رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (220)
سُورَةُ الإسراء(37)
صـ 186 إلى صـ 190
والدليل على أن المانع في هذه الآية عادي : أنه تعالى صرح بمانع آخر غير هذا " في سورة الكهف " وهو قوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا [ 18 \ 55 ] ، فهذا المانع المذكور " في الكهف " مانع حقيقي ; لأن من أراد الله به سنة الأولين من الإهلاك ، أو أن يأتيه [ ص: 186 ] العذاب قبلا فإرادته به ذلك مانعة من خلاف المراد ; لاستحالة أن يقع خلاف مراده جل وعلا ، بخلاف المانع " في آية بني إسرائيل " هذه ، فهو مانع عادي يصح تخلفه ، وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
قوله تعالى : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا .
بين جل وعلا في هذه الآية : أن الرسول يلزم أن يكون من جنس المرسل إليهم ، فلو كان مرسلا رسولا إلى الملائكة لنزل عليهم ملكا مثلهم ، أي وإذا أرسل إلى البشر أرسل لهم بشرا مثلهم .
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 8 - 9 ] ، وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم [ 21 \ 7 ] ، وقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من خلق السموات والأرض مع عظمهما قادر على بعث الإنسان بلا شك ; لأن من خلق الأعظم الأكبر فهو على خلق الأصغر قادر بلا شك .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس الآية [ 40 \ 57 ] ، أي ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ 36 \ 81 ] ، وقوله : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى [ 46 \ 33 ] ، وقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .
قوله تعالى : قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .
بين تعالى في هذه الآية : أن بني آدم لو كانوا يملكون خزائن رحمته - أي خزائن الأرزاق والنعم - لبخلوا بالرزق على غيرهم ، ولأمسكوا عن الإعطاء ، خوفا من الإنفاق لشدة بخلهم .
[ ص: 187 ] وبين أن الإنسان قتور ، أي بخيل مضيق ; من قولهم : قتر على عياله ، أي ضيق عليهم .
وبين هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله تعالى : أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [ 4 \ 53 ] ، وقوله : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الآية [ 70 \ 19 - 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والمقرر في علم العربية أن " لو " لا تدخل إلا على الأفعال ، فيقدر لها في الآية فعل محذوف ، والضمير المرفوع بعد " لو " أصله فاعل الفعل المحذوف ، فلما حذف الفعل فصل الضمير . والأصل قل لو تملكون ، فحذف الفعل فبقيت الواو فجعلت ضميرا منفصلا ، هو : أنتم . هكذا قاله غير واحد ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات
الآية . قال بعض أهل العلم : هذه الآيات التسع ، هي : العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات .
وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر ; كقوله : فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 7 \ 107 - 108 ] ، وقوله : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات الآية [ 7 \ 130 ] ، وقوله : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 \ 63 ] وقوله : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات [ 7 \ 133 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا ، وجعل بعضهم الجبل بدل " السنين " وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة [ 7 \ 117 ] ، ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر
الآية ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر ، أي حججا واضحة ، وذلك يدل على أن قول فرعون فمن ربكما ياموسى [ 20 \ 49 ] ، وقوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] كل ذلك منه تجاهل عارف .
[ ص: 188 ] وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى مبينا سبب جحوده لما علمه " في سورة النمل " بقوله : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا الآية [ 27 \ 12 - 14 ] .
قوله تعالى : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل هذا القرآن بالحق : أي متلبسا به متضمنا له ; فكل ما فيه حق فأخباره صدق ، وأحكامه عدل ; كما قال تعالى : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ 6 \ 115 ] وكيف لا وقد أنزله جل وعلا بعلمه ، كما قال تعالى : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه الآية [ 4 \ 166 ] . وقوله : وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله .
لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه ، أمين لا يغير ولا يبدل ، كما أشار إلى هذا بقوله : نزل به الروح الأمين على قلبك الآية [ 26 \ 193 ، 194 ] ، وقوله : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين الآية [ 81 \ 19 - 21 ] ، وقوله في هذه الآية : لقول رسول ، أي لتبليغه عن ربه ، بدلالة لفظ الرسول ؛ لأنه يدل على أنه مرسل به .
قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث .
قرأ هذا الحرف عامة القراء " فرقناه " بالتخفيف ، أي بيناه وأوضحناه ، وفصلناه وفرقنا به بين الحق والباطل ، وقرأ بعض الصحابة فرقناه بالتشديد ، أي أنزلناه مفرقا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة . ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل قوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم . الآية [ 44 \ 4 ]
وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأه على الناس على مكث ، أي مهل وتؤدة وتثبت ، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك ، وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله : ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، ويدل لذلك أيضا قوله : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] ، وقوله تعالى : وقرآنا [ 17 \ 106 ] منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده ، على حد قوله في الخلاصة :
[ ص: 189 ] فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا
قوله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى .
أمر الله جل وعلا عباده في هذه الآية الكريمة : أن يدعوه بما شاءوا من أسمائه ، إن شاءوا قالوا : يا ألله ، وإن شاءوا قالوا : يا رحمن ، إلى غير ذلك من أسمائه جل وعلا .
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [ 7 \ 180 ] ، وقوله : هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ 59 \ 22 ، 23 ] .
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع : أنهم تجاهلوا اسم الرحمن في قوله : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الآية [ 25 \ 60 ] ، وبين لهم بعض أفعال الرحمن جل وعلا في قوله : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [ 55 \ 1 - 4 ] ، ولذا قال بعض العلماء : إن قوله : الرحمن علم القرآن جواب لقولهم : قالوا وما الرحمن الآية [ 25 \ 60 ] ، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح " في سورة الفرقان " .
قوله تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .
أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الناس على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ( لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما قدمنا ) أن يقولوا : " الحمد لله " أي : كل ثناء جميل لائق بكماله وجلاله ، ثابت له ، مبينا أنه منزه عن الأولاد والشركاء والعزة بالأولياء ، سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا .
فبين تنزهه عن الولد والصاحبة في مواضع كثيرة ; كقوله : قل هو الله أحد [ 112 \ 1 ] إلى آخر السورة ، وقوله : وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا [ 72 \ 3 ] ، وقوله : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم [ 6 \ 101 ] ، وقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ ص: 190 ] الآية [ 19 \ 88 - 92 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وبين في مواضع أخر : أنه لا شريك له في ملكه ، أي ولا في عبادته ; كقوله : وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] ، وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ، وقوله : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] ، وقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء الآية [ 3 \ 26 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
ومعنى قوله في هذه الآية : ولم يكن له ولي من الذل [ 17 \ 111 ] ، يعني أنه لا يذل فيحتاج إلى ولي يعز به ; لأنه هو العزيز القهار ، الذي كل شيء تحت قهره وقدرته ، كما بينه في مواضع كثيرة كقوله : والله غالب على أمره الآية [ 12 \ 21 ] ، وقوله : أن الله عزيز حكيم [ 2 \ 209 ] والعزيز : الغالب ، وقوله : وهو القاهر فوق عباده [ 6 \ 18 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقوله وكبره تكبيرا [ 17 \ 111 ] أي عظمه تعظيما شديدا ، ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه ، والمسارعة إلى كل ما يرضيه ، كقوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هداكم [ 2 \ 185 ] ونحوها من الآيات ، والعلم عند الله تعالى .
وروى ابن جرير في تفسيره هذه الآية الكريمة عن قتادة ، أنه قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصغير والكبير من أهله هذه الآية : الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية [ 17 \ 111 ] ، وقال ابن كثير : قلت : وقد جاء في حديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز ، وفي بعض الآثار : إنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة . والله أعلم . ثم ذكر حديثا عن أبي يعلى من حديث أبي هريرة مقتضاه : أن قراءة هذه الآية تذهب السقم والضر ، ثم قال : إسناده ضعيف ، وفي متنه نكارة . والله تعالى أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا آخر الجزء الثالث من هذا الكتاب المبارك ، ويليه الجزء الرابع إن شاء الله تعالى ، وأوله سورة الكهف ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (221)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 191 إلى صـ 196
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْكَهْفِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا .
علم الله جل وعلا عباده في أول هذه السورة الكريمة أن يحمدوه على أعظم نعمة أنعمها عليهم ; وهي إنزاله على نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم ، الذي لا اعوجاج فيه ، بل هو في كمال الاستقامة ، أخرجهم به من الظلمات إلى النور . وبين لهم فيه العقائد ، والحلال والحرام ، وأسباب دخول الجنة والنار ، وحذرهم فيه من كل ما يضرهم ، وحضهم فيه على كل ما ينفعهم ، فهو النعمة العظمى على الخلق ، ولذا علمهم ربهم كيف يحمدونه على هذه النعمة الكبرى بقوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] .
وما أشار له هنا من عظيم الإنعام والامتنان على خلقه بإنزال هذا القرآن العظيم ، منذرا من لم يعمل به ، ومبشرا من عمل به ، ذكره جل وعلا في مواضع كثيرة ; كقوله : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما [ 4 \ 174 ] ، وقوله : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29 \ 51 ] ، وقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين [ 27 \ 76 - 77 ] ، وقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [ 17 \ 82 ] ، وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء الآية [ 41 \ 44 ] ، وقوله تعالى : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 106 - 107 ] ، وقوله : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] ، [ ص: 192 ] وقوله : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير [ 35 \ 32 ] .
وهو تصريح منه جل وعلا بأن إيراث هذا الكتاب فضل كبير ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ، أي لم يجعل في القرآن عوجا ; أي لا اعوجاج فيه ألبتة ، لا من جهة الألفاظ ، ولا من جهة المعاني ، أخباره كلها صدق ، وأحكامه عدل ، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه ، وأخباره وأحكامه ; لأن قوله : " عوجا " نكرة في سياق النفي ، فهي تعم نفي جميع أنواع العوج .
وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه ، بينه في مواضع أخر كثيرة كقوله : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون [ 39 \ 27 - 28 ] ، وقوله : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] . فقوله " صدقا " أي في الأخبار ، وقوله : " عدلا " أي في الأحكام ، وكقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
وقوله في هذه الآية الكريمة : قيما أي مستقيما لا ميل فيه ولا زيغ ، وما ذكره هنا من كونه قيما لا ميل فيه ولا زيغ ، بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة [ 98 \ 1 ] ، وقوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الآية [ 17 \ 9 ] ، وقوله : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 10 \ 37 ] ، وقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] ، وقوله الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وقوله : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 193 ] وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى : قيما هو قول الجمهور وهو الظاهر . وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ; لأنه قد يكون الشيء مستقيما في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر ، ولذا جمع تعالى بين نفي العوج وإثبات الاستقامة . وفي قوله : " قيما " وجهان آخران من التفسير :
الأول : أن معنى كونه " قيما " أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية ، أي مهيمن عليها ، وعلى هذا التفسير فالآية كقوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الآية [ 5 \ 15 ] .
ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب ، قال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون الآية [ 27 \ 76 ] ، وقال : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ 3 \ 93 ] ، وقال : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب الآية [ 5 \ 15 ] .
الوجه الثاني : أن معنى كونه " قيما " : أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية . وهذا الوجه في الحقيقة يستلزمه الوجه الأول .
واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله : " قيما " فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب ، وأن في الآية تقديما وتأخيرا ، وتقريره على هذا : أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيما ولم يجعل له عوجا ، ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلا : إن قوله : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ، معطوف على صلة الموصول التي هي جملة : أنزل على عبده الكتاب ، والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة ، فجعل " قيما " حالا من " الكتاب " يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الصلة ، وذلك لا يجوز ، وذهب جماعة آخرون إلى أن " قيما " حال من " الكتاب " ، وأن المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف ، وذلك أنهم قالوا : إن جملة ولم يجعل له عوجا ليست معطوفة على الصلة ، وإنما هي جملة حالية . وقوله " قيما " حال بعد حال ، وتقريره أن المعنى : أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجا ، وفي حال كونه قيما . وتعدد الحال لا إشكال فيه ، والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد
[ ص: 194 ] وسواء كان ذلك بعطف أو بدون عطف ، فمثاله مع العطف قوله تعالى : أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين [ 3 \ 39 ] ، ومثاله بدون عطف قوله تعالى : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا الآية [ 7 \ 150 ] . وقول الشاعر :
علي إذا ما جئت ليلى بخفية زيارة بيت الله رجلان حافيا
ونقل عن أبي الحسن بن عصفور منع تعدد الحال ما لم يكن العامل فيه صيغة التفضيل في نحو قوله : هذا بسرا أطيب منه رطبا . ونقل منع ذلك أيضا عن الفارسي وجماعة ، وهؤلاء الذين يمنعون تعدد الحال يقولون : إن الحال الثانية إنما هي حال من الضمير المستكن في الحال الأولى ، والأولى عندهم هي العامل في الثانية ، فهي عندهم أحوال متداخلة ، أو يجعلون الثانية نعتا للأولى ، وممن اختار أن جملة ولم يجعل حالية ، وأن قيما حال بعد حال - الأصفهاني .
وذهب بعضهم إلى أن قوله : قيما بدل من قوله : ولم يجعل له عوجا ; لأن انتفاء العوج عنه هو معنى كونه قيما .
وعزا هذا القول الرازي وأبو حيان لصاحب حل العقد ، وعليه فهو بدل مفرد من جملة .
كما قالوا في : عرفت زيدا أبو من ، أنه بدل جملة من مفرد ، وفي جواز ذلك خلاف عند علماء العربية .
وزعم قوم أن قيما حال من الضمير المجرور في قوله : ولم يجعل له عوجا ، واختار الزمخشري وغيره أن قيما منصوب بفعل محذوف ، وتقديره : ولم يجعل له عوجا وجعله قيما ، وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز ، كما قال في الخلاصة :
ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما
وأقرب أوجه الإعراب في قوله : " قيما " أنه منصوب بمحذوف ، أو حال ثانية من " الكتاب " والله تعالى أعلم .
وقوله في هذه الآية الكريمة : لينذر بأسا شديدا [ 18 \ 2 ] اللام فيه متعلقة [ ص: 195 ] بـ أنزل ، وقال الحوفي : هي متعلقة بقوله : قيما ، والأول هو الظاهر .
والإنذار : الإعلام المقترن بتخويف وتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا ، والإنذار يتعدى إلى مفعولين ، كما في قوله : فأنذرتكم نارا تلظى [ 92 \ 14 ] ، وقوله : إنا أنذرناكم عذابا قريبا الآية [ 38 \ 40 ] .
وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار ، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول ، وحذف في الثاني المفعول الثاني ، فصار المذكور دليلا على المحذوف في الموضعين . وتقدير المفعول الأول المحذوف في الموضع الأول : لينذر الذين كفروا بأسا شديدا من لدنه ، وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا بأسا شديدا من لدنه .
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن هذا القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين ، وبشارة للمؤمنين المتقين ; إذ قال في تخويف الكفرة به : لينذر بأسا شديدا من لدنه [ 18 \ 2 ] ، وقال : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا الآية [ 18 \ 4 ] ، وقال في بشارته للمؤمنين : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا الآية [ 18 \ 2 ] .
وهذا الذي ذكره هنا من كونه إنذارا لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بينه في مواضع أخر ; كقوله : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] .
وقد أوضحنا هذا المبحث في أول سورة " الأعراف " ، وأوضحنا هنالك المعاني التي ورد بها الإنذار في القرآن . والبأس الشديد الذي أنذرهم إياه : هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة . والبشارة : الخير بما يسر .
وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء ، ومنه قوله تعالى : فبشره بعذاب أليم [ 45 \ 8 ] ومنه قول الشاعر :
وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر
وقول الآخر :
[ ص: 196 ] يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير
والتحقيق : أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء ، أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازا ، ويسمونه استعارة عنادية ، ويقسمونها إلى تهكمية وتلميحية كما هو معروف في محله .
وقوله في هذه الآية الكريمة : الذين يعملون الصالحات [ 18 \ 2 ] بينت المراد به آيات أخر ، فدلت على أن العمل لا يكون صالحا إلا بثلاثة أمور :
الأول : أن يكون مطابقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح ، بل هو باطل ، قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 10 ] ، وقال : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، وقال : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله الآية [ 42 \ 21 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثاني : أن يكون العامل مخلصا في عمله لله فيما بينه وبين الله ، قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين الآية [ 98 \ 5 ] ، وقال : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 11 - 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثالث : أن يكون العمل مبنيا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة ; لأن العمل كالسقف ، والعقيدة كالأساس ، قال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] ، فجعل الإيمان قيدا في ذلك .
وبين مفهوم هذا القيد في آيات كثيرة ، كقوله في أعمال غير المؤمنين : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وقوله : أعمالهم كسراب الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح الآية [ 14 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (222)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 197 إلى صـ 202
والتحقيق : أن مفرد الصالحات في قوله : يعملون الصالحات ، وقوله : [ ص: 197 ] وعملوا الصالحات [ 2 \ 25 ] ، ونحو ذلك - أنه : صالحة ، وأن العرب تطلق لفظة الصالحة على الفعلة الطيبة ; كإطلاق اسم الجنس لتناسي الوصفية ، كما شاع ذلك الإطلاق في الحسنة مرادا بها الفعلة الطيبة .
ومن إطلاق العرب لفظ الصالحة على ذلك ، قول أبي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بنت الأمين جزاك الله صالحة وكل بعل سيثني بالذي علما
وقول الحطيئة :
كيف الهجاء ولا تنفك صالحة من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
وسئل أعرابي عن الحب فقال :
الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن
وقوله في هذه الآية الكريمة : أن لهم أجرا حسنا ، أي وليبشرهم بأن لهم أجرا حسنا . الأجر : جزاء العمل ، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر : هو الجنة . ولذا قال : ماكثين فيه [ 18 \ 3 ] ، وذكر الضمير في قوله : فيه ; لأنه راجع إلى الأجر وهو مذكر ، وإن كان المراد بالأجر الجنة . ووصف أجرهم هنا بأنه حسن ، وبين أوجه حسنه في آيات كثيرة ، كقوله : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين - إلى قوله - ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ 56 \ 13 - 16 ] ، وكقوله : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 56 \ 39 - 40 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا معلومة .
وقوله في هذه الآية الكريمة : ماكثين فيه أبدا ، أي خالدين فيه بلا انقطاع .
وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كثيرة ، كقوله : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] أي غير مقطوع ، وقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، أي ما له من انقطاع وانتهاء ، وقوله : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] ، وقوله : والآخرة خير وأبقى [ 87 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا [ 18 \ 4 ] ، [ ص: 198 ] أي ينذرهم بأسا شديدا ، من لدنه أي من عنده كما تقدم . وهذا من عطف الخاص على العام ; لأن قوله : لينذر بأسا شديدا من لدنه شامل للذين قالوا اتخذ الله ولدا ، ولغيرهم من سائر الكفار .
وقد تقرر في فن المعاني : أن عطف الخاص على العام إذا كان الخاص يمتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة من الإطناب المقبول ، تنزيلا للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات .
ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى : وملائكته ورسله وجبريل الآية [ 2 \ 98 ] ، وقوله : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح [ 33 \ 7 ] .
ومثاله في الممتاز بصفات قبيحة الآية التي نحن بصددها ، فإن الذين قالوا اتخذ الله ولدا امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء ، ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم .
والآيات الدالة على شدة عظم فريتهم كثيرة جدا . كقوله هنا : كبرت كلمة تخرج من أفواههم [ 18 \ 5 ] الآية ، وكقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 88 - 92 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - ثلاثة أصناف من الناس : اليهود ، والنصارى ، قال تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم الآية [ 9 \ 30 ] ، والصنف الثالث مشركو العرب ; كما قال تعالى عنهم : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] ، والآيات بنحوها كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما لهم به من علم ولا لآبائهم [ 18 \ 5 ] ، يعني أن ما نسبوه له جل وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به ; لأنه مستحيل .
والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه ; ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 2 \ 57 ] ; لأن ظلمهم [ ص: 199 ] لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد كل ذلك مستحيل عقلا .
فنفيه لا يدل على إمكانه ، ومن هذا القبيل قول المنطقيين : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ، كما بيناه في غير هذا الموضع .
وما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بينه في مواضع أخر ، كقوله : وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون [ 6 \ 100 ] ، وقوله في آبائهم : أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة : كبرت كلمة تخرج من أفواههم [ 18 \ 5 ] يعني أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولدا أمر كبير عظيم ; كما بينا الآيات الدالة على عظمه آنفا ، كقوله : إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا الآية [ 19 \ 90 ] ، وكفى بهذا كبرا وعظما .
وقال بعض علماء العربية : إن قوله : كبرت كلمة معناه التعجب ، فهو بمعنى ما أكبرها كلمة ، أو أكبر بها كلمة .
والمقرر في علم النحو : أن " فعل " بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح ، فتكون من باب نعم وبئس ، ومنه قوله تعالى : كبرت كلمة الآية . وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله :
واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
وقوله " كنعم " أي اجعله من باب " نعم " فيشمل بئس ، وإذا تقرر ذلك ففاعل " كبر " ضمير محذوف و كلمة نكرة مميزة للضمير المحذوف ، على حد قوله في الخلاصة . ويرفعان مضمرا يفسره مميز كنعم قوما معشره
والمخصوص بالذم محذوف ، والتقدير : كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها ، وهي قولهم : اتخذ الله ولدا ، وأعرب بعضهم كلمة بأنها حال ، أي كبرت فريتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم . وليس بشيء .
[ ص: 200 ] وقال ابن كثير في تفسيره تخرج من أفواههم ، أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ، ولذا قال : إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 5 ] .
وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير له شواهد في القرآن ; كقوله : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم [ 3 \ 167 ] ونحو ذلك من الآيات .
والكذب : مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال .
لفظة " كبر " إذا أريد بها غير الكبر في السن فهي مضمومة الباء في الماضي والمضارع ، كقوله هنا : كبرت كلمة الآية ، وقوله : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] ، وقوله : أو خلقا مما يكبر في صدوركم [ 17 \ 51 ] ونحو ذلك .
وإن كان المراد بها الكبر في السن فهي مكسورة الباء في الماضي ، مفتوحتها في المضارع على القياس ، ومن ذلك قوله تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ 4 \ 6 ] .
وقول المجنون :
تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب ولم يبد للعينين من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وقوله في هذا البيت : " صغيرين " شاهد عند أهل العربية في إتيان الحال من الفاعل والمفعول معا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة كبرت كلمة يعني بالكلمة : الكلام الذي هو قولهم : اتخذ الله ولدا [ 18 \ 4 ] .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله يطلق اسم الكلمة على الكلام ، أوضحته آيات أخر ; كقوله : كلا إنها كلمة هو قائلها الآية [ 23 \ 100 ] ، والمراد بها قوله : قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت [ 23 \ 99 - 100 ] ، وقوله : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] ، وما جاء لفظ الكلمة في القرآن إلا مرادا به الكلام المفيد .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عوجا هو بكسر العين في المعاني كما في هذه الآية الكريمة ، وبفتحها فيما كان منتصبا كالحائط .
[ ص: 201 ] قال الجوهري في صحاحه : قال ابن السكيت : وكل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه " عوج " بالفتح ، والعوج - بالكسر - ما كان في أرض أو دين أو معاش ، يقال : في دينه عوج . اهـ .
وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل عوجا بالسكت على الألف المبدلة من التنوين سكتة يسيرة من غير تنفس ، إشعارا بأن قيما ليس متصلا بـ عوجا في المعنى ، بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر ، أي جعله قيما كما قدمنا .
وقرأ أبو بكر عن عاصم من لدنه بإسكان الدال مع إشمامها الضم ، وكسر النون والهاء ووصلها بياء في اللفظ ، وقوله : ويبشر المؤمنين الذين [ 18 \ 2 ] ، قرأه الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة ، وقرأه حمزة والكسائي " يبشر " بفتح الياء وإسكان الباء الموحدة وضم الشين .
قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا .
اعلم أولا أن لفظة " لعل " تكون للترجي في المحبوب ، وللإشفاق في المحذور ، واستظهر أبو حيان في البحر المحيط أن " لعل " في قوله هنا : فلعلك باخع نفسك للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به .
وقال بعضهم : إن " لعل " في الآية للنهي . وممن قال به العسكري ، وهو معنى كلام ابن عطية كما نقله عنهما صاحب البحر المحيط .
وعلى هذا القول فالمعنى : لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم . وقيل : هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار . وإتيان " لعل " للاستفهام مذهب كوفي معروف .
وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى " لعل " أن المراد بها في الآية النهي عن الحزن عليهم .
وإطلاق " لعل " مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام .
ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك كثرة ورود النهي صريحا عن ذلك ; كقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وقوله : ولا تحزن عليهم [ ص: 202 ] [ 16 \ 127 ] ، وقوله : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
والباخع : المهلك ; أي مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم ، ومنه قول ذي الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
كما تقدم .
وقوله : على آثارهم ، قال القرطبي : " آثارهم " جمع أثر ، ويقال إثر . والمعنى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك .
وقال أبو حيان في البحر : ومعنى " على آثارهم " : من بعدهم ، أي بعد يأسك من إيمانهم ، أو بعد موتهم على الكفر ، يقال : مات فلان على أثر فلان ; أي بعده .
وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم - برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم ، وتلهفا على فراقهم . والأسف هنا : شدة الحزن . وقد يطلق الأسف على الغضب ; كقوله : فلما آسفونا انتقمنا منهم [ 43 \ 55 ] .
فإذا حققت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن ما ذكره فيها جل وعلا من شدة حزن نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم ، ومن نهيه له عن ذلك مبين في آيات أخر كثيرة ، كقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وكقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] ، وكقوله : ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] ، وكقوله : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، وكقوله : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] ، وكقوله : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ 15 \ 97 ] كما قدمناه موضحا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (223)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 203 إلى صـ 208
وقوله في هذه الآية الكريمة : أسفا مفعول من أجله ، أي مهلك نفسك من أجل الأسف . ويجوز إعرابه حالا ; أي في حال كونك آسفا عليهم . على حد قوله في الخلاصة :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
[ ص: 203 ] قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .
قال الزمخشري في معنى هذه الآية الكريمة : " ما عليها " يعني ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها .
وقال بعض العلماء : كل ما على الأرض زينة لها من غير تخصيص ، وعلى هذا القول فوجه كل الحيات وغيرها مما يؤذي زينة للأرض ; لأنه يدل على وجود خالقه ، واتصافه بصفات الكمال والجلال ، ووجود ما يحصل به هذا العلم في شيء زينة له .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان المذكورة فيه أن يذكر لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، كقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] الآية ، مع تصريحه بأن البدن داخلة في هذا العموم بقوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 18 \ 36 ] .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [ 18 \ 7 ] قد صرح في مواضع أخر ببعض الأفراد الداخلة فيه ، كقوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا الآية [ 18 \ 46 ] ، وقوله : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة : صعيدا جرزا [ 18 \ 8 ] ، أي أرضا بيضاء لا نبات بها ، وقد قدمنا معنى " الصعيد " بشواهده العربية في سورة " المائدة " .
والجرز : الأرض التي لا نبات بها كما قال تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ومنه قول ذي الرمة :
طوى النحز والأجراز ما في غروضها وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
لأن مراده " بالأجراز " الفيافي التي لا نبات فيها ، والأجراز : جمع جرزة ، والجرزة : جمع جرز ، فهو جمع الجمع للجرز ، كما قاله الجوهري في صحاحه .
قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : وإنا لجاعلون ما عليها [ 18 \ 8 ] من هذه الزينة صعيدا جرزا ، أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة ، في إزالة بهجته وإماطة حسنه ، وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان ، وتجفيف [ ص: 204 ] النبات والأشجار . اهـ .
وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون [ 10 \ 24 ] ، وكقوله تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا [ 18 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة : لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 45 ] أي لنختبرهم على ألسنة رسلنا .
وهذه الحكمة التي ذكرها هنا لجعل ما على الأرض زينة لها ( وهي الابتلاء في إحسان العمل ) بين في مواضع أخر أنها هي الحكمة في خلق الموت والحياة والسموات والأرض ، قال تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [ 67 \ 1 - 2 ] ، وقال تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .
وقد بين صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " كما تقدم .
وهذا الذي أوضحنا من أنه جل وعلا جعل ما على الأرض زينة لها ليبتلي خلقه ، ثم يهلك ما عليها ويجعله صعيدا جرزا - فيه أكبر واعظ للناس ، وأعظم زاجر عن اتباع الهوى ، وإيثار الفاني على الباقي ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " .
قوله تعالى : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا .
أم [ 18 \ 9 ] ، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة عن التحقيق ، ومعناها عند الجمهور " بل والهمزة " وعند بعض العلماء بمعنى " بل " فقط ، فعلى القول الأول فالمعنى : بل [ ص: 205 ] أحسبت ، وعلى الثاني فالمعنى : بل حسبت ، فهي على القول الأول جامعة بين الإضراب والإنكار ، وعلى الثاني فهي للإضراب الانتقالي فقط .
وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة : أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : إن قصة أصحاب الكهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها ، فليست شيئا عجبا بالنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا ، فإن خلقنا للسموات والأرض ، وجعلنا ما على الأرض زينة لها ، وجعلنا إياها بعد ذلك صعيدا جرزا ، أعظم وأعجب مما فعلنا بأصحاب الكهف ، ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل ، ثم بعثناهم ، ويدل لهذا الذي ذكرنا آيات كثيرة :
منها أنه قال : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا [ 18 \ 7 - 8 ] ، ثم أتبع ذلك بقوله : أم حسبت أن أصحاب الكهف الآية [ 18 \ 9 ] ، فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا عجب فيها بالنسبة إلى ما خلقنا مما هو أعظم منها .
