حق الطرف الثالث وهو الجهة التي طالبت بالمشروع أن تسحب هذا المبلغ من البنك لقاء خطاب الضمان
**التخريج الفقهي لبطاقة الضمان
إذاً: عندنا كفالة في الابتداء وكفالة في الانتهاء، وخطاب الضمان إذا جئنا ننظر إليه مبدئياً كان في حكم الكفالة وإذا جئنا نخرجه تخريجاً فقهياً وجدناه كفالة بأجرة فكأن البنك تكفل أن يضمن فلاناً -المقاول- وأعطاه الخطاب لقاء الأجرة التي دفعها رسماً لخطاب الضمان، وهذه الأجرة في الحقيقة تتخرج على مسألة الكفالة بأجرة، وقد ذكرنا أن جماهير السلف والخلف الذين يبلغون حد الإجماع لا يجيزون الكفالة بأجرة.
إذاً: أخذ المبلغ على خطاب الضمان لا يجوز.
كذلك أيضاً هناك إشكال ثانٍ في خطاب الضمان، وهو أن البنك إذا دفع ما قيمته مليون ريال لقاء التزاماته بخطاب الضمان فإن العميل مطالب بسداد مليون وفائدة، فهناك أيضاً الفوائد المترتبة على خطاب الضمان فأصبح عندنا أمران: الأمر الأول: الكفالة بأجرة وهذه محرمة.
الأمر الثاني: الفوائد المترتبة على أصل الديْن، وهذه أيضاً محرمة؛ لأنها ربا.
فهذان الأمران حاصلان في خطاب الضمان.
وقد جرت بعض المصارف الإسلامية على أنها لا تأخذ أجرة بناءً على فتوى بعض العلماء التي ذكرناها، وكذلك أيضاً على عدم أخذ الفائدة مؤجلة، وهذا لا شك أنه محمود تؤجر عليه إن شاء الله، وهو إحياء للكفالة الشرعية، إلا أنه بطبيعة الحال أجيز أو أجازت بعض الفتاوى المعاصرة للمصارف الإسلامية أن تأخذ لقاء الاتصالات والكلَفة التي تقوم بها عمولة، فحينئذٍ أصبحت العمولة ليست بكفالة وإنما لقاء الاتصالات ونحوه، وهنا يرد إشكال: إذا كفل أحدٌ ما فلاناً أو فلانة وتحمل لقاء كفالته أموراً هل يجب على المكفول ضمانها؟ هذا أمر لم أجد من العلماء من نص عليه، وأساغه وأجازه إنما المحفوظ أن حق الكافل على المكفول في حدود الالتزام، أما ما زاد على ذلك فلا أحفظ فيه نصاً عن أهل العلم؛ ولذلك أخشى أن يدخل ذلك في الكفالة بأجرة والسبب في هذا واضح؛ لأن طبيعة عقد الكفالة من عقود الإرفاق، ففيه أجر الآخرة أكثر من أجر الدنيا، ولذلك يلتفت فيه إلى الإحسان، لما كان من أبي قتادة في ضمانه لدين الميت عندما امتنع عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه وقال: (كم دينه؟ قالوا: ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: هما عليّ يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم).
ففي الكفالة نوع من الإرفاق ونوع من التضحية، فإن دخلت إلى المقاصة والمطالبة فهذا أمر يحتاج إلى إثبات أو تقرير أنها سائغة شرعاً، وهذا الأمر لا أحفظ فيه نصاً أو كلاماً لأهل العلم كما ذكرنا.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم والله تعالى أعلم
**الأسئلة
**حكم الاقتراض بعملة والسداد بعملة أخرى
**السؤال
هل يجوز للمقترض أن يرد القرض بما يعادله بعملة غير التي كان منها القرض؟ وهل هي مماثلة لمن صرف من الجهاز عملةً أخرى غير التي أودعها؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد من اقترض من شخصٍ مالاً بعملة، وأراد أن يسدد بعملة أخرى فإنه إذا كان هذا الانصراف من العملة القديمة إلى العملة الجديدة طرأ أثناء السداد واتفق عليه حينما جاء يسدده، هذا الشرط الأول أن يكون ذلك عند السداد.
والشرط الثاني: ألا يفترقا إلا وقد أعطى لكل ذي حقٍ حقه، فإن فعل صح ذلك وجاز، والدليل عليه ما ثبت في الحديث الصحيح، من حديث ابن عمر، أنه قال: كنت أبيع الإبل في البقيع، أبيع بالدراهم وأقتضي بالدنانير، وأبيع بالدنانير وأقتضي بالدراهم يعني: أبيعها ديناً بدنانير، فإذا جاء السداد أقتضيها دراهم، وأبيعها بدراهم فإذا جاء السداد أقتضيها دنانير، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)؛ يعني أجاز له، لكن بشرط ألا يتفرقا وبينهما شيء فلو قال له: العشرة آلاف التي عندك أريدك أن تسددها لي بالدولارات قال: إذاً أعطيك الدولار بثلاثة ريالات ونصف، قال: قبلت واتفقا، وفي نفس المجلس أعطاه حقه كاملاً وافترقا وليس بينهما شيء، فهذا في قول جمهور العلماء: جائزٌ ومشروع للحديث الذي ذكرناه، وهو حديث ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه إشكال في رواية سماك، لكن المحفوظ عند أهل العلم على القول الصحيح أنه صحيح وثابت، وعليه فإنه يجوز أن يقع ذلك ولا بأس به، والله تعالى أعلم.
بالنسبة لآلة الصرف إذا كنت -على ما ذكرنا- أودعت بالريالات وسحبت بالدولارات أو العكس فإن هذا جائز لكن بشرط أن يكون في نفس الموضع وهو مخرج على مسألة الصرف الفوري، لكن هل الآلة تنزل منزلة الشخص، في بعض الأحيان ممكن أن تنزل لغالب السلامة، ولذلك لما كان الغالب سلامتها، والغالب أنها توفي الحقوق كاملة جاز، مثلاً الآن حينما تشتري المبردات من مكائنها الخاصة، فتشتري بريال شيئاً مبرداً الغالب سلامته، لكن في بعض الأحيان تأخذ الآلة الريال ولا تعطي شيئاً مقابله، والسؤال: لو أنها أخذت ولم تعط فما الحكم؟ يعني لو أنك دفعت ريالاً وامتنعت أن تخرج لك حقك وأنت ترى أمامك الزجاجة هل يجوز كسرها؟ الجواب: نعم، يجوز لك أن تكسر الزجاجة وتأخذ حقك، لكن تضمن قيمة الزجاج الذي كسرت، وعلى ذلك فتنظر الأحظ؛ فإن كانت قيمة المشروب أهون من قيمة الزجاج تقدم على هذا، أما من ناحية شرعية فالغالب في الحقيقة سلامتها، مثال ذلك السيارات التي يخشى أن يحدث فيها ضرر، كالسيارة التي تستعمل للسفر، ربما تنفجر إحدى العجلات أثناء ذلك ويهلك الإنسان، ففيها خوف الضرر، فتقول: هل يجوز الركوب؟ نعم؛ لأن الغالب سلامتها، فالحكم في الشريعة للغالب وللإمام العز بن عبد السلام كلام نفيس وهو: أن الشريعة أناطت الأحكام بالغالب ونوادر الظنون لا يلتفت إليها ولا يعوّل عليها في تقرير الأحكام الشرعية وقد أقر ذلك في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام والله تعالى أعلم
**حكم إعطاء المكفول للكافل هبة أو عطية مقابل الكفالة
**السؤال
علمنا عدم جواز الأجرة على الكفالة فهل تجوز الهبة والعطية؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فيجوز للمكفول أن يكافئ من كفله بعد انتهاء الكفالة دون أن يكون بالشرط والمواضعة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، كفله وسدد عنه ثم جاءه بعد انتهاء الكفالة وأعطاه الحق الذي سدده عنه ثم قال له: جزاك الله خيراً، وهذه ألف مني لك هدية أو هذه ساعة مني لك هدية أحسنت بارك الله فيك ودعا له بخير فهذا من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير الناس أحسنهم قضاء)، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه استسلف بكراً فأراد أن يقضيه فقال الخازن: يا رسول الله! لا أجد إلا خيار الرباعية فقال صلى الله عليه وسلم: أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاءً)، فكان هديه عليه الصلاة والسلام أن يكافئ على المعروف ويرد الحسن بأحسن، ويرد الخير بأخير منه، وهذا هو هدي أهل الخير، قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى)، فإذا قضى الإنسان حقوق الناس بالسماحة واليسر ورد للجميل جميله فهذا هو خلق القرآن وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم
**حكم انتفاع البنك برصيد بطاقة الصرف في أغراض غير شرعية
**السؤال
بناءً على القول بجواز بطاقة الصرف ألا يشكل فيه أن المصدر انتفع من الرصيد أثناء بقائه؟
**الجواب
نحن نتكلم من حيث الأصل العام، وقد نقرر أصلاً عاماً في البطاقة من حيث هي، أما إذا دخل الإيداع في مسألة الاستعانة به والتقوية به على المحرم فقد سبق وأن ذكرنا حكم ذلك في باب الربا والصرف، وبينا أنه لا يجوز من حيث الأصل الشرعي أن يضع المسلم ماله ليستعان به على الحرام؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وهنا في مسألة بطاقة الصرف لو أنك تعاملت مع بنك مأمون ومع بنك يتعامل بالربا، فإنه قد يكون هناك اتفاق بين الطرفين بطبيعة التعامل، فلو جئت تصرف من الطرف الثاني، فإنه في هذه الحالة مما جرى به في غالب الأحوال: أنهم يقاضون بالفائدة ويأخذون مقدار ما سحبت من البنك الثاني يأخذه من البنك الأول مع رسم الخدمة فيصبح في هذه الحالة يتعين عليك الصرف من المصدر، هناك أحكام كثيرة مترتبة على مسائل الصرف فنحن نقرب من حيث الأصل العام مسألة التفصيلات؛ لأن الهدف من هذه الدراسة، إنما هي دراسة لطلاب العلم لكيفية تخريج المسائل النازلة على المسائلة القديمة، أما التفصيل والبحث فهناك فتاوى للمجامع العلمية ومجمع الفقه وهيئة كبار العلماء واضحة جداً في المسائل التفصيلية، ولربما يكون لبطاقة الائتمان الآن فتوى تفصيلية تصدر من هيئة كبار العلماء قريباً إن شاء الله؛ لأنها درست جميع أنواع البطاقات وفصلت في أحكامها؛ لكن نحن نتكلم في مسألة التخريج الفقهي، والذي يهم طالب العلم هنا الدراسة الفقهية، كيف يخرج المسائل النازلة وكيف يبين حكمها، وكيف يطبق القديم على الجديد، وذكرنا هذه الأحكام بالنسبة لبطاقة الصرف إجمالاً.
أما من حيث التفصيل فلا يمكنني أن أعطي فتوى في مسألة حتى استفصل تفصيلاً بيناً عن طبيعة التعامل بها، وهذا أمر يحتاج إلى وقت طويل، والله تعالى أعلم
**شرح قاعدة: (ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس)
**السؤال
نرجو منكم شرح القاعدة التي تقول: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس؟
**الجواب
هذه مسألة من مسائل الأصول، وباختصار الأصل الذي تريد أن تقيس عليه، ينبغي أن يكون معدولاً به عن سنن القياس وهو الشيء المستثنى، فمثلاً الآن عندنا القذف -أعاذنا الله وإياكم- لو أن رجلاً قذف رجلاً بالحرام، فبالإجماع على أنه يطالب بأحد أمرين، إما البينة التي تثبت صدقه أو يجلد حد القذف لما ثبت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء فقال صلى الله عليه وسلم لـ هلال: (البينة أو حدٌ في ظهرك).
إذاً: خذ القاعدة: إن الأصل في القذف أنه إما أن يثبت القاذف قذفه، وإلا يُجلد الحد، جاءت الشريعة وأخرجت طرفين من هذا الأصل، أخرجت الزوج والزوجة، فإذا قذف الزوج زوجته فإنه يلاعِن، إما أن يأتي ببينة تثبت ما قذفها به أو يلاعنها، هذا اللعان جاء به دليل مخصوص كما في الصحيحين من حديث عويمر العجلاني رضي الله عنه وأرضاه أنه جاء إلى عاصم بن عدي ابن عمٍ له فقال: يا عاصم! الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلوه، أم يتركه؟ فقال: سل لي يا عاصم! رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فانطلق عاصم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء فقال: يا عاصم! ماذا قال لك؟ قال: ما جئتني بخير، كره رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألتك، إلى الآن ما نزلت آيات اللعان، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره السؤال عن شيء لم يقع، فلما قال هذه المقالة جمع عويمر ثيابه وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته الرجل، أيقتله فتقتلوه، أم ماذا يفعل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه قد نزل فيك وفي امرأتك قرآن، فانطلق فأتِ بها، فجاء بها، فتلاعنا).
الشاهد: أن الأصل يقتضي إما بينة أو حد القذف؛ لكن اللعان خرج عن سنن القياس، فلو جاء -مثلاً- فقيه أو عالم يقول: إذا قذف الأخ أخاه أو أخته، فإنه يجب اللعان قياساً على الزوج والزوجة بجامع القرابة أي: يجري اللعان بين الأخ وأخيه والقريب وقريبه كما يجري بين الزوج والزوجة بجامع القرابة بين الاثنين، العلة واضحة، والقياس في الظاهر صحيح؛ لكن نقول هنا: الأصل خرج عن القياس، الأقيس دائماً هو الموافق للأصول، فالأقيس الذي مشى على الطريق العام، فاللعان خرج عن القياس، فما خرج عن القياس، فغيره عليه لا ينقاس، هذا معنى القاعدة: أن المعدول به عن سنن القياس لا يقاس عليه غيره، ما خرج عن سنن القياس فغيره عليه لا ينقاس.
نسأل الله العظيم أن يجيرنا وإياكم يوم البأس، وأن يحسن لنا ولكم الختام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (328)
صـــــ(1) إلى صــ(22)
شرح زاد المستقنع -** باب الصلح [1]
الصلح معاقدة توجب رفع الخلاف ودفعه، وقد شرعه الله سبحانه وتعالى في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء على مشروعيته.
وإذا كان الأمر كذلك فإن على من يريد الإصلاح بين الناس أن يراعي حسن القصد، والعمل على تحري العدل وعدم المحاباة، وأن يتجنب وسائل الإحراج والميل ونحو ذلك
**تعريف الصلح
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الصلح] الصلح في لغة العرب: قطع النزاع ورفع الخلاف.
يُقال: صالح الرجل الرجل، يُصالحه مصالحة، إذا وقع بينهم الاتفاق على رفع الخصومة، ولذلك لا يختلف تعريفه الاصطلاحي عند الفقهاء والعلماء عن المعنى اللغوي.
ومن هنا قال بعض العلماء في تعريفه: الصلح: معاقدة توجب رفع النزاع.
وقولهم: (معاقدة)؛ لأنها تكون بالاتفاق بين الطرفين، وهما المدّعِي والمدَّعَى عليه، وتكون بين مالك الشيء والأجنبي.
وقولهم: (توجب رفع الخلاف): الخلاف: النزاع والخصومات، فيختصم الرجلان في المال، يقول أحدهما: هذا لي، فيقول الآخر: بل هو لي، أو يختلفان في جزئه، كأن يكون شطر أرضٍ، فيقول أحدهم: الأرض كاملة لي، فيقول الآخر بل نصفها لي، ونحو ذلك من الخصومات، فإذا وقع الصلح بين الطرفين، وتراضى الطرفان؛ فإن معنى ذلك أن يرتفع الخلاف والنزاع، وتنقطع الخصومة، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله في هذا التعريف: (معاقدة توجب رفع الخلاف).
وبعض العلماء يقول: معاقدة توجب رفع الخلاف ودفعه، وهناك فرق بين الرفع والدفع، كما نبه عليه السيوطي في قواعد الفقه، وكذلك ابن نجيم في الأشباه والنظائر، وهو أن الرفع يكون لما وقع، والدفع يكون لشيءٍ لم يقع.
فإن الصلح تارةً يُقصد منه رفع الخلاف بين الطرفين، كرجلٍ خاصم رجلاً ووقع النزاع بينهما، فجاء رجلٌ ثالث وأصلح بينهما، فإن الخصومة قد وقعت، ولكنها بالصلح ارتفعت، فيقال: رفع خلاف.
وتارةً يكون الصلح قبل النزاع، فإذا جاء رجل إلى رجل، وقال له: هذه الأرض لي، فقال الآخر: بل لي، وقبل أن يقع بينهما الشجار توسّط ثالثٌ فقسمها بينهما، فحينئذٍ يكون دفعاً للخلاف، أي أن الصلح وقع في مرحلة سابقة للخصومة والنزاع.
وأياً ما كان فالصلح يقع قبل الخصومة، أي: قبل وقوع النزاع والخلاف والشجار والآثار المترتبة، وقد يقع بعد ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى يدفع بهذا الصلح النزاع، ويدفع أيضاً عن عباده أثر وضرر العداوات والشحناء، وما يكون مترتباً على النزاع بينهم
**الأدلة على مشروعية الصلح
وقد شرع الله عز وجل الصلح بكتابه، وبسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الصلح بين المتخاصمين
**الأدلة من الكتاب
أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، فأمر الله عز وجل أن نصلح ذات بين المسلمين، لما في ذلك من خير الدنيا والدين، فندب عباده وحثّهم على ذلك، وقال سبحانه وتعالى مبيِّناً فضل هذا الأمر وعاقبته الحميدة: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، فشهد من فوق سبع سماوات أن جمع القلوب وائتلاف الأرواح بالصلح فيه خير، ثم لما قال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، جاءت كلمة (خير) نكرة.
فمن هنا قال بعض أئمة التفسير: إنه لعظم الخير المترتب على الصلح، جاءت بهذه الصيغة؛ لأن النكرة تفيد العموم والكثرة، أي: فيه خير الدين والدنيا والآخرة.
وكذلك ندب الله عز وجل إلى الصلح بين الزوجين فقال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، فأخبر سبحانه وتعالى أنه معينٌ وظهير لمن سلك هذا المسلك المحمود، وهو الصلح بين الناس، فإن الله يعينه ويوفِّقه ويسدِّده، فيعينه على عناء الخصومة، فتجده ينتقل من هذا إلى هذا، فيسهر ليله ويتعب في نهاره، ويكثر الخصوم بين يديه اللغط واللجاج والصياح، وهو مع ذلك صابر مصطبر لعلمه بعظيم الثواب عند الله، فيعينه الله، ثم إذا جاء يتكلم بين المتخاصمين سدّد الله قوله، وقوّم لسانه، لأن المصلح يدعو إلى ما دعا الله إليه من ائتلاف القلوب، فهو محصِّلٌ لمقصود الشرع، وهو داعي الله.
وأما من كان مفسداً والعياذ بالله فإنه يدعو بدعوة الشيطان ولذلك يبوء بالخيبة والخذلان، فإذا نظرت إلى أهل الصلح وجدت عندهم من الصبر والتحمل، وبعد النظر، وسداد القول، والرشد، وحسن العاقبة، ما لا تجده عند غيرهم، ولا يزال الناس بخير ما بقي فيهم أمثال هؤلاء.
وقد شهد الله من فوق سبع سماوات أن من فضل المجالس أن تُعمر بالصلح بين المتخاصمين، فقال سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، فأخبر سبحانه وتعالى أن المجالس إذا عُمرت بالصلح بين الناس، وبالدعوة إلى جمع القلوب، وائتلاف الأرواح؛ فإنها مجالس خير وبر، وأخبر سبحانه وتعالى أنه متكفِّلٌ بثواب أهل الصلح، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [النساء:114]، ولكن بشرط: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [النساء:114]، أي: طلباً لرضوان الله عز وجل، قال بعض العلماء: فيه دليل على أن الصلح طريقٌ لرضوان الله عن العبد، وهذا أمر لا يُشك فيه، فإنك إن وجدت الرجل معروفاً بجمع القلوب، ويُحبِّب الناس بعضهم إلى بعض، ووجدته يسعى في جمع المفترقين، ولم شمل المتخاصمين، وجدته على خير الأحوال وأفضلها وأصلحها، فالله عز وجل يقول: {مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، وعظيماً من الله ليست بالهينة، فالله إذا قال للشيء إنه عظيم فهو عظيم، فلا أعظم من شيءٍ وصفه الله عز وجل بالعظمة، والكبير من الله ليس بالهين، أي: سوف نؤتيه أجراً موصوفاً بالعظم.
ولذلك تجد أهل الصلح في القديم، وكذا من يعاصرك من إخوانك ممن عُرف بالصلح ومحبّة جمع القلوب، تجده في عاجل خير الله له من هذا الأجر العظيم.
فتجده محبوباً بين الناس، مقبول الشفاعة، مرفوع المكانة، حتى إن أقواماً ماتوا من عشرات السنين، بل من مئات السنين ولا يزال الناس في ذكرهم الحميد بما خلَّفوا من المآثر الكريمة من الصلح بين الناس.
فهذه آيات الكتاب كلها تدل على فضل الصلح بين الناس، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، فجعلهم كالجسد الواحد، لا يرضى المسلم لإخوانه أن يتفرّقوا، وأن يتقطعوا، وأن يتمزَّقوا، فيتكلَّم هذا في هذا، ويعادي هذا هذا، إلى غير ذلك من المفاسد المترتبة على الخصومة والنزاع
**الأدلة من السنة
ودل دليل السنة أيضاً على مشروعية الصلح، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يندب إلى الصلح، ويفعل الصلح، بل قد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً)، وهذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وحسّنه غير واحد من العلماء، وإن كان الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي قد جزم بصحّته، وأُخذ عليه ذلك، لكن العمل عند المحققين أنه حسن لغيره؛ لتعدد الطرق، وكثرة الشواهد، وهو حديث ثابت.
فهذه سنة قولية تدل على مشروعية الصلح وقطع الخصومات والنزاعات بالصلح بين الناس، وتقريب قلوب بعضهم إلى بعض.
وجاءت السنة الفعلية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمشروعية الصلح، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه تأخر عن الصلاة بقباء ليصلِح بين حيين من بني عوف) وكان بنو عوف من الأنصار قبلي المدينة، جهة قباء، وكان بينهم شيءٌ من الشحناء والخصومات، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع بخصومة بينهم إلا سعى للجمع والصلح، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان معتكفاً في المسجد، وأُري ليلة القدر، فتلاحى رجلان، فكشف عليه الصلاة والسلام الستار عن قبته، ثم أشار لصاحب الدين أن يضع شطر الدين، فأصلح بينهما وهو في معتكفه عليه الصلاة والسلام.
فالسنة القولية والفعلية دالة على مشروعية الصلح
**دليل الإجماع على مشروعية الصلح
وأجمع العلماء وأئمة الإسلام عليهم رحمة الله عز وجل على مشروعية الصلح وفضله، وأن من أعظم وأجل الطاعات وأحبها إلى الله سبحان وتعالى إصلاح ذات البين، وأن فعلها مندوب إليه ومرغَّبٌ فيه، وقد يجب على المسلم في بعض الأحيان أن يُصلِح إذا كان مقبول القول ومأمون الفتنة بالدخول في الصلح، وإذا لم يُصلِح ترتب على عدم صلحه قطيعة الأرحام، أو حصول ضررٍ عظيم كسفك الدماء وانتهاك الأعراض، واغتصاب الأموال، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فإذا غلب على ظنه أنه لو دخل في هذه الخصومة أن الله يصلح ذات بين المسلمين، وأن الله يدفع هذه الشرور وهذه الفتن، وليس ثم ضرر عليه بالدخول؛ فإنه يتعين عليه أن يسعى، ويتعين عليه أن يصلح بين المسلمين
**أنواع الصلح وصوره
والصلح أنواع، ويقع على صور، فهناك صلح بين المسلمين والكفار، وهناك صلحٌ بين الفئة العادلة والفئة الباغية، وهو صلحٌ بين المسلمين، وهناك صلحٌ بين الزوجين، وهناك صلحٌ على القصاص والدماء والاعتداءات على الأجساد والأرواح، وهناك صلحٌ بين المسلمين في أمور الأموال، فهذه خمسة أنواع للصلح.
فأما الصلح الذي يقع بين المسلمين وبين الكفار؛ فهذا يتكلم العلماء عليه في باب الهدنة، وقد تقدّم في باب الجهاد في سبيل الله وبيّنا فيه أحكامه وما يترتب عليه من مسائل.
وأما الصلح بين الفئة العادلة والفئة الباغية، وهم البغاة الذين يخرجون على والي المسلمين وجماعتهم، فيُصلح بينهم وبينه، فهذا يتكلم العلماء عليه وعلى مسائله في باب أحكام البغاة.
وأما الصلح في الشقاق والخلاف الذي يقع بين الزوجين، فغالباً ما يُنبّه على جُمَلٍ من أحكامه في مسائل العشرة الزوجية، ومسائل النشوز، ويعتني المفسرون ببيانه في تفسير آية النساء السابق ذكرها.
وكذلك أيضاً بالنسبة للصلح الذي يقع على الحقوق المالية، وهذا هو الذي يعتني العلماء بذكره في هذا الموضع، فإذا قال الفقهاء: باب الصلح، أو قال المحدثون: باب الصلح، فغالباً ما يركزون على الصلح في الحقوق المالية كالنزاع في الأراضي والبيوت والدور والمساكن، والنزاع في الحقوق العامة التي تقع في الأموال، فهذا غالباً ما يُعتنى به في باب الصلح، أو كتاب الصلح، فيذكرون فيه مسائله وأحكامه.
وأما الصلح عن الدم والقصاص ومسائله والديات؛ فهذه يُنبَّه على جملة من أحكامها غالباً في باب القصاص وباب الديات
**مناسبة ذكر باب الصلح بعد باب الحوالة
وقول المصنف رحمه الله: (باب الصلح) بعد باب الحوالة يورد سؤالاً: لماذا ذكر المصنف باب الحوالة، ثم أتبعه بباب الصلح؟ وما هي مناسبة باب الصلح لباب الحوالة؟
**الجواب
أن باب الصلح فيه شبه من الحوالة؛ لأن الحوالة أن تحيل صاحب الدين على شخص آخر لك عليه حق، كما تقدم بيانه في باب الحوالة، فكأنك صالحت صاحب الحق عن حقه عندك، فحينئذٍ تكون الحوالة فيها شيءٌ من الصلح، ومن عادة العلماء أن يُلحقوا الشبيه بشبيهه، والنظير بنظيره، والمسائل المتقاربة، والأبواب المتجانسة والمتفقة في بعض المعاني، بعضها ببعض، فألحقوا باب الصلح بباب الحوالة، وإن كان بعض أئمة الشافعية رحمة الله عليهم يسلكون مسلكاً آخر، لكن للمصنف رحمه الله عذره من هذا الوجه
**الحث على الصلح
والصلح إذا وقع فإنه يقوم على طرفين متنازعين، وطرفٍ ثالث يصلح بين الطرفين، وهذا الطرف الثالث تارةً يكون من القضاة والحكام الذين يفصلون في القضايا، وتارةً يكون من غيرهم من عامة الناس.
فأما بالنسبة للقاضي، فالقاضي موقفة في الأصل حيادي، ولا ينبغي للقاضي أن يميل لأحد الخصمين دون الآخر، والصلح غالباً يكون فيه شيء من الإضرار بأحد الطرفين، ولذلك كان على القاضي ألا يتدخل إلا بالحكم والفصل في الخصومة، فيعطي كل ذي حق حقه على وفق حكم الشرع؛ لأنه لو كان القاضي يُغرق ويبالغ في مسائل الصلح؛ فإن هذا يُذهب هيبة القضاء، ويُنزِع الثقة من القاضي؛ لأن الناس لا يصلون إلى القاضي غالباً إلا وقد تقرَّح قلب المظلوم من الظلم، فهو يحتاج إلى من ينصره ويعينه، فإذا جاء إلى القاضي فوجد القاضي يهوِّن من دعواه، أو يحاول أن يحط من حقه الذي عند خصمه؛ فإن هذا يُحدث عند الناس شيئاً من ردة الفعل الذي لا تحمد عقباها.
ومن هنا فالأصل أن القاضي لا يتدخل بين الطرفين إلا في الفصل، فمثلاً: لو ارتفع الخصمان إلى القاضي فردّهما، أي: ردّ الخصمين، وقال: اذهبا فاصطلحا وامتنع من القضاء، وجاء المظلوم في شدة وفي حال، فإن هذا كما ذكرنا قد يُحدث ضرراً فيجعل المظلوم إذا وصل إلى القاضي ولم ينصف أن يتجه إلى وسائل أخرى للوصول إلى حقه، ومن هنا قال العلماء: الصلح من القضاء يُضَيَّق قدره في حدود.
ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء المشهور، والذي شرحه الإمام المبارك ابن القيم شرحاً مسهباً يعد من أنفس ما كتب في شرح هذا الكتاب الذي اعتنى العلماء بذكره، وهو كتاب القضاء، وهو كتاب بيّن فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه منهج القضاء، كتبه لـ أبي موسى؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان قاضيه على الكوفة، ولاه القضاء بالكوفة وناحية الشرق، فكتب له هذا الكتاب الذي يسمى بكتاب القضاء، رواه البيهقي وغيره في السنن.
وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا موسى برد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن الفصل بينهم يورث الضغينة والشحناء، فأمره أن يرد الخصوم إلى الصلح، ولكن كما ذكر العلماء يُرد بقدر، يعني أن القاضي إذا نظر أن الخصوم عندهم سعة، وبالإمكان أن يصلح بينهم؛ دعا إلى الصلح، وردَّهم إلى الصلح، وإن وجد الأمر يحتاج إلى بتٍّ وفصل؛ فإنه يبت ويفصل.
لكن رخصوا للقاضي أن يُصلح بين الخصمين في مواضع: الموضع الأول: أن تستشكل عليه القضية فتصبح غامضة، وأدلتها متشعبة، ولا يستطيع أن يلم هذا الشتات، فحينئذٍ يلتجئ إلى الصلح.
فإذا أشكل عليه الحكم ولم يتبين له وجه الحق، والتبست عليه القضية لكثرة الأقوال فيها وكثرة الأدلة، وحصول شيء من التعارض والتضارب الذي لا يستطيع فيه أن يتبين؛ فإنه يرجع إلى الصلح وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أنا بشرٌ مثلكم وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض).
فالقاضي بشر، ومهما أُوتي الإنسان من الذكاء والفهم، فإنه قد يوقفه الله عز وجل في بعض القضايا مكتوف اليدين حتى يعلم فضل الله عليه، وأنه تحت رحمة الله، ومهما أوتي القاضي من علم وفطنة؛ فلا بد وأن يقف في بعض المواقف حائراً بقدرة الله عز وجل حتى يستكين ويذل لله عز وجل، وهذا معروف ومشهور في أخبار القضاة وأقضيتهم، ففي هذه الحالة إذا طغت الخصومة وتشعّبت الأدلة، ورأى القاضي من المصلحة أن يجمع بين الخصمين بالصلح، فحينئذٍ يُصلِح.
وأما إذا تبين الحق.
بمعنى: عرفنا أن زيداً له على عمرو ألف ريال، وأصبح الأمر لا لبس فيه، فيجب عليه أن يبت الحكم، إلا إذا خاف أن إمضاء الحق يُحدث فتنة أعظم، كما يقع بين ذوي الأرحام.
فمثلاً: لو أن طرفين اختصما عند القاضي، وتبيّن للقاضي وجه الحق، كأن اختصموا في دم، أو عرض، وتبين للقاضي أن هذه الفئة ظالمة لهذه الفئة ولكن لو أصدر الحكم وبيّن الحق، فستحدث آثار أسوأ وأعظم من المصلحة المترتبة على قضائه، فإن خاف حصول فتنة عظيمة، أو حصول شحناء فحينئذٍ يصلح، وقد أشار بعض العلماء رحمهم الله إلى هذه الاستثناءات بقوله: والصلح يستدعي له إن أشكل حكم وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام (والصلح يستدعي له): يعني: أن القاضي يصير إلى هذا الصلح.
فيستدعي له الطرفين.
(إن أشكل): يعني: غمَض عليه الحكم، (وإن تعين الحق فلا): لأنه إذا تعيّن له الحق، وعُرِف أن فلاناً ظلم فلاناً وتبيّن الحق، فإنه بدخوله في الصلح يوجب الريبة، فكأنه يشفع للظالم، وموقف القضاء دائماً ينبغي أن يكون حيادياً لا يميل فيه القاضي لأحد الخصمين دون الآخر.
وقوله: ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام.
ففي بعض الأحوال يكون القضاء بين أقوام جُهَّال، أو بين أقوام بينهم فتنة عظيمة، وقلوبهم مليئة بالشحناء والبغضاء، ولكن رأى القاضي أن الأفضل أن يقرِّب بين الطرفين، وأن يُصلِح بينهم فيعدل عن الحكم بالقضاء إلى الجمع بين الطرفين بذلك، هذا بالنسبة لمسألة الصلح من القاضي ومن في حكمه.
أما الصلح من عامة الناس، فالصلح يسعى له العلماء، ففي بعض الأحيان يتدخّل العالم بين طرفين، بين زوج وزوجته، بين عامل ومستأجره، وهكذا يدخل العالم ويدخل طالب العلم، ويدخل الرفيع الذي له شأن كشيخ العشيرة، وأمير القبيلة ونحو ذلك ممن لهم فضل ومكانة، وعندهم عقل وحكمة، وقد يدخل أُناس من عامة الناس عندهم شيء من العاطفة ومحبة الخير للناس، فيختلف أنواع الشفعاء
**أمور يجب مراعاتها في الصلح بين الناس
فننبه على مسائل: ينبغي لمن يريد أن يُصلح بين الناس أن يراعيها
**الإخلاص لله
منها: أن يعلم أولاً أنه يتردد بين نيتين إذا دُعي للصلح بين طرفين، فإما أن تكون نيته لله والدار الآخرة، وإما أن تكون للدنيا، فالشخص ينبعث للصلح بين الناس لعلمه بعظيم الثواب عند الله، وهو يستشعر قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، ويستشعر قول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
فهو يبيع نفسه لمرضاة الله سبحانه وتعالى.
فإذا انبعث بهذه النية الصالحة، فإن الله عز وجل يُعظِم له الأجر، ويجعل جميع ما يقع من العناء والتعب والنصب في ميزان حسناته، وهذا بخير المنازل عند الله عز وجل.
وكذلك -أيضاً- بحسن النية يُوفَّق إلى السداد، وقل أن يُصلح نيته إلا ألهمه الله عز وجل أصلح الأمور، ومن هنا قال بعض العلماء رحمهم الله: (من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس)، فمن أصلح ما بينه وبين الله بالنية الصالحة في الأمور، أصلح الله ما بينه وبين الناس من الشئون والأحوال.
فمن أمثلة ذلك: إذا دخل في الصلح فأصلح ما بينه وبين الله بحسن النية؛ أصلح الله ما بينه وبين الناس، فعصَم لسانه عن الزلل، وعصم فعله عن الخلل، ووجهه وسدده، وكان له المعين والظهير معيناً على الخير، وظهيراً له على الطاعة والبر، وفي ذلك وردت قصة: اختصمت عائلتان لزوج وزوجة، ثم دخل بينهما مصلحان فلم يوفقا للصلح بينهما، وكانت القضية عند أحد قضاة السلف رحمة الله عليهم، وكان يعلم هذا القاضي أن هناك مجالاً للصلح، ولكن الله لم يوفق الحكمين، فلما رجع الحكمان إليه وأخبراه أنهما لم يوفقا، قال رحمه الله: والله لو حسنت نيتكما لوفّقكما الله؛ لأن الله يقول: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
أولاً: فالنية هي الأساس والمنبعث الذي ينبعث به الإنسان للصلح.
ثانياً: هذه النية لها عوارض، فمنها حب الشرف، وحب الجاه، فإن الذي يدخل في الصلح ينتزعه الشيطان إلى نية الدنيا؛ لأن الناس يقولون: فلان أصلح بين فلان وفلان، وفلان وجه الخير، وفلان كذا، ينتظر من الخصمين أن لا يجلسا في مجلس فيطرأ ذكر الخصومة إلا قالوا: فلان هو الذي أصلح.
فهذا يطلب الرياء والسمعة، ويطلب المدح والثناء، فحظه من تعبه ونصبه ما أراد من الدنيا، وينادي منادي الله يوم القيامة: من كان عمله لغير الله فليذهب وليأخذ أجره ممن عمل له، فإن يوم القيامة لا ينفع فيه الإنسان إلا صدقه: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، فالصدق هو الإخلاص.
فمن صدق مع الله صدق الله معه، فالصلح إذا دخل الإنسان فيه بنية السمعة هلك، وصرفه الله عز وجل، ولذلك تجده يتأثر في حدود السمعة، فلو كان أحد الطرفين قوياً أو له مكانة، مال إليه والعياذ بالله أكثر من الضعيف، وإذا دخل بنية الرياء والسمعة انحرف عن صراط الله، فإذا كان أحد الخصمين ممن ليس له مكانة في قلبه ضغط عليه وأحرجه، وألجأه إلى أمور لا تُحمد عقباها؛ فهذا لا يأمن أن يكون بصلحه مفسداً، فهو يظن أنه مصلح والواقع أنه -والعياذ بالله- مفسد، وسنبين وجه ذلك، وهو الظلم في الصلح
**الحذر من الحمية والعصبية
وكذلك أيضاً: ينبغي لمن يريد أن يصلح بين الناس أن ينتبه للحمية والعصبية، فإنه في غالب الأحوال إذا دخل في الصلح بين القرابة، تنتزعه نوازع الحمية والعصبية، فينبغي أن يحذر منها، وأن لا يجعل العادات والأمور التي هي من شأن الجاهلية محكمة له في صلحه، بل عليه أن يجعل نصب عينيه مرضاة الله، وهذا يستلزم عليه أن يرجع للعلماء، فإذا طرأت قضية بين زوجين، أو طرأت قضية بين متخاصمين، وليس عنده خلفية عن بعض المسائل الشرعية فعليه أن يتصل بالعالم، ويسأل العلماء، ولذلك يقولون: غالباً ما يُوفَّق المصلح إذا سأل العلماء، لأنك إذا سألت العالم -وهذه قاعدة عامة- في الأمور كلها التي تتصل بالعبادات والطاعات والقربات، وما تريده من أمور دينك؛ وفقت، وأنك ما استشرت ولا سألت ولا استفتيت أحداً من أهل العلم وأنت ترجو ما عند الله عز وجل بالرجوع إليه، وعملت بما قال لك إلا بارك الله فيما أتيت، حتى ولو كانت هناك أضرار، فإن الله يدفع عنك أضراراً أكبر منها.
وهذه فائدة الرجوع إلى العلماء، ولذلك قالوا: قل أن يشاور ويستفتي أحدٌ العلماء ويخيب في أمره؛ لأن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ولم يأمر الله بسؤالهم والرجوع إليهم إلا لخير يعلمه سبحانه وتعالى في ذلك الرجوع وذلك السؤال، ولذلك شهد الله أنه لو رُد الأمر إلى أهله لكان خيراً، وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا وقع بينهم شيء رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسار السلف الصالح على ذلك، وكانت الأمة بخير حينما كان الناس إذا طرأت عليهم أمور لا يستبدون بالآراء والأهواء، وإنما يرجعون لأهل العلم، ويقدرون أهل العلم، وعندما كان الناس يحمدون مشورة العلماء ويحبونها كانت البركة، وكان الخير في ذلك
**العلم بالقضية علماً تاماً
ومنها العلم بالقضية علماً تاماً كاملاً، فلا تدخل للصلح بين طرفين حتى تكون على إلمام تام بالقضية، وهذا يستلزم منك أن تسمع القضية كاملة.
فلا تدخل للصلح بين المتخاصمين، وقد علمت بأطراف من القضية دون أطراف، لأنك أشبه بالحكم بين الخصمين فلا ينبغي أن تسمع من أحدهما دون الآخر، أو تنظر إلى قضايا لأحدهما دون قضايا الآخر.
وإذا جاءك خصم وقد فُقئت عينه فلا تعجلن، فلعل خصمه قد فُقِئت عيناه، فلذلك ينبغي أن تسمع القضية كاملة، وحينئذٍ يتحتم عليك قواعد وأصول تنتبه لها، أولاً: تسمع القضية كاملة من الأصل، وهو الشخص المتّهم صاحب الحق المدَّعِي، فتجلس مع الشخص وتسمع منه سماعاً كاملاً، وتعطيه حرِّيته في أن يقول جميع ما عنده، ثم تنتقل إلى الطرف الثاني بكل أمانة ونزاهة، فتسمع جميع ما عنده، ولا تقاطعه إلا إذا حصل استفهام أو سؤال، ولا تحاول أن تشككه فيما يقول، أو تميل للطرف الثاني ضده.
فإن كثيراً ما تقع الإِحن في الخصومة والصلح، ولا يوفَّق المصلحان متى ما نظر أحد الطرفين أن المصلح يميل للطرف الآخر دونه، فإذا جاء الطرف الأول وجلس معك وأعطيته حريته، وكنت أثناء جلوسك معه رجلاً عدلاً ترجو مرضاة الله، وتعلم أن الله حمَّلك أمانة ومسئولية أن تسمع سماعاً كاملاً فتعطيه حرِّيته حتى يقول ما عنده، وإذا كان كلامه كثيراً لخّصتَ النقاط التي قالها وراجعته حتى تعرف وتضبط الأمر ضبطاً تاماً.
ولذلك إذا جئت للصلح -في هذا الزمان- فلا تُجلس الخصمين مع بعضهما، ولا تسمع منهما وجهاً لوجه، واسمع من كل طرف على حدة، وقل: أريد فلاناً يقول لي جميع ما عنده، فتجلس معه على حدة، ثم تجلس مع الآخر على حدة، وتلخِّص النقاط، فإن أمكنك أن تصلح بينهما دون أن يتواجها فهذا أفضل، وإذا أمكن الصلح وتقليب وجهات النظر فيما قاله هذا وهذا فهو أفضل، خاصة في مسائل الزواج؛ لأن الزوجين إذا جلسا فقالت المرأة سراً من الأسرار، أو قالت عورة من العورات، أو سوءة من السوءات حمَل الزوج عليها في قلبه، فلو حصل صلحٌ في المستقبل ربما انعكست الآثار على هذه الكلمة التي قالتها، ولربما حمل في قلبه أن يعيدها حتى يُضّر بها وينتقم.
فينبغي للمصلح أن يكون حكيماً خاصة مع كثرة الجهل في الناس، وعدم وجود شيء من الأدب أثناء الجلوس، فكل يريد أن يكون هو صاحب الكلمة، وكل يريد أن يكون هو المتكلم، وكل يدعي أنه هو المظلوم.
فلذلك ينتبه لهذه القضية؛ صحيح أنك تحتاج إلى استفهام لبعض القضايا، وبعض القضايا تحتم عليك أن تجمعهما وجهاً لوجه حتى تعرف الصادق من الكاذب، لكن إذا رُزِقت بصيرة العلم؛ فإنك تستطيع أن تعرف صدق هذا من كذبه، وتعلم أيضاً صدق الطرف الثاني من كذبه من خلال الجلوس لسماع الخصم سماعاً كاملاً، ولا تحاول أثناء كلامه أن تكون مع الطرف الثاني ضده، وإنما يكون كلامك استفهاماً، واستبياناً، فلا يكون تكذيباً ولا تخطئة إلا إذا كان فيه جور وظلم، وأردت أن تذكره بالله عز وجل، فتقول له: يا فلان اتق الله! الدنيا فانية، وهذا الذي تقوله ستحاسب عليه بين يدي الله، فإن الله يقول: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، إن كنت صادقاً فإني أصدِّقك، وإن كنت كاذباً وصدّقتك، فإنك لا تحمل وزر من ظلمت فحسب، بل حتى وزري أنا، لأني أصدقك فيما تقول، وتذكِّره وتخوِّفه بالله.
فالسماع من الطرفين سماعاً كاملاً يساعد على تصور القضية.
وإذا تصوَّرت القضية فلا تخلو من حالتين: إما أن تكون محضة وإما أن تكون مشوبة، والقضية المحضة تكون دينية محضة أو دنيوية محضة، فإذا كانت المسألة دينية محضة رجعت للعلماء، وإذا كانت دنيوية محضة رجعت للعقلاء وأهل البصيرة، ولا مانع أن تستشير بعض أهل العلم إن كان لهم علم وبصيرة بمثل هذه الأمور، وإن كانت جامعة بين الدين والدنيا، فحينئذٍ تجمع بين مشورة العلماء ومشورة أهل الخبرة.
فمثلاً إذا وقعت قضية بين شخصين في أمر دنيوي في مسألة تجارة، فتحتاج إلى إنسان عنده خبرة في التجارة، أو بين عامل وصاحب العمل فإنها تحتاج إلى إنسان له خبرة في ذلك العمل، فترجع إلى ديِّن أمين صالح وتسأله حتى تستطيع أن تعرف من المخطئ فتذكِّره بالله ثم تصلح.
المقصود هو تصور القضية تصوراً كاملاً ثم حلها عن طريق العلماء إن كانت دينية، أو عن طريق العقلاء إذا كانت دنيوية، أو تجمع بين الأمرين إذا جمعت بين الطرفين
**العدل بين الخصمين
كذلك أيضاً مما ينبغي أن يُتنبَّه له في الصلح: أن يُبنى على تقوى الله عز وجل بالعدل بين الطرفين، فإذا دخلت في القضية وأنت ترجو ما عند الله، وتصوَّرتَها تصوراً كاملاً ثم استشرت العلماء وقالوا لك: فلان المخطئ، وفلان المصيب، وفلان أخطأ في كذا وأصاب في كذا، والآخر أخطأ في كذا وأصاب في كذا، وأخذت نتيجة الأمر؛ فحينئذٍ إما أن تحل القضية حلاً وسطاً؛ بالجمع بين الطرفين بالحل الوسط، وهذا ما يكون به الصلح.
وأما إذا بينت لكل ذي حق حقه، وأردت أن تفصل بينهم بذلك، فالذي يفعل هذا يسمى حَكَمَاً، وهو الذي يعرف حق كل واحد من الطرفين، ثم يعطي كل ذي حقٍ حقه.
لكن المصلح دائماً يُحدِث قولاً وسطاً بين الطرفين، وهذا يستلزم تنازل صاحب الحق عن شيءٍ من حقه، كأن تعرف أن المرأة مظلومة وأن الزوج ظالم، فتذهب إلى الزوج وتبيِّن له ظلمه، وتذهب إلى الزوجة، وتقول لها: نعم أنتِ مظلومة وأنت صاحبة حق؛ لأن الله يقول، ورسوله عليه الصلاة والسلام يقول، لكن يا فلانة هذا زوجك وبعلك، إن صبرت عليه واحتسبتِ فلك الأجر عند الله؛ يا فلانة! الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فإن صبرتِ صبَّركِ الله، وإن احتسبتِ الأجر عند الله أثابكِ الله، ونحو ذلك من الكلام الطيب؛ فتلين قلبها للعفو، وتجعل قلبها ليناً للإصلاح وفي هذه الكلمات مثوبة الله، والأجر من الله، وإذا خرجت من قلب صادق فإنها تقع في الأذن وتقع في القلب، فالكلمة التي تخرج من القلب تلامس شغاف القلب، وينبغي للمصلح أن يتخير الألفاظ المناسبة والعبارات المهذَّبة التي لا تسيء إلى مشاعر الناس، ولا تُجحِف في حقهم
**اختيار الألفاظ المناسبة وعدم الإحراج
فإذا عرفتَ الحق وأردت أن يتنازل صاحب الحق عن جزءٍ من حقه حتى يقع الصلح؛ فينبغي أن يكون بطريقة مناسبة، وهذا ما أحببت أن أنبه عليه، فلا ينبغي إحراج الناس، وظلم الضعفاء والإضرار بمصالحهم.
في بعض الأحيان يدخل الرجل في صلح بين طرفين، وأحد الطرفين قوي ظالم، والطرف الثاني ضعيف مظلوم، وقد يكون الخصم الضعيف أيتاماً أو أرامل، فيأتي المصلح إلى الضعيف فيستغل نقاط ضعفه، ويضغط عليه من جهة هذه النقاط حتى يتنازل عن بعض حقه، قال بعض العلماء: لا يأمن من يفعل ذلك من الإثم في صلحه.
وهذا ليس بصلح، بل ظلم وجور، وإذا أُصلح بينهم على هذا الوجه فإن هذا يعين الظالم على الظلم، ويجعله يتمادى في ظلمه، واليوم ينتهي من هؤلاء الضعفاء ليقع فيمن هو أضعف منهم، أو في غيرهم، ولذلك كان هذا النوع من الإحراج والإلحاح لا يجوز.
كذلك أيضاً: إذا فرضنا أن عاملاً اشتغل وكد فأصبح له حق عند صاحب العمل، وصاحب العمل رجل غني وثري، وثبت أن هذا العامل له خمسون ألفاًً عند هذا الرجل الثري الغني الذي لا تضره الخمسون الألف شيئاً، وهذا الرجل جلس السنة والسنتين في عمله وكدِّه وتعبه ونصبه، ولربما كان عليه ديون وحقوق للناس، فنأتي إلى العامل ونضغط عليه حتى يتنازل عن جزء من المبلغ، أو عن جملة من حقوقه، ولربما أُخذت أطراف من قرابته وجماعته ممن يستحي منهم، فأُخذت الأموال بسيف الحياء، فمثل هذا لا يبعد أن يبوء صاحبه بالإثم، وهذا ليس بصلح، بل إفساد ومعونة على الإفساد.
فينبغي النظر في أحوال الناس، والنظر في حدود إمكاناتهم وطاقاتهم والأشياء التي يمكن أن يضحوا بها، فما كان في وسعهم سألناهم أن يعفوا، ويكون السؤال بطريقة طيبة مهذبة، لا بطريقة الإلحاح والإزعاج والإحراج، ففي بعض الأحيان يبلغ بالصلح أن الشخص يأخذ أطرافاً أقوياء، لا يمكن أن يرد الشخص شفاعتهم، وفي بعض الأحيان يكون المصلح رجلاً له مكانة وجاه، فإذا جاء إلى ابن عمه وقريبه؛ قال له: طلبتك، وإذا طلبتك فلا تردَّني وهذا الكلام لا يصلح! كيف تطلبني شيئاً فيه إجحاف وإضرار بي، ولربما فيه إجحاف بأهلي وعرضي وزوجي وقرابتي، فهذا لا يصلح وينبغي أن يكون هناك شيء من التعقل والبصيرة، فنعرف ماذا نجني إذا أصلحنا، ولو حصلت غلطة أو هفوة أو زلة من رجل معروف في الصلاح والاستقامة، وأقلناه فمن باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، أو علمنا أن الرجل غلط ثم ندم، وممكن أن يُصلح، أو كانت الغلطة في إمكان الشخص أن يعفو عنها، فهذا ممكن، لكن أن ندخل بالإجحاف والإحراج فلا.
وأيضاً قد يُختار أشخاص لا يمكن أن يتكلم الإنسان معهم، فقد يأتيه بعمه أو بخاله، فيأتي العم أو الخال ويدخل بكلمات يُحرج بها قريبه، وهذا لا يجوز، وإذا رفض يقول له: أهنتني أمام الناس، ليس لي عندك قدر ولا وجه، فهذا لا ينبغي، ومثل هذه العبارات ينبغي أن تُصرف عن الصلح، وينبغي أن يكون الصلح بشيء من الرضا، فالأخذ بالإحراج لا يجوز، أو أن يستعمِل القوة كأن يكون موظفاً عند مديره، فيأخذ مديره من أجل أن يعفو، فهذا لا يجوز، بل لا يجوز للمدير أن يدخل إذا علم أن في مثل هذا ظلماً؛ لأن هذا إساءة في استخدام مكانة الإنسان، ونعمة الله التي أنعم عليه، فينبغي أن يكون دخول الإنسان بالتي هي أحسن.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة بريرة عندما أُعتِقت فأصبح لها الخيار في البقاء تحت زوجها أو تركه إذا كان عبداً فاختارت بريرة الفسخ، فلقيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألها أن تعود لزوجها، فقالت: (يا رسول الله! أتأمرني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أنا شافع) أي: لا أملك إلا الشفاعة، فما قال لها: من حقي عليك أو أحرجها، بل قال لها: (إنما أنا شافع)، أي: لا أُكرهك على عِشرة لا تريدينها، ولا أُكرهك على شيءٍ لا ترغبين فيه.
وهذا هو الإنصاف والعدل والقسط الذي أمر الله به، ولذلك يقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]
**سماحة النفس إذا لم يقبل صلحه
ينبغي أن يكون الصلح بتقوى الله، وأن يكون في حدود طاقة الناس، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وعلى المصلح إذا لم تقبل شفاعته أن لا يحقد، وأن لا يحمل في نفسه على من رد شفاعته، فإن الإمام مالكاً رحمه الله يقول قولته المشهورة: (ليس كل الناس يستطيع أن يُبدي عذراً) فلربما كان هذا الرجل يحبك ويكرمك.
بل إن واحداً من مشايخنا رحمة الله عليهم دخل في قضية فشفع فلم يُشفَّع، وكان الرجل صريحاً معه، فلما رجع قال له بعض طلابه: إن فلاناً أساء برد شفاعتك، فقال له: لا تغتب، والله إني أحببته لصدقه.
وهذا شأن العقلاء: إن فلاناً له ظرف كذا وكذا وذكر ظرفه فالإنسان العاقل الحكيم يقدِّر ظروف الناس، والعالم علِم بعذر هذا الرجل دون أن يحدِّثه الرجل فقدَّر ظرفه، فينبغي لمن رُدَّت شفاعته في الصلح أن لا يحقد وأن لا يحمل في نفسه على من سأله أن يعفو فلم يفعل.
وفي الصلح مسائل وأحكام سنتكلم عليها إن شاء الله في الدرس القادم، وأحببت أن يكون هذا المجلس عن مقدمات الصلح؛ لأن أحكام الصلح مرتبط بعضها ببعض، فنظراً لأن هذا الدرس سيكون إن شاء الله آخر الدروس حتى ننقطع للاختبارات، رأيت من المناسب إن شاء الله أن تكون أحكام الصلح مترتبة بعضها على بعض ومتصلة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه
**الأسئلة
**حكم الكذب والحلف كذباً من أجل الإصلاح بين الناس
**السؤال
هل يجوز الكذب أو الحلِف كذبا من أجل الإصلاح بين الناس؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: يجوز الكذب للإصلاح بين الناس، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس الكاذب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً)، قال جمهرة الشُّرّاح: المراد بالحديث: (أن ينمي خيراً): أي: يكذب بين المتخاصمين، فيقول لأحدهما: فلان يحبك، فلان يذكرك بخير، فلان يثني عليك، فلان يذكر معروفك، ونحو ذلك من الكلمات، أو يقول للمرأة: زوجك يحبك، وزوجك يريدك، وزوجك يثني عليك، وزوجك يحمد ما كان منك، ونحو ذلك من الكلمات، ولو كانت كذباً فهذا مما يستثنى من المحرم.
أما الحلِف بالله فلا يجوز أن يحلِف بالله كاذباً للصلح بين المتخاصمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحديث الصحيح: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك)، فالتورية في الأيمان والكذب فيها لا تجوز، فلا يجوز أن يحلف بالله كاذباً، والحلف بالله كاذباً خاصة في الحقوق يمينٌ غموس، تغمس صاحبها في النار -والعياذ بالله- وعلى هذا لا يجوز للمسلم أن يحلف بالله كاذباً، وإنما يقول الكلام المعروف الذي يقرِّب من القلوب بالصفة التي ذكرنا، والله تعالى أعلم
**حكم إسقاط بعض الدين على سبيل الصلح
**السؤال
هل يجوز أن يصطلح صاحب الدين مع المدين أنه إذا سدّد نصف المبلغ أسقط عنه الباقي؟
**الجواب
هذه مسألة: إسقاط بعض الديون على سبيل الصلح، ويكون الإسقاط لمعجّل بمعجّل، كأن يحل الدين ويُطالب به، ومؤجّل بمؤجّل، ومعجّل بمؤجّل، ومؤجّل بمعجّل، وكل ذلك إن شاء الله سنتكلم عليه بالتفصيل في المجلس القادم؛ لأن المسألة فيها تشعُّب وكلام كثير.
وعن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أجاز لصاحب الدين أن يقول لمدينه قبل حلول الأجل إذا كان له مائة أن يقول له أعطني الآن تسعين وأُسقط عنك العشرة، فهذا إبراء وإسقاط، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسألة والكلام عليها، والله تعالى أعلم
**أهمية اختيار الحكم الأمثل للإصلاح بين الزوجين
**السؤال
قول الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، هل يشترط أن يكون الحكمان من أهل الزوجين دون الأجنبي حفاظاً على أسرار الزوجين؟
**الجواب
إِذا وجِد من قرابة الزوج وقرابة الزوجة من هو أهل لأن يكون حكماً، فيُقدّم على غيره، كأن يكون عم المرأة، أو خال المرأة، وعم الزوج، وخال الزوج، أو أخو الزوج، أو أخو الزوجة، ونحو ذلك من القرابات، ويكون الأقرب فالأقرب، ولا شك أن هذا أستر وأحفظ لأسرار الزوجية، وأيضاً في القريب شفقة تحمله غالباً على أن ينظر الأصلح، فإن الأجنبي قد لا يدرك أحوال البنت أو الأخت، ولذلك إذا كان من القرابة؛ فإنه أعلم بمصالح قريبه، وكذلك أيضاً بالمفاسد المترتبة على الخصومة، فلا شك أن القريب مقدَّم على الغريب، وأنه إذا وُجد من أقرباء الزوج أو الزوجة من هو أهلٌ لذلك قُدِّم، لكن لو رُشِّح شخصٌ لعلمه ودينه وصلاحه، وتقواه لله سبحانه وتعالى، وكان يتحقق فيه المقصود، لأن الدَيّن الصالح يحفظ الأسرار، وينصح كما ينصح القريب وأشد، لأنه يخاف الله عز وجل، وقد يكون من صلاحه وخيره واستقامته ما يكون سبباً بإذن الله عز وجل لجمع القلوب وائتلاف الأرواح، وهذا جائز وسائغ، والله تعالى أعلم
**الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
**السؤال
هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يندرج تحت باب الصلح، أم أن الفقهاء جعلوه مستقلاً عن الصلح؟
**الجواب
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من باب الصلح، وإنما هو من باب الإصلاح، والدعوة إلى الخير، وله مبحث مستقل يسمى بمبحث الحسبة، ويتكلم العلماء عليه في باب الحسبة، وليس له علاقة بمسألة الصلح، لكن إذا وقع أثناء الصلح ما يستدعي أن ينصح أحد الطرفين، أو يرغِّب أحد الطرفين في فعل خيرٍ وبر، وترك ضر وشر؛ فإنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقد يأتي في باب الصلح ويقوم الصلح عليه، لكن من حيث الأصل، فإن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له قواعده وأصوله في باب الحسبة، ويتكلم العلماء رحمهم الله عليه في الأحكام السلطانية، ويفردونه بمباحث مستقلة، كالإمام الماوردي في كتابه النفيس: الأحكام السلطانية، وكذلك كتاب: معالم القربة في أحكام الحسبة، وكذلك كتاب شيخ الإسلام النفيس: السياسة الشرعية، وكتاب الإمام ابن القيم: الطرق الحكمية.
فيشيرون إلى مسائل ومباحث الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهي مباحث ومسائل مستقلة، ولا يُدخلونها في باب الصلح لاختصاص الصلح بالحقوق.
فالحقوق تنقسم إلى حقوق لله وحقوق للعباد، والصلح في حقوق العباد، ولذلك لا يدخل الصلح في حقوق الله عز وجل.
فمثلاً لو أنه وقع شرب للخمر، فشهد شخصان على فلان أنه شرب الخمر، فقيل للشاهدين: نصطلح معكم على إعطاء عشرة آلاف ولا تشهدوا، فهذا ضياع لحق الله عز وجل، ولا يقع به الصلح بإجماع العلماء.
وهكذا لو أن شاهداً شهد في قضية، فقالوا له: نعطيك عشرة آلاف على أن لا تشهد، لأن الشهادة فيها حق لله، فحقوق الله لا يدخلها الصلح، وسنبين هذا إن شاء الله في مجال الصلح عند الكلام على ركن: ما يُصالح عنه، والله تعالى أعلم
**وصايا لطلاب العلم
**السؤال
ما توجيهكم لطلبة العلم وهم على مقربة من الاختبارات أثابكم الله؟
**الجواب
أوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسراً، فخير ما يُوصَى به المسلم تقوى الله عز وجل التي ما كانت في قليل إلا كثرته، ولا كانت في يسير إلا باركته، والمسلم يحتاج في كل لحظة وفي كل ثانية من عمره أن يُوصَى بتقوى الله عز وجل، لأنه ما خرج من الدنيا بزادٍ أحب إلى الله عز وجل من هذا الزاد الذي قال الله عنه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
وأيام الاختبار ينشغل فيها طلاب العلم ويكثُر الهم والغم بالاختبارات.
فأول ما ينبغي على طالب العلم: أن يتوكل على الله عز وجل، وأن يفوِّض الأمور إلى الله، وما نزلت بالعبد نازلة، ولا ألمّت به حاجة أو مصيبة، أو كربة أو نكبة، أو هم أو غم، فأَنزله بالله إلا جعل له من ذلك الهم والغم فرجاً ومخرجاً، ويوشك أن يأذن الله لعبده بالفرج من حيث لا يحتسب.
الأمر الثاني بعد تقوى الله: التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه، ولا يبالغ الإنسان، بل يجعل أموره دائماً مفوضة إلى الله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، قال بعض العلماء: إن الله يبتلي العباد بالهموم والغموم والمسئوليات، حتى تتجه القلوب إلى الله، حتى وأنت بعيد عن أهلك حينما تهتم وتغتم بهم ثم تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله، فهذا أمرٌ يحبه الله ويرضاه، وهذا من توحيد الله، ومن أعمال القلوب التي تقرِّب العبد إلى الله، إنك ما كنت في جميع أحوالك وشئونك مفوض الأمور إلى الله إلا أحبّك الله عز وجل، وأراك قرّة العين وسرور النفس، وبهجة القلب فيما فوّضت الأمر فيه لله عز وجل، فينبغي للمسلم أن يفوِّض الأمر كله لله.
ثالثاً: أن لا يعتمد على حوله، ولا قوته، ولا ذكائه، ولا فهمه، ولا تحصيله، فكم من مصيب أخطأ، وكم من جواد كبا، وكم من رامٍ زل في رميته، وكم من متكلِّم هلك بكلامه، فينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولذلك كان من كنوز الجنة هذه الكلمة العظيمة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)؛ لأنها تعني البراءة إلى الله من الحول والقوة، والله يحب من عبده أن يضعُف بين يديه، وحق للعبد ذلك، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أطّت السماء، وحق لها أن تئط)، وقال تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2]، أذِنَت وذلّت، فالسماوات التي هي من أعظم خلق الله أذنت لله، وانتظرت أمر الله عز وجل: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2]: أي: حُق لها أن تذِل لله، فأنت تبرأ من حولِك وقوتك وذكائك، وحفظك وتحصيلك، وتتجه لله، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين).
والله قادر أن يعطي الإنسان الذكاء والحفظ، فإذا اغتر بعلمه وبذكائه خذله الله في آخر لحظة من لحظاته، ولربما جاء إلى الاختبار فسلّط الله عليه مرضاً في رأسه، أو سلّط عليه مرضاً في جسده فلا يستطيع أن يكتب كلمة واحدة، فيتبرأ إلى الله من الحول والقوة، مهما كنت مجداً محصِّلاً مثابراً.
كذلك أيضاً ينبغي لطالب العلم أن يرفق بالنفس خلال أيام الاختبارات، ولا يحملها ما لا تطيق من السهر والتعب والنصب، فيعطي النفس حقوقها من الراحة، وطعامها وشرابها، ثم يأخذ ما يريد، فإن الله حمّل المسلم أمانة النفس، فقال عليه الصلاة والسلام لمّا قال سلمان رضي الله عنه لـ أبي الدرداء رضي الله عنه: (ولنفسك عليك حق) قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: (صدق سلمان)، أي: إن لنفسك عليك حقاً.
فالسهر إلى ساعات متأخرة، وإرهاق النفس، وعدم إعطائها حقوقها في المطعم والمشرب والنوم، لا يجوز، فلا تحمل نفسك ما لا تطيق، ولربما سهر إلى ساعات متأخرة، وأدمن السهر وحمّل نفسه ما لا تطيق، فمرض مرضاً نفسياً، أو مرض مرضاً في جسده، فلا هو أدرك الاختبار، ولا هو أدرك صحة بدنه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في الحكمة المشهورة بقوله: (إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع).
كذلك أيضاً أوصي طالب العلم إذا دخل إلى صالة الاختبار والامتحان أن يتذكر امتحان الآخرة، فهذا مخلوق ضعيف يمتحنك، ولربما سألك سؤالاً قرأته قبل الاختبار بلحظات، ولكن لا إله إلا الله الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم أين نقاط ضعفك، ويعلم بماذا تجيب، وماذا تقول، وينشر كل ذلك أمام عينيك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فعلى الإنسان وهو داخل على صالة الاختبار في الدعة والسرور والأمور كلها مهيأة من أجل أن يجيب في اختباره براحة وطمأنينة، أن يتذكر الآخرة، وشتان ما بين الحالين: فإنه في الآخرة يأتي وهو فزع خائف وجِل، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر:18 - 20].
الإنسان لو قيل له قف أمام الناس وقل كلمتين، ارتعدت فرائصه، ورجفت أقدامه وأصابه الخوف والعي فلا يستطيع في بعض الأحيان أن يتكلم، فكيف إذا دُعي على رءوس الأولين والآخرين، حتى يقول حجّته ويبيِّن طريقه ومحجته؟! اللهم إنا نسألك رحمتك الواسعة، ونسألك بعزتك وجلالك وأسمائك الحسنى وصفاتك، نسألك اللهم بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أن ترحم في موقف العرض عليك ذل مقامنا.
اللهم ارحم في موقف العرض عليك ذل مقامنا.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن قال الله له: صدقت، وقالت الملائكة: صدقت، اذهبوا به إلى الجنة.
اللهم إنا نعوذ بك من الفضيحة على رءوس الأشهاد، ربنا لا حول لنا ولا قوة.
اللهم إنا نسألك العفو، اللهم إنا نسألك العفو، اللهم إنا نسألك العفو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (329)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
شرح زاد المستقنع -** باب الصلح [2]
لقد حث الشرع الحنيف على الإصلاح بين الناس، ورتب عليه الأجر العظيم، والصلح إما أن يكون عن دين أو عين، وإما أن يكون مع إقرار أو إنكار، وإما بمعاوضة أو إسقاط، والمعاوضة إما بعين أو منفعة، والإسقاط إما لجزء أو للكل، ولكل مما ذكر أحكام وتفريعات ضبطتها الشريعة وجعلت لها قوانين محكمة تحقق للمكلف ما ينشده من صيانة حقه
**أقسام الصلح
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيان المقدمات المتعلقة بباب الصلح، وذكرنا حقيقة الصلح في لغة العرب، وحقيقته عند العلماء رحمهم الله، وكذلك بيّنا دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على مشروعية الصلح، وأنه من أحب الأعمال إلى الله عز وجل خاصة إذا كان بين الأقرباء، واشتمل على صلة الرحم ونحو ذلك من المصالح العظيمة التي قصد الشرع تحقيقها.
وبيّنا في المجلس الماضي ما ينبغي على من أراد أن يدخل في الصلح من مراعاة حال الخصمين وإنصافهما، وحث صاحب الحق على التنازل عن حقه شريطة أن لا يوجد شيء من الإحراج والإضرار به.
وبعد هذا ينبغي بيان جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب الذي يحتاجه الناس في كثيرٍ من أحوالهم وشئونهم، والفقهاء رحمهم الله اعتنوا ببيان المسائل المتعلقة بالصلح؛ لأن الكتاب والسنة اعتنى كل منهما ببيان الأصول العامة، وفرّع الفقهاء والعلماء على هذه الأصول المسائل والأحكام.
وعند النظر في الصلح ينبغي أن ينتبه إلى أن الصلح في الأصل إنما يقوم على الخصومة، وبناءً على ذلك فلا بد من وجود طرفين، أحدهما: مدعٍ، والثاني: مدعى عليه، وتقع الخصومة في شيء من الحقوق، وقد تكون من الحقوق الحسية المادية، كالحقوق المتعلقة بالأموال، وقد تكون الخصومة في أمور اعتبارية كحقوق الأعراض ونحوها.
وإذا ثبت هذا فمعناه أنه لا بد من وجود دعوى بين الطرفين، وهذا ما يقع في حال الخصومة، فقسّم العلماء رحمهم الله باب الصلح إلى جزئيتين تعتبران بمثابة نوعين للصلح: الجزئية الأولى تتعلق بالإقرار، والصلح في حال الإقرار، والجزئية الثانية تتعلق بالصلح في حال الإنكار.
وبعض العلماء إذا قسم الصلح إلى هذين القسمين يُلحق بالقسم الثاني الصلح مع السكوت حيث لا إقرار ولا إنكار.
فإذا أراد طالب العلم أن ينظر إلى هذه المسائل يمكن أن يقسِّمها إلى هذين القسمين أو إلى ثلاثة أقسام، فإن قسّمها إلى قسمين، فالقسم الأول: الصلح مع الإقرار، والقسم الثاني: الصلح مع الإنكار أو السكوت.
أما إذا أراد أن يقسمها إلى ثلاثة أقسام فالأمر واضح.
صلحٌ مع الإقرار.
وصلحٌ مع الإنكار.
وصلحٌ مع السكوت.
ولمّا كانت أحكام السكوت تتفرّع على أحكام الإنكار؛ ألحق العلماء الذين يقولون بالنوعين النوع الثالث بالنوع الثاني كما ذكرنا.
فما معنى صلح إقرار؟ وما معنى صلح إنكار؟ وما معنى صلح السكوت؟
**صلح الإقرار
صلح الإقرار: أن يختصم الرجلان عند القاضي، فيقول أحدهما: لي على محمد ألف ريال، فيتوجه القاضي بالسؤال للخصم الحاضر وهو محمد: ماذا تقول؟ أو: هل لفلان عليك ألف؟ فيقول: نعم.
إذاً: معناه أن الخصم يُقر لخصمه بالحق.
ففي حال إقرار الخصم بالحق وثبوت الدعوى عليه، تأتي مسائل الصلح وتنبني على هذه الحال، هذا معنى قولهم: صلح مع الإقرار، وله فروع سنذكرها إن شاء الله
**الصلح مع الإنكار
والصلح مع الإنكار: قال زيد: لي على محمد ألف ريال ديناً عليه، فسأل القاضي محمداً: يا محمد! هل لزيد عليك ألف؟ قال: لا.
فأنكر.
فيُطالب القاضي المدَّعِي بالبينة، فإن قال: ليس عندي بينة، وجه اليمين على من أنكر، فقبل توجيه اليمين، ثم يتلافى الخصم توجيه اليمين، يكون عنده ورع وخوف من الله عز وجل، وهو يعلم أنه مقِر، لكن لا يحب أن يحلف اليمين، وهذا يقع فيه بعض الناس، وقد تحاشى ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فيحدُث الصلح بينهما في هذه المرحلة.
ولذلك بعض العلماء يرى أن الصلح في هذه الحالة -أي في حالة الإنكار- يدفع اليمين عن الخصم، وقد وقع هذا لبعض الصحابة رضي الله عنه، وأُثر عن عثمان رضي الله عنه أنه اندفعت عنه اليمين بالصلح في حال المخاصمة، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام هذا النوع
**الصلح مع السكوت
النوع الثالث: أن يقول الخصم: لي على محمد ألف، فسأل القاضي محمداً: هل لزيد عليك ألف؟ فسكت ولم يقل (نعم) فيُقر، ولم يقل (لا) فيُنكر، فلا ندري أهو منكر أو مقر، وهل يُعتبر مَن سكت مُقِراً أو لا؟ والقاعدة عند العلماء: (لا يُنسب لساكت قول) إلا أن هناك مسائل ذكرها العلماء رحمهم الله ونصّت الشريعة على اعتبار السكوت فيها بمثابة الرضا، مثل سكوت الأبكار ونحو ذلك.
لكن في هذه الحالة الرجل لم يُقر ولم يُنكر، فإن حصل الصلح قبل حدوث الإقرار أو الإنكار اصطلح الخصمان في هذه الحالة.
إذاً: للصلح ثلاثة أحوال: الصلح حال الإقرار، والصلح حال الإنكار، والصلح حال السكوت حيث لا إنكار ولا إقرار
**صور الصلح مع الإقرار
الحالة الأولى: الصلح مع الإقرار.
الإقرار: أصله من قَرَّ الشيء إذا ثبت، والإقرار في عرف العلماء: الاعتراف، ويعتبر هذا النوع من أقوى الحجج القضائية والتي يسميها العلماء (حجة الإقرار)، والسبب في ذلك أنه شهادة من الإنسان على نفسه، والإنسان بحكم ما أودع الله فيه من نور العقل لا يشهد على نفسه بالضرر.
وليس هناك إنسان أعطاه الله عقلاً، وهو في عقله وإدراكه على ما يظهر لنا من حاله يشهد بالضرر على نفسه، فإذا شهد على نفسه بحق فقيل له: هل لفلان عليك ألف؟ فقال: نعم، له علي ألف؛ فالأصل أنه صادق، وكما يقول بعض المعاصرين: (الإقرار سيد الأدلة).
فإذا وقع الإقرار والاعتراف من الخصم لخصمه، فقال: لزيدٍ علي ألف، ففي هذه الحالة نحكم بثبوت الألف، والألف كما هو معلوم حقٌ مالي لشخص معيّن وهو المدَّعِي زيد.
لكن السؤال الآن: إذا وقع الإقرار وثبت أن لزيد على عمرو ألفاً؛ فماذا يقع؟ لا يخلو الأمر من صور
**الصورة الأولى: أن يتنازل المدعي عن حقه
الصورة الأولى: أن يتنازل زيد عن حقه، وهي صورة الإسقاط، فيقول ما دمت قد أقررت بحقِّي فأنا مسامحك، أو أنا متنازل عن حقي، أو نحو ذلك من ألفاظ الهبة أو الصدقة
**الصورة الثانية: مطالبة المدعي بحقه كاملاً
الصورة الثانية: إذا سأل القاضي محمداً: هل لزيد عندك ألف، فقال: نعم؛ فحينئذ يُطالب القاضي الخصم أن يطالب خصمه بدفعها، فيقول: مادام أن محمداً قد اعترف بألفِي فأرجو من القاضي أن يُطالبه بدفعها، فيطالِب وهذه الحالة عكس الحالة الأولى فإنه في هذه الحالة -الثانية- يقول: أريد حقي كاملاً وهو الألف الذي على محمد.
ففي الحالة الأولى إذا قال: نعم.
لزيد علي ألف، فقال زيد: أبرأته وسامحته، أو: هي صدقة مني عليه، أو: هي هبة مني له، فلا إشكال بإجماع العلماء، وقد تقدّم معنا في باب القرض وغيره أن صاحب الحق إذا تنازل عن حقه فلا إشكال فيه.
أي أنه من حقك إذا كان لك دين على أحد أن تُسقط كل المال، كما أن من حقك أن تأخذ هذا المال وتتصدق به، سواءً أسقطته بطريق الصدقة كقولك له: هو صدقة مني عليك، أو أسقطته عن طريق الهبة فقلت: هو هبة مني لك، لكن إن أسقطته على سبيل الصدقة فحكمه حكم الصدقات، كما سيأتي إن شاء الله، وإن أسقطته على سبيل الهبة فقلت: وهبتك هذا المال، فحكمه حكم الهبة، وتسري عليه جميع أحكام الهبات.
لكن أنبه أن باب الصلح في ظاهره صلح، لكن أهم ما فيه من المسائل أنك تنتقل من باب الصلح إلى أبواب أُخر، فقد تنتقل إلى باب البيع، وقد تنتقل إلى باب الإجارة، وقد تنتقل إلى باب الصدقة أو باب الهبة.
فإذا كان الشخص قد أسقط حقه الذي على خصمه بطيب نفس منه ناوياً الصدقة فصدقة، وإن كان بقصد الهبة فهو هبة.
إلخ.
فهذه الحالة لا إشكال فيها أن يتنازل عن جميع حقه فتُسمى حالة: الإسقاط أو الإبراء.
والحالة الثانية: أن يطالب بجميع حقه، ولا إشكال فيها أيضاً؛ لأنه إذا ثبت في مجلس القاضي وحكم القاضي بإقرار الخصم أن عليه للمدعي هذا المال؛ فالواجب شرعاً أن يطالب المدين بسداد دينه الذي عليه، ويُطالب من حمل الحق بأدائه والوفاء به لصاحبه، هذا في حالة ما إذا طالبت بحقك كاملاً
**الصورة الثالثة: أن يصطلح الخصمان على المعاوضة بعين أو منفعة
مسألة الصلح أن يقع بين الطرفين صلح يتفقان عن طريقه بإسقاط الخصومة ورفع المطالبة، فيقع بينهما هذا الصلح على صور: الصورة الأولى: أن يكون بالمعاوضة عن الدين والحق.
الصورة الثانية: أن يكون جامعاً بين المقابلة والمسامحة.
فالصورة الأولى: صلح المعاوضة: إذا كان على سبيل المقابلة، فإنهما يصطلحان على مقابلة المال بشيءٍ آخر، إما أن يكون عيناً أو منفعة، ففي هذه الصورة يتفق الطرفان على أن هذه الألف -مثلاً- سيُدفع في مقابلها شيء تنتهي بسببه الخصومة، وهذا الشيء الذي يُدفع في مقابل الألف، إما أن يكون من الأعيان، وإما أن يكون من المنافع.
فيكون من الأعيان كأن يقول الشخص الذي لك عليه ألف: أُعطيك في مقابل الألف سيارة، أو أعطيك في مقابل الألف أرضاً، أو أعطيك في مقابلها كتباً، أو غيرها، فيعطيك عيناً من الأعيان، والمعاوضة على الأعيان تكون بيعاً، فإذا قال لك: أُعطيك في مقابل الألف سيارةً أو أرضاً أو عمارةً أو مزرعة، فينتقل الأمر إلى حُكم البيع، وفي هذه الحالة يصبح الصلح صلح معاوضة على عين تسري عليها أحكام البيع.
الصورة الثانية: أن يُعطيه في مقابل الحق منفعة، أي: يعاوضه ويقابله بمنفعة، فيقول له: هذه الألف التي لك علي، ما رأيك لو أنك سكنت في شقتي شهراً، أو سنة، أو نصف سنة، فأعطاه منفعة السكنى في شقته أو عمارته أوبيته سنة أو شهراً أو يوماً أو ما اتفقا عليه.
ففي حالة الصلح بالمعاوضة، إن أعطاه عيناً عِوضاً عن حقه فحكمه حكم البيع؛ لأن فائدة ذكر العلماء لمسألة بذل العين لقاء الحق في الصلح هو التنبيه على انتقال الحكم إلى مسألة البيع، وعلى هذا فلو قال له: أُعطيك في مقابل الألف سيارة وسكت؛ لم يصح حتى يُبين ما نوع السيارة وما صفاتها على الشروط المعتبرة في البيع.
ولو قال له: هذه الألف سأعطيك بدلاً عنها مائة دولار، فحينئذٍ يصبح الحكم حكم صرف (صرف الريالات بالدولارات) فتنتقل إلى باب الصرف، فتقول يَصِح إذا كان في مجلس العقد، وأعطاه إياها في مجلس العقد، فإن أخّر كان نسيئة.
فلو قال له: هذه الألف أعطيك بدلاً عنها طعاماً، ولم يبيِّن نوع الطعام لم يصح؛ لأنها بيع لمجهول، وبيع المجهول لا يصح؛ لأنه قد يتفقان على الطعام وهو يظنه جيداً فيظهر رديئاً، أو يظنه من نوع يحبه فإذا به من نوعٍ لا يحبه، فننتقل من باب الصلح في النوع الأول الذي يحصل فيه الإقرار بحال المعاوضة إلى باب البيع، ونطبق جميع مسائل البيع.
فلو أنه قال له: أعطيك في مقابل هذه الألف مائة دولار، فقال: قبلت، وسأحضرها لك غدا، أو قال: بعد ساعة، وافترقا قبل التقابض، فإن ذلك يلغى وتبطل المعاوضة، ولا نحكم بصحة المعاوضة؛ لأن الشرع لا يجيز النسيئة في مثل هذه المعاوضة، بل لا بد أن يكون يداً بيد، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح حديث ابن عمر: (كنت أبيع بالدراهم، وأقتضي بالدنانير، قال: لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء).
إذاً: لا بد وأن يكون يداً بيد حالاً في مجلس العقد، فلو قال له: أعطيك بدل هذه الألف خمسمائة ريال، وأعطيك بدل الخمسمائة الثانية -مثلاً- طعاماً، لم يصح لمسألة مد عجوة ودرهم بدرهمين، وهي مسألة الذرائع التي سبق بيانها معنا في باب الصلح.
إذاً: فائدة ذكر العلماء لهذا أن باب الصلح ينتقل به العقد من مسألة التراضي إلى مسألة ما انبنى عليه التراضي، فإن كان معاوضة على الأعيان وقع بيعاً وحكمه حكم البيع، فلو أنه باعه أو تعاقد معه على المعاوضة بشيءٍ محرّم، كما تقدم معنا كالميتة، أو الخمر، أو الخنزير فلا يصح البيع لحديث جابر بن عبد الله في الصحيحين: (إن الله ورسوله حرما بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام).
فلو قال له: أُعطيك بدل الألف ميتةً أو خمراً أو خنزيراً أو أصناماً أو نحو ذلك من محرمات البيع لم يصح.
الصورة الثانية في حال المعاوضة: أن تكون المعاوضة بالمنافع، كأن يقول له: هذه الألف التي لك عليّ سأعطيك بدلها سكنى داري شهراً أو سنةً، فيقول: قبلت.
أو قال له: هذه ألف ثبتت لي عليك، أجِّرني بها دارك، أو أجِّرني بها عمارتك، فيقول: قبلت، فإنه يصح ذلك؛ لأنها إجارة على منفعة مباحة.
وأجمع العلماء على جواز المعاوضة على المنافع المباحة، لكنه في هذه الحالة وهي الحالة الثانية ينتقل إلى باب الإجارة، وتكون الإجارة على المنافع والمنافع مثل: السكنى، الركوب، الزراعة، الحدادة، النجارة ونحوها.
وإن قال له: هذه الألف التي لي عليك أريد في مقابلها أن توصلني إلى مكة، أو أحُج معك في سيارتك هذا العام، فإن قال: قبلت، تمّت إجارة على النقل أو يقول له: هذه الألف تنقل لي بها بضاعتي من المدينة إلى جدة، صحَّت؛ لأنها إجارة، ويجوز للمسلم أن يتعاقد على نقل بضاعته من بلد إلى آخر، وهذا بإجماع العلماء.
إذاً: تسري عليها أحكام الإجارات، وتأخذ حكم باب الإجارة.
والصورتان اللتان وقعت فيها المقابلة بالأعيان والمنافع، يسميها العلماء: صلح المعاوضة.
فإذا سُئِلت عن صلح المعاوضة تقول: أن يدفع العِوض لقاء الحق، ويكون هذا العوض على صورتين، إما أن يكون من الأعيان، وإما أن يكون من المنافع، فإن كان من الأعيان فحكمه حكم البيع، ويشترط في صحته ما يُشترط في صحة البيع، وإن كان على المنافع فحكمه حكم الإجارة، ويشترط فيه ما يُشترط في الإجارة الشرعية
**الصورة الرابعة: صلح الحطيطة
إذا كان الصلح على مقابلة مشتملة على معاوضة ومسامحة، فهذا النوع يسميه العلماء رحمهم الله بصلح الحطيطة.
والحطيطة مأخوذة من حَطَّ الشيء، والمراد بحط الشيء: أن يُسقِطَ الدائن شيئاً من الدين.
وقد تقدَّم معنا أنه لو قال الخصم لخصمه: سامحتك عن جميع المال، فهذه حطيطة بكل المال ولا إشكال فيها، فإما أن تكون هبة فحكمها حكم الهبات، وإما أن تكون صدقة فحكمها حكم الصدقات.
لكن صلح الحطيطة الذي ذكره العلماء هو أن يحُط بعض المبلغ ويُبقي بعضه، كأن يكون الحق ألف ريال، فيتنازل عن خمسمائة -أي النصف- أو يتنازل عن مائتين وخمسين -أي: الربع- أو يتنازل عن سبعمائة وخمسين -أي: ثلاثة أرباع- فيتنازل عمّا بعض الدين قليلاً كان أو كثيراً، يقول: سامحتك في النصف والنصف الباقي أعاوضك عليه، فيعاوضه عليه بنفس الصور المتقدمة معنا، فإما أن يعاوضه على عين فبيع، وإما أن يعاوضه على منفعة فإجارة.
هذا بالنسبة للصلح الذي جمع بين المعاوضة والمسامحة، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله بصلح الحطيطة، في جميع هذه الأحوال وجماهير العلماء والفقهاء رحمهم الله على جواز هذه الصور، والدليل على ذلك ما ثبت من الأدلة الشرعية التي سبق بيانها: فمن الكتاب كقوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً)، وفي هذا الحديث دليل على أن ما اصطلح عليه الطرفان وتراضيا عليه دون أن يكون فيه تحليل لما حرّم الله، أو تحريم لما أحلّ الله؛ فإنه جائز ومشروع.
ومن النظر: أن هذا النوع من الصلح الذي ذكرناه إذا كان بمعاوضة وكان في حكم البيع فالبيع جائز، وإن كان في حكم الإجارة فالإجارة جائزة، وإن كان جمعاً بين المسامحة وبين المعاوضة بإجارة أو بيع، فكل ذلك مما أذن الله به، وأذن به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس على المسلم حرج في جميع هذا.
هذا بالنسبة للصلح مع الإقرار، وقد استفتح المصنف رحمه الله باب الصلح بهذا النوع، فبيَّن النوع الأول بقوله رحمه الله: [إذا أقر له بدينٍ أو عينٍ فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي، صحّ إن لم يكن شرطاه] بدين: مثلما ذكرنا، يقول للقاضي: لي على محمد ألف ريالٍ أعطيته إياها قرضاً، لأنه لا بد أن تكون الدعوى مستوفية للشروط، وسنبين هذا إن شاء الله في باب القضاء، فإذا كانت الدعوى مستوفية للشروط قال القاضي لخصمه: هل له عليك ألف؟ فإذا أقرّ أقر بدين، وفي هذا الحالة يكون الخصم قد أقر بدين
**الصلح على المعاوضة عن عين
والإقرار بعين: كأن يرفعه إلى القاضي، ويقول: إن محمداً قد أخذ سيارتي من نوع كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، ولم يردها، فأنا أطالب القاضي أن يرد لي حقي، فالقاضي يسأل الخصم: هل أخذت يا محمد سيارته؟ فإن قال: نعم.
فقد أقر بعين، فهناك أقر بدين وهنا أقر بعين.
وفي حال الإقرار بالدين والعين، يثبت الحق؛ لأنه إذا ثبت في العين وجب ردُّها، وإذا ثبت في الدين وجب رده.
فإذا كان عيناً مثلما: إذا قال زيد: لي على محمدٍ كتابٌ بداية المجتهد، أو صحيح البخاري صحيح مسلم، من طبعة كذا، ومن نوع كذا، ويذكر الصفات.
فسأل القاضي محمداً، فقال: نعم.
وأقر به.
بعد أن ثبت أن لزيدٍ على محمد كتاباً بهذه الصفات التي وردت في الدعوى، قال محمد: أُعطيك بدلاً عنه نسخة من صحيح البخاري، أو نسخة من صحيح مسلم، فإذا قال زيد: قبلت، فحينئذٍ تكون معاوضة لقاء عين (عين بعين).
أو قال له: كتابك الذي لك علي أُعطيك بدله منفعة: كأن يقضي له حاجة، أو أن يحمل متاعه وبضاعته أو غير ذلك من المنافع التي لها قيمة، فيتراضيا على ذلك.
أو يقول: أجِّرني دارك شهراً في مقابلة الكتاب الذي عندك، فإن قال: قبلت، فإنه يجوز؛ لأن الكتاب له قيمة، وكأنه دفع قيمة الكتاب لقاء المنفعة، فيكون صلحاً ومعاوضة على منفعة.
وأما من ناحية الإسقاط: إسقاط البعض والرضا بالبعض، كأن يقول له: لي على محمد نسختان من بداية المجتهد، أو ثلاث نسخ، أو مائة نسخة من بداية المجتهد -كما يقع بين أصحاب المكتبات- فإن ثبت أن له عليه مائة نسخة من بداية المجتهد فقال: أعطيك بدلاً عنها مائة من صحيح البخاري، فإن قال: قبلت جاز، وإن قال له: أعطيك مائة من كتب منوعة، وقال: قبلت.
فلا يصح حتى يبيِّن أنواع هذه الكتب.
فإذا قال: بعد أن بيّن أنواع الكتب أنا أتنازل لك عن نصفها، وأعطني نصفها، فهذا صلح الحطيطة، في حال المعاوضة على الأعيان.
والشاهد أنه أقر بعينٍ فأسقط البعض، ومن حقك أنه لو كان لك على شخص ألف ريال وأردت أن تسامحه عن الألف كلها جاز لك ذلك، فمن باب أولى أن يجوز إذا أسقطت بعض الدين
**حكم الاشتراط في الإسقاط والمعاوضة
قوله: (فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح إن لم يكن شرطاه): أي إذا قال له: لا أُقر لك حتى تتنازل لي عن نصف المبلغ، أو لا أُقر لك حتى تستأجر بهذا المبلغ مني عمارتي، ولا أُقر لك حتى تفعل كذا وكذا؛ لم يجز، لأنه صالحه ببعض ماله عن البعض، وهذا الشرط يُتوصّل به إلى أكل أموال الناس بدون رضاً منهم، لأنه ليس من حقه إذا كان مقراً لي بالألف أن يُلزمني باستئجار داره، وليس من حقه أن يُلزمني باستئجار سيارته أو مركبه أو عمارته، وليس من حقه أن يلزمني بشراء كتبه أو شراء العين التي عنده.
فإذا ألزمه بها لم يكن ذلك جائزاً ولا مشروعاً.
والمسلمون عند شروطهم، إلا إذا كانت الشروط تخالف شرع الله، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل)، فأبطل صلى الله عليه وآله وسلم الشروط التي يُتوصَّل بها إلى أكل أموال الناس بالباطل، أو إلزامهم بشيءٍ إكراهاً وبدون رضاً منهم.
فقوله: (صح إن لم يكن شرطاه) إذا وقع الصلح على سبيل المشارطة لم يصح؛ لأن الشرط مُصَادِم للشرع ولا يُقر عليه، ولا يُعمل به
**حكم صلح وإسقاط من لا يصح تبرعه
قال رحمه الله: [وممن لا يصح تبرعه] هذا أمرٌ ثانٍ في حال الإسقاط: إذا قلنا إنه يجوز للمسلم أن يُسقط حقّه كله، ويجوز أن يُسقط بعضه، فينبغي إذا قلت بجواز التبرُّع والإبراء من الدين أن يكون هذا التبرُّع من شخصٍ هو أهلٌ للإسقاط والإبراء، كما أنك في حال البيع والمعاوضة قلتَ: يُشترط شروط البيع، وتشترط شروط الإجارة؛ فينبغي أيضاً في الهبات إذا أسقط ماله كله أن يكون أهلاً لذلك.
مثلاً: قال: لي على محمد ألف، فقال محمد: نعم، له عليَّ ألف، فقال: ما دمت قد أقررت لي بالألف فأنا مسامحك بالألف كلها.
وكان الذي سامح ممن لا يصح تبرُّعه، فحينئذٍ لم يصح ذلك التبرع، وذلك كالمفلس لا يصح تبرعه إذا كان محجوراً عليه للفلس.
وسيأتينا في باب الحجر الذي يلي باب الصلح أن هناك أشخاصاً حجر الشرع عليهم.
أي: منعهم من التصرف بأموالهم ببذلها وهبتها، وهم ينقسمون إلى قسمين: منهم من حجر عليه الشرع ومنعه من الهِبة والتبرُّع بماله كله أو بعضه خوفاً على نفسه، أي: حجر الشرع عليه لمصلحته هو، ومنهم من حجر الشرع عليه لمصلحة غيره.
فالذين حجر الشرع عليهم لمصلحة أنفسهم: كالصغير اليتيم، إذا توفي والده وترك له مليون ريال إرثاً، ولوالده حق على الغير، وأصبح هو مكان والده، فاعترف ذلك الغير بالحق، فقال الصغير سامحتك؛ لم يصح ذلك التبرع، ولم يصح ذلك الإسقاط، بل يُنتظر إلى بلوغه، فإذا بلغ راشداً كان له حق الإسقاط أو حق المطالبة، أما وهو صغير فإنه يُخدع وتأخذه العاطفة ويتنازل عن حقه.
ولذلك قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فالصغير لا يُحسن النظر لنفسه، والشرع لا يجيز تبرع مثل هذا.
وكذلك إذا كان صغيراً لمصلحة نفسه كالأيتام، أو كان مجنوناً، لأن المجنون لا يحسن التصرف في ماله، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده، فلو أن المجنون يُعطى ماله، لأضاع ماله في طرفة عين، ولربما حرق ماله، ولربما قطّعه؛ لأنه لا يعي ولا يُدرك، فلو قال مجنون لآخر: سامحتك فيما لي عليك؛ لم يصح.
كذلك يُحجر على الإنسان لحق الغير ولحق نفسه؛ كالسفيه، وهو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، فهؤلاء الثلاثة: (الصغير، والمجنون، والسفيه)، هؤلاء الثلاثة يُحجر عليهم لمصلحة أنفسهم.
وهناك من يُحجر عليه لمصلحة غيره، مثل المريض مرض الموت، فإنه إذا تبرّع في مرض الموت، لم يصح تبرُّعه إلا في حدود الثلث -ثلث المال فقط- فإن تبرّع بأكثر من الثلث فهو حق للورثة، إن شاءوا أمضوا تبرعه، وإن شاءوا ردوه.
فلو أن رجلاً كان في مرض الموت وترك مليون ريال إرثاً، وقال: تصدقوا بالمليون كلها، فإنه لا ينفذ تبرعه إلا في الثلث، لحديث سعد في الصحيحين: (يا رسول الله! إن لي مال وليس لي ورثة إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا.
قال: افبثلثيه؟ قال: لا.
فبنصفه؟ قال: لا.
قال: افبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
فلو فُتح الباب للناس أن يتصدقوا لصار كل إنسان ثري يقول عند موته: آخذ مالي وأتصدق به أفضل من أن أتركه لأولادي فيكون في ذلك إضرار بالورثة، والشرع جاء بالوسطية، فأعطاه الثلث يتصدق به.
فلو أنه في مرض الموت، وجاء شخص وأقرّ له مليون ريال، فقال له: سامحتك بالمليون التي لي عليك، ثم توفي، وطالب الورثة بعد وفاته، وقالوا: فلان جاء لمورِّثنا في فراش الموت، وأقر له بحقه، فأسقط عنه وأبرأه من جميع الدين، والإبراء مستغرق للثلث وزيادة، فسألوا القاضي أن يصحح الإبراء في الثلث، وأن يرد لهم ما زاد، فإن القاضي يصححه في الثلث ويرد ما زاد.
وهذه تبين أهمية باب الصلح، فأنت تنتقل من باب إلى باب، ومن هنا ترى أن الشريعة يرتبط بعضها ببعض، كالبناء المحكم، وتجد كل كلمة وكل عبارة يتكلم بها المكلف لها حكمها، ولا يُظلم الناس، وإنما يُؤخذون بحقوقهم دون زيادة أو نقص.
فإن أبرأ وأسقط دينه والحق لغيره والمال لغيره، صحّ فيما يملك، ولم يصح فيما زاد عنه، فهذا معنى قوله: (أو ممن لا يصح تبرعه) فإن كان الإسقاط والتنازل عن الدين من شخص لا يصح منه الإسقاط ولا التنازل عن الديون كلية؛ أسقطنا ذلك الصلح على -هذا الوجه- كلية، وإن كان الإسقاط والإبراء من شخصٍ يصح تبرعه بالبعض دون البعض، صح فيما أذن الشرع به ولم يصح فيما عداه
**حكم الصلح على تأجيل معجل أو تعجيل مؤجل أو على بعض المال عوضاً عن بعض
**الصلح على الإسقاط والتأجيل
قال رحمه الله: قال رحمه الله: [وإن وضع بعض الحالّ وأجّل باقيه صح الإسقاط فقط] تقدَّم معنا مسألة الدين الحال والدين المؤجل، وبيّنا ذلك وذكرناه في باب القرض، وذكرنا الأحكام المترتبة على حلول الديون وتأجيلها.
فلو كان الدين حالاً وأجله.
أي: أقر به وصالحه، فأسقط عنه نصفه وجعل النصف الباقي مؤجلاً، صح الإسقاط ولم يصح التأجيل؛ لأنه لا يصح تأجيل الحال، وقد تقدّمت معنا هذه المسألة في مسألة القرض، أنه لا يصح تأجيل الديون الحالة لتعلُّق الذمم بها، وقد بينا وجه ذلك في موضعه في باب القرض.
ومراد المصنف هنا: أننا في تارةً نكون في باب البيع، وتارةً نكون في باب الإجارة، وتارةً نكون في باب الهبة، وتارةً نكون في باب القرض على نفس التفصيل الذي تقدَّم معنا، المهم أن المصنِّف يريد أن يعطيك مسألة بحيث تخرِّجها على أصلها وتعطي الحكم على الأصل الذي قرره الشرع في ذلك.
فأنت إذا عرفت أن الحالّ لا يتأجل، فإن كان الصلح قام على تأجيل الحالّ أو مؤجلٍ ومعجل، فإنه لا يصح، وكل ما سيذكره المصنف لا يخرج غالباً عن هذا الذي ذكرناه
**الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً
قال رحمه الله: [وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً أو بالعكس، أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه سنة، أو يبني له فوقه غرفة، أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوضٍ؛ لم يصح] قوله: (وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاًّ) هذه المسألة مثل المسألة المتقدمة.
ففي هذه الحالة يقول العلماء: لا يصح الصلح على أن يجعل بعض ماله عِوضاً عن بعض، ولا يمكن أن نسميه صلحاً، لأنه لا يمكن أن تجعل مالك في لقاء مالك، وإنما يكون الصلح بشيءٍ من خصمك لقاء شيءٍ منك، لكن أن يكون الكل منك أنت، وتجعل هذا مركباً على هذا، فليس هذا على الصلح الجاري على السَنَد المعتبر شرعاً (الصلح بالمقابلة).
فإنه إذا قال له: هذه الألف لقاء سيارتك، فيقول: قبلت، فالسيارة ملك للخصم، والألف ملكٌ لخصمه، وحصلت المقابلة، فهي معاوضة وبيعٌ تام، لكن إذا جعل بعض الألف لقاء بعض، والكل لرجل واحد، فإنه لا يصح أن يجعله بيعاً؛ لأن المال كله لشخصٍ واحد، ولا أن يجعله إجارة.
فليس من حقه أن يقول: أنا أعترف لك بالبيت على أن أسكنه شهراً، وليس من حقه أن يقول: أنا أعترف لك بالبيت على أن أسكنه سنة، ولا يصح أن يقول أيضاً: أعترف لك بالسيارة وأُقر لك بالسيارة على أن أركبها يوماً أو شهراً أو أسبوعاً أو سنة؛ لأن هذا كله مقابلة بحقي لقاء حقي، وهذا لا يمكن أن تتحقق به المقابلة المعتبرة شرعاً، فالمسألة مسألة تنظير.
وسواء جعله بالأعيان مثل أن يقول له: معجّل بمؤجل، أو مؤجل بمعجل، فالذي تعجل أسقطه في لقاء المؤجل، فالذي أسقطه والذي أخذه كلاهما حق من حقوقه، فأين المقابلة؟ فلا يصح معجل بمؤجل، ولا يصح مؤجل بمعجل، لأن فقه المسألة يدور حول معاوضة بملكية لشخص واحد ولطرف واحد وهو الخصم، ولا يصح ذلك ولا يتأتى بالمقابلة بأن صالحه بالمعجل على المؤجل أو العكس، أو على أن يعطِي له معجلاً لقاء مؤجل
**قاعدة ضع وتعجل
إذا قال الرجل للرجل: هذه مائة ألف قرض لي عليك -فأعطاه المائة ألف، وفجأة طرأ عليه ظرف، فقال له: يا فلان، أعطني تسعين ألفاً الآن، وأسامحك في عشرة آلاف، فأعطاه التسعين فهذا يجوز، وهذا ليس داخل في مسألتنا، لأن هذه المسألة فيها نص وحديث فلا تدخل في باب الصلح، إنما دخلت في باب القروض والإرفاق.
وفيها حديث بني النضير حينما أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير من المدينة، جاءوا يخاطبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم-: يا محمد! أموالنا عند أصحابك، يعني: نحن الآن سنرتحل، ولنا ديون على أصحابك، وأنت نبي ولا تظلم الناس حقوقهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ضعوا وتعجّلوا).
أي: ضعوا بعض الدين وتعجّلوا، فهذا جُعل عند العلماء أصل في الإرفاق في الديون.
فلو أنه أسقط بعض الدين وأعطاه البعض، صح ذلك.
وبهذا أفتى حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختار هذا القول الإمام ابن قدامة رحمه الله وطائفة من المحققين فقالوا: إنه يجوز لصاحب الدين أن يأخذ من المديون بعض الدين ويسامحه في البعض، بأن يكون الدين مثلاً إلى شهر رمضان، فيقول له: أعطني الآن في رجب وأنا أسامحك عن باقي ديني، فإنه يجوز ذلك ولا بأس به، إلا إذا كان في التقسيط المركّب على الأجل، لأنه إذا كان في التقسيط المركب على الأجل تمحَّض أن الإسقاط لقاء الأجل، وهذا عين المحظور الربوي الذي ذكرناه في مسألة ربا الجاهلية.
و (ضع وتعجَّل) فيها المشروع وفيها الممنوع، وقد بيّنا هذا في باب القرض، وأياً ما كان فإنه إذا قال له ذلك على سبيل المصالحة والمعاوضة لم يصح، وإذا كان على سبيل الإرفاق إسقاطاً صح؛ لأن له أن يُسقِط الكل، فيجوز له أن يسقط البعض
**الصلح عن عين على الانتفاع بها
قوله: (أو أقر له ببيت)، في الحالة الأولى كانت المقابلة والمصالحة بمعاوضة، فجَعَل بعض الدين لقاء بعض، ولكن هنا يُطالبك بجزءٍ من منفعة العين المختلف فيها، والتي أقرّ لك بها، فأنت خاصمته في عمارة، وقلت: العمارة لي، فقال: بل لي، ولما ترافعتما إلى القاضي؛ أقر عند القاضي أن العمارة لك، فقال لك: أصالحك على أن أسكن هذه العمارة شهراً ثم أخليها لك أو على أن أسكن هذه العمارة سنة ثم أعطيها لك، أو على أن أركب هذه السيارة شهراً، أو أن أصل بها إلى مكة ثم أعطيكها، فكل هذا لا يجوز، لأنه لو فتح الباب في مثل هذا لاغتصب كثير من الناس أموال الآخرين، فإذا ارتفعوا إلى القاضي قال المغتصب: اركب السيارة إلى مكة وأعطه حقه، ونحو ذلك، وهذا معروف، فيصير ذلك معونة على أكل أموال الناس بالباطل، فالشريعة أغلقت هذا الباب، وحينئذٍ يقول العلماء: إنه لا يصح؛ لأنه في هذه الحالة عاوضه عن جزءٍ من ماله لكن بجزء من ماله، وفيه فتح ذريعة أكل المال بالباطل.
ولذلك لا يحكم الشرع بصحة هذا النوع من المصالحة المبنية على المشارطة باستحقاق المنافع التي هي جزء الأعيان المستحقة، وكأنه صالحه بالبعض عن البعض، أو صالحه ببعض ماله عن كله.
إلا أن بعض العلماء يقول: يجوز في حال ما إذا كان ناظراً لوقفٍ أو كان ولياً لأيتام، ورأى أنه إذا خاصم هذا الخصم سيضيع المال كله، فاحتاج أن يصالحه ليقع الضرر على بعض المال دون كله، فقالوا: إن هذا يجوز للضرورة، واستدلوا على هذا بقوله تعالى في قصة الخضر مع موسى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فقالوا: إن الخضر كسر جزء السفينة وهو اللوح، وأفسد جزء السفينة لاستصلاح الكل، فقالوا: يجوز إذا كان ناظراً للوقف أو ولياً لأيتام أن يضحي بجزء المال لقاء كسب المال كله، فيجوز بالنسبة لولي الأيتام، ويكون المال مال الأيتام، ولكن لا يجوز ولا يحل لمن اغتصبه وأخذه بدون حق.
فهو في الظاهر يجوز أن ترضى بهذا دفعاً للضرر الأعظم، وذلك من باب ارتكاب أخف الضررين، لكن لا يحل للخصم أن يأخذ ذلك إذا كان يعلم أنه ليس له.
فقوله: [أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه سنة أو يبني له فوقه غرفة] أي: فكل هذا لا يجوز، وقد تقدمت الأمثلة ونحن دائماً نقول: المهم في كتب الفقه أن نفهم القاعدة؛ لأن الأمثلة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ممكن الآن أن يقول: (عمارة)، بدل (بيت)، ممكن أن يقول له: أنا أصالحك على هذه العمارة على أن أسكنها سنة، أو أسكنها شهراً، أو بالسيارة، لأن المسألة مسألة المنافع، والقاعدة عندنا قاعدة المنافع، والمهم لطالب العلم أن يكون عنده نوع من الفهم للضوابط والأصول العامة، حتى يستطيع أن يخرج المسائل النازلة عليها، أما لو حفظ أنها غرفة، وحفظ أنها دار، وأنه بر أو شعير أو ملح، وانحصر في الأمثلة القديمة؛ فلن يستطيع أن يطبقها على الأمثلة المعاصرة، فأياً ما كان فالعبرة أن يصالحه بالبعض عن الكل إما عيناً وإما منفعة
**الصلح على عبودية أو زوجية
قال رحمه الله: [أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية] (أو صالح مكلفاً) أي: حراً، (ليقر له بالعبودية) أي: لم يصح، لأن الحر لا يُسترق إلا بحكم الشرع.
والصلح على هذا الوجه يُحِل حراماً، ودليل هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إلا صلحاً أحل حراماً)، فقالوا: إن الحرام استرقاق الحر على هذا الوجه الذي لا يأذن به الشرع، فيعتبر لاغياً وفاسداً.
قال رحمه الله: [أو امرأة لتُقر له بالزوجية بعوض لم يصح] أي: كذلك لو أنه صالح امرأة لتقر له بالزوجية لم يصح، لأن هذا ليس بنكاح شرعي، فهو يتوصل به إلى محرّم؛ لأن المرأة أجنبية عنه، فلو قال: أصالحك على أن تعترفي بأنك زوجة لي وهي ليست بامرأة له، وخاصمها عند القاضي على أنها زوجة له، وليس هناك دليل على هذا، فأوعز إليها أن تُقِر أنها زوجة له من أجل أن يُسقط حقها، فإنه لا يجوز هذا، حتى لو اصطلح مع المرأة عن مخاصمته لها على أساس أن تقر له بالزوجية؛ لأنها أقرت بحرام، لأنها ليست بزوجة له، ولم يحكم شرع الله عز وجل بكونها زوجة له، فلا وجه لتحليل ما حرم الله.
وعلى هذا فالمسألة مندرجة تحت قوله: (إلا صلحاً أحل حراماً)، فهنا الصلح يحل الحرام، لأنه يتوصل إلى رق الحر بدون وجه شرعي، ويتوصل إلى الزوجية بدون وجه حق، وذلك لم يحكم به الشرع، فيُعتبر من تحليل ما حرّم الله.
ونسأل الله العظيم أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويجعل ما تعلمناه وعلمناه موجباً لرضوانه والفوز بعظيم رحمته وجنانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه
**الأسئلة
**حكم الرجوع عن الإقرار
**السؤال
من أقر بأمر فهل يُلزم بإقراره ولا يمكنه التراجع، أم يُستثنى من ذلك كمن أقر بالسرقة ونحوها؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أقر بحق لخصم فإنه يُطالب ويؤاخذ بهذا الإقرار، وهذه المسألة التي وردت في السؤال تُعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الإقرار.
والرجوع عن الإقرار لا يصح إلا في أحوال مستثناة، ومنها: حالة الإقرار بالحقوق الخاصة لله عز وجل، كأن يقر بالزنا -والعياذ بالله- فلو أنه أقر أنه زنا ثم رجع عن إقراره، فإنه يصح هذا الرجوع، سواء رجع قبل تنفيذ الحكم، أو رجع أثناء تنفيذ الحكم، مثلاً لو أن رجلاً بكراً أقر بالزنا، وثبت عند القاضي، ودوِّن عليه بإقراره أنه زنا، وقبل أن يُنفَّذ عليه حد الزنا رجع عن إقراره، فإن الرجوع ينفعه ويُحكم بذلك، ففي الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه: (أن ماعز بن مالك رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، قال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فرجع غير بعيد، ثم عاد وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه! فكرر أربع مرات، والنبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويدفعه، فلما كانت الرابعة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه؛ لأنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شك هل هو عاقل أو ليس بعاقل.
فمن شروط صحة الإقرار أن يكون المقر عاقلاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، فأُخبِر أنه غير سكران، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أبه جنون؟ فأُخبر أنه ليس بمجنون، فأمر به فرُجم)، فلما أُقيم عليه الحد رضي الله عنه وأرضاه، ورُمي بالحجارة؛ لأنه كان ثيباً، فلما أدركه حر الحجارة فرّ وهرب إلى الحرة، وهي الحرة الشرقية التي تسمى حرّة واقم، شرقي المدينة، فلما فرّ إليها أدركه رجل فضربه وقتله، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فر، قال: (هلا تركتموه يرجع، فلعله يتوب فيتوب الله عليه)، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لم يتركوه؛ لأنه رجع، فاعتبر فراره بمثابة الرجوع عن إقراره.
فقالوا: إنه إذا أقر بحدٍ كالزنا أو نحوه من حقوق الله الخالصة، فإنه إذا رجع عنه قُبل رجوعه، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله).
فالزنا والجرائم المتعلقة به كاللواط -أعاذنا الله من ذلك- ونحوها من الجرائم الخاصة التي يكون الحق فيها لله عز وجل، وكشرب الخمر ونحوه؛ فإن الأفضل فيها أن يستر الإنسان نفسه بستر الله، وأن يتوب فيما بينه وبين الله، وليس بملزم أن يأتي ويقر ويعترف؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ابتلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من أبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه حق الله).
لكن إذا كان هناك حق للغير كجرائم السرقة مثلاً، فالسرقة فيها حق المسروق منه، فالتوبة منه أن يتوب فيما بينه وبين الله، وأن يرد المال الذي سرقه إلى صاحبه، فليست التوبة بينه وبين الله فقط، بل هناك حق لآخر.
ففي السرقة لو أقر ثم رجع عن إقراره لم ينفعه الرجوع، فتقطع يده ويؤاخذ بإقراره، ويضمن المبلغ الذي سرقه، فالسرقة ليست من جنس الحقوق التي تقبل الرجوع، وهكذا بالنسبة لحقوق القتل ونحوها من الحقوق التي فيها اتصال بالمخلوقين، فإنه لا يُقبل فيها الرجوع.
وأما بالنسبة لحقوق الله عز وجل الخالصة كما يسميها العلماء رحمهم الله، فإنه ينفع فيها الرجوع عن الإقرار ويفيد، وهكذا لو حصل له خطأ في الإقرار، فرجع إلى القاضي وبين خطأه، وكانت هناك قرائن تدل على صدقه، فإنه يُقبل رجوعه على تفصيل قد يأتي إن شاء الله بيانه في باب الإقرار.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد والرشاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (330)
صـــــ(1) إلى صــ(23)
شرح زاد المستقنع -** باب الصلح [3]
الصلح ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صلح مع الإقرار، وصلح مع الإنكار، وصلح مع السكوت، وقد تكلم العلماء رحمهم الله على الصلح ومسائله وصوره وأحكامه وبعض المسائل المتفرعة عليه في باب الصلح.
ومما يدخل في الصلح: الحقوق المشتركة للمساكن والمزارع والدكاكين، وما يتعلق بذلك من التصرفات الجائز إحداثها في الطرق العامة أو الخاصة من بلكونة ودكة وميزاب ونحوها.
وهذه المسائل تهم كل مسلم، أي أن معرفتها مهمة لكل مسلم
**الصلح مع الإنكار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول الإمام المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله ثم صالح بمال، صح]: لا زال المصنف رحمه الله في معرض حديثه عن أحكام الصلح، وكنا في المجلس الماضي قد ذكرنا أن الصلح ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - صلح مع الإقرار.
- وصلح مع الإنكار.
- وصلح مع السكوت.
وذكرنا مقدمات كتاب الصلح وما يتعلق بالأدلة الشرعية التي دلت عليه، وبعد ذلك بينَّا النوع الأول وهو الصلح مع الإقرار.
ثم شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان النوع الثاني: وهو الصلح مع الإنكار.
فالصلح مع الإنكار: أن يدعي شخص على آخر حقاً ثم يرتفعان إلى القضاء.
وحتى تكون صورة الصلح مع الإنكار واضحة لابد من معرفة منهج الشريعة في القضاء: إذا ادعى شخص على آخر حقاً فقال مثلاً: لي على فلان ألف ريالٍ ديناً، فإن القاضي يسأل المدعى عليه: هل لفلان عليك ألف ريال؟ فإن قال: نعم.
فحينئذٍ ننتقل إلى صورة الصلح مع الإقرار، وإن قال: ليس له عليَّ شيء ولم أستدن منه ألفاً، فهذا يسمى إنكاراً، فإذا أنكر الخصم طولب المدعي بالبينة ويقال له: ائت ببينة تدل على صدق دعواك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل البينة في الدعاوى.
ففي قصة الكندي رضي الله عنه وأرضاه لما اختصما في البئر قال عليه الصلاة والسلام للمدعي عندما أنكر خصمه: (ألك بينة؟).
والمدعي مطالب بالبينة، فإن قال: ليس عندي بينة، طولب خصمُه المدعى عليه باليمين، فإذا وجهت اليمين إلى المدعى عليه فقد يفتدي عن هذه اليمين ويدفع عن نفسه بالصلح، فيصطلح مع خصمه قبل حلف اليمين؛ لأنه إذا حلف اليمين انقطعت الخصومة، وإنما الصلح قبل حلف اليمين، فيصالح صاحبه وتسقط عنه اليمين وتدفع.
قال صاحب التحفة في بيان هذه المسألة في القضاء: والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين فقوله: والمدعي مطالب بالبينه ..
..
يعني: من ادعى شيئاً طولب بالبينة عليه، قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس عند البيهقي وغيره: (البينة على المدعي) فقال الناظم رحمه الله: والمدعي مطالب بالبينه ..
..
أي: مطالب بالدليل الذي يدل ويبيِّن صدق دعواه.
.......
مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه يعني: سواء كان رجلاً صالحاً أو كاذباً، فلو كان أصدق الناس، ومعروفاً بالصدق ولا يكذب، فجاء إلى القاضي وقال: لي على فلان ألف ريالٍ، فلا تقبل دعواه إلَّا ببينة، وهذا معنى قول الناظم: ..
.
وحالة العموم فيه بينة أي: يستوي فيه الفاجر والبر.
والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين أي: نطالب المدعى عليه أن يحلف اليمين، ويقول: (والله ليس لفلان عليّ كذا) وهذه اليمين إذا حلفها صاحبها كاذباً غمسته في النار والعياذ بالله، وهي اليمين الغموس التي تكون في مقطع الحقوق، وهي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من حلف على يمين ليقتطع بها حق امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان) نسأل الله السلامة والعافية، ومن حلفها فإنه من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، نسأل الله العافية والسلامة.
فهذه اليمين أمرها صعب، فالشخص إذا ادعى عليه آخر قد يتورع ويقول: لا أحلف اليمين، فإذا لم يحلف اليمين وأراد أن يخرج من مشكلة حلف اليمين خرج بالصلح، وهذا يسمى الصلح مع الإنكار، وهو النوع الثاني
**الصلح مع السكوت
النوع الثالث: الصلح مع السكوت، فقال رحمه الله: [ومن ادعي عليه بحق فسكت] فذكر النوعين.
[سكت]: هذه صورة تخالف الصورتين السابقتين، وحاصلها كما يقول المصنف: [ومن ادعي عليه بعين أو دين].
(بعين): كما إذا قال رجل: هذا البيت الذي يسكنه فلان ملك لي، وأعطيته إياه عارية أو أعطيته إياها إجارة وانتهت الإجارة فأطالبه بالخروج.
فقال الذي في البيت: البيت بيتي وهو ملك لي؛ فأصبح الذي بداخل البيت مدعىً عليه، والذي خارج البيت مدعياً، فلما جيء إلى القضاء قيل: (هذه دعوى في عين)؛ فالبيت عين، والسيارة عين، والمزرعة عين، والأرض عين.
(أو دين): كقوله: لي على فلان ألف ريال أخذها قرضاً مني.
فهذه دعوى بدين، والمدعى عليه له ثلاثة أحوال: - أن يقر، وقد تقدمت أحكام الصلح في حال الإقرار.
- أن ينكر، كما بينا صورتها.
- أن يسكت، والسكوت كأن يقول له القاضي: يا فلان! فلان يدعي عليك بألف ريال ديناً، فهل له عندك ألف؟ فإن سكت ولم يجب بنعم أو لا، فليس بالمقرر ولا بالمنكر، وبعض العلماء يرى أنه إذا سكت أجبره القاضي بقوة وفرض عليه أن يتكلم بإقرار أو إنكار وإما منكراً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع القضاء إلا للفصل في الخصومات وقطع النزاعات، فلو كان كل شخص يدعى عليه يسكت لتهرب الناس من القضاء، فقالوا: يكلف بالإجبار أن يتكلم، إما مقراً أو منكراً، وقال صاحب التحفة رحمه الله: والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين ومن أبى إقراراً او إنكارا لخصمه كُلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي (ومن أبى إقراراً او إنكارا): أي: لم يقر ولم ينكر.
(لخصمه كلفه إجبارا).
أي: يضغط عليه القاضي ويجبره أن يثبت أو أن ينفي.
وفي بعض الأحيان يخشى الشخص النسيان فيقول: أن أخشى النسيان فلا أستطيع أن أثبت له ولا أستطيع أن أنكر، فالذي سكت ولم يتكلم بإثبات ولا بإنكار، فهذا قد أبى الإقرار وأبى الإنكار.
ومن أبى إقراراً أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي فإن تمادى وأصر على الامتناع، فتسمى هذه بحالة (النكول) وستأتينا في القضاء إن شاء الله، ويسمى ناكلاً عن اليمين، ويعطى حكم الناكل إذا امتنع عن اليمين ونكل عنها، فقال بعض العلماء: يعطى حكم الناكل وحينئذٍ نحكم عليه.
وقال بعض العلماء: نعتبر سكوته بمثابة الإقرار، ونحكم عليه.
وقال بعض العلماء: بل نعتبر سكوته وامتناعه عن الإجابة والإنكار قرينة، ونوجب على المدعي يميناً بالله مع دعواه فتعتضد اليمين مع إنكاره وتنزل منزلة الدليلين.
يعني: الشاهدين، ونحكم بذلك.
فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضى (أو بها) هو القول الثاني.
(وذا ارتضي): أي: رجح القول الثاني، ويسمونها يمين التهم، وسيأتي إن شاء الله بيانها في كتاب القضاء.
فالشاهد في هذه الحالة أنه إذا امتنع عن الإقرار أو الإنكار يسمى عند العلماء: (الصلح على السكوت)
**حكم الصلح مع الإنكار
الصلح مع الإنكار: اختلف فيه العلماء على قولين: قال بعض العلماء: لا يجوز الصلح إلا على الإقرار، وأما على الإنكار فإنه من أكل أموال الناس بالباطل ولا يجوز، وقالوا: وتوضيح ذلك: أنه إذا ادعي على شخص شيء قال فلان: لي عليك ألف ريالٍ.
فقال: ليس لك عليّ ألف ريالٍ، فأنكر، فإننا لو أجزنا له أن يصالح وهو يعلم أن لفلان عنده ألف ريالٍ، فيسقط الحق الأكثر بالأقل الذي صولح عليه، فأصبح الصلح في هذه الحالة وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل.
وقد يكون أحدهما كاذباً: إما المدعي أو المدعى عليه، فإذا كان المدعي كاذباً والمنكر صادقاً، فقد ادعي عليه زوراً وظلماً، وإما أن يكون العكس فيكون المدعي صادقاً والمنكر كاذباً، وفي كلتا الحالتين يؤكل المال بالباطل.
فإن كان المدعي يدعي والمدعى عليه ينكر ثم اصطلحا والمدعي كاذب فمعناه أن المدعي سيأكل ما اصطلح عليه بالباطل، وإن كان المدعى عليه كاذباً فمعناه أنه سيأخذ جزءاً من مال المدعي زوراً وظلماً ويعاوض بالأقل، لأن الصلح دائماً يكون بأقل من الشيء الذي فيه الخصومة.
قالوا: فهذا يقتضي التحريم، وهذا هو قول الشافعية، وقال به من السلف: ابن أبي ليلى الفقيه المشهور رحمة الله على الجميع.
وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع إلى القول بمشروعية الصلح مع الإنكار، واستدلوا بعموم الأدلة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على مشروعية الصلح دون فرق بين إنكار وإقرار، ولأن الإنسان قد يكون ناسياً لحق الغير فيريد أن يدفع عن نفسه الضرر فيصالحه عن حقه.
وأما قولهم: إن أحدهما كاذب، فجوابه أن الصلح مع الإنكار له حالتان: إما أن ينكر ويكون عالماً أنه مبطل فهذا لا يجوز له الصلح، والجمهور لما أجازوا صلح الإنكار أجازوه بشرط أن لا يكون عالماً بالحق، كشخص لا يدري.
فيحتمل أنه صادق ويحتمل أنه كاذب، ويريد أن يخرج من تبعة هذه اليمين بالصلح.
فالإنسان بشر وقد ينسى، كالتجار يعامل بعضهم بعضاً ثم ينسون مع كثرة الحقوق وكثرة المعاملات، والأقرباء يعامل بعضهم بعضاً، وأصحاب الصنعة الواحدة يعامل بعضهم بعضاً، فنحن نقول: إذا كان أحد الخصمين عالماً بالحقيقة لم يجز الصلح، حتى أن الجمهور الذين أجازوا الصلح اشترطوا -كما سيأتي عند المصنف- أن لا يكون عالماً بالحق، فإذا أصبح غير عالم بالحق انتفى الذي ذكره أصحاب القول الأول.
وبناءً على ذلك يجوز للإنسان على غالب ظنه أن يدعي وينكر، ويجوز له أن يصالح عما ادعى وعما أنكر إذا كان يعتقد أنه على صواب وحق، وذلك لعموم السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (الصلح جائز بين المسلمين) فإن هذا النص الذي رواه الترمذي وابن ماجة وأبو داود وابن حبان وصححه غير واحد -وإن كان الأقوى أنه حسن بالطرق والشواهد- يدل دلالة واضحة على أن الصلح جائز على العموم، سواء كان على إقرار أو على إنكار.
والقاعدة: (أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه) وليس هناك دليل يخصص صلح الإنكار عن صلح الإقرار، فترجح بهذا مذهب الجمهور أنه يصح الصلح على الإنكار كما يصح على الإقرار، ودليل النظر يدل على ذلك، فإن صلح الإنكار كصلح الإقرار بجامع كون كل منهما يقطع الخصومة ويوجب دفع النزاع والضرر المترتب على الخصومة بين الطرفين، وعلى هذا فيشرع صلح الإنكار، كما يشرع صلح الإقرار
**حكم الصلح مع السكوت
أما بالنسبة لحالة السكوت فالشافعية أيضاً يقولون: لا يجوز.
والجمهور يقولون بالجواز، وينزلونه منزلة صلح الإنكار؛ لأن الساكت في حكم المنكر، وقد قالوا: (لا ينسب لساكت قول) فيجوز له أن يصالحه مع السكوت، وابن أبي ليلى مع أنه وافق الشافعية في عدم صحة صلح الإنكار إلا أنه وافق الجمهور في جواز وصحة صلح السكوت.
إذاً: أصبح عندنا مسألتان: - مسألة صلح الإنكار وفيها قولان: للجمهور الجواز.
وللشافعية وابن أبي ليلى المنع.
والصحيح قول الجمهور لعموم الأدلة وقوتها.
ومسألة: صلح السكوت، وفيه القولان أيضاً، إلا أن ابن أبي ليلى رحمه الله وافق الجمهور فقال بالجواز وقوى ذلك؛ لأنه ليس بمنكر، وإنما هو ساكت فيكون في حكم المقر.
وعلى هذا فمذهب الجمهور جواز صحة الصلح مع الإنكار والسكوت وهو الصحيح.
قول المصنف: [ومن ادعي عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله]: قوله: (وهو يجهله) هذا شرط، أي: ولو كان يعلمه لم يجز.
إذاً: كلمة (وهو يجهله) شرط، أي والحال أنه يجهله، فتصير شرطاً في جواز صلح الإنكار وصلح السكوت، فلو سألك سائل: أين محل الخلاف بين الجمهور والشافعية في صلح الإنكار وصلح السكوت؟ تقول: محل ذلك إذا كان الخصم يجهل، أما إذا كان يعلم فإنه لا يجوز له أن يصالح بالإجماع، بل الواجب عليه شرعاً أن يرد الحقوق إلى أهلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله منها) فأمر برد المظالم ورد الحقوق إلى أصحابها.
قال المصنف رحمه الله: [ثم صالح بمال صح]: مثال ذلك: قال عمرو: هذه الدار التي يسكنها زيد ملك لي، فقال زيد: بل ملك لي، فأنكر فاختصما إلى القاضي، فقيل لعمرو المدعي: ألك بينة؟ قال: ليس عندي بينة.
قيل لزيد: احلف.
فقال: أصطلح مع خصمي، فصالحه الخصم على أن يعطيه عشرة آلاف ريال بدلاً عن هذه الدار التي يدعيها، فحينئذٍ يصبح كأنه باع حقه في الدار بعشرة آلاف فتنتقل المسألة من باب الصلح إلى باب البيع، وتنطبق عليها أحكام البيع.
إذا قلنا: تنطبق أحكام البيع فلا بد وأن يكون الشيء الذي يعاوض عليه معلوماً بين الطرفين، وأن يكون من جنس ما يجوز بيعه، ويكون مملوكاً، ولا يجوز أن يصالحه بشيء لا يملكه، إلى غير ذلك من شروط صحة البيع.
فلو أنه صالحه على شيء مجهول لم يصح، ولو قال له: هذه الدار التي تدعيها عليّ أصالحك على شيء أرضيك به لم يصح، لأنه شيء مجهول، ولا تصح المعاوضة بالمجهول.
ولو صالحه على وجه يقع به الربا، كأن يقول: لي على زيد ألف ريال.
فإن قال زيد: ليس لك عليّ ألف ريال.
وقال: أعطيك بدلاً منها تسعمائة، لم يصح؛ لأن الألف والتسعمائة ربا فضل فلا يصح أن يعاوضه بها، ولو قال له: أعطيك بدلاً عنها ثمانمائة صار ربا فضل، ولو قال: أعطيك عنها ما يعادلها من الدولارات -مثلاً- لو أن الألف تصرف بثلاثمائة وخمسين دولاراً وقال له: أعطيك بدل الألف ثلاثمائة وخمسين دولاراً.
فإن قال: قبلت.
وجب أن تكون يداً بيد؛ لأنه صرف، تسري عليه أحكام البيع والصرف على التصوير الذي ذكرناه في صلح الإقرار
**مآل الصلح إلى البيع في حق المدعي وترتب أحكامه عليه
قال رحمه الله: [وهو للمدعي بيع يرد معيبه ويفسخ الصلح]
**الرد بالعيب وفسخ الصلح
(وهو للمدعي): ادعيت أن هذه الدار التي يسكنها زيد ملك لي، فأنكر زيد وقال: أُعطيك بدل هذه الدار التي تدعيها سيارة.
فقلت: قبلت.
فلما قلت: قبلت.
صار بيعاً في حقه، فلو أخذت السيارة سرت عليها أحكام البيع، ولو وجدت السيارة معيبة وظهر بها عيب فإني أملك ردها.
فيفسخ العقد الذي بينهما على أنه عقد بيع، وينفسخ الصلح وترجع القضية من جديد، إما أن يصالحه بعوض آخر يرضيه، وإما أن تستمر القضية ويطالب بحلف اليمين على الأصل المعروف في القضاء.
إذاً: إذا جرى بين الطرفين صلح مع الإنكار ومعاوضة ونقله من حقه إلى حق آخر برضا الطرفين، فإنه تسري عليه أحكام البيع إذا كان في صورة البيع، وتسري عليها أحكام الصرف إن كان في صورة الصرف، وتسري عليها أحكام الإجارة إن كان في حكم الإجارة أو في صورة الإجارة
**الأخذ بالشفعة في الصلح
[ويُؤخذ منه بشفعة]: يأخذ هذا الحق بشفعة تسري عليه أحكام البيع، مثال ذلك: إذا قلت: هذه الدار التي يسكنها زيد ملك لي.
فقال زيد: بل ملك لي.
واختصمنا، فإن الدار دار زيد حتى أثبت أنها داري، فأنكر زيد، واصطلحنا وقال لي زيد: أعطيك بدلاً عن هذه الدار نصف أرضي التي بيني وبين محمد.
فحينئذٍ عاوضني عن الدار بنصف الأرض، وإذا عاوضني بنصف الأرض فكأنه باعني نصف الأرض فيسري عليه الشفعة لشريكه، وسيأتينا إن شاء الله في باب الشفعة.
وقبل أن نبين صورة المسألة هنا نريد أن نعرف ما هي الشفعة؟ الشفعة: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن اشتراها منه بالثمن المتفق عليه، دون أن يزيد.
مثلاً: إذا كنت أنا وأنت في أرض، قد اشترينا هذه الأرض بمائة ألف فدفعت أنت خمسين ألفاً ودفعت أنا خمسين ألفاً، فمعناه: نصفها لك ونصفها لي، فلو أنك بعت نصيبك لطرف آخر كان من حقي أن آخذ منه ذلك بنفس المبلغ الذي اتفقت معه، سواء رضي أو لم يرض.
فقولهم: (استحقاق) أي: من حقي أن أنتزع حصة شريكي ممن اشتراها بنفس الثمن، فلو باعها بعشرين ألف إلى صاحبه فإني آتي وأقول للقاضي: أنا شافع، وأعطيه عشرين ألفاً وأملك الأرض بكاملها.
وهذا فيه حِكمة من الشرع؛ لأنك قد ترضى بزيد شريكاً ولا ترضى بغيره، فدخول الشركاء على غير الشراكة فيه ضرر وأذية، لأنك قد ترضى بشخص ولا ترضى بآخر، فإذا باع شريكك كان من حقك أن تشفع، لكن بشرط أن تشفع مباشرة، فلو علمت وسكت سقط حقك، وسيأتي إن شاء الله تفصيل أحكام الشفعاء.
فالمصنف يأتي بالأمثلة، والمسألة ليست مسألة شفعة أو غيرها فالمصنف يريد التقعيد -كما ذكرنا ذلك غير مرة- وبينا أن الأمثلة التي تذكر في كتب الفقه المراد بها التقعيد، ومعرفة أصل المسألة، فأصل المسألة أنه إذا نقلك وحكمت بكونه بيعاً فإن البيع إذا كان فيه صورة الشفعة جرت عليه أحكام الشفعة، فلو أعطاك عوضاً عنه أرضاً مشتركة بينه وبين غيره، فإن ذلك الغير يملك انتزاعه وتسري عليه أحكام الشفعة
**الصلح في حق المدعى عليه إبراء
قال رحمه الله: [وللآخر إبراء فلا رد ولا شفعة]: الآخر هو المدعى عليه، فهي للمدعي بيع، وللآخر الذي هو المدعى عليه إبراء، فإذا كان الدار داره والأرض أرضه وأنا دخلت عليه، فإنه إذا أعطاني بدلاً عنها ما أرضى فقد أبرأ ذمته
**الصلح لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً
قال رحمه الله: [وإن كذب أحدهما لم يصح في حقه باطناً وما أخذه حرام]: أي: إن كان أحدهما كاذباً والعياذ بالله، لم يصح في حقه أخذه؛ لأن أموال الناس لا تنتزع بالحيل، والأصل أن هذا المال ملك لصاحبه حتى يدل الدليل على جواز ملكيته لمن أخذه؛ لقوله تعالى: {َلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188].
مثلاً: شخص عنده سيارة، فجاء آخر وادعى أن السيارة له، وهو يعلم أن السيارة ليست له، وصاحب السيارة يريد أن ينتفع بالسيارة، لكنه إذا دخل في الخصومات والنزاعات سيطول عليه الأمر، فلما جاءه قال قال له: يا أخي! ما دمت تدعي أن هذه السيارة لك وهي سيارتي، أنا أعطيك شيئاً في مقابلها، -مثلاً: خمسة آلاف- فإن قال: قبلت.
فإن الخمسة آلاف إذا أخذها وهو يعلم أنه كاذب فهي سحت وحرام، ولو قضى بها القاضي؛ فإنه لا يُستحَل الحرام بحكمه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقضي له بقطعة من نار فليستقل أو ليستكثر) أي: أن حكم القاضي لا يحل الحرام ولا يحرم الحلال، فهو حكم في الظاهر، لكن في الحقيقة والباطن لا يتغير الحكم.
إذاً: لو أنهما اصطلحا وهو يعلم أنه كاذب في دعواه فالمال عليه حرام.
والعكس لو أن الذي في الدار يعلم أن الدار دار زيد، وأنكر أنها لزيد وأنه أخذها إجارة ثم ادعاها وقال: هي داري، أو أخذ السيارة ثم ادعاها له، فإنه في هذه الحالة لو صالحه عنها بشيء فإنه يصالح عن مال سحت وحرام، ولا يحل له بالصلح شيء.
وكأن المصنف يقول: (الصلح لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال)، وهذا تقدم معنا، وفي نص الحديث (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراما)
**حكم الصلح في الحدود
قال رحمه الله تعالى: [ولا يصح بعوض عن حد سرقة]: ولا يصح الصلح بعوض عن حد سرقة، وزناً، وخمر ونحو ذلك؛ لأن الحدود فيها حقان: حق للخصم.
وحق لله، فإذا كانت حدوداً فيها حقوق مشتركة يكون فيها حقان.
وإذا كانت حدوداً خالصة فليس فيها إلا حق واحد.
والحدود ستأتي إن شاء الله.
مثلاً: شرب الخمر الحق فيه لله، وفائدة قوله: (إن الحق لله): أن شارب الخمر إذا تاب فإنه يتوب فيما بينه وبين الله، ولا يذهب إلى أحد ويستسمح منه، لكن القاذف إذا قذف امرأة واتهمها بالزنا والعياذ بالله وهو يعلم أنه كاذب فهنا حقان: - حق لله بانتهاك الحد الذي حرمه.
- وحق للمخلوق؛ لأنه دنس عرض هذه المرأة وآذاها في عرضها، فلا توبة له إلا إذا حللته من مظلمتها.
إذاً: حد القذف فيه حقان، وكذا حد السرقة فيه نفس الحكم، فالسارق منتهك لحقين: - حق الله عز وجل بمعصيته وانتهاك حدوده؛ لأن الله حرم عليه أن يسرق مال أخيه المسلم.
- وحق لأخيه المسلم وهو المال الذي أخذه.
فيجب عليه رد المال الذي أخذه، ويجب عليه التوبة فيما بينه وبين الله، هذا من حيث الأصل العام قبل أن ترفع إلى القاضي أما إذا رفعت إلى القاضي وبلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفع، ولو تنازل صاحب المال المسروق لم يسقط الحد؛ لأن صفوان رضي الله عنه وأرضاه كان نائماً بالمسجد وتحته رداؤه، فجاء السارق وسرق رداءه من تحت رأسه، -وكون الرداء تحت الرأس فهذا حرز كما سيأتينا إن شاء الله في باب السرقة، فلما سرقه استيقظ صفوان وأدركه، وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد السارق، فلما علم صفوان أن فيها قطع يد، قال: أسامحه، وقال: هو له يا رسول الله -أي: أشفق على الرجل أن تقطع يده بهذا الرداء- فقال صلى الله عليه وسلم: هلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟! فمسألة الصلح عن الحدود والاعتداءات تكون قبل أن تصل إلى السلطان، كالزنا والسرقة والقذف؛ لأنها مشتركة بين حق الله وحق المخلوق، لكن في الحقوق الخالصة كشخص سب شخصاً ولم يصل إلى القذف، كأن قال له: أنت كالبهيمة، أو سبه سباً لا يصل إلى الحد والقذف، فرفعه إلى القاضي يشتكيه، ففيه التعزير، والتعزير فيه الحق للمخلوق، فإن قال للقاضي: سامحته فحينئذٍ يسقط حقه، وقال بعض العلماء: بل يعزره القاضي لانتهاكه حد الله من وجه آخر، وهو أن الله حرم عليه أذية المسلم.
والشاهد: مسألة حق الله وحق المخلوق، ففي السرقة لو سرق مال أخيه المسلم وجاء يريد أن يرفعه إلى القاضي فقال: يا فلان! لا ترفعني إلى القاضي.
فإن قال: بل أرفعك.
فقال له: خذ عشرة آلاف ولا ترفعني إلى القاضي.
فإن أخذ العشرة آلاف، فالعشرة آلاف سحت وحرام لا تحل له؛ لأن الذي يستحقه بالسرقة هو المال المسروق، والزائد عن ذلك ليس ملكاً له، فيأخذ المال المسروق ويستر أخاه المسلم، وليس من حقه أن يأخذ عوضاً على ستره؛ لأن الستر ليس من جنس ما تدخله المعاوضات.
كذلك أيضاً حد القذف: فلو قذف امرأة أو قذف رجلاً فقال: سأرفعك إلى القاضي وكان عنده شهود وبينة، فقال له: أعطيك عشرة آلاف وتتنازل عن قضيتك، فليس من حقه هذا، فإما أن يسامحه وأجره على الله وإما أن يرفعه إلى القاضي، أما أن يأخذ عوضاً بالمال على شيء ليس بمحل للمعاوضة فلا؛ لأن هذه الحقوق ليست بمحل للمعاوضة، وليست بمحل للمقابلة المالية، فحينئذٍ لا يصح أكل المال لقاء هذه.
فقال رحمه الله: [عن سرقة وقذف]: كذلك، وزناً، وشرب خمر.
وإنما ذكر السرقة؛ لأن الحق فيها مشترك، فإذا كان هذا في السرقة الذي فيها الحق المشترك فمن باب أولى في الزنا وشرب الخمر الذي فيه الحق خالصٌ لله عز وجل، وهذا من دقة المصنف رحمه الله أنه نبه على السرقة؛ لأن الحق فيها مشترك بين المخلوق والخالق
**حكم الصلح على إسقاط حق الشفعة
[ولا حق شفعة]: مثلما ذكرنا في الشفعة: لي أرض وشريكي فيها زيد، فبعت نصيبي إلى عمرو بخمسمائة ألف مثلاً، فلما اشتراها عمرو أراد زيد أن يشفع؛ لأن زيداً شريك لي، وقلنا: إن الشريك من حقه أن يشفع فينتزع حصة شريكه ممن اشتراها بالثمن المتفق عليه الذي هو خمسمائة ألف.
فلما أراد زيد الذي هو شريك لي أن يشفع قال له عمرو: أنا أرغب في هذه الأرض وأرغب في هذا النصف، فأريد أن تسكت عن دعواك بالشفعة وأعطيك عشرة آلاف ريال، أو تسكت عن دعواك بالشفعة وأعطيك أرضي الفلانية، مراضاة على ذلك، لم يصح.
والسبب في هذا أن الشفعة شرعها الله دفعاً للضرر عن الشريك، فإذا أخذ العوض دل على أنه لا ضرر عليه بدخول هذا الشريك، فإذا تم بينهما صلح وأعطاه الخمسة آلاف على أن يسكت عن الشفعة وارتفعا إلى القاضي أمره القاضي برد الخمسة آلاف وأسقط حقه بالشفعة؛ أي: يصبح خاسراً من الوجهين، لا هو رجع إلى الشفعة، ولا هو أخذ المال الذي اتفقا عليه.
في هذه الحالة نقول: كيف أسقطنا الصلح؟ قالوا: لأن استحقاق الانتزاع مبني على خوف الضرر، فلما قَبل به شريكاً دل على أنه لا ضرر، وأن من مثله يُقبل كشريك، فكونه أسقط ورضي بإسقاط الحق واعترف أنه لا شفعة ورضي بذلك فإنا نسقط حقه؛ لأن كل شريك سكت عن حقه أو بان منه ما يدل على الرضا بالشريك يسقط حقه في الشفعة، ثم بعد ذلك تسقط الخمسة آلاف لأنها عوض عما لا معاوضة فيه، فاستحقاق الانتزاع ليس من جنس ما يباع ويشترى، فلا يملك أن يعاوضه عنه
**حكم الصلح على ترك الشهادة
[بترك شهادة]: الشهادة نعمة من الله سبحانه وتعالى على الناس وعلى القضاء، وهي توصل الحق لصاحبه.
ولذلك يقول القاضي أبو أمية شريح الكندي رحمه الله، وكان قاضياً لثلاثة من الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، عمر وعثمان وعلي وهو إمام من أئمة القضاء، وكانت له حكم عجيبة، يقول رحمه الله: (إن القضاء بلاء) وفي رواية: (إن القضاء جمرة) يعني: ناراً وعذاباً (فنحه عنك بعودين) فالجمرة تدفعها بعودين، والعودان هما الشاهدان العدلان.
فإذا جاء الشاهدان العدلان عرفت صدق المدعي في دعواه فأوصلت الحق لصاحبه، فالشهادة تعين على الحق، وتعين على الوصول إلى الحق.
فإذا استُخدم التزوير والكذب أو كُتمت الشهادة ضاعت الحقوق، فالذي يكتم الشهادة يظلم المظلوم ويكون معيناً للظالم على ظلمه؛ لأنه لو نطق بالحق لعرف القاضي الحق وأوصله إلى صاحبه، فهو ظالم للمظلوم، وظالم للقاضي، لأن القاضي سيحكم أن المدعى عليه بريء، مع أنه فعلاً متهم ومطالب، فلما سكت الشهود حكم بالباطل.
فيصبح الساكت عن الشهادة مضراً بصاحب الحق، حيث إنه لم يتوصل إلى حقه، ومضراً بالقضاء، وخائناً للأمانة؛ لأن الشهادة أمانة، والله تعالى بيّن ذلك بقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] فشهد الله عز وجل بأنها مظلمة وأنها إثم، وقال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فهي معونة على الإثم والعدوان إذا كتمت.
وعلى هذا فلو أن رجلاً شهد بالحق وهو يعلم أن فلاناً صادق في دعواه، فقال المشهود عليه للشاهدين: نعطيكما عشرة آلاف ريال، وتسكتا؛ فإنها رشوة، فكما أن القاضي يأخذ المال رشوة للحكم بالباطل؛ فإن الشاهد أخذ المال لسكوته عن الشهادة فيتوصل بها إلى ظلم المظلوم وإعانة الظالم، فلا يجوز أخذ العوض على كتمان الشهادة.
لكن لو كانت الشهادة في حق يسع السكوت عنه.
مثلاً: من رأى رجلاً يزني بامرأة فإن من حقه أن يسكت، وإذا سكت وسترهما فإن الله يستره، ويجوز ذلك ويشرع؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله) وأجمع العلماء على مشروعية الستر، فلو قال له قائل: اسكت ولا تشهد وأعطيك.
فهل يجوز أن يأخذ؟ نقول كما قال الأئمة رحمهم الله: إنه إذا سكت في هذه الحالة فإن الشهادة في الأصل حسبة لله، فإذا سكت عنها لله قبل السكوت، لكن إذا سكت عنها من أجل المال، فقد أخذ المال بدون حق؛ لأنها ليست من جنس ما يعاوض عنه؛ ولأن السكوت عبادة لله، والعبادات لا تجوز المعاوضة عليها، هذا بالنسبة لكتمان الشهادة.
[وتسقط الشفعة والحد]: يعني: إذا أعطاه المال من أجل أن يسكت عن الحد وسكت سقط الحد، ويبوء بإثمه والعياذ بالله إن كان فيه ظلم، وكذلك بالنسبة للشفعة فإنه إذا رضي أن يناقل عنها وينتقل؛ فإنه لا تصح المعاوضة وتسقط الشفعة، فلا هو أخذ المال ولا هو أدرك حقه بالشفعة
**مسائل الازدحام في الحقوق
قال رحمه الله: [وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله]: من هذه الجملة فما بعد سندخل في مسائل جديدة، وهي التي تسمى مسائل الازدحام في الحقوق، ومن دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم يذكرونها بعد الصلح، حتى ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله وهو من القرون الأول من أئمة السلف، كما في مختصر المزني حيث ذكر عنه مسائل الازدحام بعد الصلح، والمناسبة واضحة؛ لأن الازدحام دائماً في الحقوق يقع فيه الصلح.
فهم يذكرون الصلح كقاعدة عامة في الإقرار والإنكار، ثم بعد ذلك يدخلون مسائل الازدحام، وهذا منهج ورد عليه الأئمة من الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة وأتباعهم رحمة الله عليهم.
فلما فرغ رحمه الله من مسائل الحقوق الخاصة شرع في الحقوق العامة.
الحقوق العامة فيها مسألة الازدحام في الحق الخاص والحق العام، خاصة في الجيران، فلو كان لشخص شجرة ولهذه الشجرة غصن، فأطل الغصن على أرض جاره، فالجار سيتضرر من هذا الغصن بتساقط الورق، أو بشغله إذا أراد أن يرفع شيئاً أو يضع شيئاً فلا يستطيع؛ لأن الهواء قد شغل بالغصن.
هناك قاعدة نذكرها قبل أن ندخل في مسائل الازدحام: من ملك أرضاً ملك سماءها، الذي هو الهواء، وملك قرارها الذي هو الجوف.
فلو أنك ملكت (عشرة أمتار × عشرة أمتار) واشتريتها بمالك، فصارت ملكاً شرعياً ثابتاً، فأنت تملك الهواء وتملك الأرض، فليس من حق أحد أن يزاحمك في هوائها، وليس من حق أحد أن يزاحمك في قرارها هذا أصل.
دليل هذا الأصل قوله عليه الصلاة والسلام: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين يوم القيامة) فجعله معذباً بأسفل الأرض كعذابه بأعلاه؛ لأنه باغتصابه للأعلى كان مغتصباً للأسفل، فدل على أن أسفل الأرض وأعلاها حكمه سواء، وتفرعت على هذا أحكام شرعية في المعاملات والعبادات.
ومن الأحكام في العبادات: أن من صلى في سقف المسجد الحرام نال أجر المائة ألف كما لو صلى في أسفله، وأن المعتكف لو صعد إلى سطح المسجد فإنه يصح اعتكافه ولا يبطل؛ لأنه لم يخرج عن المسجد، شريطة أن يكون خروجه للسطح من داخل المسجد لا من خارجه، وتفرع عليه مسألة الطواف في الدور الثاني؛ لأن الطواف كالصلاة، والصلاة تجوز في أعلاه كما تجوز لمن أسفله.
وتفرع عليه السعي في الدور الثاني إلا أن السعي أضعف من الطواف، ولذلك اختلف العلماء المعاصرين فيه؛ لأن هناك فرقاً بينهما من جهة قوله: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] وهذه البينية (بِهِمَا) أي: بينهما؛ لأن الباء للظرفية ومن معاني الباء.
تعدَّ لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلاء وزد بعضهم ظرفاً يميناً تحز معانيها كلها هذه كلها معانٍ للباء، فلما قال: {يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] أي: بينهما، بخلاف الطواف بالبيت فإنه صلاة، وجاء الأصل الشرعي أنه يجوز أن يصلي على أبي قبيس، وقعيقعان مع أن المصلي عليهما يسامت الهواء ولا يسامت الكعبة.
فدل على مشروعية الطواف مع مسامتة الهواء دون مسامتة الجذر، لكن بالنسبة للسعي فلا يشرع بمسامتة الهواء عند من يرى أن الأرض مستحقة للسعي بدليل الهرولة في هذا الموضع المخصوص -وإن كان يعترض عليه بالهرولة في الرمل- هذا القول مردود؛ لأن الهرولة ليست للموضع وإنما هي للسنة المتبعة بالرؤية.
فالشاهد أن المسألة عند من يقول: بأنه يجوز السعي -هو قول له وجهه ودليله- لأنه ينظر إلى أن الأسفل كالأعلى وأن الأعلى كالأسفل، فمن ملك أرضاً ملك هواها، وملك علوها وسفلها، ويتفرع عليها بطلان بيع الشقق؛ لأن الشقة إذا كانت في الأرض وبيعت فسطحها ملك لمن ملك الشقة، وإن استحدث شقة ثانية فقد استحدثها على ملك الغير، وصار على هذا من ملك الأسفل من الشقة ملك أعلاها وإن علا، فلو أنه قيل له إنما يملك الشقة السفلى ولا يملك العليا ناقض الأصل.
ولذلك ما يعمل به اليوم من قيام البعض بشراء أرض ثم يبني عليها عمارة، ويقسم العمارة على أربعة، وكل يأخذ دوراً، فأصبحت العمارة منقسمة على أربعة ويصبح السطح للمالك الحقيقي، ثم يبني المالك الحقيقي شقة أخرى ويبيعها ويقول: أنا ما بعت له إلا الشقة، فأصبح الملك في هذه الحالة متردداً، ويصبح الملك قابلاً للزيادة، وقابلاً للغرر، وهذا يخالف مسألة أن من ملك أرضاً ملك سماءها.
فلو نازع وقال: الشقة العليا لا تملك بالسفلى نوزع بالأصول التي ذكرناها، وقلنا: كيف تصحح الاعتكاف لمن يعتكف بسطح المسجد مع أنه ليس في قراره؟ ومعنى ذلك أنك أعطيت الأعلى حكم الأسفل، وتقول له أيضاً: كيف تصحح الطواف بالدور الثاني، فمعناه أنك تقول: إن من ملك الأرض ملك سماها، وأن علوي الأرض كأسفلها وإلا انتقض قولك في البيع، إذا قلت: بجواز بيع الشقة.
فالشاهد في مسألة سقوط الغصن في ملك الغير، أن الغصن يكون قد جاء على ملك الغير فالهواء ملك لصاحب الأرض، فإن قال صاحب الأرض: الهواء ملك لي، فارفع هذا الغصن عني، فقال: لن أزيله.
حينئذٍ من حقه أن يلوي هذا الغصن، سواء لحقه منه ضرر أو لم يلحقه، فمن حقه أن يقول: لا أريد هذا الغصن أن يطل على أرضي، فهذه أرضه، ومن حقه أن يأذن لمن يشاء ويمنع من يشاء، فإن أصر حل له أن يقطع هذا الزائد من الغصن؛ لأنه اعتداء عليه واعتداء على ملكه، لكن بعد أن يستوفي ما ذكرناه.
قال رحمه الله: [فإن أبى لواه إن أمكن] أي: يحرفه ويصرفه عن أرضه.
[وإلا فله قطعه]: أي: من حقه أن يقطعه ولا يطالبه صاحبه بالضمان
**حكم الاستطراق في الدرب النافذ
قال رحمه الله تعالى: [ويجوز في الدرب النافذ فتح الأبواب للاستطراق]: الحقيقة أن من يقرأ كتب العلماء والأئمة خاصة في الفقه يحس أنهم تركوا ثروة عظيمة لنا فرحمة الله عليهم، وفي بعض الأحيان تنظر إلى الفقهاء فإذا بهم أئمة في كل شيء.
إذا جئت إلى باب الطيب مثلاً في محذورات الإحرام تقرأ فروع الطيب، وما هو الطيب المؤثر في الإحرام؟ ما كان أصله طيباً، وما كان الطيب فيه تبع، وما يؤثر في الطعام، وما يؤثر في البدن، وغير ذلك من الفروع حتى تكاد تقول: إن الفقهاء عطارون.
وإذا أخذت مسائل النفاس وأحكام النفاس والولادة، فإذا أسقط المولود قبل تمام خلقته أو بعد تمام خلقته، تكاد تقول إنهم أطباء، ثم تأتي وتدخل في مسائل ازدحام الحقوق فتظنهم مهندسين، وهذا من التقعيد والتأصيل وضبط المسائل، فرحمة الله عليهم، ولكن هذه الثروة تحتاج من يعتني بها ويتأملها، ويتمعن فيها ويقررها على أصول الشريعة؛ لأنهم أئمة ما كانوا يأتون بشيء من عندهم، وإنما كانوا يستنيرون بنور الشرع، وهدي الكتاب والسنة في إعطاء الأحكام، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
ومسألة الغصن ليست منحصرة في الغصن بل هي أصل لغيره، فكل جار أطل على جاره بشيء فيه ضرر وأذية فمن حقه أن يمنعه، وحتى لو لم يكن فيه ضرر عليه، فمن حقه أن يقول: ارفع هذا عني.
وتقول: هو كغصن الشجرة، وهذا ما يسمونه بالتخريج، والتخريج أن تقرر المسألة القديمة بكلام العلماء بدليلها ثم تأتي للمسألة المعاصرة وتقول: هذه المسألة كمسألة الغصن، فتعطي المسألة المعاصرة حكم المسألة القديمة، وهذا من تخريج النازلة على المسألة القديمة.
مثلاً: الطريق النافذ: كان في القديم نظام البيوت أن يكون الحي والمجموعة من البيوت -عشرة بيوت مثلاً- تطل على حوش واحد -مثلاً- والأبواب كلها تطل على هذا الحوش، ويوجد طريق ينفذ من هذا الحي الذي فيه الأحواش إلى خارج المنطقة التي فيها البيوت، ويسمونه طريقاً غير نافذ، إذا كان بحي مغلق، وقد يكون الطريق نافذاً لحي غير مغلق، مثل أن يأتي الطريق في وسط الأحياء، مثل الشارع الذي يكون اليوم بين الفلل أو بين العمائر والبيوت، فهذا يسمونه الطريق النافذ، ففي هذه الحالة إذا كان الطريق نافذاً فإنه يشترك فيه عموم المسلمين.
إلا أنه في حالة كونه على حي أو على حوش أو حارة يسمى في القديم خاصاً، فحينئذٍ يكون حكمه أضيق مما لو كان طريقاً سابلاً للجميع، فإذا كان على حي وحارة خاصة فإنه يشرع ويجوز أن يستثنى برضا أهل الحي، ولكن إذا كان طريقاً عاماً لم يكن الإذن لأهل الحي؛ لأن الحق فيه ليس لحي مخصوص وإنما هو لعموم الناس، فهذا هو الفرق بين الصورتين.
و (الاستطراق): استفعال من الطرق.
أي: يجوز أن تفتح باباً من أجل أن يكون مخرجاً لك على هذا الطريق.
لو أن عمارة لها منفذ على طريق فيجوز لأي إنسان أن يفتح عليها باب؛ لأن الطريق للجميع، فليس من حق أحد أن يمنعني أن أفتح باباً في عمارتي أو بنايتي أو بيتي على هذا الطريق.
هذا من حيث الأصل العام
**حكم إخراج الرواشن والبلكونات
[لا إخراج روشن]: الرواشن موجودة في البيوت القديمة وتكون من الخشب عادة، وإن كان أصلها وقرارها مثبت في نفس الجدار بخشب أو حديد أو نحوه، فملكيتك للبيت هو الأصل المسامت للقرار لا ما خرج عن ذلك، وإنما قال: (لا إخراج روشن)؛ لأن الروشن إذا خرج زحف على الطريق؛ ولأن فضاء الطريق للطريق؛ ولأن الفضاء تابع للأصل، فإذا أبرز الروشن فإنه في هذه الحالة دخل على ملك عموم المسلمين، وليس هناك إذن له بهذا؛ لأنه ينبغي أن يستأذن جميع المسلمين، وهذا يتعذر، فقالوا: لا روشن.