ومنها أنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس ، ومن خلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك ، كقوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس الآية [ 40 \ 57 ] ، وكقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها - إلى قوله - متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] كما قدمناه مستوفى في سورة " البقرة والنحل " .
ومن خلق هذه المخلوقات العظام : كالسماء والأرض وما فيهما فلا عجب في إقامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة ، ثم بعثه إياهم ، كما هو واضح .
والكهف : النقب المتسع في الجبل ، فإن لم يك واسعا فهو غار . وقيل : كل غار في جبل : كهف . وما يروى عن أنس من أن الكهف نفس الجبل ، غريب غير معروف في اللغة .
واختلف العلماء في المراد بـ الرقيم في هذه الآية على أقوال كثيرة ، قيل : الرقيم اسم كلبهم ، وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول :
وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد
وعن الضحاك أن الرقيم : بلدة بالروم ، وقيل : اسم الجبل الذي فيه الكهف ، وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف ، والأقوال فيه كثيرة . وعن ابن عباس أنه قال : لا [ ص: 206 ] أدري ما الرقيم أكتاب أم بنيان ؟ .
وأظهر الأقوال عندي بحسب اللغة العربية وبعض آيات القرآن ، أن الرقيم معناه : المرقوم ، فهو " فعيل " بمعنى " مفعول " من : رقمت الكتاب : إذا كتبته ، ومنه قوله تعالى : كتاب مرقوم الآية [ 83 \ 9 ، و 83 \ 20 ] . سواء قلنا : إن الرقيم كتاب كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به ، أو لوح من ذهب كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم وسبب خروجهم ، أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم ، والعلم عند الله تعالى .
والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين أحدهما معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال : إن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم ، وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه ، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد ، بعيد كما ترى .
واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم ، وفي أي محل من الأرض كانوا ، كل ذلك لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن ، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عجبا صفة لمحذوف ، أي شيئا عجبا . أو آية عجبا .
وقوله : من آياتنا في موضع الحال ، وقد تقرر في فن النحو أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا ، وأصل المعنى : كانوا عجبا كائنا من آياتنا ، فلما قدم النعت صار حالا .
قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفة أصحاب الكهف أنهم فتية ، وأنهم أووا إلى الكهف ، وأنهم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم الشامل لكل خير ، وهو قوله عنهم : ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا [ 18 \ 10 ] .
وبين في غير هذا الموضع أشياء أخرى من صفاتهم وأقوالهم ; كقوله : [ ص: 207 ] إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى - إلى قوله - ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا [ 18 \ 13 - 16 ] و إذ في قوله هنا : إذ أوى الفتية [ 18 \ 10 ] منصوبة بـ اذكر مقدرا ، وقيل : بقوله : عجبا ، ومعنى قوله : إذ أوى الفتية إلى الكهف [ 18 \ 10 ] ، أي جعلوا الكهف مأوى لهم ومكان اعتصام .
ومعنى قوله : آتنا من لدنك رحمة ، أي أعطنا رحمة من عندك ، والرحمة هنا تشمل الرزق والهدى والحفظ مما هربوا خائفين منه من أذى قومهم ، والمغفرة .
والفتية : جمع فتى جمع تكسير ، وهو من جموع القلة ، ويدل لفظ الفتية على قلتهم ، وأنهم شباب لا شيب ، خلافا لما زعمه ابن السراج من : أن الفتية اسم جمع لا جمع تكسير ، وإلى كون مثل الفتية جمع تكسير من جموع القلة ، أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :
أفعلة أفعل ثم فعله كذاك أفعال جموع قلة
والتهيئة : التقريب والتيسير ، أي يسر لنا وقرب لنا من أمرنا رشدا ، والرشد : الاهتداء والديمومة عليه . و من في قوله : من أمرنا فيها وجهان : أحدهما أنها هنا للتجريد ، وعليه فالمعنى : اجعل لنا أمرنا رشدا كله ، كما تقول : لقيت من زيد أسدا . ومن عمرو بحرا .
والثاني أنها للتبعيض ، وعليه فالمعنى : واجعل لنا بعض أمرنا ; أي وهو البعض الذي نحن فيه من مفارقة الكفار ، رشدا ، حتى نكون بسببه راشدين مهتدين .
قوله تعالى : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ضرب على آذان أصحاب الكهف سنين عددا ، ولم يبين قدر هذا العدد هنا ، ولكنه بينه في موضع آخر وهو قوله : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] .
وضربه جل وعلا على آذانهم في هذه الآية كناية عن كونه أنامهم ، ومفعول " ضربنا " محذوف ، أي ضربنا على آذانهم حجابا مانعا من السماع فلا يسمعون شيئا يوقظهم ، والمعنى : أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات .
وقوله : سنين عددا على حذف مضاف ; أي ذات عدد ، أو مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي سنين معدودة ، وقد ذكرنا الآية المبينة لقدر عددها بالسنة القمرية [ ص: 208 ] والشمسية ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] .
وقال أبو حيان في البحر في قوله : فضربنا على آذانهم [ 18 \ 11 ] عبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ، ومنه : وضربت عليهم الذلة [ 2 \ 61 ] ، وضرب الجزية وضرب البعث ، وقال الفرزدق :
ضرب عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
وقال الأسود بن يعفر :
ومن الحوادث لا أبا لك أنني
ضربت علي الأرض بالأسداد
وقال آخر :
إن المروءة والسماحة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
وذكر الجارحة التي هي الآذان ( إذ هي يكون منها السمع ) لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع ، وفي الحديث : " ذلك رجل بال الشيطان في أذنه " ; أي استثقل نومه جدا حتى لا يقوم بالليل . اهـ كلام أبي حيان .
قوله تعالى : ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم بعثه لأصحاب الكهف بعد هذه النومة الطويلة أن يبين للناس أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم أحصى لذلك وأضبط له ، ولم يبين هنا شيئا عن الحزبين المذكورين .
وأكثر المفسرين على أن أحد الحزبين هم أصحاب الكهف ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وقيل : هما حزبان من أهل المدينة المذكورة ، كان منهم مؤمنون وكافرون ، وقيل : هما حزبان من المؤمنين في زمن أصحاب الكهف . اختلفوا في مدة لبثهم ، قاله الفراء : وعن ابن عباس : الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب ، وأصحاب الكهف حزب ، إلى غير ذلك من الأقوال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (224)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 209 إلى صـ 214
والذي يدل عليه القرآن : أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وذلك في قوله تعالى : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم [ 18 \ 19 ] ، وكأن الذين [ ص: 209 ] قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول ، ولقائل أن يقول : قوله عنهم : ربكم أعلم بما لبثتم يدل على أنهم لم يحصوا مدة لبثهم ، والله تعالى أعلم .
وقد يجاب عن ذلك بأن رد العلم إلى الله لا ينافي العلم ، بدليل أن الله أعلم نبيه بمدة لبثهم في قوله : ولبثوا في كهفهم الآية [ 8 \ 25 ] ، ثم أمره برد العلم إليه في قوله : قل الله أعلم بما لبثوا الآية [ 18 \ 26 ] .
وقوله : بعثناهم أي من نومتهم الطويلة ، والبعث : التحريك من سكون ، فيشمل بعث النائم والميت ، وغير ذلك .
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر الله جل وعلا حكمة لشيء في موضع ، ويكون لذلك الشيء حكم أخر مذكورة في مواضع أخرى ، فإنا نبينها ، ومثلنا لذلك ، وذكرنا منه أشياء متعددة في هذا الكتاب المبارك .
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى هنا في هذه الآية الكريمة بين من حكم بعثهم إظهاره للناس : أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ، وقد بين لذلك حكما أخر في غير هذا الموضع .
منها أن يتساءلوا عن مدة لبثهم ; كقوله : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الآية [ 18 \ 19 ] .
ومنها إعلام الناس أن البعث حق ، وأن الساعة حق لدلالة قصة أصحاب الكهف على ذلك ، وذلك في قوله : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها الآية [ 18 \ 21 ] .
واعلم أن قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثم بعثناهم لنعلم الآية ، لا يدل على أنه لم يكن عالما بذلك قبل بعثهم ، وإنما علم بعد بعثهم ، كما زعمه بعض الكفرة الملاحدة ، بل هو جل وعلا عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، والآيات الدالة على ذلك لا تحصى كثرة .
وقد قدمنا أن من أصرح الأدلة على أنه جل وعلا لا يستفيد بالاختبار والابتلاء علما جديدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، قوله تعالى في آل عمران : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] ، فقوله : [ ص: 210 ] والله عليم بذات الصدور بعد قوله : وليبتلي دليل واضح في ذلك .
وإذا حققت ذلك فمعنى لنعلم أي الحزبين أي نعلم ذلك علما يظهر الحقيقة للناس ، فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك دون خلقه .
واختلف العلماء في قوله : أحصى فذهب بعضهم إلى أنه فعل ماض و " أمدا " مفعوله ، و " ما " في قوله : " لما لبثوا " مصدرية ، وتقرير المعنى على هذا : لنعلم أي الحزبين ضبط أمدا للبثهم في الكهف .
وممن اختار أن أحصى فعل ماض : الفارسي والزمخشري وابن عطية ، وغيرهم .
وذهب بعضهم إلى أن أحصى صيغة تفضيل ، و " أمدا " تمييز ، وممن اختاره الزجاج والتبريزي ، وغيرهما . وجوز الحوفي وأبو البقاء الوجهين .
والذين قالوا : إن أحصى فعل ماض ، قالوا : لا يصح فيه أن يكون صيغة تفضيل ، لأنها لا يصح بناؤها هي ولا صيغة فعل التعجب قياسا إلا من الثلاثي ، و " أحصى " رباعي فلا تصاغ منه صيغة التفضيل ولا التعجب قياسا ، قالوا : وقولهم : ما أعطاه وما أولاه للمعروف ، وأعدى من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق - شاذ لا يقاس عليه ، فلا يجوز حمل القرآن عليه .