إلا أن بعض العلماء أجاز له أن يخرج الروشن إذا أذن له ولي الأمر، مثل ما يسمى بالبلكونات، فنظام البلكونات الآن في بعض الأحيان يكون على نفس الأرض، ويخرج بلكونته على أرضه فليس فيها إشكال، لكن لو أنه أخرجها زائدة عن حد أرضه وملكيته فلا بأس إذا كان بإذن، وإذا كانت بدون إذن فهذه لعموم المسلمين؛ لأنه إذا أبرز الروشن وكان الطريق مثلاً عرضه خمسة أمتار وأجزنا إبراز الروشن؛ امتنع مرور ما كان بهذا العرض؛ لأنه سيبرز الروشن مثلاً بمتر أو بنصف متر، فمعناه أنه في الهواء ضيق الطريق من خمسة أمتار إلى أربعة ونصف، فلو أن أهل الحي في يوم من الأيام احتاجوا أن يدخلوا شيئاً بعرض خمسة أمتار تعذر عليهم الإدخال
**حكم الساباط
[وساباط]: الساباط يوجد في الأحياء القديمة، وهو أن يخرج من البيت بروز، فقد يكون الرجل مالكاً للبيتين وبينهما طريق، فيصل البيتين بالساباط، كالكبري الذي يكون في الطريق، ولا يستطيع أحد أن يمر إلا إذا كان دون هذا الساباط، فضيق على الناس في مرورهم إلى هذا الحد.
والفقهاء لا يقصدون ساباطاً أو روشناً أو غيره، فهذه أمثلة لقواعد كما ذكرنا، أرادوا من ذكر هذه الأمثلة أن تصبح نفسك مطمئنة لشيء واحد، وهو أن ملك الغير لا يحق لك أن تستحدث فيه شيئاً على وجه يضر به، أي: حتى يستبين لك ويتقرر عندك أن لك أن تحدث في حدود ملكك، أما ملك الغير وما كان ملكاً لعامة المسلمين فلا
**حكم بناء الدكة في الدرب العام
[ودكة]: الدكة معروفة إلى زماننا هذا، تكون أمام البيت متصلة به من حجارة أو غيرها، يجلس عليها، وتكون بمثابة مكان يستقبل فيه الناس أو يجلس فيه في بعض الأوقات، لكن إذا كان الدكة في نفس الملك فلا إشكال
**حكم إخراج الميزاب إلى الدرب العام
[وميزاب]: الميزاب هو الذي يسمى بـ (المرزاب) وتخرج منه الفضلات من سطوح البيوت والمنازل والغرف على الطرقات، وهذا فيه ضرر على الناس؛ لأنه إذا صب فإنه يصب على الناس، ولو قال قائل: إن صاحبه لا يصب منه إلا بحذر، قلنا له: إذا نزل المطر لا يستطيع أن يتحكم فيه، ففيه ضرر، ومثل هذه الميازيب لا يشرع فتحها على الطرقات العامة.
وخاصة بعد أن نظمت الطرق اليوم، وهذا يؤكد مشروعية المنع من إشراع الميازيب على طرق الناس لما فيها من الضرر والأذية، فقد يكون فيها نجاسة، فيخرج الناس إلى الصلاة وتسيل النجاسة في طرقاتهم، وإن كان والحمد لله الآن قد نظمت هذه الأشياء، وإلا فقد كان الناس يعانون من هذا عناءً لا يعلمه إلا الله، خاصة إذا كان صاحب الميزاب لا يتقي الله.
ولكن قد لطف الله بعباده وتغيرت الأحوال، فمن عاش القديم وعرف الأحياء القديمة ونظر إلى أحوالها يجد فيها عظيم الأذية والضرر بهذه الميازيب، من جهة صبها على الناس وما فيها من النجاسات، أو ما فيها حتى من الطاهرات المنتنة والمؤذية، فالرجل ليس في همه إلا أن يخرج عنه الضرر بغض النظر عن أن يكون في طريق الناس أو يكون مؤذياً للناس، فهذا لا يهمه فالذي يعنيه أن يدفع الضرر عن نفسه، فكان هذا من أعظم ما يستضر الناس به، ولكن الله عز وجل وسع عن الناس والحمد لله.
قال رحمه الله: [ولا يفعل ذلك في ملك جار]: فلو سلط المرزاب على جاره حق له أن يمنعه، ولو سلط الروشن أو الساباط على ملك جاره حق لجاره منعه.
قال رحمه الله: [ودرب مشترك بلا إذن مستحق] (ودرب مشترك): لا يجوز في الدرب المشترك أن يشرع عليه المرزاب، ولا يجوز في الدرب المشترك أن يضع الدكة كمداخل الأحياء، إلا بإذن مستحق.
قالوا: وإذا أذن أهل الحي أو أهل الحارة أو الذين يستفيدون من هذا الدرب فلا بأس، وإن كان بعض العلماء منع وقال: حتى لو أذنوا؛ لأنهم قد يأتيهم الضيف من خارج.
فهم إذا رضوا بالضرر فإن الضيف لا يرضى؛ ولأن الضيف سيطرق الطريق، والطريق حق عام للمسلمين، والعلماء رحمهم الله ما جاءوا بشيء من عند أنفسهم، إنما يبحثون عن صاحب الحق ومن له حق التنازل، حتى إن الإمام الشافعي وطائفة من العلماء لما ذكروا مسألة سد الطريق النافذ إلى الحي، قالوا: لو كان الطريق نافذاً إلى حي وله طريق بديل فاتفق أهل هذا الحي أن يسدوا هذا الطريق ويبقوا هذا الطريق قال: فمن حقهم سدها.
فاعترض بعض العلماء وقالوا: لو سد هذا الطريق وهو مشرع إلى طريق عام لاستضر من يحتاج إلى هذا الطريق؛ فإنه قد يحتاجه غير أهل الحي.
وقالوا: لو حدثت زحمة وفر الناس إلى هذا الطريق، خفف الزحام عنهم، فإذا سد الطريق استضروا.
كل هذا التقعيد المراد به: (من صاحب الحق).
ولتدرك أن هذه الأمثلة ما جاءت من فراغ، فهي تبحث عن مسألة: (من صاحب الحق، ومن يملك الإسقاط في هذا الحق)، فإذا عرفت من صاحب الحق عرفت وجه الاستحقاق، فمثلاً: لو اتفق أهل الحي على سد طريق وسدوه، ثم تراجع البعض فقالوا: نريد أن نفتحه، فلا يحق لهم أن يفتحوه إلا إذا اتفقوا كلهم على الفتح؛ لأنهم اتفقوا كلهم على السد، فينبغي أن يتفق جميعهم على فتحة.
وكل هذا تأصيل وتقعيد لمسألة الاستحقاق، وهذه المسائل ما جاءت عارضة، وليس المراد منها ذات المثال إنما المراد منها بيان صاحب الحق، ووجه الاستحقاق
**حكم وضع خشبة على جدار الجار
قال رحمه الله: [وليس له وضع خشبه على حائط جاره إلا عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلا به]: أي: لأن الأصل أن الجار يملك جداره، وليس من حق أحد أن يضع خشبه على جداره إلا بإذنه، ويجوز إذا احتاج.
فالجار له حالتان: الحالة الأولى: أن لا يكون محتاجاً لوضع الخشب على جداره، فليس من حقه أن يحرجه وأن يضع الخشب على جداره، وكانوا في القديم ربما بنى الجار الدور الأول بجدار، وفي الدور الثاني احتاج أن يضع خشبة على جدارك؛ لأن جدارك مهيأ لهذا، فهل من حقه أم لا؟ يجوز له ذلك، ولا يجوز لك منعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن جاراً جاره أن يغرز خشبه في جداره) وفي رواية: (خشبة في جداره) وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (ما لي أراكم عنها معرضين! والله لأرمين بها بين أكنافكم) يعني: إنني أبِّرئ ذمتي وأبلغكم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تتحملون المسئولية إن خالفتم السنة: فمنعتم الجار من غرز خشبه في الجدار.
وقيل في رواية: (مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) أي: لأجعلن الخشب حتى ولو على أكتافكم.
يعني: تحقيقاً لهذه السنة، وكلاهما وجه في الرواية، وهذا يدل على مشروعية غرز الخشب في جدار الجار.
قال رحمه الله: [وكذلك المسجد وغيره]: أي: إذا احتاج المسجد أن يوضع سقفه على جدار الجار فيوضع، أو العكس: لو أن الجار احتاج أن يضع خشبه على جدار المسجد فإنه يجوز؛ لأن السنة ماضية، فجار المسجد جار، فيستوي في ذلك الأوقاف وغيرها.
قال رحمه الله: [وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه] هذه المسألة يقع تطبيقها في الأملاك القديمة، حيث يوجد جدار بين مزرعتي ومزرعتك بناه الأجداد، ولا تدري هل جدك الذي بناه أو جدي، لكن المعروف أن هذا الجدار فاصل بيني وبينك، فانهدم هذا الجدار بالسيل أو الريح فسقط، فجئتك لأجل أن نبنيه فقلت لك: يا فلان! أريد أن أبني الجدار.
فقلت لي: ابنه أما أنا فلا أدفع شيئاً، فمن ناحية شرعية تلزم بالدفع؛ لأن الجدار بيني وبينك، والحق مشترك بيننا، ولا تتعطل مصالحي بتقاعسك عنه.
أي أنه لابد من وجود الفاصل بين الحدين، فيبنى الجدار وتكون القيمة بين الطرفين، وهكذا في الحقوق المشتركة، إذا امتنع أحدهما واستضر الآخر بامتناعه ألزم وأكره على ذلك.
قال رحمه الله: [وكذا النهر]: مثلاً: نهر يسقي المزارع -مثل العيون- لأنها تسقي الجميع، فلو احتاجوا أن ينظفوها ويوسعوها وامتنع البعض من المساهمة فإنهم يلزمون بذلك، وهذا من باب الحقوق المشتركة؛ لأن امتناعه عن المساهمة يضر بالجماعة وفقه المسألة: أنه إذا امتنع تعطل الماء عن المزارع فتضرر الجماعة، فرضنا عليه أن يدفع.
فالقاعدة: (أن الضرر الخاص يحتمل للضرر العام) فنقدم ضرر الجماعة على ضرر الفرد، مع أنه إذا دفع حصلت المصلحة، فكأنه بامتناعه عن الدفع يتجاهل مصلحته، فيلزم وكأنه سفيه بما فيه رشده.
وكذا في الطرقات فلو أنه احتيج إلى طريق يكون مشتركاً واستهموا كلهم إلا واحداً، أجبر على أن يساهم إلا أن يكون عاجزاً فيكون بمثابة الدين عليه، يجب أن يقضيه متى تيسر له، فيعطي إخوانه حقهم فيما توجب عليه في المشاركة.
قال رحمه الله: [والدولاب]: كذلك دواليب السقي في المزارع ومنها: العيون والخيوف.
قال رحمه الله: [والقناة]: القناة التي تجري فيها المياه، كأن تبنى وتنظف ويجري فيها الماء، فإذا امتنع البعض اجبروا على المساهمة معهم
**الأسئلة
**حكم تأجير النفس للعمل
**السؤال
هل من صور المعاوضة بالمنافع: أن يؤجر نفسه للعمل عنده شهراً لاستيفاء حقه؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فعلى القول بمشروعية الصلح بالإجارة يستقيم أن يؤجر نفسه أو يؤجر شيئاً يملكه كسيارته أو داره أو نحو ذلك، ولا فرق بين إجارة الأشخاص والذوات وبين إجارة المنافع، فالحكم فيها سواء، فيصح أن يقول له: على أن أعمل عندك شهراً أو أسبوعاً أو سنةً، وهذا ما يسميه العلماء بإجارة المسانهة والمشاهرة والمياومة، وكل ذلك جائز ومشروع.
والله تعالى أعلم
**حكم الصلح على وجه يقع به الضرر
**السؤال
ما حكم الصلح إذا كان فيه تمادٍ واستمرارٌ لصاحب الخطأ؟
**الجواب
الصلح كما ذكرنا لا يكون على سبيل الظلم، فالظالم لا يصالح على ظلمه، إنما نتكلم على شيء محتمل أن يكون فيه مصيباً ومحتمل أن يكون خاطئاً، فيصالحه عليه، على التفصيل الذي ذكره الفقهاء فيما قد بيناه.
أما لو صالحه على وجه يكون فيه ضرر فلا؛ مثلاً: إذا وقعت خصومة بين اثنين وأحدهما معروف بالأذية والإضرار، فقد سبق وأن بينّا أنه ينبغي أن يُنصَف المظلوم من ظالمه وأن يقال للظالم: اتقِ الله، ولا تظلم فلاناً، ويبين الحق، فهذا واجب عليه؛ لأنه من باب النصيحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تكفه عن ظلمه، فذلك نصر له).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (331)
صـــــ(1) إلى صــ(10)
شرح زاد المستقنع -** باب الحجر [1]
من أبواب الفقه المشهورة: باب الحجر، وهذا الباب متضمن لأسرار وحكم عظيمة، وهو من محاسن الشريعة التي تحفظ مصالح الأفراد والجماعات، وتحفظ الحقوق لأهلها، حتى ولو تطلب الأمر منع شخص من التصرف في ماله على تفصيل في أحكام المفلس
**تعريف الحجر ومشروعيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحجر] الحجر في لغة العرب: المنع، يقال: حجره عن الشيء، إذا منعه وحال بينه وبين الوصول إليه، ولذلك سمي الحِجرُ حِجراً؛ لأنه يمنع الطائف بالبيت من الدخول إلى هذا الموضع الذي فيه جزء من البيت لا يصح الطواف إلا باستيعابه، وسمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي الأمور التي لا تليق به كما قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5] أي: لذي عقل يمنعه ويحجره ويحول بينه وبين ما لا يليق به.
وأما في الاصطلاح: فهو منع نفوذ التصرف في الأموال؛ فالحجر في الشرع إذا أطلق فالمراد به الحجر في التصرفات المالية، بمعنى: أن من يُحكم عليه بالحجر لا ينفذ تصرفه في أمواله لا ببيع ولا بشراء ولا بهبة ولا بنحو ذلك من التصرفات، بل يكون عليه ولي ينظر الأصلح والأحظ في هذه المعاملات
**الدليل على مشروعية الحجر والحكمة منه
الأصل في مشروعية الحجر أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] فحرم الله عز وجل علينا تمكين السفهاء من الأموال؛ لأنهم لا يحسنون التصرف فيها، وإذا تصرف السفهاء في أموالهم بذَّروا وأسرفوا، وعندها تضيع الأموال وتحصل الخصومات والنزاعات بسبب البيوع التي لا تكون على السنن، ومن هنا حكمت الشريعة بالحجر.
والناس في التصرف في المال على قسمين: - قسم منهم رزقه الله حسن النظر وحسن التصرف، فإذا أعطاه الله المال اتقى الله في المال، فأحسن التصرف فيه من جانبين: الجانب الأول: من ناحية الدين: فيحفظ المال عن حرمات الله أن ينفقه في معاصي الله، وكذلك ينفق المال في طاعة الله، فهذا رشيد في دينه، فالرشد في المال من ناحية الدين أن يحفظه عن محارم الله عز وجل، وأن ينفقه في وجوه الخير التي ترضي الله عز وجل.
وأما رشد الدنيا: فإنه يكون رشيداً في ماله من ناحية دنيوية إذا أحسن النظر، فأحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، فيشتري الأشياء بقيمتها التي تستحقها، ويبيع الأشياء بقيمتها التي تستحقها ولا يغبن.
وكذلك أيضاً من الإحسان في التصرف في الدنيا ألا يسرف في المباحات، وإنما يسعى في مصلحة ماله بحفظه وتنميته ورعايته وصيانته، ويكون بذلك على السنن.
هذا بالنسبة لرشد الدين والدنيا، فهذا النوع من الناس أموالهم محفوظة ولهم الحق في النظر في أموالهم؛ لأن من ملك مالاً ملكاً شرعياً فهو أحق بالتصرف فيه، ولا يحال بينه وبين التصرف فيه بالأصلح.
أما القسم الثاني من الناس: فهم الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم، وهؤلاء يكون سبب عجزهم عن حسن التصرف إما الصغر أو ضعف العقل كالمجنون أو السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله، فهؤلاء شرع الله عز وجل أن يحجر عليهم، بمعنى: ألا نمكنهم من التصرف في أموالهم.
وإذا حُجر عليهم يقام عليهم شخص ينظر في مصالحهم، فالأيتام إذا توفي والدهم وترك لهم أموالاً؛ فإن هذه الأموال لو مكنا الأيتام منها لأضاعوها، فصغير السن ربما جاءه شخص وبكى عنده واستعطفه فأعطاه جميع ماله، ولربما جاءه شخص وأثنى على سلعة ما ورغبه في شرائها فأعطاه ما لا يعطى في تلك السلعة، فليس عنده من العقل والإدراك وحسن النظر ما يمكنه من وضع المال في موضعه.
فشرع الله أن يمنع هؤلاء من التصرف، والتصرف يكون بالقول كقوله: بعت واشتريت ووهبت وتصدقت ونحو ذلك، وهذا كله لا ينفذ، من ناحية القول ومن ناحية الفعل، كأن يعطي بيده لأحد، فدلالة الفعل هذه تنزل منزلة دلالة القول كما بينّا في البيوع في بيع المعاطاة.
وأياً ما كان فالذي يهمنا أن الناس على قسمين: - قسم منهم يحسن النظر في أمواله.
- وقسم منهم لا يحسن النظر في أمواله.
والشريعة الإسلامية أعطت كل ذي حق حقه، فمن رزقه الله حسن النظر في ماله يقوم على ماله، وهو أحق به كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) فجعل حرمة مال الإنسان كحرمة دمه.
وأما القسم الذي لا يحسن النظر فيه فالمصلحة تقتضي الحجر عليه.
وقد يسأل سائل أو ترد شبهة عليك ويقول: إن الشريعة شريعة يسر ورحمة، وفي الحجر على الناس تضييق وحرج، فإما أن تكون شريعتكم شريعة عسر وليست بشريعة رحمة -حاشاها- وإما أن يكون الحجر غير مشروع، فهو يلزمك بهذه الشبهة، ويقول: أنتم تقولون: إن شريعتكم شريعة يسر ورحمة -وهذا صحيح- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] لكن الحجر فيه تضييق وعسر، ومنع لليد أن تطلق وأن تتصرف في مالها.
والجواب أن يقال: إن الشريعة كما ذكرتم شريعة يسر ورحمة، ومن اليسر والرحمة الحجر على الناس؛ لأن الصغير إذا مكن من ماله وهو صغير؛ أتلف المال وندم عند كبره، فيتعذب بفوات ماله وضياع إرث أبيه عليه، فرحمةً به يحفظ ماله.
والمجنون لو مكن من البيع والشراء والأخذ والعطاء في ماله لأتلف المال وأفسده، فمن الرحمة أن يحجر عليه.
إذاً أولاً نقول: لا نسلم أن الحجر تضييق بل إنه رحمة؛ لأنه يحفظ الأموال، فهو رحمة من جهة حفظ المال.
الوجه الثاني: لو سلمنا -فرضاً- أن الحجر فيه تضييق وحرج، فإن الحرج بإطلاق أيدي السفهاء ومن لا يحسن النظر في ماله أعظم من الحجر عليه، والشريعة ترتكب أخف الضررين.
فنسلم لهم ونقول: نعم، إن الحجر فيه تضييق وفيه مشقة على الناس، وأشق من ذلك أن يمكن من لا يحسن النظر في ماله أن يتصرف في المال فمفسدة ذلك أكثر.
وتوضيح ذلك: أنه لو أطلقت يد من لا يحسن التصرف في ماله لحدثت النزاعات بين الناس؛ فالصبي يذهب ويشتري ويبيع، فيأتي وليه وينازع من اشترى أو ابتاع منه، وعندها تحدث بين الناس الخصومات والنزاعات، فالحرج بإطلاق أيدي هؤلاء أعظم من الحرج بالحجر عليهم، والشريعة ترتكب أخف الضررين، هذا بالنسبة لمشروعية الحجر
**أسباب ودواعي الحجر
الحجر له سببان: السبب الأول: أن تحجر على الإنسان لمصلحة نفسه.
والسبب الثاني: أن تحجر عليه لمصلحة غيره.
فالحجر على الإنسان لمصلحة نفسه: يشمل اليتيم والمجنون والسفيه، فإن كلاً من اليتيم والمجنون والسفيه إذا منعته من التصرف في ماله فصار لا يبيع ولا يشتري إلا عن طريق وليه الذي ينظر فيه، فإنما قصدت حفظ ماله عليه، فالمصلحة عائدة إليه.
وهناك نوع ثانٍ من المحجور عليهم: وهم الذين يحجر عليهم لمصلحة غيرهم، وهذا يشمل أنواعاً منهم: المفلس: وهو الشخص الذي تكون ديونه أكثر من رأس ماله، كرجل عليه دين مليونان، ورأس ماله في تجارته نصف مليون أو مليون أو مليون ونصف، فمثل هذا إذا طلب غرماؤه أن يحُجر عليه -وكان الدين حالاً- حجر عليه، فيحجر عليه في التصرف في ماله، ويبيعه الحاكم في دينه، فمثل هذا المفلس حجرنا عليه ومنعناه من التصرف في ماله لمصلحة الغرماء أصحاب الديون وهم أصحاب الحقوق.
النوع الثاني ممن يحجر عليه لمصلحة غيره: مثل المريض مرض الموت، فإن الإنسان إذا مرض مرض الموت أحل الله له أن يتبرع في حدود الثلث من ماله، والزائد عن الثلث يستأذن فيه الورثة، فلا يحق له أن يتصرف في الثلثين الباقيين بالصدقة والهبة والعطية إلا بإذن ورثته؛ لأن سعداً -رضي الله عنه وأرضاه- قال: (يا رسول الله! إني كما ترى -يعني: أرى أن المرض قد اشتد بي- وليس لي وارث إلا ابنة -يعني: بنتاً- أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا.
قال: أفأوصي بنصفه؟ قال: لا.
قال: أفبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير)، فأحل له أن يتصدق ويوصي بثلث المال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) أي: إن المسلم عند حضور الأجل وفي مرض الموت يتصرف في ماله في حدوث الثلث.
والسبب في هذا: أن الرجل لو حضرته المنية وأطلق له التصرف في المال لربما انتقم من ورثته، وربما تصدق بجميع ماله؛ فترك الورثة فقراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
لأنك إذا تركت المال لهم وقصدت بذلك حفظهم عن الحرام، وقصدت بذلك القيام بحقوقهم عليك؛ فإن الله يأجرك على ذلك، وتكون صدقة منك على ولدك، وإعطاء الصدقة للقريب أفضل من إعطائها للغريب.
وعلى هذا: يحجر على المريض مرض الموت أن يتصرف في ماله، وإنما يسمح له في حدود الثلث، والحجر يكون في الثلثين الزائدين، قال الناظم: وزوجة في غير ثلث تعترض كذا مريض مات في ذاك المرض وهذا على مذهب المالكية من أن الزوجة تعترض في الزائد من تصرفه عن الثلث.
وأما بالنسبة للنوع الثالث ممن يحجر عليه لمصلحة الغير: العبد المملوك، فإنه بحكم الرق المضروب عليه بناءً على الكفر حُجر عليه التصرف في ماله وأصبح المال ملكاً لسيده؛ لأن حديث ابن عمر الذي تقدمت الإشارة إليه غير مرة أخلى يده عن الملكية.
فهذا يُحجر عليه لمصلحة سيده، والخلاصة: أنه إما أن يحجر على الشخص لمصلحة نفسه أو يحجر عليه لمصلحة غيره.
ولا شك أن منع السفهاء من التصرف في مالهم له عواقب حميدة على المجتمع، فإن الأموال إذا حفظت عن الإهدار والإسراف؛ فإن ذلك يعود بالخير على الناس أفراداً وجماعات
**أحكام المفلس
**حكم الرجل المعسر إذا لم يقدر على وفاء دينه
قال رحمه الله تعالى: [ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به].
الرجل المعسر الذي ليس عنده مال يسدد به ديونه لا نطالبه أن يسدد؛ لأننا لو حكمنا بمطالبته وبوجوب أن يسدد كلفناه ما لا يطيق وليس عنده مال، كرجل صاحب عائلة أخذ مالاً من صاحب بقالة في إطعام أولاده، وافتقر وأصبح مديوناً لصاحب البقالة بألفٍ -مثلاً- فجاء صاحب البقالة وقال: أعطني مالي.
فقال: ما عندي.
فرفعه إلى القاضي، فنظر القاضي، فإذا به معسر وليس عنده ما يسدد به صاحب الدين، إذا ثبت هذا؛ فإن القاضي يقول لصاحب الدين: أنظر أخاك إلى يسر {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فأمرنا الله عز وجل أن ننظر المعسر.
ومن أحب القربات وأعظمها عند الله ثواباً وأحسنها عاقبة ومآلاً، وصاحبه في صلاح حال في دينه ودنياه وآخرته: أن ييسر على المعسر، ويغفر له، فيتجاوز عن دينه أو يخفف عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فضّل هذا العمل وأخبر أن الله عز وجل ييسر على صاحبه فقال: (ومن يسر على معسر؛ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وقال: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فمثل هذا لا يضغط عليه ولا يطالب بما ليس في يده.
قوله: (وحرم حبسه) لأنه شيء ليس بيده، وهو ليس برجل مماطل عنده قدرة، أما لو كان رجلاً عنده قدرة؛ فإن القاضي يحبسه، ويقول له: سدد الناس، فإن امتنع من السداد باع من ماله ما يسدد به دينه
**حكم المفلس إذا كان ماله قدر دينه أو أكثر
قال رحمه الله: [ومن ماله قدر دينه أو أكثر لم يحجر عليه] هناك صور للمديونين: الصورة الأولى: أن يكون دينه أقل من ماله.
الصورة الثانية: أن يكون دينه مساوياً لماله.
الصورة الثالثة: أن يكون دينه أكثر من ماله.
هذه ثلاث صور.
أن يكون دينه أكثر من ماله: كرجل عليه دين مائة ألف، والأموال التي عنده من بيت وسيارة وأمور أخرى زائدة عن حاجته الأصلية تقدر بخمسين ألفاً، فهذا دينه أكثر من ماله.
وأما من كان عليه دين مائة ألف، وعنده مال بمائتين أو ثلاثمائة ألف، فماله أكثر من دينه.
ومن ساوى دينه ماله، كرجل عليه دين مائة ألف، وماله الذي عنده يساوي مائة ألف، هذه ثلاث صور.
فأما الذي دينه أقل من ماله؛ فهذا لا يحجر عليه، بل يطالبه القاضي بالسداد بشرطين: الشرط الأول: مماطلته وامتناعه.
والشرط الثاني: شكوى الغرماء.
فالشخص الذي عليه دين أقل من ماله، بمعنى: أنه قادر على السداد، وامتنع عن السداد، واشتكي إلى القاضي، فإن القاضي يطالبه بالسداد ويفرضه عليه إذا كان الدين حالاً وطالب الغرماء.
كرجل أمهل رجلاً إلى نهاية شهر صفر وكان له عليه عشرة آلاف، فلما انتهى شهر صفر كان عنده عشرون ألفاً، فقال: يا فلان! سددني، قال: ما أسددك، انتظر ليس عندي شيء، فهو إما أن يكذب -والعياذ بالله- فيقول: ليس عندي شيء وهو عنده، أو يقول: انتظر وهو قادر على السداد، فلما ماطل رفعه إلى القاضي، فلما اشتكاه إلى القاضي استدعاه القاضي، وتبين أن أجل الدين قد حل -لأنه لو لم يحل أجل الدين كأن يكون إلى نهاية السنة فليس من حقه أن يطالبه، وليس من حق القاضي أن يلزمه بالسداد قبل الأجل- فإذا حل الأجل واشتكى صاحب الدين؛ خيره القاضي بين أمرين: إما أن يسدد، وإما أن يبيع من ماله ما يسدد به أصحاب الدين.
وبعض العلماء يقول: يحبسه ويسجنه حتى يسدد للناس حقوقهم.
قوله: (لم يحجر عليه وأمر بوفائه) هذا إذا كان دينه أقل من ماله (لم يحجر عليه)، يعني: لم يمنع من التصرف في أمواله، ويترك في تجارته وبيعه وشرائه كما هو، ولكن يأمره القاضي بالسداد بالتي هي أحسن، فإن سدد فالحمد لله، وإذا لم يسدد؛ وعظه وزجره وذكره بالله، فإذا طالب الغرماء حبسه حتى يسدد للناس حقوقهم، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم يبيح لومه) فدل على أن من منع الناس حقوقهم وهو قادر على السداد، وسأله الناس حقوقهم ولم يعطهم إياها؛ فإنه يعتبر ظالماً، والمظلوم ينصر من ظالمه، والقضاء جعل لنصرة المظلوم من ظالمه.
قال رحمه الله: [فإن أبى حبس بطلب ربه].
إذاً الشرط الأول: أن يكون الدين قد حل.
والشرط الثاني: أن يكون عنده السداد.
والشرط الثالث: أن يطلب أو يشتكي أصحاب الدين.
قال رحمه الله: [فإن أصر ولم يبع ماله؛ باعه الحاكم وقضاه] قلنا: إن سدد فلا إشكال، وإن امتنع من السداد دعاه القاضي وسأله أن يسدد، وذكره بالله، فإن امتنع سجنه، فإن سجنه يوماً ويومين وثلاثة فتضرر أصحاب الحقوق، فإنه يقول له: إذا لم تبادر بسدادهم، سأبيع من مالك ما أسدد به دينك، فلم يبق إلا هذا يلزم به ويكره عليه، ويؤخذ من ماله قهراً، وهذا بيع بالإكراه، لكنه بيع بإكراه بحق، وقد بينّا أن الإكراه إذا كان بحق سرت عليه الأحكام الشرعية ولا يعتبر إكراهاً موجباً لرفع الحكم.
وعلى هذا: فإنه إذا امتنع وأصر بعد سجنه ومنعه، فما على الحاكم إلا أن يقوم ببيع ماله على قدر السداد، فمثلاً: لو كان عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال، وعنده عمارة قيمتها -مثلاً- مليون، ودينه عشرة آلاف ريال، فلا ينصرف إلى العمارة ويبيعها عليه، وإنما يبيع سيارته التي تفي بسداد دينه.
وينبغي للقاضي عند حكمه بالبيع ألا يضر بالمدين، بل يؤدي لصاحب الدين دينه، ولا يضر بالمدين كما قال تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وما شرع لحاجة فإنه يقدر بقدرها، فإذا كان الدين بعشرة آلاف ريال فإننا لا نبيع من ماله إلا بحدود عشرة آلاف ريال، والقاعدة الشرعية تقول: (ما جاز لضرورة وحاجة يقدر بقدرها) فلا يباع إلا بقدر الدين.
قال رحمه الله: [ولا يطالب بمؤجل] هذا من الشروط التي ذكرناها، بمعنى: أنه لو رفعه إلى القاضي واشتكاه، فأول ما ينظر إليه القاضي هل له عليه ديناً فعلاً، فإذا ثبت وأقر أن له عليه ديناً؛ يسأله: هل حل أجل الدين أو لا؟ فإن قال: حل أجل الدين، جرت الأحكام التي ذكرناها، وإن قال: الدين إلى نهاية السنة؛ فإنه يقول لصاحب الدين: اذهب ولا تطالبه إلا في نهاية السنة؛ لأن الذي بينك وبينه من العقد والشرط أن تؤجله، ولا يجوز لك أن تعاجله وتأمره بالتعجيل وقد رضيت بالتأجيل.
فلا يطالب المدين بتعجيل الدين ما دام أن الدين مؤجل إلا إذا رضي بطيبة نفس منه
**حكم المفلس الذي لا يفي ماله بما عليه حالاً
قال رحمه الله: [ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً؛ وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم].
قوله: (ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً) هذا النوع من الناس -كما ذكرنا- يدخل في الصورة الثالثة، حيث يكون ماله أقل من دينه، وقوله: (لا يفي بما عليه حالاً) أخرج ما لو إذا كان مآلاً.
وإذا كان الدين أكثر من المال ففيه تفصيل: - إما أن يكون الدين حالاً.
- وإما أن يكون مؤجلاً.
إن كان حالاً فهذا الذي نبحثه، وإن كان مؤجلاً فلا نحجر عليه، ونتركه حتى يأتي الأجل.
إذاً الصورة الثالثة: أن يكون الدين أكثر من المال، ومثاله: رجل عليه دين مليونان، وماله الذي عنده يساوي مليوناً؛ فحينئذٍ نقول: هل الدين الذي عليه حال أو مؤجل؟ إن قالوا: كله مؤجل، نقول: انتظروا إلى الأجل، وإن قالوا: بعضه معجل وبعضه مؤجل؛ نظرنا في المعجل، فإن كان أقل -مثلاً- لو قلنا: عليه مليونان والذي عنده مليون؛ فقالوا: بعض المليونين معجل وبعضها مؤجل، فما الحكم؟ ننظر في المعجل، إن كان المعجل أكثر من المليون حينئذٍ يأتي الحكم بالحجر، وإن كان المعجل أقل من المليون لم يحجر عليه وإنما يطالب بالسداد في حدود المعجل، ويكون حكمه حكم الأول؛ لأن المعجل دخل تحت القسم الأول.
وتوضيح ذلك أكثر: أن في الصورة الثالثة يكون الدين أكثر من المال، ومثاله: شخص عليه ألفان وعنده مائة، أو عليه عشرة آلاف وعنده خمسة آلاف ونحو ذلك، فنقول: إذا كان الدين أكثر من رأس ماله، نظرنا: إما أن يكون الدين معجلاً، فقد حل الدين وطولب به، وإما أن يكون مؤجلاً لم يحل، فإن كان الدين كله لم يحل فلا إشكال، وإن كان الدين كله قد حل حُجر عليه، وإن كان بعضه قد حل وبعضه لم يحل؛ فحينئذٍ ننظر في الذي حل، فإن كان أقل من المال؛ اندرج تحت الصورة الأولى، ونقول له: سدد هؤلاء الذين وجب عليك وفاؤهم الآن.
ملاحظة: بعض الإخوان يقول: لا تمثل بمئات الألف والمليون، وإنما مثل بالقليل حتى نفهم، لكن الواقع أن المليون والكثير يجذب الانتباه أكثر، ويكون الضبط به أكثر، حتى كان بعض مشايخنا يمثل به ويقول: لو أن سارقاً سمعنا؛ لهجم علينا ولم يجد إلا أوراقاً وكتباً.
فالمقصود أننا لو قلنا: إن عليه ديناً مقداره مائتان وعنده مائة ريال، أي: أن الدين أكثر من رأس المال، فنقول: هذه المائتان إذا كانت مؤجلة إلى نهاية السنة فليس من حقهم أن يطالبوه؛ لأن القاعدة أنه ليس من حق صاحب الدين أن يطالب المديون قبل الأجل؛ لأنهما اتفقا، والمسلمون على شروطهم.
وإن كان الدين كله قد حل، مثلاً: رجل جاء يشتكي في القضاء ويقول: فلان لي عليه مائتان، وقد اتفقنا على أن يعطيني إياها في نهاية صفر، وإلى الآن لم يعطني، فهنا قد حل الدين وهو أكثر من المال وقد طالب الغريم به، فإن هذا يحجر عليه؛ لأنه استوفى الشروط، لكن إن كان البعض قد حل والبعض لم يحل، كرجل عليه مائتان، مائة منها قد حلت في صفر، ومائة منها تحل في نهاية العام، فتصبح المائة الحالة هي الدين في المال.
فإن كان الدين قابل المال أو كان أقل من المال طولب بالسداد، فيسري عليه حكم الحالة الأولى ونقول له: سدد، فإذا قال: ما أسدد.
صار مطل غني، فيحبسه القاضي، فإن أصر يبيع عليه.
وهذا نفس الترتيب الأول في المائة المعجلة والتي قد حلت.
أما المائة التي لم تحل بعد فإنه يمكن في نهاية السنة أن يصيبه غنى، ونحن لا نبحث إلا في الحاضر الذي فيه حق المطالبة، فإذا حل الأجل وكان الدين أكثر من المال، وطالب أولياؤه الحجر عليه حُجر عليه، وهذا هو النوع الأول ممن يحجر عليه وهم المفلسون، والمصنف -رحمه الله- لما جاء في باب الحجر قدم الذين يحجر عليهم لحق غيرهم على الذين يحجر عليهم لحق أنفسهم، وحينئذٍ يرد
**السؤال
المعروف أن الكلام عن الحجر على السفيه واليتيم ألصق بباب الحجر، وبعض الفقهاء يقدم الكلام في الحجر على الأيتام والصغار على الحجر على المفلسين، ولكن لماذا قدم الحجر على المفلس على الحجر على الأيتام والسفهاء والصبيان ونحوهم؟
و
**الجواب
أن الباب الذي تقدم هو باب الصلح، وهو يقع في المنازعات، والحجر في المنازعات، وإذا وقع فإنه يقع بين الغرماء وأصحاب الدين، ولذلك ناسب بعد نهاية باب الصلح أن يذكر مسائل اختلاف الغرماء مع أصحاب الديون، وعلى هذا يقدم الكلام عن المفلس من هذا الوجه.
وقوله رحمه الله: (ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً) هذا واضح بسؤال الغرماء، وقد ذكرنا التفصيل فيما إذا كان الدين أكثر من المال، وإذا كان المال أكثر من الدين، والسؤال: إذا كان المال مثل الدين، فهل نعطيه حكم الحالة الأولى أو الحالة الثانية؟ الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- حاصل هنا، فبعض العلماء يقول: من كانت ديونه تساوي رأس ماله؛ فإنه يطالب بالسداد ويأمره القاضي بالسداد وتسري عليه أحكام الحالة الأولى ولا يحجر عليه، وبعض العلماء يقول: إذا ساوى الدين رأس المال فإنه يحجر عليه، وهذا ما درج عليه المصنف.
لكن ما فائدة الخلاف؟ فائدة الخلاف: لو أن صاحب شركة -مثلاً- رأس ماله فيها مليون ريال، وعليه ديون تساوي مليون ريال، فإذا قلنا: نحجر عليه، فحينئذٍ في هذه الحالة تجمد الشركة وتعطل مصالحه من أجل سداد الدين، وتباع الشركة سداداً لدينه، وإن قلنا: لا يحجر عليه، فإن بإمكانه أن يتسلف المليون ويسدده، وتبقى الشركة كما هي.
فالحجر فيه ضرر، وليس بهذه السهولة، فإن التصرف حتى في الصدقات والهبات والبيع والشراء -كما سيأتي- كل تصرفاته المالية تجمد، وهذا يدل على قوة الشريعة الإسلامية وأنها لا تتساهل في الحقوق، ويدل على أهمية رد الحقوق لأهلها، وأنه لا يمكن أن يترك الحبل على الغارب للمتلاعبين بحقوق الناس، فهو مهما كان في شركته وماله متى ما خاطر بأموال وحقوقهم فلا بد أن يوقف عند حده.
فإذاً: إذا كان دينه يساوي ماله، فالأوجه والأقوى من حيث الأصل ألا يحجر عليه، فإذا كان بإمكان القاضي أن يبيع ماله ويسدد غرماءه، فهذا هو الأشبه، ولذلك قال بعض العلماء: لا يحجر عليه، وإنما يعامل معاملة الصورة الأولى من أنه يطالبه بالسداد، فإن أصر حبسه، وإن أصر باع ماله سداداً لدينه
**حكم الحجر مع اتفاق الغرماء على المطالبة به أو اختلافهم
وقوله: (وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم).
هنا مسألة: عندنا شخص عليه مائتي ريال، وقد حلت واستوفت الشروط، والغرماء هم: شخص له مائة وشخص له مائة ثانية، أو كان الغرماء أربعة أشخاص، كل واحد له الربع من المائتين، فإذا أثبتنا أن من كان دينه أكثر من ماله يحجر عليه واشترطنا سؤال الغرماء، ففي سؤال الغرماء لا يخلو الأمر من صور: الصورة الأولى: أن يتفقوا كلهم على سؤال الحجر عليه، فكلهم يأتي ويشتكي عند القاضي ويقول: نريد أن تحجر على فلان في ماله حتى يسدد حقوقنا، فإن اتفقوا فلا إشكال أننا نحجر عليه.
الصورة الثانية: أن يطالب البعض، ويسكت البعض فلا يطالبون ولا يمتنعون.
فهذه صورتان: الصورة الأولى: أن يتفقوا على المطالبة.
والصورة الثانية: أن يختلفوا، فبعضهم يطالب وبعضهم لا يطالب، وقد يكون الذي سكت ولم يطالب لا يريد الحجر؛ لأنه في بعض الأحيان لا تطالب بالحجر؛ لأنك تعلم أن هذا الرجل حكيم في بيعه وشرائه، وأنت تنتظره إلى الموسم حتى يبيع ويشتري وينمي ماله ويسدد، فترى أن من المصلحة ألا يحجر عليه، فلا توافق على الحجر؛ لأنك تعلم أنه سيأتي بضرر أكثر؛ لأنه إذا جمدت أمواله، فسيباع الحاضر الموجود، وقد يكون ربع الدين أو نصفه، بيد أنه لو نمى ماله واستثمره ربما يصل به إلى سداد دينه وربما زاد، فيكون من المصلحة السكوت، وقد يسكت؛ لأن ما عنده لا يضره حجر عليه أم لا.
فأياً ما كان سكوت البعض سواءً كان معارضة أو كان لعدم مطالبة، ففي كلتا الحالتين: يسكت البعض عن السؤال، فهل يحجر عليه أو لا يحجر؟ القول الأول: قال بعض العلماء: إذا طالب بعض الغرماء فإنا نعتبره بالغرماء كلهم، فنحجر عليه بمطالبة البعض دون الكل كما درج عليه المصنف.
فلو أن غريماً له خمسون ريالاً من بين دين قدره ثلاثمائة أو أربعمائة أو ألف ريال، وطلب الحجر، وثبت عند القاضي أن هذا الذي أمامه دينه أكثر من ماله؛ حجر عليه.
وفقه المسألة عند هؤلاء: أن الشخص إذا أصبح دينه أكثر من ماله دل على أنه لا يحسن التجارة، بغض النظر عن كون الكل يشتكي أو البعض، ففقه المسألة راجع إلى أنه حينما أصبح دينه أكثر من ماله دل على فساد تصرفه، ودل على أنه لا يحسن التجارة، فيقولون: يحجر عليه بمطالبة البعض، ولا يشترط الكل.
القول الثاني قال: لا نحجر عليه بقول البعض، حتى يكون دينهم مقابلاً لأكثر من المال أو مساوياً لماله، قالوا: وإذا طالب حينئذٍ نقبل منه، وإما إذا لم يتحقق الشرط فلا نحجر عليه.
مثال: لو كان صاحب الخمسين يطالب، وصاحب أكثر الدين لا يطالب، والمال الذي عنده أكثر من الخمسين فإنه لا يحجر عليه؛ لأن الأصل عدم الحجر، وإذا كان الشخص له خمسون فغاية ما في الأمر أنه إذا طالب بحقه فإنه تصرف له الخمسون وينصرف، كما لو حل بعض الدين دون البعض.
فهذا القول من حيث الأصول أشبه، والقول الأول من حيث النظر أقوى، وكلا القولين له وجهه، وإن كان القول الثاني أقرب للأصول كما ذكرنا.
لكن لو أن البعض طالب وسكت البعض، فقال بعض العلماء: إذا طالب البعض وسكت البعض؛ فإنه في هذه الحالة يُحْجر عليه في حدود دين البعض كما ذكرنا، وأما على القول الثاني فيحجر عليه بحق الجميع
**حكم الإعلان والإشهار عن حجر المفلس
قال رحمه الله: [ويستحب إظهاره]: ويستحب إظهار الحجر، فالمفلس الذي ثبت عند القاضي أنه مفلس يطاف به في الأسواق ويعلن ويشهَّر به حتى يحذر الناس التعامل معه، وهذا لمصلحة الجماعة فقال: (يستحب إظهاره).
وجرى على ذلك العمل عند أهل العلم رحمهم الله، ومن غرائب ما ذكروا عن القضاة رحمة الله عليهم: أنه حجر على رجل في ماله، وكان تاجراً، فحجر عليه وأمر أن يطاف به في الأسواق، ويقال: إن فلاناً ثبت عند القاضي فلسه، وإن القاضي يعذر إليكم -لأن القاضي إذا أعلن للناس، ثم جاء رجل بعد ذلك يشتكي ويقول: بعت أو اشتريت فإنه لا يتحمل إلا مسئولية نفسه.
والسبب في الإظهار والإعلان: أنه إذا جاء بعد الحكم عليه والحجر عليه أحد يطالب بشيء فإنه يتحمل مسئولية نفسه لحصول الإعذار- فطيف به كل اليوم يُعلَن عنه أن هذا سفيه لا تعاملوه، وأن هذا لا يحسن النظر في ماله، وعندما رجع إلى بيته قال له صاحب الدابة: أعطني حقي، قال: وما الذي كنا فيه من صباح اليوم؟! فصاحب الدابة يطالب بقيمة الركوب عليها؛ لأنه طيف به على الدابة -وبعض العلماء يقول: إنه في هذه الحالة يستحق المال من المحجور- فقال له: أعطني مالي.
يعني: أنت كنتَ راكباً على دابتي، وهذه إجارة يوم لا بد أن تعطيني إياها، فقال له: ما الذي كنا نقوله من صباح اليوم؟! يعني: طيلة اليوم والقاضي يقول: لا أحد يعامله، وأن من عامله يتحمل مسئولية المعاملة، فأغفله وأعرض عنه.
فالشاهد: أنهم كانوا يطوفون به، وهذا فيه مصلحة للناس، وفي القديم كان يطاف به في الأسواق؛ لأن السوق هو الذي فيه التجار، فينتشر بين التجار أن فلاناً محجور عليه، فيتقي الناس التعامل معه، لكن الآن يمكن أن يعلن عنه ويمكن أن يشهر به عن طريق وسائل الإعلان حتى يعذر إلى الناس، فإذا تعامل معه أحد؛ فإنه حينئذٍ يتحمل مسئولية المعاملة معه
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (332)
صـــــ(1) إلى صــ(10)
شرح زاد المستقنع -** باب الحجر [2]
الدين حق للدائن لا يسقط إلا بسداده أو العفو، فإذا عجز المدين عن السداد فإن الشريعة حفظت حتى الدائن بمنع المدين من التصرف في ماله، وأبطلت جميع تصرفاته المالية التي تضر بحق الدائن، حتى يباع ما عنده، ويؤدي لأصحاب الحقوق ما يمكن أداؤه
**الآثار المترتبة على الحجر في المحجور عليه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد
**حكم تصرف المحجور عليه في ماله بعد الحجر
فيقول المصنف رحمه الله: [ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر].
بهذه الجملة شرع المصنف في بيان الآثار المترتبة على الحجر، فإذا قلت: إنه يحجر على المفلس، فما هي ثمرة وفائدة وأثر الحجر على المفلس؟ فقال رحمه الله: (ولا ينفذ تصرفه في ماله) فقوله: (لا ينفذ) أي: لا يمضي ولا يُحكم به ولا يعتد.
ولذلك هناك شيء يسمونه: شرط نفاذ، فتجدهم في البيوع يقولون: من شرط نفاذ البيع ألا يكون محجوراً عليه، فيكون من شروط النفاذ، بمعنى: لو أن شخصاً حجرنا عليه لفلس، ثم بعد ذلك باع عمارة يملكها، أو اشترى من شخص سيارة، لا ينفذ شيء من ذلك كله، ولو أنه جاء وتصدق بمال أو وهب مالاً أو أعطى ماله؛ فإن هذه الهبة توقف، ويمنع من التصرف بالهبة والعطية والصدقة
**حكم إقرار المحجور عليه بمال لشخص بعد الحجر
قال رحمه الله: [ولا إقراره عليه] من دقة العلماء أنهم يذكرون الأصل وما يتبع الأصل، فالإقرار بالمال ليس بتصرف مباشر في المال، ولكن يئول إلى التصرف في المال؛ كما إذا حجرنا على شخص عليه دين مائتا ريال، فلما حجرنا عليه وثبت عند القاضي فلسه جاء رجل بعد أسبوع وقال: فلان أقر لي بمائة، فننظر في الإقرار: فإذا كان الإقرار قبل حجره عليه مضى ونفذ، وإن كان بعد الحجر عليه؛ فإنه لا يصح ولا ينفذ لوجود الشبهة والتهمة، ولأن التصرف أصلاً لا ينفذ، فإقراره بالمال يصح من حيث الأصل، ولكن لا يطالب بالسداد ولا يؤخذ من ماله سداد لهذا الحق إلا بعد انتهاء الغرماء الأولين.
فالإقرار نؤاخذ به؛ لأن شروط الإقرار متوفرة، لكن أن ينفذ لا، بل نوقفه ويبقى موقوفاً عن النفاذ حتى يسدد الغرماء الذين حجر من أجلهم أولاً ثم بعد ذلك يسدد هذا الدخيل.
والسبب في هذا: أنه لو كان ينفذ إقراره وكان عندنا -مثلاً- صاحب شركة عليه مليون ديناً، وشركته -مثلاً- دون المليون وحجرنا عليه، فبإمكانه أن يأتي لشخص ويقول له: أقر لك بمال ودين زوراً وكذباً وتدخل تزاحم الغرماء، وحينئذٍ لا تباع كل الشركة للغريم، وإنما يكون لي حصة بدخولك معهم، وممكن أن يدعي أن فلاناً له عليه مليون بدل ما هي مائة ألف، فيدخل على الغرماء ويضر بهم.
ولذلك قطع هذا الباب وأقفل مع أن الأصل أن إقراره نوع تصرف، والتصرف في ماله موقوف حتى انتهاء الحجر عليه إذا أقر به للغير
**حكم رجوع من تعامل مع المحجور عليه ببيع أو قرض في معاملته
قال رحمه الله: [ومن باعه أو أقرضه شيئاً بعده، رجع فيه إن جهل حجره وإلا فلا].
قوله: (ومن باعه) أي: من باعه سيارة أو باعه داراً، فإنه في هذه الحالة إذا علم بحجره وتبايع معه؛ يتحمل مسئوليته، وليس من حقه أن يرجع في البيع ويمضى على ظاهره، ويتحمل هو مسئولية هذا البيع، أما لو كان لا يَعلم بالحجر فإنه يفسخ هذا البيع ويرد المال إلى صاحبه.
فائدة هذا: أننا لو قلنا: إنه يرجع في هذه الحالة، لا تدخل السيارة ضمن المال ولا تباع، لكن إذا قلنا: لا يرجع، دخل مال جديد على ماله ويباع مع ماله، وحينئذٍ يكون للغرماء، ثم يتحمل بعد انتهاء الحجر سداد هذا الذي عامله بعد الحجر.
قوله: [أو أقرضه شيئاً بعده] لو أن شخصاً حجرنا عليه لمائة ألف، وحكم القاضي وشهر به، فلما حكم القاضي بذلك اشترى أرضاً من شخص، فإننا ننظر في هذا الشخص ونقول له: يا فلان هل تعلم أن فلاناً محجور عليه؟ فإن قال: أعلم أنه محجور عليه وقد بعته الأرض.
فحينئذٍ تكون الأرض قد دخلت في ملكية المحجور عليه، وهذه الأرض تباع مع المال ويسدد، ثم ينتظر هذا الذي هو صاحب الأرض إلى ما بعد الحجر، وما يعطى حقه؛ لأنه تحمل مسئولية التغرير بنفسه.
فما دام أنه راضٍ بالتعامل معه، فيبقى في هذه الحالة المال للغرماء الأولين، ويباع ويقسم بينهم، وبعد فك الحجر عليه يطالبه بحقه.
هذا إذا كان عالماً، وأما إذا كان غير عالم؛ فإن البيع ينفسخ ويرد لصاحب الحق عين ماله، وإن قال: لا، اتركوا الأرض عنده، وأنا لا أرجع عن بيعي، وإن شاء الله هو يسددني، ورضيت بذلك، فهذا أمر آخر، وتدخل على ملكه، وتعامل معاملة أملاكه.
قوله: (رجع فيه إن جهل حجره) لأنه في هذه الحال يكون خيار عيب، وخيار العيب في الثمن مؤثر؛ لأن هذا يضر بثمن الأرض، ويدخل الضرر على البائع للأرض؛ لأنه سيدخل أسوة للغرماء، وأياً ما كان في هذه الحالة له حق الرجوع.
قوله: (وإلا فلا) إن كان عالماً
**حكم تصرف المحجور عليه في ذمته أو إقراره بدين أو جناية
قال رحمه الله: [وإن تصرف في ذمته أو أقر بدين أو جناية توجب قوداً أو مالا ًصح، ويطالب به بعد فك الحجر عنه].
قوله: (وإن تصرف في ذمته) كأن يشتري بالدين وتعامل مع شخص ديناً.
قوله: (أو أقر بدين) يعني قال: فلان له عليّ مائة ألف، وانظروا إلى دقة المصنف رحمه الله، فنحن نتكلم عن آثار الحجر، وفيه جانبان: الجانب الأول: ما كان من التصرفات المالية المباشرة كالبيع والشراء، فالحكم فيها بالتفصيل ما بين أن يكون عالماً أو غير عالم، هذا بالنسبة للتصرفات المباشرة.
الجانب الثاني: هناك تصرفات غير مباشرة، مثل أن يشتري منه ديناً، أو يشتري على ذمته -بالدين- أو يقر لشخص بماله، فحينئذٍ ليس بالتصرف المباشر وإنما يدخل على الغرماء غريماً جديداً.
قوله: (أو جناية توجب قوداً أو مالاً) كأن يقر بجناية توجب قوداً، فهذه كلها خارجة عن الإضرار بالمال، ويلزم في ذمته للشخص، وهذا شيء خارج عن المال وليس له تأثير في ماله الذي حجر؛ لأن الحجر يختص بالتصرفات المالية وما يلتحق بها، فلو أقر أنه كسر سن رجل؛ فإن هذا الإقرار في ظاهره جناية، لكنها تئول إلى المال، فهذا الإقرار فيه شبهة.
فأي إقرار فيه مال وتصرف مالي بحيث يدخل على ماله غريماً جديداً، أو يدخل على ماله مستحقاً جديداً، فهذا لا ينقض من التصرف في ماله، فإقراره كبيعه وشرائه إذا تضمن الاعتراف بحقه في المال وإدخال غريم جديد، فإذا تضمن المال أو ما يئول إلى المال كما في مسألة الجنايات المالية؛ فهذا كله لا يؤثر، أي: لا يلتفت إليه حال الحجر، فيصح الإقرار به ثم بعد فك الحجر يطالب بما اعترف وأقر به.
وقوله: (أو جناية توجب قوداً أو مالاً صح).
إذا كانت الجناية توجب القود، كما إذا أقر أنه قطع يداً أو رجلاً لإنسان؛ فإنه سيقتص منه ويقاد منه، وهذا ليس له علاقة بالأموال، فالإقرار صحيح.
وإن أقر بجناية توجب مالاً، فللعلماء فيها وجهان: من العلماء من يقول: إن الإقرار بالمال كالتصرف المالي، فنقبل إقراره، ولكن لا يكون إلا بعد فك الحجر لوجود الشبهة بل الاستحقاق، وهذا ما درج عليه المصنف رحمه الله.
قوله: (ويطالب به بعد فك الحجر عنه) لأنه لو فتحنا باب الإقرارات المالية فقد تحدث المغالطات التي تضر بالغرماء، وإقرار المال أصل عام سواء كان إقراراً بالمال مباشرة كأن يقول: فلان له عليّ مائة ألف، أو إقراراً بالمال بالتبع، كأن يقول: أنا قطعت يده، فيستحق نصف ديته، وهي خمسون ألفاً، أو أنا فعلت كذا ويستحق أربعين ألفاً، فهذا وإن كان في ظاهره جناية لكنه يئول إلى المال حقيقة.
فكل إقرار يتضمن التزاماً بمال؛ فإنه يؤخر إلى ما بعد فك الحجر، فنصحح الإقرار؛ لأن شروط الإقرار موجودة، فنحكم بصحة الإقرار، ولكن لا يطالب به إلا بعد فك الحجر عنه
**أثر الحجر في مال المحجور
قال رحمه الله: [ويبيع الحاكم ماله] شرع المصنف -رحمه الله- في الأثر الثاني، فعندنا أثر يتعلق بالمحجور عليه، وعندنا أثر بالشيء الذي حجر عن التصرف فيه وهو المال، فقال المصنف رحمه الله: (ويبيع الحاكم ماله).
من حجر عليه لحقوق أشخاص -وهو حجر الفلس- واستوفى الشروط؛ فإنه يباع ماله بطلب الغرماء، فينظر أولاً في السلع المعروفة بأعيانها، فمن وجد سلعة بعينها فلا تباع، وبالنسبة للغرماء الذين يطالبون بالحجر ولهم على المفلس الدين؛ فلا يخلو مال المفلس من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون المفلس قد تصرف في أموالهم التي أخذها منهم، ولم يبق منها شيء، كأن يكون -مثلاً- استبدل بها ولم تبق أعيانها، بل بقي أشياء مثلها، كرجل استدان مائة سيارة، وباع السيارات واشترى غيرها وباع، فأصبح يتاجر في السيارات، فوجدت عنده سيارات، لكنها ليست عين السيارات التي أخذها، فإذا كان المفلس لم يبق عنده عين المال الذي استدانه فيباع ولا إشكال.
وإذا بيع يكون الترتيب كالآتي: أولاً: ينظر القاضي إلى قدر حاجته ونفقته ونفقة عياله ومن تلزمه مئونته كزوجته وأولاده، فالذي يختص بنفقته ونفقة عياله وزوجه وأولاده هذا يخرج من البيع.
ثانياً: ينظر إلى المتاع الذي لا بد له ولأولاده ومن يلزمه القيام عليه، ففراش بيته الذي لا بد منه وحوائجه الأصلية هذه لا تباع ولا تعرض للبيع، لكن الكمالات والأمور الزائدة هذه تباع؛ لكن يبقى سؤال يقتضي التفصيل: إذا كان الرجل المديون عنده بيت أو (فلة) ومؤثثة بأثاث غالٍ جداً، لكن وضعه الذي كان فيه كصاحب شركة أو كذا يقتضي هذا الأثاث، ومثله يكون في هذا الأثاث، فهل ينظر لوضعه من حيث هو فلا يمس أثاث بيته الفاره الغالي، أم ينظر إلى حق المديونين، وأنه نزل من رتبة الأغنياء إلى رتبة الفقراء؟ الثاني الأصح، فهو قد نزل إلى رتبة الفقراء ويعامل بحقوق الناس؛ لأنه لا يعقل أن نجعله يعيش عيشة الأغنياء وقد تشبع بما لم يعط؛ لأنه في هذه الحالة ليس بغني.
مثلاً: لو كان عنده سيارة قيمتها مائة ألف، ومثله في وضعه وحالته الاجتماعية يستحق هذه السيارة، إن قيل: يعامل معاملة من هو في وضعه لا تباع وتترك له، واختاره بعض أصحاب الشافعي رحمه الله، وإن قيل: يعامل معاملة المديون، ينظر إلى سيارة تكفي للحاجة قيمتها عشرة آلاف ريال -مثلاً- فهذا قدر حاجته، والتسعون ألفاً تدفع لسداد حقوق الناس، وهذا هو الأصح.
فإذاً: إذا كان متاعه غالياً صرف من متاعه الغالي، وأبقي على قدر الحاجة والكفاية، كذلك أيضاً يترك على قدر الحاجة في طعامه وقدر الحاجة في فراشه وقدر الحاجة في ركوبه ونحو ذلك.
هذا من ناحية ما الذي يباع.
إذاً: إذا باع الحاكم أو القاضي وكان ماله لم يوجد فيه عين مال الغرماء؛ فإنه يبيع الزائد عن الحاجة ويترك ما تدعو إليه الحاجة، فلا يبيع ثيابه التي تستره وإنما تترك عليه، لكن لو عنده فضل ثياب بيع، ولا يبيع فراشه الذي ينام عليه، ولكن إذا كان عنده فضل فراش بيع.
ومثلاً: هو يسكن في شقة من عشر غرف، ومثله في ضعف الحال من الفقر يكفيه ثلاث غرف، فإنه يرد إلى شقة بثلاث غرف، ويباع أثاث الغرف الزائد، وقس على هذا، فالضابط عندهم: أنه ينظر إلى قدر حاجته، ويباع ما استفضل أو زاد عن هذه الحاجة.
الحالة الثانية: إذا كان أصحاب الدين وجدوا عين متاعهم، كأن يكون باعه سيارة؛ فوجد عين السيارة، أو باعه أرضاً وعين الأرض موجودة، فالأراضي والعقارات والمنقولات الموجودة بأعيانها ترد إلى أصحابها، لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (من وجد متاعه بعينه عند رجل أفلس؛ فهو أحق به) فدل على أنه يستحق أخذ المتاع بعينه ولا يباع المتاع في سداد الدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم
**الأسئلة
**الحكمة في نسبة المال للأولياء في قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)
**السؤال
كيف يكون الخطاب في الآية للولي على أن المال ماله وهو مال المحجور عليه في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]؟
**الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أولاً: قضية لماذا تأتي الآية على صورة كذا؟ أو يأتي لفظ القرآن بكذا ولم يأتِ بكذا؟ كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يشددون في هذا، الله تعالى يقول: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولا يَشك المؤمن ولا يمتري، ولا يمكن أن يخالجه أي شك بأن كتاب الله أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم عليم سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
الله سبحانه وتعالى أحكم الأمور ووضعها في نصابها، فقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] يقول العلماء وبعض أئمة التفسير: إن إسناد المال إلى المخاطبين وإن كانوا في الحقيقة ليسوا بمالكين له؛ لأن أموال المسلمين إذا تركت بأيدي السفهاء أضرت الجميع.
فالمال وإن كان في ظاهره ملكاً لليتيم وللسفيه لكنه بسوء تصرفه وصرفه للمال في المواضع التي لا ينبغي صرفه فيها؛ سيضر بالجماعة، وهذا سيؤثر على المجتمع، فكأن أموال المجتمع تذهب.
ولتوضيح المسألة وحتى يتضح مقصود بعض المفسرين يقول بعض العلماء: إذا انتشر في أي مجتمع السفهاء؛ فإنهم يؤثرون على العقلاء، وهذا واضح جلي، فالآن -مثلاً- إذا جئت إلى بيئة يكثر فيها النساء، لو جاءت المرأة وسفهت في تصرفها في المال، فأصبحت تشتري بخمسين ألفاً أو بعشرين ألفاً أو بثلاثين ألفاً، وغارت منها جارتها فاشترت كما تشتري، ثم الجارة الثانية ثم الثالثة حتى يصبح وضعاً في المجتمع سائداً، بحيث إن العاقل لو جاء يمتنع من هذا الذي لا يشك أنه سفه لا يقدر أن يمتنع؛ لأنه يقول: نعم، أنا أعرف أنه خطأ، لكن ما الذي يصبرني على هذا السيل الجارف من الزوجة والأم والبنت والأخت.
فمثلاً: لو أنه في كل عيد يشتري فراشاً بعشرين أو ثلاثين ألفاً، لو أنه جاء في عيد من الأعياد ولم يغير فراش بيته، وهو في كل عيد يغير ويجدد بهذا المبلغ الباهظ، ونحن لا نمنع أن يجدد لكن المشكلة في الغلو والإسراف، فإذا جاء يقول: لا أريد التجويد، تأتي الزوجة تلومه، وتأتي الأخت، وتأتي القريبة، وتأتي الجارة ثم تأتي قرابة المرأة، وهذا كذا، وهذا لا يحترمك، وهذا لا يقدرك، وهذا وهذا.
فإذا بك تجد أنك ستقع في شيء من الإحراج أعظم مما لو أنفقت هذا المال، فستضطر مجاراة لهم ودفعاً لذلك إلى عمل أنت تراه سفهاً.
والذي أحدث هذا كثرة السفه، فالسفه يضيع أموالنا نحن {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] قالوا: جعل الله المال قياماً؛ لأنه تقوم به مصالح الناس، فكثرة السفه تعني التبذير للمال في غير موضعه.
وإذا كان الشخص عاقلاً حكيماً يشتري الأشياء بقيمتها، فإنه لا يضر غيره ولا تذهب أموال الناس، فالمال وإن كان لليتيم لكنه سيئول بتصرفه، وإن كان للناس فسيئول بتصرفهم إلينا ويؤثر فينا.
كذلك الابن لو أراد أن يشتري سيارة فقد تكفيه سيارة بعشرة آلاف، لكن لو رأى ابن الجار اشترى سيارة بثمانين ألفاً، فسيطالب بسيارة بثمانين ألفاً، ثم ابن الجار الثاني والثالث والرابع، وإذا بابنك الذي لم يبلغ بعد يقف أمامك ويقول: أريد سيارة.
تقول له: تريد تقضي بها مصالحك وتقوم على شأنك؟ يقول: نعم.
تقول: إذن هذه سيارة بعشرة آلاف، سيارة مستعملة تقضي بها مصالحك.
فيقول: لا ما أريد، ويحس أنه إذا لم تشتر له بثمانين ألفاً أن الأبوة قد زالت وأن معاني الحنان ذهبت وأن وأن.
فتأتي تفكر أنك لو جئت تعامله بالعقل وبما ينبغي أن يعامل به فاتك الابن، ولربما انقطعت الأواصر بينك وبينه، وربما حقد وربما وربما، فتضطر وأنت كاره إلى مجاراة الوضع وهكذا.
فهذا وجه عند بعض المفسرين في تفسير الآية.
وهناك وجه ثانٍ: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] أسند الأموال إليهم لما أصبح مالكها سفيهاً فأخلى يده منها، والمال مال الله، والله هو الذي يحكم في الأموال {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فنحن مستخلفون على الأموال، ومأمورون بصرفها في مواضعها.
فكل رجل وكل امرأة أنصف في ماله، فصرفه في موضعه، فقد قام بحق الاستخلاف، فإن جاء ينفق المال في غير موضعه فليس هذا الذي استخلف من أجله وليس هذا الذي أُعطي المال من أجله، وحينئذٍ تنتقل ولاية المال إلى الغير، فتصير أموال معاشر الأولياء، كأنها تنتقل بالسفه إلى الأولياء ولم تعد إلى السفهاء.
ويتخرج على هذا الوجه الثاني في الآية، أن التعبير بالشيء يكون بما يئول إليه؛ لأن العرب تعبر بالشيء عما كان، وتعبر بالشيء عما سيكون.
كما كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب؛ لأنه نشأ في حجر عمه أبي طالب، وسموه يتيماً وهو بالغ وفي عقله عليه الصلاة والسلام باعتبار ما كان، فكانوا يقولون له: اليتيم، باعتبار ما كان، ولذلك قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] فيُسمى الشيء بما كان ويُسمى ويوصف بما سيكون.
فلما كانت الأموال ستئول إلى الأولياء وهم الذين يتصرفون فيها صارت من عداد أموالهم، وكأنه نوع من الاستعطاف والاسترحام والتوجيه للأولياء، أي: أنكم إذا توليتم أموال الضعفاء فعدوها كأموالكم واتقوا الله فيها فأحسنوا فيها ولا تسيئوا، واستثمروها ولا تضيعوها ونحو ذلك مما فيه مصالح الحجر.
والله تعالى أعلم
**كيفية الإحرام لمن أراد العمرة بعد المكث في جدة لفترة
**السؤال
من سافر من بلده إلى جدة، وكان ناوياً أن يعتمر بعد انتهائه من عمله في جدة، فمن أين يحرم؟
**الجواب
من سافر من المدينة -مثلاً- وعنده حاجة في جدة سافر من أجلها، وفي نيته أن يعتمر، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتأكد أن الوقت سيسعه، بحيث إذا انتهى من حاجته سيذهب إلى العمرة قطعاً، فهو متأكد أنه سيفعل العمرة، فهذا يجب عليه أن يعتمر من المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذي الحليفة والمواقيت الأخر: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) فألزم كل من مر بالميقات يريد الحج والعمرة أن يحرم منه، فدل على وجوب الإحرام من الميقات.
فنقول: يجب عليك أن تحرم من ميقات ذي الحليفة، وأنت بالخيار بين أمرين: - إما أن تحرم وتذهب للعمرة وتأتي بها، ثم ترجع إلى جدة وتقضي حوائجك.
- وإما أن تذهب بعمرتك وتلبس إحرامك وتذهب إلى جدة، وتقضي حوائجك، ثم بعد فراغك من حاجتك تمضي إلى العمرة.
فإن قال: لا أستطيع أن أذهب بإحرامي، فنقول: يذهب ويقضي حاجته، ثم إذا أراد أن يعتمر يرجع إلى ميقات المدينة ويحرم منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالإحرام منه.
الحالة الثانية: أن يذهب إلى جدة متردداً، يقول: لا أدري هل يسعني الوقت أو لا يسعني، فمثل هذا يجوز له ألا يحرم من ميقات الميدنة مثلاً: شخص عنده معاملة في جدة، ولا يدري هل يسعه الوقت فيعتمر أو لا يسعه؟ فمن يشك في الوقت يجوز له أن يذهب إلى جدة وهو غير محرم ويقضي حاجته في جدة، ثم يحرم من جدة إذا أنشأ العمرة منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك؛ فإحرامه من حيث أنشأ).
فهذا الذي لم تتمحض نيته بالعمرة من المدينة وأصبح شاكاً متردداً يعطى حكم الأصل من أنه لا يلزمه الإحرام حتى يتحقق من كونه معتمراً.
وأحب أن أنبه على مسألة حتى لا يضيق الوقت: بعض الإخوة -جزاهم الله خيراً- من حرصه على الدروس والفائدة العلمية يفرغ الدروس في مذكرات، وهذا لا شك أنه خير كثير، فإن من يسمع ويقرأ ويكتب يضبط العلم، والله عز وجل يأجره على حروفه إذا قصد بها وجه الله عز وجل وابتغى ما عند الله.
لكن اطلعت على ما كتبه بعض الإخوان فوجدته يعلق على الأحاديث ويعلق على المسائل، وهذه طريقة عقيمة، ولا أسمح لأحد في أي درس أو محاضرة أن يعلق على دروسي أو محاضراتي إلا بإذني؛ لأنه ربما ذكر دليلاً بإمكاني أن أجيب عنه فيشوش على طالب العلم الذي يقرأ مذكرة بهذا الشكل، فلا يدري هل هو في الحاشية أو في الصلب.
وليس من حق أحد أن يأتي على درس أحد من أجل أن يعقب أو يتكلم، إذا كان عنده شيء يذهب ويحدث درساً فيه علم وفيه فائدة ويبينه، خاصة أن مسائلنا خلافية، وفيها أقوال العلماء، والحمد لله ما شذذنا -ولا نزكي أنفسنا على الله- وقد التزمنا ألا نقول بقول شاذ، ولا نعرف على أنفسنا -ولله الحمد- أننا قلنا قولاً إلا ولنا سلف ولنا حجة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبإجماع العلماء أنه من اعتقد رأياً عليه دليل فليس لأحد أن ينازعه ذلك إلا إذا كان طالب العلم عنده نظر وعنده اجتهاد، بحيث يستطيع أن يميز بين قول فلان وفلان بالحجة والدليل.
أما أن يأتي شخص ويأخذ مذكرة الدرس الفلاني ويعلق عليها، فإن كان ضعف حديثاً صححه، أقول: افرض أن هذا التصحيح لا أقتنع به، فما دام الذي شرح الدرس له إلمام بعلم الحديث وعلم الرواية، وله إلمام بالأدلة وله منهج وهو أهل لذلك، وعنده من أهل العلم من رضي له أن يعلِّم، فليس من حق طويلب علم أن يأتي يتعقب؛ لأنه ربما ظن أن هذا الحديث صحيح في اعتقاده وهو ضعيف.
ولذلك لا أسمح بهذا ولا أرضى، وهو خصمي بين يدي الله إذا كان يأتي إلى مذكرة ويعلق فيها برأيه وما يراه.
وإذا كان يريد التعقب يفتح درساً يقرأ فيها ما أقرأناه، ويذكر الحجة والدليل، يسعه ما وسع السلف، وما وجدنا في كتب السلف أحداً جاء وأخذ كتاب شخص لأجل أن يعقب عليه فيصحح ضعيفه ويضعف صحيحه، ويأتي بأقوال لمشايخ آخرين في الهوامش تخالف قول المصنف.
فمثل هذا يحدث البلبلة والتشويش لطلاب العلم، نحن نريد طلب العلم بالطريقة الحكيمة التي سار عليها سلف الأمة، ولا نعتقد أننا معصومون، ونبرأ إلى الله أن نعتقد بأنفسنا عصمة، لكن والله ما نرضى أن أحداً يرد قولنا الذي اعتمدنا عليه بالدليل من الكتاب والسنة بمحض رأيه، أو يأتي يعتقد صواب شيء نعتقد خطأه ويلزمنا خطأه؛ لأنه أجمع العلماء على أنه ليس من حق مجتهد أن يلزم مجتهداً آخر باجتهاده.
ولذلك أجمع العلماء: على أن الرجلين إذا كانا في سفر، وقال أحدهما: القبلة هكذا، وقال الآخر: القبلة هكذا، أنه لا يصلي أحدهما وراء الآخر إلا إذا اعتقد صحة قوله.
فلا يجوز أن يأتي طالب علم نال شيئاً من العلم وحفظ كلمة أو كلمتين -نسأل الله السلامة والعافية- ويأخذ مذكرات ويعقب فيها من وراء حجاب، دون أن يأتي ويقارع بالحجة، ويسأل ويستبين، هذا لا نعرفه من طرق العلم ولا نعرفه من منهج العلم.
وهذا شيء من التعالم، وتكون مذكرة مجهولة لا يعرف من الذي كتبها أصلاً، وبعض العلماء يمنع من قراءة كتاب شخص لا يُعرف لأنه لا تعرف قيمته ولا يعرف هل شهد له أنه أهل، لذلك هذا يشوش فكر طالب العلم.
وليس هذا خاصاً بدروسنا بل مع أي أحد، فأي شيخ له درسه وله علمه وله وزنه وله قدره ينبغي ألا يغير في كلامه ويزاد أو ينقص عليه شيء، وأن ينزل الناس منازلهم، وأن نتقي الله في هذا العلم.
فإذا كان الشخص يرى رجحان قوله بدليل، فليعلم أن الذي خالفه عنده دليل، وأنه إذا كان يرى لنفسه أن يلزم الغير بدليله، فللغير أن يلزمه بدليله، فكما أنك تعتقد هذا القول بالدليل فغيرك كذلك، وقد قرر الإمام الحافظ ابن عبد البر وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والأئمة -رحمة الله عليهم- ودرج عليه حال السلف: أن كل من كانت عنده أهلية وعُرِف عنه أنه يلتزم دليل الكتاب والسنة في رأيه في الفقه ومسائل الفروع فهو لقوله، حتى يستبين له الحق خلاف قوله.
فالأصل أنه لا يقول قولاً إلا بدليل وحجة، فإن خالفه أحد فلا يخالفه إلا بالحجة، فيأتي ويقارع ويأخذ معه ويعطي، فإما رجع عن قوله، وإما بقي على قوله.
ما عهدنا من السلف أن إماماً جاء من أجل أن يهدم فقه الذي قبله أبداً، إنما وجدنا أن كلاً يعتقد قوله بدليله وحجته، وهذه مسألة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد) فالحمد لله على هذا الفضل.
فليس من الحق ولا من العدل أن تأتي وتقول بقول وتعتقد ضَعف حديث خالفه، فيأتي إنسان ويشوش على طالب علم عندك ويقول: لا.
بل هناك حديث صحيح وهو كذا وكذا، وهو صحيح عندك وليس بصحيح عندي وأنت ملزم به ولست ملزماً به، فهذا أصل عام.
وأنا لا أسمح بالمناسبة بأي مذكرة أن تخرج إلا بالطريقة المعتبرة وبطريقة رسمية معتبرة، أما بهذه الفوضى وأن كل طالب علم يأتي ويعقب، ويكتب مجاهيل لا نعرف من هم وعمن أخذوا ومَن هم رجالهم وما هي أفكارهم، فهذا لا يُسمح به ولا أرضى به.
والله ما تعلمنا العلم ليهان العلم، ولا تعلمنا العلم ليُرقى على أكتاف العلم، والله لا نقولها غيرةً لأنفسنا؛ لأننا نعلم ونوقن -ولا نزكي أنفسنا على الله- أن عندنا منزلة عند الله، فلا الناس يرفعنا إليها إن رضوا عنها، ولا ينزلوننا عنها إن سخطوا علينا؛ ولكن نريد تقوى الله عز وجل، نريد الكتاب والسنة، وما فهمناه من الكتاب والسنة ألَّا يأتي إنسان بسيط العلم قليل البضاعة يستعجل في شيء يكون هلكةً عليه وعلى غيره، فيَضِل ويُضَل.
فالله! الله! لا تسلم فكرك ولا زمام رأيك في مسألة أياً كانت شرعية إلا ولك حجة ترضاها بينك وبين الله، ولا يسمح لأحد أن يسلك هذا الطريق سواءً في المحاضرات أو في غيرها.
وأي طالب علم جاءته مذكرة ليس عليها توقيعي أو إقراري بالنسبة لي فأنا لا اعترف بهذا، ولذلك أوصي بالإعراض عن مثل هذا.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، إنه المرجو والأمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (333)
صـــــ(1) إلى صــ(19)
شرح زاد المستقنع -** باب الحجر [3]
إذا كان الشخص مديناً وثبت إفلاسه فإنه يحجر عليه، حفظاً لحقوق الدائنين، ثم يقسم ما بقي عنده من المال بينهم بالعدل، على تفصيل فيه، لكن بدون أن يُظلم المفلس، فلا يطالب بما لا يلزمه ولا بما يحل أجله حتى يأتي وقته
**حكم الأمتعة والأموال الموجودة بأعيانها عند المفلس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تقدم أن الحجر على المفلس إنما شرع من أجل مصلحة الغرماء، وذلك أنه إذا أفلس صار حق الغرماء في ماله.
ومن هنا حكمت الشريعة بالحجر عليه بالتصرف في ماله، والكلام على هذا الحجر يستلزم أولاً بيان مشروعيته وسبب وجوبه، ثم بعد ذلك الحكم بالحجر، ثم الآثار المترتبة على الحكم.
وقد ذكرنا جملة من هذه المسائل فيما تقدم، ووقفنا عند بيع الحاكم أو القاضي لمال المفلس الذي هو ثمرة للحجر، فإنه إذا حجر على الشخص وتوفرت فيه شروط الحجر على المفلس وحكمنا بالحجر، فهناك آثار مترتبة على هذا الحكم منها: أن القاضي يحكم ببيع ماله وقلنا: إنه إذا حكم القاضي ببيع مال المفلس فإن هذا الحكم يفتقر إلى بيان الأموال التي يحكم ببيعها.
فأول ما يقوم به الحاكم أو من يوليه لبيع مال المفلس: فرز أموال المفلس وتصنيف هذه الأموال، فهناك أموال من الحيوانات وهناك أموال من العقارات وهناك أموال من المنقولات، فتجمع هذه الأموال وتصنف، ويُبْدأ بأخذ الأمور الضرورية التي يحتاجها المفلس فتخرج من هذه الأموال، ثم بعد ذلك يخرج منها الأمتعة والأموال التي وجدت بأعيانها وتدفع إلى أصحابها من الغرماء.
فكل غريم باع إلى هذا المفلس مالاً ووجده بعينه؛ فإنه من حقه أن يأخذ عين المال، وتوضيح هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) وهذا الحديث فيه: أن أموال المفلسين يخرج منها ما كان باقياً بعينه من أموال الغرماء، فإذا طالب الغريم بهذا العيني فإن من حقه أن يخرج هذا المال ويرد إليه، وإذا رددنا هذا المال فهنا صور
**حكم من وجد متاعه عند المفلس بعينه من غير زيادة أو نقصان
الصورة الأولى: مثال هذه المسألة: رجل باع سيارة لرجل ثم أفلس، فإذا كانت السيارة بعينها ولم يتصرف بها، أي: لم يتغير فيها شيء بالزيادة أو بالنقص ولم يدفع شيئاً من ثمنها، كما هي الشروط المعتبرة في هذا المال فإن من حق صاحب السيارة أن يقول: هذه السيارة سيارتي، ويثبت ذلك، ثم يأخذ السيارة بعينها لقاء دينه، فيسقط كامل دينه الذي له من قيمة هذه السيارة.
فلو أن هذه السيارة اشتراها المفلس بعشرين ألفاً فإننا نقول: خذ السيارة، والعشرين ألفاً قد انتهت؛ لأن ذلك إلغاء للبيع الذي وقع بين المفلس والغريم.
وعلى هذا يشترط أولاً: أن يجد عين المتاع، فلا يجد -مثلاً- مثله، فلو وجد مثله فليس من حقه أن يطالب به.
وثانياً: ألا يكون قد أخذ شيئاً من قيمته، فلو دفع المفلس بعض القيمة فإنه لا يستحق أن يطالب بعين المتاع، والدليل على ذلك ظاهر الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولم يقل: وليرد ما أخذ.
فدل على أنه قد عاوضه وساومه على ذلك البيع دون أن يدفع له مقدماً أو شيئاً من ثمنه، فإن دفع شيئاً من ثمنه فجماهير العلماء على أنه لا يستحق الرد.
وأما بالنسبة لهذا المتاع كالسيارة أو الأرض أو العمارة إذا وجدت بعينها، فإما أن تكون قيمتها مساوية لقيمة بيعها، مثال ذلك: لو أن رجلاً اشترى سيارة بمائة ألف ثم أفلس بعد شهرين من البيع، أو اشتراها بمائتي ألف وأفلس بعد سنة والسيارة قيمتها مائة ألف لم تختلف؛ فحينئذٍ لا إشكال وسيطالب بسيارته؛ ولو لم يطالب بالسيارة فسيدخل ضمن الدين ويكون له بعض قيمتها وليس الكل، أي: سيدخل مع الغرماء مشاركاً لهم، والأفضل له أن يأخذ السيارة ويبيعها بدل أن يتركها حتى تكون أسوة للغرماء.
فالحالة الأولى: أن تكون القيمة لم تختلف، فالحكم أنه إذا رضي صاحب المتاع وطلب صاحب المتاع أن ترد له ردت.
الحالة الثانية: أن تكون القيمة أكثر، فلو أن هذه السيارة باعها الرجل أو الغريم بمائة ألف، ثم اشتراها المفلس ديناً إلى نهاية السنة وقبل نهاية السنة حجر عليه، فلما تمت سنة لهذه السيارة أصبحت قيمتها مائة وخمسين ألفاً، أي أنها زادت بمقدار الثلث، فمن حقه أن يطالب بعين السيارة ولو أصبحت بأغلى مما بيعت به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) ولم يفصل بين كونه أغلى أو أرخص أو مساوياً، فأخذ جمهور العلماء من هذا دليلاً على أنه يستحق رد السيارة غالية أو رخيصة وكأنه إلغاء للبيع الأول.
الحالة الثالثة: أن تكون قيمة السيارة أنقص، كأن يبيعه إياها بمائة ألف وتصبح قيمتها ثمانين ألفاً أو تسعين ألفاً أو سبعين ألفاً، فنقول له: أنت بالخيار بين أن تدخل أسوة للغرماء في أمواله على قدر دينك، وبين أن تأخذ السيارة لقاء دينك الذي هو قيمة السيارة، ولا شيء لك من قيمة السيارة، وهذا على ظاهر السنة في الصحيحين من حديث أبي هريرة المتقدم
**حكم من وجد متاعه بنقص عند مفلس
الصورة الثانية: لو أن هذه السيارة نقص منها شيء أو تغير فيها شيء بالنقص، أو تغير فيها الحال بالزيادة، فلا يخلو النقص إما أن يكون النقص بآفة سماوية أو بسبب من المشتري الذي هو المفلس، أو يكون النقص بسبب من أجنبي، أي: ليس من البائع ولا من المفلس المشتري.
الحالة الأولى: أن يكون النقص بآفة سماوية، كرجل اشترى منه رجل دابة ثم أصابها الشلل، فشلت يمينها أو شلت رجل منها، فهذا النقص حصل بآفة سماوية وليس بتفريط من المشتري -المفلس- وليس من أجنبي.
أو كرجل اشترى منه رجل أرضاً، فجاء السيل واجتاح ثلثها أو نصفها فهذه آفة سماوية.
أو كرجل اشترى منه رجل مزرعة، فجاء إعصار فأحرق ربعها، هذه كلها آفات سماوية، فالسؤال الآن: لو وجد متاعه على هذه الصفة بالنقص فهل يطالب بالرد، ويطالب المشتري بالضمان، أم أنه يأخذ عين المتاع؟
و
**الجواب
أن يقال له: إن كان النقص بآفة سماوية، فإنك تستحق عين المتاع، ولا ضمان في الآفات السماوية على المشتري، لتقريرنا هذا في باب البيع حينما تكلمنا على مسائل العيوب في المبيعات، وأن من حقه أن يستردها دون أن يضمن المشتري.
وبناءً على ذلك فإننا نقول له: أنت بالخيار بين أمرين: أن تقبل هذه السيارة وهذه الدابة وهذه الأرض معيبة بحالها ما دام أنها بآفة سماوية ولا ضمان في هذه الآفات ويسقط دينك كاملاً، فإذا كانت قيمة السيارة مائة ألف، فإنه يأخذها بعد الخسارة التي فيها بالمائة ألف على أنه رد لعين المتاع، فيصبح كأنه إلغاء للبيع الماضي أو البيع السابق على أن لا تكون هناك مطالبة بالمال الذي بيعت به السلعة.
الحالة الثانية: أن يكون النقص بسبب المشتري -المفلس- ففي هذه الحالة إذا كان النقص بسبب المفلس فمذهب طائفة من العلماء -رحمهم الله- أنه إذا حصل النقص بإتلاف للجزء ففيه تفصيل: إما أن يمكن فصل المبيع، كأن يكون اشترى منه سيارتين كل سيارة بخمسين ألفاً فأتلف المشتري -المفلس- إحداهما وبقيت الثانية؛ فحينئذٍ نقول له: خذ الثانية بقيمتها من أصل البيع، أي: أنت بالخيار، إن أردت أن تأخذ متاعك فتأخذ الباقية وهي السيارة، فلو كانت قيمة السيارتين مائة ألف، إحداهما بخمسين والثانية بخمسين وأتلف إحداهما قالوا: من حقه أن يأخذ الثانية بخمسين ألفاً وتسقط الخمسين، وهذا مبني على مسألة تفريق الصفقة.
فالسيارتان في صفقة واحدة، لكن يفرق بينهما بوجود العيب في الثانية، فيبقى ضمان الثانية على ملك المفلس، فيأخذ خمسين ألفاً ويأخذ السيارة لقاء خمسين ألفاً، وتبقى ذمة المفلس مشغولة بالخمسين الباقية، وقد يكون الأحظ له والأفضل أن يفعل هذا؛ لأنه لو كان هناك رجلان كل منهما له مائة ألف على المفلس، فهو في هذه الحالة إذا كانت له مائة ألف مقسومة بين السيارات كل سيارة بخمسين ألفاً فمعناه أنه لو أخذ السيارة السليمة فإنه سيستعيد نصف دينه، لكن إذا لم يأخذها ودخل مع الآخر فإنه سيتحصل على ما يقرب من ربع الدين وهو خمسة وعشرون ألفاً؛ لأن السيارة ستباع ويكون له نصف المبيع وهو الشيء ونصفه، وهو القيمة التي ذكرناها، وهي ربع الصفقة خمسة وعشرون ألفاً.
فالأفضل له أن يأخذ السيارة ويبقى له نصف الدين أسوة مع الغريم الآخر.
وعلى هذا: إذا كان النقص على هذا الوجه فإنه يضمنه المشتري.
الحالة الثالثة: أن يكون النقص بسبب أجنبي، فمذهب طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- أنه إذا أتلف جزءاً من السيارة، فإن الضمان حينئذٍ يكون على الأجنبي، ثم يخير مالك السيارة بين الرجوع على المشتري أو على الأجنبي الذي أتلف
**حكم من وجد متاعه بزيادة عند المفلس
إذا تغير المبيع بالزيادة كجارية حملت أو سمنت، أو اشترى منه بقرة أو ناقة أو شاة وحسن حالها وصلح، فإنه إذا كانت الزيادة متصلة لا يمكن فصلها عن المبيع؛ فإنه يردها، ولا يطالب بقدر تلك الزيادة؛ لأنها كانت على ضمانه.
وأما إذا كانت الزيادة منفصلة فاختلف العلماء رحمهم الله، وقد قدمنا هذا في مسألة خيار العيوب هل تكون تابعة للمبيع أم لا، والأشبه والأقوى أن تكون غير تابعة للمبيع وذلك على حديث المصراة الذي ذكرناه
**حكم المطالبة بعين المتاع إذا وجد بعد موت المفلس
يبقى معنا من مسائل الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس) لو أن هذا الرجل وهو المفلس مات، فقال طائفة من العلماء: إنه إذا مات فحينئذٍ يصبح مالك المتاع مع الغرماء سواءً بسواء، أي: يشترط شرط آخر لاسترداد المتاع وهو ألا يموت المفلس، فإن طالب بمتاعه بعد موت المفلس فإن المال ينتقل للورثة وحينئذٍ يكون أسوة مع الغرماء، وهذا ما اختاره المصنف -رحمه الله- وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليهم.
والصحيح ما ذهب إليه جمع من أهل العلم: أنه إذا مات فإنه يستحق الرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس).
فأثبت بظاهر الحديث للمالك الحقيقي -الغريم- أن له اليد على متاعه إن وجده بعينه، ثم الموت لا يوجب النقل؛ لأن الله تعالى قال في كتابه في الميراث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] فجعل ملكية المال للورثة بعد الوصية والدين.
وعلى هذا فالدين يمنع انتقال المال للورثة، وعلى هذا تتعلق ذمة الميت بسبب هذا الدين، وسنبين -ذلك إن شاء الله تعالى- في مسألة: هل يحل الدين بالموت أو لا يحل، وهي الجملة التي تلي هذه الجمل.
والذين قالوا: إنه إذا مات تسقط المطالبة؛ استدلوا بمرسل أبي داود رحمه الله، وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن مات فهو أسوة الغرماء) ولكنها رواية ضعيفة، والأصل بقاء الحديث على ظاهره، ولم تصح رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ
**كيفية بيع مال المفلس
قال رحمه الله: [ويبيع الحاكم ماله].
قوله: (يبيع الحاكم) الحاكم: القاضي، وقوله: (يبيع) يعني: يأمر ببيع متاعه، وإذا أراد أن يبيع أو يأمر بالبيع فالجاري عند قضاة الإسلام عادة أنهم يرجعون إلى أهل الخبرة، فالقاضي بنفسه لا يتولى البيع، وإنما يبحث عن أناس من التجار معروفين بالأمانة والصدق والحفظ، فيقول لهم: هذا مال فلان قوموا عليه.
فيقومون عليه ويتولون أمره.
وقال بعض العلماء: يشرع للقاضي أن يجعل لمن يتولى بيع المال حظاً من بيت المال.
أي: هؤلاء الذين يتولون النظر في أموال المفلسين لبيعها يكونون تابعين للقضاء ويفرض لهم شيء من بيت مال المسلمين.
فإذا قام هؤلاء الذين ينظرون في هذا المال، فالأولى أن يكون المفلس حاضراً، وذلك لكي ينظر الأحظ لماله، ويقام هذا المال بأفضل الأسواق، حتى لا يكون هناك ظلم للمالك الحقيقي، فيلتمس أفضل الأسواق؛ لأن هذا فيه مصلحة للمالك الحقيقي ومصلحة للغرماء حتى تسدد ديونهم.
ثم بعد ذلك يعرض المال للبيع، ولا تقبل الزيادة ممن جاء يساوم ويزيد إلا ممن لا تهمة فيه
**كيفية قسمة مال المفلس بين الغرماء
يقول رحمه الله: [ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه] هذه المسألة أجمع عليها الصحابة -رضوان الله عليهم- كما في قصة العول، فإن امرأة توفيت وتركت زوجاً وأختين، فنصيب الأختين الثلثان، ونصيب الزوج النصف، ولا يمكن أن ينقسم المال عليهم.
فاستشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة رضوان الله عليهم، فأمروه أن يرد المسألة إلى سبع، فقال الزبير رضي الله عنه وأرضاه: (يا أمير المؤمنين ما أرى هذه المسألة إلا كرجل مات وعليه دين عشرة وقد ترك سبعة، فإننا نقسم المال على قدر حصص أصحاب الديون).
توضيح ذلك: مثلاً: عندنا مفلس بعنا متاعه بمليون، والديون التي عليه مليونان، والمليونان كل رجل له نصف مليون، فالمليون التي تحصلنا عليها من البيع ننظر حصة كل غريم من أصل الدين، فالذي له نصف الدين يأخذ نصف المليون التي بيع بها، ثم الذي له النصف الآخر يأخذها.
مثال آخر: لو أن ثلاثة أشخاص لهم دين على رجل تسعين ألفاً، كل رجل له ثلاثون ألفاً، فأصبح كل واحد منهم سهمه ثلث المال فيستحق ثلث الدين، الأول له الثلث، والبقية كل منهما له الثلث.
فلو أن هذا المفلس بيع متاعه بستين ألفاً، فالدين تسعون ألفاً، والستون لا يمكن قسمتها على تسعين، فحينئذٍ ما العمل؟ نقسم الستين ثلاثة أثلاث، ويعطى كل واحد منهم ثلثاً -عشرين ألفاً- فيأخذ كل واحد منهم الثلث من مال المفلس؛ لأن هذا هو حقه في أصل الدين أنه يستحق الثلث.
ولو كان هناك ثلاثة أشخاص أحدهم له نصف الدين، والثاني له الربع، والثالث له الربع، فحينئذٍ تقسم المال الذي نتج عن البيع على أربعة، تعطي من له النصف اثنين من أربعة الذي هو النصف، وتعطي من له الربع كل واحد منهما واحداً من أربعة، وهذا معنى يقسم على قدر دينهم
**حكم الدين المؤجل عند الحكم بفلس المدين
قال رحمه الله: [ولا يحل مؤجل بفلس] في هذه المسألة قصد المصنف أن يبين أن الحكم بفلس المديون لا يستلزم حلول الدين المؤجل، فلو أن رجلاً مفلساً عليه مائة ألف، خمسون منها قد حلت ويثبت بها الحجر، وخمسون منها تحل بعد السنة، وكان عنده بيت قيمته ثلاثون ألفاً، فحينئذٍ طالب أصحاب الدين بأن يحجر عليه، فنحجر عليه لقاء أصحاب الخمسين الحالة.
لكن لو جاء صاحب الدين الذي لم يحل بعد، فهل من حقه أن يزاحم أصحاب الديون الحالة، أم ينتظر حتى حلول أجل دينه؛ لأن الضرر قائم عليه؛ لأنه لو بيع البيت صار غريمه مفلساً؟
و
**الجواب
قول المصنف: (ولا يحل مؤجل بفلس) أي: أنه إذا حكم بفلس إنسان فإنه لا تحل الديون المؤجلة عليه، هذا بالنسبة لمسألة حلول الدين.
والسبب في هذا: أن صاحب الدين قد رضي بتأجيله فلا يحكم له قبل وقته، ونحن ذكرنا في الحجر على المفلس أنه يشترط في الحجر عليه أن يكون الدين قد حل، فإذا كان دينه لم يحل فليس من حقه المطالبة
**حكم الدين المؤجل إذا مات المفلس
قال المصنف رحمه الله: [ولا بموت إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء].
قوله: (ولا بموت) يعني: ولا يحل إن مات المفلس.
كرجل عليه دين مؤجل، ثم توفي وترك لورثته مائة ألف، والذي عليه خمسون ألفاً، ولكن هذه الخمسين إلى نهاية السنة، فهل تحل ديونه؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: - فمن أهل العلم من يرى أن الميت تحل ديونه بالموت ولو كانت مؤجلة، ولذلك قالوا: من مات حلت ديونه ويجب على ورثته المبادرة بالسداد.
- وقال طائفة من العلماء: الموت لا يخالف الحكم، فيبقى الحكم مستصحباً وسارياً، فالدين المؤجل مؤجل.
والصحيح: أن الدين يحل بالموت؛ لأن الميت ترهن نفسه به، وهذا عذاب للميت، ودل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه).
فالميت معلقة نفسه بالدين، ولذلك قال بعض العلماء: هذا الحديث مشكلة عند أهل العلم في قوله: (نفس المؤمن معلقة بدينه) وفي رواية (مرهونة بدينه).
فقال طائفة من العلماء: يحبس عن النعيم ويحال بينه وبين النعيم حتى يقضى دينه، فنفسه لا تتنعم إلا بعد قضاء دينه؛ لأنه قال: (نفس المؤمن مرهونة) وأصل الرهن: الحبس، كما في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: محبوسة.
فلما قال عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة) دل على أنها محبوسة وهي إما تحبس عن النعيم أو عن الفضل.
ولذلك كره العلماء -رحمهم الله- الدين وشددوا فيه لهذا الحديث، فقالوا: إنه إذا كانت نفسه مرهونة، وماله موجوداً، والورثة لا يستحقون المال إلا بعد الدين، فالذي تطمئن إليه النفس أنه يجب عليهم أن يبادروا بسداد دينه ولو كان دينه مؤجلاً.
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء -وفي رواية- أنه يغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه، فجاءه جبريل ونزل عليه بالوحي فقال عليه الصلاة والسلام: إلا الدين، أخبرني به جبريل آنفاً) يعني: يغفر له كل شيء إلا حقوق العباد، فالذي عليه من حقوق العباد نفسه مرهونة به.
فإذا كان هذا في الشهيد وهو من أعظم الناس منزلة عند الله سبحانه وتعالى، يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويبعث وجرحه يثعب دماً وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تسرح فيها، تشرب من أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، ومع ذلك يغفر له كل شيء إلا الدين.
فهذا يدل على عظم أمر الدين، فإذا كان أمره بهذا العظم، فليس من الحق ولا من العدل أن يبقى الميت مرهونة نفسه قد ترك السداد، وننتظر إلى حلول الأجل حتى يسدد عنه.
فلذلك الذي يظهر أن الميت تحل ديونه بالموت، وأنه يجب على ورثته أن يبادروا بسداد ديونه، خاصة مع قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] وفي الآية الأخرى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] وفي الأخرى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12].
فهذه الآيات كلها صريحة بأن الدين مقدم على حقوق الورثة، فإذا نظرنا إلى هذا فمعناه: أنه يجب علينا أن نبادر بسداد دين الميت؛ لأن هذا ماله وقد حلت ديونه، فينبغي أن يبادر بالأصلح والأوفر له؛ لأنه ليس ثم مانع شرعي يمنع من هذا.
ونحن نقول: إن الدين المؤجل ليس من حق صاحب الدين أن يطالب المديون به؛ لأن الدين إذا كان صاحبه قد أخره عليك إلى نهاية السنة، فإن الرفق بك أن ننتظر إلى نهاية السنة، فمن مات الرفق به أن يعجل، فأصبحت المسألة بالموت عكسية.
ولذلك جعل شرعاً الحق أن تطالب بتأخيره بناءً على الأجل، وإذا ثبت أن الحق أن تطالب بتأخيره بناءً على الأجل لمصلحة المديون فالعكس بالعكس في حال الوفاة.
ومن هنا فإنه يجب على الورثة أن يبادروا بالسداد، وقد ذكرنا هذا غير مرة، وهذا من أعظم ما يقع من المظالم، فإن الورثة يموت مورثهم ويترك لهم عمارة أو أرضاً ولها قيمة ويمكن بيعها وسداد ديونه، ولكن الورثة يمتنعون، ثم تبقى الديون، ولربما حلت الديون وتبقى إلى سنوات ولربما تبقى دهراً طويلاً، وهذا إن كان في الوالد والوالدة فهو من عقوق الوالدين نسأل الله السلامة والعافية، وإن كان في القريب فهو من وقطيعة الرحم، فكيف يبقى هذا الميت مرهوناً في قبره بدينه ولا يسدد عنه وماله موجود، فلا حق لهم أن يستمتعوا بهذا المال حتى يسدد دينه؛ لأن الله تعالى يقول: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] فجعل الفرائض وقسمة المواريث على أصحابها، وجعل حق الوارث بعد الوصية والدين، فدل على أنه ينبغي المبادرة بسداد هذا الدين وإبراء هذه الذمة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) وهؤلاء الورثة أغنياء قادرون على سداد ديون مورثهم، فيجب عليهم أن يبادروا بذلك.
قال رحمه الله: (إن وثق ورثته برهن أو كفيل) جعل فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- ومن وافقهم شرطاً في هذه المسألة وهي: توثيق الدين برهن أو توثيقه بكفيل غارم.
فإذا جاءوا برهن وقالوا له: أمهلنا إلى نهاية السنة كما اتفقت مع مورثنا ونحن نعطيك دينك؛ لأن دينك مؤجل.
فقال: لا أريد ديني معجلاً، فاختصموا إلى القاضي، يقول القاضي للورثة: ائتوا برهن أو ائتوا بكفيل أؤجلكم بالأجل، هذا على ما ذكره المصنف رحمه الله.
فإن جاءوا برهن أو جاءوا بكفيل غارم مليء؛ فإنه حينئذٍ يؤجل ويبقى الدين على حاله مؤجلاً
**الحكم فيما لو ظهر غريم بعد قسمة مال المفلس
قال رحمه الله: [وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه] صورة المسألة: أن يكون هناك غريمان كل واحد منهما له خمسون ألفاً وطالبوا بالحكم بفلس زيد من الناس، ولما حكم عليه بفلسه وبيع متاعه بثلاثين ألفاً، فمعناه أنه ستنقسم الثلاثين عليهما، فيكون لكل واحد منهما خمسة عشر ألفاً.
فإن ظهر غريم ثالث له خمسون، فحينئذٍ أصبح له الثلث فيدخل معهم، ويطالب كل واحد منهما بثلث ما أخذ، فالذي له خمسة عشر يعطي خمسة وتبقى له عشرة، والآخر يعطي خمسة من خمسة عشر ويبقى له عشرة، وحينئذٍ يكون للغريم الجديد عشرة، ويكون للباقين كل واحد منهما له عشرة آلاف، فيدخل بقدر حصته، هذا إذا ظهر بعد القسمة وهو مذهب طائفة من العلماء.
وقال بعض العلماء: إنه لا يستحق الدخول، وهو مذهب الشافعية والحنابلة كما ذكر المصنف أنه إن ظهر غريم بعد القسمة دخل؛ لأن المال محبوس بالدين عموماً ومتعلق بذمة المديون، فيستوي فيه من عجل ومن تأخر في المطالبة.
وقال بعض العلماء: لا يقاسم وينشأ له حجر جديد، ولا يستحق أن يطالب؛ لأنه هو الذي فرط ويتحمل عاقبة تفريطه، وهذا يقول به الإمام مالك رحمه الله
**كيفية فك حجر المفلس
قال المصنف رحمه الله: [ولا يفك حجره إلا حاكم].
ولا يفك حجر المفلس إلا حاكم وهو القاضي، والسبب في هذا أنه كما كان الإثبات مفتقراً إلى حكم وقضاء، كذلك الإلغاء ورفع الحكم يحتاج إلى حكم لرفع الحجر وفكه، فمذهب جمهور العلماء أن المفلس إذا حكم عليه بالحجر لا يخرج من الحجر فإنه إلا بحكم ثانٍ.
إذاً: ما فائدة المسألة؟ فائدتها لو أن صاحب شركة أفلس، وديونه -مثلاً- مليون، فأخذت أمواله وبيعت وسدد منها دينه، ثم لما بيع متاعه وبيع ما يملكه اشترى من رجل قبل فك الحجر عنه، فإن قيل: إنه يفك الحجر عنه بمجرد سداد ديونه فحينئذٍ البيع صحيح.
وإن قيل: إنه يفتقد الحجر إلى فك، فلا يصح هذا البيع إلا بعد أن يفك الحجر عنه، هذه فائدة المسألة: أنك إذا حكمت بكونه محجوراً عليه ولا يفك حجره إلا بحكم القاضي، فكل صدقة تصدق بها أو تبرع بذله أو بيع عقده لا يحكم به إلا بعد فك الحجر عنه
**الأسئلة
**الجمع بين قول المصنف: (ولا يحل مؤجل بفلس) وبين قوله: (إن القرض يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله)
**السؤال
أشكل عليّ قول المصنف: (ولا يحل مؤجل بفلس ولا بموت) مع ما تقدم في باب القرض من قوله: (إن القرض يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله)؟
**الجواب
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمسألة ثبوت الدين في الذمة حالاً بالقرض نفسه بيناها، بمعنى: أنه بمجرد ما يأخذ المال يثبت في ذمته البدل، ولا يؤجل ولا ننتظر إلى الأجل، فشغل الذمة بالدين يكون بمجرد الأخذ والقطع.
وهذا هو الذي نفرع عليه مسألة أن من مات حلت ديونه؛ لأن الميت ما ألزمناه بسداد دينه إلا لأن ذمته شغلت، فهناك فرق بين مسألة المطالبة بحلول الأجل، فلا يطالب إلا بعد تمام الأجل وحلوله، وبين مسألة ذمة الشخص الذي يأخذ الدين، فالشخص الذي أخذ الدين يثبت المال في ذمته حالاً بمجرد قبضه للمال، ويصبح بدل هذا المال وعوضه ثابتاً في ذمته، كرجل استدان مائة ألف، فإنه قبل قبض المائة ألف ذمته بريئة، وبمجرد قبضه للمائة ألف ثبتت في ذمته، والذمة قلنا: وصف اعتباري قابل للإلزام والالتزام، فتصبح ذمته مشغولة بهذا الدين بمجرد القبض، فهذه مسألة قبض الدين وقد تم بيانها.
أما مسألة حلول الأجل وعدم حلوله، وهذا الذي في الذمة متى يستحق المطالبة به ومتى لا يستحق، فهذا مرتب على الأجل، ثم بعد ذلك يفصل فيه أنه إذا مات أصبحت ذمته مرهونة وحقه موجود، فكان من العدل والإنصاف أن يبادر بإبراء ذمته.
والله تعالى أعلم
**التزام ابن الميت بدين أبيه هل يبرئ ذمته؟
**السؤال
إذا التزم ابن الميت لصاحب الدين بسداد دين والده، بأن يصبح الابن هو المدين، فهل من الممكن أن تقع الحوالة في هذه الحالة؟
**الجواب
إذا التزم الابن أو القريب أو الغريب بدين رجل، فإنه في هذه الحالة لا تبرأ ذمة الميت إلا بالسداد، والدليل على ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه فقال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم: هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا.
قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم).
قال أبو قتادة رضي الله عنه: (فلم يزل يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألني: هل أديت عنه -سددت-؟ فأقول: لا بعد، هل أديت؟ فأقول: لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم قال: الآن بردت جلدته)، والحديث في الصحيحين.
وهذا يدل على أمر عظيم فقوله: (بردت جلدته) يقوي قول بعض العلماء: أن معنى (مرهونة) أي: أنه يحبس عن النعيم لقوله: (بردت جلدته)، وهذا يدل على أنه لو قال شخص عن ميت: عليّ دينه فإنه لا يبرأ إلا بالسداد حتى يصل الحق لصاحبه، فإذا أعطي الحق لصاحبه برأت ذمته، وأما إذا لم يعط -سواءً بحوالة أو بكفالة- كما في حديث أبي قتادة - فإنه لا تبرأ ذمته.
والله تعالى أعلم
**معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أدى الله عنه)
**السؤال
من استدان ديناً يريد أداءه وفي الحديث: (أدى الله عنه) نرجو من فضيلتكم شرح هذا الحديث؟
**الجواب
قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها؛ أتلفه الله) هذا حديث عظيم يدل على أن النيات والمقاصد تؤثر في أمور العبد، وأن الله يفتح له من أبواب التوفيق، وييسر له من سبل التوفيق على قدر نيته وصلاحه.
والمراد بهذا الحديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) كرجل يأتي ويستدين مائة ألف، والله يعلم في قرارة قلبه أنه يريد أن يسدد، فإن الله يؤدي عنه.
وقد اختلف العلماء في قوله: (أدى الله عنه) فقيل: يوفقه للسداد إذا كان حياً، فإذا مات قالوا: إنه يتحمل الله سبحانه وتعالى عنه فيرضي صاحب الدين عن دينه؛ لأنه علم من نية عبده أنه يريد أن يسدد، والله عز وجل اطلع على ضميره وقلبه ونيته، فعلم أنه يريد الخير، فأعطاه خيراً كما قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70].
وأما قوله: (ومن أخذها يريد إتلافها) كما يحصل من المتلاعبين أنهم يأخذون الأموال ولا يريدون أن يسددوا، ولا يفكرون في السداد، وتظهر هذه النية إذا حدد الدين فقال: أسددك في نهاية السنة، فإن كان في نيته فعلاً أنه في نهاية السنة سيأتيه بالمال ويسدد فهذا رجل أخذ أموال الناس يريد أداءها، وأما إذا علم أنه في نهاية السنة لا يكون عنده مال أو خدع صاحب المال فقال له: إن شاء الله ستأتيني أموال بعد شهر، إن شاء الله سيأتيني إيجار، سيأتيني شيء، ومناه وعبث بحقه فقال له: أبشر إن شاء الله في نهاية السنة ستنفرج، سيأتي عوض، سيأتيني تعويض، سيأتيني كذا، فمناه بالباطل، فهذا أخذ أموال الناس يريد إتلافها، فالله يتلفه فيمحق بركة أمواله.
ولذلك من المشاهد والمجرب في الناس الذين يأخذون أموال الناس -مع أن بعضهم يكون غنياً قادراً على السداد وهو لا يريد أن يسدد- أن الله يمحق له البركة من ماله ويلبسه ثوب الفقر وهو في الغنى.
ولذلك تجده في أضيق حال -نسأل الله السلامة والعافية- وإن سلمت أمواله من النكبات والضيق سلط الله عليه هماً يلازمه وغماً يتابعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه) حتى كان بعض العلماء مما يوصي به بعض طلاب العلم يقول له: لا تستدن قدر ما تستطيع.
وفي بعض الأحيان إذا كان صاحب الدين نفسه غير طيبة وغير راضية وحل الأجل فإن هذا يؤثر على الإنسان ويؤثر على حاله لأن نفسه مرهونة ومحبوسة.
حتى إن بعض الأخيار تراه يحب قيام الليل وصيام النهار فربما رهنت نفسه وحبست، كما أنها تحبس عن نعيم الآخرة فلا يمتنع أن تحبس عن نعيم الدنيا، وذلك بما يكون بسبب تأجيل حقوق الناس، والأفضل أن الإنسان يتقي هذا الشيء.
وإذا اضطر إلى الدين بحاجة وبأمر فإنه يستعين على ذلك بحسن النية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فالمسلم إذا كان فيه السماحة وفيه حسن النية؛ فإن الله يوفقه ويرحمه وييسر له من أبواب الفرج ما لم يخطر له على بال.
والله تعالى أعلم
**حكم تحميل الإمام ما ينساه المأموم من أركان الصلاة
**السؤال
هل الإمام يحمل الأركان عن المأموم إن ترك المأموم ركناً ناسياً؟
**الجواب
الأصل في هذه المسألة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند أحمد وأبي داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم اغفر للمؤذنين، وأرشد الأئمة) هذا الحديث الشاهد فيه قوله: (الإمام ضامن)، الضمين: هو الحميل، فكأنه يتحمل عن المأمومين، ولذلك قالوا: يحمل عن المأموم الواجبات ولا يحمل الأركان، فإذا كان المأموم قد نسي واجباً، كأن يرفع الإمام ويقول: سمع الله لمن حمده، فيرفع المأموم وينسى أن يقول: ربنا ولك الحمد، أو يكبر الإمام للسجود، فيسجد المأموم دون أن يكبر ناسياً، فيحمل الإمام عنه سهوه، ولا يلزمه أن يسجد سجود السهو، وهكذا إذا نسي التسبيح في الركوع أو السجود فإن الإمام يحمل عنه ذلك.
وأما بالنسبة للأركان فإن الإمام لا يحمل الأركان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في هذا الحديث أن الإمام ضامن، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة أن المأموم يلزمه قضاء ما سبق كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) وفي رواية: (فاقضوا).
فدل على أن الأركان تقضى.
والله تعالى أعلم
**ضابط اللغو في الأيمان
**السؤال
ما ضابط اللغو في الأيمان؟
**الجواب
لغو اليمين الذي أسقط الشرع المؤاخذة فيه ينقسم إلى صور، منها: أن ترى الشيء تظنه على حال، فيتبين بخلافه، فتحلف بالله عند رؤيته لأول وهلة أنه كذا، ثم يتبين أنه ليس كما ظننت، كرجل رأى رجلاً فقال: هذا والله محمد؛ لأن أوصاف محمد كلها موجودة فيه، ثم لما اقترب الرجل إذا به زيد، فهذا من لغو اليمين؛ لأنه حلف على غلبة الظن ثم تبيّن كذبها، لكنه لم يكن في ذلك كاذباً في الحقيقة وإنما على ما ظهر له.
ومن هنا فرع العلماء مسألة حلف اليمين في القضاء على غلبة الظن، فيجوز للمدعى عليه أن يحلف اليمين منكراً إذا كان غالب ظنه أنه ليس لفلان عليه شيء.
وكذلك من لغو اليمين أن يجري ذلك مجرى الكلام الذي لا يقصد منه الحلف، كقوله للضيف: والله تقعد والله تقوم والله ما تذهب والله تتغدى والله تتعشى والله قم والله تقعد، وهذا الكلام أثناء اللجاج دون قصد لليمين، فتقول للرجل: والله تقعد والله تقوم بسرعة، بدون أن تستحضر اليمين أو تقصدها، فهذا كله من لغو اليمين، وفي ذلك آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما من الصحابة، وغيره من أئمة التابعين.
والله تعالى أعلم
**حكم البيع حياءً لا رغبةً في البيع
**السؤال
إنسان له فضل عليّ بعد الله سبحانه وتعالى، وأراد أن يشتري مني سلعة، فبعته حياءً منه لا رغبة بالبيع، فهل يجوز هذا البيع؟
**الجواب
الحكم في الشرع على الظاهر، والبيع إذا استوفى أركانه وشروطه فهو صحيح، وكونك غلبك الحياء فهذا لا يؤثر في ظاهرك؛ لأنه ليس ثم أحد فرض عليك ذلك، وليس ثم أحد أكرهك عليه، وكونك تجامل أو تتنازل عن حقك هذا بالنسبة لك أنت، فأنت الذي تتحمل المسئولية؛ لأنك بين نارين: بين أن تباشره وتقول: لا أرغب في البيع، وبين أن تصبر على البيع، وحينئذٍ يكون فضله منفكاً عن مسألة الحقوق، وبين أن ترضى بالبلاء فتبيع وتأخذ الثمن والله سبحانه وتعالى يعوضك، لكن ينبغي على أهل الفضل كالعلماء وطلاب العلم ألا يحرجوا الناس، وألا يتخذوا من علمهم وسيلة للدنيا.
هذا أمر محتم، ينبغي على طالب العلم أن يتنبه له، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح فيه طالب العلم يأكل ويشرب بعلمه، ويتعالى على الناس بعلمه، ويحرج الناس بعلمه وفضله، وأعرف من مشايخنا -رحمة الله عليهم- أنه كان يتجنب إذا دخل السوق أن يشتري من شخص يعرفه، كل ذلك خوفاً من أن يكون قد أخذ بعلمه شيئاً من الناس.
وهذا هو الورع حيث ينبغي أن يبتغى العلم للآخرة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] فالإنسان إذا تعلم العلم ينبغي أن يجعله لله والدار الآخرة.
ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: (إذا كنت في السفر صائماً فلا يشعر بك من معك، إنهم إن شعروا بك قالوا: أنزلوا الصائم، افرشوا للصائم، ارفعوا رحل الصائم حتى يذهب أجرك في الصيام) أي ساعدوه، فتصبح كلاً عليهم بعبادتك فكأن العبادة أصبحت وسيلة للدنيا.
فينبغي للإنسان ولطالب العلم وللفاضل وللورع أن يتقي مثل هذا، خاصة الشيخ مع طلابه أو ممن له فضل، فلا يطلب من الناس أجراً، إنما يكون أجره على الله، والعلم إذا قصد به وجه الله وابتغي به ما عند الله باركه الله لصاحبه، وبارك الله في ثمرته وعاقبته، وأصبح الإنسان محفوظاً في علمه، وأصبح العالم محفوظاً في علمه، وطالب العلم محفوظاً في طلبه ما اتقى الله عز وجل في هذا العلم وأراد به الله والدار الآخرة.
فينبغي للمسلم أن يضع هذا نصب عينيه، وأن يخاف شدة الخوف، والله إني لأعرف من بعض المشايخ -رحمة الله عليهم- إذا اشترى شيئاً من شخص يعرفه -خاصة في الصفقات الكبيرة- يذهب ويرسل من يسأل في السوق كم قيمتها، كل ذلك خوف المجاملة.
ولقد حضرت بعض مجالسه أنه يستحلفه بالله أن قيمتها كذا، كل ذلك من أجل ألا يدخل إلى ذمته شيئاً من حقوق الناس ويصبح كلاً عليهم، وإذا نظر الناس لأهل العلم وطلاب العلم والفضلاء فوجدوهم لا يبالون بالدنيا، وأن الدنيا تحت أقدامهم وأنهم علموا لله وابتغوا ما عند الله ورجوا الدار الآخرة؛ أحبهم الله ووضع لهم القبول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) فإذا رُئي العالم وطالب العلم عفيفاً عن أموال الناس، وعن حقوقهم، وعن مظالمهم، فإن الله يحبه ويبارك له، ووالله ما تركت شيئاً من الدنيا لله إلا عوضك الله أطيب منه وأزكى لدينك ودنياك وآخرتك.
وهنيئاً لمن وفقه الله فصان الله به وجه العلم، وصان به كرامة العلم، وعرف أنه لا يتبلبل بعلمه وأنه لا يبيع ويشتري بعلمه، فيذهب إلى السوق والتجارات فيمتهن.
ولذلك تجد من يفعل هذا الفعل يركبه أهل الدنيا، ويجد من تسلط السفهاء والرعاع عليه ما يكون ثمناً لهذا التنازل عن دينه وعلمه.
فالواجب على المسلم أن يتقي الله وألا يحرج الناس في حقوقهم، وألا يستغل منصبه أو مكانته من كونه معلماً أو مدرساً فيأتي لطالبه أو لمن هو دونه من أجل أن ينال عرضاً من الدنيا.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا وسؤلنا، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا علماً نافعاً، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه، وأن يغنينا بفضله عمن سواه، إنه واسع الفضل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (334)
صـــــ(1) إلى صــ(15)
شرح زاد المستقنع -** باب الحجر [4]
تكفلت الشريعة بحفظ مصالح الإنسان، وفي حال قصوره وعجزه عن حفظ مصالحه شرعت ما يحفظها له، ومن هذا الباب: الحجر على الصغير والسفيه والمجنون، حيث يحجر عليه حفاظاً لمصلحته حتى لا يضيع ماله، وفي نفس الوقت حفظت مصلحة من يتعامل مع هذه الأصناف على تفصيل في ذلك
**بيان من يحجر عليه لمصلحة نفسه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم].
هذا النوع الثاني من الحجر، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من الحجر على الشخص لمصلحة غيره وهو المفلس الذي يحجر عليه لمصلحة الغرماء، شرع في الحجر على الشخص لمصلحة نفسه.
وبالنسبة للنوع الأول فإنه تختلف تسمية العلماء له، فبعضهم يقول: باب التفليس، ويذكر أحكام المفلس، وبعضهم يجعله في باب الحجر، ويقدم هذا النوع وهو الحجر لحظ نفسه على الحجر لحظ غيره، والمصنف -رحمه الله- درج على تقسيم المفلس وإدراجه تحت باب الحجر، والحجر على المفلس -كما ذكرنا- لحظ الغير.
وهناك أنواع من الحجر لحظ الغير غير الحجر على المفلس، فيدخل فيها الحجر على صاحب الرهن في الرهن، وقد تقدم في باب الرهن، ويدخل فيها الحجر على المريض مرض الموت أن يتبرع بأكثر من الثلث، وهذا سيذكره المصنف -رحمه الله- في باب عطية المريض.
فالمريض مرض الموت لا يجوز له أن يتبرع بما زاد عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) وقال لـ سعد: (الثلث والثلث كثير) حتى كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (لو أن الناس غضوا عن الثلث فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)) فهذا لحظ الغير.
ولذلك قال بعض المالكية في نظم هذا النوع: وزوجة في غير ثلث تعترض كذا مريض مات في ذاك المرض أما بالنسبة للحجر على الشخص في مصلحة نفسه فيشمل الأنواع التالية: النوع الأول: السفيه.
والنوع الثاني: المجنون.
والنوع الثالث: الصغير.
فهؤلاء ثلاثة أصناف يحجر عليهم لمصلحة أنفسهم.
والسبب في هذا: أن المقصود أن يمنعوا من التصرف في أموالهم حتى لا يتلفوها؛ لأنه ليست عندهم الأهلية للنظر في مصالح أنفسهم، فلو مكنوا من البيع والشراء خدعهم الناس وضاعت عليهم أموالهم وحصلت المفاسد كما قدمنا في المفلس
**الحجر على السفيه
قوله رحمه الله: (ويحجر على السفيه) أصل السفه: الخفة، والسفساف: الخفيف من الأشياء التي تسفه الريح، وقالوا: سمي السفيه سفيهاً لخفة عقله؛ لأن العاقل كامل العقل يحسن التصرف في أموره.
والسفيه يكون خفيف العقل بالتصرف في ماله من جهة الأخذ ومن جهة الإعطاء، ويحكم بكون الإنسان سفيهاً من جهتين: إما من جهة المال نفسه إذا باع واشترى، وإما من جهة الاستمتاع بالمال، فهناك جانبان يحكم بهما على كون الإنسان سفيهاً.
وقالوا: يكون سفيهاً إذا باع بأقل من الثمن الذي يباع به الشيء، أو إذا اشترى بأكثر من الثمن الذي يباع به الشيء.
وهذا النوع من السفهاء يعرفه العلماء بقولهم: هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره.
لا يحسن الأخذ لنفسه: أن يشتري بأكثر مما تستحقه السلعة، ولا يحسن الإعطاء لغيره: أن يبيع بأقل مما تستحق السلعة.
مثال ذلك: أن تكون عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ويعلم أن قيمتها عشرة آلاف، فإذا جاء يبيعها جاءه رجل وقال له: بعنيها بتسعة آلاف أو بثمانية آلاف، فيبيعها وهو غير مضطر، لكن لو كان عنده ضرورة أو مقصد كأن يأتيه شخص يرى عليه آثار الضعف أو المسكنة فينوي الصدقة عليه فيقول: أبيعها بثمانية آلاف، والله يعلم في قرارة قلبه أنه لا يرضى إلا بالتسعة أو تسعة آلاف وخمسمائة وهي التي يمكن أن تباع بها السيارة، وإنما قصد التصدق بما بين القيمتين، فإن الله يأجره، وهذا ليس بسفه، هذا رشد الدين وهو الذي تكون فيه الدنيا تبعاً وليست بمقصد، فإذا كان مثل هذا فإنه مأجور.
وكذا لو أنه جاء يشتري شيئاً فقال له البائع: الشيء بعشرة، ويرى عليه آثار الضعف أو يراه محتاجاً أو عاملاً عند الغير فيعطيه عشرة، ويزيده ريالاً أو ريالين من باب الإحسان والإكرام والرفق به، فهذا ليس بسفه؛ لأنه عامل بالدنيا وانفكت الجهة في الآخرة، فالريالان اللذان دفعهما لم يكن مقصوده منهما المعاوضة وإنما قصد منهما الآخرة، فهذا لا يدخل في السفه، إذ السفه شرطه ألا تكون هناك أسباب تقتضي الزيادة أو النقص، فإن وجدت الأسباب فلا، مثلاً: ابن عمي لو جاء يشتري مني سلعة قيمتها مائة، وبعتها بسبعين وأنا لا أقصد البيع حقيقة، وإنما قصدت أن أبيع بالسبعين والعشرون أو الخمسة والعشرون التي هي فضل القيمة قصدت بها الصدقة على ابن العم أو صلة الرحم، أو أحببت أن مالي يذهب إلى قريبي فهذا يؤجر عليه الإنسان.
فمثل هذه الأحوال لا يحكم فيها بسفه الإنسان إنما السفيه هو الشخص الذي عنده تلاعب بالأموال وتساهل فيها.
وكذلك النوع الثاني من السفه الذي يبذر لشهوة نفسه، كرجل يدمن السفر، ويكثر في هذه الأسفار من إنفاق المال في متع مباحة، أما إذا كانت محرمة فبالإجماع أنه سفيه ولا إشكال، لكن إذا كان في متع مباحة كأن يشتري الأشياء الفاضلة الزائدة عن حاجته، فيكون بإمكانه أن يشتري سيارة بخمسين ألفاً فيذهب ويشتري السيارة بمائة ألف، فالسيارة شهوة وفيها مصلحة، وصحيح أنها في بعض الأحيان تكون حاجة لكن الزيادة على الخمسين في قيمتها يعتبر سفهاً؛ لأنه تبذير للمال في الشهوة وهو يحب المظاهر، فتجده يشتري ثوباً قيمته مائة، وبإمكانه أن يشتري ثوباً يستره بخمسين، فيأخذ ضعف الشيء، فمثل هذا يعتبر سفيهاً، وقد أشار إلى ذلك بعض العلماء -رحمهم الله- بقوله: والسفه التبذير للأموال في شهوة ولذة حلال فلما قال: في شهوة ولذة حلال.
دل على أنه من باب أولى إذا كانت شهوته ولذته في حرام.
وعلى كلٍ: هذا السفيه إذا ثبت سفهه؛ فإنه يحجر عليه القاضي، بعد ثبوت سفهه من خلال التعامل وشهادة شاهدين عدلين أنه اشترى سلعة قيمتها مائة ألف ومثلها يباع بخمسين.
فإذا ثبت ذلك عند القاضي بشهادة العدول أو بإقراره حكم بالحجر عليه للسفه.
والأصل في مشروعية الحجر على هؤلاء قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]
**الحجر على الصغير
قوله: (والصغير) والصغير هو الصبي، وهو الذي دون البلوغ، والصبي مأخوذ من الصبى وهو ضد الحلم والبلوغ، والأصل في الحجر عليه عموم قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] ولذلك قال طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمفسرين من التابعين وغيرهم: إنه يدخل فيهم الصغار، ولذلك أمر بالحجر على الأيتام.
واليتيم من توفي أبوه وهو دون البلوغ، فلو كان الصبي يستحق أخذ ماله لأخذه اليتيم، والله نهى عن إعطاء اليتيم ماله، وأمر باختباره عند البلوغ فقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] وجعل الابتلاء لما قبل البلوغ، واشترط لفك الحجر على اليتيم شرطين: الشرط الأول: أن يبلغ، فدل على أنه قبل البلوغ لا يزال تحت الحجر.
والشرط الثاني: أن يكون رشيداً بعد بلوغه، فإن بلغ غير رشيد فإنه يستمر الحجر عليه كما سيأتي.
قال المصنف: (الصغير) ولم يقل: اليتيم؛ لأن الصغير يشمل الصغير الذي أبوه موجود، واليتيم الذي فقد أباه، وهذا صحيح، ولذلك من الخطأ أن نقول: يحجر على السفيه واليتيم، ولذلك انظر إلى دقة العلماء قال: (والصغير) وبعضهم يقول: (والصبي) والصغير أفضل لأن المراد به جنس الصغير ذكراً كان أو أنثى
**الحجر على المجنون
قوله: (والمجنون لحظهم).
سواءً كان جنونه متقطعاً أو مستديماً، فهؤلاء يحجر عليهم، أما المجنون المتقطع فإنه إذا أفاق وكان رشيداً رد إليه ماله، وأما إذا كان جنونه مستديماً فإنه يستمر عليه الحجر.
الخلاصة: أن المجنون واليتيم بإجماع العلماء يحجر عليهما، والخلاف في السفيه فقط، فجمهور العلماء على أن السفيه يحجر عليه، وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث -رحمة الله على الجميع- أن من كان بالغاً ولا يحسن التصرف في ماله فإنه يحجر عليه لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5].
وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله الرحمة والرضوان- فقال: لا يحجر على من بلغ خمساً وعشرين، وقال: إن البالغ لا يحجر عليه.
واحتج بآيات الكفارة، وقال في بعض الروايات عنه: إذا بلغ إحدى وعشرين سنة فلا يحجر عليه، وفصل في اليتيم إذا بلغ سفيهاً فقال: يستمر الحجر عليه إلى خمس وعشرين.
وأما من بلغ إحدى وعشرين ثم حصل منه سفه بعد الواحد والعشرين فلا يحجر عليه، واستدل بآيات الكفارات، فقال: إن الله تعالى أوجب على من جامع أهله في نهار رمضان أن يكفر بعتق الرقبة، ففعل هذا الجماع وهو صائم في نهار رمضان سفه بل جمع بين سفه الدين والدنيا، ومع ذلك خاطبه الله بعتق الرقبة وبإطعام ستين مسكيناً، فدل على أنه يملك المال وأن من حقه أن يتصرف في المال وأنه لا يحجر عليه، وهذا ضعيف؛ فإن الآية صريحة في قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] وهي نص في موضع النزاع.
وأما مسائل الكفارات فإنه لا تعارض بين عام وخاص، نقول: هذا عام وهذا خاص، ويستثنى من ذلك حقوق الكفارات كما استثناها الجمهور.
المسألة الثانية في قوله: إنه إذا بلغ إحدى وعشرين صار جداً، والجد لا يحجر عليه، يقول: لأن الرجل يمكن أن يصبح جداً وعمره واحد وعشرون سنة، فلا يتأتى ولا يليق أن الرجل جد -وهو والد لولد وولد الولد- ويحجر عليه، وهذا دليل النظر والعقل، وهذا ضعيف؛ لأنه عقل في مقابل نقل، وثانياً أن مسألة كونه جداً أو ليس بجد لا يؤثر فالعبرة بإحكام النظر في المال.
ولو سألناهم: لم توافقون على الحجر على اليتيم؟ قالوا: لأنه لا يحسن النظر لنفسه.
نقول: إن هذا الكبير مع اليتيم شاركه في عدم إحسان النظر في ماله، فحجر عليه كما حجر على اليتيم، وأياً ما كان فالصحيح مذهب الجمهور: أنه يحجر على السفيه سواءً كان بلغ إحدى وعشرين أو لم يبلغها، ويستمر الحجر عليه ولو بلغ خمساً وعشرين سنة
**معاملة وجناية المحجور عليهم
يبقى الأثر المترتب على الحكم بالحجر عليهم، وهو أنه إذا عاملهم الغير بتجارة أو إجارة أو غير ذلك أنه يتحمل مسئولية المعاملة معهم.
فلو أن رجلاً باعهم متاعاً كسيارة ثم علم أو تبيّن أن الذي تعامل معه مجنون، فإن كان يعلم بأنه مجنون؛ فإنه يجب رد عين السيارة، فلو أن هذه السيارة تَلِف فيها شيء؛ فإنه لا يضمنه المجنون إذا كان عالماً بجنونه.
والسبب في هذا: أن من عامل الصبي أو المجنون أو السفيه عالماً بكونه محجوراً عليه فإنه يتحمل المسئولية والأثر المترتب على هذه المعاملة، فيُرَد عين المبيع، ولا يلزمهم الضمان، وبناءً على ذلك فإن الشخص العالم بالحجر عليهم يتحمل مسئولية الضرر.
أما إذا كان غير عالم كأن يتعامل معهم من يظنهم أهلاً للمعاملة، ثم يتبيّن له أن الذي تعامل معه مجنون؛ فحينئذٍ يجب رد المال وضمانه
**حكم التعامل مع المحجور عليهم
قال رحمه الله: [ومن أعطاهم ماله بيعاً].
إذا باع على الصبي تحمل المسئولية، فلو أخذ الصبي هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فنقول: الحكم حينئذٍ: يُلزم هذا الشخص الذي تعامل معه برد العشرة الآلاف وترد السيارة بعينها.
وفائدة ردها بعينها أنه لو تلف فيها شيء أو تضرر فيها شيء مع علمه بكونه محجوراً عليه؛ فإنه هو الذي يتحمل مسئولية ذلك الضرر.
فإذا أخذ الصبي السيارة وحصل له بها حادث فأصبحت لا تساوي إلا خمسة آلاف؛ فإنه يرد عين السيارة دون أن يضمن شيئاً؛ لأن الذي تعامل معه أدخل على نفسه الضرر، فمثل هذا لا يتعامل معه، فإذا باعه على هذا الوجه فالبيع فاسد، ويجب رد عين المبيع، وهذا معنى قوله: (ويرده بعينه) أي: يرد عين المبيع ولا يرد مثله.
قال رحمه الله: [أو قرضاً].
كأن يكون أعطى صبياً عشرة آلاف قرضاً، وكانت العشرة موجودة بعينها، فإنها ترد، وأما إذا أتلف منها الصبي والدائن عالم بكونه صبياً، فإنه لا يُرد له إلا الذي وُجد، لكن إذا كان غير عالم؛ فإنه يضمن حقه.
قال رحمه الله: [رجع بعينه] أي: طالب برد عين الذي باعه وعين الذي أخذه الصبي والسفيه والمجنون.
قوله: [وإن أتلفوه] أي: أخذ السيارة فأتلفها، أو اشترى منه عمارة فأفسد فيها وأتلف فيها، فإنه في هذه الحالة لا يضمن.
قال رحمه الله: [لم يضمنوا] لا يضمن الصبي ولا المجنون ولا السفيه إذا كان الذي عامله عالماً بسفهه وصباه، وبعدم أهليته للتصرف
**حكم جناية المحجور عليهم على غيرهم
قال رحمه الله: [ويلزمهم أرش الجناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم].
هذه مسألة ثانية: لو أن هؤلاء جنوا جناية أفسدوا بها مبيعاً؛ فإنه يلزمهم ضمان أرش هذه الجناية لمن لا يعلم؛ لأنه عمل على الظاهر، وظن أنه أهل، فمثل هذا لم يدخل الضرر، وليست هناك دلالة ظاهرة منه تدل على الرضا بالضرر، بخلاف من عاملهم وهو يعلم، فمن عاملهم وهو يعلم يتحمل الضرر، وأما من عاملهم وهو لا يعلم فإنه في هذه الحالة يُضمن له حقه.
مسألة ضمان الصبي والمجنون: لو أن صبياً أتلف سيارة رجل، أو مجنوناً أتلف بيت رجل أو متاعه، فإذا جئنا ننظر إلى أصول الشريعة فإن الصبي والمجنون غير مكلف، فالأصل يقتضي أننا لا نطالبهم بشيء؛ لأن الصبي والمجنون رفع عنهما القلم، لكن الشريعة فرقت بين أمرين؛ فرقت بين المؤاخذة كحق لله عز وجل بحصول الإثم وبين حق الغير.
ففي حقوق الناس والاعتداء على أموالهم، كالسيارة تتلف أو البيت يهدم أو تفسد فيه مصالحه، فإنه يجب ضمانها، والمجنون لو أتلف سيارة رجل؛ فإنه يجب ضمان التلف الموجود في هذه السيارة.
وهذا محل إشكال، كيف نؤاخذ المجنون؟
و
**الجواب
أن هذا مبني على الحكم الوضعي لا الحكم التكليفي، فهناك جانبان في الأحكام: حكم تكليفي، وحكم وضعي.
فالحكم التكليفي حكم من ناحية الوجوب والندب والاستحباب والكراهة والتحريم والإباحة، ويتعلق بمن هو مكلف وفيه أهلية التكليف، فيؤاخذ بتركه أو امتناعه عن فعل الواجب أو وقوعه في المحرم.
لكن بالنسبة للحكم الوضعي فمن الممكن أن يؤاخذ من باب وجود السبب، فالشريعة تقول: أي إتلاف وقع على مال إنسان بدون حق فإنه يجب على المتلف أن يضمن، بغض النظر عن كونه أهلاً أو غير ذلك، فلا تنظر الشريعة إلى هذا، بل تنظر إلى الحق في المال، وجعلت الضمان على المتلف سواءً كان أهلاً للتكليف أو غير أهل.
ولذلك إذا نظرنا إلى الحكم الوضعي نرى أن الإتلاف سبب للضمان بغض النظر عن المتلف، سواءً كان صغيراً أو كبيراً، إذ لو قلنا بعدم ضمان الصبيان لأمكن لكل مفسد أن يأخذ جملة من الصبيان ويوعز إليهم أو يأمرهم بالإتلاف والإفساد، فهذا يفتح باب شر عظيم، ثم أيضاً نفس الصبية يتمردون ويكون ذلك سبباً لأذية الناس.
فالصبي إذا أتلف يضمن، وإذا كان ليس عنده يتحمل والده ويضمن عنه؛ فحينئذٍ كأن الشريعة تنظر إلى من يعين الصبي على إفساده، فإن أولياءه متى علموا أنه إذا أتلف يؤاخذون؛ فإنهم سيأخذون على يديه ويحافظون عليه.
أما من حيث الحكم التكليفي من أنه يأثم: فلا يأثم؛ لأن الصبي لم تتوفر فيه أهلية المؤاخذة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي داود وأحمد في مسنده وهو حديث صحيح: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم الصبي والمجنون.
ومن هنا قالوا: إن الهازل إذا طلق يؤاخذ بطلاقه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، كما أن الحكم الوضعي أن المتلفظ بالطلاق يؤاخذ بلفظه، بغض النظر عن كونه قصد إيقاع الطلاق أو كان هازلاً.
وبهذا أجاب الإمام الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات في كتابه النفيس: المقاصد، فإنه لما تعرّض للمقاصد والنيات ولقاعدة: (الأمور بمقاصدها) ذكر أن مؤاخذة الهازل بطلاقه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي.
فمسألة تضمين المجنون والصبي مبنية على الحكم الوضعي، وهذا فيه رحمة عظيمة بالناس، فإن الناس متى علموا أن الأموال تضمن وتحفظ؛ حافظ بعضهم على أموال بعض، وأصبحت للأموال حرمة.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم جعل حرمة المال مقرونة بالدم فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) فجعل حرمة المال مقرونة بحرمة الدم.
فإذا أتلف الصبي أو المجنون مال الغير ضمنه؛ فإن كان الغير الذي تعامل معه هو الذي مكنه من المال وأعطاه وجعله عنده وهو يعلم أنه صبي وأنه محجور عليه؛ فإنه حينئذٍ يتحمل الضرر المترتب على تمكينه.
والعكس بالعكس، فإن كان الذي تعامل معهم لا يعلم بكونهم محجوراً عليهم، فيضمن له حقه ولا يؤاخذ المحجور عليه.
فعندنا قاعدة وهي: أن أموال الناس تضمن، ولذلك جُعلت قاعدة الضمان في المتلفات صيانة لحقوق أموال المسلمين.
فإذا كان الأصل أن أموال المسلمين محرمة لا يجوز الاعتداء عليها، فمتى ما اعتدى الصبي أو المجنون أو غيرهم على مال الغير؛ وجب ضمانه.
فإن كان هذا هو الأصل نقول: إن كان الصبي قد أخذ المال من شخص مكنه منه فالذي مكنه يتحمل المسئولية، وأما إذا كان لا يعلم أنه دون البلوغ، ولا يعلم أنه محجور عليه، وظنه بالغاً رشيداً عاقلاً، فإذا به مجنون وسفيه وصبي فهذا له عذره، وحينئذٍ يبقى الأصل الموجب للضمان
**الأسئلة
**المقصود بالرشد في قوله تعالى: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)
**السؤال
في قوله تعالى: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] من أي الرشد هذا؟
**الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: الرشد معناه: الصلاح في الدنيا والصلاح في الدين، وصلاح الدنيا يشمل النظر في الأمور في أصلحها وأحسنها، ولوط عليه السلام استعطف قومه وردهم إلى ما فيه خيرهم ودعاهم إلى صلاح دينهم ودنياهم فأبوا عليه فقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] استفهام إنكاري، أي: أليس فيكم من عنده رشد يمنعه ويردعه فيردع غيره وينصح غيره؟ لأن النصيحة إذا وجدت من يصغي لها فإنه سينصح غيره، ومن المعلوم عادة أن الشخص إذا نصح قد لا تقبل منه النصيحة؛ لكن حينما يكون فيمن يُنصح رجل رشيد يتقبل النصيحة، فإنه قد يدفع غيره إلى القبول فيتأثر.
فالوعظ لا يكفي فقط، بل لا بد مع الوعظ من أن يتقبل الغير ويتأثر فهو يقول: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78].
فهذا الاستفهام إنكاري والمراد به رشد الدين، أي: اقبلوا دعوتي، واقبلوا ما أذكركم وأعظكم به، أو يكون المراد به: رشد الدنيا، بمعنى: النظر في أصلح الأمور وترك ما تكون عواقبه وخيمة، ومن ذلك الإعراض عن الدين والإعراض عن الله.
والله تعالى أعلم
**حكم الصبي إن خرج منه المني لمرض
**السؤال
لو خرج المني من الصبي بمرض أو غير ذلك هل يحكم ببلوغه؟
**الجواب
هناك فرق بين افتراض الشيء ووجود الشيء، يعني كما لو قال قائل: إذا لم تغب الشمس هل نصلي المغرب، فكيف يخرج المني دون البلوغ؟ أصلاً المني لا يتكون إلا في بالغ، هذا المعروف عند الأطباء وهذا الذي ذكره الأطباء.
المهم أن المني لا يتكون ولا يخرج إلا من بالغ، ولا أذكر كلاماً لعالم أو لطبيب في القديم أو الحديث يذكر أن طفلاً خرج منه المني حتى ولو بعلة.
فلا يمكن ذلك أصلاً؛ لأن الله يقول: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ... {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فجعل كل شيء في موضعه وفي مكانه، لا تستطيع أن تقدمه ولا تستطيع أن تؤخره، ولن تستطيع أن تجد أكمل ولا أبدع من صنع الله جل جلاله، وهو تعالى يقول: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ما هو بديع الخلق الذين هم الناس والضعفاء فقط، إنما أخرج لنا هذا الملك العظيم -السموات والأرض وما فيها من تقدير الأشياء- {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] بدقة متكاملة لا يمكن أبداً أن يزيد شيء عن حده الذي جعله الله فيه: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، وإذا جعل الله ذلك فلا يستطيع أحد أن يقدم شيئاً أخره الله.
فهذا الخلق للماء خلق تقديري موجود في أعضاء الإنسان التناسلية، ومقدر ومرتب ومرتبط ببلوغه، ولا يمكن أن توجد هذه الغدد أو تصدر أوامرها بإفراز هذه المادة المنوية في الصبي.
هذا أمر ينبغي وضعه في البال، وفرق بين فرض الشيء ووجود الشيء، فالشيء الذي ليس له حقيقة في الوجود كما قال الإمام الشافعي: إذاً نمد الرجلين.
فالشيء الذي ليس له أصل في التقدير ما يحكم به.
لكن مثلاً: لو أن صبياً عمره أربع عشرة سنة، ثلاث عشرة سنة، اثنتا عشرة سنة، هذه كلها سنوات محتملة لخروج المني، وفجأة صار له فاجعة -نسأل الله السلامة والعافية- ويقع هذا، ففي الفاجعة أنزل، يحكم ببلوغه؛ لأن الغدد هذه تفتقر إلى قوة إما بالبلوغ، وهي القوة الذاتية، وإما بقوة من خارج.
ولذلك البدن يستعان فيه بعد الله عز وجل بأشياء من داخله وأشياء من خارجة، يقولون: المريض إذا مرض تكون قد عجزت الأشياء الداخلية عن دفع هذا المرض فيعطى العلاج، وبعض الأحيان تكون حمية الإنسان وسخونة البدن ونشاط الإنسان يقوي ما فيه بقدرة الله عز وجل ويدفع المرض.
فتجد بعض الناس يصاب بأمراض لا تؤثر فيهم كتأثيرها في أشخاص آخرين، ويعلم الأطباء هذا، حتى إن بعض العظماء لما أصابه بعض الأمراض وأعيت فيه الحيلة، وجلب أطباء الأرض، فما وجد عندهم دواءً كتب إلى الرازي وجاءه.
فلما جاءه ورأى ما به قال: علاجك في أمرين: أولاً: أن تعطيني فرسين.
ثانياً: أن تأمر أحد رجالك أن يكون بجواري، وأدخل أنا وأنت في الحمام -الحمام الساخن- وتأمر هذا المولى أن يطيع ما أقوله له، ولا يعصيني فيه، ولا يطيعك إذا أمرته.
قال: وهو كذلك، فدخل معه الحمام، فلما أدخله صار يلكزه، فكلما أراد من شدة الحر يرتفع يمنعه حتى كاد أن يموت، قال له: إنما فعلت بك هذا لأقتلك، فلما قال هذه المقالة اشتد غضبه، فأوعز الرازي للمولى أنه متى ما ركبت الفرس اتركه يركب ورائي، ففر عنه، وركب وراءه الفرس يريد أن يدركه، فبعد ما ركب مع الحمية والغضب والشدة سخن بدنه وزالت عنه العلة، فلما أدركه وأصابه قال: إنما فعلت بك من أجل شفائك فهل تجد شيئاً من مرضك؟ قال: ما أجد له حساً، قال: إنه كانت بك فضلات، عجز البدن والدواء عن إخراجها، فما بقي إلا أن تقوى نفسك على نبذ هذا الشيء وهو وجود حمية أو غضب، لكنك كنت في نعيم وترف فلا بد وأن تخرج عما أنت فيه وليس ذاك إلا إذا سخن جسمك واشتد غضبك.
فالشاهد أن الإنسان قد يبلغ بسبب فاجعة تأتيه أو أمر شديد عليه أو أمر له ضرر فيفاجأ به، فمن شدة المفاجأة ينشط ما به فينزل، أو يقع منه الاحتلام، حتى إن المرأة ربما ينفجر معها الحيض عند فاجعة، ويقع هذا ويحدث فتنشط أعضاؤها.
فأياً ما كان نحن نقول: إن هذه العلامة يحكم بها إذا كان السن لمثلها وخرج، ولو خرج بفاجعة أو مرض، فإنه يحكم ببلوغه؛ لأن الإنزال قد وقع.
والله تعالى أعلم
**كيفية صيام من نذر أن يصوم شهراً
**السؤال
امرأة نذرت صوم شهر، فهل تصومه متتابعاً أو متفرقاً مع أن التفرق أيسر لها لكبر سنها؟
**الجواب
إذا قالت: لله عليّ أن أصوم شهراً فلها أحوال: الحالة الأولى: أن تسمي شهراً معيناً، فيجب عليها أن تصومه كاملاً، ويستوي في ذلك أن يكون تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، فإن كان تسعة وعشرين أجزأها وإن كان ثلاثين فلا إشكال.
الحالة الثانية: أن تقول: لله عليّ أن أصوم شهراً دون أن تعين، فلا يخلو من ضربين: إما أن تشترط التتابع وتقول: لله عليّ أن أصوم شهراً متتابعاً فيلزمها أن تتابع.
وإما أن تطلق فيجزئها أن تصوم ثلاثين يوماً.
وعلى هذا: يجوز لها أن تصوم الثلاثين يوماً متفرقة أو تصومها مجتمعة، ما دام أنها لما حلفت ونذرت لم تحدد ذلك ولم تقيده بالتتابع، فيلزمها أن تصوم الثلاثين ويجزئها أن تكون مفرقة أو متتابعة.
والله تعالى أعلم
**حكم حرق أوراق القرآن إذا كان ممزقاً
**السؤال
هل يجوز حرق المصاحف إذا تلف بعضها؟
**الجواب
حرق المصاحف يجوز إذا تلفت وخشي عليها الضرر، وهذا استنبطه طائفة من العلماء من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن عثمان رضي الله عنه لما نسخ المصحف الإمام أمر بإحراق بقية المصاحف.
فدل هذا على أنه إذا وجد ضرر على القرآن كأن يكون في موضع يمتهن فيه أو موضع يخشى أن يتطاير ورقه فيمتهن فيجوز حرقه.
أما أن يتوسع في هذا الأمر وكلما وجدنا مصاحف قديمة أخذناها وأحرقناها، فهذا والله من أعظم الإساءة ومن أعظم الإفساد، وربما في بعض الأحيان تجد المصحف منزوعاً منه ورقة واحدة فيأتي مباشرة ويأخذه من المسجد ثم يحرقه، وهذه المصاحف خاصة إذا كانت في المساجد أوقاف أهلها الذين أوقفوها ربما كانوا أمواتاً يفتقرون لكل حسنة.
فمن جاء إلى هذه المصاحف وأتلفها وأحرقها بدون حق فقد ظلم، وهم خصومه بين يدي الله عز وجل، فلا يجوز إخراج المصاحف من المساجد ولا إحراقها إذا كانت وقفاً ما لم تتعطل مصالحها بالكلية، ولا يمكن استبدالها.
في أحوال خاصة يحكم بجواز إحراقها، أما ما عدا ذلك فلا يجوز؛ لأن لكتاب الله حرمة، والله تعالى يقول: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] وكما قال مجاهد بن جبر رحمه الله: (إن قلع الشجر إتلاف للمنافع والمصالح) وأعظم المصالح مصالح الدين، فإحراق كتب العلم وإحراق المصاحف من إتلاف تلك المصالح والمنافع.
ويدخل في ذلك كتب العلم أيضاً، فإن بعض الطلاب إذا قرءوا وكتبوا المذكرات وانتهى الاختبار أحرقوا هذه المذكرات وأتلفوها، ولربما يأتي إلى الكراس وفيه الورقة والورقتان، أو قل عشر أوراق مكتوب فيها، وثلاثون أو أربعون ورقة ليس مكتوباً فيها ويحرق الجميع، هذا كله من الإفساد ولا يجوز ذلك، ولقد أدركنا بعض علمائنا ومشايخنا -رحمة الله عليهم- يستشيط غضباً شديداً لما يرى هذا ويغضب، والورقة إذا كان بعضها تالفاً وبعضها صالحاً فإنه ينزع التالف ويستفاد من الصالح لأي غرض يحتاجه لكتابة فائدة أو يكتب عليه أو يجرب عليه القلم، المهم لا يرمى وهو صالح بل يكتب عليه.
ومن أعظم ما يكون أن يكون فيه علم نافع، فإن الله تعالى يأجر من كتب العلم ومن سمعه، ومن شهد مجالسه، كلهم لهم أجر وثواب من الله عز وجل.
فهذا المكتوب إذا كتبته يداك فإن الله عز وجل يكتب لك أجر الكتابة، فإن خلصت نيتك؛ بارك الله لك فيما كتبت، وربما بقي دهراً طويلاً ينسخ منه غيرك ولك في ذلك أجر، ولربما تأتي إلى درس علم وتنسخه وتفرغه فتنتشر منه مذكرات أو تطبع كتب فيعود عليك أجر ذلك كله.
هذا خير وفضل عظيم، وما الذي رفع الله به قدر السلف إلا الصبر على هذا العلم وكتابته والحرص على الانتفاع به، فلا ينبغي لطالب العلم أن يحرق مثل هذه الكتب والأشياء المفيدة.
كان السلف والأئمة والأولون إذا وجدوا الفائدة ولم يجدوا ما يكتبون عليه؛ نقشوها على الجدران، وربما نقشت على الحجارة، كل ذلك خشية أن يذهب العلم.
والله تعالى أنْعم علينا بهذه النعم والخيرات العظيمة، وكان الرجل لا يستطيع أن يكتب حرفاً واحداً، ما لم يجد الريشة التي تكتب وتكون صالحة، ولربما يعي في إصلاحها، أو يجد ما يصلح الكتابة، أو يجد ريشة إذا كتب بها تكون خفيفة الوضع حتى لا تشغل مكاناً كبيراً.
فالله أعطانا من الأقلام أدقها وأبراها وأجملها وأحسنها، بل لم يقف الحد عند هذا حتى إنها تساق لك من مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد ولك الشكر، وتضعها في جيبك، وما كنت تستطيع أن تضع ما كتبته بل لا بد تنقل معك محبرتك ودواتك، وتنقل معك آلات الكتابة كما تنقل الكتاب، ويجدون في ذلك من الجهد والعناء ما الله به عليم، والله تعالى جعله في جيبك طوع بنانك، وتكتب به ما تشاء، ولربما كلت يد الكاتب.
فالإنسان يحمد نعمة الله عز وجل والله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] فكل نعمة ينعمها الله عليك؛ ينبغي عليك أن تتأمل وأن تتدبر هذه الكتب وهذه المصاحف، نعمة عظيمة، ولو كانت صفحة من كتاب الله، فاحمد الله عز وجل أن الله أعطاك هذه الصفحة.
وكم من أناس كانوا يتمنون أن يروا هذا الصفحات، فلنحمد الله على نعمه ونشكره على فضله وكرمه، ولنحسن في هذه النعم، ونحاول قدر الاستطاعة المحافظة عليها وإحسان النظر فيها حتى يبارك الله فيها.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم بمنه وكرمه ذلك الرجل.
والله تعالى أعلم
**المقصود بالطفل في قوله تعالى: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ)
**السؤال
ما المقصود بالطفل في قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] ما المقصود بالطفل؟
**الجواب
فإن الأطفال ينقسمون إلى قسمين: - القسم الأول: من يبقى على سجيته وغفلته وفطرته، بعيداً عن الفتن، لا يتعرض للنساء، ولا يحرص على الاطلاع على عوراتهن، فمثل هذا يبقى على الأصل في العفو عنه ما دام أنه لم يبلغ الحلم.
والقسم الثاني: على العكس من ذلك، عنده استشراف وطلب وحرص على النظر إلى النساء، ولربما تحدث بأمورهن وظهرت منه الريب، فمثل هذا يُحجب ولو كان دون البلوغ، كما أن الكبير الذي تكون فيه غفلة -غير أولي الأربة- وهم الذين لا يشتغلون بأمور النساء وفيهم نوع من العته أمرهم مخفف فيه، فإن ظهرت منهم الريبة حجبوا.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد غزو الطائف قال الرجل: لئن فتح الله على نبيه غداً الطائف لأدلنك على ابنة غيلان تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن عليكم هذا بعد اليوم) وكان في الأول يتسامح فيه يظنه ليس من ذوي الإربة، فلما سمع منه هذه المقالة والتحرش بالنساء والدلالة على عوراتهن؛ حجبه عليه الصلاة والسلام عن النساء، وأمرهن أن لا يدخلنه.
ففي بعض الأطفال نوع من الذكاء ونوع من الجرأة، فمثل هؤلاء يمنعون ولو كانوا صغاراً.
وعلى هذا قال العلماء: أيضاً الطفلة الصغيرة ربما كان جسمها وطبيعتها تقارب الكبيرة فإذا نظر إليها فتنت، قالوا: تحجب وهي صغيرة؛ لأن الحكم يدور حول المصلحة والمفسدة، فمثل هذا يتقى وتطلب فيه تقوى الله عز وجل وتحصل المصالح التي يقصد الشرع تحصيلها، وتدرأ المفاسد التي يطلب الشرع درءها.
والله تعالى أعلم
**الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ آية الكرسي لم يقربه شيطان) وبين قوله: (إذا نام أحدكم عقد الشيطان على ناصيته)
**السؤال
كيف يتم الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي لم يقربه شيطان) وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نام أحدكم عقد الشيطان على ناصيته ثلاثاً)؟
**الجواب
أما من حيث قراءة آية الكرسي فينبغي أن يعلم أنه ما من مسلم يقرأ شيئاً في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيه وعد بخير أو أمر إلا وجب عليه أن يسلم تسليماً، وأن يعتقد اعتقاداً جازماً أن ما ورد في هذا النص من الكتاب والسنة حق لا مرية فيه، وأن الله يعطيه ما وعده، فإن الله لا يخلف الميعاد.
إذا ثبت هذا فإن قراءة آية الكرسي إنما يكون تأثيرها الكامل وتأثيرها على أتم الوجوه وأكملها وحصول الموعود على أتم الوجوه وأكمله لمن قرأها بإيمان وخشوع وحضور قلب.
ومن هنا يتفاوت الناس في قوة التأثير على حسب قوة اليقين أثناء القراءة والاعتقاد، ولذلك تجد بعض القراء كما قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة: (وما يدريك أنها رقية) فرجل يقرؤها على مجنون فيشفى، ورجل يقرؤها على لديغ فيشفى، وقد يقرؤها قارئ مرات وكرات ولكنها لا تؤثر قراءته، أما المقروء فإنه مؤثر.