واحتج الزمخشري في الكشاف أيضا لأن أحصى ليست صيغة تفضيل بأن أمدا لا يخلو : إما أن ينتصب بـ " أفعل " فـ " أفعل " لا يعمل ، وإما أن ينتصب بـ لبثوا فلا يسد عليه المعنى أن لا يكون سديدا على ذلك القول ، وقال : فإن زعمت نصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى كما أضمر في قوله :
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
أي نضرب القوانس - فقد أبعدت المتناول وهو قريب ؛ حيث أبيت أن يكون أحصى فعلا ، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره . انتهى كلام الزمخشري .
وأجيب من جهة المخالفين عن هذا كله ، قالوا : لا نسلم أن صيغة التفضيل لا تصاغ من غير الثلاثي ، ولا نسلم أيضا لأنها لا تعمل .
وحاصل تحرير المقام في ذلك أن في كون صيغة التفضيل تصاغ من " أفعل " كما [ ص: 211 ] هنا ، أو لا تصاغ منه - ثلاثة مذاهب لعلماء النحو :
الأول : جواز بنائها من " أفعل " مطلقا ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، وهو مذهب أبي إسحاق كما نقله عنه أبو حيان في البحر .
والثاني : لا يبنى منه مطلقا ، وما سمع منه فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه ، وهو الذي درج عليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وبالندور احكم لغير ما ذكر ولا تقس على الذي منه أثر
كما قدمناه في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله : فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا [ 17 \ 72 ] .
الثالث : تصاغ من " أفعل " إذا كانت همزتها لغير النقل خاصة ; كـ " أظلم الليل " و : " أشكل الأمر " لا إن كانت الهمزة للنقل فلا تصاغ منها ، وهذا هو اختيار أبي الحسن بن عصفور ، وهذه المذاهب مذكورة بأدلتها في كتب النحو ، وأما قول الزمخشري : فأفعل لا يعمل ، فليس بصحيح ; لأن صيغة التفضيل تعمل في التمييز بلا خلاف ، وعليه درج في الخلاصة بقوله :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا
و أمدا تمييز كما تقدم ; فنصبه بصيغة التفضيل لا إشكال فيه .
وذهب الطبري إلى أن : أمدا منصوب بـ لبثوا ، وقال ابن عطية : إن ذلك غير متجه .
وقال أبو حيان : قد يتجه ذلك ; لأن الأمد هو الغاية ، ويكون عبارة عن المدة من حيث إن المدة غاية . و ما بمعنى الذي ، و أمدا منتصب على إسقاط الحرف ; أي لما لبثوا من أمد ، أي مدة ، ويصير " من أمد " تفسيرا لما انبهم في لفظ ما لبثوا كقوله : ما ننسخ من آية [ 2 \ 106 ] ، ما يفتح الله للناس من رحمة [ 35 \ 2 ] ، ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل .
قال مقيده عفا الله عنه : إطلاق الأمد على الغاية معروف في كلام العرب ، ومنه قول نابغة ذبيان :
إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد
[ ص: 212 ] وقد قدمنا في سورة " النساء " أن علي بن سليمان الأخفش الصغير أجاز النصب بنزع الخافض عند أمن اللبس مطلقا ، ولكن نصب قوله : أمدا بقوله : لبثوا غير سديد كما ذكره الزمخشري وابن عطية ، وكما لا يخفى . اهـ .
وأجاز الكوفيون نصب المفعول بصيغة التفضيل ، وأعربوا قول العباس بن مرداس السلمي :
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
بأن " القوانس " مفعول به لصيغة التفضيل التي هي " أضرب " قالوا : ولا حاجة لتقدير فعل محذوف ، ومن هنا قال بعض النحويين : إن من في قوله تعالى : إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله [ 6 \ 117 ] ، منصوب بصيغة التفضيل قبله نصب المفعول به .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ومذهب الكوفيين هذا أجرى عندي على المعنى المعقول ; لأن صيغة التفضيل فيها معنى المصدر الكامن فيها ، فلا مانع من عملها عمله ; ألا ترى أن قوله : وأضرب منا بالسيوف القوانسا ، معناه : يزيد ضربنا بالسيوف القوانس على ضرب غيرنا ، كما هو واضح . وعلى هذا الذي قررنا فلا مانع من كون أمدا منصوب بـ أحصى نصب المفعول به على أنه صيغة تفضيل ، وإن كان القائلون بأن أحصى صيغة تفضيل أعربوا أمدا بأنه تمييز .
تنبيه
فإن قيل : ما وجه رفع أي من قوله : لنعلم أي الحزبين أحصى الآية ، مع أنه في محل نصب لأنه مفعول به ؟ فالجواب أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها ، أن أي فيها معنى الاستفهام ، والاستفهام يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة عاطفا على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه :
وإن ولا لام ابتداء أو قسم كذا والاستفهام ذا له انحتم
ومنها ما ذكره الفخر الرازي وغيره : من أن الجملة بمجموعها متعلق العلم ، ولذلك السبب لم يظهر عمل قوله : لنعلم في لفظة أي بل بقيت على ارتفاعها ، ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول كما ترى .
[ ص: 213 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أوجه الأعاريب عندي في الآية : أن لفظة أي موصولة استفهامية . و أي مبنية لأنها مضافة ، وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة :
أي كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف
ولبنائها لم يظهر نصبها ، وتقدير المعنى على هذا : لنعلم الحزب الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا ونميزه عن غيره ، و أحصى صيغة تفضيل كما قدمنا توجيهه ; نعم ، للمخالف أن يقول : إن صيغة التفضيل تقتضي بدلالة مطابقتها الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل الفعل ، وأحد الحزبين لم يشارك الآخر في أصل الإحصاء لجهله بالمدة من أصلها ، وهذا مما يقوي قول من قال : إن أحصى فعل ، والعلم عند الله تعالى .
فإن قيل : أي فائدة مهمة في معرفة الناس للحزب المحصي أمد اللبث من غيره ، حتى يكون علة غائية لقوله : ثم بعثناهم لنعلم الآية ، وأي فائدة مهمة في مساءلة بعضهم بعضا ، حتى يكون علة غائية لقوله : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ؟ .
فالجواب أنا لم نر من تعرض لهذا ، والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم أن ما ذكر من إعلام الناس بالحزب الذي هو أحصى أمدا لما لبثوا ، ومساءلة بعضهم بعضا عن ذلك ، يلزمه أن يظهر للناس حقيقة أمر هؤلاء الفتية ، وأن الله ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، ثم بعثهم أحياء طرية أبدانهم ، لم يتغير لهم حال ، وهذا من غريب صنعه جل وعلا الدال على كمال قدرته ، وعلى البعث بعد الموت ، ولاعتبار هذا اللازم جعل ما ذكرنا علة غائية ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى
[ 18 \ 13 ] . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق ، ثم أخبره مؤكدا له أنهم فتية آمنوا بربهم ، وأن الله جل وعلا زادهم هدى .
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى ; لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان .
وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبينا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقوله : والذين جاهدوا فينا [ ص: 214 ] لنهدينهم سبلنا الآية [ 29 \ 69 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا الآية [ 8 \ 29 ] ، وقوله : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [ 9 \ 124 ] ، وقوله تعالى : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم الآية [ 48 \ 4 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به الآية [ 57 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد ، مفهوم منها أنه ينقص أيضا ، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك ، وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها ، فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وربطنا على قلوبهم إذ قاموا .
أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر ، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق ، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم ، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به ، ولا ماء ولا طعام .
ويفهم من هذه الآية الكريمة : أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه ، ويثبته على تحمل الشدائد ، والصبر الجميل .
وقد أشار تعالى إلى وقائع من هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله في أهل بدر مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا الآية [ 8 \ 11 - 12 ] ، وكقوله في أم موسى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ 28 \ 10 ] .
وأكثر المفسرين على أن قوله : إذ قاموا أي بين يدي ملك بلادهم ، وهو ملك جبار يدعو إلى عبادة الأوثان ، يزعمون أن اسمه : دقيانوس .
وقصتهم مذكورة في جميع كتب التفسير ، أعرضنا عنها لأنها إسرائيليات . وفي قيامهم المذكور هنا أقوال أخر كثيرة ، والعامل في قوله : " إذ " هو " ربطنا " على قلوبهم حين قاموا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (225)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 215 إلى صـ 220
قوله تعالى : فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا
[ ص: 215 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم ربهم هدى ، قالوا : إن ربهم هو رب السموات والأرض ، وأنهم لن يدعوا من دونه إلها ، وأنهم لو فعلوا ذلك قالوا شططا ، أي قولا ذا شطط ، أو هو من النعت بالمصدر للمبالغة ; كأن قولهم هو نفس الشطط ، والشطط : البعد عن الحق والصواب . وإليه ترجع أقوال المفسرين ; كقول بعضهم " شططا " : جورا ، تعديا ، كذبا ، خطأ ، إلى غير ذلك من الأقوال .
وأصل مادة الشطط : مجاوزة الحد ، ومنه أشط في السوم : إذا جاوز الحد ، ومنه قوله تعالى : ولا تشطط الآية [ 38 \ 22 ] ، أو البعد ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
تشط غدا دار جيراننا وللدار بعد غد أبعد
ويكثر استعمال الشطط في الجور والتعدي ، ومنه قول الأعشى :
أتنتهون وإن ينهى ذوي الشطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن من أشرك مع خالق السموات والأرض معبودا آخر ، فقد جاء بأمر شطط بعيد عن الحق والصواب في غاية الجور والتعدي ; لأن الذي يستحق العبادة هو الذي يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود ; لأن الذي لا يقدر على خلق غيره مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه ويرزقه ويدبر شئونه .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر كثيرة ، كقوله : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] ، وقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، أي الواحد القهار الذي هو خالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده جل وعلا ، وقوله جل وعلا : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] ، وقوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : لقد قلنا إذا شططا ، أي إذا دعونا من [ ص: 216 ] دونه إلها ، فقد قلنا شططا .