ولذلك يختلف الناس في قوة العقيدة وقوة الإيمان، وقد يأتي الرجل إلى الكرب العظيم والخطب الجسيم فيقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، ويدخل بيقين بالله ولا يمس بسوء لقوة يقينه.
(إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) هذا الذي كمل يقينه وكملت عقيدته وإيمانه وتوحيده، فإذا كمل الإخلاص والتوحيد وأصبح القلب متوجهاً إلى الله بصدق، وإذا تلا الآيات تلاها بإيمان وإذا تليت عليه استجمع معاني الإيمان واليقين، فإن الله يجعل له أكمل الحظ وأكمل النصيب، فما أتي الناس إلا من ضعف اليقين.
أما من حيث الحديث (يعقد الشيطان على قافية أحدكم) فليس فيه معارضة للحديث لأنه يجاب من وجوه: أولاً: إما أن يقال لا تعارض بين عام وخاص، فيكون قوله: (لا يقربه شيطان) بمطلق الحال، ولا يمنع هذا خصوص الابتلاء في الثلاث العقد التي لا يسلم منها النائم.
وحينئذٍ من قرأ آية الكرسي فإنه لا يقربه شيطان بأذيته في نومه أو أذيته في ضجعته، فإن من نام يؤذى، ولذلك شرعت قراءة الأذكار قبل النوم.
وعلى هذا إذا قرأها حفظ، فكان المراد به: لا يقربه شيطان بالنسبة لغير المستثنى بالنص.
ثانياً: أن العقد على القافية ليس له علاقة بالقربان، فإنه يعقد عليه بدون وجود القربان؛ لأن اقتراب الشيء من الشيء ملاصقته، وقد يكون الاقتراب على وجه المداخلة، فالشيطان قد يداخل الإنسان.
وبناءً على ذلك يكون المنفي (لم يقربه شيطان) غير المثبت بالعقد؛ لأن العقد قد يكون من بعيد وقد يكون العقد كما ذكر بعض العلماء: العقد المعنوي، وإن كان الصحيح أنه العقد الحسي.
ولذلك من نام يشعر بهذا، يشعر أن الليل طويل، وأن هناك من يمنيه، فيكون من الوسوسة وحديث النفس.
والذي يظهر والله أعلم: الجواب الأول، أنه لا تعارض بين عام وخاص.
ولذلك الشيطان مسلط على الإنسان بالوسوسة وبحديث النفس، فلو أخذ قوله: (لم يقربه شيطان) على العموم مطلقاً لشمل حتى من يوسوس، ولكن الله تعالى جعل الإنسان مبتلىً بحديث الشيطان، وهذا لا يمنع ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال: من قرأ آية الكرسي فهو محفوظ محفوظ، والله عز وجل حافظٌ له لا محالة.
وأذكر من مشايخنا -رحمة الله عليه- قال: من أهل العلم من ذكر أنه كان نائماً وأحس باثنين يتكلمان بجواره، وقال: سمعته يقول لصاحبه: لن تستطيعه، إنه تلا آية الكرسي قبل أن ينام.
وذات مرة ذكر بعض العلماء قال: سمعت اثنين يتحدثان عند رأسي وأنا في البيت لوحدي، أو في الغرفة لوحدي فسمعته يقول: لن تستطيع أن تدخل فيه، إنه قرأ المعوذات.
وهذه قد ثبت فيها النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ المعوذات وينفث ثلاثاً كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا من نزغات الشياطين، وأن يرزقنا عفوه ومغفرته ولطفه وهو أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (335)
صـــــ(1) إلى صــ(11)
شرح زاد المستقنع -** باب الحجر [5]
من حجر عليه لأجل مصلحة نفسه، فإنه لا يفك الحجر عنه إلا إذا تحقق أنه يستطيع أن يرعى مصلحة نفسه، ولهذا جعلت الشريعة علامات وأمارات تدل على أن المحجور عليه قد صار أهلاً لتحمل المسئولية، وبثبوت تحقق هذه العلامات يفك الحجر عنه وإلا فلا
**العلامات الموجبة لرفع الحجر عن الصغير والمجنون والسفيه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة] ذكرنا غير مرة أن الفقهاء يرتبون المسائل والأحكام، ويراعون الترتيب أو التسلسل المنطقي.
فأنت إذا حكمت بالحجر على السفيه والصبي والمجنون وبيّنت الأثر المترتب على الحجر يرد
**السؤال
متى يفك الحجر عنهم؟ فشرع في هذه الجملة في بيان متى يفك الحجر؟ وهذا كمنهج القرآن في آية النساء فإن الله عز وجل قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وهذه الآية تشمل الصبي بنوعيه: اليتيم وغير اليتيم، وتشمل كذلك المجنون والسفيه ثم قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فذكر فك الحجر عنهم.
فعندنا ثلاثة جوانب ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها: - إثبات الحجر.
- والأثر المترتب على الحجر.
- وفك الحجر.
فهذه هي الثلاث المراحل في باب الحجر: المرحلة الأولى: من الذي يحجر عليه، وما هي الأمور الموجبة للحجر؟ المرحلة الثانية: إذا حكمنا بالحجر لسبب السفه والصبا والجنون، فما الذي يترتب عليه؟ ذكرنا أن الذي يتعامل معهم إما أن يعلم وإما ألا يعلم، فإن علم فوجود العقد وعدمه على حد سواء فيجب رد عين المبيع، وإذا حصل فيه نقص فإنه يرد بحاله ولا يضمنه، وأما إذا كان لا يعلم فإنه يضمن على الأصل الشرعي.
المرحلة الثالثة: متى يُفك عنهم الحجر؟ فقال رحمه الله: (وإن تم لصغير) هناك أمران لا بد من توفرهما في الصغير: البلوغ والرشد.
فلا بد أن يبلغ وأن يكون رشيداً، فهاتان علامتان متى ما وجدتا حُكم بفك الحجر عن الصبي واليتيم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فذكر علامتين: - العلامة الأولى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] أي: وصلوا سن النكاح، وهو قريب من طور الحلم.
- وأما العلامة الثانية: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] فعلق الحكم {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ} [النساء:6] وجاء مرتباً على شرطين: البلوغ والرشد.
فقد يبلغ الصبي وهو سفيه أو وهو مجنون، فلابد من بلوغه ووجود الرشد فيه.
وبعض الأطفال وبعض الصغار من نعم الله عز وجل عليه أنه ربما أعطي من الذكاء والفطنة وحسن النظر ما يسبق بلوغه، فإذا أعطي المال وحصلت عنده خبرة ودربة على التعامل خاصة أبناء التجار، كما في القديم حيث كان أبناء التجار هم الذين يتولون بأنفسهم المعاملات، وكان آباؤهم يعودونهم على ذلك، فهذا التعوّد ربما يكسب الصبي من الفطنة ما يقارب البلوغ ويكون في حكم الفطين البالغ، فالله عز وجل اشترط شرطين قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] فلو أنه كان رشيداً قبل البلوغ لم ينفعه.
ولو أنه بلغ غير رشيد لم ينفعه، فلا بد من وجود العلامتين: البلوغ والرشد
**علامات البلوغ
فأما البلوغ فللعلماء فيه وجهان: بعضهم يقول: ينبغي أن يختبر قبل البلوغ، أي: عند بلوغه ومقاربته له.
وبعضهم يقول: يختبر بعد البلوغ.
فيرد
**السؤال
ما هو البلوغ؟ وما هي علامات البلوغ؟ هناك علامات تتعلق بالرجال، وهناك علامات تتعلق بالنساء، وهناك علامات تتعلق بالجميع، ولذلك العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن علامات البلوغ منها الخاص ومنها المشترك.
فأما بالنسبة للخاص فهو أقوى ما يكون في النساء، فهناك الحيض والحمل بالنسبة للمرأة، فإذا حاضت المرأة أو حملت حُكم ببلوغها وبلوغ زوجها، إن كان الحمل من زوج هي تحت عصمته؛ لأن الله يقول: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:7].
وعلى القول بأنه يخرج الطفل من بين صلب المرأة وتريبتها فإننا نستدل بآية: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، حيث جعل الخلق في آية الإنسان من الخليط بين ماء الرجل وماء المرأة؛ فأثبت أن الخلق منهما معاً، فدل على أنه كما يحكم بالبلوغ للرجل يحكم بالبلوغ للمرأة.
فإذا حملت المرأة حُكم ببلوغها، وكذلك إذا حاضت حُكم ببلوغها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) فقوله: (لا يقبل الله صلاة حائض) أي: مكلفة بلغت سن المحيض وحاضت، وليس المراد (لا يقبل الله صلاة حائض) أي: أنها تكون حائضاً أثناء الصلاة؛ لأن الحائض لا تصلي.
فمراده بوصفها بكونها حائضاً أي: بالغة، وهذا كما درج عليه الأئمة، وفسروا به هذا الحديث.
فدل على أن الحيض والحمل -وهذا بإجماع العلماء- يعتبر من علامات البلوغ عند المرأة.
وأما العلامات الخاصة بالرجال فليس هناك إلا إنبات الشعر في اللحية والوجه على القول بأن الإنبات عام وليس بخاص بالعانة، وهذا فيه نظر
**أقوال العلماء في السن المعتبرة للبلوغ
قال المصنف رحمه الله: [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة] علامات البلوغ منها علامة السن، واختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين: جمهور العلماء على أن السن علامة من علامات البلوغ، وأن للبلوغ سناً إذا وصل إليه الصبي حكم بكونه بالغاً إذا لم ير علامة البلوغ قبله، أما لو رؤيت علامة البلوغ قبل خمس عشرة سنة فلا إشكال، كصبي أنزل المني وعمره أربع عشرة سنة أو عمره ثلاث عشرة سنة، أو امرأة حاضت وعمرها عشر سنوات فإنها بالغة.
فإذا قلنا: إن خمس عشرة سنة هي علامة البلوغ لمن لم تظهر منه علامة البلوغ قبل هذا السن، فجمهور العلماء على أن هناك سناً معيناً إذا وصل إليه الصبي أو وصلت إليها الصبية حكم ببلوغ كل منهما، وإن لم تظهر علامات البلوغ قبل ذلك، وخالف الظاهرية في ذلك.
واستدل الجمهور، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السِنّ علامة للبلوغ كما ثبت عنه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني -يعني للقتال- وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) هذه هي الرواية التي في صحيح مسلم: (عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) لكن في رواية البيهقي يقول: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، ولم يرني قد بلغت، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني ورأى أني بلغت).
فدل هذا على أن الخمس عشرة سنة فاصل بين البالغ وغير البالغ.
وعلى هذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السن علامة للبلوغ.
وقال الظاهرية: ليس السن بعلامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم: (الصبي حتى يحتلم) فقالوا: ليس عندنا علامة إلا الاحتلام فقط، وهو إنزال المني كما سيأتي.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أن السن علامة يُستدل بها على البلوغ.
و
**السؤال
ما هي السن المعتبرة للبلوغ؟ فذهب الحنفية إلى التفريق بين الرجل وبين المرأة، فعند الحنفية أن المرأة إذا بلغت سبع عشرة سنة حكم ببلوغها، والرجل إذا بلغ ثماني عشرة سنة، ولا يحكم بالبلوغ قبل ذلك إذا لم تظهر العلامات؛ قالوا: لأن المرأة فيها من شدة الشهوة والطبيعة والغريزة ما يجعل بلوغها أبكر من الرجل، وهذا معلوم: أن النساء في البلوغ أعجل من الرجال.
فقالوا: نفرق بينهم بسنة وحول كامل، ووافقهم المالكية، فقالوا: ثماني عشرة سنة هي البلوغ، ودليلهم الإجماع؛ لأن أقصى سن اعتد به: ثماني عشرة سنة، إلا طائفة من الظاهرية يقولون: إحدى وعشرين سنة؛ لأنه يصير فيها جداً على مسألة الشافعي رحمه الله حيث يقول: أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، رأيت ابنة إحدى وعشرين سنة وهي جدة.
تكون تزوجت وعمرها تسع سنوات، وأنجبت في العاشرة، ثم هذه التي أنجبتها مرت عليها تسع سنوات أخرى، فيصبح عمر الأم تسع عشرة سنة والبنت تسع سنوات، فزوجت كأمها وهي بنت تسع، فحملت وأنجبت على العشرين، فتدخل في الواحد والعشرين وهي جدة.
فقال: أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، رأيت جدة ابنة إحدى وعشرين سنة.
فالإمام ابن حزم رحمه الله يقول: هذا أقصى شيء، فأنا آخذ باليقين، فيكون هو السن الذي يعتبر للبلوغ، لكن بالنسبة لجماهير العلماء يكاد يكون شبه إجماع على أنه ثماني عشرة سنة، والمالكية والحنفية يقولون: أقصى سن ثماني عشرة سنة وما وراءها متفق على أنه بلوغ، والخلاف فيما قبله، واليقين أنه صبي فنبقى على اليقين.
هذا بالنسبة لدليل من يقول: إنها ثماني عشرة سنة، ولذلك المالكية يقولون: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولاً ظهر هذا بالنسبة للمالكية حيث لا يفرقون بين الرجال والنساء.
والصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي وطائفة من أهل الحديث -رحمة الله على الجميع- من أن خمس عشرة سنة هي السن التي يفرق فيها ويحكم فيها بالبلوغ، وأنه إذا بلغ الصبي أو الصبية خمس عشرة سنة ولم ير علامة البلوغ قبل ذلك؛ فإنه يُحكم ببلوغهم بخمس عشرة سنة للحديث الذي ذكرناه، فإنه نص في موضع النزاع.
ولذلك لما بلغت هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله برحمته الواسعة- كتب إلى الآفاق: انظروا فمن وجدتموه قد بلغ خمس عشرة سنة؛ فاضربوا عليه الجزية.
فعده بالغاً.
وعلى هذا نقول: سن البلوغ خمس عشرة سنة، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة، فالجارية إذا بلغت خمس عشرة سنة ولم تحض ولم تحمل ولم تُنبت ولم تُنزل نحكم بكونها بالغة
**اختلاف العلماء في اعتبار الإنبات من علامات البلوغ
قال رحمه الله: [أو نبت حول قبله شعر خشن] العلامة الثانية: الإنبات، والإنبات المراد به نبات الشعر، فيعرف بلوغ الرجل وبلوغ المرأة إذا نبت الشعر حول العانة، ويكون حول القبل، والشعر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الشعر الضعيف الذي يكون عند أول الخلق، وهذا الذي تسميه العرب بالزغب، فمثله لا يحكم فيه بالبلوغ، حتى أجاز العلماء رحمهم الله حلقه وجزه إن كان في الوجه؛ لأنه ليس بشعر لحية ولا يعد من اللحية.
وأما القسم الثاني من الشعر: فهو الشعر الشديد الخشن، ولذلك يعبر بعض العلماء فيقول: أن ينبت الشعر الخشن.
التفاتاً وتنبيهاً على المؤثر، فإذا نبت الشعر الخشن حول القبل وحول العانة -وهي أسفل السُرة فيما بينها وبين القبل- حكم ببلوغه وبلوغها.
وهذه العلامة اختلف فيها العلماء رحمهم الله، فالجمهور على أن الإنبات علامة، ودليلهم حديث محمد بن كعب القرظي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حَكَّم سعداً رضي الله عنه في بني قريظة حكم سعد فقال: (أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم).
فلما حكم فيهم بهذا الحكم قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سموات) فأصاب رضي الله عنه الحق والصواب.
فحكم أن تقتل مقاتلتهم، والمقاتل هو البالغ، وقوله: (وأن تسبى ذراريهم)، أي: الذين هم صغار ودون البلوغ، ويشمل ذلك أيضاً النساء، فلما حكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم؛ قال محمد بن كعب: (فكانوا من وجدوه أنبت قتلوه، ومن لم ينبت تركوه، فوجدوني لم أنبت، فجعلوني في الذرية).
وحديث محمد بن كعب القرظي حديث صحيح، وفيه دليل على قتل المقاتل البالغ، ففرقوا بين البالغ وغير البالغ بالإنبات.
فدل على أن إنبات الشعر في هذا الموضع يعد علامة على البلوغ، وأن من نبت شعره في هذا الموضع يؤاخذ وتسري عليه أحكام البالغ.
وهذا هو الصحيح، وخالف بعض العلماء فقال: إن الإنبات ليس بدليل، وهذا ضعيف، ولكن السنة قوية في دلالتها على أن الإنبات علامة من علامات البلوغ.
ثم اختلفوا: هل يختص بشعر العانة أو يشمل أيضاً شعر الإبطين وشعر اللحية والوجه، فقال بعضهم بالتعميم، وقال بعضهم بالتخصيص، لكن الأقوى أن يخصص ذلك بشعر القبل، فإذا نبت هذا النوع من الشعر حكم ببلوغه
**إنزال المني علامة من علامات بلوغ الصغير
قال رحمه الله: [أو أنزل] وهذا النوع من العلامات مجمع عليه، والإنزال علامة مشتركة إضافة إلى علامتي السن والإنبات، فإذا بلغت المرأة خمس عشرة سنة حكمنا ببلوغها، ولو بلغ الصبي خمس عشرة سنة حكمنا ببلوغه، فلا يختص ذلك بالرجال دون النساء ولا العكس.
كذلك أيضاً الإنبات يشمل الرجال والنساء، وكذلك أيضاً الاحتلام وهو خروج المني سواءً في اليقظة أو المنام، فإن خرج حكمنا ببلوغ الشخص، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم) وهذا العلامة مُجمع عليها.
هذا بالنسبة للصبي، فإذا ظهرت أحد هذه العلامات حكمنا ببلوغه، ويضاف إليها ظهور الرشد متى ما بلغ الصبي
**الرشد والعقل من علامات فك الحجر عن المجنون
قال رحمه الله: [أو عقل مجنون ورشد].
هنا تنتبهون إلى دقة المصنف، فالمصنف رحمه الله ذكر علامة البلوغ، ثم أضاف إليها العقل للمجنون، وكأنه ينبه إلى أن البلوغ وحده لا يكفي بل لا بد أن يبلغ عاقلاً؛ لأنه ربما بلغ اليتيم مجنوناً -نسأل الله العافية والسلامة- أو يبلغ ما عنده عقل، فحينئذٍ لا يؤثر البلوغ، فقرن البلوغ بالعقل، ثم قرن كلاً منهما بالرشد، وهذا من دقته رحمة الله عليه، فلابد عندنا بالنسبة للصبي من أن يبلغ ويكون عنده عقل ورشد.
وبعض العلماء يقول: يبلغ ويرشد؛ لأن الرشد يستلزم العقل فيكتفي بالعلامتين، لكن المصنف أدخلهما في بعضهما حتى لا يكرر.
ف
**السؤال
متى نفك الحجر عن الصبي؟ ومتى نفك الحجر عن المجنون؟ ومتى نفك الحجر عن السفيه؟ هذه هي الجمل الآن.
بينّا أن الصبي لا بد أن يبلغ، وذكرنا علامات البلوغ ويكون عند بلوغه عاقلاً راشداً.
ومعلوم أن الرشد يستعمل في الدلالة على معانٍ، فتارة يقصد منه رشد الدين وتارة يقصد منه رشد الدنيا.
فيقال: فلان رشيد، إذا كان على صلاح وخير، ومنه قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] فالرشد وسبيل الرشد سبيل الحق والصواب والهدى، فهذا استعمال الرشد بمعنى الخير والسداد.
ويستعمل الرشد بمعنى: حسن النظر في أمور الدنيا، وقد أشار الله إليه بقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فالرشد المراد به هنا أن يكون رشيداً يحسن التصرف في ماله.
وبناءً على ذلك: إذا بلغ الصبي فيجب على الولي أن يختبره لكي يكتشف العلامة الثانية وهي الرشد.
والرشد في الصبيان يختلف على حسب اختلاف المحجور عليهم من الصبيان، فهناك رشد يتعلق بالنساء، وهناك رشد يتعلق بالرجال، فولي اليتيم يعطي اليتيم مالاً معيناً عند البلوغ أو مقاربة البلوغ يختبره به في تصرفه.
فمثلاً: إذا كان هناك عيد أو كانت هناك مناسبة واحتاج الصبي أن يشتري ثوباً أو حذاءً أو نحو ذلك فإنه يعطيه مالاً، ويقول له: اذهب واشتر لنفسك؛ ولا يحدد له ما الذي يشتري، ويعطيه مالاً معيناً يكون بمثابة الاختبار.
مثلاً: يمكن أن يشتري الحذاء بعشرة، فيعطيه خمسة عشر ريالاً حتى ينظر كيف يتصرف؛ لأنه لو لم يعطه إلا عشرة فسيشتري الذي قيمته عشرة، فيعطيه بطريقة ليس فيها ضرر من كل وجه على ماله؛ لأن هذا محتاج إليه.
فيعطيه مثلاً -اثني عشر ريالاً- أو ثلاثة عشر ريالاً بحيث يكون هناك سلعة بهذه القيمة وأقل، فينظر كيف يشتري؟ وقال بعض العلماء: بل يعطيه نفس القيمة، والسبب في هذا: أنه إذا أعطي نفس القيمة فسينظر هل يستطيع أن يكاسر البائع ويرغم البائع ويدفع إغراء البائع به، فإذا اشتراها بعشرة علمنا بأنه رشيد، وإن ألح عليه البائع لكي يختله ويضر به، فجاء يشتكي ويقول: ما وجدت أحداً يبيعني بعشرة، أو لا أشتري بأكثر من عشرة، علم رشده، وإن جاء يقول: لا، سأشتريها بخمسة عشر، علم سفهه.
والصحيح والأقوى: الأول، أنه يعطيه ويستفضل قليلاً؛ لكي ينظر كيف يحافظ على ماله، هذا بالنسبة للرجل، فيُختبر في شراء الأشياء التي تتعلق بالرجال كالملابس ونحو ذلك، أما المرأة فقد كانوا في القديم يختبرون النساء بما يصلح شأنهن، أو بما يكون خاصاً بهن من أمور الغزل وشراء الملبوسات ونحو ذلك، فإذا جاءت مناسبة أعطاها مالاً، ثم وكل إليها أن تشتري بهذا المال، فإذا ذهبت تشتري ثيابها واشترت بسفه؛ استمر الحجر عليها، وإن اشترت برشد؛ رفع يده عنها.
ويكرر هذا مرتين أو ثلاثاً، وأقل شيء يضمن به أنه مصيب: ثلاث مرات، فقد يعطي مرة ويشاء الله أن تلك المرة يظهر له فيها أنها راشدة وربما تكون رمية من غير رامٍ، فيكرر مرتين وثلاثاً حتى يتأكد.
وقال بعض العلماء: أحب أن ينوِّع، فتارة يعطيه ليشتري حذاءً، وتارة يعطيه ليشتري طعاماً، وتارة يعطيه ليشتري كتاباً أو قلماً، أو نحو ذلك، فيختبره بأنواع متعددة حتى يستمرئ التعامل مع الناس ويُكشف على حقيقته.
وهذا لا شك أنه أبلغ في الاحتياط، وظاهر القرآن يدل عليه؛ لأن الله يقول: {وَابْتَلُوا} [النساء:6] والابتلاء: الاختبار كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] أي: يختبركم.
وعلى هذا: لا بد وأن يختبر ويكرر عليه الاختبار حتى يثبت رشده في الشراء والبيع.
أيضاً مما يشمله الاختبار: أن تختبر الصبية والصبي بالبيع، فكما يختبر بالشراء يختبر بالبيع، فيعطى الصبي شيئاً يبيعه إذا كان أهلاً للبيع، فيقال له: خذ هذه السلعة وبعها في السوق، ويترك له الأمر ولا يحدد له قيمة، وإنما يقال له: بعها بالسوق، فيذهب، فإن أحسن بيعها وأحسن التصرف فيها فالحمد لله، ويكرر له مرتين أو ثلاثاً حتى يثبت أنه محسن للبذل؛ لأن الذي يأخذ المال لا يحكم بكونه رشيداً فيه إلا من جانبين: الجانب الأول: جانب الأخذ.
والجانب الثاني: جانب الإعطاء.
فقد يكون رشيداً في الأخذ سفيهاً في الإعطاء، وقد يكون سفيهاً في الإعطاء رشيداً في الأخذ، فبعض الناس إذا اشترى لا يمكن أن يغبن، لكن إذا باع يغبن، والعكس، فمن الناس من يغبن إذا اشترى ولا يغبن إذا باع، فإذاً لا بد وأن يكون رشيداً في بيعه وشرائه، وفي أخذه وإعطائه.
فإذا تم له ذلك وأعطيناه السلعة فباعها بقيمتها أو قريباً من قيمتها دون غبن ظاهر فيها؛ فإنه يحكم برشده ويعطى المال إليه؛ لأنه ثبت كونه مصلحاً للمال أخذاً وإعطاءً، بيعاً وشراء
**الرشد علامة لفك الحجر عن السفيه
قال رحمه الله: [أو رشد سفيه] سبق وأن ذكرنا أن السفيه هو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، فإذا حجرنا عليه ثم صار رشيداً في بيعه وشرائه وأخذه وعطائه نفك الحجر عنه؛ لأن ما شرع لعلة يزول بزوالها، فالأصل أنه يملك ماله، فالله يقول: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] فإذا زال وصف السفه وجب رد ماله إليه؛ لأنه مالك لماله، ولا يجوز أن يمنع من التصرف في مال يملكه
**حكم رفع الحجر من دون الحاجة إلى حكم القاضي
قال رحمه الله: [زال حجرهم بلا قضاء] مسألة فك الحجر عن المحجور عليهم فيها نوعان: - نوع منهم لا يفك الحجر إلا بحكم القاضي.
- ونوع منهم يفك الحجر عنهم بدون حكم القاضي.
فمثلاً: عندنا السفيه، مذهب طائفة من العلماء أنه لا يفك عنه الحجر إلا بحكم القاضي؛ للاختلاف في السفه والخروج من السفه واختلاف الأعراف في ذلك، فقالوا: يحتاط، فلا يحكم بفك الحجر عنه إلا بحكم القاضي، وقال بعض العلماء: هؤلاء الثلاثة: الصبي والمجنون والسفيه إذا رشدوا وزال عنهم وصف السفه والجنون والصبا حكمنا بأهليتهم للتصرف بدون حكم القاضي ويرفع الحجر عنهم.
ما فائدة الخلاف؟ فائدة الخلاف: لو أن صبياً حكمنا بالحجر عليه، وبلغ اليوم، وكان قد اختبره وليه عند البلوغ وإذا به رشيد، فلما بلغ اليوم اشترى عمارة بنصف مليون، ثم سئل فقيل: هل هذا رجل محجور عليه فلا نصحح البيع؟ فنقول: إن الحجر عليه زال بمجرد بلوغه إيناس الرشد منه.
فإن الله تعالى لم يشترط حكم القاضي وقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] هذا في الصبي.
كذلك لو أن مجنوناً حجرنا عليه وأفاق من جنونه، فقال له رجل: بعني مزرعتك بخمسمائة ألف؛ فباعها بخمسمائة ألف، وقيمتها تساوي خمسمائة ألف، فإننا نقول: إن هذا المجنون متى ما زال عنه السبب الموجب للحجر عليه رجع حراً في ماله يتصرف فيه كما يتصرف العاقل.
وهكذا بالنسبة للسفيه فإنه يُحكم بفك الحجر عنه بدون حاجة إلى حكم القاضي، أما لو اشترطنا حكم القاضي، وتصرف الصبي أو السفيه أو المجنون فباع أحدهم شيئاً اليوم وقد زال المانع من الحجر عليه فإنه ينتظر إلى فك الحجر، ويبقى البيع معلقاً ومردوداً إلى نظر الولي، فإن أجازه صح وإن لم يجزه لم يصح.
مسألة ثانية من فوائد الخلاف: لو أن الصبي بلغ رشيداً وتصدق في هذا اليوم بألف، وليس فيه غبن على ماله، فإن قيل بأن الحجر يزول بمجرد وجود علامة البلوغ والرشد، فحينئذٍ صدقته نافذة، وعطيته صحيحة، والعكس بالعكس.
ومثال آخر: لو أن هذا الصبي بلغ اليوم وتصدق أو تبرع بألف لأخيه، ثم توفي في حادث، ولم يكن مريضاً مرض الموت، فهذه الألف عطية، وإن قلنا: إن الحجر عليه لا يفك إلا بحكم القاضي فهي لاغية؛ لأن عطية المحجور عليه قبل فك الحجر عنه لا تصح، فترد الألف وتبطل العطية.
وإن قلنا: يفك عنه بمجرد بلوغه ورشده، فعطيته نافذة وتُملك بمجرد القبض.
إذاً: هذه المسألة -هل نفك الحجر عنه بمجرد وجود علامة الفك أم أنه لا بد من حكم القاضي؟ - لها فوائد ولها آثار: والصحيح: أنه لا يشترط حكم القاضي على ظاهر النص في التنزيل
**ما تخص به المرأة من علامات البلوغ
قال رحمه الله: [وتزيد الجارية في البلوغ بالحيض].
وتزيد الجارية الأنثى بعلامة في بلوغها وهي: الحيض؛ لأنه يكون بالنساء، فإذا حاضت المرأة حكم ببلوغها.
قال رحمه الله: [وإن حملت حكم ببلوغها] لأن الحمل يكون عن حيض
**حكم رفع الحجر قبل تحقق الشروط
قال رحمه الله: [ولا ينفك قبل شروطه] ولا ينفك الحجر قبل شروطه، يعني: قبل وجود الشروط المعتبرة لفك الحجر، وهي: - البلوغ للصبي مع الرشد.
- والرشد في السفيه.
- والعقل في المجنون مع الرشد.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراشدين في الدين والدنيا
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (336)
صـــــ(1) إلى صــ(20)
شرح زاد المستقنع -** باب الحجر [6]
الذي يحجر عليه لمصلحة نفسه لا يدرك مصلحته، ولهذا أوجبت الشريعة أن يكون هناك من يتولى أمره ومصالحه حتى يستطيع أن يتولاها بنفسه، ولكن هذا الولي لا يتصرف بما شاء، وإنما يتصرف بحدود مصلحة موليه؛ لأن هذا هو المقصود من وضعه في هذا الملف، ولهذا جعل العلماء عدة ضوابط لتصرفات الولي
**وقت فك الحجر عن السفيه والصبي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد ذكر المصنف -رحمه الله- هذه الجملة لبيان فك الحجر عن السفيه والصبي، وذلك بثبوت الرشد في كل منهما، وقد بينّا أن الرشيد في ماله هو الذي يحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره.
ومعنى ذلك أنه إذا اشترى أو استأجر أو أخذ شيئاً فإنه لا يغبن كما ذكر المصنف رحمه الله، فلا يباع عليه الشيء بأكثر من قيمته؛ ولا يبيع الشيء بأقل من قيمته.
فإذا كان على هذه الحالة أكثر من مرة، واختبر فبان أنه يتصرف على هذا الوجه: يحسن الأخذ لنفسه ويعطي لغيره على وجه معروف؛ فإنه يفك الحجر عنه
**ضابط الرشد عند السفيه والصبي
قال رحمه الله: [والرشد] أي: حقيقة الرشد وضابط الرشد في الشرع ما ذكره [بأن يتصرف في ماله مراراً فلا يُغبن غالباً].
قوله: (مراراً) فلو أعطى ولي اليتيمة اليتيمة مالاً فباعته أو اشترت به مرة وأصابت فإنه لا يحكم برشدها، بل لا بد من أن يتكرر ذلك أكثر من مرة؛ لاحتمال أن تكون أصابتها في المرة الأولى بدون قصد، كأن تكون حصلت موافقةً.
وعلى هذا فلا بد وأن يختبر أكثر من مرة قبل بلوغه -كما ذكرنا- أو عند بلوغه، وإذا أراد أن يختبره أعطاه مالاً وقال له: خذ بع هذا أو اذهب واشتر بهذا المال لك ثياباً أو طعاماً أو نحو ذلك، فإذا كرر البيع وكرر الشراء وكان على المعروف والسنن حُكم برشده.
قال رحمه الله: [ولا يبذل ماله في حرام] الرشد يشترط فيه ألا يبذل صاحبه المال في غير طاعة الله عز وجل، أو يبالغ في إنفاق المال في الشهوات.
فالمصنف ذكر المعصية وهي الحرام، لكن أيضاً يضاف إليها أن ينفق ماله ويكثر من الإسراف في المباحات، كرجل يدفع المال الكثير لقاء النزهة أو الفسحة، ويكون ذلك المال الذي أنفقه في سفره للنزهة والفسحة كبيراً وكثيراً، فإنه يحكم بسفهه وبزوال الرشد عنه، وإذا ثبت عليه ذلك عند القاضي حكم بالحجر عليه.
فإذاً لابد وأن يكون تصرفه على الوجه المعروف، وذلك بإحسانه للأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، وعدم إنفاقه للمال في الحرام أو إسرافه في المباحات كما قال بعض العلماء: والسفه التبذير للأموال في لذة وشهوة حلال وخرّج العلماء على الوصف الأخير الذي ذكرناه -وهو إنفاق المال في الشهوة الحلال- أن يكون شراؤه للأشياء بأكثر مما تستحقه أو بما لا تملك بمثله، كأن يكون مثلها يشترى بمائة فيبالغ ويشتريه بمائتين أو بثلاثمائة.
أو يكون يحتاج إلى سيارة ومركب، وتكفيه سيارة بمائة ألف -مثلاً- فيذهب ويشتري سيارة بمائتين أو بثلاثمائة، فمثل هذا إذا أنفق المال وزاد وبالغ في المباحات فأسرف فيها، فإنه يُحكم بكونه سفيهاً.
قال رحمه الله: [أو في غير فائدة] كذلك لو أنفق المال في غير فائدة، كأمور اللهو التي لا تعتبر محرمة ولا مندوبة، وذلك اللهو المندوب الإنسان مع فرسه من أجل أن يتعود الفروسية، أو لهوه بسلاحه من أجل أن يتعود ويعد نفسه للجهاد في سبيل الله ونحو ذلك من المقاصد الشرعية؛ فاللهو الذي يكون لا فائدة فيه ويدفع المال فيه فإنه يُحكم بسفهه.
فلو دخل لكي ينظر إلى مناظر طبيعية بالغ أصحابها في قيمتها كأن لا يدخل لرؤية هذه المناظر إلا بمائة ريال، فدخل ودفع المائة وذهب ينظر في هذه المناظر، فما الفائدة التي يعود بها! فحينئذٍ إذا أنفقها فيما لا فائدة فيه فإنه يحكم بكونه سفيهاً
**وجوب اختبار الصبي قبل دفع المال إليه
قال رحمه الله: [ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به] ولا يدفع المال إلى الصبي إذا كان محجوراً عليه حتى يختبر ويمتحن كما ذكرنا؛ لأن الله أمر بذلك فقال سبحانه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نختبر اليتامى وذلك عند بلوغهم، فإذا حصل أو ثبت رشدهم فإنه يحكم بإعطاء الأموال إليهم.
وإنما حكم العلماء بلزوم الاختبار؛ لأننا لا نحكم برشده إلا بعد ثبوت ذلك الرشد بالاختبار
**الأحق بالولاية على السفيه والصبي أثناء الحجر عليهم
قال رحمه الله: [ووليهم حال الحجر الأب ثم وصيه ثم الحاكم] إذا كان الصبي محجوراً عليه فإن الذي يتولى أموره وحفظ ماله هو والده، وهو أحق الناس بذلك.
وهذا إنما يتأتى إذا كان للصغير مال، كأن تموت أمه وتترك له إرثاً، كصبي -مثلاً- ماتت أمه وتركت له مائة ألف، فالواجب على أبيه أن يأخذ هذا المال وأن يحفظه، حتى إذا بلغ الصبي دفع إليه ماله.
هذا بالنسبة للأشخاص الذي لهم حق الولاية، وبعبارة أخرى: من هو الولي الذي ينصب على اليتيم؟ فذكر رحمه الله أن أولى الناس بالولاية الأب، ثم وصي الأب إذا كتب الإنسان وصيته وخاف على أولاده، كأن يكون عنده ذرية ضعيفة -أطفال- ويخشى عليهم أنه لو مات عنهم أنهم يضيعون، فيجب عليه شرعاً أن يعهد ويوصي من يثق بدينه وأمانته أن يحفظهم.
فلا يجوز للمسلم إذا كان عنده أطفال أن يأمن الموت؛ لأن الموت يأتي الإنسان دون أن يشعره ويعلمه، وكم من ضاحك قد نسجت أكفانه.
فالواجب على المسلم إذا كان عنده أطفال وذرية أن يكتب وصيته، وأن يكتب في وصيته أن أولاده وأبناءه وبناته يليهم فلان، سواءً كان من القرابة أو من غير القرابة، إلا أن الوصية من القرابة أولى وأحق.
فإن كان هناك من أبناء العم أو العشيرة أو القبيلة من يُعرف فيه الدين والأمانة والحفظ والرعاية فإنه ينصبه على أولاده ليقوم عليهم ويرعى شئونهم ونحو ذلك.
فهذا الوصي الذي يوصي إليه الأب هو أحق بالولاية على أولاده إذا توفي، فيقوم هذا الوصي مقام الأب، وإنما قُدِّم الأب؛ لأن أكمل الناس شفقة على الإنسان هم الوالدان، ولا شك أن شفقة الأم أعظم من شفقة الأب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما ضرب المثل لعظيم رحمة الله عز وجل، وأراد أن يبيّن للعباد عظيم حلمه جل جلاله ورحمته بعباده، ضرب لهم ذلك بالأم حينما لقيت ولدها وقد خافت أن يكون قتيلاً في الحرب، فلما لقته أخذته وضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا.
قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).
فالوالدان أسكن الله في قلوبهما الرحمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حينما دمعت عيناه على ابنه إبراهيم وبكى عليه الصلاة والسلام وعجب الصحابة وقالوا: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).
فالوالد في قلبه رحمة لولده، والأم لا تستطيع أن تتولى أمور البيع والشراء والأخذ والعطاء على الأيتام، ولذلك الأب مقدم، وفي الأب من النصيحة لأولاده ما لا يخفى، فهو المقدم على غيره في ولاية أمور الصغار.
وكذلك أيضاً يليه الوصي؛ لأن شفقة الأب وحنانه تجعله لا يوصي بأبنائه بعد موته إلا لشخص يرى أنه يحل محله، وأنه يكون مثله أو أفضل منه.
فالواجب على الأب أن يفعل ذلك إذا علم أن هناك أيتاماً، وخاصة إذا وجد من القرابة -نسأل الله العافية والسلامة- من يعرف بالظلم واغتصاب الأموال وأذية الأيتام، ولا يبالي بالحقوق، فخاف عليهم من قرابتهم، فإنه يجب عليه أن ينصب الأصلح الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه فيهم، كما قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فأمرنا الله إذا كان عندنا ذرية ضعيفة أن نتقيه فيهم، والذرية الضعيفة هم الأطفال، ومعنى ذلك أن كل إنسان عنده أطفال ينبغي أن ينظر هذا النظر، وألا يأمن الموت، وأن يكتب وصية لمن يقوم على أولاده في حالة موته.
هذا الوصي الذي توصي إليه أول شيء ما تنظر إليه فيه: دينه، فالدين هو عماد الخير كله، وينظر إلى تقواه لله سبحانه وتعالى؛ لأن المتقي أمين إذا استؤمن، وصادق إذا تكلم، وفيه من الحفظ والرعاية ما ليس في غيره.
ثم بعد ذلك تنظر إلى خلقه من ناحية أخلاقه ومعاملاته، بأن يكون رجلاً ديناً فيما بينه وبين الله يخافه ويتقيه ويحفظ حقوق الله، وذا خلق فيما بينه وبين الناس؛ لأنه ربما كان إنساناً ديناً لكنه عصبي وأخلاقه شرسة لا يستطيع أن يأمن نفسه؛ وتكون فيه حدة الطبع، فإذا جاء اليتيم يستعطفه في مال أو شيء ربما كهره، وربما أساء إليه وأغلظ عليه وربما قهره، وقد يكون ذلك بدون شعور منه، فينبغي أن ينظر إلى الخُلُق.
وثالثاً: ينظر إلى عقله، فقد يكون إنساناً فيه دين وصلاح، لكنه ناقص العقل، بمعنى: أنه أخرق لا يحسن التقدير للأمور، ولا يحسن النظر ولا الاجتهاد، فينبغي أن ينظر إلى عقله وبعد نظره وحسن تدبيره للأمور، حتى إذا طرأ شيء على أموال اليتامى أحسن التصرف، وكان عنده من الفطنة والذكاء والحذر والحزم ما يحفظ به أموال هؤلاء الضعفاء.
فإذا استجمع هذه الشروط فإنه يعهد إليه ويوصي إليه، وحبذا لو أنه يستدعيه ويذكره الله فيما بينه وبينه حتى يكون ذلك أبلغ في حفظه لماله ورعايته لأيتامه.
فالأب ومن اختاره الأب لأولاده يقدم على من سواه، وإن نصبه القاضي؛ لأن الأب أدرى بولده، وينصب الأب من يختار على أيتامه سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً، وله الحق أن يوصي بالذكور والإناث ويقول: فلان يلي أمور أيتامي، ويشمل ذلك ذكورهم وإناثهم.
قال رحمه الله: [ثم الحاكم] وذلك لأن الله جل وعلا جعل ولي الأمر كالوالد للناس، يعطف عليهم ويقوم على شئونهم ويرعى مصالحهم، فالولاة نصبوا على الناس حتى ينظروا الأصلح والأقوم والأهدى سبيلاً فيتبعوه ويأخذوا به.
وعلى هذا فلو مات إنسان وترك أيتاماً ولم يوص بهم لأحد، فإنه يرفع أمرهم إلى القاضي؛ لأنه يقوم مقام ولي الأمر، ولأن له ولاية النظر في المصالح، وهو منصب من ولي الأمر للنظر في مثل هذه الأمور.
فيقوم القاضي ويسأل عن قرابة الميت: هل فيهم رجل فيه من الدين والعقل والأمانة فيقدمه على غيره؛ فإذا لم يجد في قرابة الميت من هو أهل للقيام على أموال اليتامى، فإنه ينظر من سائر الناس من هو كذلك، فينصبه على هؤلاء الأيتام، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، ويعظه ويذكره هذه الأمانة، ثم يفوض إليه الأمر بالنظر في مصالح هؤلاء الأيتام
**كيفية تصرف ولي أمر السفيه أو اليتيم أو المجنون لهم
قال رحمه الله: [ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ] بعد أن بيّن رحمه الله من الذي يولى على الأيتام، شرع في بيان تصرف الولي، فإذا كان الولي ينصب على اليتيم والمجنون والسفيه، فماذا ينبغي عليه؟ قال رحمه الله: (ولا يتصرف) أي: الولي، والتصرف يشمل البيع والشراء والأخذ والعطاء من سائر المعاملات، فلا يتصرف هذا الولي في مال اليتيم إلا بالأحظ، والأحظ أفعل تفضيل بمعنى: أن يتصرف التصرف الذي هو الأفضل لمصلحة مال المحجور عليه.
وبناءً على ذلك: نفهم من هذا أنه ليس من حق الولي أن يتصرف تصرفاً يضر بالمال كله أو ببعضه، إلا في مسائل مستثناة.
فمن هنا: لا يصح للولي أن يتصدق بالمال، فلو أنه تصدق بالمال ضَمِن، ويجب عليه أن يضمن المال كاملاً، ولا يصح منه أن يتبرع بهذا المال، فلو قال: أنا وليهم أتبرع بهذا المال لأمهم، لم يكن من حقه ذلك.
فليس له أن يتصرف بما فيه ضرر، فيتلف المال كله أو يتسبب في ذهاب منفعة المال، بل عليه أن ينظر الأحظ.
وإذا كان ملزماً بالنظر بالأحظ، فيشمل ذلك أن يتصرف بالبيع ويتصرف بالإجارة ويتصرف بغير ذلك من مسائل المعاملات.
فعلى هذا: لو كان اليتيم توفي عنه أبوه وترك له عمارة، وهذا اليتيم بقي له ثلاث سنوات ويبلغ، والعمارة لو بقيت ثلاث سنوات ستنزل قيمتها وتصبح قيمتها رخيصة، وسأل أهل الخبرة فقالوا: إن العمارة سعرها الآن أفضل، فرأى المصلحة والأحظ أن يبيعها، فيجوز له أن يبيع؛ لأنه يلتمس الأصلح والأحظ.
كذلك العكس: لو أنه توفي وترك لأيتامه أرضاً، وهذه الأرض في مكان بعيد، وليس لها قيمة الآن، وقيمتها -مثلاً- عشرة آلاف لو بيعت الآن، وعلم عن طريق أهل الخبرة أو عن خبرته ومعرفته، أنها لو بقيت سيصل إليها الناس وتصبح قيمتها أكثر فيمسكها ويمتنع من بيعها.
ولاحظ الفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية: فإنه في هذه الحالة إذا غلب على ظنه أن الأصلح بقاء الأرض أبقاها وأمسكها، ففي حال البذل بالبيع وفي حال الإمساك إنما يروم ويقصد الأصلح للأيتام، فإذا نظر وعلم الأصلح والأفضل فإنه يقدم عليه ويعمل به.
ومثال آخر: في الإجارة: لو كان عند الأيتام عمارة، إذا أجرت فإنها تدر عليهم أموالاً، وهذه الأموال أنفع وأصلح لهم، خاصة وأنهم قد يتوفى أبوهم ولا يترك لهم سيولةً، فيحتاج ولي الأيتام إلى شيء ينفق منه على الأيتام، لشراء طعامهم وشرابهم ونحو ذلك، فرأى من المصلحة ألا يبيع العمارة وإنما يؤجرها فأجرها، فإنه حينئذٍ تصرف بالأحظ والأصلح.
لكن لو كانت هذه العمارة تؤجر على قوم يدفعون -مثلاً- عشرة آلاف، وآخرون يدفعون ثمانية آلاف فإلى أيهم نؤجر؟
**الجواب
ينظر إلى من سيدفع العشرة أهم أحفظ لمصالح العمارة أكثر ممن سيدفع الثمانية أم لا، فقد يؤجر إلى أناس يتلفون مصالحها ويضرون بها، ثم بعد خروجهم يحتاج إلى إنفاق أموال لإصلاح ما أفسدوه وضيعوه، مع أنه شرعاً يجب على الأجير إذا أتلف شيئاً في العمارة ألا يخرج إلا وقد أصلحه.
وهذه من الأخطاء التي يخطئ فيها أولياء الأيتام ونظار الأوقاف، أن الأجير يخرج وقد أتلف المصالح والأعيان، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا من إضاعة المال، وفي الشرع لو أن ناظر الوقف تساهل وخرج المستأجرون وتركهم يخرجون دون أن يضمنوا ما أتلفوه، فإنه يدفع من ماله وجيبه ما يصلح به ما أفسدوه؛ لأنه هو الذي مكنهم من ذلك، وقصر ولم يطالبهم بإصلاح ما أفسدوه.
فالمقصود: أن الولي لليتيم والناظر للوقف ونحوهم كلهم ينظر الأصلح للمال، سواءً كان ذلك ببيعه أو استئجاره أو إجارته أو نحو ذلك.
كذلك أيضاً: لو كان للأيتام مائة ألف، وهذه المائة ألف لو بقيت في البنك أو عند الصبي فإنها تأكلها الزكاة؛ لأن عليها زكاة؛ فحينئذٍ ينقص المال ولا يبلغ إلا وقد نقص المال، فنظر إلى أن الأفضل والأحظ أن يتاجر بهذا المال فنقول له: تاجر بهذا المال.
إذاً: القاعدة عندنا: أن ينظر الأصلح والأحظ، وكيف يتوصل إلى الأصلح والأحظ؟ نقول له: سل الناس إذا كنت تجهل، أو اجتهد على قدر علمك ووسعك إذا كان عندك علم وخبرة تتمكن عن طريقها من معرفة الأصلح والأحظ للمال
**حكم اتجار ولي اليتيم بمال اليتيم لمصلحة اليتيم
قال رحمه الله: [ويتجر له مجاناً] أي: ويتجر في مال اليتيم مجاناً، فلا يأخذ أجرة مثله إلا في مسائل ستأتي عند الحاجة، أما إذا اتجر بمال اليتيم فإنه لا يتعامل مع اليتيم، فلا يشتري من مال اليتيم، ولا يستأجر مال اليتيم؛ لأنه محل التهمة.
وعند بعض العلماء لا يصلح أن يكون مؤجراً أو مستأجراً أو بائعاً لليتيم أو مشترياً منه في آن واحد، لكن هذه العلة الثانية ضعيفة؛ لأنه يمكن أن يتزوج اليتيمة إذا عدل وأقسط إليها كما هو مقصود التنزيل واختارته أم المؤمنين عائشة وقال به الجماهير، أن ولي اليتيمة إذا عدل بمهرها وأقسط فلا بأس عليه، فهو ولي وهو زوج.
وأياً ما كان فمسألة الاجتماع قد لا تخلو من نظر كما ذكرنا، لكن ولي اليتيم يتاجر بمال اليتيم، أما مشروعية التجارة له ففيها حديث ضعيف، والصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه، فقد قال رضي الله عنه في خطبته: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) فأمرهم أن يتاجروا بأموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة؛ لأن كل سنة عليها زكاة، فالمال ينقص، وحينئذٍ ينبغي على ولي اليتيم أن يحتاط لذلك، وبذلك أفتت وعملت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تلي أيتاماً لأخيها عبد الرحمن رضي الله عنهما، وكانت تتاجر لهم في أموالهم.
فإن تاجر الوصي فيتاجر مجاناً، ولا يأخذ أجرة عمله، وعلى هذا فإنه يكون قائماً على مال اليتيم وأجره على الله، فإن من أعظم الأعمال أجراً وثواباً: الإحسان إلى اليتامى، ومن الإحسان: استصلاح أموالهم والسعي فيما يعود عليهم بالخير، فإن هذا أجره عند الله أعظم، وثواب الآخرة أكبر.
وبناءً على ذلك فقد أجمع الصحابة على جواز التجارة بمال اليتيم؛ لأنه لا مخالف فيه، والعمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، وإذا ثبت ذلك فإنه يتجر بدون مقابل
**حكم المضاربة في مال اليتيم
قال رحمه الله: [وله دفع ماله مضاربة بجزء من الربح] قررنا أن ولي اليتيم يتصرف بالأحظ، وإذا كان يتصرف بالأحظ فله أن يتاجر في المال، لكن تبقى مسألة وهي: لو أنه تاجر في المال فاحتاج إلى عمال أو إلى أناس يقومون بالتجارة، فهل الذين يقومون بالتجارة لا يعطى لهم أجر؟
**الجواب
لا، فقوله: (مجاناً) راجع إلى الولي وليس إلى العمال الذين يستأجرهم ويطالبهم للعمل، وإلا لما أمكن أن يتاجر بأموال اليتامى؛ لأنه إذا كان الولي لا يأخذ والعمال لا يأخذون فلن تقوم تجارة أصلاً، بل أين يوجد هذا؟! لكن يجوز أن يستأجر أناساً بالمعروف ويعطيهم أجرة بالمعروف، وبما جرى عليه العرف، لا يزيدهم ولا يظلمهم، ويعطيهم من مال اليتيم كما يعطى غيرهم من الأجراء، وذلك جائز ولا بأس به.
وإذا ثبت أن ولي اليتيم لا يجوز أن يضحي بشيء من مال اليتيم فيرد السؤال هنا: بعض العقود تبرم بين الشخص والآخر ويكون فيها نقص للمال، فأنت -مثلاً- إذا دفعت مال اليتيم إلى رجل ليتجر به وهو الذي يسمى بالمضاربة، -والمضاربة من الضرب في الأرض؛ لأن التجارة تحتاج فيها إلى السفر والضرب في الأرض- فلو أنك دفعت مائة ألف من مال اليتيم إلى رجل من أجل أن يتاجر فيها مضاربة، فإنه سيقول لك: أريد جزءاً من الربح؛ لأن المضاربة تدفع المائة ألف ويكون الربح بين صاحب المال وبين العامل، فلو أنه دفع مائة ألف إلى عامل، وقال له العامل: أنا آخذ نصف الربح، فحينئذٍ سينقص مال اليتيم، فبدل أن يكون الربح كله لليتيم سيكون نصف الربح له والنصف الآخر للعامل، فنقول: هذا جائز ولا مانع منه؛ لأنه جارٍ على سنن المضاربة.
ولذلك نص رحمه الله على هذه المسألة فقال: له أن يضارب في هذا المال على جزء من الربح.
يعني: يقول لشخص: خذ هذه المائة ألف واضرب بها وتاجر بها ونمَّ المال والربح بينك وبين اليتيم، أو ثلاثة أرباع الربح لليتيم وربعه لك، أو الثلثان لليتيم والثلث لك، أو العكس الثلث لليتيم والثلثان لك على حسب ما يرى فيه المصلحة.
والحقيقة أن إتلاف جزء من المال لاستبقاء الكل صحيح شرعاً، فولي اليتيم أو ناظر الوقف إذا أتلف جزءاً من المال من أجل بقاء المال فإن المصلحة تقتضي هذا.
ولذلك لما ركب موسى عليه السلام مع الخضر، وكسر الخضر لوح السفينة، أنكر عليه موسى عليه السلام، ولما بيّن له الخبر قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فهو قصد الإتلاف والإفساد حتى لا تفوت السفينة بكاملها؛ ولذلك أخذ العلماء من هذا القاعدة المشهورة: (يرتكب الضرر الأخف دفعاً للضرر الأعظم)، وفي معناها قولهم: (إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما لدفع أعظمهما)، فحينئذٍ فوات السفينة أعظم، وذهاب اللوح من السفينة أخف، فلولي اليتيم أن يضحي بجزء من المال لاستبقاء الكل.
وله كذلك أن يجعل الربح بين اليتيم وبين غيره بما يرى فيه المصلحة للمال ولليتيم
**حكم أكل الولي الفقير من مال موليه
قال رحمه الله: [ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته] هذه المسألة مستثناة من الأصل الذي ذكرناه، وقد قلنا: إن العلماء رحمهم الله يقررون الأصل ثم يذكرون أفراد المسائل التي تستثنى، فهنا عرفنا أن الولي لا يأكل من مال اليتيم وبينّا هذا الأصل.
ويرد
**السؤال
الولي الغني ليس بحاجة، ويستقيم أن يقال: أجره على الله، والقاضي إذا نصب شخصاً للنظر في مصالح اليتيم وصار ولياً عليه، فإنه سيتعطل عن مصالحه، وقد لا يجد وقتاً من أجل أن يطلب الرزق، فلو كان فقيراً واحتاج إلى أن يأكل من مال اليتيم فهل يجوز له ذلك؟
**الجواب
نعم، وهذا قول جماهير العلماء وأئمة السلف ودواوين العلم رحمة الله عليهم أجمعين، أن ولي اليتيم إذا كان فقيراً فإنه يجوز له أن يأكل بالمعروف؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف ْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] فأحل الله عز وجل له أن يأكل بالمعروف.
وعلى هذا قال العلماء: يأكل الأقل من أجرته وكفايته، أو يأخذ الأقل من أجرته وكفايته، والمراد بذلك: أنه إذا كان ولياً على يتيم وكان فقيراً واحتاج أن يأكل وهو قائم على مال اليتيم نقدر أجرة مثله، فلو كانت أجرة مثله في الشهر ألف ريال وكفايته في البيت ثمانمائة ريال فإنه يأخذ الثمانمائة ريال، ويأكل في حدود الثمانمائة.
فعندنا سببان: الأول: كونه قائماً على المال، وهذا يقدر فيه أجرة المثل.
والثاني: كونه محتاجاً وهذا يقدر فيه دفع الضرر عنه.
فعندنا أمران: كونه فقيراً ومحتاجاً، وكونه تولى هذا المال وقام على حفظه ورعايته.
فهذان سببان كلاهما يحل للشخص أن يأكل من مال اليتيم، لكن لا تخلو المسألة من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يتساويا، فتكون أجرة مثله تساوي قدر كفايته.
مثلاً: تولى المال وكان سيولة، ولم يتاجر به، فلو استأجرت شخصاً من أجل أن يحرس المال ويحفظه تقدر له -مثلاً- في الشهر خمسمائة ريال، فلو قدرت له خمسمائة ريال كأجرة، ونظرت إلى قدر كفايته في طعامه ونفقته في نفسه فوجدت أنه خمسمائة ريال، تقول: تساوت أجرة مثله مع حاجته؛ فحينئذٍ لا إشكال، فيعطى الخمسمائة وتتساوى الأجرة مع الحاجة.
الحالة الثانية: أن تكون الأجرة أغلى من حاجته، كرجل -مثلاً- ينمي مال اليتيم ويتاجر فيه، فمثله لو قدر أجرة عمله فإنه يعطى -مثلاً- ثلاثة آلاف في الشهر، وكفايته ألف، فنقول: يعطى الألف إذا كانت كفايته أقل من أجرته، والعكس لو كانت أجرته أقل من كفايته، كرجل عنده أولاد وأسرة كبيرة ينفق عليهم، وكفاية مثله في أهله وولده: ألفان، وأجرة مثله: ألف؛ فحينئذٍ قدر كفايته أكثر من أجرة مثله، فيعطى أجرة مثله.
ولذلك ينظر الأقل من السببين؛ لأنه يأكل بسبب الأجرة ويأكل بسبب الحاجة فيعطى الأقل منهما، وهذا نص عليه جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الأصل حفظ مال اليتيم، وحل الأكل إنما هو لوجود الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدره.
فيرد السؤال: إذا كانت أجرة مثله أكثر من كفايته، لماذا لا نعطيه أجرة مثله؟ الجواب: أن الشرع لم يجعل ولي اليتيم أجيراً، ولذلك لا نستطيع أن نضحي بمال اليتيم ونعطي من يقوم عليه الأجرة بدون نص وبدون أصل شرعي، وإنما قدرنا أجرته من أجل تعارضها مع كفايته، فمن حيث الأصل يحرم الأكل عليه، والأصل أنه يلي أمر اليتيم وأجره على الله، إذ لو فتح هذا الباب ربما أكلت أموال اليتامى وذهبت قبل أن يبلغ اليتامى.
وعلى هذا: ننظر إلى الأقل من أجرته وكفايته فنعطيه، سواءً كانت الأجرة أو كانت الكفاية.
قال رحمه الله: [أو أجرته مجاناً] هنا مسألة ثانية: لو أن شخصاً تولى على مال اليتيم وكان فقيراً، وأنفق على نفسه خلال ولايته على اليتيم سبعة آلاف ريال، ثم لما قارب اليتيم البلوغ أصبح الولي غنياً، فكان فقيراً فأكل ثم اغتنى بعد ذلك، سواءً عند البلوغ قبل أن يدفع المال أو بعد بلوغ اليتيم وقد دفع المال، فهل نقول له: رد لليتيم السبعة آلاف؟ أي: هل يضمن ما أكله؟ قال رحمه الله: [مجاناً].
للعلماء وجهان في هذه المسألة: بعض العلماء يرى أنه يدفع ويضمن ما أكله، وبهذا أفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقولته المشهورة: (إني أنزلت نفسي من مال المسلمين كمنزلة ولي اليتيم، إذا اغتنيت تركته وإذا افتقرت أكلت، فإن أيسرت رددت ما أخذت).
فدل على أنه يقضي بعد اليسر، فإذا يسر الله عليه واغتنى ضمن المال.
والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يقضي، وبعض العلماء يجعل أكل الولي من مال اليتيم في حال الفقر بشرط وهو: أن يكون المال في تجارة ونماء، أما لو كان المال لا يجري وليس في التجارة ولا في النماء فلا يفتي بجواز أكله منه
**الأحوال التي يقبل فيها قول الولي والحاكم بعد فك الحجر
قال رحمه الله: [ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة] إذا ثبت أن الأصل عدم جواز التصرف في مال اليتيم، وبينّا المسائل التي يجوز للولي أن يأخذ فيها ويأكل فيها بالمعروف، يرد
**السؤال
إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه وادعى اليتيم أن وليه أكل منه، أو أن وليه ظلمه في المال فأنفق فيما لا ينبغي أن ينفق فيه، أو دفع المال في شيء يشترى بالأقل فاشتراه بالأكثر، أو باع ما لا ينبغي بيعه، أو اشترى ما لا ينبغي شراؤه -لأن هذا كله وارد- فهل نقبل قول الولي أو نقبل قول اليتيم؟ هذه مسألة، كذلك أيضاً: إذا جاء وقت دفع المال إلى اليتيم عند البلوغ ووجدنا اليتيم رشيداً في تصرفه وحكم القاضي بدفع المال إليه، فسيحاسب الولي، ويقدم الولي بياناً لما دفعه على اليتيم من المصاريف في طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه وملبسه إلى غير ذلك، فيقدمه ويقول: أنفقت عليه كذا وكذا، وكان ماله مائة ألف، فأنفقت عليه منها عشرة آلاف في طعامه ومسكنه وكسوته وغير ذلك، فيذكر الأمور التي أنفق فيها على اليتيم.
هذه العشرة آلاف التي يدعي الولي أنه أنفقها هل نقول: نقبل قوله هكذا أو نطالبه بالدليل؟ هذه مسألة ثانية، فالمسألة الأولى: إذا ادعى اليتيم، والمسألة الثانية: إذا حضر وقت الدفع ورد المال إلى اليتيم، ففي كلتا المسألتين يقبل قول الولي، والقاضي يقبل من ولي اليتيم ما يدعيه، فقال رحمه الله: (ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة).
فإذا كان الحاكم هو الذي يتولى أمر اليتامى، فإنه يقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر عن اليتيم في النفقة، وإذا قلت: يقبل قوله، فمعناه: أنه يكون مدعىً عليه، ومعنى هذا: أنه لو حصلت خصومة وقضاء فسيكون الولي مدعىً عليه والقول قوله، لأنه إذا قيل: القول قول فلان فخصمه مدعٍ، والذي يُطالَب بالبينة خصمه ولا يُطالَب هو، فإذا جاء وقال: أنفقت عليه بعشرة آلاف فلا نقول له: أحضر شهوداً وأدلة على أنك أنفقت العشرة، بل يقبل قول الولي والحاكم.
قوله: (في النفقة) أي: في طعامه وشرابه وكسوته ومصالحه التي احتيج إليها، وسميت نفقة من النفاق؛ لأنها تستنزف المال وتأخذه.
قال رحمه الله: [والضرورة] سبق وأن ذكرنا ضابط الضرورة، وتعريفات العلماء للضرورة، لكن الضرورة هنا لها معنىً خاص، فاليتيم ترك له أبوه عمارة قيمتها مليون، وترك له سيولة خمسة آلاف ريال، فأنفق وليه الخمسة آلاف، فاحتاج اليتيم أن يبحث عن دخل ومال من أجل أن ينفق عليه، فقام ولي اليتيم ببيع العمارة.
في هذه الحالة لو سأله القاضي: لِمَ بعت العمارة؟ سيقول: اضطررت إلى البيع وألجأتني الضرورة أن أبيع هذه العمارة، فادعاؤه أنه مضطر لبيع العمارة أو أي مملوك لليتيم، كل هذا يصدق فيه؛ لأننا لو فتحنا الباب في عدم قبول قوله لفر الناس من الولاية وأصبح فيها ضرر عليهم.
فالشاهد: أن اليتيم إذا قال: باع عمارة والدي وما كان ينبغي له أن يبيعها، فقال الولي: بل كان ينبغي بيعها.
فكلمة: بل كان ينبغي، يعني: أنا مضطر إلى بيعها، والضرورة إذا ادعاها الولي يقبل قوله، وهكذا إذا ادعاها الحاكم فبنى عليها بيع شيء أو إجارة شيء.
مثلاً: لو أن اليتيم ادعى على الولي أنه أنفق عشرة آلاف ريال عليه، فسأله القاضي: فيم أنفقتها؟ قال: أنفقتها في سكن.
قال اليتيم: ما كان ينبغي أن يستأجر لنا سكناً، فيقول له: أين أذهب بهم يسكنون؟ في العراء! إنهم مضطرون لدفع العشرة الآلاف لإسكانهم، لكن لو ثبت عند القاضي أنه غير مضطر، فحينئذٍ يضمن الولي على التفصيل عند العلماء رحمهم الله، ويؤاخذه ويحاسبه القاضي على هذا إذ فيه ضرر على المال.
فإذا باع الولي العمارة بحجة نفقتها على اليتيم، واليتيم ترك له والده عشرين ألفاً، ويكفي اليتيم منها في حدود عشرة آلاف، فإذاً وجود العشرين ألفاً يمنع من الضرورة لبيع العمارة، فحينئذٍ يكون الولي مخطئاً في بيعها، لكن لو ادعى ضرورة ثانية كأن يشتهر أنه -مثلاً- بعد سنة ستصبح هذه العمائر رخيصة فيقول: أنا مضطر إلى بيعها لمصلحتها لليتيم، فباعها فخالفت الظنون وأصبحت غالية، فادعى اليتيم على وليه أنه فرط في هذه العمارة يقول: أنا نظرت إلى الحال واجتهدت، وفي ذلك الزمان كنت مضطراً إلى البيع؛ لأنني وجدت أن هذا يضر بمصلحة مال اليتيم، وأقدمت على البيع من هذا الوجه، فحينئذٍ يقبل قوله.
وقد يضطر الولي إلى البيع لخوف الكساد وهذا -مثلاً- في الأطعمة؛ إذا كان اليتيم ترك له والده بضاعة وكانت من الطعام، ولا يمكن أن تبقى شهراً دون فساد، فعرضها في السوق ولكنها لم تأتِ بقيمتها وإذا تركت تفسد فلا تأتي بشيء، فباعها بنصف القيمة، فحينئذٍ يخاصمه اليتيم أو القاضي ويسأله: كيف تبيع بضاعة قيمتها مائة ألف بخمسين ألفاً؟ يقول: نعم هذا البضاعة لم يتيسر بيعها إلا بخمسين ألفاً، ولو لم أبعها فستتلف، وأنا مضطر إلى ذلك؛ فهذه ضرورة صحيحة.
كذلك أيضاً لو كان الميت ترك متاعاً، وهذا المتاع المراد به مثلما يحصل لبعض التجار يشترون بضاعة بمائة ألف -مثلاً- من أجل أن تباع في موسم الحج بمائتين، وشاء الله أن يموت في شعبان، فهذه البضاعة سيتولى أمرها الولي، فإذا تولى أمرها فمعناه أنه سيحفظ البضاعة إلى الحج، وحفظ البضاعة إلى الحج يحتاج إلى إجارة، فاستأجر لها مكاناً بثلاثين ألفاً ولم يجد إلا هذا المكان بثلاثين ألفاً، وإن بيعت البضاعة في وقتها بيعت بخسارة أو برأس مالها، وإن بقيت بيعت بالضعف فالأصلح لليتيم ألا تباع الآن، وتبقى حتى تباع بالضعف، ووجد أن استئجار مخزن لها بعشرة آلاف لا يمكن، فاستأجر مخزناً بثلاثين ألفاً وباعها بمائتين، فأصبح كاسباً سبعين ألفاً، فإذا سأله القاضي: أين أنفقت الثلاثين؟ قال: أنفقتها من أجل حفظ البضاعة.
قال له: وهل كان حفظها لازماً؟ يقول: نعم.
لأن السوق كان كاسداً ونحو ذلك من الأحوال، وهذا معنى قوله: (والضرورة).
فكل ما يدعيه الولي من أنه مضطر وملجأ إليه من بيع أو شراء فإنه يقبل قوله.
لكن إذا أنكر اليتيم وقاضاه، فبعض العلماء يقول: يقبل قوله مجرداً ولا يطالب باليمين، وقال بعض العلماء: يقبل قوله مع اليمين، وهذا ما يسمى بيمين التهمة، وهو أن يحلف من أجل التهمة الموجودة، فحينئذٍ قالوا: يقبل قوله مع اليمين.
قال رحمه الله: [والغبطة] الغبطة: الذي هو الأصلح، فمثلاً إذا قال اليتيم: أخر بيع البضاعة إلى السنة القادمة، فهذا أضر بي؛ لأني دفعت من مالي أجرة المخازن وأجرة نقل السلع وأنفق أموالاً على ذلك، فقال ولي اليتيم: إنما ذلك من أجل الأحق وهي الغبطة، فحينئذٍ يقبل قوله.
ومن الغبطة لو قيل له مثلاً: بعت العمارة بكم؟ قال: بعتها بمليون.
قيل له: لماذا؟ قال: لأن هذا أعلى سعر، وإذا بقيت فستباع بنصف مليون أو بثلاثة أرباع مليون، فإذاً الغبطة في بيعها بمليون، فيقبل قوله.
قال رحمه الله: [والتلف] إذا ادعى أن بعض المال تلف ولم يكن بتفريط منه فإنه يقبل قوله، مثلاً: لو أن يتيماً ترك له أبوه مائة رأس من الغنم، وجاء سيل واجتاح نصفها، فقال القاضي للولي: كم ترك والد اليتيم؟ قال الولي: المال الذي توليت اليتيم فيه مائة رأس، والآن يوجد خمسون رأساً منها، وخمسون أخذها السيل فيقبل قوله؛ لأنه -كما ذكرنا- يقبل قوله في الربح والغبطة، وفي الخسارة والتلف ونحو ذلك مما يدعيه.
قال رحمه الله: [ودفع المال] هذه مسألة ثانية: رجل تولى على يتيم وكان ماله -مثلاً- مائة ألف، واختبره عند البلوغ فوجده رشيداً فدفع له ماله، وبعد سنة جاء اليتيم وادعى أنه لم يقبض مال أبيه، وأن وليه لم يدفع المال إليه، فهل نصدق اليتيم أو نصدق الولي، الولي يقول: دفعت.
واليتيم يقول: ما أخذت.
ففي الحقيقة إذا جئت تنظر إلى الأصل، الأصل أن المال عند الولي حتى يثبت أنه دفعه لليتيم، وفي هذه المسألة ومسألة التلف يقوي بعض العلماء فيها اليمين، واليمين هنا قوية وأميل إلى هذا القول؛ لأنه خلاف الأصل، والتهمة فيه قوية، وفي ذلك احتياط لمال اليتيم، فإذا دفع المال إليه ولم يشهد فهو الذي فرط.
وحينئذٍ يقوى أن يقال: إنه يكون القول قول اليتيم أو لا يقبل قوله إلا باليمين
**حكم دين العبد وما أتلفه
قال رحمه الله: [وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له] العبد يتولى سيده أمر ماله، وهذا -كما ذكرنا غير مرة- مبني على حديث ابن عمر في الصحيحين: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، لكن ذكر هذه المسألة هناك لأن فيها شيئاً من الارتباط بمسألة الولاية على المال.
قوله: (وما استدان العبد) إذا تعامل الرقيق مع الناس وأخذ منهم أموالاً ديناً، فسيده له حالتان: إما أن يكون أذن له في التجارة.
أو أنه لم ياذن له.
فإن أذن له فإن سيده يتحمل مسئوليته، وحينئذٍ يلزمه أن يدفع عنه، وإن لم يأذن له يكون في رقبة الرقيق.
وسيأتي -إن شاء الله- بسط هذه المسائل في باب الرق.
قال رحمه الله: [وإلا ففي رقبته] فلو أن العبد ذهب واستدان مائة ألف، ثم جاء صاحب المائة ألف يطالبه فإذا به ليس عنده مال، فالآن هل نقول: إن الرقيق لا يملك المال، ونقول لصاحب المال: ليس لك شيء، وتذهب أموال الناس بهذه الطريقة، أو نقول: خذ الرقيق، والرقيق ملك لسيده بملك الشرع؛ لأن الرق مضروب بحكم الشرع؟ فحينئذٍ حصل تعارض بين هذين الأصلين.
فإذا كان السيد علم بجناية عبده أو باستدانته للمال، فإنه يخير بين أمرين -إذا لم يأذن له- الأمر الأول: إما أن يدفع عنه ويبقى له عبده، وإما أن يكون المال في رقبته، فيباع ويؤخذ منه المال، ويرد الباقي إلى سيده؛ لأننا لو فتحنا هذا الباب لكل رقيق أن يجني على مال الغير ثم بعد ذلك لا يؤاخذ بالجناية ولا يمكن أن يطالب سيده بها، لفتح باب الضرر على الناس، ولذلك تكون جنايته في رقبته.
قال رحمه الله: [وأرش جنايته] وأرش جنايته كذلك.
قال رحمه الله: [وقيمة متلفه] أي: وقيمة الشيء الذي أتلفه، فنقول لسيده: إما أن تدفع عنه وإما أن يبيع القاضي هذا الرقيق ويسدد دينه من رقبته، ثم بعد ذلك يدفع الباقي من المال -إن كان ثَمَّ باقي- إلى سيده الذي يملكه.
والله تعالى أعلم
**الأسئلة
**حكم تولية المرأة على مال اليتيم
**السؤال
هل يجوز أن يجعل الأب امرأة تلي أبناءه بعد موته؟
**الجواب
باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فوصاية المرأة على مال الأيتام في حجره أجازها طائفة من العلماء رحمهم الله، ولذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تلي أمر أيتام عبد الرحمن أخيها، وقالوا: أن المرأة لها حق النظر في المال، فيجوز لها أن تتولى النظر في أموال اليتامى، ولا شك أن الرجل أكثر مخالطة للرجال وأعلم بأحوالهم، ولذلك هو أقرب للولاية من المرأة.
والله تعالى أعلم
**حكم أخذ ولي اليتيم الفقير من زكاة مال اليتيم
**السؤال
هل يجوز لولي اليتيم إن كان فقيراً أن يأخذ زكاة مال اليتيم الذي يتولاها؟
**الجواب
يجوز لولي اليتيم أن يأخذ زكاة مال اليتيم إذا كان مستحقاً لها، وذلك لأن المال مال غيره -اليتيم- وقد مكن الله عز وجل من الزكاة الأصناف الثمانية وملكها لهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [التوبة:60] الآية.
فاللام للملك.
ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] فأثبت أنه حق فهو يستحقه بوصف الفقر، والله عز وجل أعطاه بهذا الوصف حقه في الزكاة، فيجوز له أن يأخذ زكاة مال اليتيم.
لكن بشرط ألا يقدم نفسه مع وجود الغير المستحق والذي هو أولى منه وإنما يكون ذلك بالمعروف، والله تعالى أعلم
**حكم أكل ولي اليتيم من مال اليتيم
**السؤال
هل يجوز لهذا الولي الفقير أن يأكل من المال للحاجة؟
**الجواب
هذه المسألة تقدمت معنا، فإذا كان ولي اليتيم فقيراً فإنه يأكل بالمعروف
**حكم تقديم مصلحة الأيتام على مصلحة الغرماء
**السؤال
أيهما يقدم: مصلحة الغرماء أو مصلحة الأيتام إذا مات والدهم ولم يترك ما يزيد عن سداد حقوق الناس؟
**الجواب
أما بالنسبة للمال فليس للأيتام فيه حق إلا بعد سداد ديون الميت؛ لأن الله تعالى جعل الإرث بعد سداد الدين، فقال سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْن} [النساء:12] وفي الآية الثانية: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] وفي الآية الثالثة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11].
فهذا يدل على أن الإرث واستحقاق الإرث لا يكون إلا بعد سداد الديون، وذمة الميت مقدمة على ورثته في هذا؛ لأن الله نص على أن الإرث يكون بعد سداد الدين، فلا يجوز أن تبقى ذمة الميت معلقة بل ينبغي أن يبادر بسداد ديونه.
لكن ينبغي على التجار والأغنياء أن يترفقوا بالأيتام، فإذا رأوهم أيتاماً محتاجين إلى المال لأمور ضرورية، فالأفضل لهم أن يوسعوا عليهم، وأن يحتسبوا ذلك عند الله عز وجل؛ لأن هذا من أفضل القربات وأحبها إلى الله سبحانه، فإن الإحسان إلى اليتامى أجره عظيم وثوابه كبير عند الله سبحانه؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فكفالة اليتيم فيها إحسان، والصدقة على اليتيم إحسان، وكذلك أيضاً التوسعة على اليتامى إحسان، فالأفضل ألا يضيقوا على اليتامى، والله تعالى يبارك لهم في أموالهم ويوسع لهم من واسع فضله.
والله تعالى أعلم
**حكم تنصيب القريب لنفسه ولياً على الأيتام
**السؤال
إذا توفي الوالد ولم يوص لأحد بالولاية على أيتامه، فهل للقريب أن يتصرف في أموالهم بالأحظ لهم؟
**الجواب
من حيث الأصل: يكون النظر لليتامى للقاضي، فالقاضي ينظر من كان الأرشد والأتقى لله عز وجل من قرابته فينصبه عليهم.
وإن وجد من قرابته كأعمام اليتامى وبني أعمامهم ونحو ذلك ممن هو أتقى لله عز وجل وأحفظ للمال فإنه يقدمه على غيره؛ لأن القريب أكثر شفقة وأكثر رعاية للمال وحفظاً له من غيره، ولأن اليتيم مع عمه وابن عمه يحس بشيء من الراحة فلا يستحي أن يطلب حاجته، ولا يستحي أن يسأل، فإذا كان من الأقرباء فهو أفضل وأولى.
ولأن الولاية على اليتيم لا يخلو فيها الأمر من النظر إلى عورات، والاطلاع على بعض الأشياء الخاصة في اليتامى، فإذا كانت عوراتهم عند القريب فهو أولى أفضل، وينبغي على وليهم أن ينظر من هو الأولى من القرابة فيوصي إليه، وكذلك على القاضي أن ينظر إلى الأقرب فالأقرب لأنهم أولى من غيرهم.
ولذلك قدم الله عز وجل القريب على الغريب، وعلى هذا قالوا: إن وجود القرابة يدعو إلى الشفقة والرحمة، والقريب يضحي أكثر مما يضحي الغريب؛ فالقريب إذا وجد مشقة من أولاد أخيه صبر عليهم وتحمل، وإذا وجد العناء أو أوذي بسبب القيام على مالهم وضاقت عليه الأمور احتسب الأجر، فعدها من صلة الرحم، فهذا لا شك أنه يحقق مصالح أكثر مما لو كان غريباً.