قوله تعالى : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين .
" لولا " في هذه الآية الكريمة للتحضيض ، وهو الطلب بحث وشدة ، والمراد بهذا الطلب التعجيز ; لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسلطان بين على جواز عبادة غير الله ، والمراد بالسلطان البين : الحجة الواضحة .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من تعجيزهم عن الإتيان بحجة على شركهم وكفرهم ، وإبطال حجة المشركين على شركهم ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] ، وقوله تعالى : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] ، وقوله تعالى منكرا عليهم : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] ، وقوله جل وعلا : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [ 30 \ 35 ] ، وقوله تعالى : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا [ 35 \ 40 ] ، وقوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ 23 \ 117 ] ، والآيات الدالة على أن المشركين لا مستند لهم في شركهم إلا تقليد آبائهم الضالين ، كثيرة جدا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : " هؤلاء " مبتدأ ، و " قوما " قيل عطف بيان ، والخبر جملة " اتخذوا " ، وقيل " قومنا " خبر المبتدأ ، وجملة " اتخذوا في محل حال ، والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .
أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب بادعاء أن له شريكا ، كما افتراه عليه قوم أصحاب الكهف ، كما قال عنهم أصحاب الكهف : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة الآية [ 18 \ 15 ] .
وهذا المعنى الذي ذكره هنا من أن افتراء الكذب على الله بجعل الشركاء له هو أعظم الظلم - جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله : فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه الآية [ 39 \ 32 ] ، وقوله : [ ص: 217 ] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين [ 11 \ 18 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا .
" إذ " في قوله : وإذ اعتزلتموهم للتعليل ، على التحقيق ، كما قاله ابن هشام ، وعليه فالمعنى : ولأجل اعتزالكم قومكم الكفار وما يعبدونه من دون الله ، فاتخذوا الكهف مأوى ومكان اعتصام ، ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ، وهذا يدل على أن اعتزال المؤمن قومه الكفار ومعبوديهم من أسباب لطف الله به ورحمته .
وهذا المعنى يدل عليه أيضا قوله تعالى في نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا [ 19 \ 48 - 50 ] واعتزالهم إياهم هو مجانبتهم لهم ، وفرارهم منهم بدينهم .
وقوله : وما يعبدون إلا الله ، اسم موصول في محل نصب ، معطوف على الضمير المنصوب في قوله : اعتزلتموهم ، أي واعتزلتم معبوديهم من دون الله ، وقيل : " ما " مصدرية ، أي اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم غير الله تعالى ، والأول أظهر .
وقوله : إلا الله ، قيل : هو استثناء متصل ، بناء على أنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، وقيل : هو استثناء منقطع ; بناء على القول بأنهم كانوا لا يعبدون إلا الأصنام ، ولا يعرفون الله ولا يعبدونه .
وقوله : مرفقا أي ما ترتفقون به ، أي تنتفعون به ، وقرأه نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء مع تفخيم الراء ، وقرأه باقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء وترقيق الراء ، وهما قراءتان ولغتان في ما يرتفق به ، وفي عضو الإنسان المعروف ، وأنكر الكسائي في " المرفق " بمعنى عضو الإنسان فتح الميم وكسر الفاء ، وقال : هو بكسر الميم وفتح الفاء ، ولا يجوز غير ذلك .
وزعم ابن الأنباري أن " من " في قوله : ويهيئ لكم من أمركم بمعنى البدلية ، أي يهيئ لكم بدلا من " أمركم " الصعب مرفقا : وعلى هذا الذي زعم غاية ; كقوله [ ص: 218 ] تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة [ 9 \ 38 ] أي بدلا منها وعوضا عنها ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
أي بدلا من ماء زمزم ، والله تعالى أعلم .
ومعنى : ينشر لكم : يبسط لكم : كقوله : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته الآية [ 42 \ 28 ] .
وقوله : ويهيئ ; أي ييسر ويقرب ويسهل .
قوله تعالى : وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله .
اعلم أولا أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول ، وذكرنا من ذلك أمثلة متعددة .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية على قولين وفي نفس الآية قرينة تدل على صحة أحدهما وعدم صحة الآخر .
أما القول الذي تدل القرينة في الآية على خلافه ، فهو أن أصحاب الكهف كانوا في زاوية من الكهف ، وبينهم وبين الشمس حواجز طبيعية من نفس الكهف ، تقيهم حر الشمس عند طلوعها وغروبها ، على ما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى .
وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته ، فهو أن أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله ، إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة ، كرامة لهؤلاء القوم الصالحين ، الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا .
والقرينة الدالة على ذلك هي قوله تعالى : ذلك من آيات الله [ 18 \ 17 ] ، إذ لو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمرا معتادا مألوفا ، وليس فيه غرابة حتى يقال فيه : ذلك من آيات الله . وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه أنه تشهد له القرينة المذكورة ; فمعنى تزاور الشمس عن كهفهم ذات اليمين عند طلوعها ، وقرضها إياهم ذات الشمال عند غروبها هو أن الله يقلص ضوءها عنهم ، ويبعده إلى جهة اليمين عند الطلوع ، وإلى جهة الشمال عند الغروب ، والله جل وعلا قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء ، فإذا علمت هذا فاعلم أن أصحاب القول الأول اختلفوا في كيفية وضع الكهف ، وجزم [ ص: 219 ] ابن كثير في تفسيره بأن الآية تدل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال ، قال : لأنه تعالى أخبر بأن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ذات اليمين ، أي يتقلص الفيء يمنة . كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة : تزاور ، أي تميل ، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في ذلك المكان ، ولهذا قال تعالى : وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال [ 18 \ 17 ] ، أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية الشرق ، فدل على صحة ما قلناه ، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب .
وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل إليه منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ، ولا تزاور الفيء يمينا وشمالا ، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعين ما ذكرناه ، ولله الحمد . انتهى كلام ابن كثير .
وقال الفخر الرازي في تفسيره : أصحاب هذا القول قالوا إن باب الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله ، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف ، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل إليه ، انتهى كلام الرازي . وقال أبو حيان في تفسير هذه الآية : وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية ، وقال عبد الله بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش ، وعلى هذا كان أعلى الكهف مستورا من المطر .
قال ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار الله لهم مضجعا متسعا في مقنأة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم ، انتهى الغرض من كلام أبي حيان . والمقنأة : المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ، إلى غير ذلك من أقوال العلماء .
والقول الأول أنسب للقرينة القرآنية التي ذكرنا .
وممن اعتمد القول الأول لأجل القرينة المذكورة الزجاج ، ومال إليه بعض الميل الفخر الرازي والشوكاني في تفسيريهما ، لتوجيههما قول الزجاج المذكور بقرينة الآية المذكورة .
[ ص: 220 ] وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره : ويؤيد القول الأول قوله تعالى : ذلك من آيات الله ، فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة ، أنسب بمعنى كونها آية ، ويؤيده أيضا إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا ، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر :
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
انتهى كلام الشوكاني .
ومعلوم أن الفجوة : هي المتسع . وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور ، وقول الآخر :
ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل
ومنه الحديث : " فإذا وجد فجوة نص " .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وترى الشمس إذا طلعت ، أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل على كهفهم ، والمعنى : أنك لو رأيتهم لرأيتهم كذلك ، لا أن المخاطب رآهم بالفعل ، كما يدل لهذا المعنى قوله تعالى : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية [ 18 \ 18 ] ، والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم ، وأصل مادة التزاور : الميل ، فمعنى " تزاور " : تميل . والزور : الميل ، ومنه شهادة الزور ، لأنها ميل عن الحق . ومنه الزيارة ; لأن الزائر يميل إلى المزور ، ومن هذا المعنى قول عنترة في معلقته :
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وقول عمر بن أبي ربيعة :
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال حباب وشخصي خشية الحي أزور
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ذات اليمين أي جهة اليمين ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين . وقال أبو حيان في البحر : وذات اليمين : جهة يمين الكهف ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين ، يعني يمين الداخل إلى الكهف ، أو يمين الفتية . اهـ ، وهو منصوب على الظرف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (226)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 221 إلى صـ 226
وقوله تعالى : وإذا غربت تقرضهم ، من القرض بمعنى القطيعة والصرم ; أي [ ص: 221 ] تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم ، وهذا المعنى معروف من كلام العرب ، ومنه قول غيلان ذي الرمة :
نظرت بجرعاء السبية نظرة ضحى وسواد العين في الماء شامس
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
فقوله : " يقرضن أقواز مشرف " ، أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال ، وعن أيمانهن الفوارس ، وهو موضع أو رمال الدهناء ، والأقواز : جمع قوز - بالفتح - وهو العالي من الرمل كأنه جبل ، ويروى " أجواز مشرف " جمع جوز ، من المجاز بمعنى الطريق . وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى : تقرضهم خلافا لمن زعم أن معنى تقرضهم : تقطعهم من ضوئها شيئا ثم يزول سريعا كالقرض يسترد ، ومراد قائل هذا القول أن الشمس تميل عنهم بالغداة ، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن .
قال أبو حيان في البحر : ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعيا ، فتكون التاء في قوله : " تقرضهم " مضمومة ، لكن دل فتح التاء من قوله " تقرضهم " على أنه من القرض بمعنى القطع ، أي تقطع لهم من ضوئها شيئا ، وقد علمت أن الصواب القول الأول ، وقد قدمنا أن الفجوة : المتسع .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : تزاور عن كهفهم ، فيه ثلاث قراءات سبعيات :
قرأه ابن عامر الشامي " تزور " بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء ، على وزن تحمر ، وهو على هذه القراءة من الازورار بمعنى الميل ; كقول عنترة المتقدم :
فازور من وقع القنا . . . . . . . . . . .
البيت
وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف ، وعلى هذه القراءة فأصله " تتزاور " فحذفت منه إحدى التاءين ، على حد قوله في الخلاصة :
وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر
وقرأه نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري : " تزاور " بتشديد الزاي بعدها ألف ، وأصله " تتزاور " أدغمت فيه التاء في الزاي ، وعلى هاتين القراءتين ( أعني قراءة حذف إحدى التاءين ، وقراءة إدغامها في الزاي ) فهو من التزاور بمعنى الميل أيضا [ ص: 222 ] وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا ، وكقولهم : سافر وعاقب وعافى .
وعلى قول من قال : إن في الكهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف ، فالإشارة في قوله : ذلك من آيات الله ، راجعة إلى ما ذكر من حديثهم ، أي ذلك المذكور من هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان ، وإيوائهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم - من آيات الله . وأصل الآية عند المحققين " أيية " بثلاث فتحات ، أبدلت فيه الياء الأولى ألفا ، والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير ; لأن التغير عادة أكثر في الأواخر ، كما في طوى ونوى ، ونحو ذلك . وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وإن لحرفين ذا الاعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق
والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضا ، أما إطلاقاها في اللغة فالأول منهما : أنها تطلق بمعنى العلامة ، وهو الإطلاق المشهور ، ومنه قوله تعالى : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الآية [ 2 \ 248 ] ، وقول عمر بن أبي ربيعة :
بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع أكنان أهذا المشهر
يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله :
ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر
وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم ، ومنه قول برج بن مسهر أو غيره :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
فقوله : " بآياتنا " أي بجماعتنا .
[ ص: 223 ] وأما إطلاقها في القرآن فالأول منهما إطلاقها على الآية الكونية القدرية ، كقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] ، أي علامات كونية قدرية ، يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا ، والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة .
وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية ، كقوله : رسولا يتلو عليكم آيات الله الآية [ 65 \ 11 ] ونحوها من الآيات .
والآية الشرعية الدينية قيل : هي من الآية بمعنى العلامة لغة ، لأنها علامات على صدق من جاء بها ، أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها .
وقيل : من الآية ، بمعنى الجماعة ، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن .
قوله تعالى : من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الهدى والإضلال بيده وحده جل وعلا ، فمن هداه فلا مضل له ، ومن أضله فلا هادي له .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ; كقوله تعالى : ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما الآية [ 17 \ 97 ] ، وقوله : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 7 \ 178 ] ، وقوله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] ، وقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا الآية [ 5 \ 41 ] ، وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] ، وقوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
ويؤخذ من هذه الآيات وأمثالها في القرآن : بطلان مذهب القدرية ، أن العبد مستقل بعمله من خير أو شر ، وأن ذلك ليس بمشيئة الله بل بمشيئة العبد ، سبحانه جل وعلا عن أن يقع في ملكه شيء بدون مشيئته ! وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ! وسيأتي بسط [ ص: 224 ] هذا المبحث إن شاء الله تعالى .
وقد أوضحنا أيضا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " الشمس " في الكلام على قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] ، وقوله : فلن تجد له وليا مرشدا [ 18 \ 17 ] ، أي لن يكون بينه وبينه سبب للموالاة يرشده إلى الصواب والهدى ، أي لن يكون ذلك ; لأن من أضله الله فلا هادي له ، وقوله : فهو المهتد قرأه بإثبات الياء في الوصل دون الوقف نافع وأبو عمرو ، وبقية السبعة قرءوه بحذف الياء في الحالين .
قوله تعالى : وتحسبهم أيقاظا وهم رقود .
الحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ : جمع يقظ - بكسر القاف وضمها - ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
فلما رأت من قد تنبه منهم وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
والرقود : جمع راقد وهو النائم ، أي تظنهم أيها المخاطب لو رأيتهم أيقاظا والحال أنهم رقود ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في نظيره : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية [ 18 \ 18 ] ، وقال بعض العلماء : سبب ظن الرائي أنهم أيقاظ هو أنهم نيام وعيونهم مفتحة ، وقيل : لكثرة تقلبهم ، وهذا القول يشير له قوله تعالى بعده : ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال [ 18 \ 18 ] ، وكلام المفسرين هنا في عدد تقلبهم من كثرة وقلة لا دليل عليه ، ولذا أعرضنا عن ذكر الأقوال فيه .
وقوله في هذه الآية : وتحسبهم ، قرأه بفتح السين على القياس ابن عامر وعاصم وحمزة ، وقرأه بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، وهما قراءتان سبعيتان ، ولغتان مشهورتان ، والفتح أقيس والكسر أفصح .
قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد
، اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ " الوصيد " ، فقيل : هو فناء للبيت ، ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ، وقيل الوصيد : الباب ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا . وقيل : الوصيد العتبة ، وقيل الصعيد ، والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب ، ويقال له " أصيد " أيضا ; لأن الله يقول : إنها عليهم مؤصدة [ 104 \ 8 ] ، أي مغلقة مطبقة ، وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد ، وهو الباب من أبوابها ، ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر :
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
[ ص: 225 ] وقول ابن قيس الرقيات :
إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقا مؤصدا عليه الحجاب
فالمراد بالإيصاد في جميع ذلك : الإطباق والإغلاق ; لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب ، ويقال فيه أصيد ، وعلى اللغتين القراءتان في قوله : " مؤصدة " مهموزا من الأصيد . وغير مهموز من الوصيد .
ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي ، وقيل زهير :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
أي لا يسد بابها علي ، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي ; كقول الآخر :
ولا ترى الضب بها ينجحر
فإن قيل : كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية ، والكهف غار في جبل لا باب له ؟
فالجواب : أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه ; فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف بابا ، ومن قال : الوصيد : الفناء ، لا يخالف ما ذكرنا ; لأن فناء الكهف هو بابه ، وقد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك : أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه .
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة : إن المراد بالكلب في هذه الآية رجل منهم لا كلب حقيقي ، واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة ، كقراءة " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ، وقراءة " وكالئهم باسط ذراعيه " .
وقوله جل وعلا : باسط ذراعيه قرينة على بطلان ذلك القول ; لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي ، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " ، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب ، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي ، وقراءة " وكالئهم " بالهمزة لا تنافي كونه كلبا ; لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم ، والكلاءة : الحفظ .
فإن قيل : ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو " باسط " في مفعوله الذي هو " ذراعيه " والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة " ال " لا يعمل إلا إذا كان واقعا في الحال أو المستقبل ؟
[ ص: 226 ] فالجواب أن الآية هنا حكاية حال ماضية ، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله تعالى : والله مخرج ما كنتم تكتمون [ 2 \ 72 ] .
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب ، وكونه باسطا ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم ، يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن . اهـ .
ويدل لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال : إني أحب الله ورسوله : " أنت مع من أحببت " متفق عليه من حديث أنس .
ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم ، كما بينه الله تعالى في سورة " الصافات " في قوله : قال قائل منهم إني كان لي قرين [ 37 \ 51 ] - إلى قوله - قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين الآية [ 37 \ 56 \ 57 ] .
وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم ، فيقول بعضهم : اسمه قطمير ، ويقول بعضهم : اسمه حمران ، إلى غير ذلك لم نطل به الكلام لعدم فائدته .
ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله ، ولم يثبت في بيانها شيء ، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه .
وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى ، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائما ، كلون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل ، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأنكر عليه موسى قتله ، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو ، وكم طول السفينة وعرضها ، وكم فيها من الطبقات ، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه ، ولا دليل على التحقيق فيه .
وقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [ 6 \ 145 ] حكم أكل لحم الكلب وبيعه ، وأخذ قيمته إن قتل ، وما يجوز اقتناؤه منها وما لا يجوز ، وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه .
قوله تعالى : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (227)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 227 إلى صـ 232
، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه بعث [ ص: 227 ] أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة ليتساءلوا بينهم ، أي ليسأل بعضهم بعضا عن مدة لبثهم في الكهف في تلك النومة ، وأن بعضهم قال إنهم لبثوا يوما أو بعض يوم ، وبعضهم رد علم ذلك إلى الله جل وعلا .
ولم يبين هنا قدر المدة التي تساءلوا عنها في نفس الأمر ، ولكنه بين في موضع آخر أنها ثلاثمائة سنة بحساب السنة الشمسية ، وثلاثمائة سنة وتسع سنين بحساب السنة القمرية ، وذلك في قوله تعالى : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] كما تقدم .
قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه .
في قوله في هذه الآية " أزكى " قولان للعلماء .
أحدهما أن المراد بكونه " أزكى " أطيب لكونه حلالا ليس مما فيه حرام ولا شبهة .
والثاني أن المراد بكونه أزكى أنه أكثر ، كقولهم : زكا الزرع : إذا كثر ، وكقول الشاعر :
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
أي أكثر من ثلاثة .
والقول الأول هو الذي يدل له القرآن ; لأن أكل الحلال والعمل الصالح أمر الله به المؤمنين كما أمر المرسلين ، قال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا الآية [ 23 \ 51 ] ، وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 2 \ 172 ] ، ويكثر في القرآن إطلاق مادة الزكاة على الطهارة ; كقوله : قد أفلح من تزكى الآية [ 17 \ 14 ] ، وقوله : قد أفلح من زكاها الآية [ 91 \ 9 ] ، وقوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] ، وقوله : فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما [ 18 \ 81 ] ، وقوله : أقتلت نفسا زكية بغير نفس الآية [ 18 \ 74 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فالزكاة في هذه الآيات ونحوها : يراد بها الطهارة من أدناس الذنوب والمعاصي ، فاللائق بحال هؤلاء الفتية الأخيار المتقين أن يكون مطلبهم في مأكلهم الحلبة والطهارة ، لا الكثرة . وقد قال بعض العلماء : إن عهدهم بالمدينة فيها مؤمنون يخفون إيمانهم ، [ ص: 228 ] وكافرون ، وأنهم يريدون الشراء من طعام المؤمنين دون الكافرين ، وأن ذلك هو مرادهم بالزكاة في قوله : أزكى طعاما ، وقيل : كان فيها أهل كتاب ومجوس ، والعلم عند الله تعالى .
والورق في قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم [ 18 \ 19 ] الفضة ، وأخذ علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة مسائل من مسائل الفقه :
المسألة الأولى : جواز الوكالة وصحتها ; لأن قولهم : فابعثوا أحدكم بورقكم الآية ، يدل على توكيلهم لهذا المبعوث لشراء الطعام . وقال بعض العلماء : لا تدل الآية على جواز التوكيل مطلقا بل مع التقية والخوف ، لأنهم لو خرجوا كلهم لشراء حاجتهم لعلم بهم أعداؤهم في ظنهم فهم معذورون ، فالآية تدل على توكيل المعذور دون غيره ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، وهو قول سحنون من أصحاب مالك في التوكيل على الخصام .
قال ابن العربي : وكأن سحنونا تلقاه من أسد بن الفرات ، فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك لأهل الظلم والجبروت إنصافا منهم وإذلالا لهم ، وهو الحق ، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل . اهـ .
وقال القرطبي : كلام ابن العربي هذا حسن ، فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء ، والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ، ما أخرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل ، فجاء يتقاضاه ، فقال : " أعطوه " فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها ، فقال " أعطوه " فقال : أوفيتني أوفى الله لك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خيركم أحسنكم قضاء " لفظ البخاري .
فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم : أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا ، وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما : إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح إلا برضا خصمه " ، وهذا الحديث خلاف قولهما . اهـ كلام القرطبي .
ولا يخفى ما فيه ; لأن أبا حنيفة وسحنونا إنما خالفا في الوكالة على المخاصمة بغير إذن الخصم فقط ، ولم يخالفا في الوكالة في دفع الحق .
[ ص: 229 ] وبهذه المناسبة سنذكر إن شاء الله الأدلة من الكتاب والسنة على صحة الوكالة وجوازها ، وبعض المسائل المحتاج إليها من ذلك ، تنبيها بها على غيرها .
اعلم أولا أن الكتاب والسنة والإجماع كلها دل على جواز الوكالة وصحتها في الجملة ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى هنا : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الآية ، وقوله تعالى : والعاملين عليها الآية [ 9 \ 60 ] ، فإن عملهم عليها توكيل لهم على أخذها .
واستدل لذلك بعض العلماء أيضا بقوله : اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي الآية [ 12 \ 93 ] ، فإنه توكيل لهم من يوسف على إلقائهم قميصه على وجه أبيه ليرتد بصيرا .
واستدل بعضهم لذلك أيضا بقوله تعالى عن يوسف : قال اجعلني على خزائن الأرض الآية [ 12 \ 55 ] ، فإنه توكيل على ما في خزائن الأرض .
وأما السنة فقد دلت أحاديث كثيرة على جواز الوكالة وصحتها ، من ذلك حديث أبي هريرة المتقدم في كلام القرطبي ، الدال على التوكيل في قضاء الدين ، وهو حديث متفق عليه ، وأخرج الجماعة إلا البخاري من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .
ومنها حديث عروة بن أبي الجعد البارقي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به له شاة ، فاشترى له به شاتين : فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ، فكان لو اشترى التراب لربح فيه ، رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني ، وفيه التوكيل على الشراء .
ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أردت الخروج إلى خيبر ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إني أردت الخروج إلى خيبر . فقال : " إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا ، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته " أخرجه أبو داود والدارقطني ، وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن له وكيلا .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :
" واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ، وهو صريح في التوكيل في إقامة الحدود .
ومنها حديث علي رضي الله عنه قال : " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ، وألا أعطي الجازر منها شيئا ، وقال : نحن نعطيه من [ ص: 230 ] عندنا " متفق عليه . وفيه التوكيل على القيام على البدن والتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ، وعدم إعطاء الجازر شيئا منها .
ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على أصحابه فبقي عتود ، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال " ضح أنت به " متفق عليه أيضا . وفيه الوكالة في تقسيم الضحايا ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما طرفا كافيا منها ، ذكرنا بعضه هنا .
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الوكالة ما نصه : اشتمل كتاب الوكالة - يعني من صحيح البخاري - على ستة وعشرين حديثا ، المعلق منها ستة ، والبقية موصولة ، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنا عشر حديثا ، والبقية خالصة ، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أمية بن خلف ، وحديث كعب بن مالك في الشاة المذبوحة ، وحديث وفد هوازن من طريقيه ، وحديث أبي هريرة في حفظ زكاة رمضان ، وحديث عقبة بن الحارث في قصة النعيمان ، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار ، والله أعلم . انتهى من فتح الباري . وكل تلك الأحاديث دالة على جواز الوكالة وصحتها .
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الوكالة وصحتها في الجملة ، وقال ابن قدامة في المغني : وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك ، فإنه لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه ، فدعت الحاجة إليها ، انتهى منه . وهذا مما لا نزاع فيه .
فروع تتعلق بمسألة الوكالة
الفرع الأول : لا يجوز التوكيل إلا في شيء تصح النيابة فيه ، فلا تصح في فعل محرم ; لأن التوكيل من التعاون ، والله يقول : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان الآية [ 5 \ 2 ] .
ولا تصح في عبادة محضة كالصلاة والصوم ونحوهما ; لأن ذلك مطلوب من كل أحد بعينه ، فلا ينوب فيه أحد من أحد ; لأن الله يقول : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الآية [ 51 \ 56 ] .
أما الحج عن الميت والمعضوب ، والصوم عن الميت فقد دلت أدلة أخر على [ ص: 231 ] النيابة في ذلك ، وإن خالف كثير من العلماء في الصوم عن الميت ; لأن العبرة بالدليل الصحيح من الوحي لا بآراء العلماء ، إلا عند عدم النص من الوحي .
الفرع الثاني : ويجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها ، سواء كان الموكل حاضرا أو غائبا ، صحيحا أو مريضا . وهذا قول جمهور العلماء ، منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وغيرهم . وقال أبو حنيفة : للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا غير معذور ; لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه ، وقد قدمنا في كلام القرطبي أن هذا قول سحنون أيضا من أصحاب مالك ، واحتج الجمهور بظواهر النصوص ; لأن الخصومة أمر لا مانع من الاستنابة فيه .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم في مسألة التوكيل على الخصام والمحاكمة : أن الصواب فيها التفصيل .
فإن كان الموكل ممن عرف بالظلم والجبروت والادعاء بالباطل فلا يقبل منه التوكيل لظاهر قوله تعالى : ولا تكن للخائنين خصيما [ 4 \ 105 ] . وإن كان معروفا بغير ذلك فلا مانع من توكيله على الخصومة ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : ويجوز التوكيل بجعل وبدون جعل ، والدليل على التوكيل بغير جعل أنه صلى الله عليه وسلم وكل أنيسا في إقامة الحد على المرأة ، وعروة البارقي في شراء الشاة من غير جعل . ومثال ذلك كثير في الأحاديث التي ذكرنا وغيرها .
والدليل على التوكيل بجعل قوله تعالى : والعاملين عليها [ 9 \ 60 ] فإنه توكيل على جباية الزكاة وتفريقها بجعل منها كما ترى .
الفرع الرابع : إذا عزل الموكل وكيله في غيبته وتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به ، أو مات موكله وتصرف بعد موته وقبل العلم به ، فهل يمضي تصرفه نظرا لاعتقاده ، أو لا يمضي نظرا للواقع في نفس الأمر ، في ذلك خلاف معروف بين أهل العلم مبني على قاعدة أصولية ، وهي :
هل يستقل الحكم بمطلق وروده وإن لم يبلغ المكلف ، أو لا يكون ذلك إلا بعد بلوغه للمكلف . ويبنى على الخلاف في هذه القاعدة الاختلاف في خمس وأربعين صلاة التي نسخت من الخمسين بعد فرضها ليلة الإسراء ، هل يسمى ذلك نسخا في حق الأمة [ ص: 232 ] لوروده ، أو لا يسمى نسخا في حقهم ; لأنه وقع قبل بلوغ التكليف بالمنسوخ لهم ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :
هل يستقل الحكم بالورود أو ببلوغه إلى الموجود
فالعزل بالموت أو العزل عرض كذا قضاء جاهل للمفترض
ومسائل الوكالة معروفة مفصلة في كتب فروع المذاهب الأربعة ، ومقصودنا ذكر أدلة ثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع ، وذكر أمثلة من فروعها تنبيها بها على غيرها ; لأنها باب كبير من أبواب الفقه .
المسألة الثانية : أخذ بعض علماء المالكية من هذه الآية الكريمة جواز الشركة ; لأنهم كانوا مشتركين في الورق التي أرسلوها ليشتري لهم طعاما بها .
وقال ابن العربي المالكي : لا دليل في هذه الآية على الشركة ، لاحتمال أن يكون كل واحد منهم أرسل معه نصيبه منفردا ليشتري له به طعامه منفردا ، وهذا الذي ذكره ابن العربي متجه كما ترى ، وقد دلت أدلة أخرى على جواز الشركة ، وسنذكر إن شاء الله بهذه المناسبة أدلة ذلك ، وبعض مسائله المحتاج إليها ، وأقوال العلماء في ذلك .
اعلم أولا : أن الشركة جائزة في الجملة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
أما الكتاب فقد دلت على ذلك منه آيات في الجملة ، كقوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث [ 4 \ 12 ] ، وقوله تعالى : وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض [ 38 \ 24 ] ، عند من يقول : إن الخلطاء : الشركاء ، وقوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية [ 8 \ 41 ] ، وهي تدل على الاشتراك من جهتين .
وأما السنة فقد دلت على جواز الشركة أحاديث كثيرة سنذكر هنا إن شاء الله طرفا منها ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من أعتق شركا له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم ، وإلا فقد عتق عليه ما عتق " . وقد ثبت نحوه في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في الرقيق ، وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه لحديث ابن عمر وأبي هريرة المذكورين بقوله : ( باب الشركة في الرقيق ) ، ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله عن أبي المنهال ، قال :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