والله تعالى أعلم
**حكم ضمان ولي اليتيم إذا تاجر بمال اليتيم وخسر دون تفريط منه
**السؤال
إذا تاجر ولي اليتيم في ماله وخسر دون تفريط منه فهل يضمن؟
**الجواب
إذا تاجر ولي اليتيم في ماله وخسر فإنه لا يضمن إذا كانت التجارة بالمعروف ولم تكن هناك مخاطرة، أما إذا خاطر بالمال وغرر به فإنه يضمن؛ لأنه تعاطى سبب الضرر، وأما إذا كان الحال كما ذكر في السؤال من أنه لم يفرط فحينئذٍ لا ضمان عليه.
والله تعالى أعلم
**حكم إقراض الناس من مال اليتيم
**السؤال
هل يجوز للولي أن يعطي من مال اليتيم قرضاً لشخص آخر؟
**الجواب
مسألة الإقراض من مال اليتيم فيها وجهان للعلماء: بعض العلماء يقول: يجوز أن يقرض.
وبعضهم يمنع وهو الأقوى، وهو الذي تطمئن إليه النفس من ولاية رب المال.
لكن الذين قالوا بجواز القرض اختلفوا أيضاً على قولين: فمنهم من يقول بجوازه ويطلق.
ومنهم من يقول: يجوز إذا أخذ الرهن واحتاط للمال، فإذا أخذ الرهن واحتاط للمال واستوثق جاز له أن يعطي القرض؛ لأنه قد حفظ مال اليتيم، والقرض فيه رفق بالناس وأجر لليتيم إذا بلغ.
فقالوا: إنه أفضل وأكمل خاصة لما فيه من التوسعة على الناس، وخوف الضرر على اليتيم يمكن أن يتلافى بالرهن، ولكن الأول أشبه وأقوى.
والله تعالى أعلم
**حكم إعطاء العمال جزءاً من ربح مال اليتيم
**السؤال
إذا تاجر ولي اليتيم بماله فهل له أن يقول للعمال: لكم ربع الأرباح وهو المضاربة؟
**الجواب
هذه مسألة ثانية وهي مسألة المضاربة، تقول لشخص: خذ مائة ألف وتاجر بها والربح بيني وبينك، القراظ والمضاربة خارجة عن الأصول، ومعنى كونها خارجة عن الأصل: أنها تجارة جاءت على غير الوجه المعروف.
وتوضيح ذلك أولاً: أن العمل مجهول والأجرة مجهولة وغير مضمونة، ففي القراض العمل مجهول؛ لأنك تعطيه مائة ألف وتقول له: اضرب بها في الأرض، فيمكن أن يشتغل بها شهرين ويمكن أن يشتغل بها سنة أو سنتين أو ثلاثاً فلا يعلم مقدار العمل ولا مدته، فالعمل مجهول والمدة مجهولة.
ثانياً: الربح نفسه لا ندري كم سيكون قليلاً أو كثيراً، وإذا ثبت هذا -وهو جهالة العمل وجهالة الربح- قالوا: إذاً المضاربة خارجة عن الأصول، ومعنى كونها خارجة عن الأصول: أنه لا يقاس عليها غيرها، وكأنها جاءت رخصة وتوسعة، فيختص الحكم بها ولا يقاس غيرها عليها.
وهذا مسلك طائفة من العلماء كما اختاره أئمة الحنفية والمالكية رحمهم الله وغيرهم، وهناك مسلك ثانٍ يقول: المضاربة إجارة ونوع من الشركة، فهو يستأجره ويشاركه في الربح، فيجوز على هذا القول أن تستأجر وتشارك وتجعل المضاربة نوعاً من الشركة.
بناءً على القول الأول: لو قال لعامل في بقالة مثلاً: أعطيك أجرة الشهر ألف ريال وربع الربح، حينئذٍ يصح عندهم أن يقاس على المضاربة، ولكن على الوجه الصحيح من أن المضاربة خارجة عن الأصل، فيعتبر إجارة بالمجهول لأننا لا ندري كم ربع الربح، ولا ندري هل يربح كثيراً أو قليلاً.
وبناءً على ذلك: لا يجوز الإجارة بالمجهول، والذي ذكرته في السؤال: إذا كان العمال الذين دفع المال إليهم على أساس أن يضاربوا بأنفسهم فلا إشكال أن لهم ربع الربح أو نصف الربح على ما اتفق عليه.
لكن أن يقال لعامل يشتغل في مال اليتيم لك أجرة ثمانمائة ريال في الشهر وأعطيك ربع الربح أو نصف الربح -كما هو موجود الآن في بعض الأعمال- فلا يجوز؛ لأن إدخال المجهول على المعلوم يصير المعلوم مجهولاً، فهو وإن استأجره بألف ريال شهرياً -وهي معلومة- لكن ربع الربح أو ربع الناتج مجهول.
وحينئذٍ يغرر بالعامل، فقد يظن العامل أن المحل سيربح كثيراً، فيدخل على أساس أنه سيأخذ ربحاً كثيراً، وإذا بالربع شيء يسير والمحل لا يربح كثيراً، فحينئذٍ يكون من الغرر.
ولذلك الأشبه بالقواعد الشرعية والأصول الشرعية عدم صحة أن يقول لهم: اشتغلوا ولكم ألف وربع الناتج أو نصف الناتج، أو خذ هذه السيارة واعمل بها اليوم ونصف ما تنتجه بيني وبينك، لا يصح لأن هذا تغرير به، فيتعب يومه كله، وقد لا يجد إلا راكباً واحداً، والشريعة لا تريد هذا، إنما تريده أن يعمل ويأخذ عرق جبينه بالشيء الواضح.
فإذا قلت له: خذ السيارة وأعطني مائة، هذا جائز؛ لأنها أجرة لك، ثم هو يملأ بنزينها ويعمل بها خلال ساعات اليوم، ويحدد له اثني عشر ساعة أو عشر ساعات، وتصبح إجارة للزمان ولا إشكال فيها وهي جائزة، لكن يقول له: خذها ويكون البنزين عليك ولك ربع الناتج أو نصف الناتج أو ثلث الناتج هذا يعتبر من المجهول ولا يصح؛ لأنه إجارة بالمجهول، وإجارة المجهول لا تجوز إجماعاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (337)
صـــــ(1) إلى صــ(16)
شرح زاد المستقنع -** باب الوكالة [1]
شرع الله سبحانه وتعالى الوكالة رحمة بالعباد ورفقاً بهم، حتى يأخذ الناس حقوقهم، ويحافظوا على أموالهم، ولا تكون الوكالة في كل شيء، فهناك أشياء لا تصح فيها الوكالة مطلقاً، وهناك أشياء تصح فيها الوكالة عند العجز، وهناك أشياء تصح فيها الوكالة مطلقاً
**الوكالة تعريفها وحكمها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوكالة].
هذا الباب يشمل على جملةٍ من الأحكام والمسائل المتعلقة بالنيابة، سواءً كانت في العبادات أو في المعاملات، فيقيم المسلم غيره مقامه، لاستيفاء حقٍ من حقوقه، أو يقيمه مقامه في عبادةٍ أذن الشرع فيها بالنيابة.
وباب الوكالة متصلٌ بباب الحجر بمناسبةٍ ظاهرة وهي: كون الحجر يتولى فيه ولي المحجور النظر في أمواله ومصالحه، وكأن الوكيل أصبح قائماً مقام من تولى النظر في مصالح موكله، فالمناسبة ظاهرة
**تعريف الوكالة لغةً
والوكالة في لغة العرب تطلق بمعنى: الحفظ والتفويض، وكذلك القيام على الشيء، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] أي: ليفوضوا أمورهم إلى الله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] أي: فوض أمورك إليه، واجعل جميع حوائجك إليه، وكِلْ أمورك إلى الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه عن نبيه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود:56] أي: فوضت أمري كله لله، وقال تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] فهو سبحانه القائم على أمور عباده.
وعلى هذا دارت معاني الوكالة في الحفظ، وكذلك أيضاً التفويض، وكذلك القيام على الشيء والكفالة
**تعريف الوكالة اصطلاحاً
والوكالة في الاصطلاح: استنابة جائز التصرف لمثله فيما يدخله النيابة، وقيد بعض العلماء هذا التعريف بقوله: في حياته، كما هو مسلك الشافعية رحمهم الله.
فقولهم: (استنابة)، الاستنابة: مأخوذة من النيابة، والأشياء تقع على صورتين: إما أن تقع من الإنسان أصالةً، وإما أن تقع من الإنسان نيابةً، فإذا أسند الإنسان الشيء إلى غيره فقد أنابه وأقامه مقامه، فقالوا: الوكالة استنابة، فعندنا موكِل، وعندنا موكَل، وعندنا موكَلٌ فيه، وعندنا صيغةٌ تقع بها الوكالة، فالاستنابة تحصل من الموكِل، وتُطلَب من الوكيل، ولذلك يقولون: هي من الموكل -اسم الفاعل- إذْن، ومن الوكيل رفق، وتوضيح ذلك: أنك إذا قلت لشخص: بع البيت لي، فقد أذنت له أن يبيع، وهو يقوم بالبيع رفقاً بك.
وأما بالنسبة لقولهم: (استنابة جائز التصرف)، وبعض العلماء يقول: (استنابة من له حق التصرف)، فهذا من إضافة المصدر إلى فاعله، ومعناه: أن يكون شخصاً بالغاً عاقلاً حراً رشيداً، فهذه أمور أو صفات إذا توفرت في الشخص حكمنا بكونه أهلاً للتصرف، والتصرف يشمل: البيع، والشراء، والإجارة، وسائر العقود التي سبق أن ذكرنا ضوابط التصرف فيها في باب الحجر، وكذلك غيره من أبواب المعاملات، فحينما قال العلماء: الوكالة: استنابة من له حق التصرف، فمعنى ذلك: أن الذي يوكِّل لا بد وأن يكون أهلاً للتصرف فيما وكَّل فيه.
وعلى هذا: إذا كانت وكالةً ببيع فلا بد وأن يكون الموكِّل أهلاً لأن يبيع، وإذا كانت وكالةً بإجارة فلا بد وأن يكون الموكِّل أهلاً لأن يؤجر، وإذا كانت وكالةً بغير ذلك من العقود فلا بد وأن يكون الأصيل والموكِّل أهلاً للقيام بها، فلو كان الأصيل -وهو الموكِّل- ليس بأهل كأن يكون ليس ببالغٍ كالصبي ولا عاقلٍ كالمجنون وقال لغيره: بع داري أو أجر الدار لم تصح الوكالة؛ وذلك لأنه ممنوع من التصرف في حق نفسه فمن باب أولى أن يمنع من إنابة غيره؛ ولأن النيابة تفتقر إلى وجود أهلية في الأصل حتى يتحقق إذن الشرع بالنيابة على الوجه المرضي.
(استنابة من له حق التصرف مثلَه)، فقولهم: استنابة من له حق التصرف، هذا بالنسبة للموكل (مثله) هذا الوكيل، وقالوا: (مثله)؛ لأن القاعدة في الشرع تقول: (البدل يأخذ الحكم مبدله)، و (الفرع تابعٌ لأصله)، فالفرع يستمد قوته من الأصل، فإن كان عند الأصل قوة كان الفرع قائماً عليها، وأما إذا كان الأصل ليس له حق التصرف وليس بأهل فإنه حينئذٍ لا ينبني عليه غيره، وكذلك أيضاً من يقوم مقامه لا بد وأن يكون أهلاً للتصرف، وعلى هذا فلو وكلت شخصاً بالبيع فلابد وأن يكون الشخص الذي يقوم بالبيع عنك أهلاً لأن يبيع لنفسه؛ لأنه إذا كان لا يصح بيعه لنفسه فمن باب أولى أن لا يصح بيعه لغيره.
مثال ذلك: لو وكَّل عاقل أو من هو أهل للتصرف مجنوناً لم تصح الوكالة؛ لأنه ليس بمثله أي: ليس ممن هو جائز التصرف، ولو وكّل صبياً أو محجوراً عليه فإنه لا يحكم باعتبار الوكالة؛ لأنها لم تقع على الوجه المعتد به شرعاً، وهو أن يكون مثله فيما تدخله النيابة، هذا هو محل الوكالة، فأنت توكل شخصاً للقيام بأمر إثباتاً ونفياً في حقٍ مالي أو غير مالي، في حقٍ لله أو حق لعباده، فهذا كله يسمى محلاً للوكالة، فلو قلت له: وكلتك أن تبيع أرضي، فمحل الوكالة بيع الأرض، ولو قلت له: وكلتك أن تبيع داري فمحل الوكالة الدار، ولو قلت له: وكلتك أن تحج عني -وكانت الوكالة بالحج معتداً بها شرعاً، وممن يعجز أن يحج لنفسه- فإنه حينئذٍ يكون محل الوكالة هو الحج وهكذا (فيما تدخله النيابة) هذا قيد يخرج ما لا تدخله النيابة، فلو قال شخصٌ لآخر: وكلتك أن تصلي عني! لم يصح؛ لأن الشرع قصد أن يصلي المكلف بعينه؛ ولذلك يقولون: فروض الأعيان التي قصدها الشرع من عين المكلَّف -وإلا قد تكون فرض عين لا يقصد منها الشرع أن يقوم بها المكلف بعينه- لا تدخلها النيابة، كالصلاة حيث قصدها الشرع من المكلف بعينه، فلا يمكن لشخص أن يقول: أنا أصلي عنك.
كذلك أيضاً أن لا يكون محل الوكالة مما فيه إثم، ومن ذلك منع العلماء -رحمهم الله- أن يوكل غيره في ظهار امرأته؛ لأن الظهار منكرٌ من القول وزور، وقالوا: الأصل في ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فهو إذا أقام غيره مقامه في فعل إثمٍ أو طلبه أو تحصيله فقد خالف مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن لا يفعل هذا الإثم وأن لا يتعاون عليه، فلو كانت الوكالة صحيحة فكأن الشرع يأذن لذلك فعل المحرم، هذا بالنسبة لقوله: (فيما تدخله النيابة)، فخرج الذي لا تدخله النيابة.
كذلك أيضاً: ينبغي أن تقع هذه الوكالة في الحياة، أما لو أسند إليه الفعل بعد الموت فهي وصية، وليست بوكالة، فلو عهد إليه أن يزوج أيتامه أو يزوج بناته فإنه في هذه الحالة وصيٌ وليس بوكيل، فالوكالة في الحياة والوصية من بعد الموت.
هذا حاصل ما ذُكِر في تعريف الوكالة، والوكالة شرعها الله عز وجل وأباحها لعباده لما فيها من الرفق والتيسير ومحض الإحسان، فإن الإنسان قد يتعذر عليه أن يقوم بتحصيل مصالحه بنفسه، وقد يتعذر عليه ذلك بسبب شغله، وقد يكون من الصعوبة أن يقوم بذلك بسبب مكانته كالعالم يتولى أمور البيع والشراء بنفسه، فيقع في حرج السوق، وربما يكون في أمرٍ فيه خصومة فيقع في تسلط السفهاء وأذيتهم ونحو ذلك، فشرع الله عز وجل الوكالة حتى يدفع الإنسان عن نفسه الضرر في مثل هذا، ثم أيضاً يحصل بهذه الوكالة المعونة على الحق والخير، فلربما كان الموكل محتاجاً إلى الوصول إلى حق من حقوقه كما يقع في القضاء؛ ولكنه لا يحسن الكلام ولا يحسن الاستدلال لنفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) فبعض الناس يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، ويستطيع بلسانه وحلو مقاله أن يؤذي الناس ويكون الشخص مصيباً فيواجه مثل هذا، فحينئذٍ لو واجهه غلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يقوم بحجته، فيوكل من يرى أنه أهل لبيان حقه والدفاع عن حقوقه، ففي الوكالة رفقٌ بالناس من هذه الوجوه
**مشروعية الوكالة
وقد دل دليل الكتاب ودليل السنة ودليل الإجماع على جوازها وصحتها، أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال عن أهل الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } [الكهف:19] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى حكى عمن قبلنا أنهم تعاطوا هذا النوع من المعاملة -وهو الوكالة- فوكل أصحاب الكهف أحدهم أن يشتري لهم ويتولى عقداً من العقود المالية: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، فوكلوه أن يشتري لهم الطعام وجعلوا الوكالة مقيدة، (أَيُّهَا أَزْكَى) أيها أطيب (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) وعلى هذا قالوا: دلت الآية على مشروعية الوكالة، وكذلك أيضاً قال تعالى عن نبيه يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، قال بعض العلماء: إن هذه الآية تدل على مشروعية الوكالة؛ فإن يوسف عليه السلام سأل من ملك مصر أن يجعله قائماً على خزائن الأرض، وإذا كان قائماً فإنه يقوم بالوكالة؛ لأنه في هذه الحالة وكيلٌ عن الولي العام، وحينئذٍ دلت الآية على شرعية الوكالة في تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فالآية الأولى تدل على شرعية الوكالة في الأموال والعقود المالية، وآية سورة يوسف تدل على شرعية الوكالة فيما تدخله الوكالة في المصالح العامة.
وكذلك السنة: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَّل، ومن ذلك ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه وأرضاه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام: (اشتر لنا من هذا الجلب شاةً، فذهب عروة وأعطاه ديناراً، فذهب عروة إلى السوق فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، وقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم).
ولفظ صيغة الحديث عند الدارقطني وأحمد: عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً وقال: (أي عروة! ائت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار، فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو قال: أقودهما، فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعت إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة وبدينار فقلت: يا رسول الله! هذه الشاة وهذا ديناركم فقال: صنعت كيف؟ فحدثته بالحديث فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف في كناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي) أعطاه ديناراً فاشترى به شاتين بدلاً من شاة واحدة وقال له: اشتر لنا شاة واحدة، فذهب واشترى الشاتين بدينار، فلما اشترى الشاتين باع إحداهما بدينار، فرجع بالدينار رأس المال، ورجع أيضاً بالشاة، وهذا حديث عظيم فيه فوائد عظيمة منها: الوكالة، حيث وكله النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اشترِ لنا من هذا الجلب شاةً).
ومنها: جواز أن يأخذ الربح (100%)، وما يقوله بعض العوام من أنه لا يجوز أن يربح أكثر من (10%) أي: عشر الثمن أو نصف الثمن كل ذلك معارض للشرع، فالشرع أطلق البيع وأذن للمسلم أن يأخذ ولو أضعاف أضعاف قيمة المبيع؛ لأنه اشترى بنصف دينار وباع بدينار وهذا ربح (100%)، وعلى هذا: فالحديث دلّ على مشروعية الوكالة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.
كذلك أيضاً حديث: حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً، وأمره أن يشتري شاةً أضحية، فهذا توكيل.
كذلك أيضاً: حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في نكاح ميمونة، وبعثه سفيراً إليها رضي الله عنه وعنها، فكل هذه النصوص من الكتاب والسنة جعلت أمر الوكالة محل إجماعٍ عند أهل العلم، فقالوا بمشروعية الوكالة وجوازها.
ومن الحكم المستفادة من شرعيتها: الرفق بالموكل، وكذلك حصول الأجر للوكيل لما فيه من المعونة والإحسان، ويعتبر العلماء عقد الوكالة من عقود الرفق، بمعنى: أنه لو وكل شخص شخصاً فالمقصود من هذه الوكالة الرفق؛ لأنك إذا توكلت عنه بالبيع، وبعت عنه فقد رفقت به في مصلحة البيع، ولو توكلت عنه في إجارة أو نكاحٍ أو غيره فقد رفقت به في تحصيل تلك المصلحة.
يقول المصنف رحمه الله: (باب الوكالة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الوكالة
**الصيغة التي تتم بها الوكالة
**صيغة الإيجاب من الموكل
قال رحمه الله: [تصح بكل قولٍ يدل على الإذن].
يقول رحمه الله: (تصح) أي: الوكالة، (بكل قولٍ يدل على الإذن)، فالوكالة تكون بالقول، وتكون بالفعل، وبكل ما يدل على الإذن بأن يقوم الشخص مقام موكله، أما قوله: (تصح بكل قولٍ) فالقول ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسميه العلماء: القول الصريح.
القسم الثاني: القول غير الصريح، وهو الظني الذي يدل على أنه وكلك بصيغةٍ أو بلفظٍ غير صريح بل محتمل، لكنه يتضمن معنى الإذن، فأما إذنه لك بالوكالة فيقول: يا محمد أو يا عبد الله وكلتك أن تشتري لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فحينئذٍ وكلك بصريح القول، وقد يوكلك بالفعل، مثلاً: تجد العامل إذا كان يعمل مع شخص في دكانٍ فجاء إلى صاحب الدكان وقال: انتهى الماء عندنا، ومن عادته أن يشتري الماء بمائة ريال، فأخذ صاحب الدكان مائة من جيبه ورماها للعامل، ما معناه؟ معناه: قد وكلتك أن تذهب وتشتري لنا ماءً مثل ما كنت أو عهدت أو كان بيننا فيما تقدم، فهو لم يتكلم ولم يقل له: وكلتك أن تشتري، بل هذه دلالة الفهم، فعندنا دلالة القول وعندنا دلالة الفهم، ودلالة القول الصريح منها: وكلتك، والضمني كأن يقول له: خذ، ولا يوكله بصريح القول: وكلتك، أو يقول له: قم بالشيء، افعل الشيء، ولا يأتِ بصريح لفظ الوكالة، فعندنا اللفظ الصريح: وكلتك، واللفظ غير الصريح: قم بالأمر، تولَّ الأمر، انظر في الأمر، ونحو ذلك مما هو متضمنٌ للإذن وليس بصريح، وأما الفعل: كأن يلقي له المال دالاً على الإذن بالشراء أو نحو ذلك من التصرفات التي تتضمن معنى النيابة.
قال رحمه الله: [ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه].
عندنا الوكالة فيها: صيغة، وموكل، ووكيل -وهما العاقدان- ومحل الوكالة، أما العاقدان: فوكيل وموكل، ولا تقع الوكالة إلا بطرفين: أحدهما موكِّل والثاني: موكَّل أو وكيل؛ أما الصيغة فالتي ذكرناها، وتشتمل على الإيجاب والقبول، والمحل يشتمل على المطلوب فعله من الوكيل، فأما بالنسبة للمصنف رحمه الله فابتدأ بأحكام الصيغة، وإذا قال العلماء: صيغة الوكالة، صيغة الصلح، صيغة البيع، صيغة الإجارة، فهناك جانبان لا بد وأن يضعهما طالب العلم أمامه: الإيجاب والقبول، فهناك إيجاب صادر من الأهل وهو قوله: وكلتك، وهناك قبول من الطرف المقابل يقول: قبلت، فالصيغة تقوم على جانبين: الإيجاب والقبول، فلما أراد المصنف أن يبين أحكام الصيغة ابتدأ بالإيجاب، وذلك بقوله: (تصح بكل قولٍ دالٍ على الإذن)، كما ذكرنا: الصريح وغير الصريح، وفي حكم القول: الفعل، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله -وهذا أصل سبق وأن نبهنا عليه- مسألة تنزيل الأفعال منزلة الأقوال، وذلك في كتابه النفيس: القواعد النورانية، وهو من أنفس ما كتب في القواعد الفقهية التي قعدها ونظرها، وبين فيها أن أصول الشريعة الإسلامية لا تلزمنا في العقود بلفظٍ معين أو صيغةٍ معينة إلا إذا دلّ الدليل على الإلزام، وأن الناس يعتدون بما تعارفوا عليه من الصيغ إيجاباً وقبولاً، وبناءً على ذلك نأخذ صيغة الوكالة، فعندنا إيجاب وعندنا قبول، ونقول: القاعدة في ذلك: كل ما تعارف الناس عليه أنه يتضمن معنى الوكالة فهو وكالة، إن كان بالقول فقول، وإن كان بالفعل ففعل، ويعتبر صيغة للوكالة.
بقي أن نقول: القول في الوكالة وصيغة الوكالة يكون من الموكل والوكيل، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من الموكل، وقوله: (وكلتك) فلا بد وأن يكون هناك ما يقابله وهو القبول
**صيغة القبول من الوكيل
فقال رحمه الله: [ويصح القبول على الفور والتراخي].
ويصح القبول من الوكيل على الفور وعلى التراخي، على الفور كأن يقول له: يا محمد! وكلتك أن تبيع سيارتي بعشرة آلاف عصر هذا اليوم في السوق، فيقول: قبلت، فهذا قبول على الفور، بمجرد ما انتهى من صيغة الوكالة قال: قبلت، فالصيغة إذا كان بها جانب الإيجاب والقبول فإما أن تكون على الفور أو على التراخي، فالفورية أن يكون القبول مباشراً، والتراخي أن يتأخر القبول إما عن المجلس فيختلف المكان، أو يتأخر بالزمان كأن يقول له: يا محمد! وكلتك أن تزوج ابنتي من فلان، فسكت، وفي بعض الأمور إذا طُلِب منك أن تقوم مقام غيرك فالحكمة تقتضي أن لا تعجل، وأن تنظر: هل تستطيع القيام بذلك الأمر وهل هناك مصالح يمكن تحقيقها، وما طلب منك هل تترتب عليه مفاسد أو لا تترتب؟ فتحتاج أن تنظر وتتراخى فيه في القبول، والشريعة وسعت في هذا الأمر، فلك أن تقول مباشرة: قبلت، ولك أن تتأخر حتى تنظر: هل الأصلح أن توافق أو لا توافق؟ ثم بعد ذلك تقول ما ترى فيه المصلحة.
أيضاً من التراخي أن يكتب له كتاباً: يا فلان! إني وكلتك أن تبيع داري بالمدينة، فيخرج الكتاب من بلد الموكل إلى بلد الوكيل الذي فيه الدار ويستغرق شهراً، أو يستغرق -مثلاً- سنةً، أو يأخذ وقتاً طويلاً ويتأخر الكتاب كما في القديم، فلم يأت إلا بعد شهور، فهل نقول: الصيغة باطلة؟ هذا مراد العلماء، فتصح الوكالة إذا وقع القبول فيها فورياً أو متراخياً، فلا يؤثر في هذا لو كتب له كتاب قبل شهور، فلا يأتي ويقول: هذه وكالةٌ غير صحيحة، لأنه قد وكلني قبل شهور، بل نقول: يصح القبول في الوكالة على الفور وعلى التراخي.
قوله: [بكل قول أو فعل دال عليه].
(بكل قول) تقول: قبلت، (بكل) من صيغ العموم، فكما أن القول في الإيجاب على قسمين: صريح وضمني، كذلك القبول صريح وضمني، فالقبول الصريح كأن يقول لك: يا محمد! وكلتك أن تبيع داري في المدينة بعشرة آلاف، فتقول: قبلت وكالتك، فهذا صريح وليس فيه إشكال، فإنك نظرت وقبلت وكالته بصريح اللفظ الذي لا يحتمل.
القول الضمني في القبول هو كالذي يعرف الآن في أعرافنا، يقول له: يا محمد! بع سيارتي مثلاً بما تراه، فيقول: ما يهمك، فهذه ليست بصريحة في قبول الوكالة، لكن درج العرف على أنها تدل على الرضا والقبول، فتنزل منزلة الصريح، فقوله: ما يهمك، أنا أتولى الأمر عنك، اترك الأمر لي، -هذه كلها عبارات ليست بصريحة في الوكالة، لكنها تتضمن معنى القيام أو القبول بالتفويض والوكالة، فالقول الصريح والقول الضمني والفعل الدال يدخل في ذلك، والفعل الدال كأن يقول: يا محمد! خذ هذا الكتاب وأعطه زيدا، فقام وأخذ الكتاب دون أن يقول: قبلت؛ فإن حمله للكتاب يدل على أنه قد رضي بالوكالة، فإذا حمل الكتاب وخرج من عنده وافترق عنه وحدث أي شيء للكتاب ترتبت عليه أحكام الوكالة، وهل يضمن الوكيل أو لا يضمن، كما سيأتي إن شاء الله.
فإذاً نقول: القول الصريح وغير الصريح والفعل في القبول سواء
**محل الوكالة وأقسامه
قال رحمه الله: [ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه].
هذه المسألة: محل الوكالة، ذكرها رحمه الله بعد أن فرغ من الصيغة، فالموكل والوكيل بينا ضوابطهما في الأصل، لكن نريد الآن أن نعرف ما هي الأشياء التي يمكن أن يوكل فيها، والأشياء التي لا يمكن أن تكون محلاً للوكالة، أو لا يصح أن تقع فيها وكالة، فتنقسم الأشياء من حيث الوكالة إلى أقسام: القسم الأول: أن يكون الشيء مما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة.
القسم الثاني: أن يكون الشيء مما لا تجوز فيه النيابة لا مع العجز ولا مع القدرة.
القسم الثالث: أن يكون الشيء مما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة
**ما تجوز فيه النيابة مع العجز والقدرة
القسم الأول: أن يكون الشيء الذي وقعت فيه الوكالة -سواءً كان البيع أو الإجارة أو الرهن أو المضاربة أو غير ذلك من العقود- مما تجوز فيه النيابة، سواءً كنت أنت الموكل عاجزاً أو قادراً، وهذا معنى قولنا: (تصح فيه النيابة مع العجز والقدرة)، العجز: أي: عن فعل ذلك الشيء، والقدرة: التمكن من القيام بذلك الشيء، وهذا غالباً ما يقع، فهذا هو القسم الأول من محل الوكالة: أن يكون الشيء تدخله الوكالة مع العجز والقدرة، وهذا غالباً ما يقع في الحقوق المالية، أو في المعاملات.
وهذا القسم ينقسم في الأموال إلى نوعين: النوع الأول: الحقوق المتعلقة بالله سبحانه، فإذا وقع أحد في الوكالة في حقٍ مالي وجاءك يسأل: هل هي وكالة شرعية أو غير شرعية؟ فتنظر إلى هذا الحق المالي وتصنفه، فلا يخلو: إما أن يكون حقاً لله، أو يكون حقاً للمخلوق، فهناك حقوقٌ مالية لله، وهناك حقوق مالية للمخلوق، فأما إذا وكله في حقٍ مالي لله مما تجوز فيه النيابة فإنه تصح الوكالة، ومن ذلك: الزكاة والكفارات الواجبة، فلو قال رجل لرجل: زكاتي عشرة آلافٍ وكلتك أن تتولى صرفها للمستحقين، فإنها وكالةٌ شرعية، فالزكاة عبادة والحق المالي الموجود فيها لله، لكنها تقبل النيابة والتفويض، فحينئذٍ يصح التوكيل سواء قال له: أن تدفع زكاتي للمستحق، فأبهم من حيث الشخص وعين في الصفة، أو يحدد نوعاً من المستحقين فيقول: أن تصرفها للفقراء فقط، أو للأيتام أو للمساكين، فهذا تفويض وتوكيل مخصص، وينبغي أن تكون الوكالة مختصة كما سيأتي، هذا بالنسبة لحق الزكاة.
ومن حقوق الله تعالى المالية التي تدخلها النيابة مع العجز والقدرة: الكفارات، فلو أن رجلاً وجبت عليه الكفارة ليمينه، فقال: يا محمد! كفر عني يميناً حنثت فيها فأطعم عني عشرة مساكين أو اكسهم، فحينئذٍ إذا قال له: وكلتك أن تُطعم عني عشرة مساكين أو تكسوهم صحت الوكالة، ولا يقول قائل: لا يجوز التوكيل في هذا الحق؛ لأنه من العبادات، بل هذه عبادة وحق مالي تدخله النيابة.
كذلك لو أنه ظاهر من امرأته، أو جامع في نهار رمضان وهو صائم، أو قتل خطأً فوجبت عليه الكفارة التي تقوم على عتق الرقبة، فإن عجز صام شهرين متتابعين في الظهار، فعتق الرقبة حق مالي متعلق لله سبحانه وتعالى، فقال له: كفر عني بعتق رقبة، فوكله في حقٍ مالي تدخله النيابة فتصح الوكالة، فأعتق عنه الرقبة لظهارٍ أو قتلٍ أو جماعٍ في نهار رمضان صح، فهي حقٌ مالي وتدخله النيابة، كذلك لو أنه أصاب محظوراً في الحج، فوكله في الفدية، أو ترك واجباً فوكله في دم الجبران، أو وكله أن يشتري هدي التمتع أو هدي القران ويذبحه ويتولاه صحت الوكالة، لكن ينتبه إلى أن هذه الوكالة لا يشترط فيها العجز، فلا نقول له: لا توكل إلا إذا كنت عاجزا، بل نقول: من حقك أن تخرج الزكاة بنفسك أو توكل، سواءً كنت قادراً في الوكالة أو عاجزا، فهذا معنى قولهم: (تدخله النيابة مع العجز والقدرة)، فهذا النوع الأول: حقوق الله تعالى بالنسبة للأموال.
النوع الثاني من الذي تدخله النيابة: حقوق العباد، وحقوق العباد المالية تدخلها النيابة سواء وكلته وأنبته في العقد، أو وكلته وأنبته في النقد، أو وكلته وأنبته في تحصيل رفقٍ.
إلخ.
فأما توكيلك له في العقد فالعقود المالية تشمل: البيع، الإجارة، المضاربة، الشركة.
إلخ، فأنت إذا وكلت شخصاً في حقٍ مالي لك -الذي هو العقد- من حقك أن تتولاه، فمثلاً: السيارة من حقك أن تبيعها، ومن حقك أن تشتريها، فلك الحق أن توكل ببيعها وتوكل بشرائها، هذا توكيلٌ بالبيع وبعقد البيع، فهذا يسمونه توكيل بالعقد ومن أمثلته: البيع الإجارة المضاربة إلى آخره، وهذا النوع من التوكيل في العقد على ضربين: الضرب الأول: أن توكله في الإنشاء، إنشاء العقود.
الضرب الثاني: أن توكله في هدم العقود وهو ما يسميه العلماء بالفسخ، فيصح لك أن توكل في حقٍ مالي في العقود المالية إنشاءً وفسخاً، فالحقوق المالية في العقود تقبل التوكيل إنشاءً وفسخاً، ما معنى الإنشاء؟ وما معنى الفسخ؟ يعني: من حقك أن تقيم غيرك مقامك في إبرام العقد، فتلتزم بما وكلته أن يلتزم به، وأيضاً من حقك أن توكله في فسخ العقد، مثاله: لو قال شخص لآخر: وكلتك أن تشتري لي سيارة من نوع كذا بعشرة آلاف، هذا توكيل بالإنشاء، فينشئ عقد البيع ويدخل إلى ذمة موكله هذا النوع من المبيعات، فالوكالة صحيحة ومعتبرة في هذا، أما الفسخ فالعكس، يقول له: وكلتك أن تفسخ هذا البيع لوجود خيار، كأن يطلع على عيب في السلعة فقال له: اذهب ورد لفلانٍ ثوبه هذا وخذ الثمن منه، فإنه معيب ولا أريد أن أتم هذا، والعيب يوجب خيار الفسخ، فحينئذٍ من حقه أن يفسخ، فيوكله أن يفسخ العقد، فلا نقول في حقوق الأموال: تصح إنشاءً ولا تصح فسخاً، بل نقول: تصح إنشاءً وفسخاً، هذا بالنسبة للتوكيل في العقد إذا كان حقاً ماليا.
التوكيل في النقد -في النقود والدراهم-: وهذا من أشهر ما يقع في عقد القرض والحوالة، فمن حقك أن توكل في القروض وتقول: أعط فلاناً مائة ألفٍ قرضاً، أو يقول التاجر للعامل الذي يكون في المحل: ديّن فلاناً أو ديّن الضعيف وأعطه شهراً أو شهرين، فأعطاه إذناً في أن يقرض الغير، فهذه وكالةٌ بالقرض، وقد يكون التوكيل في القرض -الذي هو النقد- من جهة الحوالة بالقرض، وهذا من جهة الإثبات، فيحيل ويقول له: وكلتك أن تحيل فلاناً على فلان، هذا توكيل للقرض بالحوالة، وكما أن القروض تقع فيها الوكالة إثباتاً كذلك تقع الوكالة فيها إبراءً ومسامحةً، ومن هذا ما ثبت في الحديث الصحيح كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كان فيمن قبلنا رجلٌ يقرض الناس وكان يقول لغلمانه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا، ففعلوا ذلك، فلقي الله عز وجل، فقال الله عز وجل: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو منه تجاوزوا عن عبدي)، فوجه الدلالة: أنه وكل عماله ومن تحت يده أن يسقطوا الديون وأن يؤخروا وأن يوسعوا على المعسرين، فهذا يدل على مشروعية التوكيل في القروض إسقاطاً ومسامحةً وتوسعةً، وعليه: فإن القروض تدخلها الوكالة.
كذلك أيضاً: تقع الوكالة في عقود الأموال أو الحقوق المالية المتعلقة بعقود الإرفاق ومن أشهرها: العارية والوديعة، العارية تقول: يا فلان اذهب لفلان واستعر لي منه كتابه، فقد وكلته عنك أن يستعير ذلك الكتاب، وكذلك تقول له: اذهب إليه وخذ منه سيارته وقل له: أريدها يوماً أو أريدها لحاجةٍ، فتكون وكلته أن يستعير عنك، والعكس، فتوكله أن يرد العارية، فتقول له: خذ كتاب فلانٍ وأعطه إياه، فهذه وكالة برد العارية، فتقع الوكالة أيضاً في عقود الإرفاق عاريةً ووديعة، هذا بالنسبة للحقوق المالية المتعلقة بالله سبحانه وتعالى والحقوق المالية المتعلقة بالعباد.
قد يتبع هذا القسم: الحقوق التي أذن الشرع فيها بالتوكيل مع العجز والقدرة من غير الأموال، وذلك كما هو في النكاح، فالنكاح يصح أن توكل فيه إنشاءً، ويصح أن توكل فيه فسخاً، وكذلك رفعاً، فتوكل في النكاح إنشاءً كأن تقول لرجلٍ: اقبل نكاحي من فلانٍ، وكلتك أن تقبل زواج فلانةٍ عني، فهو وكيل، فينشئ العقد بدلاً عنه، أو يقول رجل آخر: وكلتك أن تزوج ابنتي من فلان، فهذا توكيل بالإنشاء، ويقع التوكيل في النكاح رفعاً في الطلاق؛ لأن الطلاق يسمى رفع وتقول: وكلتك أن تطلق نسائي، أو يقول له: وكلتك أن تطلق فلانة طلقة، فهذا توكيل في رفع النكاح، ويقع التوكيل في فسخ النكاح وذلك بالخلع، فيقول له: وكلتك أن تخالع فلانة، أو المرأة تقول لأخيها: خالعني من زوجي وأعطه المال والمهر، فهذا توكيلٌ بالخلع، فلو أن المرأة وكلت أخاها أن يتولى خلعها من زوجها، وجاء الأخ إلى عند القاضي فلا يقول القاضي: لا بد وأن تحضر، بل إنه تجوز فيه الوكالة ولا تلزم بالحضور.
وعلى هذا: فالوكالة تسري في النكاح إنشاءً ورفعاً وفسخا، وكذلك تقع في النكاح استدامة، كما في الرجعة، فلو قال له: وكلتك أن ترجع لي زوجتي -هذا في الرجعة- يصح في ذلك وتقع الوكالة، هذا بالنسبة للحقوق التي تدخلها النيابة مع العجز والقدرة ولا يشترط عجزُ الإنسان
**ما لا تجوز فيه الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة
القسم الثاني: أن تكون الوكالة في الحقوق التي لا تقبل النيابة، لا في حال العجز ولا في حال القدرة، وذلك كالصلاة؛ فإن الصلاة لا تصح فيها الوكالة لا مع العجز ولا مع القدرة، فلا يصح لشخص قادر على الصلاة أن يقول لغيره: وكلتك أن تصليّ عني، ولا يصح لشخصٍ عاجزٍ عن الصلاة أن يقول لغيره: وكلتك أن تصلي عني، هذا بالنسبة للصلاة، وقد يقع ذلك على سبيل التبع لا الأصل، كما في صلاة الركعتين في الحج والعمرة عن الغير؛ فإنك تصلي عنه لكن وقعت تبعاً، ولم تقع أصلاً، ويجوز في التابع مما لا يجوز في الأصل، وذكرنا هذه القاعدة وأدلتها، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين.
فهذا النوع الثاني وهو الذي لا تصح فيه النيابة لا في حال العجز ولا في حال القدرة، بالإجماع لا تدخل فيه الوكالة.
لكن هناك نوع من العبادة وهو الصيام عن الغير، هل يجوز الصيام عن الغير في حال العجز وهذا إذا كان ميتاً؟ فهل تدخل الوكالة في ذلك أو لا تدخل؟ هل تدخل النيابة فيه أو لا؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
يبقى السؤال عن مسألة الطهارة -أما الصلاة فلا تقبل وكالة فلو وكَل المصلي لم يصح- لو قال له: يا فلان تطهر عني، فالطهارة تنقسم إلى قسمين: طهارة الحدث، وطهارة الخبث، فأما طهارة الخبث، فإنه إذا قام بتطهير المحل دون أن ينوي الأصل طهارة الخبث صح؛ لأننا ذكرنا في باب الطهارة أن إزالة النجاسة لا تشترط لها النية، وبناءً عليه فالمريض الذي يغشى عليه فيطهر أثناء الغشيان، أو يكون مشلولاً ويأتي الغير وينظف له محل الأذى دون أن يستشعر أنه ينظف ذلك، ثم يفيق وهو طاهر نظيف الموضع فيجوز أن يتوضأ مباشرة ويصلي، أو يغتسل مباشرةً ويصلي؛ لأن الإزالة للخبث لا تشترط لها النية، ومحلها قابل للتوكيل وممكن لأي شخص أن يقوم بذلك؛ لأنه ليس بمحل تتعين فيه النية والخلوص الذي هو الإخلاص.
أما طهارة الحدث -الوضوء- فإنها لا تصح إلا بنيةٍ من الشخص المغسول، فلا يصح أن يوضئه الغير إلا إذا نوى، فلو كان الشخص جالساً فصب رجلٌ عليه ماءً على وجهه وغسل الوجه وصب على يديه وغسل له أعضاء وضوئه دون أن ينوي لم يصح وضوءه، فإن نوى صح وضوءه وأجزأه
**ما تجوز فيه النيابة مع العجز ولا تجوز مع القدرة
القسم الثالث: وهو الذي تصح فيه النيابة مع العجز دون القدرة، فهذا يكون في الحج والعمرة؛ فإنه في الحج والعمرة، يجوز أن يقوم الغير مقامه إذا كان عاجزاً، أما لو كان قادراً فإنه لا يصح أن يقوم الغير مقامه، بناءً على ذلك: لو وكله بالحج، أو وكله بالعمرة فقل: يشترط أن يكون الأصيل عاجزاً عن الحج والعمرة إلا في مسألة واحدة وهي: الحج عن الغير والعمرة عنه في حج النفل، فإن مذهب طائفة من العلماء: أن حج النفل لا يشترط فيه العجز، ويجوز أن تعطي رجلاً مالاً ليحج عنك حجة نافلة، وفي هذا نظر والأقوى والأصح الالتزام بالأصل من عدم وجود النيابة إلا فيما أذن الشرع فيه بالنيابة
**الأسئلة
**الفرق بين الوكالة والتفويض
**السؤال
ما الفرق بين الوكالة والتفويض وأيهما أقوى؟
**الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
الوكالة فيها معنى التفويض، ولا تكون الوكالة إلا بشيء من التفويض، إلا أن التفويض فيه عموم؛ لأن من فوض إلى الغير شيئاً وجعل له ذلك الشيء، فإن هذا يستلزم أن يقوم مقامه من كل وجه في تفويضه، ولكن الوكالة غالباً ما تكون مقيدة، وعلى هذا: فإن التفويض فيه شيء من العموم، أي: أعم من الوكالة، وإلا فالتداخل موجود بينهما، حتى إن العلماء رحمهم الله في تعريف الوكالة قالوا: هي التفويض، وبعضهم يقول: استنابة، فالتفويض والوكالة بينهما تداخل، ومن أوضح ما يقع الفرق بين التفويض والوكالة في مسألة الطلاق، فإنه إذا فوّض الطلاق للمرأة وجعل لها أمرها بيدها ليس كما لو وكل، فإنه إذا فوض إليه ذلك فليس كالتوكيل؛ لأن التوكيل محدد وفيه نوع من التقييد، ويفتقر إلى شيء من الانضباط أكثر من التفويض، والتفويض أبلغ في الإنابة وإقامة الغير مقامه والله تعالى أعلم.
بالنسبة للتفويض في مسألة الوكالة ذكر بعض العلماء رحمهم الله في مسائل غير مسألة الوكالة التي معنا، ربما في الحقوق يكون التفويض فيها أقوى من الوكالة، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن التفويض أعم من الوكالة، ولذلك يستمد قوته من عموم المادة، وتفويض الأمر إلى الشخص يجعل له صلاحية أن ينظر، فإن شاء أتمه وإن شاء نقضه، وإن شاء أمضاه وإن شاء فسخه لكن للتوكيل فيه هذا المعنى من بعض الوجوه، ومن أظهر ما يقوي ذلك: ما لو قال له: وكلتك أن تفعل شيئاً ثم مات الموكل فتنفسخ الوكالة مباشرةً، لكن لو قال: فوضت إليك، فالتفويض يختلف عن هذا ويبقى مفوضاً، ولو مات من فوضه، فحينئذٍ التفويض يكون أقوى من الوكالة من هذا الوجه، والله تعالى أعلم
**التفصيل في تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية
**السؤال
الألفاظ التي يختلف فيها العرف والمعنى الذي يدل عليه اللفظ فأيهما يقدم؟
**الجواب
ورد في السؤال الألفاظ التي يتعامل الناس بها، ويكون لها معنىً عندهم، ويكون لها معنىً في الشرع، فأيهما يقدم؟ تعرف هذه المسألة بمسألة: تعارض الحقيقة الشرعية مع الحقيقة العرفية أو الوضعية، فإذا كان للناس عرفٌ يتعاملون به في الألفاظ فإنه يرجع إلى هذا العرف، ويحتكم إلى هذا العرف إلا في المصطلحات الشرعية المعينة، ولذلك يحكم في الأيمان والنذور بما جرى عليه العرف وتكون الحقيقة العرفية قوية في كثير من المسائل، وقد تُقدم في حال تعارض الأعراف للحقيقة الشرعية ترجيحاً لأحد العرفين على الآخر، وأما من حيث الأصل فالألفاظ التي حددها الشرع كالطلاق ونحوه لا تخلو من حالتين: إن كانت بصريح اللفظ الذي جعله الشرع دالاً على المقصود فهذه لا يؤثر فيها العرف الخاص، ويرجع فيها إلى حكم الشرع ولا يرجع فيها إلى عرف الناس، حتى قال العلماء رحمهم الله: إن هذا الباب أشبه بالحكم الوضعي، أي: أن الشرع جعل لفظ الطلاق موجباً للطلاق بغض النظر عن قصده وعدم قصده، فما دام أنهم تلفظوا بهذه الألفاظ وقصدوا اللفظ فإنهم يؤاخذون به، حتى ولو جرى العرف بعدم اعتبار هذا اللفظ طلاقاً، لكن لو أنه قال كلمةً بمثل لفظ الطلاق ولم يقصد الطلاق، وجرى العرف فيها بشيءٍ آخر، ووجدت قرائن، انصرف اللفظ إلى ما قصد، مثال ذلك: لو إذا خرجت من الحمام -أكرمكم الله- اصطلح أهل القرية على أن المرأة بمجرد خروجها من الحمام يقال لها: طالق، كأنها كانت داخل الحمام مقيدة بحاجاتها وبعذرها، ثم درس هذا العرف فقال لها: يا فلانة! أنت طالق، وهو قصده المدلول العرفي، يعني: خرجت من الحمام، فهي طالق في حكم الشرع سواء، قصد أو لم يقصد، لكن وجود القرينة أو ما يسمى عند العلماء ببساط المجلس قالوا: لا تطلق، وبعض العلماء قالوا: تطلق قضاءً ولا تطلق ديانة، فبينه وبين الله هي زوجته، ولكن لو ارتفع إلى القاضي تطلق عليه، وهذا ترجيحٌ للحقيقة الشرعية على الحقيقة العرفية ولو جرى العرف وأكد بساط المجلس.
فالمقصود: أن مسألة الألفاظ هذه ذكرها العلماء رحمهم الله، وهناك جوانب كثيرة منها: الأيمان، ومنها: النذور، لو قال: والله لا آكل اللحم، والعرف الموجود عندهم أن اللحم مختص بلحم الدجاج، فقال: والله لا آكل اللحم، فعرفه مختص بلحم الدجاج، لكن المعروف أن لفظ (اللحم) يشمل كل اللحم، ويحرم عليه جميع اللحم، فهل نقدم ما تعارفوا عليه من تخصيص العرف اللغوي أو نقدم الأصل الشرعي، هذا من تعارض العرف مع اللغة.
ويتعارض العرف مع الشرع في ألفاظ الظهار، وألفاظ الأيمان، وألفاظ العتاق، ونحوها، فالمقصود: أنه في بعض الأحيان قد تقدم الحقيقة العرفية، خاصةً عند الاحتمال مثل طلاق الكنايات، فلو قال لامرأته مثلاً: أنت خلية، أنت برية، أنت بتة، أنت بتلة، أنت الحرج، اخرجي، تقنعي، اغربي عن وجهي، لست لي بامرأة، هذه كلمات قد تجري في بعض الأعراف ويقصد منها الطلاق، وفي نيته أنه يطلق، وقد تجري في بعض الأعراف على أنها تأديبٌ للزوجة، كما لو قال لها: اذهبي إلى أهلك، واخرجي من بيتي، ودرج العرف المتعارف عليه أن المرأة يقول لها زوجها: اخرجي لبيتك، واليوم الثاني: لبيت أهلك، واليوم الثالث: يردها، إذا اصطلحوا على ذلك وهو لا ينوي الطلاق ولم يقصد بذلك طلاقاً لا يقع طلاقاً، لكن إن نواه طلاقاً وقع طلاقاً، فحينئذٍ احتكم للعرف مع وجود شبهة التطليق بالكناية.
المقصود أن الكنايات يقوى فيها الاحتكام إلى العرف، أما بالنسبة لمسائل الألفاظ التي حددها الشرع وعينها فهذه يقوى فيها تقديم الحقيقة الشرعية، وهذه المسألة راجعة إلى وضع اللغة، وقد ذكرها علماء الأصول، واللغة العربية قيل: إن الواضع لها هو الله عز وجل، فإذا كانت موضوعةً من الله سبحانه وتعالى -حتى ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع وغيره أنها لغة أهل الجنة، وهذا يقتضي أنها تعبدية- فلا يمكن لشخص أن يغير اسماً منها فلو قال: أنت طالق وقال: الطلاق له عندي معنىً خاص لا يمكن أن يصرف إلى حل العصمة، نقول له: أبداً هذا وضع وضعه الشرع ما تستطيع أن تحدث فيه.
فعلى هذا الوجه: لو اصطلح أهل البيئة في ألفاظٍ معينة على صرفها عن هذا لم يستقم، أما في أصل معاني الأشياء التي هي الأسماء المعينة والأسماء غير المعينة فإنه يمكن أن يحصل فيها اختلاف في العرف، ويمكن أن يحصل فيها اختلاف في الأشخاص، فقبيلة تتلفظ بهذا اللفظ وتنوي وتعتد به طلاقاً، وقبيلة أخرى تتلفظ بهذا اللفظ ولا تعتبره طلاقاً، هذا يختلف باختلاف الأعراف والبيئات والأشخاص والله تعالى أعلم
**ابن الزوج ليس محرماً لأم زوجة أبيه
**السؤال
هل ابن الزوج محرمٌ لأم زوجة أبيه الثانية؟
**الجواب
بالنسبة لابن الزوج لا يكون محرماً لأم زوجة أبيه، فهذه المحرمية تختص بالأب دون الابن؛ لأن المحرمات من جهة المصاهرة يختص التحريم فيهن بالأصل دون الفرع، وفي بعضها يختص بالفرع دون أصله، فتختلف بحسب الأربع التي بينها القرآن: أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الأب، وزوجة الابن، فالآن زوجة الأب أمها محرمٌ للأب؛ لأنها من (أمهات نسائكم)، ولكن أمها ليست محرماً لابنه، وبنت زوجته محرمٌ له وهي الربيبة وليست بمحرمٍ لابنه، فهذا التحريم يختص بالأب؛ فأمّ زوجة أبيه ليست بمحرمٍ له، وعلى هذا: لا يجوز له أن يختلي بها، ولا أن يصافحها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (338)
صـــــ(1) إلى صــ(24)
شرح زاد المستقنع -** باب الوكالة [2]
إن مقصود الشرع من الوكالة هو الإرفاق وتحقيق المصلحة، فلهذا جازت الوكالة فيما كان على هذه الصفة، لكن إذا تضمنت الوكالة محذوراً، كأن تكون وكالة على محرم، أو كان الفعل لا يصح التوكيل فيه، فعند ذلك يمنع الشرع من هذه الوكالة
**الأشياء التي يصح فيها التوكيل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تقدم الحديث عن الأمور التي يجوز للمسلم أن يوكل غيره فيها، وذكرنا أن هناك جانبين: جانب فيما بين المسلم وبين الله، وجانب فيما بينه وبين العباد، وذكرنا الجانب الذي بينه وبين الله عز وجل، وفيه حقوق قصد الشارع أن يقوم المسلم بها بنفسه: كالصلوات الخمس، والصيام، فلا يجوز أن يوكل غيره فيها، ولا تصح الوكالة في هذا النوع.
وأما النوع الثاني من هذا الجانب الذي بينه وبين الله عز وجل: الحقوق التي قصد الشارع وصولها لأصحابها كالزكوات والكفارات، فيجوز للمسلم في الحقوق المالية أن يوكل غيره فيها، فيعطي عشرة آلاف لرجل ويقول: ادفع هذه العشرة الآلاف للفقراء أو المستحقين للزكاة، فيوكله في حقٍ فيما بينه وبين الله عز وجل، وذكرنا حكم ذلك، ثم حقوق الآدميين ذكرنا ما الذي تدخله النيابة وتصح، وما هو في ضد ذلك
**التوكيل في العقود
ثم شرع المصنف -رحمه الله- في بيان محل الوكالة فقال رحمه الله: [ويصح التوكيل في كل حق لآدمي].
أي: يجوز لك أن توكل غيرك، ويجوز لك أن تقبل وكالة غيرك، يعني: في كلا الجانبين يجوز لك أن تكون موكلاً، ويجوز أن تكون وكيلاً: (في كل حقٍ لآدمي).
يعني: كل أمرٍ من الأمور التي من حقك أن تقوم به، فيجوز أن توكل الغير فيه، فقال رحمه الله: (من العقود).
(من) بيانية، (العقود): جمع عقد، والعقد أصله التوثيق والإبرام، ومنه عقدة الحبل، وإذا قال العلماء: العقد، فهو الإيجاب والقبول، فيجوز لك أن توكل أي شخصٍ بشرط أن يكون أهلاً للعقد الذي توكله فيه، فيجوز لك أن تجعله نائباً عنك، مثاله: أن تقول له: يا محمد! اشتر لي سيارةً من نوع كذا، فهذا توكيلٌ بالشراء، يا محمد! بع أرضي الفلانية بعشرة آلاف، فهذا توكيلٌ بالبيع، فيجوز لك أن توكل في العقود كالبيع والإجارة، كأن تقول لصاحب مكتب العقار: وكلتك أن تؤجر عمارتي بعشرة آلاف، أو بعشرين ألفاً، أو بمائة إلى آخره، فهذا توكيلٌ بالإجارة، وكذلك أيضاً توكله في القيام بالعقود الأخرى كالشركات ونحوها فهو وكيلك.
فيقول رحمه الله: (ويصح التوكيل في كل حقٍ لآدمي)، أي: يملك أن يبرمه وينشئه، وعندما قال رحمه الله: (من العقود)، هناك جانبان: الجانب الأول: ما يسمى: إنشاء العقود، وهناك جانب عكسي وهو: فسخ العقود، فإذا قلت: يجوز أن توكل في الإنشاءات فيجوز أن توكل في الفسوخ، فمن حقك أن توكل غيرك في إثبات العقود وإنشائها، فينشئ عنك البيعة ويلزمك، وينشئ عنك الإجارة وتلزمك، وينشئ عنك الشركة وتلزمك إلخ، وتوكله في الفسخ، فتقول له: يا محمد! افسخ عقد البيع الذي بيني وبين فلان، أو افسخ عقد الإجارة الذي بيني وبين فلان.
قال رحمه الله: [من العقود والفسوخ].
العقود عامة، وعلى هذا فيجوز أن يتوكل عنك في عقد النكاح، فتقول له: يا فلان! اقبل زواجي من فلانة، فتوكله أن يكون قابلاً لزواجك، لكن ما يستطيع أن يتوكل في الفعل وهو فعل النكاح، فإنشاء النكاح شيء، وفعل النكاح شيءٌ آخر، فالشرع قصد من المكلف أن يفعل بنفسه ليعف نفسه عن الحرام، فلا يكون التوكيل عن زوجٍ ولا عن زوجة في الفعل، لكن في الإنشاء يجوز، ويجوز في الإنشاء ما لا يجوز في الأثر، فأثر النكاح الاستمتاع، فهناك فرق بين إنشاء عقد النكاح وبين أثره، فتوكله إنشاءً ولا يصح أن يوكل فيما بعد ذلك.
والعكس في المرأة كذلك، فيجوز أن يتوكل الغير عنها في قبولها، وهكذا بالنسبة لوليها يجوز أن يوكل الغير، فعقد النكاح يجوز إنشاؤه وكالةً، ويجوز إنشاؤه أصالةً
**التوكيل في الفسوخ
قوله: (والفسوخ) جمع فسخ، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله، والفسخ: الرفع والإزالة، والمراد بالفسخ: فسخ العقود، فيجوز أن توكله، مثل ما يقع في أصحاب الشركات، وكل صاحب شركة أو مؤسسة كبيرة قد لا يكون عنده الوقت والفراغ ليبرم العقود، فيوكل شخصاً معيناً عن شركته، فيكون هذا الشخص يفوض إليه، ويقول له: لك حق إبرام العقود وفسخها يعني: أنت وكيلٌ عني في أن تبرم عقود البيع وعقود الإجارة، ولك الحق أيضاً، وكلتك في أن أي عقد بيع ترى من المصلحة أن يفسخ تفسخه، وكل عقد إجارة ترى من المصلحة فسخه تفسخه، ويستوي في ذلك أن يكون الفسخ من أحد الطرفين أو منهما معاً بالرضا من الطرف الثاني
**التوكيل في العتق
قال رحمه الله: (والعتق).
العتق كما هو معلوم في مقصود الشرع: فك رقبة إذا كانت مسلمة ومؤمنة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) وجملة (فإنها مؤمنة)، أي: لأنها مؤمنة، فدل على أن مقصود الشرع عتق الرقاب إذا كانت مؤمنة، فالتوكيل في عتق الرقبة، تقول: يا فلان! وكلتك في عتق إمائي أو عتق عبيدي، هذا عموم، أو عتق فلان من عبيدي أو فلانة من إمائي هذا كله جائز، فيجوز أن يتوكل عنك في العتق كما أنه يجوز أن يتوكل عنك في شراء الأمة والعبد ونحو ذلك
**التوكيل في الطلاق
قال رحمه الله: (والطلاق).
يجوز أن يوكل غيره في تطليق امرأته أو تطليق نسائه، سواءً جعل له الطلاق كله كأن يقول: وكلتك أن تطلق نسائي دون أن يقيده بطلقة أو بطلقتين، وإنما يقول له: وكلتك أن تطلق امرأتي، ويفوض له ذلك بأن يطلق طلقة أو طلقتين أو ثلاثاً وقد يقيد ذلك فيقول: وكلتك أن تطلق زوجتي فلانة -فهذا تقييد في واحدة من نسائه- أو تطلقها طلقة أو طلقتين ويقيد عدد الطلاق، ففي هذه الحالة يجوز، لكن إن وكله في تطليقه لزوجته فلا تخلو الوكالة من حالتين: إما أن تكون مطلقة على السنة، فيطلق الوكيل على السنة، وإما أن يطلق الوكيل لغير السنة كما ذكرنا في درس النكاح، كأن يطلقها وهي حائض، فحينئذٍ يكون فيه الخلاف المشهور ويرد
**السؤال
هل تطلق أو ما تطلق؟ فالقائلون بأن الطلاق في الحيض يقع -وهم جماهير السلف والخلف رحمةُ الله عليهم على ظاهر الروايات التي ذكرناها عن ابن عمر رضي الله عنهما- يقولون: إن وكله في التطليق فطلقها وهي حائض أثم الوكيل دون الأصيل، ويمضى الطلاق ويكون طلاقاً بدعياً، ويأثم الوكيل ولا يأثم الأصيل، ولكن الطلاق نافذ، ولو قال له: طلق زوجتي -وهي في الحيض- فقال: وكلتك أن تطلق زوجتي الآن، أو تطلقها اليوم، أو تطلقها وهي حائض وكانت في حيضها، فكأن الموكل قصد أن يوقع الطلاق حيضها فاختلف العلماء: قال بعض العلماء: لا يتوكل الوكيل عن الأصيل في الحرام، فكما لا يصح التوكيل في الظهار كذلك لا يصح التوكيل في الطلاق في الحيض، فلو وكله وقال له: طلقها في حيضها، فنص على بدعية ومحرم فلا يجوز التوكيل، ولا تصح الوكالة على هذا الوجه، قالوا: لأن الوكالة عقد شرعي أذن به للأمور المشروعة لا للأمور الممنوعة؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، فهذا الطلاق في حال الحيض إثمٌ واعتداءٌ لحدود الله؛ لأن الله نهى في آية الطلاق فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، فنص على أنه من حدود الله عز وجل، وحدود الله أن تطلق المرأة في غير الحيض.
وبناءً على ذلك: لو قال له: طلقها في الحيض، بطلت الوكالة في قول طائفة من العلماء، والفرق بين من يقول: تبطل الوكالة وبين من يقول: لا تبطل، أنه لو قال له: وكلتك أن تطلق امرأتي حال الحيض فطلقها وقلنا: الوكالة باطلة فالطلاق لا يقع، وإن قلنا: الوكالة صحيحة فالطلاق يقع على الوجه الذي ذكرناه في قول الجمهور، وفي الحقيقة لا شك أنه يأثم الموكل والوكيل، وعند النظر في المقصود الشرعي من طلاق الحيض فإنه يقوى أن ينفذ عليه طلاقه؛ لأنه نفذ على الأصيل، فمن باب أولى أن ينفذ على الوكيل
**التوكيل في الرجعة
قال رحمه الله: (والرجعة).
أي: يجوز للمسلم إذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً وهي الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية وما زالت في عدتها أن يراجعها، وهذا فيما إذا كان بعد الدخول، وينبغي أن ينبه أن الطلاق الرجعي لا يكون إلا بعد الدخول بالمرأة؛ ولذلك نقول: الطلقة الأولى والطلقة الثانية بعد الدخول، فإذا وقعت الطلقة الأولى قبل الدخول فليس برجعي؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب:49] فدل على أنه لا رجعة في الطلاق قبل الدخول، لكن الرجعية تكون إذا كان قد دخل بها، فإذا عقد على المرأة ودخل بها وطلقها الطلقة الأولى أو طلقها الطلقة الثانية وما زالت في عدتها فإنه يمتلك رجعتها؛ لقوله سبحانه: وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228]؛ لأنه قال في صدر الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فقد جاءت الآية مقيدة لقوله: وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228].
وعلى هذا قال العلماء: إنه ما دامت الطلقة رجعية فإنه يمكنك استرجاعها بدون إرضائها، فلو أنه ارتجعها بنفسه صحت الرجعة كأن يقول: راجعت فلانةً أو راجعت زوجتي أو يقول: يا فلان! وكلتك أن ترجع لي زوجتي، أو وكلتك في ارتجاع زوجتي، فإنه وكيل فتصح الوكالة، فكما صحت الوكالة في إنشاء عقد النكاح صحت الوكالة في استدامة عقد النكاح؛ لأن الرجعة استدامة وفيها وجهان: بعض العلماء يقول: الرجعة إنشاء، وبعضهم يقول: استدامة، والفرق بين القولين: أننا لو قلنا الرجعة استدامة وطلق المحرم حق له أن يراجع زوجته؛ لأنها استدامة للنكاح، ومحرم على المحرم أن ينكح، وإن قلنا: إنها إنشاء فإنه لا يمتلك أن يرتجع إلا بعد أن ينتهي أو يفك إحرامه
**التوكيل في المباحات المتملكة
قال رحمه الله: (وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه).
يقول رحمه الله: وتجوز الوكالة في تملك المباحات، والمباحات: جمع مباح، فهناك أشياء أحل الله عز وجل لعباده أن يأخذوها، والمباحات هي التي لا تكون ملكاً لواحدٍ من الناس مثل الأشجار في البراري، فإن الأشجار في البراري ملكٌ للناس ينتفعون بها، وليس لأحد أن يمتلك إلا إذا زرعها بنفسه، فإذا زرعها بنفسه كانت ملكاً له وإحياءً للموات، لكن من حيث الأصل: الماء والكلأ والنار المسلمون فيه شركاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، فأثبت الشراكة في هذه الثلاثة الأشياء، فمعنى ذلك أن الكلأ والحطب مباح للجميع، إلا أن يكون من الحمى الذي حماه الله ورسوله، فهذا الكلأ -احتشاش الحشيش- مباح، وهكذا العيون الجارية من حقك أن تأتي في أي مكان من هذه العين وتغترف منه وتشرب، وليس لأحد أن يقول: هذه العين ملكٌ لي إلا إذا كانت في أرضه، على خلاف، إذا كان قد احتفرها أو انفجرت من تلقاء نفسها في أرضه، فالمعمول به في قضاء الصحابة رضوان الله عليهم استنباطاً من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير: أن العيون ونحوها يسقى بها الأعلى فالأعلى، لكن لا تملك، قال: (اسق يا زبير)، فجعل له أن يسقي ثم يرسل الماء: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء) فالماء لا يملكه أحد إذا كان عيناً جارية، كالكلأ والنار، وهو الحطب.
وهذه الأشياء يرد
**السؤال
هل من حقي أن أوكل فيها أو ليس من حقي؟ للعلماء وجهان: قال بعض العلماء: الوكالة الأصل فيها أن لا تقع إلا في شيء أملكه، فلا يستقيم أن تقول لشخص: حُش لي كذا وكذا، أنت وكيلي في الحشيش، ولا يستقيم أن تقول له: أنت وكيلي في أخذ الماء من العين؛ لأن هذا الشيء يملكه من أخذه، والوكالة يشترط فيها: أن يكون الأصيل مالكاً للشيء حتى يوكل فيه، وهذا سيملكه بعد قبضه، فمنع طائفةٌ من العلماء في هذه المسألة، وفقهاً ونظراً مذهبهم صحيح؛ لأنه لا يستقيم أن تقول هذا ملك لي، قد ذكرنا: أن الوكالة تكون فيما يملك، فقالوا من حيث النظر: إن هذا الحشيش أو هذا الماء أو هذا النار لا يملك إلا بعد الحيازة، فإذا كانت لا تملك إلا بعد الحيازة فلا تصح الوكالة بها إلا بعد أن يكون له حق التصرف فيها، فإنه سيوكل في سبب الملكية، والوكالة مفتقرة إلى حق التصرف في الذي فيه الملكية، فصار فيه شيء من الدوران، فمنعوا الوكالة في هذا النوع.
وقال طائفة من العلماء كما درج عليه المصنف: يصح التوكيل، وقالوا: إنه -أي: الماء والكلأ والنار- في الأصل ملكٌ مشاع، ولكنه يتعين لمن أخذه، فصار التوكيل في الأخذ وأصل الاستحقاق وحق التصرف ينتزع من الشرع.
والقول الأول في الحقيقة له قوة، أي: القول بأن التوكيل فيه لا يقع إلا في حالة واحدة، وهي: حالة التوكيل بأجرة أو بُجعل، والجعل أن تقول له: يا فلان! احتش لي من حشيش هذا الوادي ولك مائة أو لك ألفٌ، فحينئذٍ هي إجارة وتدخلها وكالةٌ في الملكية فيستقيم، وأما بالنسبة لغير الجعل والإجارة فإن القول لا يخلو من نظر كما ذكرنا
**الأشياء التي لا يصح فيها التوكيل
**التوكيل في الظهار
قال رحمه الله: [لا الظهار واللعان والأيمان].
أي: لا يصح التوكيل في الظهار؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، وكان معروفاً في الجاهلية، وأنكر الإسلام هذا القول وعده منكراً من القول وزورا؛ وذلك لأنه يفسد ما بين الزوج وزوجته.
ثانياً: أنه يجعل الحلال حراماً، فهو تحريم لما أحل الله، حيث يجعل منكوحته التي أحل الله له نكاحها في منزلة المحرمة عليه؛ ولذلك وصفه الله بوصفين: أنه مُنْكَر مِنَ الْقَوْلِ وأنه زور.
وقد أجمع العلماء على تحريمه، وأن من ظاهر من امرأته فهو آثمٌ شرعا؛ ولذلك عاقبه الله بالعقوبة المغلظة وهي: أن يعتق رقبةً من قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإنه يطعم ستين مسكيناً.
وعلى هذا قالوا: لا يجوز التوكيل في الظهار؛ لأن الوكالة عقدٌ قائمٌ على المشروع لا على الممنوع، قالوا: فلو وكله أن يظاهر من امرأته وصححنا الوكالة لصححناها في السرقات والمحرمات، فلو قال رجل لرجل: اسرق لي عشرة آلاف، فلو قلنا إن الوكالة هنا صحيحة لصحت وقطعت يد الوكيل والموكل، فهذا لا يستقيم في أصل الشرع، ولذلك قالوا: الوكالة في المشروع لا في الممنوع، ولذلك إذا صححت الوكالة في المحرم ترتبت عليها أمورٌ أخرى لا يحكم بها شرعاً، مثل ما ذكرنا في الجنايات وفي المحرمات من شرب خمرٍ أو زناً أو قتل ونحوه، فإن هذا كله مما لا تدخله الوكالة، ويتفرع على القول الذي نص عليه المصنف -رحمه الله- أن الظهار لا تصح فيه الوكالة، فلو قال له: وكلتك أن تظاهر لي من امرأتي فقال: امرأتك عليك كظهر أمك؛ فإنه يكون قولاً لفظاً لا تأثيراً له، ولا تلزمه الكفارة ولا تسري عليه أحكام الظهار؛ لأن الوكالة لاغية، ففائدة إلغاء الوكالة أنه لو تلفظ بالظهار لم يحكم به
**التوكيل في اللعان
قال رحمه الله: (واللعان).
أي: الملاعنة وهي مفاعلة من اللعن، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، كالمخاصمة والمشاتمة فإن الرجل لا يخاصم نفسه ولا يشاتم نفسه، وعلى هذا قالوا: الملاعنة سميت بذلك لأن الرجل -والعياذ بالله- يلعن نفسه إن كان كاذباً: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7] وهي محققة: أنه إذا كان كاذباً -والعياذ بالله- فقد حلت عليه لعنة الله، ومن حلت عليه لعنة الله فإنه تلعنه الملائكة ويلعنه اللاعنون نسأل الله السلامة والعافية.
واللعان: أيمانٌ مغلظة إذا اتهم الرجل امرأته بالحرام أو نفى الرجل ولده؛ لأن الرجل في بعض الأحيان يتهم المرأة أنها زنت والعياذ بالله، وقد يقول: هذا الولد ليس بولده دون أن يتهم المرأة بالزنا، وتارةً يجمع بين الأمرين فيقول: هي زانية وهذا الولد ليس بولدي، وتارةً يثبت زناها فيقول: هي زانية، ويثبت أن الولد ولده، فمثلاً: لو أنه جامع امرأته وحملت المرأة من مائه وقبل الولادة بفترة وقد تبين أن الحمل حمله زنت، فإنه يلاعن على زناها ولا ينفي الولد، وتارةً يلاعنها -والعياذ بالله- على الأمرين، فيغيب عنها مدة ثم يأتي فيجدها ويطلع على زناها، ويعلم بنفسه زناها فيكون اللعان على الاثنين، وتارةً يلاعن على الولد دون الزنا كأن يكون غائباً عن امرأته مدةً وغلب على ظنه بإخبار رجلٍ يثق به أنها زنت، فلا يستطيع أن يتهمها بالحرام وهو لم ير ولم يسمع، والوارد في حديث اللعان أنه قال: (والله يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني)، ولذلك شدد بعضهم -ستأتينا في مسائل اللعان- في أنه لا يقع اللعان إلا إذا رأى أو سمع، ففي هذه الحالة لو غاب عنها سنةً أو سنتين، فهل يعد الحمل بينة تحمله على اللعان، أم أن هناك احتمالات أخرى؟! بعض العلماء يقول: قد يحصل في بعض الأحيان أن تحمل المرأة ويعلق الولد، ثم يعتريه شيء من الضعف، فيعلق الولد ولا يظهر إلا بعد سنة!! هذا ذكره بعض العلماء وحصلت فيه قضية لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه، لكن المقصود: أنه لو غاب عنها سنةً أو سنتين أو غاب عنها أكثر مدة، وهي في قول بعض العلماء أربع سنوات، ثم بعد الأربع سنوات جاءها فوجدها حاملاً، فإنه لا يستطيع أن يحلف بالله العظيم -نسأل الله السلامة والعافية- على أنها زنت، لكن هذا الولد لا ينسبه إليه ويحلف على أن هذا الولد ليس بولده، لكن أن يحلف على أنها زنت فلم تر عينه ولم تسمع أذنه، قالوا: في هذه الحالة يلاعن على الولد دون الزنا.
نحن ذكرنا هذه الأحوال لماذا؟ لأن مقصود الشرع أن يبين صدقه أو كذبه، فأحد الأمرين إن كان الرجل كاذباً -والعياذ بالله- فعليه لعنة الله، وإن كانت المرأة كاذبة وهي زانية فعليها غضب الله، نسأل الله السلامة والعافية، وبعد أن حلف الطرفان عويمر وزوجته وهلال بن أمية وزوجته -لأن اللعان وقع في حادثتين- قال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم، أحدكما كاذب، حسابكما على الله)، فإذاً مقصود الشرع أن يُعلم من الصادق ومن الكاذب.
فإذا جاء يوكل غيره أن يحلف فإنه يدفع رهبة الشرع في حلفه باليمين؛ ولو ساغ ذلك لأمكن للشخص أن يفر من تبعة اليمين بتوكيل غيره، لكن الأيمان لا تدخلها الوكالة، ولهذا أيمان اللعان لا تدخلها الوكالة، وكذلك قالوا: أيمان الخصومة لا تدخلها الوكالة، وليس لأحدٍ أن يحلف عن أحدٍ إلا في مسائل مستثناة وستأتينا -إن شاء الله- في كتاب القضاء والأيمان، مثل: أن يحلف الوارث عن مورثه، فتقع مسائل مستثناة سنبينها -إن شاء الله- متى يحلف الإنسان عن غيره؟
**التوكيل في الأيمان
قال رحمه الله: (والأيمان).
وكذلك الأيمان لا تدخلها الوكالة، لا الإيمان ولا الأيمان، فليس لأحدٍ أن يقول لشخص: وكلتك أن تؤمن عني؛ لأن مقصود الشرع أن يكون الإيمان من المكلف بعينه، فإذا وكل الغير فوت مقصود الشرع كما ذكرنا في اللعان؛ لأن مقصود الشرع أن يرهب فيظهر صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يمين اللعان أنه لما شهد عويمر أربعة أيمان، أوقفه عند الخامسة وذكره النبي صلى الله عليه وسلم بربه، وقال له: (اتق الله! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) فحلف اليمين الخامسة، فلما انتقل إلى المرأة وانتهت من اليمين الرابعة أوقفها وقال عليه الصلاة والسلام: (فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، فكادت أن تعترف، فلما استزلها الشيطان قالت: (لا أفضح قومي سائر اليوم) فحلفت الخامسة والعياذ بالله.
فالمقصود: أن هذه الأيمان رهبة، فكما أن أيمان اللعان رهبة كذلك أيمان الخصومات، والمراد بالأيمان هنا: أيمان الخصومة، فلو أن رجلاً ادعى على رجل وقال: لي عند فلان مائة، فسأله القاضي: هل لفلانٍ عندك مائة؟ قال: لا.
يقول للمدعي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، إذاً إلى ماذا يتجه؟ يتجه إلى اليمين، يقول له: إذاً يحلف خصمك اليمين، لكن لو له بينة حُكِمَ بها، سواءً كانت البينة صادقة أو كاذبة، ما دام أنها وثّقت وعُدّلت عند القاضي، فالشاهد أن زيداً ادعى أن له مائةً عند عمرو فقيل لزيدٍ: ألك بينة وحجة وشهود؟ قال: لا.
فحينئذٍ يُطالب عمرو باليمين، وهذه اليمين تسمى: اليمين الغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في النار والعياذ بالله، ومن حلف هذه اليمين يُقال -من السنن التي عُرِفت وشاعت وذاعت- لا تمر عليه السنة بخير، يعني: لا يحول عليه الحول ولا تمضي عليه السنة إلا وتأتيه مصيبة، وهذا معروف، حتى ولو حلف فاجراً بهذه اليمين على شيء تافهٍ يسير، فلا يحلف هذه اليمين وهو يعلم أنه كاذب إلا إنسان -والعياذ بالله- قد تقحم النار.
وهذه خصومة وقعت بين صحابيين في بئر فقال أحدهما: (يا رسول الله! هي بئري وأنا حفرتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً ليس لك إلا يمينه، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر ويحلف اليمين ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر ويحلف اليمين ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب ليقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ لقي الله وهو عليه غضبان)، تصور من لقي الله وهو عليه غضبان نسأل الله السلامة والعافية! وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] و (هوى) من الله ليست بهينة، فقالوا عقب هذا الوعيد الشديد: (يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ -وإن كانت اليمين على شيء يسير- قال: وإن كان قضيباً من أراك) عود السواك، وكان هذا يضرب به المثل على الشيء الحقير، فدلت هذه النصوص على أن مقصود الشرع ترهيب الخصم من الدعوى الكاذبة، وترهيب الخصوم من أكل بعضهم أموال بعض، واعتدائهم على حقوق بعض، فكأن اليمين قصد منها الشخص بنفسه، فإذا جاء يوكل آخر مكانه فوت مقصود الشرع إلا فيما يستثنى من أيمان القضاء كما سيأتي
**حقوق الله التي يصح فيها التوكيل
قال رحمه الله: (وفي كل حق لله تدخله النيابة من العبادات).
أي: وتصح الوكالةُ في كل حقٍ لله، بشرط: أن تدخله النيابة، ويشمل هذا -كما ذكرنا- الحقوق المالية، فأما الحقوق البدنية المحضة فلا تدخلها النيابة.
وعلى هذا: الحقوق المالية التي تدخلها النيابة تنقسم إلى قسمين: الزكوات الواجبة، والكفارات ونحوها.
فأما الزكوات الواجبة فيجوز أن توكل الغير كما ذكرنا.
وأما الكفارات فيجوز أيضاً أن توكل فيها، كرجلٍ حلق شعر رأسه في الحج أو في العمرة لعذر من حجامةٍ ونحوها فأعطى رجلاً مائة، وقال له: يا فلان! أخرج الكفارة عني أو أخرج الفدية عني، فقد وكله في حق لله تدخله النيابة فيصح التوكيل، وهكذا لو أنه ظاهر من امرأته أو جامعها في نهار رمضان وهو صائم فوجبت عليه الكفارة فأعطى رجلاً ألف ريال وقال: يا فلان! اشتر رقبةً وكفر عني، فتصح الوكالة، فيشتري رقبة وينويها عنه كفارةً لظهاره أو جماعه في نهار رمضان، فبالإجماع يصح، هذا بالنسبة لحق الله الذي تدخله النيابة.
ومفهوم ذلك: أن حق الله الذي لا تدخله النيابة وهي فروض الأعيان من غير الأموال، لا يصح التوكيل فيها، فلو قال: يا فلان! صم عني شهر رمضان لا يصح؛ لأن مقصود الشرع أن يصوم المكلف بنفسه، ولو قال: يا فلان! صلّ عني الصلوات الخمس لم يصح؛ لأن مقصود الشرع أن يؤديها بعينه وعلى هذا: لا يصح صومه عن الغير ولا أيضاً صلاته عن الغير، وفي الحج تدخله النيابة لكنها نيابةٌ مشروطة، ويختص الحج بأنه يصح التوكيل فيه في حال العجز، وأما في حال القدرة فلا إلا في حج النافلة، فاختلف: هل يجوز أن يوكل الغير في حج النافلة أو لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله، والفرق بين الزكوات الواجبة والكفارات وبين الحج: أن الحج تدخله النيابة بشرط العجز، وفي الزكوات والكفارات: يستوي أن يكون المكلف عاجزاً أو قادراً.
فتقسم حقوق الله إلى قسمين: حقوق لا تدخلها النيابة ولا تصح الوكالة فيها مثل الصلوات والصيام.
وحقوقٌ تدخلها النيابة وتنقسم إلى قسمين: حقوق تدخلها النيابة بشرط العجز كالحج إذا كان فرضاً.
وحقوقٌ تدخلها النيابة مع العجز والقدرة مثل الزكوات والكفارات
**التوكيل في إثبات الحدود واستيفائها
قال رحمه الله: [والحدود في إثباتها واستيفائها].
الحدود: جمع حد، فحد الزنا وحد شرب الخمر، وحد القذف هذه كلها حدود، وحد الشرع فيها عقوبة معينة، فهذه الحدود فيها جانبان: الجانب الأول: قضائي، والجانب الثاني: أثرٌ لحكم القضاء، والتوكيل إما في الجانب الأول أو في الجانب الثاني، فالجانب الأول القضائي: هو إثبات الحدود، والجانب الثاني: أثر للحكم القضائي وهو تنفيذ الحدود واستيفاؤها، فالعلماء يقولون: التوكيل يكون في إثبات الحد واستيفائه، ففي إثبات الحد: لو أن رجلاً أراد أن يقيم دعوى على شخصٍ لكي يحد حد الخمر فيجوز أن يوكل غيره في إثبات ذلك عنه، فيقوم من يدعي بدلاً عنه ويأتي بالشهود.
وقال طائفةٌ من العلماء: لا يجوز التوكيل في إثبات الحدود، فعلى الوجه الأول يكون الحق لله عز وجل وتدخله النيابة في إثبات الحدود واستيفائها كذلك، فالقاضي إذا حكم بأن زيداً يجلد ثمانين جلدة حد القذف فله أن يأمر وكيلاً أن يقف حتى ينفذ هذا الحكم، وهذا يسمى توكيل في الاستيفاء، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: (يا رسول الله! أناشدك الله إلا قضيت بيننا بالحق -وكان فيه جهل- وقال الثاني -وهو أعلم منه وأعقل منه-: نعم يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً- وقد زنا بامرأته فأخبرت أنه يجب عليّ أن أفتدي منه، فافتدى منه بالمال، فقال صلى الله عليه وسلم: الغنم والوليدة ردٌ عليك وعلى ابنك الجلد، واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، -فاعترفت فرجمها-)، فوكل النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً في الجانبين: أولاً: إثبات الحد فقال: (إن اعترفت)؛ لأنه جعله مكانه يحل محل النبي صلى الله عليه وسلم في البت في هذه القضية، فقال له عليه الصلاة والسلام: (واغد يا أنيس -امضِ واذهب- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) هذا شرط: إن اعترفت فوكله في إثبات الاعتراف.
ثم وكله بالرجم: (فإن اعترفت فارجمها) فصار التوكيل في جانبين في إثبات الحدود، وفي استيفائها، هذا بالنسبة لما اختاره المصنف رحمه الله، ونازع الحنفية -رحمهم الله- في بعض الحدود، وفرق بين حد الحسبة وبين حد العباد كالقذف، فإن القذف فيه شبهة حق للمخلوق.
ولذلك لا تكون الدعوى فيه -في قول جمهور العلماء- إلا من الشخص المقذوف ولا تقبل حسبةً على القول بأنه حقٌ للمخلوق
**الأسئلة
**التفصيل في التوكيل في صدقة الفطر
**السؤال
رجلٌ وكلني أن أدفع زكاة الفطر للفقراء، فلما أخرجتها في وقتها المعتبر طلب مني بعض الفقراء أن أضعها عندي إلى أن يأتي لأخذها في يوم العيد، فهل العبرة بنية دفعها وإخراجها، أم بقبض الفقير لها؟ نرجو التوضيح.
**الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإخراج زكاة الفطر ينبغي أن ينظر فيه إلى الأداء، وتوضيح هذه المسألة يستلزم بيان مسألة الظاهر والباطن، فمن نوى إخراج زكاة الفطر فقد تحقق فيه الباطن، ومن أخرجها بالفعل فقد تحقق فيه الظاهر والباطن، فاجتمعت نيته مع فعله، والشرع قصد الأمرين، ولذلك قال: (وأمر أن تؤدى قبل الصلاة) كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طُعمةً للمساكين، وطُهرة للصائم من اللغو والرفث، وأمر أن تؤدى قبل الصلاة، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات) فدل هذا الحديث على أن العبرة بالأداء.
وبناءً على ذلك: إذا أردت أن تُخرج زكاة الفطر فإن كان الفقير جاء وأخذها منك فلا إشكال، أو وكل من يأخذها منك فلا إشكال، فلو قال للفقير: يا فلان! خُذ عني زكاة الفطر من فلان، فإنه إذا قبضها منك وكيله صح ذلك إذا كان القبض قبل صلاة عيد الفطر.
وعلى هذا: فلو وكل الفقير شخصاً فدفعتها إليه صح ذلك الأداء وهي زكاة، لكن لو أنك نويت إعطاءها له وأخرجتها وفرزتها عن مالك، بل حتى لو أعطيتها لشخص وقلت له: اذهب وأعطها للفقير، فالعبرة بالقبض وليس العبرة بمجرد النية وصورة الأداء؛ لأن المراد وصولها إلى الفقير، فإذا وصلت إلى الفقير فإنه حينئذ يحكم بحسب ذلك: إن كان قبل الصلاة أجزأت وإن كان بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات، فإذا وكل الفقير شخصا وقبضها عنه فإنه بمثابة قبض الفقير نفسه للقاعدة: إن الوكيل ينزل منزلة الأصيل.
وعلى هذا فلو قبض الوكيل زكاة الفطر قبل صلاة عيد الفطر، فلا يخلو من صور: إما أن يقبضها قبل صلاة عيد الفطر ويذهب ويعطيها للمسكين قبل صلاة عيد الفطر فلا إشكال، حيث أُعطيت ووصلت إلى الفقير في الوقت، وإما أن يقبضها ويؤخرها إلى ما بعد الصلاة أو يعطيها أثناء الصلاة ففي كلتا الصورتين لا تأثير لتأخيره في الإعطاء، بل حتى ولو أعطاها للفقير بعد شهر، ما دام أن الفقير قد وكله فإنه ينزل منزلة الفقير وهي صدقةٌ من الصدقات والله تعالى أعلم
**حكم الوكالة العامة في الأموال والتجارة
**السؤال
هل يصح توكيل شخصٍ لشخص في وكالةٍ عامة دون تخصيص بأمرٍ معين، كأن يقول له: وكلتك على القيام بجميع شئوني ومتطلباتي من بيع وشراءٍ وتجارةٍ وغيرها دون تخصيص بأمرٍ معين؟
**الجواب
لا، هو إذا قال: من بيع وإجارةٍ ما، (من) هذه بيانية وفيها شبهة التقييد، لكن إذا قال: وكلتك في كل شيء تدخله الوكالة، فهذا فيه وجهان مشهوران للعلماء: شدد بعض العلماء في الوكالة المطلقة أو العامة وقالوا: لا يصح حتى يبين عمومها، وهذا موجود في مذهب الشافعية والحنابلة أيضاً، والسبب في هذا: قالوا: الغرر؛ لأنه يدخل على نفسه الخطر، فقد يدخل الرجل عليه أموراً لا تحمد عقباها، فقالوا: مثل هذا فيه غرر، ولا يصح التوكيل في مثل هذا، وقال بعض العلماء: يجوز أن يوكله وكالةً مطلقة، ويفوض إليه التصرف في الأمور، وهذا قوي من حيث الأصل، وكلا القولين له وجهه، لكن الاحتياط يرجع إلى قول القائل بأن الوكالة إذا كانت مفوضة ومطلقة من كل وجه فالغرر فيها قوي، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وحديث ابن عمر في الصحيح في ذلك واضح، فكل الإشكال: خوف الضرر، وأياً ما كان فالاحتياط والأولى والأفضل أن يحدد له العموم، يقول له: وكلتك في البيع والشراء عن المرفقات تبيع وتشتري، أو وكلتك في الإجارات، ويحدد له ما وكله فيه، فهذا هو الأشبه وخاصةً في هذه الأزمنة؛ فإن الأزمنة المتأخرة ضعفت فيها أمانة الناس، وأصبح الغرر أكثر، والضرر أكثر، وكم وقعت من الحوادث والمصائب في الوكالة الخاصة فضلاً عن الوكالة العامة.
فكم من أخت وثقت في أخيها الذي هو من لحمها ودمها ومن أقرب الناس إليها، ومع ذلك أكل أموالها وابتز حقوقها، بل وصل الأمر إلى ابن مع أمه أن يبيع عنها ويشتري، ويؤجر عنها ويوقعها في الغرر العظيم الذي لا تعلم به، وإذا بها تفاجأ في يومٍ من الأيام أنه ليس لها من مالها شيئاً، بل لربما فوجئت في يومٍ من الأيام بأنها مطالبة بحقوق، وقد ضاع عليها ما ضاع، وهذا وقع، فتجد المرأة يموت عنها قريبها أو زوجها ويترك لها مئات الألوف، وتثق في ابنٍ من أبنائها وتعطيه وكالة على بيع، بل في بعض الأحيان على عقار مخصوص ويبيعه دون علمها، ويتصرف فيه ويأكل المال، ويفعل فيه ما يشاء والأم جاهلة لا تعلم بشيء، حتى تفاجأ يوماً من الأيام وقد توجهت إليها دعوى في قضاء أو نحوه أنها مطالبة؛ وقد أنها مطالبة بحقٍ ما، فتسأل وإذا بوكيلها قد خانها في أمانتها -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من علامات الساعة: أنه -والعياذ بالله- تنزع الأمانة من الناس حتى لا يبقى إلا الأثر كجمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (كجمر دحرجته على قدمك) أي: لما تنزل الجمرة تدحرج على القدم ما يبقى إلا الأثر الذي تحدثه الجمرة، لكن لو استقرت أحرقت، فهذا فيه إشارة إلى ضعف الأمانة وقلتها في الناس حتى قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) أي: القبيلة بكاملها لا يجدون إلا رجلاً واحداً يتميز بينهم بالأمانة، نسأل الله السلامة والعافية، فيرفع من الناس الأمانة والخشوع، وعلى هذا فالقول الذي يقول بعدم فتح باب الوكالات المطلقة خاصة في هذه الأزمنة من القوة بمكان، فيحدد له محل الوكالة، وهذا أفضل وأحوط وهو مقصود الشرع من فتح باب الوكالة، والله تعالى أعلم
**حكم الشهادة على شهادة الشهود
**السؤال
هل تجوز الشهادة على شهادة الشهود كأن يقول: أشهد أن فلاناً يشهد بكذا وكذا؟
**الجواب
هذه مسألة تعرف بالشهادة على الشهادة، والشهادة على الشهادة في الأصل لا تصح، في الأصل: لا يشهد إلا الشاهد نفسه، ولا يتوكل الغير عنه إلا في مسائل مستثناة، سيأتي -إن شاء الله- بيانها في باب الشهادات، ومن هذه المسائل: أن يموت الأصيل.
مثال ذلك: عندنا وقف عمره ثلاثمائة سنة، وهذا الوقف فيه حقوق شهد بها أناس وعمروا حتى بلغوها لطبقةٍ بعد طبقتهم، فشهدت الطبقة الثانية في المائة الثانية على الطبقة الأولى أن هذا الوقف يختص بآل فلان من بني فلان، ثم بقي الوقف يقسم على هذا النوع من الناس، ثم توفيت الطبقة الثانية فنقلت إلى الطبقة الثالثة التي بعدها أن هذا المال وقفٌ على آل فلانٍ من بني فلان، ففوجئوا في يوم من الأيام وإذا آل فلان الذي هو الفخذ العام يدعي أن له حقاً في هذا الوقف، فلما رُفع إلى القاضي أقيم الشهود على الشهود، فحينئذ لا يمكن أن نأتي بالشهود الأصليين الذين شهدوا على الواقع، فتثبت الشهادة على الشهادة في إثبات الأموال إذا تعذر هذا الشرط، وهو: وجود الشاهد الأصل، والشهادة على الشهادة، قيل: تتركب من حجةٍ على حجة، فيصبح كل شاهدين يشهدان على شاهد، فيكونون أربعة مقام الاثنين، فاثنان يشهدان على واحد، واثنان يشهدان على واحد، وعلى هذا يكون الشهود في الحقوق المالية أربعةً، وعليه يستقيم الحكم لوجود الحاجة، وهذه يسمونها: الشهادة على الشهادة، وقد حكم بها جماهير العلماء رحمهم الله، لكن لا تقبل الشهادة على شهادة الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا تقبل الشهادة إلا على رؤية كالزنا ونحوه، فلو شهد ثمانية على أربعة من الشهود بزنا فلانٍ أو فلانة لم يحكم بهذه الشهادة، وأيضاً: لو شهد ثمانية على شهادة أربعة أو على شهادة شاهدين مركبةً بعضها على بعض في قتلٍ لم يحكم به؛ لأن الدماء والأعراض والحدود هذه كلها تتوقف على شهادة الأصل، ولا بد فيها من شهادة الأصل لثبوت الحد، والله تعالى أعلم
**ضابط الغبن الذي يثبت به الخيار في البيع
**السؤال
ذكرتم أن في حديث عروة البارقي دليلاً على جواز أن يربح الإنسان بأضعاف ما اشترى به، فأشكل عليّ ذلك مع خيار الغبن، والذي يتضمن منع البائع من الزيادة الفاحشة، فما هو التوضيح في ذلك؟
**الجواب
إشكالٌ جيد، ولكنه وفق السائل، أولاً: لكي يتضح الإشكال: خيار الغبن: أن تأتي إلى السوق وتسأل عن كتاب، بكم قيمة هذا الكتاب؟ قال: هذا الكتاب قيمته مائتان، فدفعت له المائتين وأخذته، فلما فارقت الرجل وتم البيع سألت عن الكتاب فإذا قيمته خمسون، هذا غبنٌ فاحش، أي: أن الرجل ظلمك بالاسترسال، والاسترسال: أنك قبلت كلامه واسترسلت معه في البيع دون أن تكاسره، فلما باعه لك غبنك غبناً فاحشاً، فبعض العلماء يقول: البيع صحيح ولا خيار لك؛ لأنك قد رضيت أن تدفع المائتين مقابل الكتاب، والبيع وقع عن تراض، وقال بعض العلماء: لك الخيار؛ لأنك حينما سكتّ كأنك قلت له: قبلت هذا الكتاب بالعرف، وقد ائتمنتك على العرف في بيع هذا الكتاب، فصار غشاً وتدليساً؛ لأنك سكت بناءً على أن العرف أن يباع بمائتين، فإذا تبين أنه يباع بخمسين فقد ظلمك، وهذا الوجه الثاني رجحه غير واحدٍ من العلماء، وقد بينا هذا في الخيارات، وإذا ثبت هذا فنحن قلنا: يجوز الربح أضعاف القيمة، وقد اشترى عروة شاتين بدينار، معنى ذلك أن قيمة الشاة نصف دينار، وباع إحدى الشاتين بدينار، فمعناه أنه ربح (100%) يعني: ربح الضعف، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكيف نقول بخيار الغبن مع أن عروة البارقي اشترى الشاة بنصف دينار وباعها بدينار؟! والجواب في هذا: أن الشاة تباع بدينار وتباع بدينارين على حسب العرف، أي: أن الغبن في الدينار ليس بفاحش، ومحل خيار الغبن في الغبن الفاحش، فعلى هذا: يستقيم أن يجاب بأن الدينار والدينارين قد يكون غبناً غير فاحش، فمثلاً في السوق يباع الكتاب بخمسين ويباع بستين ويباع بسبعين ويباع بثمانين ويباع بمائة، على حسب قوة المشتري في المكاسرة، فأنت إذا جئت واشتريت بستين فقد اشتريت بعرف، ولو اشتريت بمائة فقد اشتريت بعرف، فـ عروة البارقي اشترى الشاة من الجلب، والجلب أرخص من السوق، ثم باعها في السوق، وعلى هذا: لا يمنع أن تكون قيمة الشاة جلباً خمسين، وقيمتها في السوق مائة أو تكون قيمتها في الجلب نصف دينار وقيمتها في السوق ديناراً، وعلى هذا لا يستقيم الاعتراض، ويكون من باب بيعه بالعرف، فيجوز أخذ الأرباح الكثيرة إذا لم يكن في ذلك الغبن الفاحش، كذلك يمكن أن تقول: إنه يجوز أن يقول له: يا فلان! السيارة قيمتها في السوق عشرة آلاف، وأنا لا أبيعها إلا بثلاثين ألفاً، وهذا من حقه، فإنه لو كشف له الأمر وقال: قيمتها بالسوق عشرة وأريد أن أبيعها بثلاثين فحينئذٍ يستقم لنا أن نحتج بحديث عروة البارقي؛ لأن الشرع لم يحد ربحاً معيناً، فإذا قال له: رضيت أن أشتريها منك بثلاثين ألفاً فإن الله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وهذا قد رضي دفع الثلاثين فصح البيع ولا يحكم بالفساد، والله تعالى أعلم
**أحكام الجاهلية مردودة بحكم الشرع
**السؤال
ورد أثناء الدرس قوله صلى الله عليه وسلم: (الوليدة والمال ردٌ عليك) فما المراد بقوله: (الوليدة)؟
**الجواب
هذا من حكم الجاهلية، حيث كان في الجاهلية إذا زنى الرجل بامرأة الرجل يعطيه وليدة وهي الجارية، يعطيه وليدة أو يعطيه غلاماً، فقال له: (الوليدة والغنم رد عليك)؛ لأنه افتدى، فيصير كأنه حق للزوج الذي أفسد عليه فراشه، فيدفع له مالاً كالغنم، ويدفع له الوليدة الأمة الحامل أو بدون حمل على حسب ما يتفقان، فهذا من حكم الجاهلية، وهي الأعراف التي كانت في الجاهلية مثل ما يقولون: الحقوق والسلوم، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكم ورده وقال: (على ابنك جلد مائة، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها -فاعترفت فرجمها-)، فرد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المال، وفيه دليل على أنه: إذا أُلزم الشخص في خصومة وقيل: عليك الحق وتذبح شاة أو عليك الحق وتدفع مالاً، أنه من حكم الجاهلية، ويكون من أكل المال بالباطل؛ لأن الله لا يحكم بذلك، وأموال الناس لا تستحق إلا بحكم الله سبحانه وتعالى، فهذا الحديث أصل من الأصول في رد هذه الأحكام والأعراف ونحوها، والله تعالى أعلم
**بطلان الوكالة في الرضاع
**السؤال
ذكر العلماء -رحمهم الله- عدم جواز الوكالة في الرضاع فما صورة ذلك؟
**الجواب
معناه: لو أن امرأةً قالت لامرأةٍ: أرضعي عني فلاناً، فالابن رضيعٌ لمن ارتضع منه، فلو قلنا: إن الوكالة صحيحة فمعنى ذلك: أنه يكون ابنأ للأصيلة، وهي المرأة التي أمرت بالرضاع، وعليه فيقال: الوكالة باطلة، ويثبت أنه ابنٌ للمرأة الموكَلة لا المرأة الموكِلة، وعلى هذا لا تصح الوكالة كحكم، أي: لا يترتب عليها أثر الرضاع، وإنما يكون الولد ولداً للمرأة التي أرضعت لقوله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] فخص الحكم بالأم التي أرضعت، فكما لا يصح في النسب أن يثبت وكالةً، كذلك لا يصح في الرضاع أن يثبت وكالةً، والله تعالى أعلم
**حكم من أدرك الإمام في الركعة الرابعة ثم قام الإمام للخامسة
**السؤال
رجل أدرك الإمام في الرابعة ثم قام الإمام للخامسة فسبح المأمومون فلم يعد، وقام معهم، فهل يعتد بهذه الركعة بالنسبة للرجل فتكون ثانية له؟
**الجواب
إذا زاد الإمام ركعةً في الصلاة كالثالثة في الفجر، والخامسة في الظهر والعصر والعشاء، والرابعة في المغرب فتسبح له، فإن كان فقيهاً وطالب علم يعلم الأحكام وأشار إليك: أن قم، وخاصةً إذا كانت سرية فتقوم؛ لأن الغالب أنه نسي ركناً كالفاتحة فيريد أن يخبرك لتقوم معه وتتابع؛ لأن فيه شبهة الأمر بالمتابعة، أما إذا لم يشر، ولم يكن من طلاب العلم، فسبحت له فإن كنت على يقين أنه مخطئ فلا تتابعه ولا تستمر معه في هذه الركعة، فمن تابع الإمام في ثالثة في الفجر أو خامسةٍ في الظهر والعصر والعشاء فإنه تبطل صلاته، ويلزم بالإعادة؛ لأنه زاد في صلاته عالماً متعمداً، وأما إذا كان مسبوقاً كما ورد في السؤال أو جئت في الركعة الثانية من الظهر فقام الإمام واستحدث بعدها ركعة فإنه يجوز لك أن تتابع الإمام؛ لأن الإمام معذور في هذه الزيادة لحكم الشرع له أن يعمل بظنه، وأن يترك ظن غيره إذا استيقن، فحينئذٍ إذا كنت قد أتممت صلاتك فإنك تجلس في التشهد، ولا تسلم حتى ينتهي الإمام من الخامسة ويتشهد ويسلم بك؛ لأنه يجوز أن تفارقه لعذر فتتقيد بوجود العذر، وهو الزيادة، وأما التشهد فتشاركه فيه وتطول في الدعاء وتنتظر حتى ينتهي من خامسته، ثم يدعو ويتشهد، ويدعو ويسلم بك إلحاقاً بصلاة الخوف كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، حيث تشهد بالطائفتين وسلم، وانتظرته الطائفة الأولى وسلمت بسلامه فدل على أنه لا ينقطع الاقتداء.
وأما بالنسبة لك أنت كمسبوق، فإنك تصلي معه الخامسة، وتصبح صلاتك صحيحة على قول من قال: يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، فهو في الخامسة متنفل، وأنت فيها مفترض، ويجوز اقتداء المفترض بالمتنفل في هذه المسألة ونحوها، وعلى هذا فصلاتك صحيحة، وصلاة الإمام على هذا الوجه صحيحة، والله تعالى أعلم
**دخول ربا النسيئة في الصرف عند عدم التقابض
**السؤال
لو اشتريت وبقي لي مبلغ عند البائع، ولم يوجد عنده الباقي ونويت أنه دين، ثم أتيت وأخذت بهذا الدين شيئاً، فهل هذا صحيح؟
**الجواب
إذا اشتريت شيئاً بثمنٍ ودفعت أكثر منه، فحينئذٍ يكون العقد مشتملاً على عقدين، مثاله: اشتريت بعشرة ودفعت خمسين، فحينئذٍ إذا اشتريت الكتاب بعشرة، فالعشرة مقابل الكتاب بيع، والأربعون الباقية من الخمسين صرف، فأصبح عقد بيعٍ وعقد صرف، وعقد الصرف: مبادلة المال بالمال في أحد النقدين الذهب أو الفضة، والأوراق النقدية مُنزلة منزلة أصولها، ولذلك وجبت فيها الزكاة، فهي إما ذهب وإما فضة على حسب رصيدها، فإذا جئت تدفع العشرة مقابل الكتاب فهذا بيعٌ لا إشكال فيه، لكن الأربعين الباقية يجري عليها حكم الصرف الشرعي، فيجب عليك كما لو صرفت الخمسين بخمسين: أن يكون يداً بيد، فتعطيه الخمسين وتستلم، قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فدل على لزوم التقابض، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا اختلفت -أي في الصرف- هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وعلى هذا فلا يجوز أن تبقي الباقي عنده، فإن أبقيت الباقي عنده فإنه صرفٌ بنسيئة، ومتى افترق المتصارفان دون أن يحصل القبض للثمنين أو لأحدهما فهو ربا النسيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، وعلى هذا فأنت بالخيار بين أمور: الأمر الأول: إذا كان عندك خمسين وليس عنده صرفها فإنك تقول له: اذهب واصرف، فيذهب وكيلاً عنك بالصرف فيصرف الخمسين ويعطيك صرفها، فتعطيه حقه وتستلم حقك، هذا توكيل بالصرف ولا إشكال فيه.
الحالة الثانية: أن تقول له: إني لا مال عندي أعطيك الآن إلا هذه الخمسين فإن شئت فاصرفها وإن شئت فاجعل مالك ديناً عندي أي: قيمة الكتاب وهي العشرة، فتفارقه ثم تجعل العشرة ديناً عليك فتذهب وتعطيه إياها متى ما صرفت، على حسب ما تتفقان عليه من الوقت، أو تقول له: انتظر حتى أصرف الخمسين وتذهب بنفسك وتصرف الخمسين ثم تأتي وتعطيه ماله، أما إذا بقي عنده شيء فيسمى: بيع وصرف، والصرف هنا ليس فيه تقابض، وهو عين النسيئة التي أجمع العلماء -رحمهم الله- على تحريمها، وهي أشد أنواع الربا الذي: (لعن الله آخذه وآكله وموكله وكاتبه وشاهديه) فأمرها عظيم، ولذلك يقول العلماء: إنه قد يشيب عارض الرجل في الإسلام وهو يُعلن الربا صباحاً ومساءً، يعني: يتعامل بالربا وهو لا يعلم، حيث يقصر في السؤال والاستبيان، فلا بد وأن تأخذ يداً بيد، فإذا صرفتما ووقع التقابض فلا نسيئة وإلا فهو النسيئة التي حرم الله، والله تعالى أعلم
**الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم
**السؤال
إذا كان لطالب العلم أكثر من درسٍ يواظب عليه فعند الضبط والمراجعة تتداخلُ عليه الدروس، وتكثر عليه المسائل، فما الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم؟
**الجواب
أما بالنسبة لتعدد العلوم، واختلاف المشايخ في الطلب فهذا يؤثر كثيراً على طالب العلم، ولا يضبط العلم مثل الانحصار والتقيد وكثرة المراجعة، وهذا معروف حتى في زمان السلف، فإنك لم تجد صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وله طلاب يأخذون عنه؛ لأن الخلاف وقع في الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته عليه الصلاة والسلام فالصحابة كانوا آخذين عنه العلم، لكن بالنسبة للصحابة تجد لكل صحابي أصحاباً، فتجد لـ ابن عمر أصحاباً كـ نافع وسالم ابنه ونحوهم من تلامذة ابن عمر، وتجد أصحاب ابن عباس كـ مجاهد وعطاء وعكرمة ونحوهم من تلامذته، وتجد لـ ابن مسعود علقمة وغيره من أصحابه رضي الله عنه.
فهذا التنوع الذي كان عند الصحابة رضوان الله عليهم لما بذلوا علمهم انحصر التابعون، فأخذوا عن كل واحد؛ ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم زيد بن ثابت وأخذ عنه ونبغ في علم التفسير؛ لأن زيد بن ثابت كان من أعلم الصحابة بالقرآن؛ لأنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي زيد رضي الله عنه بكى أبو هريرة بكاءً شديداً، وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً ولعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) فكان ابن عباس منحصراً في زيد؛ لأنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن عباس حدثاً صغير السن مقارباً للبلوغ، فأراد أن يطلب العلم فانحصر في زيد وأخذ عنه، فقال أبو هريرة: (لعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) يعني: عن زيد فالانحصار ليس المراد به التعصب، إنما المراد أن تبحث عن من تثق بدينه وعلمه وأمانته ممن أخذ العلم -هذا الشرط- عن أهله واتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ممن أخذ العلم عن الكتب فأخذ علماً لا يوثق به؛ لأنه إذا أخذ عن كتب تشتت وتعددت أصوله، وتفرقت إشكالاته واختلفت، فالذي أخذ العلم وطلبه عن أهله ممكن أن ينحصر فيه طالب العلم.
فإذا نظرت أنك تستطيع أن تجمع بين درسين في الأسبوع أو ثلاثة بالأكثر، وتضبطها فحيّ هلا! أما إذا كان العلم الذي تأخذه في الدرس يحتاج إلى ضبط وتكرار فلا تضبط العلم إلا بالانحصار، فإذا انحصرت في العالم وأخذت عنه وارتويت من علمه وضبطت ما عنده انتقلت إلى غيره، وهذا هو الذي كان عليه العلماء رحمهم الله والأجلاء؛ ولذلك انظروا إلى أصحاب ابن عباس فإنك إذا جئت إلى المسائل الخلافية -بالاستقراء والتتبع- تجد القول عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عباس، تجدهم يقولون: وبه قال نافع وسالم بن عبد الله ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير، فيعدد أصحاب الصحابيين؛ لأنهم أخذوا الفقه وضبطوه عنهم، المهم أن تأخذ بالدليل، والمهم أن لا تتعصب لشيخك إذا خالف الدليل، ولكن إذا أخذت عن شيخٍ يوثق بعلمه بدليل وحجة فاستمسك بالحجة والدليل، فإن خالفه أحد وعارضه أحد يقول لك: هذا معارضٌ للسنة؛ فلربما جاءك الغير بدليل يتوهم أنه حجة وأنه سنة، والواقع أنه دليل مطعون في سنده، أو مجاب بدليل عنه أقوى منه، وعلى هذا تقول بقول العالم، وتنحصر في علمه وتأخذ عنه وتضبط، حتى تصل إلى ما وصل إليه، كمثل مشايخنا الكبار -حفظهم الله وأدام الله عليهم العفو والعافية، وأبقاهم للإسلام والمسلمين- هؤلاء العلماء الأجلاء الأتقياء الذين عُرِفوا بالخير والصلاح وزكتهم الأمة، حينما يأخذ طالب علم عن عالم منهم، ويأخذ هذا العلم بدليله وحجته يلقى الله عز وجل يوم القيامة وقد أخذ العلم بالاتباع، وما جاء بعلم من عنده فشذ، وجاء بالآراء الغريبة، فمثل هؤلاء العلماء الذين عُرِفوا بالأمانة لا يأتون بالأهواء ولا يخبطون خبط عشواء، وإنما يأخذون العلم بحجة، ويسلكون السبيل والمحجة، لهم قدمٌ راسخة من سلفٍ صالح، وأئمة يهتدى ويقتدى بهم، فمثل هؤلاء يعض على علمهم بالنواجذ، فإن وجد قولٌ يخالف قولهم بدليل، وظهرت قوته، وأثرت أنواره وحجته، فإننا نعدل عن هذا القول بحجة هي أقوى وسبيل أبلغ في الرضا، ونعتذر لعلمائنا ومشايخنا بما يليق به الاعتبار، وهذا هو مسلك العلماء والأئمة، أما تعدد الدروس واختلافها فإنه يحدث عند طالب العلم ربكة، ويحدث عند طالب العلم الاضطراب، خاصةً فيما يشترط فيه اتحاد في الأصول، فالفقه إذا قرأته على شيخ ينبغي أن لا تقرأ أصول الفقه إلا بهذا الضابط؛ لأنه لا يستقيم أن تقرأ الفقه على عامل يرجح أن المفهوم حجة، وتقرأ أصول الفقه على يد عالم لا يرى أن المفهوم حجة، فأنت في الأصول تصحح قولاً تخالفه في الفروع والتطبيق وهذا هو الذي جعل العلماء في المذاهب الأربعة يهتمون بتقعيدها وبيان أصولها، حتى يكون استنباطك للنصوص وعملك بالأدلة على قاعدة صحيحة، وعلى هذا درج سواد الأمة الأعظم، فلن تجد عالماً إلا وقد أخذ الفقه من أصل ومذهب بالدليل ولم يتعصب ألا للدليل، فنحن نريد علماً صحيحاً موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مأخوذاً عن الأئمة، لكن بدون شتات وفرقة حتى يستطيع طالب العلم أن يصل إلى الحق بأقرب سبيل، وأوضح معنى.
نسأل الله العظيم الجليل أن يرزقنا الصواب والرشاد، وأن يجعلنا من أهل الصبر، وأن يثبتنا عليه إلى أن نلقاه، وأن يحشرنا في زمرة نبيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (339)
صـــــ(1) إلى صــ(20)
شرح زاد المستقنع -** باب الوكالة [3]
الأصل في الوكالة أن يقوم الوكيل بأداء ما وكِّل بالقيام به، لكن قد يحدث أن الوكيل يوكل غيره للقيام بهذا العمل، وهذا له حالات وتفاصيل.
وأما الوكالة من حيث هي فهي عقد جائز ليس بلازم؛ لأن المقصود بها الإرفاق، ولها مبطلات كشأن سائر العقود
**حكم توكيل الوكيل لغيره
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فكان حديثنا عن باب الوكالة، ولا زال المصنف رحمه الله يبين المسائل والأحكام المتعلقة بهذا الباب الذي تعم به البلوى، ويحتاجه الناس في كل زمانٍ ومكان، وشرع بهذه الجملة في بيان مسألة توكيل الوكيل لغيره، فقد تطلب من شخصٍ ما أن يقوم نيابةً عنك بأمرٍ ما، وأنت تقصد أن يقوم به بنفسه، فيفوض ذلك الأمر ويكله إلى غيره، وحينئذٍ يرد
**السؤال
هل يجوز له أن يقيم ذلك الغير مقامه، أو لا يجوز؟ ثانياً: حينما أقام ذلك الغير مقامه فلربما تصرف تصرفاً فيه ضرر، فهل يضمنه الموكل الأصلي، أو يضمنه الوكيل؟ بعبارةٍ أخرى: هل هو وكيلٌ عن الأول، أو الثاني؟ وهذا كله يحتاج الناس إلى بيان حكمه.
ومن هنا بين رحمه الله القاعدة فقال: [ليس للوكيل أن يوكِل فيما وُكِّل فيه].
أمثلة هذه المسألة: قد تأتي إلى صديق لك أو أخ لك وتقول له مثلاً: بعْ لي هذه العمارة، فهذا الأخ أو هذا الصديق قد يتولى أمرها بنفسه، أو يذهب إلى مكتب عقارٍ فيوكل صاحب المكتب بالبيع، هذا مثال، وبناءً على ذلك يرد السؤال: هل لك إذا وُكِّلت من الغير أن توكل فيما وُكِّلت فيه، أو لا؟ هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل.
أولاً: إذا وكِّل الشخص في عمل أو وُكِّل للقيام بمهمةٍ من بيعٍ أو شراءٍ أو إجارةٍ أو غير ذلك، فلا يخلو هذا الشخص الذي يوَكَّل وهو الوكيل من حالات: الحالة الأولى: أن يوكل في شيء لا يقوم به مثله عُرفاً، وسنذكر مثال ذلك وحكمه.
الحالة الثانية: أن يوكل في شيء يمكنه أن يقوم به لكن بمعونة الغير.
الحالة الثالثة: أن يوكل في شيءٍ يمكنه أن يقوم به وحده.
فهذه ثلاثة أحوال: إما أن يوكل في شيء جرى العرف أن مثله لا يقوم به، وإما أن يوكل في شيء يمكنه أن يقوم به بنفسه ولكن بشرط أن يوجد من يعينه على ذلك الشيء، وإما أن يوكل بشيء يمكنه أن يقوم به بنفسه دون أن يحتاج إلى غيره، فهذه ثلاثة أحوال سنفصل أحكامها
**ان يوكل في شيء لا يقوم به مثله عرفاً
الحالة الأولى: أن يوكل في شيء لا يمكنه أن يقوم به بنفسه عُرفاً، مثال: لو قال شخصٌ لآخر: اكنس لي أو نظف لي هذه العمارة، أو نظف لي -أكرمكم الله- دورات العمارة، فالعلماء رحمهم الله ذكروا هذه الحالة؛ لأنها توجد بين الناس، ومن الناس من يطلب من أخيه أو صديقه أو رفيقه أن يقوم بعملٍ ليس مثله يقوم به، ففي هذه الحالة إذا قلت لشخص: نظف لي العمارة، أو اكنس لي العمارة فهمنا أنك تقصد أن يأتي بشخصٍ يقوم بذلك، فهي في الأصل وكالة للشخص، لكن المقصود منها أن يقيم غيره مقامه، في هذه الحالة إذا طلبت من شخصٍ ليس مثله يقوم بالعمل أن يقوم بذلك العمل، نقول: الوكالة باللفظ له، ولكنها بالعُرف متضمنةً للإذن بالغير، فعلى هذا: يجوز أن يوكل غيره مقامه، وفي هذه الحالة شبه إجماع، أن الشخص لو قال لآخر: نظف لي العمارة، أو اكنس لي العمارة، أو اكنس لي البيت أو الدار، أو اكنس لي البركة، أو نظف لي دورة المياه -أكرمكم الله-، أو أي شيء ليس مثله يقوم به فإنها وكالةٌ منصرفةٌ في الظاهر إلى المخاطب، وفي الباطن إذنٌ أن يقيم غيره مقامه.
فنستثني من قول المصنف: (ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه)، ما إذا كان وكل بشيءٍ ليس مثله يقوم به، لكن الإشكال ليس هنا، وإنما حينما قال له: اكنس لي العمارة، أو نظف لي العمارة، فيرد
**السؤال
هل إذا قال له هذه الكلمة وذهب وجاء بشخصٍ آخر يقوم بالكنس، هل هذا الشخص الآخر الذي يقوم بهذا العمل وكيلٌ عن الأصل، أو وكيل عن الوكيل؟ وهذا أمرٌ مهم جداً، فعندما تقول للشخص: أصلح لي الباب، ومثله ليس بنجار، أو أصلح لي السقف، وليس مثله بنّاء ليصلح السقوف، أو أصلح لي السيارة وليس مثله يصلح، فهل أنت بهذه الجملة قصدت له: اطلب من يصلحها، فيصبح لك وكيلاً، الوكيل الأول الذي خاطبته، والوكيل الثاني الذي يقيمه مقامه.
فائدة هذا السؤال أنك لو قلت: إن الموكل حينما تلفظ وكّل الاثنين، فلو أنك طلبت منه أن يصلح سقف البيت فأبرم عقداً لمدة شهر لإصلاح السقف، وأثناء الشهر توفي ذلك الوكيل، فإن كان الثاني -الذي هو العامل- وكيلاً عنك، يعني: وكلت الاثنين، فلا تنفسخ الوكالة، ويبقى العقد كما هو، وإن كان وكيلاً عن وكيلك فحينئذٍ يحتاج إلى تجديد؛ لأن الوكالة قد انفسخت.
وقال بعض العلماء: أُبرِم العقد وتم فلا يحتاج إلى تجديد؛ لأنه من العقود اللازمة؛ لأنه من عقود الإجارة، وبناءً على هذا: في حالة ما إذا كان موكلاً للغير وهذا الغير لا يقوم بذلك كإصلاح السيارات وإصلاح البيوت وتنظيفها أو نحو ذلك وليس مثله ممن يقوم به فإنه يصح له أن يوكل غيره ويقيمه مقامه
**أن يوكَّل في شيء يحتاج فيه إلى معونة الغير
الحالة الثانية: أن يكون الأمر المطلوب يمكنه أن يقوم به ولكن يحتاج إلى معونة الغير فيه، ومن أمثلة ذلك: العامل في المزرعة، أو الحارس في العمارة مثلاً، تقول له: يا فلان! نظّف لي العمارة، فإنه بطبيعة الحال سينظفها ولكن يحتاج إلى من يعينه إلى تنظيفها، فمثلاً قلت له: أريد تنظيف هذه العمارة هذا اليوم، فيفهم بداهة إذا كانت عمارة كبيرة أن للمقصود: التمس معك من يعينك على تنظيفها، بناءً على ذلك يصبح لك وكيلاً، الوكيل الأول الذي خاطبته، والوكيل الثاني الذي يقيمه معه، وذهب جماهير العلماء في هذه الحالة إلى أنك لو قلت للعامل أو قلت لشخص تعلم أنه يحتاج إلى معونة الغير: افعل لي كذا فأنت موكلٌ للاثنين، موكلٌ للوكيل الأصلي وموكل لمن يوكله معه.
لكن هنا مسألةٌ مهمة وهي: إذا كنا نقول في الحالة الأولى والحالة الثانية أن من حق الوكيل أن يوكل غيره، فلا بد من بيان شرط مهم وهو: أنه لا يصح لهذا الوكيل أن يقيم معه الغير أو يوكل الغير إلا إذا كان أهلاً للقيام بالعمل، فأنت لا تتحمل المسئولية، لو قلت له: يا فلان! نظف لي العمارة أو ابن لي السقف أو ابن لي الجدار أو الغرفة أو ازرع لي الزرع، فذهب وجاء معه بشخصٍ آخر إذا كان مشاركاً، أو طلب شخصاً آخر يقوم بهذا العمل فإنك لا تتحمل مسئوليته إلا إذا كان على صفتين: الصفة الأولى: أن تكون عنده أهلية القيام بهذا العمل.
الصفة الثانية: مسألة العدالة فيما يحصل فيه الضرر بفواتها.
فمسألة العلم بالعمل مهمة، فلو أنك قلت لرجلٍ: ابن لي الدار أو نظّف لي الدار وليس مثله يقوم بذلك، واستأجر أجيراً لا يحسن تنظيف العمارة ولا الدار، ثم لما جاء يقوم بعمله أخل بذلك العمل، فلما أخل به قال لك: أنت وكلتني ولا بد أن تدفع أجرته.
ففي هذه الحالة: لا تكون ملزماً إلا أن يقدر مقدار عمله الطيب الذي يستحق عليه أجرة، والباقي لا تتحمل مسئوليته، مثال ذلك: ذهب واستأجر عاملاً باليومية -بمائة ريال- أو أخذه مقاولة واتفق معه على خمسمائة، فلما قام بتنظيفها نظفها بمقدار نصف العمل أي: لم ينظف تنظيفاً متقناً، وإنما نظف تنظيفاً مخلاً، بحيث أنك ترى الغرفة عليها آثار الغبار وغيره، لأنه لا يحسن العمل، فحينئذٍ بعد إن انتهى من التنظيف قال لك: ادفع لي خمسمائة ريال أجرة العامل، فذهبت تنظر في عمل العامل وإذا بعمله ليس بمتقن، وليس بأهل أن يأخذ عليه هذه الأجرة، فسألت أهل الخبرة فقالوا: هذا نصف التنظيف، أو اجتهدت وأنت تعرف أنك ما ظلمته فقدرت عمله على أنه نصف عمل تقول له: خذ مائتين وخمسين، فتعطي وكيلك المائتين والخمسين ريالاً، ثم الباقي يتفاهم فيه مع العامل، أما من حيث إلزامك أنت فلا تلزم إلا بما يستحقه الأجير؛ لأنه في هذه الحالة لما أذنت له أن يقيم الغير مقامه بالعرف لا بد وأن يكون هذا العامل أهلاً بالعرف، فلما قصر الوكيل في التحري في صفة العامل وقصر في جلب من هو أهل لذلك يتحمل مسئولية الضرر.
إذاً نقول في هذه الحالة: لو أقام غيره مقامه أو أقامه معه، فلا تتحمل مسئولية ذلك الغير إلا إذا كان أهلاً، هذا الشرط الأول.
فلو أنه -مثلاً- جاء بعاملٍ وهذا العامل لا يحسن العمل في الكهرباء، وقلت له: أصلح لي الكهرباء في العمارة أو البيت، بمعنى: اذهب وانظر لي من هو أهل للقيام بذلك، فذهب إلى السوق وجاء بمن لا يحسن العمل بهذا الشيء، فلما جاء ليقوم بهذا العمل أضر بنفسه -أصابه مثلاً (شورت كهرباء) ومات- في هذه الحالة لا تتحمل المسئولية؛ لأنك لم تطلب منه أن يقيم كل شخص، فأنت حينما قلت له: وكلتك أن تصلح الكهرباء أو الماء فيها أو جدارها أو أرضها أو سقفها كأنك تقول: وكلتك أن توكل من هو أهل بالعرف، فكما أن العرف يصرف الوكالة عن الشخص نفسه إلى شخصٍ آخر، كذلك العرف يقيدها بمن هو أهله.
إذاً: الخلاصة حينما قلنا في الحالتين: أن من حق الوكيل أن يوكل غيره فإننا نشترط أن يكون أهلاً، وإذا لم يكن أهلاً فلا يتحمل الوكيل الأصيل مسئوليته.
ثانياً: أن يكون ممن توفرت فيه الأمانة والعدالة حتى لا يحصل الضرر بالإخلال، فلو أنه أقام شخصاً خائناً فجاء ووضعه وائتمنه على المال فسرق المال، فحينئذٍ هذه السرقة وقعت من الوكيل الثاني، وأنت حينما وكّلته وكلته بالعرف، فيتحمل الوكيل المسئولية عن السرقة ولا تتحملها أنت؛ لأنه وإن قلنا في هذه الحالة أنه من حقه أن يأتي بوكيل، لكن بشرط أن يتحمل، والدليل على أننا نلزمه بالضمان أنه في هذه الحالة قصر، والشرع يلزم من قصر بالضمان، ولذلك: قواعد الشريعة وأصولها دالة على أن من تحمل مسئولية شيء ونزل مكان الأصيل فإنه يتحمل الضرر الناشئ عن الإخلال بذلك الشيء، وتوضيح ذلك أكثر بعبارة مختصرة: أن الوكيل الثاني كان الأصل يوجب عليه أن يسأل في السوق، وأن يتحرى حتى يجد الأهل لذلك فيقيمه مقامه، فلما قصر في السؤال والتحري تحمل مسئولية الإخلال، ولذلك أي شخص يطلب منك أمراً أو يوكلك في أمر وأنت لا تحسنه، وأردت أن تقيم مقامك غيرك، أو دل العرف على أنه أراد أن تقيم غيرك مقامك، فينبغي أن تتحرى وأن تجتهد وأن تحب له ما تحب لنفسك، وأن تكره له ما تكره لنفسك ولا تذهب لكل أحد، فإنه لو كان العمل لك هل تقبل كل عامل؟ وهل ترضى بكل عامل؟ فكما أن الإنسان لا يرضى بالضرر على نفسه فإنه إذا كان وكيلاً عن غيره فعليه أن يتقي الله، وأن يعلم أنه مؤتمن وأن الغير ائتمنه فعليه أن يؤدي هذه الأمانة بالتحري والسؤال، فإذا جاء -مثلاً- يشتري أدوات الكهرباء يسأل صاحب المحل عن أحسن من يوثق فيه، أو يسأل: من الذي يستطيع أن يبحث لي عن عامل لي أمين؟ ويتحرى ويجتهد، فإذا بذل ما عنده فحينئذٍ لا يتحمل المسئولية
**أن يوكَّل في شيء يقوم به بنفسه دون حاجة إلى غيره
الحالة الثالثة: أن يوكل فيما يقوم فيه بنفسه، فلو قلت لرجلٍ: بع لي السيارة أو بع لي الأرض، أو مثلاً: مكاتب العقارات الآن، فتأتي إلى صاحب مكتب عقار وتقول له: يا فلان! وكلتك أن تبيع لي عمارتي الفلانية، قال: إذاً سأقوم بذلك، فإذا قلت له: وكلتك أن تقوم ببيع عمارتي الفلانية، فذهب إلى مكتب عقارٍ آخر واتفق معه، وبيعت العمارة، وجاء يسألك الأجرة وأنت قد قلت له: وكلتك أن تبحث لي عن من يشتري عمارتي أو وكلتك أن تشتري لي عمارة وأعطيك خمسة آلاف أعطيك ثلاثة آلاف أو أعطيك ألفين -لأنه ما يجوز أن أقول لك: آخذ منك اثنين ونصف في المائة، وهذا سيأتينا إن شاء الله في الإجارة؛ لأنه إذا كانت قيمة الأرض مجهولة فهي إجارة بالمجهول كأن تقول: أريد (2.
5%) من القيمة ما ندري، قد تكون قيمة الأرض مليون ريال وأخذ اثنين ونصف في المائة من المليون ليس سهلاً، وقد تكون خمسمائة ألف، فالجهالة في الأجرة موجبة للبطلان كما قررناه في مسائل البطاقات، وإن شاء الله بإذن الله سنفصل هذه المسألة في باب الإجارة-.
الشاهد: أنك لو قلت لصاحب المكتب: التمس لي أرضاً بصفة كذا وكذا أو في موقع كذا وكذا وأعطيك ألفين أو ثلاثة آلاف، فذهب صاحب المكتب وتقاول مع مكتبٍ آخر ثم جاءك وقال: إني قد وجدت لك أرضاً بنصف مليون، ولكن فلان صاحب المكتب يطالبني بخمسة آلاف؛ فتعطيني مع الألفين التي اتفقنا عليها ألفين ثانية أو خمسة آلاف أو ثلاثة آلاف، فتقول له: أنا وكلتك والوكالة بيني وبينك، وهذا الوكيل الثاني لم أوكلك به؛ لأن العمل يختص بك أنت، وتستطيع أن تقوم به لوحدك، فحينئذٍ أنت الذي تتحمل مسئولية من أقمته معك، وأنا لا أتحمل من حيث الأصل ما دام هذا عملك وقد وكلتك، فمعنى قولي: التمس لي من يستأجر عمارتي أو يشتري أرضي أو التمس لي أرضاً أو عمارةً فإنني في هذه الحالة وكلتك ولم أوكل غيرك، فهذا الغير الذي أقمته معك أنت الذي تدفع أجرته، وأنت الذي تتحمل مسئوليته وليس لي من دخلٍ في ذلك، هذا إذا كان وكله على أن يقوم بعملٍ يمكنه أن يقوم به لوحده؛ لأن مكتب العقار في الأصل يقوم بالعمل لوحده، ولكن كونه يستعين بالغير هذا في حالات استثنائية أو في حالات شاذة، لكن في الأصل أن مكتب العقار هو الذي يقوم بهذا العمل، وهو الذي يتحمل شراء الأشياء وبيعها وإجارتها ونحو ذلك، وبناءً على ذلك لا تتحمل أجرة هذا الوكيل الثاني.
قال المصنف رحمه الله: [وليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكِّل فيه].
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة في الحالة الثالثة بالخصوص، أما من حيث الأصل إذا قال الوكيل لموكله: وكلتك، فلا يخلو من صورتين: الصورة الأولى: أن يقول له: وكلتك ولا أسمح لك أن توكل غيرك، فإن قال له: وكلتك ولا أسمح لك أن توكل غيرك فبالإجماع ليس للوكيل أن يوكل فيما وُكّل فيه، هذا إذا قال له: وكلتك ولا آذن لك أن توكل غيرك ففي هذه الحالة بالإجماع لا يصح أن يوكل غيره معه، ولا يصح أن يوكل غيره بدلاً منه.
الصورة الثانية: صورة المسألة التي معنا، أن يقول له: وكلتك في بيع الأرض، مثل ما ذكرنا في مكتب العقار، ومكتب العقار يمكنه أن يتوكل لوحده، فهل لمكتب العقار أن يوكل غيره من أفراد الناس أو جماعتهم أو من مكاتب العقار أو غيرها؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة -رحمةُ الله عليهم- أنه لا يجوز للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه من حيث الجملة، وقالوا: إن الوكالة منصبة على شيء، إما بذلاً وإما أخذاً كمنفعة عين إلخ على حسب العقود، وهذا الشيء ملكٌ للأصيل، فإذا أذن للوكيل فإن غير الوكيل أجنبي وليس للوكيل أن يقيمه مقامه؛ لأنه أذن للوكيل وحده، فلا يجوز التصرف في أموال الناس وأملاكهم إلا بإذنٍ منهم، والإذن هنا خاصٌ بالوكيل وليس له أن يوكل غيره، هذا مذهب الجمهور وهو يستند إلى الأصل.
القول الثاني: يجوز للوكيل أن يُوكِّلَ فيما وُكِّل فيه، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله ورواية عن الإمام أحمد، وقال به بعض أصحاب الإمام الشافعي، لكن مذهب الحنابلة والشافعية على القول الأول.
فعلى القول الثاني قول الذين يقولون: يجوز للوكيل أن يوكِّل فيما وُكّلَ فيه، لو قلت لشخصٍ مثلاً: بعْ لي هذه العمارة، يجوز أن يبيعها بنفسه وأن يوكل من يرضاه ليقوم مقامه، ولو قلت له: أجّر لي داري أو مزرعتي، وقام بتأجيرها أو أقام غيره ممن هو أهل صح توكيله وقالوا: لأنه حينما وكل الوكيل فكأنه فوّض له أن يجلب المصلحة وأن يدفع الضرر، فكما أن المصلحة مجلوبة في الأصل بالوكيل فهي مجلوبةٌ بغيره، وكما أن المفسدة تندرئ بالوكيل تندرئ بغيره، أي: لا فرق بينه وبين غيره؛ لأن الهدف حصول المصلحة ودفع الضرر، قالوا: فهو وغيره في ذلك على حدٍ سواء، والصحيح مذهب الجمهور رحمهم الله لما ذكرنا
**حكم الوكالة وأحوال بطلانها
يقول رحمه الله: [والوكالة عقد جائز وتبطل بفسخ أحدهما وموته وعزل الوكيل وحجر السفيه]
**الوكالة من العقود الجائزة
يقول المصنف رحمه الله: (الوكالة عقدٌ جائز).
حينما تقول لشخص: وكلتك أن تشتري لي سيارة، وأعطيته عشرة آلاف ريال، وذهب ليشتري السيارة ثم بدا لك قبل أن يشتريها أن تفسخ، وقلت: لا أريد سيارة، فهل من حقك الفسخ؟ كذلك أيضاً: لو قلت لشخص: يا فلان! هذه مائة ألف اذهب واشترِ لي أرضاً في الموقع الفلاني أو المكان الفلاني أو في المخطط الفلاني، فقال: قبلت، فلما خرج من البيت ضاق عليه الوقت وقال: لا أستطيع أن أفعل ذلك، فهل في هذه الحالة أنت ملزم بإتمام الوكالة حتى يحصل المقصود أو لا؟ وهل هذا الطرف الذي توكله إذا قبل الوكالة نلزمه أن يمضيها؟ حينما تقول لشخص: بعْ لي سيارتي قال: قبلت، وذهب يريد بيعها ثم رجع لك بعد ساعة وقال: يا فلان! لا أستطيع أن أبيعها، قلت له: عندك عذر؟ قال: لا.
ليس عندي عذر، قلت: ما أسامحك خذ السيارة وبعها، وألزمته وفرضت عليه، فهل من حقك أن تفرض عليه؟ يعني: إذا حصل الإيجاب والقبول فقلت: وكلتك قال: قبلت، هل أنت ملزم بإتمام الوكالة، وليس من حقك أن تفسخها؟ وهل هو ملزم بإتمامها وليس من حقه فسخها؟ فقال رحمه الله: (والوكالة عقدٌ جائز).
العقود -قلنا-: تنقسم إلى قسمين: إما عقود جائزة وإما عقود لازمة، وبينا هذا في أول باب البيوع، وضربنا الأمثلة وبينا أنواع العقود، وهنا يقول المصنف: (الوكالة عقدٌ جائز) إذا قلنا: عقدٌ لازم فضابطه: أنه لا يملكُ أحد الطرفين فسخه إلا برضا الآخر، فلو قلت له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف قال: قبلت، ثم افترقتما ثم جاء وقال: لا أستطيع فإنه يلزم شرعاً؛ لأن العقد لازمٌ للطرفين، فليس من حقه أن يرجع، وليس من حقك أن ترجع إلا برضا الطرف الثاني، لكن الوكالة على العكس، هي عقدٌ جائز، أي: يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، فمن حقك أن تفسخ الوكالة في أي وقتٍ شئت، ومن حق من توكله للقيام بالأمر أن يفسخ الوكالةِ في أي وقتٍ شاء.
وعلى هذا: سواءً وُجد العذر أو لم يوجد، كرجل عَلم أنه لو أخذ الوكالة سيضر، وأنه لا يمكنه القيام بها، فهذا عذر، أو جاءه شيءٌ يشغله فهذا عذر، أو لم يوجد العذر كأن يريد أن يتخلى عن الوكالة هكذا.
قال رحمه الله: (والوكالة عقدٌ جائز) أي: يملك أحد الطرفين فسخه دون رِضا الآخر، يقول العلماء في تقرير كون الوكالة عقداً جائزاً: إن الوكالة ننظر إليها من جانبين: الجانب الأول: الشخص الذي يوكل، والجانب الثاني: الشخص الذي يقبل والذي هو الوكيل، الأول: الموكل، والثاني: الوكيل، فقالوا: بالنسبة للشخص الذي يريد العمل ووكله الموكِّل قالوا: الوكالة منه إذْن، فإذا قال لك: بع عمارتي فهذا إذن بالبيع، والإذن ليس بلازم، أي: ليس هناك أحد ملزم أن يأذن للغير، وهل الإذن للغير لازم؟
**الجواب
بالإجماع: لا.
قالوا: فإذا كان التوكيل من صاحب الحق إِذْناً للغير فالإذن من حقك في أي وقت أن ترجع عنه، وليس بإلزام، وبناءً على ذلك قالوا: الوكالة من صاحبها إذنٌ -الذي هو الموكل- ومن الوكيل الذي يقبلها فسخ؛ لأنه حينما يقول لك: خذ العشرة الآلاف واشترِ لي سيارة، فأنت تعينه على تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فحينئذٍ كأنك تتفضل عليه، فالوكيل متفضل على الأصيل؛ ولذلك قالوا: من حقك أن تفسخ، وقد قال الله في كتابه: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] فالوكيل محسن، وهذا إذا كانت الوكالة بدون أجرة، أما إذا كانت الوكالة بأجرة فشيء آخر؛ لأن الوكالة بأجرة فيها إلزام، فمثلاً: المحاماة، لو وكل محامياً في خصومة وقال له: اذهب وخاصم عني، فوكله بالخصومة وقال له: إذا جئتني بحقي مليون ريال في هذه الأرض التي ظلمت فيها وأثبت لي الحق أعطيك عشرة آلاف ريال، فيصبح العقد هنا عقد جُعل، فلا يستحق المحامي العشرة الآلاف إلا إذا جاء بالمليون كاملاً، فإذا تم العقد بينهما فإنه يكون عقد وكالة في الابتداء، فيكون جائزاً من حقك أن تفسخ في أي وقت، وفي الانتهاء: إذا استطاع أن يكسب القضية أو يكسب الحق يكون لازماً، فيلزمك أن تدفع له العشرة الآلاف، فهو جائزٌ في أول حال لازمٌ في ثاني حال، وبناءً على ذلك: يستثنى حالة اللزوم في ثاني حال إذا وكله أو كان عقد إجارةً، كأن يوكله على عمل إجارة، فإنه حينئذٍ يكون وكيلاً من وجه وأجيراً من وجهٍ آخر
**بطلان الوكالة بفسخ أحد الطرفين لها
قال رحمه الله: [وتبطل بفسخ أحدهما].
والفسخ: الإزالة، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله، وفسخ العقد أن يزيل تأثيره، يرفع ثبوت الوكالة، فيقول له: أقلتك، أو رجعت عن وكالتي لا تبع، أو لا تشترِ، أو لا تؤجر، هذا كله فسخ، فالوكالة إذا فسخت انفسخت، فإذا قال له: لا تبع، ولا تؤجر فإنها تنفسخ في هذه الحالة، أو يبعث له رجلاً ويقول: فسخت وكالتي، فتنفسخ في أي وقتٍ يشاؤها ربها، وتنفسخ بفسخ أحدهما سواءً كان الأصيل أو الوكيل
**بطلان الوكالة بموت أحد الطرفين أو جنونه
قال رحمه الله: [وموته] إذا مات أحد الطرفين انفسخت الوكالة، فلو قلت لشخص: وكلتك أن تشتري لي سيارةً بعشرة آلاف فمات الموكل -الذي هو نفس الشخص الذي يريد السيارة- انفسخت الوكالة، لكن لو وقع البيع قبل الموت لزم البيع، مثلاً: قال رجلٌ لآخر: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فذهب واشتراها، وبعد أن اشتراها بنصف ساعة بلغه خبر موت من وكله بعد ثبوت البيع، فالبيع لازم ويلزم الورثة، ويمضي لوجهه؛ لأنه وقع حال حياة الموكل.
وتبطل الوكالة بعزل الوكيل، وموته وجنونه، فلو جنّ أحد الطرفين جنوناً مطلقاً فإنه تنفسخ الوكالة؛ لأنه فاتت الأهلية، وإذا كان الموكل قد زال عنه العقل فإنه حينئذٍ يكون غير أهلٍ للتصرف في ماله، فتنفسخ وكالته.
وهنا مسألة: بعض العلماء يقول: تقولون إن الجنون يوجب فسخ الوكالة، فيرد الإشكال، فإن الجنون زوال للعقل، والمجنون لا يصح منه التصرف، فما رأيكم في النائم، فلو أنه وكل شخصاً وقال له: وكلتك أن تبيع بيتي بعشرة آلاف، وباع وقت منام الموكل، أليست زالت عنه الأهلية بالإجماع؟ فالنائم لو تلفظ ما يؤخذ بلفظه: (رفع القلم عن ثلاثة)، فما هو الفرق بين النائم والمجنون؟ فأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة منها: أن النائم إذا أيقظه أحد استيقظ، والمجنون لا يستطيع أحد أن يرد إليه عقله إلا الله وحده، وبناءً على ذلك هناك فرق بين الاثنين في ضابط الأهلية، فالمجنون سلبها ولا يستطيع أحد أن يردها، لكن في النوم تستطيع أن توقظه.
فقالوا: نحن نورد اعتراضنا إذا وكل حال نومه، أي: وهو نائم، وأنتم تقولون عند الإيقاظ، وما عندنا مشكلة في هذا، لكن لو أنه وكله الساعة الثانية ظهراً، ثم وضع رأسه ونام، وخرج الرجل وابتاع الساعة الثانية والنصف والموكل مستغرق في النوم، أي: بحيث يكون ما عنده أهلية، فكيف يصح هنا العقد؟ هذا يرجع إلى قاعدة تقول: (التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وهذه القاعدة تكلم عليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه المفيد: قواعد الأحكام، كيف ينزل المعدوم منزلة الموجود؟ قالوا: النائم إذا نام، نسألكم: كان مؤمناً ثم نام، وجاء رجل وقتله ألا نقول: قتل مؤمناً؟ نقول: بلى، فهل أثناء النوم الإيمان موجود بمعنى: عنده تصرف وعنده أفعال؟ قالوا: لا، إنما نزلنا المعدوم في الظاهر منزلة الموجود، فالأهلية الظاهرة وإن كانت معدومة لكنها في حكم الموجود، وهذا ما يسمى بالتقدير، فقالوا: أثناء نومه صحيحٌ أنه ليس من أهل الأهلية، ولكننا نزلنا الإذن قبل النوم واستصحبناه حال النوم، فصار من التقدير.
ولذلك قالوا: لهذه القواعد عدة فروع منها: أطفال المؤمنين، يأخذون حكم آبائهم مع أن الإيمان غير موجود، فأنت عندما تأتي إلى بلد وتجد فيه طفلاً لقيطاً لا يعرف أبواه، إن كان في بلدٍ مسلم فتقول: هذا ابن للمسلمين، وعليه فتعطيه حكم أبناء المسلمين، ولا تقل: هل هو مسلم؟ لأنه لم يكن عليه التكليف، وقد رُفِع عنه القلم كالنائم، قالوا: فننزل المعدوم منزلة الموجود، وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه في الوكالة ونحوها من العقود يسري الحكم في حال النوم، كما لو كان مستيقظاً التفاتاً إلى الأصل من أن التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود
**بطلان الوكالة بعزل الوكيل
قال رحمه الله: [وعزل الوكيل].
إذا كان وكّل شخصاً أن يبيع أو يشتري أو يؤجر ثم عزله، فإذا عزله انفسخت الوكالة
**بطلان الوكالة بالحجر
قال رحمه الله: [وحجر السفيه].
أنتم تعلمون أن الوكالة تكون في الأموال وغير الأموال، فإذا كان الرجل الذي وكّل غيره -وهو الأصيل- من أهل التصرف في المال -وهو الرشيد- فإننا حينئذٍ نصحح الوكالة، لكن لو كان غير رشيد ومحجوراً عليه، فلا يصح أن يوكل غيره، ما الدليل؟ نقول: لأن المحجور عليه لا يصح تصرفه لنفسه، فمن باب أولى لا يصح أن يقيم غيره مقامه؛ لأنا قلنا: شرط الوكالة أن يكون الأصيل أهلاً للتصرف، فلا يستطيع أحد أن يوكل غيره وهو نفسه لا يجوز له أن يتصرف في الشيء، إذ يصير كما لو وكل في مال أجنبي، لو أن شخصاً قال لآخر: بع عمارة فلان، لم يصح؛ لأن عمارة فلان لفلان، وليس لأحد أن يتصرف فيها؛ لأنها ليست ملكاً إلا لصاحبها، قالوا: فإذا كان محجوراً عليه فليس بأهلٍ للتصرف، لا أصالةً ولا وكالةً
**الأسئلة
**حكم بيع اللحم معجلاً في صورة التأجيل
**السؤال
إذا دخلتُ على صاحب اللحم وقلت له: زِنْ لي كيلو من اللحم وسأعود بعد ساعةٍ وآخذ اللحم وأعطيك المال، فهل هذا البيع صحيح، أم هو من جنس بيع النسيئة بالنسيئة؟
**الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإنه إذا دخل على صاحب المحل واتفق معه على البيع وأوجب البيع وتمت الصفقة فالبيع صحيح إذا توفرت فيه الشروط، وهذا البيع المذكور يعتبر صحيحاً من حيث الظاهر، إلا أن بعض العلماء يقول: يعتبر نسيئةً من الطرفين، إلا أنه من باب بيع العين بالذمة، العين وهو اللحم؛ لأنك قلت له: زِن لي من هذا اللحم نصف كيلو، فهذا بيع عين، بعشرةٍ، بخمسين، بمائة، هذا بيع ذمة، فأصبح ذمةً -وهو النقد- في مقابل عين -وهو اللحم- وهو بيع صحيح، أي: يجوز بيع العين بالذمة، إلا أن الإشكال فيه كما ورد في السؤال كونه يقول: بعد ساعة، فتعطيني بعد ساعة وأعطيك بعد ساعة، فهو لم يلتفت إلى كونه منجزاً من الطرفين؛ لأنه ليس بمؤجل الأجل المقصود، وإنما المراد به التنجيز، إلا أن التنجيز كان على العدة فأشبه بيع النسيئة، لكنه في الواقع ناجز من الطرفين، ويعتبر في حكم المنجز من الطرفين، وعلى هذا فالأشبه صحته، والله تعالى أعلم
**حكم أداء العمرة عن النفس وعن المتوفى في سفرة واحدة
**السؤال
خرجت من سفرٍ إلى مكة لأداء عمرةٍ عن نفسي، فهل يمكن لي أن أؤدي عمرةً أخرى عن والدتي المتوفاة ولم تحج؟
**الجواب
هذا فيه تفصيل: إذا كنت خرجت من المدينة أو من مكانٍ خارج المواقيت وفي نيتك أن تعتمر عن نفسك وعن غيرك فيلزمك بعد فراغك من عمرتك عن نفسك أن ترجع إلى الميقات؛ لأنك مررت بالميقات وعندك نيتان، فيلزمك أن تحرم للنية الثانية كما يلزمك أن تحرم للنية الأولى من الميقات الأبعد.
الحالة الثانية: أن تدخل معتمراً عن نفسك، فلما وصلت إلى مكة تذكرت والدتك أو والدك وأحببت أن تعتمر عن أحدهما أو عنهما، فيجوز لك أن تخرج إلى التنعيم وتحرم من التنعيم؛ لأنك أنشأت العمرة عن الغير بمكة، ومن أنشأ عمرته بمكة كان من أهلها لحديث عائشة رضي الله عنها، وظاهر حديث ابن عباس، وحتى إن أهل مكة يهلون من مكة، والله تعالى أعلم.
بالنسبة للوالدة يجوز أن يعتمر عنها سواء حجت أو لم تحج؛ لأنه لا يشترط في صحة العمرة عن الوالدة أو عن الوالد إذا كانت الوالدة متوفاة، أو كانت حية لا تستطيع أن تأتي بنفسها، فإذا كانت الوالدة أو الوالد أو من تريد أن تحج عنه وتعتمر لا يستطيع أن يأتي بالعمرة والحج بنفسه فيجوز حينئذٍ أن تعتمر عنه، سواءً تقدمت العمرة على الحج أو تأخرت العمرة عن الحج، يعني: لا يضر أن تعتمر عن الوالدة وهي لم تحج بعد، لكن لو كانت الوالدة قادرة على أن تأتي بنفسها فلا تحج عنها ولا تعتمر وإنما يحج ويعتمر عن العاجز، إلا ما وقع فيه الخلاف في المسألة في الحج عن الغير إذا كان نافلةً، والله تعالى أعلم
**بطلان وكالة المحجور عليه لفلس
**السؤال
المحجور عليه لفلسٍ، هل له أن يوكل؟
**الجواب
المحجور عليه لفلس لا يصح أن يوكل في الأموال، وإنما ينتظر إلى زوال الحجر عنه.
وقال بعض العلماء: يجوز ويصح للمفلس أن يوكل غيره للتصرف.
والأشبه الأول لقوة الأصول الدالة على نزع التصرف في المال؛ لأنه لو أقام غيره مقامه فإن هذه الإقامة لا معنى لها؛ لأن هذا الغير لا يستطيع أن يتصرف، فأصبحت الوكالة لغواً، فإن صُححت ظاهراً أو شكلياً فهذا لا تأثير له في العقل؛ لأنه لا يستطيع أن يبيع ولا يستطيع أن يشتري، فيوكله بدون وكالة، فهو إذا قال له: وكلتك أن تبيع داري، فهو بنفسه لا يستطيع أن يبيع داره؛ لأنه محجور عليه للفلس، فهل هذا الوكيل سيبيع؟ بالإجماع لا يبيع، وإذا كان لا يبيع عنه فالوكالة وجودها وعدمها على حدٍ سواء، فالخلاف اللفظي لا تأثير له، والله تعالى أعلم
**النهي عن السفر يوم الجمعة
**السؤال
هل النهي عن السفر في يوم الجمعة لأجل الصلاة أم هو عامٌ لليوم كله؟
**الجواب
هذه مسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: نُهي عن السفر يوم الجمعة حتى لا تضيع صلاة الجمعة، وبناءً على هذا القول: من كان مسافراً في الأصل كرجل سافر إلى مكة واعتمر، وأراد أن يرجع يجوز له أن يرجع في يوم الجمعة؛ لأن الجمعة ليست بواجبةٍ عليه أصلاً، وهكذا لو كانت امرأةً وأرادت أن تسافر فإنها تسافر؛ لأنها ليست من أهل الجمعة، فإذا قلنا: إن العلة هي صلاة الجمعة وخوف فواتها، فمن لا تلزمه الجمعة تتخلف فيه العلة، فيجوز له السفر بناءً على هذا القول، وبناءً على هذا القول يجوز له أن يسافر بعد صلاة الجمعة، فإذا صلى الجمعة جاز له السفر، وبعض أصحاب هذا القول قالوا: لو سافر يوم الجمعة وصلى الجمعة في حال سفره فإنه يجوز له ذلك ولا يشمله النهي.
وأما القول الثاني فإنه يقول: النهي يشتمل على عدة علل منها: خاصية هذا اليوم وفضله، فيكون النهي أشبه بالعبادة، كأن يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين وبناءً على ذلك فيه شعيرة فلا يخرج ولا يسافر وينتظر هذا اليوم حتى لا يُشغَل عن ذكر الله ولا يُشغل عن الطاعة، فإن المسافر تمحق بركة أيامه بالسفر: إياك والإكثار من أسفار فإنها تمحق بركة الأعمار فكثرة السفر تُذهب بركة الأيام وبركة الأعمار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، وأمر صلى الله عليه وسلم من سافر أن يعجل بالأوبة إذا قضى حاجته، ولذلك قال: (فإنه يمنع أحدكم نومه وشرابه)، فعلى هذا قالوا: إنه إذا سافر يوم الجمعة شُغِل عن ذكر الله، فالمسافر يكون مرهق البدن مُتعباً، فلا يستطيع أن يذكر الله عز وجل في هذا اليوم الذي سُن فيه الذكر خاصةً كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الفضائل التي تكون للحاضر، وعلى هذا القول فيشمل السفر في أول النهار وآخر النهار، والحقيقة ظاهر الحديث العموم، فلا يسافر يوم الجمعة سواءً كان من أهل الجمعة أو لم يكن، إعمالاً أن هذا أحوط وأبرأ للذمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فما نهيتكم عنه فانتهوا) فالنهي ظاهره العموم، والأولى والأشبه بالمسلم ألا يسافر يوم الجمعة إلا من ضرورة ملحة، وحاجة قصوى ونحو ذلك، والله تعالى أعلم
**جواز الجمع بين المرأة وبنات عمتها وخالها وخالتها
**السؤال
هل يجوز الجمع بين المرأة وبنت عمتها، وكذلك بنت الخال والخالة أم أن الحكم يختص في الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها؟
**الجواب
هذه المسألة فيها نص وفيها اجتهاد، أما ظاهر القرآن فإن الله حرم الجمع بين المرأة وأختها، فقال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23]، وكذلك حرمت السنة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ولم يزد النص الوارد في الكتاب والسنة على هذه المحرمات، ثم جاء نص القرآن بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فلما حرم لنا الجمع بين الأختين ثم جاءت السنة بزيادة المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال الله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، أخذ من هذا جمهور العلماء جواز نكاح المرأة وبنت عمتها وبنت خالها وخالتها؛ لأن العمة والخالة ليست كبنت العمة وبنت الخالة، فالأمر أخف، وقطيعة الخالة ليست كقطيعة بنت الخالة، وقطيعة العمة ليست كقطيعة بنت العمة، ففرق بينهما من هذا الوجه، وهذا أقوى، وظاهر النص يدل عليه.
وقال بعض العلماء: العلة خوف قطيعة الأرحام، فلا يجوز أن يجمع على وجهٍ يخشى منه وجود قطيعة الرحم، وهذا مذهبٌ مرجوح، والصحيح: أنه يجوز وقد قال الله عز وجل: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ) إلى أن قال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ} [الأحزاب:50]، فهذا نص: (وبنات عمك) ولم يفرق على سبيل الجمع وعلى سبيل التفريق خاصةً وأن آية التحريم جاء فيها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فالأصل الحل حتى يدل الدليل على التحريم، لكن ينبغي للمسلم أن ينظر بعيداً، فإذا كان بين بنتي العم شدة حزازية، أو أن هذا سيصبح له حزازة في النفوس وأثرٌ سيء في المستقبل على أعمامه وعماته وأخواله وخالاته فليتق الله، فإن هذا في بعض الأحيان قد يغلب على الظن حصول المفسدة، وحينئذٍ لا نحرم من أصل الجمع ولكن نحرم لعارض، ألا ترى المرأة الآن حلالٌ لك أن تنكحها وهي أجنبية ولكن إذا علمت أن في نكاحها مفسدة أو أنها تفسد الرجل على أمه، أو أنها تحدث الفتن بين الأخوات أو بين النساء، وأنها امرأة نمامة أو تنقل الحديث حرمنا نكاحها لأنه سيضر بالرحم، لا لذاتها وإنما للعارض، فنحن نقول: الجمع بين بنت العمة مع بنت العم لا بأس، وبنت العمة، مع بنت العمة وبنت العم مع بنت العم لا بأس، لكن بشرط أن لا يغلب على الظن حصول الضرر في القرابة، من أمثلة ذلك: أن تعلم أن أم بنت العم هذه وأم بنت العم الثانية كلتاهما شريرة -مثلاً- فإذا دخلت بنت هذه مع بنت هذه فهذا سيحدث ضرراً بين أم هذه وأم هذه، فهذه لا يمكن أن ترتاح حتى تحدث مفسدة، وهذه أيضاً لا يمكن أن ترتاح حتى تحدث مفسدة، فالناس يقدرون الأضرار والمفاسد والشرور المترتبة على مثل هذا النكاح، فيكون التحريم لعارض لا لذات الحكم، والله تعالى أعلم
**مضاعفة الصلاة في الثلاثة المساجد عام في الفرض والنفل
**السؤال
على القول بأن الفضيلة في الصلاة في المسجد الحرام مختصة بمسجد الكعبة فأيهما أفضل: صلاة النافلة في المسجد الحرام أم في البيت؟
**الجواب
هذه المسألة اختلف فيها العلماء لورود حديثين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا بألف صلاة إلا المسجد الحرام)، الحديث، فهذا الحديث يدل على أن الصلاة في المساجد الثلاثة مفضلة ومضاعفة، فجاء حديث آخر يعارضه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في قيام رمضان حينما صلى فأحيا الليلة الأولى والثانية، ثم امتنع من الخروج عليه الصلاة والسلام لما اجتمع الناس بعد ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لم يخفَ عليّ مكانكم بالأمس، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، فبعض العلماء يقول: الصلاة في المنزل نافلة أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم من المساجد المفضلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، نخص المضاعفة في المساجد الثلاثة بالمكتوبة، فلا تشمل النوافل، فالنوافل الأفضل أن تكون في البيوت، هذا قول.
القول الثاني يقول: إن الحديث قال: (صلاةٌ في مسجدي هذا)، وهذه نكرة، لم يقل: (صلاة فريضة)، ولم يقل: (صلاة مكتوبة)، فكل صلاةٍ شرعية يصدق عليها هذا الوصف بالعموم فتشمل النافلة والفريضة، قالوا: وإذا ثبت العموم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، قالوا: إن هذه فضيلةٌ من وجهٍ آخر، وهذا هو الصحيح، أن المضاعفة تشمل الفرائض والنوافل، وأن أفضلية البيت جاءت بلفظ؛ (فإن خير)، و (خير) بمعنى: أخير؛ لأن العرب تقول: خير وشر، بمعنى أفعل التفضيل، أخير وأشر، فتقول: محمد خيرٌ من علي، أي: محمد أخير من علي، ومنه قول أبي طالب: ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة ولا خير ممن خصه الله بالحب أصل التقدير: ولا أخير ممن خصه الله بالحب، فإذا أثبت أن: (خير) في لسان العرب بمعنى: أخير، فكأنها خيرية راجعةٌ إلى الإخلاص، فإن الرجل إذا صلى في بيته وجدناه يخلص أكثر، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (فإن خير)؛ لأن النافلة ليست بفريضة، فلو جلس يتركع في المسجد فإن هذا يحدث عند الناس شعوراً بصلاحه وتقواه وفضله، بخلاف ما إذا صلى الفريضة، فالكل يصلي الفريضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، أي: إنها من جهة الإخلاص وهذا راجعٌ إلى الباطن: (وصلاةٌ في مسجدي بألف صلاةٍ فيما سواه)، راجعٌ إلى ظاهر العدد، وشرط التعارض بين النصين عند الأصوليين: أن يتحد المورد، فالذي يترجح أنه ليس هناك تعارض بين الحديثين، وأن حديث: (إن خير صلاة المرء في بيته) راجعٌ إلى الإخلاص والنية، ويقول بعض العلماء: هناك خيرٌ ثانٍ وهو فضل الصلاة في البيوت؛ لأن البيوت إذا كثرت فيها الصلاة نزلت عليها البركة والخير، ويشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعلٌ له من صلاته في بيته خيرا)؛ ولذلك كان بعض العلماء يوصي من كثرت عنده المشاكل الزوجية أن يكثر من الصلاة في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن الله جاعلٌ له من صلاته في بيته خيراً)، وكان بعض العلماء إذا اشتكى إليه الرجل بالفتنة بينه وبين زوجه يقول له: إنك لا تصلي في بيتك كثيراً، أنت تقتصر على الفرائض في المسجد والبيت أشبه بالبيت الخرب؛ لأنه لا يتلى فيه كتاب الله، ولا يصلى فيه، فتسلط عليه الشياطين وتكون الفتن فيه أكثر.
فالذي يظهر: أن المضاعفة في المسجد الحرام ومسجد الكعبة والمسجد الأقصى أنها كما هي شاملةٌ للفرض والنفل، وأما البيت فهو أفضل من جهة الإخلاص والله تعالى أعلم
**الحكمة من النهي عن التحلق يوم الجمعة
**السؤال
حديث النهي عن التحلّق يوم الجمعة، هل هو خاصٌ بالمسجد أم هو عامٌ في كل مكان حتى المنزل؟
**الجواب
هذا فيه تفصيل: بعض العلماء يقول: نُهي عن الحِلَق يوم الجمعة؛ لأنه يوم مخصوصٌ للخطبة، فالناس إذا جاءوا يوم الجمعة ولم يشهدوا إلا موعِظةً واحدة وتذكيراً واحداً وأتى الناس الذّكْر، وأقبلت على هذا الذّكْر، إذا لم تكن له من أول النهار إلى آخره إلا موعظة واحدة وعى وتأثر وهيأ نفسه للعمل، لكن إذا كان في أول النهار جالساً في حلقة وفي موعظة، ثم في المسجد من يعظ ثم بعده من يعظ؛ فإنه في هذه الحالة تشتت أذهان الناس، والنفوس قد يصيبها الملل والسآمة ولذلك قال الصحابي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة)، فإذا كان هذا في الصحابة فمن باب أولى غيرهم.
ومن هنا كره بعض العلماء أن يقوم الرجل بعد صلاة الجمعة ويلقي كلمة أو يعظ؛ لأن موعظة الإمام كافية في الأصل، وينبغي أن تترك الموعظة للإمام، لكن رخص بعض أهل العلم إذا كان الإمام ليس بذاك في العلم، وجاء رجل زائر أو ضيف وأحب أن يذكر الناس أو يعظهم فقالوا: لا بأس في هذا، لكن أن يكون بمجرد ما ينتهي الخطيب يقوم شخص موجود في الحي ويأتي بموعظة ثانية غير موعظة الخطيب، وقد يكرر ذلك المرة بعد المرة فهذا أشبه بالبدع والحدث، فيترك هذا اليوم لما شرعه الله عز وجل؛ لأن الإمام له حق، وإذا قام بعد الجمعة فكأنه يستدرك على الإمام، ولا بد أن تحفظ حرمة الأئمة، وأن يحفظ حقهم، خاصةً إذا كان الإمام من أهل العلم والفضل، فمثل هؤلاء حقهم على الناس عظيم، وعلى طلاب العلم وغيرهم، وعلى من دونهم في العلم والمرتبة، فالمقصود: أن الحِلق من هذا الوجه تكون مخصوصةً بحلق الذكر.
الوجه الثاني: أنها عامة وتشمل حِلَق الذكْر وغيرها، وبناءً على هذا الوجه قالوا: كانوا في القديم يجلسون أبناء العم أو القبيلة أو الجماعة في ناحية وكانت هذه العادات موجودة في الجاهلية، كانوا إذا جلسوا يجلس كل جماعة إلى من يألفون وإلى من يجالسوه، فيكثر اللغط والحديث، فشرع في يوم الجمعة خاصة أن تقطع هذه الحِلق سواءً كانت في ذِكر أو كانت في الدنيا، وعلى هذا يكون النهي عاماً شاملاً لما قبل الصلاة وما بعدها، شاملاً للذكْر وغير الذكر على هذا الوجه الثاني، وظاهر الحديث يدل عليه، والله تعالى أعلم
**وصية في لزوم الصبر على طلب العلم
**السؤال
هل من وصيةٍ حول الصبر على طلب العلم؟ وجزاكم الله خيرا.
**الجواب
الصبر خصلة جليلة كريمة لا يعطيها الله إلا لأحبابه، فالله يحب الصابرين ولا يعطيها إلا أولياءه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ومن كان الله معه ثبته، وأعانه ووفقه وسدده، ولا يزال له من الله معينٌ وظهير، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبّره الله)، قال صلى الله عليه وسلم: (وما أُعطي عبدٌ عطاءً أفضل من الصبر)، وما يصبر الإنسان إلا بوازع من الرحمن وشعوره أن الله معه، وأن الله يثبته، وأن الله يوفقه ويسدده؛ ولذلك من قرأ كتاب الله وتدبر سيرة أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجد الصبر سبيلهم، والصبر طريقهم، والصبر نوراً لهم، فالصبر ضياء، ضياءٌ في كل ظلمة؛ ولذلك تجد عزائم المؤمنين قوية، وشكيمتهم قوية في الشدائد والمحن بفضل الله ثم بالصبر، فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، وتضيق عليهم بما فيها، ولكن الله يوسعها بالصبر، فتجد الرجل الواحد في وحشته كأنه أبلغ ما يكون في أنسه، وتجده في شدته وفي كربته وحزنه وكأنه في قمة سعادته وفرحه كل ذلك بتصبير الله.
ومن هنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)؛ لأن الصابر إذا صبر في تحصيل طاعة أو دفع كربة فإنه إنما يجعل الله نصب عينيه، فالله له عوضٌ عن كل فائت، والله سُلوةٌ له في كل حزن، وثبات له في كل قلق وكل أذية وبلية، فالصبر على طلب العلم صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ على مرضاة الله، والله أمرنا أن نصبر على طاعته، وخاصة نبي الأمة، وخير خلق الله، أحبهم إليه صلى الله عليه وسلم، وقال له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، أمره أن يصبر ولا يأمر الله إلا بما فيه خير الدين والدنيا والآخرة، فطالب العلم أنعم الله عليه بشيءٍ هو أعز ما يطلب، وأشرف وأكرم وأفضل ما يرغب فيه ألا وهو العلم والحكمة، والنور والرحمة، والهدى والصراط المستقيم، وهل وجدت على هذه البسيطة وعلى هذه الأرض طالباً أشرف وأكرم على الله من طالب علم؟! فلن تجد مقاماً أفضل من مقام العلم طلباً وتعلماً وتعليماً وبذلاً وإعطاءً للغير، فالعلم رحمة، وإذا وفق الله طالب العلم وشعر بالذي يطلبه، وشعر بقيمة الشيء الذي يريده وأنه يخوض في رحمة الله، وأنه يسلك طريقاً إلى جنة الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، صدق وبر صلى الله عليه وسلم، وعد من الله، ما طلب طالب علمٍ مخلصٍ لوجه الله علماً مما يُبتغى به وجه الله إلا سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما وجدنا أفضل من عطاء الله للعلماء بعد الأنبياء، فهم بخير المنازل بعد الأنبياء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، فخليقٌ بمن أحس بقيمة العلم أن يصبر عليه، فقد صبر أهل المال على التجارة فتغربوا عن أوطانهم، وذاقوا شظف العيش وشدته ونكبته، ومذلة الحياة ومهانتها من أجل المال والدينار والدرهم، حتى إن الرجل إذا نظرت إليه كأنه يعبد ديناره ودرهمه -نسأل الله السلامة والعافية- فيحب من أجله، ويبغض من أجله، ويوالي فيه ويعادي فيه، ويكرم من أجله ويهين من أجله، حتى إن ابن عمه وقرابته الذي بينه وبينه لحمة النسب لربما دخل عليه وهو كبير في السن فلا يحترمه ولا يقدره لفقره، وإذا دخل عليه رجل -ولربما يكون من الكافرين- قام له وقبله وأجلسه وأكرمه؛ لأنه يعبد الدينار والدرهم، فيصل البعيد، ويقطع القريب من أجل الدنيا، والله عز وجل جعل الدين أعظم من هذا كله، فإذا كان أهل الباطل في هذه المودة والمحبة الصادقة للدنيا فو الله إن محبة أهل الدين أعظم، ومن عرف الله وأحبه صدق المحبة فليجعل العلم نصب عينيه، فمن تعب اليوم فإنه يرتاح غداً، ولذلك قال بعض السلف: (من كانت له بدايةٌ محرقة كانت له نهايةٌ مشرقة)، فأهل العلم لما تحملوا المشاق والمتاعب والمصائب، وعزفوا عن هذه الدنيا وأقبلوا على الآخرة إقبالاً صادقاً فتح الله لهم أبواب رحمته، وجعلهم يخوضون في هذه الرحمات بالعلوم النافعة والشافعة، وهي علوم الكتاب والسنة، وعلى هدي السلف الصالح وسلف الأمة، فأصبحوا يعيشون مع أقوام أموات وهم أحياءٌ بين الناس، وأصبحوا يعيشون مع: قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام، فلا إله إلا الله! لا يعلم مقدار ما لهم من الحسنات والدرجات في مضيهم إلى مجالس العلم، وحضورهم لمجالس العلم، وسماعهم للعلم، وتدوينهم للعلم، وحبهم للعلم وحرصهم على العلم إلا الله، وإذلالهم لأنفسهم من أجل هذا العلم، وكان حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه عبد الله بن عباس ينام على عتبة البيت، فيذلل نفسه للعلم حتى قال كلمته المشهورة: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، ذللت طالباً وأنا أطلب العلم حينما صبرت، ولا يمكن أن ينال هذه المرتبة الشريفة إلا من صبر للعلم، وأدى لهذا العلم حقه وحقوقه، وحفظ للعلماء الأحياء والأموات حقوقهم، وأحبهم من كل قلبه لله وفي الله، وأحس بكرامتهم التي أكرمهم الله بها حينما جعلهم يحملون رسالته، ويبلغون أمانته إلى العباد؛ فإن العلماء بمنزلة هي أعظم وأفضل وأشرف وأكرم منزلة على الله عز وجل، ولذلك قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69]، وهذه أعلى منزلة في الجنة، فليس فوق النبي منزلة لولي ولا لغيره، فأعلى منزلة مَنزلة الأنبياء، فقال الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} ثم بعدهم: وَالصِّدِّيقِين َ} [النساء:69]، والصديقون: هم العلماء العاملون الذين علموا وعلّموا وعملوا بما علموا، فنفعهم الله ونفع بهم أولئك الذين شهد الله أنهم لا يخسرون، شهد الله من فوق سبع سماوات أن خلقه في خسارة إلا قومٌ استثناهم فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3]، فهؤلاء الذين أصلحهم الله في أنفسهم وعملوا الصالحات، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، فهذا هو الإصلاح وتبليغ رسالة الله والدلالة على الخير والفلاح، هؤلاء هم صفوة الله، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، قال: هذا حبيب الله! هذا ولي الله! هذا صفوة الله من عباده، الذي علم وعمل ودعا إلى ما علم وعمل به.
فإذا أراد الله عز وجل بطالب علم خيراً رزقه الأسباب التي تعينه على الصبر على هذا العلم، فالغاية الشريفة تحتاج من صاحبها أن يقدرها حق قدرها، وأن يتعب من أجل تحصيلها، فاصبر يصبرك الله، واسأل الله أن يعينك على هذا العلم، واعلموا -أيها الأحبة- أننا لو تأملنا حال السلف الصالح لاحتقرنا أنفسنا اليوم، فالرجل ما كان يحضر مجالس الذكر فقط، إنما كانوا يقرءون العلم قبل المجالس، فلا يمكن يشهد مجلساً حتى يقرأ ما فيه، إذا كان مما يُقرأ منه العلوم والأحاديث والأحكام يقرؤها المرة والمرتين والثلاث والأربع، وأعرف من طلاب العلم من لا يجلس مجلس علم حتى يقرأ ما يريد أن يسمعه من الشيخ ثلاث مرات، يقرأ قراءة متأنية متدبراً فيها، يحاول أن يعي هذا الكلام بشعوره بالمسئولية، وأن كل حرف سيسأل عنه وسيحاسب بين يدي الله، وأن هذا المجلس لا يتكرر.
ثم يصبر مرةً ثانية على مجلس العلم فلربما جاءت أحكام غريبة، ولربما جاءت تفريعات كثيرة، فيصبر ويتحمل ففي اليوم الأول تحس أن بينك وبين العلم فجوة، وفي المجلس تحس بالفجوة، ثم اليوم الثاني يقربك ويقربك حتى يصبح أنساً لك من الوحشة ولذةً لك تنسيك كل لذة، فسلا أهل العلم عن لذة الدنيا بلذة العلم، والله إنهم في نزهة، وفي رحمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، هذا العلم نعمة عظيمة، فإذا صبرت وأنت في مجلس العلم صبرك الله وبلغت، ثم بعد مجلس العلم كانوا يكتبون ويدونون ويراجعون، ولربما يجلس في ليلته تلك يراجع ما سمعه إلى قرابة منتصف الليل، ولربما سهر الليل كله، رحمةُ الله عليهم أولئك القوم! أبو عبيد القاسم بن سلاّم رحمه الله قام مع أحد علمائه ومشايخه على باب المسجد وأراد أن يذاكره مسألة، فقام في ليلةٍ شاتية فسأله المسألة، ففتح له فروعها فأصبح من فرعٍ إلى فرع ومن مسألةٍ إلى مسألة حتى أذن الفجر ولا يشعر الشيخ ولا تلميذه! أناس كانوا يعطون العلم كليتهم وقالوا: (أعط العلم كلك يعطك بعضه)، فكيف بمن أعطى العلم بعضه؟! ومن صبر للعلم صبره الله وثبته، فوالله لن يموت حتى يقر الله عينه بالعاقبة الحميدة لما بذل، فالله الله لطالب العلم أن يصبر! وعليه أن يعلم أنه يعامل الله جل جلاله، وأن يحمد الله.
ومما ينبغي التنبيه عليه: شكر الله على النعمة، فإن المجلس الذي تجلسه لن يعود أبداً، وهذا العلم الذي تعلمه في الجزئية تشرح من كتاب قد لا تشرح بعد اليوم،، وقد يكون هذا المجلس الذي تجلسه هو آخر عهدك إما بالشيخ وإما بالناس، فلا يدري الإنسان ربما يموت هو أو ربما يشغل عن العلم، فكم من إنسان كان يتمنى العلم حيل بينه وبين العلم! فجاءه من شواغل الدنيا وفتنها ما يصرفه -نسأل الله العافية- عن العلم وطلبه، فاحمد الله عز وجل على نعمته، واسع في تحصيل هذا العلم، وابذل كل ما تستطيع من حبه والصدق في روضته ولكن لله، لا تفعل ذلك رياءً ولا سمعةً ولا طلباً للدنيا، وإنما ابتغاءً لمرضاة الله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، ودائماً الإنسان يرجو من الله أفضل الأشياء، حتى لو كنت في مجلس العلم وأردت أن يصبرك الله على العلم فاجعل من نفسك أن تكون خير طالب في مجلس العلم وخير طالب إذا سمعت، وخير طا
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (340)
صـــــ(1) إلى صــ(18)
شرح زاد المستقنع -** باب الوكالة [4]
من تعاليم وضوابط شرعنا الحنيف: أن الله سبحانه سخر أناساً للقيام بخدمة الآخرين على وفق معايير وتصرفات معينة، مثل الوكيل إذا وكله موكله فإنه يتردد بين الوكالة العامة المطلقة، والوكالة الخاصة المحددة، ولذلك بين الشرع ما يجوز للوكيل فعله وما يمنع الوكيل من التصرف فيه
**ما يجوز للوكيل فعله وما يمنع منه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان مسألة الإطلاق والتقييد في الوكالة
**حكم بيع الوكيل وشراؤه من نفسه
إذا وكل الإنسان غيره أن يبيع أو يشتري فهل هذا على الإطلاق وهل يشمل الوكيل أو لا يشمله؟ فلو قلت لرجل: بع داري أو عمارتي أو أرضي أو مزرعتي أو سيارتي، فذهب وعرف أن قيمتها عشرة آلاف -مثلاً- فباعها واشتراها لنفسه، فهل يجوز للوكيل أن يشتري من موكله بالوكالة، أو لا يجوز؟ والعكس أيضاً: فلو قلت له: اشتر لي بعشرة آلاف سيارة من نوع كذا، وعنده سيارة بنفس الصفات ونفس القيمة، فباعك هذه السيارة من نفسه فهل يصح ذلك، أو لا يصح؟ وقبل بيان الحكم حتى تتضح صورة التوكيل نقول: إذا وكل الإنسان غيره فلا يخلو توكيله من حالتين: الحالة الأولى: أن يقيد في الوكالة.
الحالة الثانية: أن يطلق في وكالته.
فأما الحالة الأولى وهي أن يقيد في الوكالة: فيقول لك: بع سيارتي هذه بعشرة آلاف إلى فلان، فإذا حدد لك الشخص الذي تبيع السيارة عليه، أو حدد لك الشخص الذي تشتري منه السيارة، فلا يجوز للوكيل أن ينصرف إلى غيره لا في البيع ولا في الشراء، فإذا انصرف إلى غيره فقد خرج عن الوكالة، وصار التصرف تصرفاً فضولياً، حكمه حكم بيع الفضول وشرائه، وقد تقدم معنا حكم بيع الفضولي وشرائه، بناءً على ذلك: إذا كانت الوكالة مقيدةً بشخصٍ فلا يجوز صرفها إلى شخصٍ آخر سواءً في البيع أو في الشراء، فمثال البيع: أن تقول له مثلاً: بع سيارتي على فلانٍ بعشرة آلاف، أو بع أرضي على فلان بعشرة آلاف، فحينئذٍ يجب على الوكيل أن يتقيد بهذه الوكالة، وأن لا يصرف البيع إلى الغير، ولا إلى نفسه.
أما بالنسبة للشراء: فكأن يقول له: اشتر لي سيارةَ فلانٍ أو اشتر لي عمارة فلانٍ، فلا يجوز أن يشتري عمارة غيره، ولا يجوز أن يشتري عمارة نفسه وجهاً واحداً.
الحالة الثانية: أن يقول الوكيل: يا فلان! اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، ولم يحدد لك المعرض الذي تشتري منه، ولا الشخص الذي تأخذ منه، فحينئذٍ يرد سؤالٌ فقهي عن الوكالة مطلقة، فالوكالة المطلقة لا تتقيد إلا بأحد أمرين: إما اللفظ، وإما العرف بالنسبة للمعاملات، وقد يدخل التقييد الشرعي، فإذا قال لك: اشتر لي سيارةً بعشرة آلاف، فهل هذا الإطلاق مقيد أو هو على الأصل من أنه مطلق؟ وللعلماء وجهان: بعض العلماء يقول: إذا قال لك: بع لي عمارتي بعشرة آلاف، أو بعها بقيمة السوق، فإنه قد أطلق، حتى لو أردت أن تشتري لنفسك فلا بأس؛ لأنه قال: بع، ومقصوده أن يحصل على الثمن، بغض النظر أن تكون أنت المشتري أو يكون غيرك، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.
المذهب الثاني يقول: إن الإطلاق من صاحب السيارة مقيدٌ بالعرف، وكأنه حينما قال لك: بع سيارتي بعشرة آلاف، كأنه يقول لك: بعها إلى غيرك، ولم يقصد أن يبيعها لك أنت، قالوا: فإذا اشتريتها أنت لنفسك خرجت عن الوكالة.
فعندنا وجهان للعلماء: الوجه الأول يقول: من قال لك: وكلتك في أمرٍ أخذاً أو إعطاء فإنه يبقى على إطلاقه، حتى لو أردت أن تبيع وتشتري من نفسك فلا بأس، ويدخل في هذا التوكيل في الإجارات، فمثلاً: لو أن شخصاً أراد أن يصور مذكرةً أو كتاباً، فقال لك: يا فلان! صور لي هذا الكتاب بمائة ريال، أو صوره بسعر السوق، وعندك آلة تصوير، فذهبت وصورت الكتاب كاملاً وقيمة التصوير في السوق مائة ريال، وجئت وقلت له: التصوير يكلف مائة، فأخذت منه المائة، فهذه إجارة أيضاً، وكذلك لو وكلك على شيء قمت به بنفسك، كما لو قال: يا فلان! رتب لي هذه المكتبة بمائة أو بخمسين، فبدل أن يقوم ويأتي بشخصٍ أجنبي قام هو بنفسه ورتبها دون علم الموكل ودون إذنه.
فالمسألة لا تختص بالبيع والشراء، بل حتى في الإجارة حينما يوكلك شخص على إجارة معينة فتقوم أنت بنفسك وتستأجر المحل، ولو قال لك: هذه شقتي أجرها بعشرة آلاف في السنة، فنظرت فإذا هي طيبة وتستحق أن تسكنها، فأخذتها لنفسك أو استأجرتها لولدك أو لزوجك أو لأحد قرابتك، لكنك أنت الذي توليت العقد، ففي هذه الصور كلها يأتي الوجهان للعلماء: من أهل العلم من يقول: الوكالة المطلقة تستلزم حصول الغرض، بغض النظر عن الشخص الذي يريد أن يبيع أو يشتري معه سواءً كان الوكيل أو غيره.
الوجه الثاني يقول: إن الوكالة المطلقة مقيدة بالغير، فلا يصح للوكيل أن يدخل بين الموكل وبين الأجنبي.
والذين يقولون: الوكالة المطلقة مقيدة، فلو قال لك شخص: بع السيارة، فلا يجوز أن تشتريها لنفسك، استدلوا بدليلين: الدليل الأول: قالوا: إن الإطلاق في اللفظ مقيدٌ بالعرف كما ذكرنا؛ لأنه قال لك: بع سيارتي بعشرة آلاف يقولون: ولو كان المراد أن تشتريها أنت لقال لك: يا فلان! اشتر سيارتي بعشرة آلاف، فكونه يخاطبك على وجه الإطلاق، فهذا الإطلاق المراد به الأجنبي عنك ولست داخلاً فيه.
الوجه الثاني: أن التهمة تحصل للوكيل، فإن الوكيل ربما حابى لنفسه، فالنفوس مجبولة على جلب الخير لها ودفع الضرر عنها، وعقود البيع والشراء فيها غبن وغرر، والغالب أن الإنسان لا يدخل الضرر على نفسه لأجل موكله، بعبارةٍ أخرى: لو كانت السيارة قيمتها عشرة آلاف فستشترها بتسعة آلاف ونصف أو تشتريها بتسعة آلاف إلا ربع، أو يشتريها بتسعة، فقالوا: لو فتحنا للوكلاء أن يبيعوا ويشتروا لأنفسهم لأضر ذلك بأموال الناس، والشريعة جاءت بدفع الضرر، وليس كل وكيلٍ يكون أميناً في مثل هذا، هذا حاصل ما استدل به من منع.
ومن أجاز وقال: يجوز لك أن تبيع وتشتري لنفسك، ويجوز لك أن تؤجر لنفسك، وأن تتولى الطرف الثاني للعقد، قالوا: إنه أطلق الوكالة، والقاعدة تقول: (المطلق يبقى على إطلاقه)، وهذا الإطلاق يشمل الوكيل؛ لأنه قال له: بع سيارتي ولم يقل: من غيرك، إنما قال له: بع سيارتي، فكما أن غيره يدخل في هذا الإطلاق، كذلك هو داخلٌ فيه.
الوجه الثاني: أن المقصود من الوكالة هو بيع العمارة أو بيع السيارة أو حصول المنفعة، وليس هناك في الشريعة نظر للشخص الذي سيقوم بتلك المنفعة، فعندما قال لك: بع العمارة، لو كان له غرض في الشخص الذي يشتريها لكان قال: بع العمارة إلى فلان، بع العمارة إلى الضعفاء، أجر العمارة بخمسمائة للفقراء مثلاً، فلما كان مالك السلعة لا غرض له في الطرف الثاني وليس له مقصود في الطرف الثاني، وقال لك: بع العمارة، أو صوّر الكتاب، فالمقصود أن يحصل التصوير وأن يحصل البيع وأن يحصل الشراء بغض النظر عن الطرف الثاني، وهذا الوجه الثاني هو الصحيح: أنه يجوز للوكيل أن يتولى الشراء بنفسه والبيع لنفسه ولا حرج عليه، فإذا أعطاك رجلٌ مالاً على أن تشتري عمارةً أو سيارةً أو أرضاً فلا حرج أن تكون الطرف الثاني الذي يبيع، ولا حرج عليك إذا أعطاك أرضاً لكي تبيعها أو شقةً من أجل أن تؤجرها أن تكون الطرف الثاني المشتري أو المستأجر، والدليل على ذلك: أولاً: إطلاق اللفظ، والألفاظ معتبرة في العقود.
ثانياً: قولهم: إن التهمة تلحقه؛ لأنه ربما حابى نفسه، نقول: نحن نشترط أن لا يكون الوكيل قد حابى نفسه، فنحن نصحح البيع ولكن نقول: بشرط أن لا يحابي نفسه، وأما قولهم: إن التهمة موجودة، فهذا لا يستلزم البطلان؛ لأنه ربما باع الوكيل إلى أحد قرابته، فلو أن الوكيل باع لأحد أقربائه فإن التهمة موجودة، لكن كونه يبيع بثمنٍ المثل هذا لا تهمة فيه، وبناءً على ذلك نقول: إذا اشتريت العمارة بثمنها، والسيارة بحقها، والأرض بقيمتها، فبيعك صحيح، وشراؤك صحيح، وعلى هذا يكون فيك طرفان من العقد: بائع من وجه ومشتر من وجه، بائع وكيلاً، ومشترٍ أصيلاً، بائع عن غيرك ومشترٍ لنفسك، أو بائع لنفسك ومشترٍ لغيرك، إذا عُرِفت هذه المسألة فهناك مسألة ثانية: إذا قلنا: يجوز للشخص أن يكون وكيلاً في البيع والشراء، فهل يشمل ذلك الحقوق المالية؟ فمثلاً: الحقوق المتعلقة بالعبادات، لو أن رجلا أعطاك مائة ألف، أو أعطى رجلاً مائة ألف وقال: أعطها للفقراء، أو للمستحقين زكاةً، وكان الشخص الذي هو وكيل فقيراً أو مديوناً أو مجاهداً فله سهم الفقر، أو سهم الغُرم إذا كان مديوناً، أو سهم الجهاد في سبيل الله إن كان من المجاهدين، فهل يجوز له أن يأخذ من هذا المال إذا وكّل بالزكاة؟ للعلماء أيضاً وجهان: الوجه الأول: لا يجوز له أن يأخذ من هذه الزكاة بل يدفعها إلى الغير حتى ولو كانت فيه صفة الغير.
الوجه الثاني: يجوز، وهو الأقوى، إلا أن الأورع والأشبه أن لا يأخذ، والأفضل أن لا يأخذ؛ لأن المشكلة في الزكاة شبهة العبادة بخلاف مسألة البيع والشراء؛ لأن مسألة البيع والشراء المقصود: حصول الثمن، لكن الزكاة فيها شيء من التعبد، فالذي دفع الزكاة دفعها لغيرك بنية الغير ولم يدفعها بنية أن تكون لك، ولذلك هذه الشبهة تجعل الأفضل والأورع للإنسان أن يتقي ذلك وإن كان أصل المسألة في الوكالة صحيحاً؛ لأن المعنى الذي أجزنا به البيع والشراء ضعيفٌ في مسألة الزكاة، لذلك من حيث الورع الأولى أن لا يأخذ.
الخلاصة: يجوز للشخص إذا وكل ببيع الشيء وشرائه أن يشتري لنفسه، ولكن بشرط أن لا يحابي، فلو قال رجل لرجل: بع سيارتي في السوق فذهب إلى السوق وحرج على السيارة أو أقام عليها مزاداً ووصلت إلى عشرة آلاف، فقال: أنا أشتريها، ودفع العشرة الآلاف صح ذلك، لكن الإشكال ليس هنا، فلو أنه أقامها في المزاد، وقيمتها عشرة آلاف، والذي زاد بالعشرة شخص معين، فقال: أنا أشريها بعشرة آلاف، فحينئذٍ يرد
**السؤال
هل من حق الوكيل أن يأخذها لنفسه بعشرة آلاف؟ نقول: لا، حتى يزيد عليه؛ لأن هذا الرجل الذي زاد بعشرة آلاف يستحق السيارة، فإذا جاء الوكيل يزاحمه فقد استغل وكالته، وأخذ لحظ نفسه، فيدخل معه في المزاد كسائر الناس دفعاً للتهمة والريبة، وهكذا لو كان المبيع عمارةً أو أرضاً أو مزرعةً وكانت بالمزاد فإن الوكيل لا يأخذ بآخر المزاد إذا كان هناك من يرغب ووقف عليه المزاد إلا إذا نافسه، فإذا نافسه صح له ذلك.
يبقى السؤال: لماذا نصحح للوكيل أن يكون بائعاً من وجه ومشترٍ من وجه أليس هذا تضاداً؟ فالإنسان إما بائعٌ وإما مشتر، فكيف نقول: يبيع السيارة لنفسه ويبيع الأرض لنفسه ويشتري لنفسه؟ قالوا: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه يجوز أن يتولى الشخص الواحد طرفي العقد كما في ابن العم يتزوج اليتيمة تحت ولايته؛ فإنه زوج من وجه وم
**حكم بيع الوكيل وشراؤه من ولده
قال رحمه الله: [من نفسه وولده].
الإمام أحمد رحمةُ الله عليه روي عنه أكثر من رواية في هذه المسألة؛ فتارة المنع: فلا يجيز للوكيل أن يتولى طرفي العقد، وفي مسألة الزكاة منع من أن يأخذ من سهم الزكاة إذا كان الذي أعطى الزكاة عمم، وهذه الرواية التي فيها المنع اختارها المصنف رحمه الله واختارها القاضي، واختارها جمهرة من أصحاب الإمام أحمد، أنه لا يجوز للوكيل أن يكون بائعاً أو مشترياً، وكذلك لا يكون مستأجراً كما ذكرنا التفصيل في المسألة.
لكن هناك رواية ثانية: أنه يجوز بشرط: أن لا يحابي نفسه، ويتولى الزيادة على السلعة غيره.
وهناك رواية ثالثة ذكرها الزركشي رحمه الله، والذي اختاره المصنف وصاحب المختصر الخرقي -أنه لا يجوز، والصحيح ما ذكرناه من أنه يجوز، وإذا مشينا على ما قاله المصنف: لا يجوز للوكيل أن يشتري لنفسه ولا أن يبيع لنفسه، فهل أولاده مثله؟ فمثلاً: لو قال رجل لرجل: أجّر هذه الشقة أو هذه العمارة بعشرة آلاف في السنة، فجاء أحد أبناء الوكيل وقال: أنا آخذها بعشرة آلاف فهل له ذلك أو لا؟ عند من يمنع يقول: كذلك الولد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في فاطمة: (إنما فاطمة بضعةٌ مني) فدل على أن الولد جزءٌ من والده، فإذا منعت الوالد من شيء تمنع أيضاً ولده منه، قالوا: فلا يبيع لنفسه ولا لولده، ولا يشتري لنفسه ولا لولده، وهكذا قضية المكاتب، وكل الذي ذكره هنا مبني على أن فرع الشيء كالشيء
**حكم بيع الوكيل بالعرض
قال رحمه الله: [ولا يبيع بعرضٍ ولا نسأ ولا بغير نقد البلد].
هذه المسألة في الوكالة مثالها: أن يقول لك شخص: بع عمارتي أو بع سيارتي أو بع مزرعتي، فوكلك في البيع، فإذا وكلك في البيع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يحدد لك القيمة والثمن المدفوع مقابل المبيع، فيقول لك مثلاً: بع عمارتي بمليون ريال، فحينئذٍ حدد لك المال، وحدد لك نوعية المدفوع وهو الثمن الذي هو من الفضة، فلا يجوز أن ينصرف الوكيل إلى الذهب، ولا يجوز أن ينصرف إلى نقدٍ ثانٍ من حيث الأصل، لكن إذا كان أفضل، فستأتي مسألة إذا كان الذهب أغلى، فبدل أن يبيعه بمليون ريال باعه مثلاً بأربعمائة ألف دولار، وهذا أكثر من المليون ريال، فهل يصح أو لا يصح؟ سيأتي إن شاء الله، لكن من حيث الأصل أنه إذا حدد لك الذهب أو الفضة أو قال لك: بع بذهب أو فضة، فإنه لا يجوز أن تنصرف إلى غيرهما وهو الذي يسمى بالعروض، فعندنا ثلاثة أشياء من المقابلات الأول: الثمن، وهذا يشمل الذهب والفضة.
الثاني: العرض المنقول من غير العقارات، كالأطعمة والأكسية والأقمشة ونحوها.
النوع الثالث: أن يكون من العقارات، فإذا وكل شخصٌ شخصاً أن يبيع شيئاً أو يشتري شيئاً بشيء آخر فهذا الشيء الآخر إما ثمن وإما مثمن، فإن كان حدد له الثمن وقال له: بع هذه الثلاجة -ونحن نضرب أمثلة لأشياء موجودة حتى تكون الصورة أوضح؛ لأن هذا هو الذي تعم به بلوى الناس، وهذا الذي يسأل الناس عنه، لكن لو مثلنا بأمثلة قديمة قد يخفى على الكثير- فمثلاً لو قال له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف ريال، فليس من حقه أن يذهب ويبيع السيارة بسيارة أخرى؛ إذ يمكن أن يبيع السيارة بسيارة أخرى على سبيل المبادلة، والسيارة الأخرى عرض، فلا يجوز إذا حدد له الذهب والفضة أن ينصرف إلى العروض.
ولو قال له: بالعروض، فما مثاله؟ مثاله ما هو موجود في محلات الاستبدال، كاستبدال السيارات، واستبدال الأجهزة الكهربائية، فلو قال للعامل في المحل: بع هذه الثلاجات الجديدة بثلاجات قديمة مضاعفة، يعني: الثلاجة الجديدة بثلاجتين من نوع كذا وحدد له، فلا يجوز أن يبيع بالنقد من حيث الأصل؛ لأنه أمره أن يبيع بالعرض، فإذاً: إذا وكله بالعرض يشمل مثلاً: الثلاجة بالثلاجة ويشمل العقارات، كأن تأتي إلى مكتب العقار، وتقول له: وكلتك أن تبيع أرضي في المدينة ببدل عنها في مكة، وتكون هذه القطعة (30×30) فيقول مثلاً: أريد قطعة (30×30) بدلاً عنها.
فإذاً البدل هنا: عقار، فلا يجوز لمكتب العقار أن يبيع ويتصرف فيبيع بالنقد؛ لأنك عينت له المقابل من العقارات، فالمقابل إما أن يكون من النقد ذهباً كان أو فضة، أو من العقارات كالبيوت والعمائر والفلل والمزارع، تقول: بع مزرعتي هذه بمزرعةٍ في المدينة، بع عمارتي هذه بعمارة في جدة، فهذا عقار بعقار، وعرض بعرض كما ذكرنا، بع سيارة بسيارة من نوع كذا وكذا، فهذه ثلاثة أحوال.
نرجع إلى الحالة الأولى وهي: أن يحدد له النقد من الذهب والفضة، إذا قال له: بع مثلاً بالذهب، والذهب من أمثلته الآن الأرصدة، فمثلاً: الدولارات رصيدها ذهب، الجنيهات: رصيدها ذهب، الريالات: رصيدها فضة، فإذا قال له: بع هذه السيارة بألف ريالٍ فقد عين الفضة، ولو قال له: بعها بألف جنيهٍ فقد عين الذهب، وإذا عين الذهب أو عين الفضة فإنه ينصرف إلى الذهب والفضة، لكن لو أطلق وقال له: يا محمد! بع سيارتي وسكت، فهذا إطلاق، فهل نقول: يجوز له أن يبيعها بالنقد، أو يبيعها بالعرض، أو يبيعها بالعقار أم أن هذا المطلق يتقيد بالعرف؟
**الجواب
يتقيد هذا المطلق بالعرف، فلو أتيت إلى مكتب العقار فقلت: بع أرضي وسكت، فنعلم جميعاً أنها تباع بالريالات، وبناءً على ذلك يتولى بيعها بالنقد الذي هو الثمن من الفضة.
لكن لو كان هناك عملتان فمثلاً: عندنا ريالات ودولارات، والناس يتعاملون في بلدٍ ما بعملتين على حدٍ سواء، فإذا كانوا يتعاملون بعملتين كالريالات والدولارات فإننا ننظر إلى الأكثر رواجاً، فإذا قلت له: بع سيارتي بعشرة آلاف فهمنا أنها ريالات؛ لأنها أكثر رواجاً، لكن لو أن النقدين استويا مثل ما يقع الآن في الأسواق الحرة بين الدول، تكون هناك أسواق حرة يتعامل فيها بنقد البلدين، مثلاً: دولتان جارتان تتعاملان مع بعضهما، وتكون هناك سوق مفتوح بينهما، فما تستطيع أن تقول: إن الغالب عملة هذا البلد أو هذا البلد، فلو أن شخصاً بعث شخصاً إلى هذا السوق، وقال له: اشتر لي بعشرة آلاف سيارة، فهل ينصرف إلى الريالات أو إلى الدولارات؟ يتقيد بعرفه إن كان خاطبه بعرفه، فلو قال له ذلك في بلدٍ يتعامل بالريالات فإنه يتقيد بالريالات، وإن خاطبه في بلدٍ فيه الدولارات فإنه يتقيد بالدولارات، أما لو أنه خاطبه في نفس السوق أو في الموضع الذي يتردد فيه الثمنان فحينئذ يخير الوكيل بين الريالات والدولارات بأيهما باع.
وعلى هذا: يصح بيعه وينفذ إذا كان بالريالات، ويصح بيعه وينفذ إذا كان بغيرها.
فيقول رحمه الله: (ولا يبيع بعرض).
بناءً على ذلك: لو أن رجلاً اشتكى رجلاً وقال: أعطيته سيارتي يبيعها في السوق، وقلت له: بع سيارتي، فذهب وباعها بعشرة آلاف ريال، وأنا قصدت أن يبيعها بسيارة مثلها، فهل تقبل دعواه؟ الجواب: لا تقبل؛ لأن الإطلاق منصرف إلى الغالب، والغالب أنها تباع بالريالات، فالذي يريد عرضاً يُقيد النادر بقيده فيقول: بع هذه السيارة بمثلها، لكن لما قال له: بعها وسكت، فالجاري في العرف أن تباع بريالات، لكن لو أن هذا السوق معروف أنه لا يتبايع إلا بالبدل، مثل ما يقع في الأسواق التي تختص بالمبادلات أو كان -مثلاً- في بيئة يعز فيها وجود الذهب والفضة، وتجدهم غالباً يتبايعون بالبدل، فحينئذٍ إذا باع بالبدل صح بيعه؛ لأن العرف يقيد هذا الإطلاق، وكما يقيده بالذهب والفضة فإنه يقيده بالعروض
**حكم بيع الوكيل إلى أجل
قوله: (ولا نسأ).
النسأ: التأخير، يقال: أنسأ إذا أخر، والنسيئة التأخير، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]؛ لأن كفار قريش كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن وقتها، والمراد بالنسيئة: بيع التقسيط وبيع الأجل، وبيع التقسيط فيه شبه إجماع عند العلماء على جوازه، يعني: شبه الإجماع على جواز بيع التقسيط، وليس من بيعتين في بيعة، فهذا شيء، وبيع التقسيط شيءٌ آخر، ولا يكون بيع التقسيط من بيعتين في بيعة إلا إذا افترق المتعاقدان دون أن يحددا إحدى الصفقتين، أما إذا حددا هل هو بالنقد أو التقسيط فحينئذٍ لا إشكال، وهذا أفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حينما سُئِل عن بيع الرجل بتسعة حاضرة وعشرة إلى أجل، فقال: (لا بأس إذا عين)، كما رواه عبد الرزاق في المصنف وغيره، كما حكى ابن سيرين عمل السلف رحمهم الله، وما جاء عن سماك، فـ سماك من أتباع التابعين، وليس مثله معارضاً لمن هو أعلم منه كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين، وعلى ذلك الأئمة الأربعة كلهم، وكذلك الظاهرية، أنه إذا حدد إحدى البيعتين فليس من بيعتين في بيعة، إنما بيعتان في بيعة إذا قال له: بيعة بالنقد وبالتقسيط، وافترقا دون أن يحددا، فأصبح عقدان في عقدٍ واحد، أما إذا حددا فلا إشكال، فنحن نقول: بيع النسيئة كبيع التقسيط وبيع الأجل، يقول المصنف: (ولا نسأ)، يعني: الشخص الذي تقيمه في المحل أو في المتجر يبيع لك البضاعة أو يبيع لك السلع إذا وكلته بالبيع فلا يجوز أن يبيع بالدين إلا إذا أذنت له، فإذا أذنت له أن يبيع بالدين جاز، أما إذا لم تأذن له فلا يجوز.
ولو قلت له: بع، وسكتَّ، فهل هذا الإطلاق يبقى على ما هو عليه فيصح أن يبيع بالدين وبالنقد أو لا؟ قالوا -وهذا هو الأصح عند العلماء، ومذهب الجمهور-: إن الإطلاق ينصرف إلى الحلول، هذه قاعدة عندهم في هذه الإطلاقات، أن إطلاق النسيئة والنقد ينصرف إلى النقد، فإذا قال شخص لآخر: بع سيارتي، فهذا الإطلاق منصرفٌ إلى النقد، وبناءً على ذلك لا تخلو المسألة من صورتين: الصورة الأولى: أن تقول له: بع سيارتي هذه بعشرة آلاف نقدا، أو بع بضائع هذا المحل بالنقد ولا تبع بالدين، فلا يجوز له أن يبيع بالدين، فإذا باع بالدين وقد نهيته عنه لزمه أن يدفع الثمن حالاً، ويكون وجهه على من باعه بالدين، مثال ذلك: لو قلت له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف نقداً فباعها نسيئة، فقال طائفة من العلماء: يصحح العقد، على القول بأن الضرر لا ينفي الصحة، ثم يلزم الوكيل بدفع العشرة آلاف، ويبقى وجهه لمن أعطاه إياه نسيئة، قالوا: لأنه تصرف خارج عن الوكالة.
وقال طائفةٌ من العلماء: إذا أقمته في المحل وقلت له: بع نقداً ولا تبع نسيئةً، فباع نسيئةً بطل البيع، وهذا أقوى، أنه يبطل البيع ويفسخ، ويرد المتاع إلى صاحبه، ولا يصحح العقد على هذا الوجه، هذا بالنسبة لمسألة النسيئة والنقد، وعلى هذا فليس من حق الوكيل أن يبيع نسيئةً إلا إذا أذن له موكله
**حكم بيع الوكيل بغير نقد البلد
قوله: (ولا بغير نقد البلد).
إذا قال له: بع بعشرة آلافٍ، فإنها تنصرف إلى نقد البلد، ولذلك يقولون: (المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً)، فإذا قال له: بعها بعشرة آلاف، في بيئة تتعامل بالريالات، انصرف إلى الريالات وأصبح الإطلاق مقيداً بالعرف
**حكم الوكيل إذا باع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له الموكل
قال رحمه الله: [وإن باع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له، أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدره له صح وضمن النقص والزيادة].
(وإن باع بدون ثمن المثل).
هذه المسائل يخرج فيها الوكيل إلى الضرر، فتارةً يدخل الضرر عليك بزيادة الثمن الذي يشتري به، وتارةً يدخل الضرر عليك بالنقص في الثمن الذي يبيع به، فالوكيل له حالتان: الحالة الأولى: أن توكله بالبيع أو بالتأجير، فتقول له: بع السيارة بعشرة آلاف أو أجر هذه العمارة بعشرة آلاف، هذا كله توكيل بالبذل، وتارة توكله بالأخذ فتقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف أو استأجر لي عمارة بعشرة آلاف، ففي كلتا الصورتين إذا التزم قولك فلا إشكال.
وقد يخرج عن قولك بضرر أو بمنفعة، كأن تقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فيذهب ويشتريها بتسعة آلاف، هذا خروج بمنفعة، أو تقول له: اشتر لي سيارة بعشرة آلاف، فيشتريها لك بأحد عشر ألفاً هذا أخذ بضرر، تقول له: أجر لي هذه العمارة بعشرة آلاف، فيؤجرها بإحدى عشر ألفاً، فهذا أخذٌ بمنفعة، فإن أجرها بتسعة آلاف فهذا أخذٌ بضرر، فإذا خرج الوكيل عن الوكالة التي وكلته إياها بالتقييد باللفظ أو بالعرف الذي عليه ثمن المثل، كأن تقول له: أنت في المحل أو في البقالة وكلتك أن تشتري بضائع الوكالة وتبيعها للناس، فأنت إذا قلت له: وكلتك أن تجلس في المحل تبيع وتشتري فقد أطلقت له أن يتصرف في حدود المصلحة، فليس من حقه أن يشتري شيئاً بأكثر من قيمته، وليس من حقه أن يبيع شيئاً في البقالة بثمنٍ أقل من قيمته، فمثال الأول: لو أقمته في معرض سيارات، ووكلته أن يشتري هذه السيارات وقيمتها في السوق -مثلاً- بنصف مليون، فأقمته يشتريها، فذهب واشترى عدداً من السيارات بستمائة ألف، فأدخل عليك الضرر في حدود مائة ألف في الشراء، أو يبيعها وتكون السيارات تباع بمليون فيبيعها بتسعمائة ألف فيدخل عليك الضرر بمائة ألف.
في هذه الحالات يرد
**السؤال
في باب الوكالة -ومن عادة العلماء أن يبحثوا في هذه المسائل-: الوكيل إذا تجاوز الحدود المعتبرة في الوكالة فأدخل الضرر آخذاً أو معطياً، فهل الذي يتحمل الضرر هو أنت -صاحب المحل والأصيل الموكل- أم أن الذي يتحمل الضرر هو الوكيل؟ لأنك أذنت له فيما لا ضرر فيه، فتصرف بما فيه ضرر فهل يتحمل مسئولية تصرفه، هذه هي المسألة.
وعلى هذا: يحتاج الأمر إلى التفصيل من حيث المنفعة والمضرة، فابتدأ المصنف رحمه الله بالضرر، وهو أن يتصرف الوكيل بالبيع والشراء ويدخل الضرر عليك في البيع والشراء، فتقول له: بع سيارة بعشرة آلاف فيبيعها بتسعة آلاف، أو تقول له: بع سيارة، وتسكت، والسيارة تباع بعشرة آلاف فباعها بتسعة، فهل يضمن أو لا يضمن؟ قال رحمه الله: (وإن باع بدون ثمن المثل).
وثمن المثل: هو المعروف في السوق أنه لمثل هذه السيارة، فالأصل يقتضي أن يبيع بثمن المثل، والإطلاق بقولك: بعت، يقتضي التقيد بالعرف، وهذا كله مندرج تحت القاعدة التي سبق التنبيه عليها والتي تقول: (العادة محكمة)، وهي إحدى القواعد الخمس التي انبنى عليها الفقه الإسلامي، (العادة محكمة)، أي: أننا نحتكم إلى عرف المسلمين وعوائدهم في متاجرهم وأسواقهم، ونحتكم إلى أهل الخبرة فيما يقولونه في البيوعات، وكذلك في الشراء في ثمن المثل، فنسألهم: هذه العمارة لو بيعت كم قيمة مثلها؟ قالوا: مليون، فباعها بتسعمائة ألف، يتحمل ذلك الوكيل الضرر الذي هو المائة الألف.
(أو دون ما قدره له).
عندنا صورتان: إما أن تحدد له القيمة فيبيع بأقل، أو تطلق فيبيع بأقل من ثمن المثل، لكن في الحقيقة كونك تقدر له الثمن أكثر من قضية ثمن المثل؛ لأن ثمن المثل في بعض الأحيان تكون قيمة العمارة مليوناً، وهناك شيء يسمى الغبن، فتكون العمارة تستحق هذه القيمة التي هي المليون، لكن قد يتسامح بعض الناس ويبيع بتسعمائة وخمسين ألفاً، فمعناه: أن هناك شبهة في الخمسين الألف، فعندنا شيء يسمى: ثمن المثل، وعندنا شيء يسمى: الغبن بالمثل، أي: فيما يتغابن بمثله الناس، فلا ننظر فقط إلى قضية المليون، بل الأمر يرجع إلى أهل الخبرة، ونسأل أهل العقارات إن كان المبيع عقاراً، وأهل الأطعمة إن كان المبيع طعاماً، وأهل السيارات إن كان المبيع سيارةً، وهذا الذي يقول عنه العلماء: يسأل عنه أهل الخبرة، فإذا كان المبيع قيمته -مثلاً- في حدود خمسمائة ألف، وممكن لشخص أن يبيعه بأربعمائة وخمسين ألفاً، لكن ما يبيع بأقل من أربعمائة وخمسين إلا رجل لا يحسن البيع، فإذا باع بأقل من أربعمائة وخمسين ألفاً كانت عليه المؤاخذة، وإذا كان في حدود ما بين أربعمائة وخمسين إلى نصف مليون فالأمر أخف، وهذا هو الذي يفرق فيه بين ثمن المثل وبين التخفيف
**حكم الوكيل إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل أو مما قدره له الموكل
قال رحمه الله: (أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل أو مما قدره له صح وضمن النقص والزيادة).
هنا إشكال: قلت لرجل: اشتر لي قطعة أرض في المخطط الفلاني بمائتي ألف، فذهب واشترى لك أرضاً في مخطط بمائتين وخمسين ألفاً، ثم جاء وقال لك: اشتريت لك قطعة أرض بمائتين وخمسين ألفاً، فقلت له: يا أخي! وكلتك أن تشتري لي بمائتين، فالسؤال الآن: إن جئنا ننظر إلى الوكالة فهي بمائتي ألف، فالأصل يقتضي أن البيع غير لازم وغير صحيح بالنسبة للموكل، لكن بالنسبة للوكيل الذي هو مكتب العقار الذي اشترى الأرض بمائتين وخمسين ألفاً، فيه وجهان: الوجه الأول: نقول: في الواقع أن هذا المكتب كأنه اشترى لنفسه، فحينئذٍ نقول: صح البيع وتصبح الأرض في الحقيقة مشتراة لصاحب المكتب؛ لأن الوكالة لأرض بمائتي ألف، فإذا ذهب يشتري أرضاً بمائتين وخمسين، بل لو كان ريالاً واحداً زائداً عن الوكالة فقد خرج عن الوكالة، كما لو اشترى شيئاً أجنبياً.
فنقول: بناءً على ذلك: يكون الوكيل هو المتحمل لهذه الأرض، ويصح البيع على ذمته هو، فتصبح الأرض ملكاً لمكتب العقار.
الوجه الثاني: نصحح البيع؛ لأن الوكيل اشترى لفلان، والخمسون الألف يغرمها صاحب مكتب العقار، ويكون البيع صحيحاً ويضمن صاحب مكتب العقار الخمسين؛ لأنه أدخل الضرر على نفسه على بصيرة، فهو اشترى ونيته لفلان، فعلى هذا كأنه تنازل عن الخمسين لفلان، فإن شاء فلان أن يعطيه الخمسين أعطاه، وإن شاء أن لا يعطيه فلا يعطيه، فالعقد لما أبرم والصيغة لما وقعت بين الطرفين وقعت ملكاً لفلان، وهذا من حيث الأصل في الحقيقة قوي جداً، أن العقد تم على أن السلعة مباعة لفلان، والبائع باعها لفلان، والوكيل قبل عن فلان، فأوجب الصفقة وتمت بمائتين وخمسين ألفاً، وقد رضي على نفسه؛ لأنه علم أن فلاناً أعطاه مائتين في الأرض، فإذا ذهب يأخذها بمائتين وخمسين ألفاً فقد أدخل على نفسه الضرر، وبناءً على ذلك يضمن الزيادة ولا يضمنها الموكل، وهذا هو الذي اختاره الأئمة رحمهم الله ودرجوا عليه، والقاعدة تقول: (الإعمال أولى من الإهمال)، وتفرع عليها قولهم: (تصحيح العقود ما أمكن).
فصاحب مكتب العقار عندما يذهب يشتري لك الأرض سيقول: بعني يا فلان! هذه الأرض لفلان، قال له: بكم؟ قال: بمائتين وخمسين ألفاً، قال: قبلت، تم البيع بمائتين وخمسين ألفاً لفلان، فمعناه: أن الإيجاب والقبول عقد، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فهذا الإيجاب والقبول لا يسقط، وهذا معنى قولهم: (الإعمال أولى من الإهمال)؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فيصح العقد ويتحمل صاحب المكتب غرامة الخمسين، فإن شاء صاحب الأرض أن يعطيه إياها عطاه، وإلا فليس بملزم بإدخال الضرر على نفسه، وهكذا في البيع.
قال رحمه الله: [وإن باع بأزيد أو قال: بع بكذا مؤجلاً، فباع به حالاً، أو اشترى بكذا حالاً، فاشترى به مؤجلاً ولا ضرر فيهما، صح وإلا فلا].
قال رحمه الله: (وإن باع بأزيد).
هنا المسألة على خلاف المسألة السابقة، الأولى غرم، والثانية غنم، والأولى خسارة، والثانية ربح، أنت وكلت -وبعض الوكلاء فيه عقل وحسن نصيحة- فقلت له: بعها بعشرة آلاف، فباعها بعشرين ألفاً، وقلت له: بع نسيئةً فباع حالاً، فهذا لا شك أن ثمن الحال أفضل من المؤجل؛ لأن المؤجل ربما أفلس المديون، ولربما ماطلك، ولربما تأخر في سداد حقك بسبب غياب أو سفر أو ظروف تلم به، فمن مصلحتك أن يكون الثمن حالاً، قلت له: يا فلان! بع هذه السيارة بعشرين ألفاً إلى نهاية السنة، فذهب وباعها بعشرين ألفاً نقداً، من مصلحتك أن تأخذها نقداً، فهنا المسألة على خلاف المسائل المتقدمة وهي مسائل الربح، وهي تحتاج إلى شيء من التفصيل يأتي الكلام عنه إن شاء الله
**الأسئلة
**التفصيل في خيار المجلس متى يثبت
**السؤال
هل خيار المجلس يثبت في سلعةٍ تحتاج إلى تجهيز ومئونة وكلفة من قبل البائع أم ليس من حق المشتري ذلك؟
**الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فخيار المجلس ثابتٌ للطرفين ما دام في مجلس البيع والشراء والعقد، فإذا كانت السلعة تحتاج إلى نقل فلا يخلو من حالتين: إذا تم الإيجاب والقبول في مجلس العقد، وافترقا من أجل أن تنقل السلع، وذهب البائع والمشتري، وفارق أحدهما الآخر فراقاً مؤثراً فقد تم البيع ووجب، وانقطع خيار المجلس.
لكن لو قال له: بع لي سيارتك بعشرة آلاف أو قال له: عندي سيارة بعشرة آلاف قال له: ما نوعها قال له: نوعها كذا وكذا، وصفاتها كذا وكذا، فلما أعطاه صفات السيارة قال: قبلت، فقاما سوياً مع بعضهما، ونظرا إلى السيارة وقلب السيارة وتأمل فيها ولم يفترقا، وبعد أن نظر فيها قال: لا أريد، مع أن الوصف لم يختلف؛ لأنه في هذه الحالة يكون فيها خياران: خيار المجلس من وجه، وخيار الصفة؛ لأن بيع الغائب فيه خيار الصفة كما بينا، لكن عند من لا يقول بخيار الصفة نقول: يبقى خيار المجلس كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، فإذا كانا في مكانٍ واحد ولم يفترقا ولو ساعات طويلة لتقليب السلعة ونحوها فإن البيع لا يلزم إلا بالافتراق على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) والله تعالى أعلم
**حكم من وكل شخصاً في طلقة واحدة فطلق عنه ثلاث تطليقات
**السؤال
إذا وكل شخصٌ آخر بتطليق امرأته ولم يقيد عدد الطلاق ولكن في نيته أنها تكون طلقةً واحدة، ولكن الموكل طلق ثلاثاً، فما الحكم ديانةً وحكما؟
**الجواب
في الحقيقة مسائل الطلاق توكل إلى القضاء، خاصةً إذا كانت مسائل خلافية، فمثل هذه المسائل يقع فيها إشكال بين الناس، خاصة في الأزمنة المتأخرة بسبب وقوع الفتن في الطلاق، وتتبع الناس الرخص، فيأتي فيسأل هذا فيقول له: لا يقع الطلاق، ويسأل هذا فيقول: يقع الطلاق، فيصبح الناس في حيرة من أمرهم، فأهل الزوجة استفتوا من يقول: هي حلال، وأهل الزوج استفتوا من يقول: هي حرام، فحينئذٍ يحدث شيء من التضارب في الفتاوى، والإزعاج للناس، إضافةً إلى قلة الأمانة إلا عند قليل من الناس في هذه الأزمنة بالنظر إلى السواد الأعظم من الناس، فإنك تجد الرجل إذا أراد أن يسأل غيّر في السؤال، وقدم في الألفاظ، ومسائل الطلاق ربما حرف واحد يغير فتوى بكلها فقول: أنت طالقٌ طالقٌ طالق، ليس كأنت طالق وطالق وطالق وهو حرفٌ واحد، وأيضاً لو قال: أنت طالق، ثم سكت ثم قال: طالق، ثم سكت، ثم قال: طالق، ليس كقوله: أنت طالق طالق طالق، فمسائل الطلاق مسائل مهمة، وتحتاج إلى شيء من الروية، ولذلك طلاب العلم عليهم أن يكونوا على بصيرة، وأذكر أن الوالد -رحمة الله عليه- كان يمتنع من الفتوى في الطلاق، ويرد ذلك إلى القضاء؛ لأن ذلك أبلغ في زجر الناس، فلابد أن تعرف حقيقة السؤال، وغالباً في القضاء يحضر الرجل وتحضر المرأة، ويعرف ما الذي قاله الرجل، وما الذي تلفظ به.
كذلك أيضاً إذا كانت الفتوى عن طريق المفتي أو نحوه فيمكن معرفة حقيقة الأمر على وجه تندفع به المفسدة، ويؤمن به تلاعب الناس بدين الله عز وجل، فإن الناس ربما أخذتهم الحمية والعاطفة فأصبح الرجل يغير في سؤاله وفتواه حتى ولو علم أنها محرمةٌ عليه والعياذ بالله، ولقد جاءني من ذكر لي مسألة في الطلاق يكاد يكون الإجماع فيها على تحريم المرأة، فسألني إياها بطريقة عجيبة لا تشك أنها طلقةٌ واحدة، وأنها لا تحرم عليه، ولكن تلاعب في اللفظ وتلاعب في الصيغة ولم أفته، لكن لما استقصيت حتى أعرف حقيقة الأمر إذا باللفظ الذي قاله أولاً ليس كاللفظ الذي قاله في أوسط الكلام، وليس كاللفظ الذي قاله في آخر الكلام، هذا واقع وهذا موجود، ومن تعاطى هذه المسائل يعرف ذلك، ولذلك تأدباً مع مشايخنا والعلماء الأجلاء يترك الأمر لكبار العلماء في مثل هذه المسائل، وهذا الذي درج عليه العرف أن تترك الفتوى للعلماء الكبار في مثل هذه المسائل.
ومن فائدة هذا أيضاً: تعريف الناس بقدرهم، فرجوع الناس إلى العلماء الكبار وسؤالهم في المسائل التي تتصل بها بيوتهم يشعرهم بحق العلماء ومكانتهم، فهناك عدة أمور تدعو إلى مثل هذا؛ ومثل مسألتنا هذه بعض العلماء يقول: إذا وكله فإنها تطلق، فإذا طلق طلقةً واحدة انقطعت وفسخت الوكالة؛ لأنه وكله أن يطلق، وأقل ما يصدق عليه الطلاق طلقةٌ واحدة، ومنهم من يقول: ينظر إلى الأكثر، وهذا مبني على: هل العبرة بالألفاظ والإطلاقات بأكمل ما يصدق عليه الوصف أو بأقل ما يصدق عليه الوصف؟ فإن قلنا بالأقل فالعبرة بالطلقة الواحدة، وإن قلنا بالأكثر فالعبرة بالأكثر إلا أن يقيدهُ بواحدة، والله تعالى أعلم
**بيان أن العقود لا تجري على صيغ معينة
**السؤال
ذكرتم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيّن أن أصول الشريعة لا تلزمنا في العقود بلفظٍ معين أو صيغة معينة إلا إذا دلّ الدليل على ذلك، نريد من فضيلتكم بياناً عن ما دل عليه الدليل بالإلزام في العقود؟
**الجواب
هذه المسألة تكلم عليها شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه النفيس: القواعد النورانية، وذكر فيه القواعد الفقهية وأصول أهل الحديث، وأصول أهل الرأي، وبيّن رجحان مذهب أهل الحديث في مسائل العبادات والمعاملات في كتابه هذا الذي يسمى بالقواعد النورانية، وهو مطبوعٌ موجود، فبالنسبة لمسألة التقيد بالألفاظ في العقود فالرجل حينما يوكل غيره ويقول له: وكلتك في شراء أو بيعٍ يقول: إن الأمر يرجع إلى ما تعارف عليه الناس، ولا يحتاج الأمر إلى لفظ معين يتقيد به، وضرب لذلك أمثلة، فمثلاً: قال رحمه الله: إن السلف يكاد يكون كالإجماع بينهم أنهم ينزلون الأفعال منزلة الألفاظ الصريحة، فقد كان الرجل يبني المسجد ويفتح أبوابه للناس ولا يصيح ويقول: أيها الناس! قد أذنت لكم أن تصلوا فيه، فإن فتحه للباب وإشراعه للناس دال على أنه قد أوقف المسجد لله، فليس هناك لفظٌ معين، كذلك من سبّل السبيل من الماء، وأخرج الماء من بيته وأخرج الكيزان للشاربين فإنه لا يحتاج كل من أراد أن يشرب أن يقول: أين صاحب الماء حتى يأذن لي؟! فهذا الإذن المطلق جاء بالفعل، ونزّل الفعل منزلة القول، فليست هناك ألفاظ تعبدية يتقيدبها إلا فيما دل الشرع على التقيّد فيه باللفظ، وهذا معنى بالنسبة للنظر إلى الأفعال الدالة على الأقوال، وحتى الألفاظ نفسها، فالرجل في بعض الأحيان يقول للرجل كلمةً جرى العرف فيها على الإطلاق، مثلاً: تقول للعامل عندك في المحل: يا فلان! إني أريد سيارة من نوع كذا وكذا (أريد)، ما قلت له: اذهب واشتر، ولا قلت له: تولَّ وأنت وكيلي، فهذا العامل الذي يكون في العمل أو في محلك قال لك: اترك الأمر لي، فسكت؛ لأنه لما قال: اترك الأمر لي عُلِم أنه يريد منك تفويضاً وتوكيلاً للقيام بالأمر، فلا يحتاج إلى صيغة: وكلتك أن تقوم بكذا وكذا؛ لأن كلمة اترك الأمر لي، لا يهمك، درج العرف وجرى على أنها دالةٌ على التفويض، فإذاً نقول: إن الألفاظ والصيغ لا يلزم فيها الناس بصيغٍ معينة متى ما قام العرف بالدلالة على المقصود والمراد، والله تعالى أعلم
**ضابط الحنث في اليمين
**السؤال
إذا حلف الإنسان على أمرٍ من الأمور أن لا يفعله، ففعله تبعاً وموافقةً لا قصداً ولا حيلة فهل يكون قد حنث في يمينه؟
**الجواب
ليس عليه إلا الكفارة، وهو يقول: والله لا أفعل، ففعله تبعاً للناس أو فعله مجاراةً للناس، أو فعله بإكراه أو إرضاء لأهله، عاطفةً لزوجه، فليس عليه إلا الكفارة؛ لأنه حنث في يمينه؛ والحنث غالباً ما يكون إلا بشيء لا يختاره الإنسان، فلا إشكال في لزوم الكفارة عليه، إلا إذا أكره، فالإكراه فيه وجهان مبنيان على: هل الأيمان تجري مجرى الأحكام الوضعية التي لا يلتفت فيها إلى القصد والنية أم تجري مجرى الأحكام التكليفية فتؤثر فيها النية؟ والله تعالى أعلم
**حكم بيع ما لا يملك
**السؤال
إذا طلب المشتري سلعةً فقال له البائع: انتهت الآن، ولكن تعال غداً ونحضرها لك، فهل يعتبر ذلك بيع نسيئةٍ من الطرفين؟
**الجواب
إذا قال المشتري: أريد سلعةً، وليست عند البائع، فلا يخلو البائع من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفق معه على ثمن السلعة وقيمتها، ويحدد له أجلاً لأخذها، فهذا لا يجوز إلا إذا كان البائع له فرعٌ آخر فيه السلعة، فحينئذٍ يصح البيع وإلا فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى له حكيم بن حزام رضي الله عنه وقال له: إن الرجل يأتيني ويسألني السلعة وليست عندي، فأبتاع معه ثم أذهب فأشتريها وأبيعها عليه وأعطيه إياها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) فنهاه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما لا يملك.
وبناءً عليه: إذا اتفق الطرفان وكان يريد -مثلاً- قطعة غيار ليست موجودة وانتهت، وقلت له: أريد القطعة الفلانية، فقال هذه القطعة قيمتها مائتين، ادفع مائتين وغداً أحضرها لك، فلا يجوز؛ لأنه باعك ما لا يملك، لكن لو اتصل على محلٍ ثانٍ هو يملكه أو مثلاً له بضائع في المستودع وقال: موجودة عندكم القطعة الفلانية؟ قالوا: نعم، فباعها منك، صح البيع لأنه باع ما يملك.
الصورة الثانية: أن يقول لك: هذه السلعة أحضرها لك غداً، ولا يبين لك ثمنها فحينئذٍ هذا وعدٌ بالبيع ويجوز ذلك، ولست بملزمٍ بهذا البيع؛ لأن البيع ما تم، فيقول لك مثلاً: غداً تأتينا وتكون عندنا السلعة موجودة، أو هناك نوع من السيارات يحضر بعد شهر، وإذا حضرت يكون خيراً، أو إن شاء الله نتفق، أو نحو ذلك فلا بأس، لكن هناك حل: وهو إذا كان التاجر السلعة ليست موجودةً عنده فإنه يقول للمشتري: أنا أحضر لك هذه السلعة وقيمتها وكلفتها عليك، ولكن آخذ منك عمولة عشرة ريالات على القطعة أو آخذ منك عمولة مائة ريال أو ألف ريال إلخ يصح.
مثاله: لو جاء يطلبك سيارةً ليست عندك فتقول له: هذه السيارة جديدة قيمتها -مثلاً- ثمانون ألفاً، وأنا أحضرها لك من جدة بعشرة آلاف، صار بيعاً وإجارة، فهو وكل لك أن تشتري بثمانين ألفاً، وأنت أجيرٌ تحمل هذه السيارة وتتفق مع من يحملها له من جدة إلى المدينة بعشرة آلاف، فيصح ذلك ولا بأس، وتترتب عليه مسائل يطول الكلام فيها، أي: في هذه الصورة الثانية، وهي مسألة التوكيل بالإجارة قد نتعرض لها إن شاء الله في باب الإجارات، والله تعالى أعلم
**معنى الآيات: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... ) في سورة الإسراء
**السؤال
لم أفهم معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75]، فما تفسير ذلك وهل له قصةٌ معينة؟
**الجواب
صيغة الشرط لا تقتضي الوقوع والحدوث من كل وجه كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس:94]، فهذا لا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً كان في شك، وإنما هو أسلوبٌ من أساليب العرب؛ ولذلك قرر العلماء أن صيغة الشرط لا تقتضي تحقق الوقوع كقولك للرجل: إن كنت لا تعرفني فاسأل فلاناً، فإن هذا لا يستلزم أنه لا يعرفك، فقد يكون عارفاً بك، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين في حادثة الإفك: (إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله ثم توبي إليه) يعني: إن كان وقع منك الزنا -حاشا- فاستغفري الله ثم توبي إليه، فليس معنى ذلك أنها فعلاً قد وقعت في الحرام، بل هذا معروفٌ في لغة العرب، ثم إن كاد، من أفعال المقاربة والشروع فقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ } [الإسراء:73] لا يستلزم أنهم فتنوه فعلاً، ولذلك تقول: ما كدت أفعل كذا حتى كان أن يقع كذا، وقال تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، فالتعبير بهذه الصيغة: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ } [الإسراء:73]، يكون من حكاية الحال في شدة ما عاناه عليه الصلاة والسلام من أذية الكفار له، وهو أسوةٌ لكل داعيةٍ إلى الله، ولكل متبعٍ له عليه الصلاة والسلام أنه سيبتلى ويفتن (ليفتنونك): الفتنة تطلق على عدة معانٍ في القرآن: تطلق الفتنة بمعنى العذاب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10]، على أحد الأوجه في تفسير آية البروج، أي: الذين عذبوا أصحاب الأخدود.
وتطلق الفتنة بمعنى: الشرك كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191].
وتطلق الفتنة بمعنى: الكذب، ويقال: (فلانٌ فتان) أي: كذاب.
وتطلق الفتنة بمعنى: الصّد، أو فعل ما يكون سبباً في الصد عن دين الله عز وجل، وهذا المعنى يقول بعض العلماء: إنه هو العام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟! أفتانٌ أنت يا معاذ؟!) أي: هل تفعل هذا الفعل حتى يكون فتنة وسبباً في صدّ الناس عن الخير؟! لأن الرجل اشتكى أنه لم يصل من كثرة تطويل معاذ رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73]، كان كفار قريشٍ لا يألون جهداً في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتضييق عليه، وكان عليه الصلاة والسلام مع كمال رحمته وشفقته وحبه لهدايتهم أنهم إذا سألوه الأمر أن يفعله، ربما أحب وقوع ذلك الأمر من أجل أن تحصل الهداية لهم؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام قد جبل الله قلبه على الرحمة كما شهد بذلك من فوق سبع سماوات، فالله سبحانه وتعالى جبله على حب أمته وعلى حب الخير لها في الدنيا والآخرة كما في الحديث: (فيسجد تحت العرش ويقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي) وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (لما أرسل الله إليه جبريل وقد بكى من آيتي إبراهيم والمائدة، قال: يا جبريل! اذهب واسأل محمداً -وربك أعلم- ما الذي يبكيه؟ فلما جاء جبريل وقال: يا محمد! إن الله يقرأ عليك السلام ويسألك -وهو أعلم- ما الذي يبكيك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أمتي أمتي فأوحى الله إليه -كما في الصحيح- يا جبريل! قل لمحمد: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك أبداً)، صلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، وجزاه خير ما جزى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته، فهذه الآية تحكي ما كان عليه عليه الصلاة والسلام من حب هداية قومه، وليس المراد به أن يصدوه، وإنما كانوا يطلبون منه التنازل عن بعض الأشياء حتى يكون قاسماً مشتركاً بينه وبين المشركين؛ لكنه عليه الصلاة والسلام ما كان لينطق عن الهوى، وما كان عليه الصلاة والسلام ليميل شيء من قلبه إلى كفار قريش، وإن كان هناك بعض المفسرين قد مال إلى بعض الأقوال، لكن الذي يظهر -والعلم عند الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كمال شفقته وحبه للخير حريصاً على هدايتهم، ولذلك يقول الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:35 - 36] فالمقصود: أنه كان عليه الصلاة والسلام يحب هدايتهم ويحب الخير لهم، وهذه الشفقة الجبرية الفطرية التي جبل عليها عليه الصلاة والسلام مع ما أعطاه عز وجل من زيادة الرحمة وحب الخير لأمته مما يدعوه لمحبة أن تأتي الآيات من أجل أن يصدقوه؛ ولذلك جاءت آيات الأنعام في أكثر من موطن تبين للنبي عليه الصلاة والسلام أن الأمر عندهم أمر جدال وعناد وليس بأمر تحرٍ وتقص للحق، ولذلك بين الله تعالى أنه لو حشر لهم كل شيء، ولو أنه بعث لهم الموتى وأخرجهم من قبورهم وحشروا أمام وجوههم: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:111] وفي قراءة: (قِبلا)، أي: قبل وجوههم يرونهم أمامهم {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111] فكانوا -والعياذ بالله- مصرين على كفرهم وعنادهم، فتبين له عليه الصلاة والسلام جلية أمرهم -والقرآن دائماً يكشف لنبيه عليه الصلاة والسلام أخبار الناس، ويكشف له حقائق الدعوة، وكان الله عز وجل مع نبيه في كل أمرٍ من أموره، والله عز وجل لا تخفى عليه خافية، وهو أعلم بعباده وبخلقه، وأعلم بطبيعة الإنسان وبسجيته من الكفر والإعراض عن الله عز وجل، والتكذيب بحججه وآياته، وهو أعلم بطبيعة البشر- وقد كان يحاول هدايتهم لما جبله الله عليه من محبة الخير لهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون يوم القيامة أكثرهم تابعاً) فكان يحب كثرة الأتباع وكثرة المؤمنين، ويأتي جبريل ويقول له: (هذا ملك الجبال يقرأ عليك السلام، ولو شئت أن تأمره فمره فقال: لو شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين لأطبقت عليهم، فقال: لا.
ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) صلى الله عليه وسلم وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، والله تعالى أعلم
**حكم زواج الأب وابنه من أختين
**السؤال
هل يجوز للأب أن يتزوج أخت زوجة ابنه؟
**الجواب
يجوز للأب أن يتزوج أخت زوجة ابنه، وأخت زوجة الابن حرامٌ على الابن حرمة مؤقتة، وليست بحرمةٍ دائمة؛ لأن تحريم نكاح أخت الزوجة مبني على مانع الجمع، ومانع الجمع مؤقت وليس بمؤبد، وهذه المسألة من المسائل التي يجوز للأب فيها نكاح ما لا يجوز للابن أن ينكحه، وقد يجوز للابن أن ينكح ما لا يجوز للأب أن ينكحه كالربيبة، فيجوز للابن أن يتزوجها ولا يجوز للأب أن يتزوجها، والله تعالى أعلم
**التفصيل في القيء متى يبطل الوضوء
**السؤال
هل القيء يبطل الوضوء وماذا لو كان يسيراً وابتلعه؟
القيء له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الطعام لم يتغير ويكون من أعلى المعدة، وهو القيء الذي يكون قريباً من الأكل، فهذا لا يبطل الوضوء؛ لأنه ليس بنجس، والنجس ما وصل إلى المعدة، فإذا وصل إلى المعدة، وهضم كان نجسا كالبراز، ولذلك فرق الأئمة رحمهم الله بين القيء الناشئ من المعدة، وبين القيء الذي يكون من الأمعاء قبل المعدة، فما كان متغيراً أفسد الوضوء؛ لأنه يستوي أن يخرج من الأعلى أو من الأسفل، كما لو فتحت له فتحة في بطنه فخرج منها الطعام، فكما أن خروج الطعام من الأسفل بعد هضمه يوجب انتقاض الوضوء كذلك خروجه من الأعلى يوجب الانتقاض في قول جماهير الأئمة، وفيه حديث ثوبان رضي الله عنه في قيئه عليه الصلاة والسلام ووضوئه بعد القيء، وفيه كلام.
وأما إذا كان القيء لم يتغير كأن يكون قريب العهد بالطعام فهذا لا يضر كالقلس، فإنه طاهرٌ ولا يوجب انتقاض الوضوء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم