-
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/27.jpg
الطبري - محمد بن جرير الطبري
الأجزاء: أربعة وعشرون جزءا
سنة الطباعة: -
الناشر: دار المعارف
تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 311 هو أفضل التفاسير، وأوسعها، وأطولها باعًا في العلوم المتعلقة بالقرآن؛ لاهتمامه بما يتعلق بالقراءات القرآنية، وبوجوه اللغة، إضافة إلى أنه يروي الروايات في التفسير بأسانيده عن السلف -رحمهم الله تعالى-.
ترجمة الطبرى
محمد بن جرير
ابن يزيد بن كثير ، الإمام العلم المجتهد ، عالم العصر أبو جعفر الطبري ، صاحب التصانيف البديعة ، من أهل آمل طبرستان .
مولده سنة أربع وعشرين ومائتين وطلب العلم بعد الأربعين ومائتين ، وأكثر الترحال ، ولقي نبلاء الرجال ، وكان من أفراد الدهر علما ، وذكاء ، وكثرة تصانيف . قل أن ترى العيون مثله .
أخبرنا أحمد بن هبة الله ، عن أبي روح الهروي : أخبرنا زاهر [ ص: 268 ] المستملي ، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن ، أخبرنا أبو عمرو بن حمدان ، حدثنا محمد بن جرير الفقيه ، ومحمد بن إسحاق الثقفي قالا : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لضباعة : حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني حديث حسن غريب من أعلى ما عندي عن ابن جرير .
سمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، وإسماعيل بن موسى السدي ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، ومحمد بن أبي معشر ، حدثه بالمغازي عن أبيه ، ومحمد بن حميد الرازي ، وأحمد بن منيع ، وأبا كريب محمد بن العلاء ، وهناد بن السري ، وأبا همام السكوني ، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، وبندارا ، ومحمد بن المثنى ، وسفيان بن وكيع ، والفضل بن الصباح ، وعبدة بن عبد الله الصفار ، وسلم بن جنادة ، ويونس بن عبد الأعلى ، ويعقوب الدورقي . وأحمد بن المقدام العجلي ، وبشر بن معاذ العقدي ، وسوار بن عبد الله العنبري ، وعمرو بن علي الفلاس ، ومجاهد بن موسى ، وتميم بن المنتصر ، والحسن بن عرفة ، ومهنا بن يحيى ، وعلي بن سهل الرملي ، وهارون بن إسحاق الهمداني ، والعباس بن الوليد العذري ، وسعيد بن عمرو السكوني ، وأحمد بن أخي ابن وهب ، [ ص: 269 ] ومحمد بن معمر القيسي ، وإبراهيم بن سعيد الجوهري ، ونصر بن علي الجهضمي ، ومحمد بن عبد الله بن بزيع ، وصالح بن مسمار المروزي ، وسعيد بن يحيى الأموي ، ونصر بن عبد الرحمن الأودي ، وعبد الحميد بن بيان السكري ، وأحمد بن أبي سريج الرازي ، والحسن بن الصباح البزار ، وأبا عمار الحسين بن حريث ، وأمما سواهم .
واستقر في أواخر أمره ببغداد . وكان من كبار أئمة الاجتهاد .
حدث عنه : أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني -وهو أكبر منه - وأبو القاسم الطبراني ، وأحمد بن كامل القاضي ، وأبو بكر الشافعي ، وأبو أحمد بن عدي ، ومخلد بن جعفر الباقرحي ، والقاضي أبو محمد بن زبر ، وأحمد بن القاسم الخشاب ، وأبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان ، وأبو جعفر أحمد بن علي الكاتب ، وعبد الغفار بن عبيد الله الحضيني ، وأبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني ، والمعلى بن سعيد ، وخلق كثير .
قال أبو سعيد بن يونس : محمد بن جرير من أهل آمل ، كتب بمصر ، ورجع إلى بغداد ، وصنف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه .
وقال الخطيب محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب : كان أحد أئمة العلماء ، يحكم بقوله ، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظا لكتاب الله ، عارفا بالقراءات ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في أحكام القرآن ، عالما بالسنن وطرقها ، صحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ، عارفا بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في [ ص: 270 ] " أخبار الأمم وتاريخهم " ، وله كتاب : " التفسير " لم يصنف مثله ، وكتاب سماه : " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه ، لكن لم يتمه ، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء ، وتفرد بمسائل حفظت عنه .
قلت : كان ثقة ، صادقا ، حافظا ، رأسا في التفسير ، إماما في الفقه والإجماع والاختلاف ، علامة في التاريخ وأيام الناس ، عارفا بالقراءات وباللغة ، وغير ذلك .
قرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد .
ذكر أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني : أن مولده بآمل .
وقيل : إن المكتفي أراد أن يحبس وقفا تجتمع عليه أقاويل العلماء ، فأحضر له ابن جرير ، فأملى عليهم كتابا لذلك ، فأخرجت له جائزة ، فامتنع من قبولها ، فقيل له : لا بد من قضاء حاجة . قال : أسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة ، ففعل ذلك .
وكذا التمس منه الوزير أن يعمل له كتابا في الفقه ، فألف له كتاب : " الخفيف " ، فوجه إليه بألف دينار ، فردها . الخطيب : حدثني أبو الفرج محمد بن عبيد الله الشيرازي الخرجوشي : سمعت أحمد بن منصور الشيرازي ، سمعت محمد بن أحمد الصحاف السجستاني ، سمعت أبا العباس البكري يقول : جمعت الرحلة بين ابن جرير ، وابن خزيمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن هارون الروياني بمصر ، فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم ، وأضر بهم الجوع ، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه ، فاتفق رأيهم على أن يستهموا [ ص: 271 ] ويضربوا القرعة ، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام ، فخرجت القرعة على ابن خزيمة ، فقال لأصحابه : أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة . قال : فاندفع في الصلاة ، فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق الباب ، ففتحوا ، فقال : أيكم محمد بن نصر ؟ فقيل : هو ذا . فأخرج صرة فيها خمسون دينارا ، فدفعها إليه ، ثم قال : وأيكم محمد بن جرير ؟ فأعطاه خمسين دينارا ، وكذلك للروياني ، وابن خزيمة ، ثم قال : إن الأمير كان قائلا بالأمس ، فرأى في المنام أن المحامد جياع قد طووا كشحهم ، فأنفذ إليكم هذه الصرر ، وأقسم عليكم : إذا نفدت ، فابعثوا إلي أحدكم .
وقال أبو محمد الفرغاني في " ذيل تاريخه " على تاريخ الطبري ، قال : حدثني أبو علي هارون بن عبد العزيز ; أن أبا جعفر لما دخل بغداد ، وكانت معه بضاعة يتقوت منها ، فسرقت فأفضى به الحال إلى بيع ثيابه وكمي قميصه ، فقال له بعض أصدقائه : تنشط لتأديب بعض ولد الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ؟ قال : نعم . فمضى الرجل ، فأحكم له أمره ، وعاد فأوصله إلى الوزير بعد أن أعاره ما يلبسه ، فقربه الوزير ورفع مجلسه ، وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر ، فاشترط عليه أوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة ، وسأل إسلافه رزق شهر ، ففعل ، وأدخل في [ ص: 272 ] حجرة التأديب ، وخرج إليه الصبي -وهو أبو يحيى - ، فلما كتبه أخذ الخادم اللوح ، ودخلوا مستبشرين ، فلم تبق جارية إلا أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير ، فرد الجميع وقال : قد شورطت على شيء ، فلا آخذ سواه . فدرى الوزير ذلك ، فأدخلته إليه وسأله ، فقال : هؤلاء عبيد وهم لا يملكون . فعظم ذلك في نفسه .
وكان ربما أهدى إليه بعض أصدقائه الشيء فيقبله ، ويكافئه أضعافا لعظم مروءته .
قال الفرغاني : وكتب إلي المراغي يذكر أن المكتفي قال للوزير : أريد أن أقف وقفا . فذكر القصة وزاد : فرد الألف على الوزير ولم يقبلها ، فقيل له : تصدق بها . فلم يفعل ، وقال : أنتم أولى بأموالكم وأعرف بمن تصدقون عليه .
قال الخطيب : سمعت علي بن عبيد الله اللغوي يحكي : أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة .
قال الخطيب : وبلغني عن أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني الفقيه أنه قال : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا .
قال الحاكم : سمعت حسينك بن علي يقول : أول ما سألني ابن خزيمة فقال لي : كتبت عن محمد بن جرير الطبري ؟ قلت : لا ، قال : ولم ؟ قلت : لأنه كان لا يظهر ، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه ، قال : بئس ما فعلت ، ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم ، وسمعت من أبي جعفر .
قال الحاكم : وسمعت أبا بكر بن بالويه يقول : قال لي أبو بكر بن [ ص: 273 ] خزيمة : بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير ؟ قلت : بلى ، كتبته عنه إملاء ، قال : كله ؟ قلت : نعم . قال : في أي سنة ؟ قلت : من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ومائتين . قال : فاستعاره مني أبو بكر ، ثم رده بعد سنين ، ثم قال : لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره ، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ، ولقد ظلمته الحنابلة .
قال أبو محمد الفرغاني : تم من كتب محمد بن جرير كتاب : " التفسير " الذي لو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب ، كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل .
وتم من كتبه كتاب : " التاريخ " إلى عصره ، وتم أيضا كتاب : " تاريخ الرجال " من الصحابة والتابعين ، وإلى شيوخه الذين لقيهم ، وتم له كتاب : " لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام " ، وهو مذهبه الذي اختاره ، وجوده ، واحتج له ، وهو ثلاثة وثمانون كتابا ، وتم له كتاب " القراءات والتنزيل والعدد " وتم له كتاب : " اختلاف علماء الأمصار " ، وتم له كتاب : " الخفيف في أحكام شرائع الإسلام " ، وهو مختصر لطيف ، وتم له كتاب : " التبصير " ، وهو رسالة إلى أهل طبرستان ، يشرح فيها ما تقلده من أصول الدين ، وابتدأ بتصنيف كتاب : " تهذيب الآثار " وهو من عجائب كتبه ، ابتداء بما أسنده الصديق مما صح عنده سنده ، وتكلم على كل حديث منه بعلله وطرقه ، ثم فقهه ، واختلاف العلماء وحججهم ، وما فيه من المعاني والغريب ، والرد على الملحدين ، فتم منه مسند العشرة وأهل البيت والموالي ، وبعض مسند ابن عباس ، فمات قبل تمامه .
قلت : هذا لو تم لكان يجيء في مائة مجلد .
قال : وابتدأ بكتابه " البسيط " فخرج منه كتاب الطهارة ، فجاء في نحو من ألف وخمس مائة ورقة ; لأنه ذكر في كل باب منه اختلاف الصحابة [ ص: 274 ] والتابعين ، وحجة كل قول ، وخرج منه أيضا أكثر كتاب الصلاة ، وخرج منه آداب الحكام . وكتاب : " المحاضر والسجلات " وكتاب : " ترتيب العلماء " وهو من كتبه النفيسة ، ابتدأه بآداب النفوس وأقوال الصوفية ، ولم يتمه ، وكتاب " المناسك " وكتاب : " شرح السنة " وهو لطيف ، بين فيه مذهبه واعتقاده ، وكتابه : " المسند " المخرج ، يأتي فيه على جميع ما رواه الصحابي من صحيح وسقيم ، ولم يتمه ، ولما بلغه أن أبا بكر بن أبي داود تكلم في حديث غدير خم عمل كتاب : " الفضائل " فبدأ بفضل أبي بكر ، ثم عمر ، وتكلم على تصحيح حديث غدير خم ، واحتج لتصحيحه ، ولم يتم الكتاب .
وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات ، من جاهل ، وحاسد ، وملحد ، فأما أهل الدين والعلم فغير منكرين علمه ، وزهده في الدنيا ، ورفضه لها ، وقناعته -رحمه الله- بما كان يرد عليه من حصة من ضيعة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة . وحدثني هارون بن عبد العزيز قال : قال أبو جعفر : استخرت الله وسألته العون على ما نويته من تصنيف التفسير قبل أن أعمله ثلاث سنين ، فأعانني .
القاضي أبو عبد الله القضاعي : حدثنا علي بن نصر بن الصباح ، حدثنا أبو عمر عبيد الله بن أحمد السمسار ، وأبو القاسم بن عقيل الوراق : أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه : هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا ؟ قالوا : كم قدره ؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة ، فقالوا : هذا مما تفنى [ ص: 275 ] الأعمار قبل تمامه ! فقال : إنا لله ! ماتت الهمم . فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة ، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك ، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ . قال أحمد بن كامل القاضي : أربعة كنت أحب بقاءهم : أبو جعفر بن جرير ، والبربري ، وأبو عبد الله بن أبي خيثمة ، والمعمري ، فما رأيت أفهم منهم ولا أحفظ .
قال الفرغاني : وحدثني هارون بن عبد العزيز : قال لي أبو جعفر الطبري : أظهرت مذهب الشافعي ، واقتديت به ببغداد عشر سنين ، وتلقاه مني ابن بشار الأحول أستاذ ابن سريج . قال هارون : فلما اتسع علمه أداه اجتهاده وبحثه إلى ما اختاره في كتبه .
قال الفرغاني : وكتب إلي المراغي قال : لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير ، فامتنع من قبوله ، فعرض عليه القضاء فامتنع ، فعرض عليه المظالم فأبى ، فعاتبه أصحابه وقالوا : لك في هذا ثواب ، وتحيي سنة قد درست . وطمعوا في قبوله المظالم ، فباكروه ليركب معهم لقبول ذلك ، فانتهرهم وقال : قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه . قال : فانصرفنا خجلين . أبو الفتح بن أبي الفوارس : أخبرنا محمد بن علي بن سهل بن الإمام -صاحب محمد بن جرير - : سمعت محمد بن جرير وهو يكلم ابن صالح الأعلم ، وجرى ذكر علي -رضي الله عنه- ، ثم قال محمد بن جرير : من قال : إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى ، أيش هو ؟ قال : مبتدع . فقال ابن جرير إنكارا عليه : مبتدع مبتدع ! هذا يقتل .
وقال مخلد الباقرحي : أنشدنا محمد بن جرير لنفسه : [ ص: 276 ] إذا أعسرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغني صديقي حيائي حافظ لي ماء وجهي ورفقي في مطالبتي رفيقي ولو أني سمحت بماء وجهي لكنت إلى العلا سهل الطريق وله : خلقان لا أرضى فعالهما بطر الغنى ومذلة الفقر فإذا غنيت فلا تكن بطرا وإذا افتقرت فته على الدهر قال أبو محمد الفرغاني : حدثني أبو بكر الدينوري قال : لما كان وقت صلاة الظهر من يوم الاثنين الذي توفي فيه -في آخره- ابن جرير طلب ماء ليجدد وضوءه ، فقيل له : تؤخر الظهر تجمع بينها وبين العصر . فأبى وصلى الظهر مفردة ، والعصر في وقتها أتم صلاة وأحسنها . وحضر وقت موته جماعة منهم : أبو بكر بن كامل ، فقيل له قبل خروج روحه : يا أبا جعفر ، أنت الحجة فيما بيننا وبين الله فيما ندين به ، فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا ، وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا ؟ فقال : الذي أدين الله به وأوصيكم هو ما ثبت في كتبي ، فاعملوا به وعليه . وكلاما هذا معناه ، وأكثر من التشهد وذكر الله -عز وجل- ، ومسح يده على وجهه ، وغمض بصره بيده ، وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا . وكان مولده سنة أربع وعشرين ومائتين ورحل من آمل لما ترعرع وحفظ القرآن ، وسمح له أبوه في أسفاره ، وكان طول حياته يمده بالشيء بعد [ ص: 277 ] الشيء إلى البلدان ، فيقتات به ، ويقول فيما سمعته : أبطأت عني نفقة والدي ، واضطررت إلى أن فتقت كمي قميصي فبعتهما .
قلت : جمع طرق حديث : غدير خم ، في أربعة أجزاء ، رأيت شطره ، فبهرني سعة رواياته ، وجزمت بوقوع ذلك .
قيل لابن جرير : إن أبا بكر بن أبي داود يملي في مناقب علي . فقال : تكبيرة من حارس . وقد وقع بين ابن جرير وبين ابن أبي داود ، وكان كل منهما لا ينصف الآخر ، وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود ، فكثروا وشغبوا على ابن جرير ، وناله أذى ، ولزم بيته ، نعوذ بالله من الهوى .
وكان ابن جرير من رجال الكمال ، وشنع عليه بيسير تشيع ، وما رأينا إلا الخير ، وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء ، ولم نر ذلك في كتبه . ولأبي جعفر في تآليفه عبارة وبلاغة ، فمما قاله في كتاب : " الآداب النفيسة والأخلاق الحميدة " : القول في البيان عن الحال الذي يجب على العبد مراعاة حاله فيما يصدر من عمله لله عن نفسه ، قال : ( إنه لا حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوه الموكل به عن دعائه إلى سبيله ، والقعود له رصدا بطرق ربه المستقيمة ، صادا له عنها ، كما قال لربه -عز ذكره- إذ جعله من المنظرين : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم طمعا منه في تصديق ظنه عليه إذ قال لربه : لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا .
فحق على كل ذي حجى أن يجهد نفسه في تكذيب ظنه ، وتخييبه منه أمله وسعيه فيما أرغمه ، ولا شيء من فعل العبد أبلغ في مكروهه من طاعته ربه ، وعصيانه أمره ، ولا شيء أسر إليه من عصيانه ربه ، واتباعه أمره . [ ص: 278 ] فكلام أبي جعفر من هذا النمط ، وهو كثير مفيد .
وقد حكى أبو علي التنوخي في " النشوار " له ، عن عثمان بن محمد السلمي قال : حدثني ابن منجو القائد ، قال : حدثني غلام لابن المزوق ، قال : اشترى مولاي جارية ، فزوجنيها ، فأحببتها وأبغضتني حتى ضجرت ، فقلت لها : أنت طالق ثلاثا ، لا تخاطبيني بشيء إلا قلت لك مثله ، فكم أحتملك ؟ فقالت في الحال : أنت طالق ثلاثا . فأبلست ، فدللت على محمد بن جرير ، فقال لي : أقم معها بعد أن تقول لها : أنت طالق ثلاثا إن طلقتك .
فاستحسن هذا الجواب . وذكره شيخ الحنابلة ابن عقيل ، وقال : وله جواب آخر : أن يقول كقولها سواء : أنت طالق . ثلاثا -بفتح التاء- فلا يحنث . وقال أبو الفرج ابن الجوزي : وما كان يلزمه أن يقول لها ذاك على الفور ، فله التمادي إلى قبل الموت .
قلت : ولو قال : أنت طالق ثلاثا ، وقصد الاستفهام أو عنى أنها طالق من وثاق ، أو عنى الطلق لم يقع طلاق في باطن الأمر .
وله جواب آخر على قاعدة مراعاة سبب اليمين ونية الحالف ، فما كان عليه أن يقول لها ما قالته ، إذ من المعلوم بقرينة الحال استثناء ذلك قطعا ; لأنه ما قصد إلا أنها إذا قالت له ما يؤذيه أن يؤذيها بمثله ، ولو جاوبها بالطلاق لسرت هي ، ولتأذى هو ، كما استثني من عموم قوله تعالى : وأوتيت من كل شيء بقرينة الحال أنها لم تؤت لحية ولا إحليلا .
ومن المعلوم استثناؤه بالضرورة التي لم يقصدها الحالف قط لو حلف : لا تقولي لي شيئا إلا قلت لك مثله ، أنها لو كفرت وسبت الأنبياء فلم يجاوبها بمثل ذلك لأحسن .
ثم يقول طائفة من الفقهاء : إنه لم يحنث إلا أن يكون -والعياذ بالله- [ ص: 279 ] قصد دخول ذلك في يمينه .
وأما على مذهب داود بن علي ، وابن حزم ، والشيعة ، وغيرهم ، فلا شيء عليه ، ورأوا الحلف والأيمان بالطلاق من أيمان اللغو ، وأن اليمين لا تنعقد إلا بالله .
وذهب إمام في زماننا إلى أن من حلف على حض أو منع بالطلاق ، أو العتاق ، أو الحج ونحو ذلك فكفارته كفارة يمين ، ولا طلاق عليه . قال ابن جرير في كتاب " التبصير في معالم الدين " : القول فيما أدرك علمه من الصفات خبرا ، وذلك نحو إخباره تعالى أنه سميع بصير ، وأن له يدين بقوله : بل يداه مبسوطتان وأن له وجها بقوله : ويبقى وجه ربك وأنه يضحك بقوله في الحديث : لقي الله وهو يضحك إليه و أنه ينزل إلى سماء الدنيا لخبر رسوله بذلك وقال [ ص: 280 ] -عليه السلام- : ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن .
إلى أن قال : فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله نفسه ورسوله ما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية ، لا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهائها إليه .
أخبرنا أحمد بن هبة الله : أخبرنا زين الأمناء الحسن بن محمد ، أخبرنا أبو القاسم الأسدي ، أخبرنا أبو القاسم بن أبي العلاء ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر التميمي ، أخبرنا أبو سعيد الدينوري مستملي ابن جرير ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بعقيدته ، فمن ذلك : وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى ، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر . وهذا " تفسير " هذا الإمام مشحون في آيات الصفات بأقوال السلف على الإثبات لها ، لا على النفي والتأويل ، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين أبدا .
أخبرنا أبو الفضل أحمد بن هبة الله ، أخبرنا المسلم بن أحمد المازني ، أخبرنا علي بن الحسن الحافظ ببعلبك سنة إحدى وخمسين وخمس مائة ، أخبرنا علي بن إبراهيم الحسيني ، أخبرنا أبو بكر الحافظ ، قال : قرأت على أبي الحسن هبة الله بن الحسن الأديب لابن دريد . قلت : يرثي ابن جرير : [ ص: 281 ] لن تستطيع لأمر الله تعقيبا فاستنجد الصبر أو فاستشعر الحوبا وافزع إلى كنف التسليم وارض بما قضى المهيمن مكروها ومحبوبا إن الرزية لا وفر تزعزعه أيدي الحوادث تشتيتا وتشذيبا ولا تفرق ألاف يفوت بهم بين يغادر حبل الوصل مقضوبا لكن فقدان من أضحى بمصرعه نور الهدى وبهاء العلم مسلوبا إن المنية لم تتلف به رجلا بل أتلفت علما للدين منصوبا أهدى الردى للثرى إذ نال مهجته نجما على من يعادي الحق مصبوبا كان الزمان به تصفو مشاربه فالآن أصبح بالتكدير مقطوبا كلا وأيامه الغر التي جعلت للعلم نورا وللتقوى محاريبا لا ينسري الدهر عن شبه له أبدا ما استوقف الحج بالأنصاب أركوبا إذا انتضى الرأي في إيضاح مشكلة أعاد منهجها المطموس ملحوبا لا يولج اللغو والعوراء مسمعه ولا يقارف ما يغشيه تأنيبا تجلو مواعظه رين القلوب كما يجلو ضياء سنا الصبح الغياهيبا لا يأمن العجز والتقصير مادحه ولا يخاف على الإطناب تكذيبا ودت بقاع بلاد الله لو جعلت قبرا له لحباها جسمه طيبا كانت حياتك للدنيا وساكنها نورا فأصبح عنها النور محجوبا لو تعلم الأرض من وارت لقد خشعت أقطارها لك إجلالا وترحيبا إن يندبوك فقد ثلت عروشهم وأصبح العلم مرثيا ومندوبا ومن أعاجيب ما جاء الزمان به وقد يبين لنا الدهر الأعاجيبا أن قد طوتك غموض الأرض في لحف وكنت تملأ منها السهل واللوبا [ ص: 282 ] قال أحمد بن كامل : توفي ابن جرير عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة ودفن في داره برحبة يعقوب -يعني ببغداد .
قال : ولم يغير شيبه ، وكان السواد فيه كثيرا ، وكان أسمر إلى الأدمة ، أعين ، نحيف الجسم ، طويلا ، فصحيا . وشيعه من لا يحصيهم إلا الله تعالى ، وصلي على قبره عدة شهور ليلا ونهارا . إلى أن قال : ورثاه خلق من الأدباء وأهل الدين ، ومن ذلك قول أبي سعيد بن الأعرابي : حدث مفظع وخطب جليل دق عن مثله اصطبار الصبور قام ناعي العلوم أجمع لما قام ناعي محمد بن جرير
منقول
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (2)
صــ 1إلى صــ 12
بسم الله الرحمن الرحيم بركة من الله وأمر
قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة ، قال : الحمد لله الذي حجت الألباب بدائع حكمه ، وخصمت العقول لطائف حججه وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه ، وهتفت في أسماع العالمين ألسن أدلته ، شاهدة أنه الله الذي لا إله إلا هو ، الذي لا عدل له معادل ولا مثل له مماثل ، ولا شريك له مظاهر ، ولا ولد له ولا والد ، ولم يكن له صاحبة ولا كفوا أحد; وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة ، والعزيز الذي ذلت لعزته الملوك الأعزة ، وخشعت لمهابة سطوته ذوو المهابة ، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة طوعا وكرها ، كما قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ سورة الرعد : 15 . فكل موجود إلى وحدانيته داع ، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد ، بما وسمهم به من آثار الصنعة ، من نقص وزيادة ، وعجز وحاجة ، وتصرف في عاهات عارضة ، ومقارنة أحداث لازمة ، لتكون له الحجة البالغة .
ثم أردف ما شهدت به من ذلك أدلته ، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته ، برسل ابتعثهم إلى من يشاء من عباده ، دعاة إلى ما اتضحت لديهم صحته ، وثبتت في العقول حجته ، ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ] [ ص: 4 ]
وليذكر أولو النهى والحلم . فأمدهم بعونه ، وأبانهم من سائر خلقه ، بما دل به على صدقهم من الأدلة ، وأيدهم به من الحجج البالغة والآي المعجزة ، لئلا يقول القائل منهم ( ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) [ سورة المؤمنون : 33 - 34 ] فجعلهم سفراء بينه وبين خلقه ، وأمناءه على وحيه ، واختصهم بفضله ، واصطفاهم برسالته ، ثم جعلهم - فيما خصهم به من مواهبه ، ومن به عليهم من كراماته - مراتب مختلفة ، ومنازل مفترقة ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، متفاضلات متباينات . فكرم بعضهم بالتكليم والنجوى ، وأيد بعضهم بروح القدس ، وخصه بإحياء الموتى ، وإبراء أولي العاهة والعمى ، وفضل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، من الدرجات بالعليا ، ومن المراتب بالعظمى . فحباه من أقسام كرامته بالقسم الأفضل وخصه من درجات النبوة بالحظ الأجزل ، ومن الأتباع والأصحاب بالنصيب الأوفر . وابتعثه بالدعوة التامة ، والرسالة العامة ، وحاطه وحيدا ، وعصمه فريدا ، من كل جبار عاند ، وكل شيطان مارد حتى أظهر به الدين ، وأوضح به السبيل ، وأنهج به معالم الحق ، ومحق به منار الشرك . وزهق به الباطل ، واضمحل به الضلال وخدع الشيطان وعبادة الأصنام والأوثان ، مؤيدا بدلالة على الأيام باقية ، وعلى الدهور والأزمان ثابتة ، وعلى مر الشهور والسنين دائمة ، يزداد ضياؤها على كر الدهور إشراقا ، وعلى مر الليالي والأيام [ ص: 5 ] ائتلاقا ، خصيصى من الله له بها دون سائر رسله - الذين قهرتهم الجبابرة ، واستذلتهم الأمم الفاجرة ، فتعفت بعدهم منهم الآثار ، وأخملت ذكرهم الليالي والأيام - ودون من كان منهم مرسلا إلى أمة دون أمة ، وخاصة دون عامة ، وجماعة دون كافة .
فالحمد لله الذي كرمنا بتصديقه ، وشرفنا باتباعه ، وجعلنا من أهل الإقرار والإيمان به وبما دعا إليه وجاء به ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أزكى صلواته ، وأفضل سلامه ، وأتم تحياته .
ثم أما بعد فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة ، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة ، وحباهم به من الكرامة السنية ، حفظه ما حفظ عليهم - جل ذكره وتقدست أسماؤه - من وحيه وتنزيله ، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة ، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة ، وحجة بالغة ، أبانه به من كل كاذب ومفتر ، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد ، وفرق به بينهم وبين كل كافر ومشرك; الذي لو اجتمع جميع من بين أقطارها ، من جنها وإنسها وصغيرها وكبيرها ، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . فجعله لهم في دجى الظلم نورا ساطعا ، وفي سدف الشبه شهابا لامعا وفي مضلة المسالك دليلا هاديا ، وإلى سبل النجاة والحق حاديا ، ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) [ سورة المائدة : 16 . حرسه بعين [ ص: 6 ] منه لا تنام ، وحاطه بركن منه لا يضام ، لا تهي على الأيام دعائمه ، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه ، ولا يجوز عن قصد المحجة تابعه ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه . من اتبعه فاز وهدي ، ومن حاد عنه ضل وغوى ، فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يئلون ، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعقلون وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون ، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون ، وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون ، وعن الرضى به يصدرون ، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون .
اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في محكمه ومتشابهه ، وحلاله وحرامه ، وعامه وخاصه ، ومجمله ومفسره ، وناسخه ومنسوخه ، وظاهره وباطنه ، وتأويل آيه وتفسير مشكله . وألهمنا التمسك به والاعتصام بمحكمه ، والثبات على التسليم لمتشابهه . وأوزعنا الشكر على ما أنعمت به علينا من حفظه والعلم بحدوده . إنك سميع الدعاء قريب الإجابة . وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما .
اعلموا عباد الله ، رحمكم الله ، أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية ، وبلغت في معرفته الغاية ، ما كان لله في العلم به رضى ، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى ، وأن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه ، وتنزيله الذي لا مرية فيه ، الفائز بجزيل الذخر وسني الأجر تاليه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .
ونحن - في شرح تأويله ، وبيان ما فيه من معانيه - منشئون إن شاء الله ذلك ، كتابا مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعا ، ومن سائر الكتب [ ص: 7 ] غيره في ذلك كافيا . ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه واختلافها فيما اختلفت فيه منه . ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم ، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك ، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك ، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه .
والله نسأل عونه وتوفيقه لما يقرب من محابه ، ويبعد من مساخطه . وصلى الله على صفوته من خلقه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .
وأول ما نبدأ به من القيل في ذلك : الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى ، وتقديمها قبل ما عداها أحرى . وذلك : البيان عما في آي القرآن من المعاني التي من قبلها يدخل اللبس على من لم يعان رياضة العلوم العربية ، ولم تستحكم معرفته بتصاريف وجوه منطق الألسن السليقية الطبيعية .
[ ص: 8 ]
( القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن ، ومعاني منطق من نزل بلسانه القرآن من وجه البيان - والدلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة - مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام )
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، رحمه الله :
إن من أعظم نعم الله تعالى ذكره على عباده ، وجسيم منته على خلقه ، ما منحهم من فضل البيان الذي به عن ضمائر صدورهم يبينون ، وبه على عزائم نفوسهم يدلون ، فذلل به منهم الألسن وسهل به عليهم المستصعب فبه إياه يوحدون ، وإياه به يسبحون ويقدسون ، وإلى حاجاتهم به يتوصلون ، وبه بينهم يتحاورون ، فيتعارفون ويتعاملون .
ثم جعلهم ، جل ذكره - فيما منحهم من ذلك - طبقات ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات : فبين خطيب مسهب ، وذلق اللسان مهذب ، ومفحم عن نفسه لا يبين ، وعي عن ضمير قلبه لا يعبر . وجعل أعلاهم فيه رتبة ، وأرفعهم فيه درجة ، أبلغهم فيما أراد به بلاغا ، وأبينهم عن نفسه به بيانا . ثم عرفهم في تنزيله ومحكم آي كتابه فضل ما حباهم به من البيان ، على من [ ص: 9 ] فضلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم اللسان فقال تعالى ذكره : ( أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) [ سورة الزخرف : 18 . فقد وضح إذا لذوي الأفهام ، وتبين لأولي الألباب ، أن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم اللسان ، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه ، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه .
فإذا كان ذلك كذلك - وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك ، فصار به فاضلا والآخر مفضولا ، هو ما وصفنا من فضل إبانة ذي البيان ، عما قصر عنه المستعجم اللسان ، وكان ذلك مختلف الأقدار ، متفاوت الغايات والنهايات - فلا شك أن أعلى منازل البيان درجة ، وأسنى مراتبه مرتبة ، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه ، وأبينه عن مراد قائله ، وأقربه من فهم سامعه . فإن تجاوز ذلك المقدار ، وارتفع عن وسع الأنام ، وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد ، كان حجة وعلما لرسل الواحد القهار - كما كان حجة وعلما لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوي العمى ، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين وأرفع مراتب علاج المعالجين ، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين . وكالذي كان لها حجة وعلما قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة ، بارتفاع ذلك عن وسع الأنام ، وتعذر مثله على جميع العباد ، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين ، ولليسير منه فاعلين .
فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا ، فبين أن لا بيان أبين ، ولا حكمة أبلغ ، ولا منطق أعلى ، ولا كلام أشرف - من بيان ومنطق تحدى به [ ص: 10 ] امرؤ قوما في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة وقيل الشعر والفصاحة ، والسجع والكهانة ، على كل خطيب منهم وبليغ ، وشاعر منهم وفصيح ، وكل ذي سجع وكهانة - فسفه أحلامهم ، وقصر بعقولهم وتبرأ من دينهم ، ودعا جميعهم إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به ، والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم . وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته ، وحجته على حقيقة نبوته - ما أتاهم به من البيان ، والحكمة والفرقان ، بلسان مثل ألسنتهم ، ومنطق موافقة معانيه معاني منطقهم . ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة ، ومن القدرة عليه نقصة . فأقر جميعهم بالعجز ، وأذعنوا له بالتصديق ، وشهدوا على أنفسهم بالنقص . إلا من تجاهل منهم وتعامى ، واستكبر وتعاشى ، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز ، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر . فأبدى من ضعف عقله ما كان مستترا ، ومن عي لسانه ما كان مصونا ، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق ، والجاهل الأحمق ، فقال : "والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، فالخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما "! ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة .
فإذ كان تفاضل مراتب البيان ، وتباين منازل درجات الكلام ، بما وصفنا قبل - وكان الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه ، أحكم الحكماء ، وأحلم الحلماء ، [ ص: 11 ] - كان معلوما أن أبين البيان بيانه ، وأفضل الكلام كلامه ، وأن قدر فضل بيانه ، جل ذكره ، على بيان جميع خلقه ، كفضله على جميع عباده .
فإذ كان كذلك - وكان غير مبين منا عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب - كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب ، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه . لأن المخاطب والمرسل إليه ، إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه ، فحاله - قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده - سواء ، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا . والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه ، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث ، والله تعالى عن ذلك متعال . ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) [ سورة إبراهيم : 4 ] . وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) [ سورة النحل : 64 . فغير جائز أن يكون به مهتديا ، من كان بما يهدى إليه جاهلا .
فقد تبين إذا - بما عليه دللنا من الدلالة - أن كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم ، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه ، وكل كتاب أنزله على نبي ، ورسالة أرسلها إلى أمة ، فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه . فاتضح بما قلنا ووصفنا ، أن كتاب الله الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، بلسان محمد صلى الله عليه وسلم . وإذ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربيا ، فبين أن القرآن عربي . وبذلك أيضا نطق محكم تنزيل ربنا ، فقال جل ذكره : ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) [ سورة يوسف : 2 . [ ص: 12 ] وقال : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) [ سورة الشعراء : 192 - 195 ] .
وإذ كانت واضحة صحة ما قلنا - بما عليه استشهدنا من الشواهد ، ودللنا عليه من الدلائل - فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، لمعاني كلام العرب موافقة ، وظاهره لظاهر كلامها ملائما ، وإن باينه كتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان ، بما قد تقدم وصفناه .
فإذ كان ذلك كذلك ، فبين - إذ كان موجودا في كلام العرب الإيجاز والاختصار ، والاجتزاء بالإخفاء من الإظهار ، وبالقلة من الإكثار في بعض الأحوال ، واستعمال الإطالة والإكثار ، والترداد والتكرار ، وإظهار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها ، والإسرار في بعض الأوقات ، والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر ، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر ، وعن الكناية والمراد منه المصرح ، وعن الصفة والمراد الموصوف ، وعن الموصوف والمراد الصفة ، وتقديم ما هو في المعنى مؤخر ، وتأخير ما هو في المعنى مقدم ، والاكتفاء ببعض من بعض ، وبما يظهر عما يحذف ، وإظهار ما حظه الحذف - أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ، في كل ذلك له نظيرا ، وله مثلا وشبيها .
ونحن مبينو جميع ذلك في أماكنه ، إن شاء الله ذلك وأمد منه بعون وقوة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (3)
صــ 13إلى صــ 42
القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم
قال أبو جعفر : إن سألنا سائل فقال : إنك ذكرت أنه غير جائز أن يخاطب الله تعالى ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه ، وأن يرسل إليه رسالة إلا باللسان الذي يفقهه . . . . .
1 - فما أنت قائل فيما حدثكم به محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن أبي موسى : ( يؤتكم كفلين من رحمته ) [ سورة الحديد : 28 ] ، قال : الكفلان : ضعفان من الأجر ، بلسان الحبشة .
2 - وفيما حدثكم به ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( إن ناشئة الليل ) [ سورة المزمل : 6 ] قال : بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا : نشأ .
3 - وفيما حدثكم به ابن حميد قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة : ( يا جبال أوبي معه ) قال : سبحي ، بلسان الحبشة ؟
قال أبو جعفر : وكل ما قلنا في هذا الكتاب "حدثكم " فقد حدثونا به . [ ص: 14 ]
4 - وفيما حدثكم به محمد بن خالد بن خداش الأزدي ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عن قوله : ( فرت من قسورة ) [ سورة المدثر : 51 ] قال : هو بالعربية الأسد ، وبالفارسية شار ، وبالنبطية أريا ، وبالحبشية قسورة .
5 - وفيما حدثكم به ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : قالت قريش : لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : ( لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) [ سورة فصلت : 44 ] فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكل لسان فيه . ( حجارة من سجيل ) [ سورة هود : 82 ، وسورة الحجر : 74 ] قال : فارسية أعربت سنك وكل .
6 - وفيما حدثكم به محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : في القرآن من كل لسان .
وفيما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكرها الكتاب ، مما يدل على أن فيه من غير لسان العرب ؟
قيل له : إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا - من أجل أنهم لم يقولوا : هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما ، ولا كان ذاك [ ص: 15 ] لها منطقا قبل نزول القرآن ، ولا كانت بها العرب عارفة قبل مجيء الفرقان - فيكون ذلك قولا لقولنا خلافا . وإنما قال بعضهم : حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا ، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا . ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد ، فكيف بجنسين منها ؟ كما وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة ، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس ، وغير ذلك - مما يتعب إحصاؤه ويمل تعداده ، كرهنا إطالة الكتاب بذكره - مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى . ولعل ذلك كذلك في سائر الألسن التي نجهل منطقها ولا نعرف كلامها .
فلو أن قائلا قال - فيما ذكرنا من الأشياء التي عددنا وأخبرنا اتفاقه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية ، وما أشبه ذلك مما سكتنا عن ذكره - : ذلك كله فارسي لا عربي ، أو ذلك كله عربي لا فارسي ، أو قال : بعضه عربي وبعضه فارسي ، أو قال : كان مخرج أصله من عند العرب فوقع إلى العجم فنطقوا به ، أو قال : كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته - كان مستجهلا ، لأن العرب ليست بأولى أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العجم ، ولا العجم أحق أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب ، إذ كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودا في الجنسين .
وإذ كان ذلك موجودا على ما وصفنا في الجنسين ، فليس أحد الجنسين أولى بأن يكون أصل ذلك كان من عنده من الجنس الآخر . والمدعي أن مخرج أصل ذلك إنما كان من أحد الجنسين إلى الآخر ، مدع أمرا لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم ، ويزيل الشك ، ويقطع العذر صحته . [ ص: 16 ]
بل الصواب في ذلك عندنا : أن يسمى : عربيا أعجميا ، أو حبشيا عربيا ، إذ كانت الأمتان له مستعملتين - في بيانها ومنطقها - استعمال سائر منطقها وبيانها . فليس غير ذلك من كلام كل أمة منهما ، بأولى أن يكون إليها منسوبا - منه .
فكذلك سبيل كل كلمة واسم اتفقت ألفاظ أجناس أمم فيها وفي معناها ، ووجد ذلك مستعملا في كل جنس منها استعمال سائر منطقهم ، فسبيل إضافته إلى كل جنس منها ، سبيل ما وصفنا - من الدرهم والدينار والدواة والقلم ، التي اتفقت ألسن الفرس والعرب فيها بالألفاظ الواحدة والمعنى الواحد ، في أنه مستحق إضافته إلى كل جنس من تلك الأجناس - اجتماع واقتران .
وذلك هو معنى من روينا عنه القول في الأحرف التي مضت في صدر هذا الباب ، من نسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الحبشة ، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الفرس ، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الروم . لأن من نسب شيئا من ذلك إلى ما نسبه إليه ، لم ينف - بنسبته إياه إلى ما نسبه إليه - أن يكون عربيا ، ولا من قال منهم : هو عربي ، نفى ذلك أن يكون مستحقا النسبة إلى من هو من كلامه من سائر أجناس الأمم غيرها . وإنما يكون الإثبات دليلا على النفي ، فيما لا يجوز اجتماعه من المعاني ، كقول القائل : فلان قائم ، فيكون بذلك من قوله دالا على أنه غير قاعد ، ونحو ذلك مما يمتنع اجتماعه لتنافيهما . فأما ما جاز اجتماعه فهو خارج من هذا المعنى . وذلك كقول القائل فلان قائم مكلم فلانا ، فليس في تثبيت القيام له ما دل على نفي كلام آخر ، [ ص: 17 ] لجواز اجتماع ذلك في حال واحد من شخص واحد . فقائل ذلك صادق إذا كان صاحبه على ما وصفه به .
فكذلك ما قلنا - في الأحرف التي ذكرنا وما أشبهها - غير مستحيل أن يكون عربيا بعضها أعجميا ، وحبشيا بعضها عربيا ، إذ كان موجودا استعمال ذلك في كلتا الأمتين . فناسب ما نسب من ذلك إلى إحدى الأمتين أو كلتيهما محق غير مبطل .
فإن ظن ذو غباء أن اجتماع ذلك في الكلام مستحيل - كما هو مستحيل في أنساب بني آدم - فقد ظن جهلا . وذلك أن أنساب بني آدم محصورة على أحد الطرفين دون الآخر ، لقول الله تعالى ذكره : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) [ سورة الأحزاب : 5 ] . وليس ذلك كذلك في المنطق والبيان ، لأن المنطق إنما هو منسوب إلى من كان به معروفا استعماله . فلو عرف استعمال بعض الكلام في أجناس من الأمم - جنسين أو أكثر - بلفظ واحد ومعنى واحد ، كان ذلك منسوبا إلى كل جنس من تلك الأجناس ، لا يستحق جنس منها أن يكون به أولى من سائر الأجناس غيره . كما لو أن أرضا بين سهل وجبل ، لها هواء السهل وهواء الجبل ، أو بين بر وبحر ، لها هواء البر وهواء البحر - لم يمتنع ذو عقل صحيح أن يصفها بأنها سهلية جبلية . أو بأنها برية بحرية ، إذ لم تكن نسبتها إلى إحدى صفتيها نافية حقها من النسبة إلى الأخرى . ولو أفرد لها مفرد إحدى صفتيها ولم يسلبها صفتها الأخرى ، كان صادقا محقا .
وكذلك القول في الأحرف التي تقدم ذكرناها في أول هذا الباب .
وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك ، هو معنى قول من قال : في القرآن من كل لسان - عندنا بمعنى ، والله أعلم : أن فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به ، نظير ما وصفنا من القول فيما مضى . [ ص: 18 ]
وذلك أنه غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة ، مقر بكتاب الله ، ممن قد قرأ القرآن وعرف حدود الله - أن يعتقد أن بعض القرآن فارسي لا عربي ، وبعضه نبطي لا عربي ، وبعضه رومي لا عربي ، وبعضه حبشي لا عربي ، بعدما أخبر الله تعالى ذكره عنه أنه جعله قرآنا عربيا . لأن ذلك إن كان كذلك ، فليس قول القائل : القرآن حبشي أو فارسي ، ولا نسبة من نسبه إلى بعض ألسن الأمم التي بعضه بلسانه دون العرب - بأولى بالتطويل من قول القائل : هو عربي . ولا قول القائل : هو عربي بأولى بالصحة والصواب من [ ص: 19 ] قول ناسبه إلى بعض الأجناس التي ذكرنا . إذ كان الذي بلسان غير العرب من سائر ألسن أجناس الأمم فيه ، نظير الذي فيه من لسان العرب .
وإذا كان ذلك كذلك ، فبين إذا خطأ من زعم أن القائل من السلف : في القرآن من كل لسان ، إنما عني بقيله ذلك ، أن فيه من البيان ما ليس بعربي ، ولا جائز نسبته إلى لسان العرب .
ويقال لمن أبى ما قلنا - ممن زعم أن الأحرف التي قدمنا ذكرها في أول الباب وما أشبهها ، إنما هي كلام أجناس من الأمم سوى العرب ، وقعت إلى العرب فعربته - : ما برهانك على صحة ما قلت في ذلك ، من الوجه الذي يجب التسليم له ، فقد علمت من خالفك في ذلك ، فقال فيه خلاف قولك ؟ وما الفرق بينك وبين من عارضك في ذلك فقال : هذه الأحرف ، وما أشبهها من الأحرف غيرها ، أصلها عربي ، غير أنها وقعت إلى سائر أجناس الأمم غيرها فنطقت كل أمة منها ببعض ذلك بألسنتها - من الوجه الذي يجب التسليم له ؟
فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله .
فإن اعتل في ذلك بأقوال السلف التي قد ذكرنا بعضها وما أشبهها ، طولب [ ص: 20 ] - مطالبتنا من تأول عليهم في ذلك تأويله - بالذي قد تقدم بيانه . وقيل له : ما أنكرت أن يكون من نسب شيئا من ذلك منهم إلى من نسبه من أجناس الأمم سوى العرب ، إنما نسبه إلى إحدى نسبتيه التي هو لها مستحق ، من غير نفي منه عنه النسبة الأخرى ؟ ثم يقال له : أرأيت من قال لأرض سهلية جبلية : هي سهلية ، ولم ينكر أن تكون جبلية ، أو قال : هي جبلية ، ولم يدفع أن تكون سهلية ، أناف عنها أن تكون لها الصفة الأخرى بقيله ذلك ؟
فإن قال : نعم! كابر عقله . وإن قال : لا قيل له : فما أنكرت أن يكون قول من قال في سجيل : هي فارسية ، وفي القسطاس : هي رومية - نظير ذلك ؟ وسأل الفرق بين ذلك ، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .
[ ص: 21 ] القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب
قال أبو جعفر :
قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه ، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم ، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغاتها .
فنقول الآن - إذ كان ذلك صحيحا - في الدلالة عليه بأي ألسن العرب أنزل : أبألسن جميعها أم بألسن بعضها ؟ إذ كانت العرب ، وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب ، فهم مختلفو الألسن بالبيان ، متباينو المنطق والكلام . وإذ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربيا وأنه أنزل بلسان عربي مبين ، ثم كان ظاهره محتملا خصوصا وعموما - لم يكن لنا السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه ، إلا ببيان من جعل إليه بيان القرآن ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإذ كان ذلك كذلك - وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه صلى الله عليه وسلم
7 - بما حدثنا به خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، قال - : لا أعلمه إلا عن أبي هريرة - : أن رسول الله [ ص: 22 ] صلى الله عليه وسلم قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، فالمراء في القرآن كفر - ثلاث مرات - فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه .
8 - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف : عليم حكيم ، غفور رحيم .
9 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثني عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
10 - حدثنا محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، عن واصل بن حيان ، عمن ذكره ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، لكل حرف منها ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع . [ ص: 23 ]
11 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
12 - حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، قال : اختلف رجلان في سورة ، فقال هذا : أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم . وقال هذا : أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك ، قال فتغير وجهه ، وعنده رجل فقال : اقرءوا كما علمتم - فلا أدري أبشيء أمر أم شيء ابتدعه من قبل نفسه - فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم . قال : فقام كل رجل منا وهو لا يقرأ على قراءة صاحبه . نحو هذا ومعناه
13 - حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش - وحدثني أحمد بن منيع ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن الأعمش - عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : قال عبد الله بن مسعود : تمارينا في سورة من القرآن ، فقلنا : خمس وثلاثون أو ست وثلاثون آية . قال : فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدنا عليا يناجيه ، [ ص: 24 ] قال : فقلنا : إنا اختلفنا في القراءة . قال : فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم . قال : ثم أسر إلى علي شيئا ، فقال لنا علي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علمتم .
14 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن عيسى بن قرطاس ، عن زيد القصار ، عن زيد بن أرقم ، قال : كنا معه في المسجد فحدثنا ساعة ثم قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أقرأني عبد الله بن مسعود سورة ، أقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي بن كعب ، فاختلفت قراءتهم ، فبقراءة أيهم آخذ ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وعلي إلى جنبه ، فقال علي : ليقرأ كل إنسان كما علم ، كل حسن جميل .
15 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير : أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري أخبراه : أنهما سمعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة ، فتصبرت حتى سلم ، فلما سلم [ ص: 25 ] لببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت : كذبت ، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها! فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسله يا عمر ، اقرأ يا هشام . فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ يا عمر . فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منها .
16 - حدثني أحمد بن منصور ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا حرب بن ثابت من بني سليم ، قال : حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قرأ رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فغير عليه ، فقال : لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغير علي . قال : فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال : بلى! قال : فوقع في صدر عمر شيء ، فعرف [ ص: 26 ] النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه ، قال : فضرب صدره وقال : ابعد شيطانا - قالها ثلاثا - ثم قال : يا عمر ، إن القرآن كله صواب ، ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة . [ ص: 27 ]
17 - حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا عبد الله بن ميمون ، قال : حدثنا عبيد الله - يعني ابن عمر - عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ القرآن ، فسمع آية على غير ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتى به عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن هذا قرأ آية كذا وكذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف . [ ص: 28 ]
18 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن علي بن أبي علي ، عن زبيد ، عن علقمة النخعي ، قال : لما خرج عبد الله بن مسعود من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ، ثم قال : لا تنازعوا في القرآن ، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ، ولا يتغير لكثرة الرد . وإن شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة ، ولو كان شيء من الحرفين ينهى عن شيء يأمر به الآخر ، كان ذلك الاختلاف . ولكنه جامع ذلك كله ، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض ، ولا شيء من شرائع الإسلام . ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأمرنا فنقرأ عليه ، فيخبرنا أن كلنا محسن . ولو أعلم أحدا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته ، حتى أزداد علمه إلى علمي . ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة ، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان ، حتى كان عام قبض ، فعرض عليه مرتين ، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسن . فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنها رغبة عنها ، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه ، فإنه من جحد بآية جحد به كله . [ ص: 29 ]
19 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا رشدين بن سعد ، عن عقيل بن خالد - جميعا عن ابن شهاب ، قال : حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أقرأني جبريل على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده فيزيدني ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف . قال ابن شهاب : بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا ، لا يختلف في حلال ولا حرام . [ ص: 30 ]
20 - حدثني محمد بن عبد الله بن أبي مخلد الواسطي ، ويونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قالا حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله ، أخبره أبوه : أن أم أيوب أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، أيها قرأت أصبت .
21 - حدثنا إسماعيل بن موسى السدي ، قال : أنبأنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن صرد ، يرفعه ، قال : أتاني ملكان ، فقال أحدهما : اقرأ . قال : على كم ؟ قال : على حرف ، قال : زده . حتى انتهى به إلى سبعة أحرف [ ص: 31 ]
22 - حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا نافع بن يزيد ، قال : حدثني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أقرأني جبريل القرآن على حرف ، فاستزدته فزادني ، ثم استزدته فزادني ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف .
23 - حدثني الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، أنه سمع أم أيوب تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه - يعني نحو حديث ابن أبي مخلد . [ ص: 32 ]
24 - حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا أبو الربيع السمان ، قال : حدثني عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عن أم أيوب ، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : نزل القرآن على سبعة أحرف ، فما قرأت أصبت .
25 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثني يحيى بن آدم ، قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن فلان العبدي - قال أبو جعفر : ذهب عني اسمه - ، عن سليمان بن صرد ، عن أبي بن كعب ، قال : رحت إلى المسجد ، فسمعت رجلا يقرأ ، فقلت : من أقرأك ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : استقرئ هذا . قال : فقرأ ، فقال : أحسنت . قال فقلت : إنك أقرأتني كذا وكذا! فقال : وأنت قد أحسنت . قال : فقلت : قد أحسنت! قد أحسنت! قال : فضرب بيده على صدري ، ثم قال : اللهم أذهب عن أبي الشك . قال : ففضت عرقا ، وامتلأ جوفي فرقا - ثم قال : إن الملكين أتياني ، فقال أحدهما اقرأ القرآن على حرف . وقال الآخر : زده . قال : فقلت : زدني . قال : اقرأه على حرفين . حتى بلغ سبعة أحرف ، فقال : اقرأ على سبعة أحرف . [ ص: 33 ]
26 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن ميمون الزعفراني - جميعا عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : ما حاك في صدري شيء منذ أسلمت ، إلا أني قرأت آية ، فقرأها رجل غير قراءتي ، فقلت : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الرجل : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : أقرأتني آية كذا وكذا ؟ قال : بلى . قال الرجل : ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال : بلى ، إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياني ، فقعد جبريل عن يميني ، وميكائيل عن يساري ، فقال جبريل : اقرأ القرآن على حرف واحد . وقال ميكائيل : استزده ، قال جبريل : اقرأ القرآن على حرفين . فقال ميكائيل : [ ص: 34 ] استزده . حتى بلغ ستة أو سبعة - الشك من أبي كريب - وقال ابن بشار في حديثه : حتى بلغ سبعة أحرف - ولم يشك فيه - وكل شاف كاف . ولفظ الحديث لأبي كريب .
27 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وقال في حديثه : حتى بلغ ستة أحرف ، قال : اقرأه على سبعة أحرف ، كل شاف كاف .
28 - حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد [ ص: 35 ] بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، عن عبادة بن الصامت ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف .
29 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا حسين بن علي ، وأبو أسامة ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن زر ، عن أبي ، قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال : إني بعثت إلى أمة أميين ، منهم الغلام والخادم والشيخ العاسي والعجوز ، فقال جبريل : فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف . ولفظ الحديث لأبي أسامة . [ ص: 36 ]
30 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن نمير ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد - وحدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن إسماعيل - عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن جده ، عن أبي بن كعب ، قال : كنت في المسجد ، فدخل رجل يصلي ، فقرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل رجل آخر ، فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه ، فدخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فقلت : يا رسول الله ، إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه . فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ ، فحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهما ، فوقع في نفسي من التكذيب ، ولا إذ كنت في الجاهلية! فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيني ، ضرب في صدري ، ففضت عرقا ، كأنما أنظر إلى الله فرقا . فقال لي : يا أبي ، أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف ، [ ص: 37 ] فرددت عليه أن هون على أمتي ، فرد علي في الثانية أن اقرأ القرآن على حرف . فرددت عليه أن هون على أمتي ، فرد علي في الثالثة ، أن اقرأه على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم . إلا أن ابن بيان قال في حديثه : فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : قد أصبتم وأحسنتم . وقال أيضا : فارفضضت عرقا .
31 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وقال : قال لي : أعيذك بالله من الشك والتكذيب . وقال أيضا : إن الله أمرني أقرأ القرآن على حرف ، فقلت : اللهم رب خفف عن أمتي . قال : اقرأه على حرفين . فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف ، من سبعة أبواب من الجنة ، كلها شاف كاف .
32 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى - وعن ابن أبي ليلى عن الحكم - عن ابن أبي ليلى ، عن أبي قال : دخلت المسجد فصليت ، فقرأت النحل ، [ ص: 38 ] ثم جاء رجل آخر فقرأها على غير قراءتي ، ثم جاء رجل آخر فقرأ خلاف قراءتنا ، فدخل نفسي من الشك والتكذيب أشد مما كنت في الجاهلية ، فأخذت بأيديهما فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، استقرئ هذين . فقرأ أحدهما ، فقال : أصبت . ثم استقرأ الآخر ، فقال : أصبت . فدخل قلبي أشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ، وقال : أعاذك الله من الشك ، وأخسأ عنك الشيطان . قال إسماعيل : ففضت عرقا - ولم يقله ابن أبي ليلى - قال : فقال : أتاني جبريل فقال : اقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : إن أمتي لا تستطيع . حتى قال سبع مرات ، فقال لي : اقرأ على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة رددتها مسألة . قال : فاحتاج إلي فيها الخلائق ، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم . [ ص: 39 ]
33 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
34 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا محمد بن جحادة ، عن الحكم - هو ابن عتيبة - عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب ، قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أضاة بني غفار فقال : إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فمن قرأ منها حرفا فهو كما قرأ . [ ص: 40 ]
35 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار ، قال : فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف . قال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك . قال : ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين . قال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف . قال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا .
36 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عند أضاة بني غفار - فذكر نحوه .
37 - حدثنا أبو كريب ، قال حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا شعبة - وحدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا شعبة - عن الحكم ، [ ص: 41 ] عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
38 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب أنه قال : سمعت رجلا يقرأ في سورة النحل قراءة تخالف قراءتي ، ثم سمعت آخر يقرؤها قراءة تخالف ذلك ، فانطلقت بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل ، فسألتهما : من أقرأهما ؟ فقالا : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : لأذهبن بكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهما : اقرأ . فقرأ ، فقال : أحسنت . ثم قال للآخر : اقرأ . فقرأ ، فقال : أحسنت . قال أبي : فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان ، حتى احمر وجهي ، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي ، فضرب بيده في صدري ، ثم قال : اللهم أخسئ الشيطان عنه! يا أبي ، أتاني آت من ربي فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عني . ثم أتاني الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عن أمتي . ثم أتاني الثالثة فقال مثل ذلك ، وقلت مثله . ثم أتاني الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة مسألة . فقلت : يا رب اغفر لأمتي ، يا رب اغفر لأمتي . واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة . [ ص: 42 ]
39 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبيد الله بن عمر ، عن سيار أبي الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ذكر أن رجلين اختصما في آية من القرآن ، وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ، فتقارآ إلىأبي ، فخالفهما أبي ، فتقارءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نبي الله ، اختلفنا في آية من القرآن ، وكلنا يزعم أنك أقرأته . فقال لأحدهما : اقرأ . قال : فقرأ ، فقال : أصبت . وقال للآخر : اقرأ . فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه ، فقال : أصبت . وقال لأبي : اقرأ . فقرأ فخالفهما ، فقال : أصبت . قال أبي : فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دخل في من أمر الجاهلية ، قال : فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في وجهي ، فرفع يده فضرب صدري ، وقال : استعذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال : ففضت عرقا ، وكأني أنظر إلى الله فرقا . وقال : إنه أتاني آت من ربي فقال : إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عن أمتي . قال : ثم جاء فقال : إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عن أمتي . قال : ثم جاء الثالثة فقال : إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عن أمتي . قال : ثم جاءني الرابعة فقال : إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة مسألة . قال : قلت : رب اغفر لأمتي ، رب اغفر لأمتي ، واختبأت الثالثة شفاعة [ ص: 43 ] لأمتي ، حتى إن إبراهيم خليل الرحمن ليرغب فيها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (4)
صــ 43إلى صــ 67
40 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال جبريل : اقرءوا القرآن على حرف . فقال ميكائيل : استزده . فقال : على حرفين . حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف ، فقال : كلها شاف كاف ، ما لم يختم آية عذاب برحمة ، أو آية رحمة بعذاب . كقولك : هلم وتعال .
41 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد : أن أبا جهيم الأنصاري أخبره : أن رجلين اختلفا في آية من القرآن ، فقال هذا : تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر : تلقيتها من رسول الله صلى الله [ ص: 44 ] عليه وسلم ، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فلا تماروا في القرآن ، فإن المراء فيه كفر .
42 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، قال : قال [ ص: 45 ] النبي صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف .
43 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن أبي عيسى بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف ، كل كاف شاف .
44 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو خلدة ، قال : حدثني أبو العالية ، قال : قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خمس رجل ، فاختلفوا في اللغة ، فرضي قراءتهم كلهم ، فكان بنو تميم أعرب القوم .
45 - حدثنا عمرو بن عثمان العثماني ، قال : حدثنا ابن أبي أويس ، قال : حدثنا أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي [ ص: 46 ] هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ولا حرج ، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ، ولا ذكر عذاب برحمة .
46 - حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ، قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا محمد بن جحادة عن الحكم بن عتيبة ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب ، قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ، وهو بأضاة بني غفار ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد . قال : فقال : أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال : ومغفرته - سل الله لهم التخفيف ، فإنهم لا يطيقون ذلك . فانطلق ثم رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين . قال : أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال : معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك ، فسل الله لهم التخفيف . فانطلق ثم رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف . فقال : أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال : معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك ، سل الله لهم التخفيف . فانطلق ثم رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فمن قرأ منها بحرف فهو كما قرأ .
قال أبو جعفر صح وثبت أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب [ ص: 47 ] البعض منها دون الجميع ، إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبعة ، بما يعجز عن إحصائه .
فإن قال : وما برهانك على أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "نزل القرآن على سبعة أحرف " ، وقوله : "أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " ، هو ما ادعيت - من أنه نزل بسبع لغات ، وأمر بقراءته على سبعة ألسن - دون أن يكون معناه ما قاله مخالفوك ، من أنه نزل بأمر وزجر وترغيب وترهيب وقصص ومثل ونحو ذلك من الأقوال ؟ فقد علمت قائل ذلك من سلف الأمة وخيار الأئمة .
قيل له : إن الذين قالوا ذلك لم يدعوا أن تأويل الأخبار التي تقدم ذكرناها ، هو ما زعمت أنهم قالوه في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن دون غيره ، فيكون ذلك لقولنا مخالفا ، وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف ، يعنون بذلك أنه نزل على سبعة أوجه . والذي قالوه من ذلك كما قالوا .
وقد روينا - بمثل الذي قالوا من ذلك - عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن جماعة من أصحابه ، أخبارا قد تقدم ذكرنا بعضها ، ونستقصي ذكر باقيها ببيانه ، إذا انتهينا إليه ، إن شاء الله .
فأما الذي تقدم ذكرناه من ذلك ، فخبر أبي بن كعب ، من رواية أبي كريب ، عن ابن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، الذي ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف ، من سبعة أبواب من الجنة " .
والسبعة الأحرف : هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة . والأبواب السبعة من الجنة : هي المعاني التي فيها ، من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والقصص والمثل ، التي إذا عمل بها العامل ، وانتهى إلى حدودها المنتهي ، استوجب به الجنة . وليس والحمد لله في قول من قال ذلك من المتقدمين ، خلاف لشيء مما قلناه . [ ص: 48 ]
والدلالة على صحة ما قلناه - من أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "نزل القرآن على سبعة أحرف " ، إنما هو أنه نزل بسبع لغات ، كما تقدم ذكرناه من الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسائر من قدمنا الرواية عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أول هذا الباب - أنهم تماروا في القرآن ، فخالف بعضهم بعضا في نفس التلاوة ، دون ما في ذلك من المعاني ، وأنهم احتكموا فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأ كل رجل منهم ، ثم صوب جميعهم في قراءتهم على اختلافها ، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم ، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم : "إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " .
ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك ، لو كان تماريا واختلافا فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم والوعد والوعيد وما أشبه ذلك ، لكان مستحيلا أن يصوب جميعهم ، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه . لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحا ، وجب أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بفعل شيء بعينه وفرضه ، في تلاوة من دلت تلاوته على فرضه - ونهى عن فعل ذلك الشيء بعينه وزجر عنه ، في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه ، وأباح وأطلق فعل ذلك الشيء بعينه ، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فعله ، ولمن شاء منهم أن يتركه تركه في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير!
وذلك من قائله إن قاله ، إثبات ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله وحكم كتابه فقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ سورة النساء : 82 ] . [ ص: 49 ]
وفي نفي الله جل ثناؤه ذلك عن حكم كتابه ، أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بحكم واحد متفق في جميع خلقه ، لا بأحكام فيهم مختلفة .
وفي صحة كون ذلك كذلك ، ما يبطل دعوى من ادعى خلاف قولنا في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " للذين تخاصموا إليه عند اختلافهم في قراءتهم . لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر جميعهم بالثبوت على قراءته ، ورضي قراءة كل قارئ منهم - على خلافها قراءة خصومه ومنازعيه فيها - وصوبها . ولو كان ذلك منه تصويبا فيما اختلفت فيه المعاني ، وكان قوله صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " إعلاما منه لهم أنه نزل بسبعة أوجه مختلفة ، وسبعة معان مفترقة - كان ذلك إثباتا لما قد نفى الله عن كتابه من الاختلاف ، ونفيا لما قد أوجب له من الائتلاف . مع أن في قيام الحجة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض في شيء واحد في وقت واحد بحكمين مختلفين ، ولا أذن بذلك لأمته - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على أن ذلك منفي عن كتاب الله .
وفي انتفاء ذلك عن كتاب الله ، وجوب صحة القول الذي قلناه ، في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، عند اختصام المختصمين إليه فيما اختلفوا فيه من تلاوة ما تلوه من القرآن ، وفساد تأويل قول من خالف قولنا في ذلك .
وأحرى أن الذين تماروا فيما تماروا فيه من قراءتهم فاحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن منكرا عند أحد منهم أن يأمر الله عباده جل ثناؤه في كتابه وتنزيله بما شاء ، وينهى عما شاء ، ويعد فيما أحب من طاعاته ، ويوعد على معاصيه ، ويحتم لنبيه ويعظه فيه ويضرب فيه لعباده الأمثال - فيخاصم [ ص: 50 ] غيره على إنكاره سماع ذلك من قارئه . بل على الإقرار بذلك كله كان إسلام من أسلم منهم . فما الوجه الذي أوجب له إنكار ما أنكر ، إن لم يكن كان ذلك اختلافا منهم في الألفاظ واللغات ؟
وبعد ، فقد أبان صحة ما قلنا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا . وذلك الخبر الذي ذكرنا :
47 - أن أبا كريب حدثنا قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال جبريل : اقرأ القرآن على حرف . قال ميكائيل عليه السلام : استزده . فقال : على حرفين . حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف ، فقال : كلها شاف كاف ، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة ، أو آية رحمة بآية عذاب ، كقولك : هلم وتعال .
فقد أوضح نص هذا الخبر أن اختلاف الأحرف السبعة ، إنما هو اختلاف ألفاظ ، كقولك "هلم وتعال " باتفاق المعاني ، لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام .
وبمثل الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن جماعة من السلف والخلف .
48 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي ، قال : حدثنا أبو معاوية - وحدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة - جميعا عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : قال عبد الله : إني قد سمعت إلى القرأة ، فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم ، وإياكم والتنطع ، فإنما هو كقول أحدكم : هلم وتعال . [ ص: 51 ]
49 - وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عمن سمع ابن مسعود يقول : من قرأ منكم على حرف فلا يتحولن ، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله لأتيته .
50 - وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن عابس ، عن رجل من أصحاب عبد الله ، عن [ ص: 52 ] عبد الله بن مسعود ، قال : من قرأ على حرف فلا يتحولن منه إلى غيره .
فمعلوم أن عبد الله لم يعن بقوله هذا : من قرأ ما في القرآن من الأمر والنهي فلا يتحولن منه إلى قراءة ما فيه من الوعد والوعيد ، ومن قرأ ما فيه من الوعد والوعيد فلا يتحولن منه إلى قراءة ما فيه من القصص والمثل . وإنما عنى رحمة الله عليه أن من قرأ بحرفه - وحرفه : قراءته ، وكذلك تقول العرب لقراءة رجل : حرف فلان ، وتقول للحرف من حروف الهجاء المقطعة : حرف ، كما تقول لقصيدة من قصائد الشاعر : كلمة فلان - فلا يتحولن عنه إلى غيره رغبة عنه . ومن قرأ بحرف أبي ، أو بحرف زيد ، أو بحرف بعض من قرأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الأحرف السبعة - فلا يتحولن عنه إلى غيره رغبة عنه ، فإن الكفر ببعضه كفر بجميعه ، والكفر بحرف من ذلك كفر بجميعه يعني بالحرف ما وصفنا من قراءة بعض من قرأ ببعض الأحرف السبعة .
51 - وقد حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، قال : قرأ أنس هذه الآية : ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا ) فقال له بعض القوم : يا أبا حمزة ، إنما هي "وأقوم " فقال : أقوم وأصوب وأهيأ ، واحد . [ ص: 53 ]
52 - حدثني محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : أنه كان يقرأ القرآن على خمسة أحرف .
53 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سالم : أن سعيد بن جبير كان يقرأ القرآن على حرفين .
54 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : كان يزيد بن الوليد يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف .
أفترى الزاعم أن تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، إنما هو أنه أنزل على الأوجه السبعة التي ذكرنا ، من الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل - كان يرى أن مجاهدا وسعيد بن جبير لم يقرآ من القرآن إلا ما كان من وجهيه أو وجوهه الخمسة دون سائر معانيه ؟ لئن كان ظن ذلك بهما ، لقد ظن بهما غير الذي يعرفان به من منازلهما من القرآن ، ومعرفتهما بآي الفرقان!
55 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال حدثنا أيوب ، عن محمد ، قال : نبئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جبرائيل : اقرأ القرآن على حرفين . فقال له ميكائيل : استزده . فقال : اقرأ القرآن على ثلاثة أحرف . فقال له ميكائيل : استزده . قال : حتى بلغ سبعة أحرف ، قال محمد : لا تختلف في حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي ، [ ص: 54 ] هو كقولك : تعال وهلم وأقبل ، قال : وفي قراءتنا ( إن كانت إلا صيحة واحدة ) [ سورة يس : 29 53 ، ] ، في قراءة ابن مسعود ( إن كانت إلا زقية واحدة ) .
56 - وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا شعيب - يعني ابن الحبحاب - قال : كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل : "ليس كما يقرأ " وإنما يقول : أما أنا فأقرأ كذا وكذا . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : أرى صاحبك قد سمع : "أن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " .
57 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب : أن الذي ذكر الله تعالى ذكره [ أنه قال ] ( إنما يعلمه بشر ) [ سورة النحل : 103 ] إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي ، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : سميع عليم ، أو عزيز حكيم ، أو غير ذلك من خواتم الآي ، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي ، فيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : أعزيز حكيم ، أو سميع عليم أو عزيز عليم ؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي ذلك كتبت فهو كذلك . ففتنه ذلك ، فقال : إن محمدا وكل ذلك إلي ، فأكتب ما شئت . وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة . [ ص: 55 ]
58 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : من كفر بحرف من القرآن ، أو بآية منه ، فقد كفر به كله .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فإذ كان تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنزل القرآن على سبعة أحرف " عندك ، ما وصفت ، بما عليه استشهدت ، فأوجدنا حرفا في كتاب الله مقروءا بسبع لغات ، فنحقق بذلك قولك . وإلا فإن لم تجد ذلك كذلك : كان معلوما بعدمكه - صحة قول من زعم أن تأويل ذلك : أنه نزل بسبعة معان ، وهو الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل - وفساد قولك . أو تقول في ذلك : إن الأحرف السبعة لغات في القرآن سبع ، متفرقة في جميعه ، من لغات أحياء من قبائل العرب مختلفة الألسن - كما كان يقوله بعض من لم ينعم النظر في ذلك . فتصير بذلك إلى القول بما لا يجهل فساده ذو عقل ، ولا يلتبس خطؤه على ذي لب .
وذلك أن الأخبار التي بها احتججت لتصحيح مقالتك في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "نزل القرآن على سبعة أحرف " ، هي الأخبار التي رويتها عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، رحمة الله عليهم ، وعمن رويت ذلك عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأنهم تماروا في تلاوة [ ص: 56 ] بعض القرآن ، فاختلفوا في قراءته دون تأويله ، وأنكر بعض قراءة بعض ، مع دعوى كل قارئ منهم قراءة منها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه ما قرأ بالصفة التي قرأ . ثم احتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، أن صوب قراءة كل قارئ منهم ، على خلافها قراءة أصحابه الذين نازعوه فيها ، وأمر كل امرئ منهم أن يقرأ كما علم ، حتى خالط قلب بعضهم الشك في الإسلام ، لما رأى من تصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة كل قارئ منهم على اختلافها . ثم جلاه الله عنه ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له : أن القرآن أنزل على سبعة أحرف .
فإن كانت الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، عندك - كما قال هذا القائل - متفرقة في القرآن ، مثبتة اليوم في مصاحف أهل الإسلام ، فقد بطلت معاني الأخبار التي رويتها عمن رويتها عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهم اختلفوا في قراءة سورة من القرآن ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر كلا أن يقرأ كما علم . لأن الأحرف السبعة إذا كانت لغات متفرقة في جميع القرآن ، فغير موجب حرف من ذلك اختلافا بين تاليه لأن كل تال فإنما يتلو ذلك الحرف تلاوة واحدة على ما هو به في المصحف ، وعلى ما أنزل .
وإذ كان ذلك كذلك ، بطل وجه اختلاف الذين روي عنهم أنهم اختلفوا في قراءة سورة ، وفسد معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل قارئ منهم أن يقرأه على ما علم . إذ كان لا معنى هنالك يوجب اختلافا في لفظ ، ولا افتراقا في معنى . وكيف يجوز أن يكون هنالك اختلاف بين القوم ، والمعلم واحد ، والعلم واحد غير ذي أوجه ؟ وفي صحة الخبر عن الذين روي عنهم الاختلاف في حروف القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأنهم اختلفوا وتحاكموا إلى [ ص: 57 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، على ما تقدم وصفناه - أبين الدلالة على فساد القول بأن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن ، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني .
مع أن المتدبر إذا تدبر قول هذا القائل - في تأويله قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، وادعائه أن معنى ذلك أنها سبع لغات متفرقة في جميع القرآن ، ثم جمع بين قيله ذلك ، واعتلاله لقيله ذلك بالأخبار التي رويت عمن روى ذلك عنه من الصحابة والتابعين أنه قال : هو بمنزلة قولك تعال وهلم وأقبل; وأن بعضهم قال : هو بمنزلة قراءة عبد الله "إلا زقية " ، وهي في قراءتنا "إلا صيحة " وما أشبه ذلك من حججه - علم أن حججه مفسدة في ذلك مقالته ، وأن مقالته فيه مضادة حججه .
لأن الذي نزل به القرآن عنده إحدى القراءتين - : إما "صيحة " ، وإما "زقية " وإما "تعال " أو "أقبل " أو "هلم " - لا جميع ذلك . لأن كل لغة من اللغات السبع عنده في كلمة أو حرف من القرآن ، غير الكلمة أو الحرف الذي فيه اللغة الأخرى .
وإذ كان ذلك كذلك ، بطل اعتلاله لقوله بقول من قال : ذلك بمنزلة "هلم " و "تعال " و " أقبل " ، لأن هذه الكلمات هي ألفاظ مختلفة ، يجمعها في التأويل معنى واحد . وقد أبطل قائل هذا القول الذي حكينا قوله ، اجتماع اللغات السبع في حرف واحد من القرآن . فقد تبين بذلك إفساد حجته لقوله بقوله ، وإفساد قوله لحجته .
قيل له : ليس القول في ذلك بواحد من الوجهين اللذين وصفت . بل الأحرف السبعة التي أنزل الله بها القرآن ، هن لغات سبع ، في حرف واحد ، وكلمة واحدة ، [ ص: 58 ] باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ، كقول القائل : هلم ، وأقبل ، وتعال ، وإلي ، وقصدي ، ونحوي ، وقربي ، ونحو ذلك ، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني ، وإن اختلفت بالبيان به الألسن ، كالذي روينا آنفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة ، أن ذلك بمنزلة قولك : "هلم وتعال وأقبل " ، وقوله "ما ينظرون إلا زقية " ، و "إلا صيحة " .
فإن قال : ففي أي كتاب الله نجد حرفا واحدا مقروءا بلغات سبع مختلفات الألفاظ ، متفقات المعنى ، فنسلم لك صحة ما ادعيت من التأويل في ذلك ؟
قيل : إنا لم ندع أن ذلك موجود اليوم ، وإنما أخبرنا أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، على نحو ما جاءت به الأخبار التي تقدم ذكرناها . وهو ما وصفنا ، دون ما ادعاه مخالفونا في ذلك ، للعلل التي قد بينا .
فإن قال : فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة ، إن كان الأمر في ذلك على ما وصفت ، وقد أقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وأمر بالقراءة بهن ، وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ أنسخت فرفعت ، فما الدلالة على نسخها ورفعها ؟ أم نسيتهن الأمة ، فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه ؟ أم ما القصة في ذلك ؟
قيل له : لم تنسخ فترفع ، ولا ضيعتها الأمة وهي مأمورة بحفظها . ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن ، وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت . كما أمرت ، إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة ، أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت : إما بعتق ، أو إطعام ، أو كسوة . فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث ، دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفر ، كانت مصيبة حكم الله ، مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله . فكذلك الأمة ، أمرت بحفظ القرآن وقراءته ، وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت : فرأت [ ص: 59 ] - لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد - قراءته بحرف واحد ، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية ، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه ، بما أذن له في قراءته به .
فإن قال : وما العلة التي أوجبت عليها الثبات على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية ؟
59 - قيل : حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عمارة بن غزية ، عن ابن شهاب ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه زيد ، قال : لما قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة ، دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رحمه الله فقال : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة تهافتوا تهافت الفراش في النار ، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا - وهم حملة القرآن - فيضيع القرآن وينسى . فلو جمعته وكتبته ! فنفر منها أبو بكر وقال : أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتراجعا في ذلك . ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت ، قال زيد : فدخلت عليه وعمر محزئل فقال أبو بكر : إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه ، وأنت كاتب الوحي . فإن تكن معه اتبعتكما ، وإن توافقني لا أفعل . قال : فاقتص أبو بكر قول عمر ، وعمر ساكت ، فنفرت من ذلك وقلت : نفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! إلى أن قال عمر كلمة : "وما عليكما لو فعلتما ذلك ؟ " قال : فذهبنا ننظر ، فقلنا : لا شيء والله! ما علينا في ذلك شيء! قال زيد : فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب . [ ص: 60 ]
فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتب ذلك في صحيفة واحدة ، فكانت عنده . فلما هلك ، كانت الصحيفة عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها بمرج أرمينية فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال : "يا أمير المؤمنين : أدرك الناس! فقال عثمان : "وما ذاك ؟ " قال غزوت مرج أرمينية ، فحضرها أهل العراق وأهل الشام ، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب ، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، فتكفرهم أهل العراق . وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود ، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام ، فتكفرهم أهل الشام . قال زيد : فأمرني عثمان بن عفان أكتب له مصحفا ، وقال : إني مدخل معك رجلا لبيبا فصيحا ، فما اجتمعتما عليه فاكتباه ، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي . فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص ، قال : فلما بلغنا ( إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ) [ سورة البقرة : 248 ] قال : زيد فقلت : "التابوه " وقال أبان بن سعيد : "التابوت " ، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب : "التابوت " قال : فلما فرغت عرضته عرضة ، فلم أجد فيه هذه الآية : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) [ سورة الأحزاب : 23 ] قال : فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها ، فلم أجدها عند أحد منهم ، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها ، فلم أجدها عند أحد منهم ، ، حتى وجدتها عند خزيمة بن ثابت ، فكتبتها ، ثم عرضته عرضة أخرى ، فلم أجد فيه هاتين الآيتين : [ ص: 61 ] ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) [ سورة التوبة : 128 129 ، 129 فاستعرضت المهاجرين ، فلم أجدها عند أحد منهم ، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم ، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا ، فأثبتها في آخر "براءة " ، ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة . ثم عرضته عرضة أخرى ، فلم أجد فيه شيئا ، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة ، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته إياها ، فعرض المصحف عليها ، فلم يختلفا في شيء . فردها إليها ، وطابت نفسه ، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف . فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمة ، فأعطاهم إياها فغسلت غسلا .
60 - وحدثني أيضا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عمارة بن غزية ، عن ابن شهاب ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه زيد بن ثابت ، بنحوه سواء .
61 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : لما كان في خلافة عثمان ، جعل المعلم يعلم قراءة [ ص: 62 ] الرجل ، والمعلم يعلم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون ، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين - قال أيوب : فلا أعلمه إلا قال - : حتى كفر بعضهم بقراءة بعض . فبلغ ذلك عثمان ، فقام خطيبا فقال : "أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون ، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا . اجتمعوا يا أصحاب محمد ، فاكتبوا للناس إماما " . قال أبو قلابة ، فحدثني أنس بن مالك قال : كنت فيمن يملى عليهم ، قال : فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها ، حتى يجيء أو يرسل إليه . فلما فرغ من المصحف ، كتب عثمان إلى أهل الأمصار : "إني قد صنعت كذا وكذا ، ومحوت ما عندي ، فامحوا ما عندكم " .
62 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس قال : قال ابن شهاب : أخبرني أنس بن مالك الأنصاري : أنه اجتمع في غزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق ، فتذاكروا القرآن ، واختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة . فركب حذيفة بن اليمان - لما رأى اختلافهم في القرآن - إلى عثمان ، فقال : "إن الناس قد اختلفوا في القرآن ، حتى إني والله لأخشى أن يصيبهم مثل ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف " . قال : ففزع لذلك فزعا شديدا ، فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها ، فنسخ منها مصاحف ، فبعث بها إلى الآفاق . [ ص: 63 ]
63 - حدثني سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، قال : قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع ، وإنما كان في الكرانيف والعسب .
64 - حدثنا سعيد بن الربيع قال : حدثنا سفيان ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن صعصعة أن أبا بكر أول من ورث الكلالة وجمع المصحف .
قال أبو جعفر : وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب جميعها الكتاب ، والآثار الدالة على أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه ، جمع المسلمين - نظرا منه لهم ، وإشفاقا منه عليهم ، ورأفة منه بهم ، حذار الردة من بعضهم بعد الإسلام ، والدخول في الكفر بعد الإيمان ، إذ ظهر من بعضهم بمحضره وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن ، مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن التكذيب بشيء منها ، وإخباره إياهم أن المراء فيها كفر - فحملهم رحمة الله عليه ، إذ رأى ذلك ظاهرا بينهم في عصره ، ولحداثة عهدهم بنزول القرآن ، وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بما أمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن - على حرف واحد .
وجمعهم على مصحف واحد ، وحرف واحد ، وخرق ما عدا المصحف الذي [ ص: 64 ] جمعهم عليه . وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه ، أن يخرقه . فاستوسقت له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية ، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها ، طاعة منها له ، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها ، حتى درست من الأمة معرفتها ، وتعفت آثارها ، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها ، لدثورها وعفو آثارها ، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها ، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها ولكن نظرا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها . فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية .
فإن قال بعض من ضعفت معرفته : وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بقراءتها ؟
قيل : إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض ، وإنما كان أمر إباحة ورخصة . لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم ، لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة ، عند من تقوم بنقله الحجة ، ويقطع خبره العذر ، ويزيل الشك من قرأة الأمة . وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين ، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة . [ ص: 65 ]
وإذ كان ذلك كذلك ، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع ، تاركين ما كان عليهم نقله ، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا . إذ كان الذي فعلوا من ذلك ، كان هو النظر للإسلام وأهله . فكان القيام بفعل الواجب عليهم ، بهم أولى من فعل ما لو فعلوه ، كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة ، من ذلك .
وأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه ، وتسكين حرف وتحريكه ، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة ، فمن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " - بمعزل . لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن - مما اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعنى - يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة . وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراء فيه الكفر ، من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه ، وتظاهرت عنه بذلك الرواية على ما قد قدمنا ذكرها في أول هذا الباب .
فإن قال لنا قائل : فهل لك من علم بالألسن السبعة التي نزل بها القرآن ؟ وأي الألسن هي من ألسن العرب ؟ [ ص: 66 ]
قلنا : أما الألسن الستة التي قد نزلت القراءة بها ، فلا حاجة بنا إلى معرفتها ، لأنا لو عرفناها لم نقرأ اليوم بها مع الأسباب التي قدمنا ذكرها . وقد قيل إن خمسة منها لعجز هوازن ، واثنين منها لقريش وخزاعة . روي جميع ذلك عن ابن عباس ، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله . وذلك أن الذي روى عنه : " أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن " ، الكلبي عن أبي صالح ، وأن الذي روى عنه : " أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة " ، قتادة ، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه .
65 - حدثني بذلك بعض أصحابنا ، قال : حدثنا صالح بن نصر الخزاعي ، قال : حدثنا الهيثم بن عدي ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة ، وذلك أن الدار واحدة .
66 - وحدثني بعض أصحابنا ، قال : حدثنا صالح بن نصر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الأسود الدؤلي ، قال : نزل القرآن بلسان الكعبين : كعب بن عمرو وكعب بن لؤي . فقال خالد بن سلمة لسعد بن إبراهيم : ألا تعجب من هذا الأعمى! يزعم أن القرآن نزل بلسان الكعبين; وإنما أنزل بلسان قريش! [ ص: 67 ]
قال أبو جعفر : والعجز من هوازن : سعد بن بكر ، وجشم بن بكر ، ونصر بن معاوية ، وثقيف .
وأما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ذكر نزول القرآن على سبعة أحرف : إن كلها شاف كاف - فإنه كما قال جل ثناؤه في صفة القرآن : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ سورة يونس : 57 ، جعله الله للمؤمنين شفاء ، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته ، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (5)
صــ 68إلى صــ 79
القول في البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة " ، وذكر الأخبار الواردة بذلك
قال أبو جعفر : اختلفت النقلة في ألفاظ الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
67 - فروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف : زاجر وآمر وحلال وحرام ، ومحكم ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا .
حدثني بذلك يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني حيوة بن شريح ، عن عقيل بن خالد ، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 69 ] وروي عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا غير ذلك :
68 - حدثنا محمد بن بشار ، قال حدثنا عباد بن زكريا ، عن عوف ، عن أبي قلابة ، قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل .
69 - وروي عن أبي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ما حدثني به أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي بن كعب ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : رب خفف عن أمتي . قال : اقرأه على حرفين . فقلت : رب خفف عن أمتي . فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة ، كلها شاف كاف .
وروي عن ابن مسعود من قيله خلاف ذلك كله .
70 - وهو ما حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن الأحوص بن حكيم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن الله أنزل القرآن على خمسة أحرف : حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال . فأحل الحلال ، وحرم الحرام ، واعمل بالمحكم ، وآمن بالمتشابه ، واعتبر بالأمثال . [ ص: 70 ]
وكل هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، متقاربة المعاني ، لأن قول القائل : فلان مقيم على باب من أبواب هذا الأمر ، وفلان مقيم على وجه من وجوه هذا الأمر ، وفلان مقيم على حرف من هذا الأمر - سواء . ألا ترى أن الله جل ثناؤه وصف قوما عبدوه على وجه من وجوه العبادات ، فأخبر عنهم أنهم عبدوه على حرف فقال : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) [ سورة الحج : 11 ] ، يعني أنهم عبدوه على وجه الشك ، لا على اليقين والتسليم لأمره .
فكذلك رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نزل القرآن من سبعة أبواب " و " نزل على سبعة أحرف " سواء ، معناهما مؤتلف ، وتأويلهما غير مختلف في هذا الوجه .
ومعنى ذلك كله ، الخبر منه صلى الله عليه وسلم عما خصه الله به وأمته ، من الفضيلة والكرامة التي لم يؤتها أحدا في تنزيله .
وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ، فإنما نزل بلسان واحد ، متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به ، كان ذلك له ترجمة وتفسيرا لا تلاوة له على ما أنزله الله .
وأنزل كتابنا بألسن سبعة ، بأي تلك الألسن السبعة تلاه التالي ، كان له تاليا على ما أنزله الله لا مترجما ولا مفسرا ، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها ، فيصير فاعل ذلك حينئذ - إذا أصاب معناه - مترجما له . كما كان التالي [ ص: 71 ] لبعض الكتب التي أنزلها الله بلسان واحد - إذا تلاه بغير اللسان الذي نزل به - له مترجما ، لا تاليا على ما أنزله الله به .
فذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : كان الكتاب الأول ، نزل على حرف واحد ، ونزل القرآن على سبعة أحرف .
وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الكتاب الأول نزل من باب واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب " ، فإنه صلى الله عليه وسلم عنى بقوله : " نزل الكتاب الأول من باب واحد " ، والله أعلم ، ما نزل من كتب الله على من أنزله من أنبيائه ، خاليا من الحدود والأحكام والحلال والحرام ، كزبور داود ، الذي إنما هو تذكير ومواعظ ، وإنجيل عيسى ، الذي هو تمجيد ومحامد وحض على الصفح والإعراض - دون غيرها من الأحكام والشرائع - وما أشبه ذلك من الكتب التي نزلت ببعض المعاني السبعة التي يحوي جميعها كتابنا ، الذي خص الله به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته . فلم يكن المتعبدون بإقامته يجدون لرضى الله تعالى ذكره مطلبا ينالون به الجنة ، ويستوجبون به منه القربة ، إلا من الوجه الواحد الذي أنزل به كتابهم ، وذلك هو الباب الواحد من أبواب الجنة الذي نزل منه ذلك الكتاب .
وخص الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته ، بأن أنزل عليهم كتابه على أوجه سبعة من الوجوه التي ينالون بها رضوان الله ، ويدركون بها الفوز بالجنة ، إذا أقاموها فكل وجه من أوجهه السبعة باب من أبواب الجنة التي نزل منها القرآن . لأن العامل بكل وجه من أوجهه السبعة ، عامل في باب من أبواب الجنة ، وطالب من قبله الفوز بها . والعمل بما أمر الله جل ذكره في كتابه ، باب من أبواب الجنة ، وترك ما نهى الله عنه فيه; باب آخر ثان من أبوابها; وتحليل ما أحل الله فيه ، باب ثالث من أبوابها; وتحريم ما حرم الله فيه ، باب رابع من أبوابها; [ ص: 72 ] والإيمان بمحكمه المبين ، باب خامس من أبوابها; والتسليم لمتشابهه الذي استأثر الله بعلمه وحجب علمه عن خلقه والإقرار بأن كل ذلك من عند ربه ، باب سادس من أبوابها; والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بعظاته ، باب سابع من أبوابها .
فجميع ما في القرآن - من حروفه السبعة ، وأبوابه السبعة التي نزل منها - جعله الله لعباده إلى رضوانه هاديا ، ولهم إلى الجنة قائدا . فذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " نزل القرآن من سبعة أبواب الجنة " .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في القرآن : " إن لكل حرف منه حدا " ، يعني لكل وجه من أوجهه السبعة حد حده الله جل ثناؤه ، لا يجوز لأحد أن يتجاوزه .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن لكل حرف منها ظهرا وبطنا " ، فظهره : الظاهر في التلاوة ، وبطنه : ما بطن من تأويله .
وقوله : " وإن لكل حد من ذلك مطلعا " ، فإنه يعني أن لكل حد من حدود الله التي حدها فيه - من حلال وحرام ، وسائر شرائعه - مقدارا من ثواب الله وعقابه ، يعاينه في الآخرة ، ويطلع عليه ويلاقيه في القيامة . كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع " ، يعني بذلك ما يطلع عليه ويهجم عليه من أمر الله بعد وفاته .
[ ص: 73 ]
( القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن )
قال أبو جعفر : قد قلنا في الدلالة على أن القرآن كله عربي ، وأنه نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها ، وأن قراءة المسلمين اليوم - ومصاحفهم التي هي بين أظهرهم - ببعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها . وقلنا - في البيان عما يحويه القرآن من النور والبرهان ، والحكمة والتبيان التي أودعها الله إياه : من أمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، ووعده ووعيده ، ومحكمه ومتشابهه ، ولطائف حكمه - ما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه .
ونحن قائلون في البيان عن وجوه مطالب تأويله :
قال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [ سورة النحل : 44 ] ، وقال أيضا جل ذكره : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) [ سورة النحل : 64 ، ] وقال : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) [ سورة آل عمران : 7 ] .
فقد تبين ببيان الله جل ذكره : [ ص: 74 ]
أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم . وذلك تأويل جميع ما فيه : من وجوه أمره - واجبه وندبه وإرشاده - ، وصنوف نهيه ، ووظائف حقوقه وحدوده ، ومبالغ فرائضه ، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض ، وما أشبه ذلك من أحكام آيه ، التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته . وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه ، إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأويله بنص منه عليه ، أو بدلالة قد نصبها ، دالة أمته على تأويله .
وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار . وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة ، وأوقات آتية ، كوقت قيام الساعة ، والنفخ في الصور ، ونزول عيسى ابن مريم ، وما أشبه ذلك : فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها ، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها ، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه . وبذلك أنزل ربنا محكم كتابه فقال : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ سورة الأعراف : 187 . وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئا من ذلك ، لم يدل عليه إلا بأشراطه دون تحديده بوقته كالذي روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه ، إذ ذكر الدجال : إن يخرج وأنا فيكم ، فأنا حجيجه ، وإن يخرج بعدي ، فالله خليفتي عليكم " وما أشبه [ ص: 75 ] ذلك من الأخبار - التي يطول باستيعابها الكتاب - الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده علم أوقات شيء منه بمقادير السنين والأيام ، وأن الله جل ثناؤه إنما كان عرفه مجيئه بأشراطه ، ووقته بأدلته .
وأن منه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن . وذلك : إقامة إعرابه ، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها ، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها ، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم . وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) [ سورة البقرة : 11 ، 12 ، لم يجهل أن معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة ، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة ، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا ، والمعاني التي جعلها الله إصلاحا . فالذي يعلمه ذو اللسان - الذي بلسانه نزل القرآن - من تأويل القرآن ، هو ما وصفت : من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها ، والموصوفات بصفاتها الخاصة ، دون الواجب من أحكامها وصفاتها وهيآتها التي خص الله بعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا يدرك علمه إلا ببيانه ، دون ما استأثر الله بعلمه دون خلقه .
وبمثل ما قلنا من ذلك روي الخبر عن ابن عباس :
71 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، قال : قال ابن عباس : التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره .
قال أبو جعفر : وهذا الوجه الرابع الذي ذكره ابن عباس : من أن أحدا [ ص: 76 ] لا يعذر بجهالته ، معنى غير الإبانة عن وجوه مطالب تأويله . وإنما هو خبر عن أن من تأويله ما لا يجوز لأحد الجهل به . وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في إسناده نظر .
72 - حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت عمرو بن الحارث يحدث ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، مولى أم هانئ ، عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره ، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى ذكره فهو كاذب .
[ ص: 77 ] ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي
73 - حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن النبي [ ص: 78 ] صلى الله عليه وسلم قال : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار .
74 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد الأعلى - هو ابن عامر الثعلبي - ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال في القرآن برأيه - أو بما لا يعلم - فليتبوأ مقعده من النار .
75 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، وقبيصة ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار .
76 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار .
77 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن بكر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : من تكلم في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار .
78 - وحدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إذا قلت في القرآن ما لا أعلم !
79 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرة ، عن أبي معمر ، قال : قال أبو بكر الصديق : أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إذا قلت في القرآن برأيي - أو : بما لا أعلم .
قال أبو جعفر : وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا : من أن ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بنصبه الدلالة عليه - فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه . بل القائل في ذلك برأيه - وإن أصاب الحق فيه - فمخطئ فيما كان من فعله ، بقيله فيه برأيه ، لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق ، وإنما هو إصابة خارص وظان . والقائل [ ص: 79 ] في دين الله بالظن ، قائل على الله ما لم يعلم . وقد حرم الله جل ثناؤه ذلك في كتابه على عباده ، فقال : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) [ سورة الأعراف : 33 . ] فالقائل في تأويل كتاب الله ، الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي جعل الله إليه بيانه - قائل بما لا يعلم وإن وافق قيله ذلك في تأويله ، ما أراد الله به من معناه . لأن القائل فيه بغير علم ، قائل على الله ما لا علم له به . وهذا هو معنى الخبر الذي : -
80 - حدثنا به العباس بن عبد العظيم العبري ، قال : حدثنا حبان بن هلال ، قال : حدثنا سهيل أخو حزم ، قال : حدثنا أبو عمران الجوني عن جندب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قال في القرآن برأيه فأصاب ، فقد أخطأ .
يعني صلى الله عليه وسلم أنه أخطأ في فعله ، بقيله فيه برأيه ، وإن وافق قيله ذلك عين الصواب عند الله . لأن قيله فيه برأيه ، ليس بقيل عالم أن الذي قال فيه من قول حق وصواب . فهو قائل على الله ما لا يعلم ، آثم بفعله ما قد نهي عنه وحظر عليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (6)
صــ 80إلى صــ 94
ذكر الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن ، ومن كان يفسره من الصحابة
81 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي ، قال سمعت أبي يقول : حدثنا الحسين بن واقد ، قال : حدثنا الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود ، قال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ، والعمل بهن .
82 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن ، قال : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا .
83 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت ؟ وأين أنزلت ؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته . [ ص: 81 ]
84 - وحدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : كان عبد الله يقرأ علينا السورة ، ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار .
85 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : استعمل علي ابن عباس على الحج ، قال : فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا ، ثم قرأ عليهم سورة النور ، فجعل يفسرها .
86 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، قال : قرأ ابن عباس سورة البقرة ، فجعل يفسرها ، فقال رجل : لو سمعت هذا الديلم لأسلمت .
87 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو يمان : عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن ابن جبير ، قال : من قرأ القرآن ثم لم يفسره ، كان كالأعمى أو كالأعرابي . [ ص: 82 ]
88 - وحدثنا أبو كريب ، قال : ذكر أبو بكر بن عياش عن : الأعمش ، قال : قال أبو وائل : ولي ابن عباس الموسم; فخطبهم ، فقرأ على المنبر سورة النور ، والله لو سمعها الترك لأسلموا . فقيل له : حدثنا به عن عاصم ؟ فسكت .
89 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت الأعمش ، عن شقيق ، قال : شهدت ابن عباس وولي الموسم ، فقرأ سورة النور على المنبر ، وفسرها ، لو سمعت الروم لأسلمت !
قال أبو جعفر : وفي حث الله عز وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات - بقوله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) [ سورة ص : 29 ] وقوله : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ) [ سورة الزمر : 27 28 ، ] وما أشبه ذلك من آي القرآن ، التي أمر الله عباده وحثهم فيها على الاعتبار بأمثال آي القرآن ، والاتعاظ بمواعظه - ما يدل على أن عليهم معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم تأويله من آيه .
لأنه محال أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له ولا يعقل تأويله : "اعتبر بما لا فهم لك به ولا معرفة من القيل والبيان والكلام " - إلا على معنى الأمر بأن يفهمه ويفقهه ، ثم يتدبره ويعتبر به . فأما قبل ذلك ، فمستحيل أمره بتدبره وهو بمعناه جاهل . كما محال أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلام العرب ولا يفهمونه ، [ ص: 83 ] لو أنشد قصيدة شعر من أشعار بعض العرب ذات أمثال ومواعظ وحكم : "اعتبر بما فيها من الأمثال ، وادكر بما فيها من المواعظ " - إلا بمعنى الأمر لها بفهم كلام العرب ومعرفته ، ثم الاعتبار بما نبهها عليه ما فيها من الحكم . فأما وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق ، فمحال أمرها بما دلت عليه معاني ما حوته من الأمثال والعبر . بل سواء أمرها بذلك وأمر بعض البهائم به ، إلا بعد العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها .
فكذلك ما في آي كتاب الله من العبر والحكم والأمثال والمواعظ ، لا يجوز أن يقال : "اعتبر بها " إلا لمن كان بمعاني بيانه عالما ، وبكلام العرب عارفا; وإلا بمعنى الأمر - لمن كان بذلك منه جاهلا - أن يعلم معاني كلام العرب ، ثم يتدبره بعد ، ويتعظ بحكمه وصنوف عبره .
فإذ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد أمر عباده بتدبره وحثهم على الاعتبار بأمثاله - كان معلوما أنه لم يأمر بذلك من كان بما يدل عليه آيه جاهلا . وإذ لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون ، صح أنهم - بتأويل ما لم يحجب عنهم علمه من آيه الذي استأثر الله بعلمه منه دون خلقه ، الذي قد قدمنا صفته آنفا - عارفون . وإذ صح ذلك فسد قول من أنكر تفسير المفسرين - من كتاب الله وتنزيله - ما لم يحجب عن خلقه تأويله .
[ ص: 84 ] ذكر الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن
فإن قال لنا قائل : فما أنت قائل فيما : -
90 - حدثكم به العباس بن عبد العظيم ، قال : حدثنا محمد بن خالد بن عثمة ، قال : حدثني جعفر بن محمد الزبيري ، قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيا بعدد ، علمهن إياه جبريل .
91 - حدثنا أبو بكر محمد بن يزيد الطرسوسي ، قال : أخبرنا معن ، عن جعفر بن خالد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن ، إلا آيا بعدد ، علمهن إياه جبريل عليه السلام . [ ص: 85 ]
92 - وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، قال : لقد أدركت فقهاء المدينة ، وإنهم ليغلظون القول في التفسير منهم : سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع .
93 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا بشر بن عمر ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت رجلا يسأل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن ، فقال : لا أقول في القرآن شيئا .
94 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن ، قال : أنا لا أقول في القرآن شيئا . [ ص: 86 ]
95 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت الليث يحدث ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب : أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن .
96 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن آية ، قال : عليك بالسداد ، فقد ذهب الذين علموا فيم أنزل القرآن .
97 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب وابن عون ، عن محمد ، قال : سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال : ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن ، اتق الله وعليك بالسداد .
98 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة : أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها ، فأبى أن يقول فيها .
99 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن مهدي بن ميمون ، عن الوليد بن مسلم ، قال : جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله ، فسأله عن آية من القرآن ، فقال له : أحرج عليك إن كنت مسلما ، لما قمت عني - أو قال : أن تجالسني .
100 - حدثني عباس بن الوليد ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثنا عبد الله بن شوذب ، قال : حدثني يزيد بن أبي يزيد ، قال : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام ، وكان أعلم الناس ، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع .
101 - وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن ، [ ص: 87 ] فقال : لا تسألني عن القرآن ، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه - يعني عكرمة .
102 - وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر ، قال : قال الشعبي : والله ما من آية إلا قد سألت عنها ، ولكنها الرواية عن الله .
103 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن صالح - يعني ابن مسلم - قال : حدثني رجل ، عن الشعبي ، قال : ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت : القرآن ، والروح ، والرأي .
وما أشبه ذلك من الأخبار ؟
قيل له : أما الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آيا بعدد ، فإن ذلك مصحح ما قلنا من القول في الباب الماضي قبل ، وهو : أن من تأويل القرآن ما لا يدرك علمه إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم . وذلك تفصيل جمل ما في آيه من أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وسائر معاني شرائع دينه ، الذي هو مجمل في ظاهر التنزيل ، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة - لا يدرك علم تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أشبه ذلك مما تحويه آي القرآن ، من سائر حكمه الذي جعل الله بيانه لخلقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلا يعلم أحد من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يعلمه رسول الله [ ص: 88 ]
صلى الله عليه وسلم إلا بتعليم الله إياه ذلك بوحيه إليه ، إما مع جبريل ، أو مع من شاء من رسله إليه . فذلك هو الآي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسرها لأصحابه بتعليم جبريل إياه ، وهن لا شك آي ذوات عدد .
ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثر بعلم تأويله ، فلم يطلع على علمه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده ، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله .
فأما ما لا بد للعباد من علم تأويله ، فقد بين لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل . وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم فقال له جل ذكره : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [ سورة النحل : 44 ] .
ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا [ ص: 89 ] يفسر من القرآن شيئا إلا آيا بعدد - هو ما يسبق إليه أوهام أهل الغباء ، من أنه لم يكن يفسر من القرآن إلا القليل من آيه واليسير من حروفه ، كان إنما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الذكر ليترك للناس بيان ما أنزل إليهم ، لا ليبين لهم ما أنزل إليهم .
وفي أمر الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ببلاغ ما أنزل إليه ، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم ، وقيام الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وأدى ما أمره الله ببلاغه وأدائه على ما أمره به ، وصحة الخبر عن عبد الله بن مسعود بقيله : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن - ما ينبئ عن جهل من ظن أو توهم أن معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آيا بعدد ، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه .
هذا مع ما في الخبر الذي روي عن عائشة من العلة التي في إسناده ، التي لا يجوز معها الاحتجاج به لأحد ممن علم صحيح سند الآثار وفاسدها في الدين . لأن راويه ممن لا يعرف في أهل الآثار ، وهو : جعفر بن محمد الزبيري .
وأما الأخبار التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من التابعين ، بإحجامه عن التأويل ، فإن فعل من فعل ذلك منهم ، كفعل من أحجم منهم عن الفتيا في النوازل والحوادث ، مع إقراره بأن الله جل ثناؤه لم يقبض نبيه إليه ، إلا بعد إكمال الدين به لعباده ، وعلمه بأن لله في كل نازلة وحادثة حكما موجودا بنص أو دلالة . فلم يكن إحجامه عن القول في ذلك إحجام جاحد أن يكون لله فيه حكم موجود بين أظهر عباده ، ولكن إحجام خائف أن لا يبلغ في اجتهاده ما كلف الله العلماء من عباده فيه .
فكذلك معنى إحجام من أحجم عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره من العلماء السلف ، إنما كان إحجامه عنه حذارا أن لا يبلغ أداء ما كلف من إصابة صواب القول فيه ، لا على أن تأويل ذلك محجوب عن علماء الأمة ، غير موجود بين أظهرهم .
[ ص: 90 ] ( ذكر الأخبار ) ( عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير ) ( ومن كان منهم مذموما علمه به )
104 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان ، عن مسلم ، قال : قال عبد الله : نعم ترجمان القرآن ابن عباس .
105 - حدثني يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : نعم ترجمان القرآن ابن عباس .
106 - وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق عن عبد الله ، بنحوه .
107 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن عثمان المكي ، عن ابن أبي مليكة قال : رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ، ومعه ألواحه ، فيقول له ابن عباس : "اكتب " ، قال : حتى سأله عن التفسير كله .
108 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، ويونس بن بكير قالا حدثنا محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات ، من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها . [ ص: 91 ]
109 - وحدثني عبيد الله بن يوسف الجبيري ، عن أبي بكر الحنفي ، قال : سمعت سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .
110 - وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان أبو داود ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، قال : لم يلق الضحاك ابن عباس ، وإنما لقي سعيد بن جبير بالري ، وأخذ عنه التفسير
111 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن مشاش ، قال : قلت للضحاك : سمعت من ابن عباس شيئا ؟ قال : لا
112 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال حدثنا زكريا ، قال : كان الشعبي يمر بأبي صالح باذان ، فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول : تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن!
113 - حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن واقد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( والله يقضي بالحق ) [ سورة غافر : 20 ] قال : قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة ( إن الله هو السميع البصير ) [ سورة غافر : 20 ] ، قال الحسين : فقلت للأعمش : حدثني به الكلبي ، إلا أنه قال : إن الله قادر أن يجزي بالسيئة السيئة وبالحسنة عشرا ، فقال الأعمش : لو أن الذي عند الكلبي عندي ما خرج مني إلا بخفير . [ ص: 92 ]
114 - حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا علي بن حكيم الأودي ، قال : حدثنا عبد الله بن بكير ، عن صالح بن مسلم ، قال : مر الشعبي على السدي وهو يفسر ، فقال : لأن يضرب على استك بالطبل ، خير لك من مجلسك هذا .
115 - حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثني علي بن حكيم ، قال : حدثنا شريك ، عن مسلم بن عبد الرحمن النخعي ، قال : كنت مع إبراهيم ، فرأى السدي ، فقال : أما إنه يفسر تفسير القوم .
116 - حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت سعيد بن بشير ، يقول عن قتادة ، قال : ما أرى أحدا يجري مع الكلبي في التفسير في عنان .
قال أبو جعفر : قد قلنا فيما مضى من كتابنا هذا في وجوه تأويل القرآن ، وأن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة :
أحدها لا سبيل إلى الوصول إليه ، وهو الذي استأثر الله بعلمه ، وحجب علمه عن جميع خلقه ، وهو أوقات ما كان من آجال الأمور الحادثة ، التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة ، مثل : وقت قيام الساعة ، ووقت نزول عيسى ابن مريم ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، والنفخ في الصور ، وما أشبه ذلك .
والوجه الثاني : ما خص الله بعلم تأويله نبيه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته ، وهو ما فيه مما بعباده إلى [ ص: 93 ] علم تأويله الحاجة ، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويله .
والثالث منها : ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن ، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه ، لا يوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم .
فإذ كان ذلك كذلك ، فأحق المفسرين بإصابة الحق - في تأويل القرآن الذي إلى علم تأويله للعباد السبيل - أوضحهم حجة فيما تأول وفسر ، مما كان تأويله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه : إما من جهة النقل المستفيض ، فيما وجد فيه من ذلك عنه النقل المستفيض ، وإما من جهة نقل العدول الأثبات ، فيما لم يكن فيه عنه النقل المستفيض ، أو من جهة الدلالة المنصوبة على صحته; وأصحهم برهانا - فيما ترجم وبين من ذلك - مما كان مدركا علمه من جهة اللسان : إما بالشواهد من أشعارهم السائرة ، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة ، كائنا من كان ذلك المتأول والمفسر ، بعد أن لا يكون خارجا تأويله وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك ، عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة ، والخلف من التابعين وعلماء الأمة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (7)
صــ 94إلى صــ 107
القول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه
قال أبو جعفر : إن الله تعالى ذكره سمى تنزيله الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة :
منهن : "القرآن " ، فقال في تسميته إياه بذلك في تنزيله : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) [ سورة يوسف : 3 ] ، وقال : ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) [ سورة النمل : 76 ] .
ومنهن : "الفرقان" ، قال جل ثناؤه في وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يسميه بذلك : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) [ سورة الفرقان : 1 .
ومنهن : "الكتاب" : قال تبارك اسمه في تسميته إياه به : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ) [ سورة الكهف : 1 ] .
ومنهن : "الذكر" ، قال تعالى ذكره في تسميته إياه به : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ سورة الحجر : 9 ] .
ولكل اسم من أسمائه الأربعة في كلام العرب ، معنى ووجه غير معنى الآخر ووجهه .
فأما "القرآن" ، فإن المفسرين اختلفوا في تأويله . والواجب أن يكون تأويله على قول ابن عباس : من التلاوة والقراءة ، وأن يكون مصدرا من قول القائل : [ ص: 95 ] قرأت ، كقولك "الخسران" من "خسرت" ، و "الغفران" من "غفر الله لك" ، و "الكفران" من "كفرتك" ، "والفرقان" من "فرق الله بين الحق والباطل " .
117 - وذلك أن يحيى بن عثمان بن صالح السهمي حدثني ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( فإذا قرأناه ) يقول : بيناه ، ( فاتبع قرآنه ) [ سورة القيامة : 18 ] يقول : اعمل به .
ومعنى قول ابن عباس هذا : فإذا بيناه بالقراءة ، فاعمل بما بيناه لك بالقراءة . ومما يوضح صحة ما قلنا في تأويل حديث ابن عباس هذا ، ما : -
118 - حدثني به محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : ( إن علينا جمعه وقرآنه ) [ سورة القيامة : 17 ] قال : أن نقرئك فلا تنسى ( فإذا قرأناه ) عليك ( فاتبع قرآنه ) يقول : إذا تلي عليك فاتبع ما فيه .
قال أبو جعفر : فقد صرح هذا الخبر عن ابن عباس : أن معنى "القرآن " عنده القراءة ، فإنه مصدر من قول القائل : قرأت ، على ما بيناه .
وأما على قول قتادة ، فإن الواجب أن يكون مصدرا ، من قول القائل : قرأت الشيء ، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض ، كقولك : "ما قرأت هذه الناقة سلى قط" تريد بذلك أنها لم تضمم رحما على ولد ، كما قال عمرو بن كلثوم التغلبي : [ ص: 96 ]
تريك - إذا دخلت على خلاء ، وقد أمنت عيون الكاشحينا - ذراعي عيطل أدماء بكر ،
هجان اللون ، لم تقرأ جنينا
يعني بقوله : "لم تقرأ جنينا " ، لم تضمم رحما على ولد .
119 - وذلك أن بشر بن معاذ العقدي حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله تعالى : ( إن علينا جمعه وقرآنه ) يقول : حفظه وتأليفه ، ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) اتبع حلاله ، واجتنب حرامه .
120 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة بمثله .
فرأي قتادة أن تأويل "القرآن" : التأليف .
قال أبو جعفر : ولكلا القولين - أعني قول ابن عباس وقول قتادة - اللذين حكيناهما ، وجه صحيح في كلام العرب . غير أن أولى قوليهما بتأويل قول الله تعالى : ( إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( قول ابن عباس . لأن الله جل ثناؤه أمر نبيه في غير آية من تنزيله باتباع ما أوحى إليه ، ولم يرخص له في ترك اتباع شيء من أمره إلى وقت تأليفه القرآن له . فكذلك قوله : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) نظير سائر ما في آي القرآن التي أمره الله فيها باتباع ما أوحى إليه في تنزيله . [ ص: 97 ]
ولو وجب أن يكون معنى قوله : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) فإذا ألفناه فاتبع ما ألفنا لك فيه : لوجب أن لا يكون كان لزمه فرض ) اقرأ باسم ربك الذي خلق ( ولا فرض ) يا أيها المدثر قم فأنذر ( [ سورة المدثر : 1 2 ، قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن . وذلك ، إن قاله قائل ، خروج من قول أهل الملة .
وإذ صح أن حكم كل آية من آي القرآن كان لازما النبي صلى الله عليه وسلم اتباعه والعمل به ، مؤلفة كانت إلى غيرها أو غير مؤلفة - صح ما قال ابن عباس في تأويل قوله : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) أنه يعني به : فإذا بيناه لك بقراءتنا ، فاتبع ما بيناه لك بقراءتنا - دون قول من قال : معناه ، فإذا ألفناه فاتبع ما ألفناه .
وقد قيل إن قول الشاعر :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
يعني به قائله : تسبيحا وقراءة .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يسمى "قرآنا " بمعنى القراءة ، وإنما هو مقروء ؟
قيل : كما جاز أن يسمى المكتوب "كتابا" ، بمعنى : كتاب الكاتب ، كما قال الشاعر في صفة كتاب طلاق كتبه لامرأته :
تؤمل رجعة مني ، وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
[ ص: 98 ]
يريد : طلاقا مكتوبا ، فجعل "المكتوب" كتابا .
وأما تأويل اسمه الذي هو "فرقان" ، فإن تفسير أهل التفسير جاء في ذلك بألفاظ مختلفة ، هي في المعاني مؤتلفة .
121 - فقال عكرمة ، فيما حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عكرمة : أنه كان يقول : هو النجاة .
وكذلك كان السدي يتأوله .
122 - حدثنا بذلك محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي - وهو قول جماعة غيرهما .
وكان ابن عباس يقول : "الفرقان " : المخرج .
123 - حدثني بذلك يحيى بن عثمان بن صالح ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
وكذلك كان مجاهد يقول في تأويله بذلك .
124 - حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن مجاهد .
وكان مجاهد يقول في قول الله عز وجل : ( يوم الفرقان ) [ سورة الأنفال : 41 ] يوم فرق الله فيه بين الحق والباطل .
125 - حدثني بذلك محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثني أبو عاصم عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
وكل هذه التأويلات في معنى "الفرقان " - على اختلاف ألفاظها - متقاربات المعاني . وذلك أن من جعل له مخرج من أمر كان فيه ، فقد جعل [ ص: 99 ] له ذلك المخرج منه نجاة . وكذلك إذا نجي منه ، فقد نصر على من بغاه فيه سوءا ، وفرق بينه وبين باغيه السوء .
فجميع ما روينا - عمن روينا عنه - في معنى "الفرقان" ، قول صحيح المعاني ، لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك .
وأصل "الفرقان " عندنا : الفرق بين الشيئين والفصل بينهما . وقد يكون ذلك بقضاء ، واستنقاذ ، وإظهار حجة ، ونصر وغير ذلك من المعاني المفرقة بين المحق والمبطل . فقد تبين بذلك أن القرآن سمي "فرقانا " ، لفصله - بحججه وأدلته وحدود فرائضه وسائر معاني حكمه - بين المحق والمبطل . وفرقانه بينهما : بنصره المحق ، وتخذيله المبطل ، حكما وقضاء .
وأما تأويل اسمه الذي هو "كتاب " : فهو مصدر من قولك "كتبت كتابا " كما تقول : قمت قياما ، وحسبت الشيء حسابا . والكتاب : هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة ومفترقة . وسمي "كتابا " ، وإنما هو مكتوب ، كما قال الشاعر في البيت الذي استشهدنا به :
وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
يعني به مكتوبا .
وأما تأويل اسمه الذي هو "ذكر " ، فإنه محتمل معنيين : أحدهما : أنه ذكر من الله جل ذكره ، ذكر به عباده ، فعرفهم فيه حدوده وفرائضه ، وسائر ما أودعه من حكمه . والآخر : أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدق بما فيه ، كما قال جل ثناؤه : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) [ سورة الزخرف : 44 ] ، يعني به أنه شرف له ولقومه . [ ص: 100 ]
ثم لسور القرآن أسماء سماها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
126 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا أبو العوام - وحدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا رواد بن الجراح ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، جميعا - عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطيت مكان التوراة السبع الطول ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضلت بالمفصل .
127 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت السبع الطول مكان التوراة ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وفضلت بالمفصل . قال خالد : كانوا يسمون المفصل : العربي . قال خالد : قال بعضهم : ليس في العربي سجدة . [ ص: 101 ]
128 - وحدثنا محمد بن حميد ، قال حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عاصم ، عن المسيب ، عن ابن مسعود قال : الطول كالتوراة ، والمئون كالإنجيل ، والمثاني كالزبور ، وسائر القرآن بعد فضل على الكتب .
129 - حدثني أبو عبيد الوصابي ، قال : حدثنا محمد بن حفص ، قال : أنبأنا أبو حميد ، حدثنا الفزاري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي بردة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول ، ومكان الإنجيل المثاني ، ومكان الزبور المئين ، وفضلني ربي بالمفصل .
قال أبو جعفر : والسبع الطول : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، [ ص: 102 ]
والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، في قول سعيد بن جبير .
130 - حدثني بذلك يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير .
وقد روي عن ابن عباس قول يدل على موافقته قول سعيد هذا .
131 - وذلك ما حدثنا به محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، ويحيى بن سعيد ، ومحمد بن جعفر ، وسهل بن يوسف ، قالوا : حدثنا عوف ، قال : حدثني يزيد الفارسي ، قال : حدثني ابن عباس : قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطرا : "بسم الله الرحمن الرحيم " ، ووضعتموهما في السبع الطول ؟ ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا ببعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا . وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها . فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : "بسم الله الرحمن الرحيم " ، ووضعتهما في السبع الطول " .
فهذا الخبر ينبئ عن عثمان بن عفان رحمة الله عليه ، أنه لم يكن تبين له أن [ ص: 103 ] الأنفال وبراءة من السبع الطول ، ويصرح عن ابن عباس أنه لم يكن يرى ذلك منها .
وإنما سميت هذه السور السبع الطول ، لطولها على سائر سور القرآن .
وأما "المئون : فهي ما كان من سور القرآن عدد آيه مائة آية ، أو تزيد عليها شيئا أو تنقص منها شيئا يسيرا .
وأما "المثاني : فإنها ما ثنى المئين فتلاها ، وكان المئون لها أوائل ، وكان المثاني لها ثواني . وقد قيل : إن المثاني سميت مثاني ، لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثال والخبر والعبر ، وهو قول ابن عباس .
132 - حدثنا بذلك أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عبد الله بن عثمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .
وروي عن سعيد بن جبير ، أنه كان يقول : إنما سميت مثاني لأنها ثنيت فيها الفرائض والحدود .
133 - حدثنا بذلك محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير .
وقد قال جماعة يكثر تعدادهم : القرآن كله مثان .
وقال جماعة أخرى : بل المثاني فاتحة الكتاب ، لأنها تثنى قراءتها في كل صلاة .
وسنذكر أسماء قائلي ذلك وعللهم ، والصواب من القول فيما اختلفوا فيه من ذلك ، إذا انتهينا إلى تأويل قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) [ سورة الحجر : 87 ] إن شاء الله ذلك .
وبمثل ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء سور القرآن التي ذكرت ، جاء شعر الشعراء . فقال بعضهم : [ ص: 104 ]
حلفت بالسبع اللواتي طولت وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنيت فكررت وبالطواسين التي قد ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت وبالمفصل اللواتي فصلت
قال أبو جعفر رحمة الله عليه : وهذه الأبيات تدل على صحة التأويل الذي تأولناه في هذه الأسماء .
وأما "المفصل " : فإنها سميت مفصلا لكثرة الفصول التي بين سورها ب "بسم الله الرحمن الرحيم " .
قال أبو جعفر : ثم تسمى كل سورة من سور القرآن "سورة " ، وتجمع سورا " ، على تقدير "خطبة وخطب " ، "وغرفة وغرف " .
والسورة ، بغير همز : المنزلة من منازل الارتفاع . ومن ذلك سور المدينة ، سمي بذلك الحائط الذي يحويها ، لارتفاعه على ما يحويه . غير أن السورة من سور المدينة لم يسمع في جمعها "سور" ، كما سمع في جمع سورة من القرآن "سور" . قال العجاج في جمع السورة من البناء :
فرب ذي سرادق محجور سرت إليه في أعالي السور
فخرج تقدير جمعها على تقدير جمع برة وبسرة ، لأن ذلك يجمع برا وبسرا . وكذلك لم يسمع في جمع سورة من القرآن سور ، ولو جمعت كذلك لم يكن خطأ في القياس ، إذا أريد به جميع القرآن . وإنما تركوا - فيما نرى - جمعه كذلك ، لأن كل جمع كان بلفظ الواحد المذكر مثل : بر وشعير وقصب وما أشبه ذلك ، فإن [ ص: 105 ] جماعه يجري مجرى الواحد من الأشياء غيره . لأن حكم الواحد منه منفردا قلما يصاب ، فجرى جماعه مجرى الواحد من الأشياء غيره ثم جعلت الواحدة منه كالقطعة من جميعه ، فقيل : برة وشعيرة وقصبة ، يراد به قطعة منه . ولم تكن سور القرآن موجودة مجتمعة اجتماع البر والشعير وسور المدينة ، بل كل سورة منها موجودة منفردة بنفسها ، انفراد كل غرفة من الغرف وخطبة من الخطب ، فجعل جمعها جمع الغرف والخطب ، المبني جمعها من واحدها .
ومن الدلالة على أن معنى السورة المنزلة من الارتفاع ، قول نابغة بني ذبيان :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
يعني بذلك : أن الله أعطاه منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك .
وقد همز بعضهم السورة من القرآن . وتأويلها ، في لغة من همزها ، القطعة التي قد أفضلت من القرآن عما سواها وأبقيت . وذلك أن سؤر كل شيء : البقية منه تبقى بعد الذي يؤخذ منه ، ولذلك سميت الفضلة من شراب الرجل - يشربه ثم يفضلها فيبقيها في الإناء - سؤرا . ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة ، يصف امرأة فارقته فأبقت في قلبه من وجدها بقية :
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد صدعا على نأيها مستطيرا
[ ص: 106 ]
وقال الأعشى في مثل ذلك :
بانت ، وقد أسأرت في النفس حاجتها ، بعد ائتلاف; وخير الود ما نفعا
وأما الآية من آي القرآن ، فإنها تحتمل وجهين في كلام العرب :
أحدهما : أن تكون سميت آية ، لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها ، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدل بها عليه ، كقول الشاعر :
ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا
يعني : بعلامة ذلك . ومنه قوله جل ذكره : ( ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك ) [ سورة المائدة : 114 ] أي علامة منك لإجابتك دعاءنا وإعطائك إيانا سؤلنا .
والآخر منهما : القصة ، كما قال كعب بن زهير بن أبي سلمى :
ألا أبلغا هذا المعرض آية : أيقظان قال القول إذ قال أم حلم
يعني بقوله "آية " : رسالة مني وخبرا عني .
فيكون معنى الآيات : القصص ، قصة تتلو قصة ، بفصول ووصول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (8)
صــ 107إلى صــ 112
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ أَسْمَاءِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا : -
134 - حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ ، وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي .
فَهَذِهِ أَسْمَاءُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ .
وَسُمِّيَتْ "فَاتِحَةَ الْكِتَابِ " ، لِأَنَّهَا يُفْتَتَحُ بِكِتَابَتِهَا الْمَصَاحِفُ ، وَيُقْرَأُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ ، فَهِيَ فَوَاتِحُ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ .
وَسُمِّيَتْ "أُمَّ الْقُرْآنِ " لِتُقَدِّمِهَا عَلَى سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ غَيْرِهَا ، وَتَأَخُّرِ مَا سِوَاهَا خَلْفَهَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ . وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَاهَا شَبِيهٌ بِمَعْنَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ . وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا - بِكَوْنِهَا كَذَلِكَ - أُمُّ الْقُرْآنِ ، لِتَسْمِيَةِ الْعَرَبِ كُلَّ جَامِعٍ أَمْرًا - أَوْ مُقَدِّمٍ لِأَمْرٍ إِذَا كَانَتْ لَهُ تَوَابِعُ تَتْبَعُهُ ، هُوَ لَهَا إِمَامٌ جَامِعٌ - "أُمًّا" . فَتَقُولُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ : "أُمُّ الرَّأْسِ " . وَتُسَمِّي لِوَاءَ الْجَيْشِ وَرَايَتَهُمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ تَحْتَهَا لِلْجَيْشِ - "أُمًّا " . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ ، يَصِفُ رَايَةً مَعْقُودَةً عَلَى قَنَاةٍ يَجْتَمِعُ تَحْتَهَا هُوَ وَصَحْبُهُ : [ ص: 108 ]
وَأَسَمْرَ قَوَّامٍ إِذَا نَامَ صُحْبَتِي خَفِيفِ الثِّيَابِ لَا تُوَارِي لَهُ أَزْرَا عَلَى رَأْسِهِ أُمٌّ لَنَا نَقْتَدِي بِهَا ،
جِمَاعُ أُمُورٍ لَا نُعَاصِي لَهَا أَمْرَا إِذَا نَزَلَتْ قِيلَ انْزِلُوا وَإِذَا غَدَتْ
غَدَتْ ذَاتَ بِرْزِيقٍ نَنَالُ بِهَا فَخْرَا
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : "عَلَى رَأْسِهِ أُمٌّ لَنَا " ، أَيْ عَلَى رَأْسِ الرُّمْحِ رَايَةٌ يَجْتَمِعُونَ لَهَا فِي النُّزُولِ وَالرَّحِيلِ وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَكَّةَ سُمِّيَتْ "أُمَّ الْقُرَى " ، لِتَقَدُّمِهَا أَمَامَ جَمِيعِهَا ، وَجَمْعِهَا مَا سِوَاهَا . وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْهَا فَصَارَتْ لِجَمِيعِهَا أُمًّا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ الْهِلَالِيِّ :
إِذَا كَانَتِ الْخَمْسُونَ أُمَّكَ ، لَمْ يَكُنْ لِدَائِكَ إِلَّا أَنْ تَمُوتَ طَبِيبُ
لِأَنَّ الْخَمْسِينَ جَامِعَةٌ مَا دُونَهَا مِنَ الْعَدَدِ ، فَسَمَّاهَا أُمًّا لِلَّذِي قَدْ بَلَغَهَا . [ ص: 109 ]
وَأَمَّا تَأْوِيلُ اسْمِهَا أَنَّهَا "السَّبْعُ " ، فَإِنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ ، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْآيِ الَّتِي صَارَتْ بِهَا سَبْعَ آيَاتٍ . فَقَالَ عُظْمُ أَهْلِ الْكُوفَةِ : صَارَتْ سَبْعَ آيَاتٍ بِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ سَبْعُ آيَاتٍ ، وَلَيْسَ مِنْهُنَّ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَلَكِنَّ السَّابِعَةَ " أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " . وَذَلِكَ قَوْلُ عُظْمِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُتْقِنِيهِمْ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ بَيَّنَا الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا : ( اللَّطِيفُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ) بِوَجِيزٍ مِنَ الْقَوْلِ ، وَنَسْتَقْصِي بَيَانَ ذَلِكَ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِين َ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَالْمُتَقَدِّم ِينَ وَالْمُتَأَخِّر ِينَ فِي كِتَابِنَا : ( الْأَكْبَرُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا وَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتِهَا السَّبْعَ بِأَنَّهُنَّ مَثَانٍ ، فَلِأَنَّهَا تُثْنَى قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَتَطَوُّعٍ وَمَكْتُوبَةٍ . وَكَذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ .
135 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ ، قَالَ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ : ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) [ ص: 110 ] [ سُورَةُ الْحِجْرِ : 87 ] قَالَ : هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ . ثُمَّ سُئِلَ عَنْهَا وَأَنَا أَسْمَعُ فَقَرَأَهَا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا ، فَقَالَ : تُثْنَى فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ - أَوْ قَالَ - فِي كُلِّ صَلَاةٍ . الشَّكُّ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ .
وَالْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَصَدَ أَبُو النَّجْمِ الْعِجْلِيُّ بِقَوْلِهِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي وَكُلَّ خَيْرٍ بَعْدَهُ أَعْطَانِي
مِنَ الْقُرَآنِ وَمِنَ الْمَثَانِي
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ الْآخَرِ :
نَشَدْتُكُمْ بِمُنْزِلِ الْفُرْقَانِ أُمِّ الْكِتَابِ السَّبْعِ مِنْ مَثَانِي
ثُنِّينَ مِنْ آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعِ سَبْعِ الطُّوَلِ الدَّوَانِي
وَلَيْسَ فِي وُجُوبِ اسْمِ "السَّبْعِ الْمَثَانِي " لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، مَا يَدْفَعُ صِحَّةَ وُجُوبِ اسْمِ "الْمَثَانِي " لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ ، وَلِمَا ثَنَّى الْمِئِينَ مِنَ السُّوَرِ . لِأَنَّ لِكُلٍّ وَجْهًا وَمَعْنًى مَفْهُومًا ، لَا يَفْسَدُ - بِتَسْمِيَتِهِ بَعْضَ ذَلِكَ بِالْمَثَانِي - تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ بِهَا .
فَأَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا ثَنَّى الْمِئِينَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْمَثَانِي ، فَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّتَهُ ، وَسَنَدُّلُّ عَلَى صِحَّةِ وَجْهِ تَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ بِهِ عِنْدَ انْتِهَائِنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
[ ص: 111 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ الِاسْتِعَاذَةِ
تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : ( أَعُوذُ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالِاسْتِعَاذَ ةُ : الِاسْتِجَارَةُ . وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الْقَائِلِ : ( أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) أَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ - دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ - مِنَ الشَّيْطَانِ أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي ، أَوْ يَصُدَّنِي عَنْ حَقٍّ يَلْزَمُنِي لِرَبِّي .
تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : ( مِنَ الشَّيْطَانِ )
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالشَّيْطَانُ ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَكُلِّ شَيْءٍ . وَكَذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ) [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 112 ] ، فَجَعَلَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ ، مِثْلَ الَّذِي جَعَلَ مِنَ الْجِنِّ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَرَكِبَ بِرْذَوْنًا فَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بِهِ ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا تَبَخْتُرًا ، فَنَزَلَ عَنْهُ ، وَقَالَ : مَا حَمَلْتُمُونِي إِلَّا عَلَى شَيْطَانٍ! مَا نَزَلْتُ عَنْهُ حَتَّى أَنْكَرْتُ نَفْسِي .
136 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُمَرَ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُتَمَرِّدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْطَانًا ، لِمُفَارَقَةِ أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ أَخْلَاقَ سَائِرِ جِنْسِهِ وَأَفْعَالِهِ ، وَبُعْدِهِ مِنَ الْخَيْرِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ أُخِذَ مِنْ [ ص: 112 ] قَوْلِ الْقَائِلِ : شَطَنَتْ دَارِي مِنْ دَارِكَ - يُرِيدُ بِذَلِكَ : بَعُدَتْ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ :
نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا رَهِينُ
وَالنَّوَى : الْوَجْهُ الَّذِي نَوَتْهُ وَقَصَدَتْهُ . وَالشَّطُونُ : الْبَعِيدُ . فَكَأَنَّ الشَّيْطَانَ - عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ - فَيْعَالُ مِنْ شَطَنَ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ :
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالْأَكْبَالِ
وَلَوْ كَانَ فَعْلَانَ ، مَنْ شَاطَ يَشِيطُ ، لَقَالَ : أَيُّمَا شَائِطٍ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا شَاطِنٍ ، لِأَنَّهُ مِنْ "شَطَنٍ يَشْطُنُ ، فَهُوَ شَاطِنٌ" .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (9)
صــ 113إلى صــ 122
تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : ( الرَّجِيمِ ) .
وَأَمَّا الرَّجِيمُ فَهُوَ : فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ : كَفٌّ خَضِيبٌ ، وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ ، وَرَجُلٌ لَعِينٌ ، يُرِيدُ بِذَلِكَ : مَخْضُوبَةٌ وَمَدْهُونَةٌ وَمَلْعُونٌ . وَتَأْوِيلُ الرَّجِيمِ : الْمَلْعُونُ الْمَشْتُومُ . وَكُلُّ مَشْتُومٍ بِقَوْلٍ رَدِيءٍ أَوْ سَبٍّ فَهُوَ مَرْجُومٌ . وَأَصْلُ الرَّجْمِ الرَّمْيُ ، بِقَوْلٍ كَانَ أَوْ بِفِعْلٍ . وَمِنَ الرَّجْمِ بِالْقَوْلِ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : ( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ) [ سُورَةُ مَرْيَمَ : 46 ] .
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيلَ لِلشَّيْطَانِ رَجِيمٌ ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ طَرَدَهُ مِنْ سَمَاوَاتِهِ ، وَرَجَمَهُ بِالشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ [ ص: 113 ]
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ الِاسْتِعَاذَةَ .
137 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ قَالَ : "يَا مُحَمَّدُ اسْتَعِذْ ، قُلْ : أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " ، ثُمَّ قَالَ : قُلْ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، ثُمَّ قَالَ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [ الْعَلَقُ : 1 ] . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ .
فَأَمْرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ دُونَ خَلْقِهِ .
[ ص: 114 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : ( بِسْمِ )
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَدَّبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ تَقْدِيمَ ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِي وَصْفِهِ بِهَا قَبْلَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِهِ ، وَجَعَلَ مَا أَدَّبَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ ، مِنْهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا ، وَسَبِيلًا يَتَّبِعُونَهُ عَلَيْهَا ، فَبِهِ افْتِتَاحُ أَوَائِلِ مَنْطِقِهِمْ ، وَصُدُورُ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ ، حَتَّى أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : "بِسْمِ اللَّهِ " ، عَلَى مَا بَطَنَ مِنْ مُرَادِهِ الَّذِي هُوَ مَحْذُوفٌ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ مَنْ "بِسْمِ اللَّهِ " مُقْتَضِيَةٌ فِعْلًا يَكُونُ لَهَا جَالِبًا ، وَلَا فِعْلَ مَعَهَا ظَاهِرٌ ، فَأَغْنَتْ سَامِعَ الْقَائِلِ "بِسْمِ اللَّهِ " مَعْرِفَتُهُ بِمُرَادِ قَائِلِهِ ، عَنْ إِظْهَارِ قَائِلِ ذَلِكَ مُرَادَهُ قَوْلًا إِذْ كَانَ كُلُّ نَاطِقٍ بِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِهِ أَمْرًا ، قَدْ أُحْضِرَ مَنْطِقُهُ بِهِ - إِمَّا مَعَهُ ، وَإِمَّا قَبْلَهُ بِلَا فَصْلٍ - مَا قَدْ أَغْنَى سَامِعَهُ عَنْ دَلَالَةٍ شَاهِدَةٍ عَلَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ افْتَتَحَ قِيلَهُ بِهِ . فَصَارَ اسْتِغْنَاءُ سَامِعِ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ إِظْهَارِ مَا حَذَفَ مِنْهُ ، نَظِيرَ اسْتِغْنَائِهِ - إِذَا سَمِعَ قَائِلًا قِيلَ لَهُ : مَا أَكَلْتَ الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ : "طَعَامًا " - عَنْ أَنْ يُكَرِّرَ الْمَسْئُولُ مَعَ قَوْلِهِ "طَعَامًا " ، أَكَلْتُ ، لِمَا قَدْ ظَهَرَ لَدَيْهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ، بِتَقَدُّمِ مَسْأَلَةِ السَّائِلِ إِيَّاهُ عَمَّا أَكَلَ . فَمَعْقُولٌ إِذًا أَنَّ قَوْلَ [ ص: 115 ] الْقَائِلِ إِذَا قَالَ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ثُمَّ افْتَتَحَ تَالِيًا سُورَةً ، أَنَّ إِتْبَاعَهُ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " تِلَاوَةَ السُّورَةِ ، يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَمَفْهُومٌ بِهِ أَنَّهُ مُرِيدٌ بِذَلِكَ : أَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ : "بِسْمِ اللَّهِ " عِنْدَ نُهُوضِهِ لِلْقِيَامِ أَوْ عِنْدَ قُعُودِهِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ ، يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِقِيلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " ، أَقُومُ بِاسْمِ اللَّهِ ، وَأَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرِ الْأَفْعَالِ .
وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي : -
138 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ ، قَالَ : "يَا مُحَمَّدُ ، قُلْ : أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " ثُمَّ قَالَ : "قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " . قَالَ : قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : قُلْ بِسْمِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ، يَقُولُ : اقْرَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ رَبِّكَ ، وَقُمْ وَاقْعُدْ بِذِكْرِ اللَّهِ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " مَا وَصَفْتَ ، وَالْجَالِبُ الْبَاءَ فِي "بِسْمِ اللَّهِ " مَا ذَكَرْتَ ، فَكَيْفَ قِيلَ "بِسْمِ اللَّهِ " ، بِمَعْنَى أَقْرَأُ بِاسْمِ اللَّهِ " ، أَوْ أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَ قَارِئٍ كِتَابَ اللَّهِ ، فَبِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ قِرَاءَتُهُ ، وَأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ أَوْ فَاعِلٍ فِعْلًا فَبِاللَّهِ قِيَامُهُ وَقُعُودُهُ وَفِعْلُهُ . وَهَلَّا - إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - قِيلَ " بِاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَلَمْ يَقُلْ "بِسْمِ اللَّهِ " ؟ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : أَقُومُ وَأَقْعُدُ بِاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، أَوْ أَقْرَأُ بِاللَّهِ - أَوْضَحُ مَعْنًى لِسَامِعِهِ مِنْ قَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ أَقُومُ "أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ " ، يُوهِمُ سَامِعَهُ أَنَّ قِيَامَهُ وَقُعُودَهُ بِمَعْنَى غَيْرِ اللَّهِ .
قِيلَ لَهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ : إِنَّ الْمَقْصُودَ إِلَيْهِ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ غَيْرُ مَا تَوَهَّمْتَهُ فِي نَفْسِكَ . وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "باِسْمِ اللَّهِ " : أَبْدَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، [ ص: 116 ] أَوْ أَقْرَأُ بِتَسْمِيَتِي اللَّهَ ، أَوْ أَقُومُ وَأَقْعُدُ بِتَسْمِيَتِي اللَّهَ وَذِكْرِهِ - لَا أَنَّهُ يَعْنِي بِقِيلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " : أَقُومُ بِاللَّهِ ، أَوْ أَقْرَأُ بِاللَّهِ ، فَيَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ : أَقْرَأُ بِاللَّهِ ، أَوْ أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاللَّهِ - أَوْلَى بِوَجْهِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " .
فَإِنْ قَالَ : فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتَ ، فَكَيْفَ قِيلَ : "بِسْمِ اللَّهِ " وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الِاسْمَ اسْمٌ ، وَأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ سَمَّيْتُ ؟
قِيلَ : إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُخْرِجُ الْمَصَادِرَ مُبْهَمَةً عَلَى أَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ ، كَقَوْلِهِمْ : أَكْرَمْتُ فُلَانًا كَرَامَةً ، وَإِنَّمَا بِنَاءُ مَصْدَرِ "أَفَعَلْتُ " - إِذَا أُخْرِجَ عَلَى فِعْلِهِ - "الْإِفْعَالُ " . وَكَقَوْلِهِمْ : أَهَنْتُ فُلَانًا هَوَانًا ، وَكَلَّمْتُهُ كَلَامًا . وَبِنَاءُ مَصْدَرِ : "فَعَّلَتُ " التَّفْعِيلُ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا
يُرِيدُ : إِعْطَائِكَ . وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ :
وَإِنْ كَانَ هَذَا الْبُخْلُ مِنْكَ سَجِيَّةً لَقَدْ كُنْتُ فِي طُولِي رَجَاءَكَ أَشْعَبَا
يُرِيدُ : فِي إِطَالَتِي رَجَاءَكَ . وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ :
أَظُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلًا أَهْدَى السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ
يُرِيدُ : إِصَابَتَكُمْ . وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَكْثُرُ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ ، لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ . [ ص: 117 ]
فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ - عَلَى مَا وَصَفْنَا ، مِنْ إِخْرَاجِ الْعَرَبِ مَصَادِرَ الْأَفْعَالِ عَلَى غَيْرِ بِنَاءِ أَفْعَالِهَا - كَثِيرًا ، وَكَانَ تَصْدِيرُهَا إِيَّاهَا عَلَى مَخَارِجِ الْأَسْمَاءِ مَوْجُودًا فَاشِيًا ، فَبَيِّنٌ بِذَلِكَ صَوَابُ مَا قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ "بِسْمِ اللَّهِ " ، أَنَّ مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ فِي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ : أَبْدَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ ، قَبْلَ فِعْلِي ، أَوْ قَبْلَ قَوْلِي .
وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ : أَقْرَأُ مُبْتَدِئًا بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ ، أَوْ أَبْتَدِئُ قِرَاءَتِي بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ . فَجُعِلَ "الِاسْمُ " مَكَانَ التَّسْمِيَةِ ، كَمَا جُعِلَ الْكَلَامُ مَكَانَ التَّكْلِيمِ ، وَالْعَطَاءُ مَكَانَ الْإِعْطَاءِ .
وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ .
139 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "يَا مُحَمَّدُ ، قُلْ : أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " ، ثُمَّ قَالَ : "قُلْ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : "بِسْمِ اللَّهِ " ، يَقُولُ لَهُ جِبْرِيلُ : يَا مُحَمَّدُ ، اقْرَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ رَبِّكَ ، وَقُمْ وَاقْعُدْ بِذِكْرِ اللَّهِ .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا - مِنْ أَنَّهُ يُرَادُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ مُفْتَتِحًا قِرَاءَتَهُ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " : أَقْرَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ ، وَأَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ ، بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى - وَيُوَضِّحُ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ : بِاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوَّلِ كُلِ شَيْءٍ ، مَعَ أَنَّ الْعِبَادَ [ ص: 118 ] إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يَبْتَدِئُوا عِنْدَ فَوَاتِحِ أُمُورِهِمْ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ ، لَا بِالْخَبَرِ عَنْ عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ ، كَالَّذِي أُمِرُوا بِهِ مِنَ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ ، وَعِنْدَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ ، وَسَائِرِ أَفْعَالِهِمْ . وَكَذَلِكَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ تِلَاوَةِ تَنْزِيلِ اللَّهِ ، وَصُدُورِ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْجَمِيعِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ ، أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ عِنْدَ تَذْكِيَتِهِ بَعْضَ بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ "بِاللَّهِ " ، وَلَمْ يَقُلْ "بِسْمِ اللَّهِ " ، أَنَّهُ مُخَالِفٌ - بِتَرْكِهِ قِيلَ : "بِسْمِ اللَّهِ " مَا سُنَّ لَهُ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ مِنَ الْقَوْلِ . وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " "بِاللَّهِ " ، كَمَا قَالَ الزَّاعِمُ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " هُوَ اللَّهُ . لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ عِنْدَ تَذْكِيَتِهِ ذَبِيحَتَهُ "بِاللَّهِ " ، قَائِلًا مَا سُنَّ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى الذَّبِيحَةِ . وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ تَارِكٌ مَا سُنَّ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ - إِذْ لَمْ يَقُلْ "بِسْمِ اللَّهِ " - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى فَسَادِ مَا ادَّعَى مِنَ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : "بِسْمِ اللَّهِ " ، أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ "بِاللَّهِ " ، وَأَنَّ اسْمَ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ .
وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِكْثَارِ فِي الْإِبَانَةِ عَنِ الِاسْمِ : أَهُوَ الْمُسَمَّى ، أَمْ غَيْرُهُ ، أَمْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ ؟ فَنُطِيلُ الْكِتَابَ بِهِ ، وَإِنَّمَا هَذَا مَوْضِعٌ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِبَانَةِ عَنِ الِاسْمِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ : أَهْوَ اسْمٌ ، أَمْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ ؟ [ ص: 119 ] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِي بَيْتِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ :
إِلَى الْحَوْلِ ، ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ، وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
فَقَدْ تَأَوَّلَهُ مُقَدَّمٌ فِي الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ : ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ، وَأَنَّ اسْمَ السَّلَامِ هُوَ السَّلَامُ ؟
قِيلَ لَهُ : لَوْ جَازَ ذَلِكَ وَصَحَّ تَأْوِيلُهُ فِيهِ عَلَى مَا تَأَوَّلَ ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : رَأَيْتُ اسْمَ زَيْدٍ ، وَأَكَلْتُ اسْمَ الطَّعَامِ ، وَشَرِبْتُ اسْمَ الشَّرَابِ; وَفِي إِجْمَاعِ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَلَى إِحَالَةِ ذَلِكَ مَا يُنْبِئُ عَنْ فَسَادِ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَ لَبِيدٍ : "ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ [ ص: 120 ] عَلَيْكُمَا " ، أَنَّهُ أَرَادَ : ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ، وَادِّعَائِهِ أَنَّ إِدْخَالَ الِاسْمِ فِي ذَلِكَ وَإِضَافَتَهُ إِلَى السَّلَامِ إِنَّمَا جَازَ ، إِذْ كَانَ اسْمُ الْمُسَمَّى هُوَ الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ .
وَيُسْأَلُ الْقَائِلُونَ قَوْلَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ هَذَا ، فَيُقَالُ لَهُمْ : أَتَسْتَجِيزُون َ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ : "أَكَلْتُ اسْمَ الْعَسَلِ " ، يَعْنِي بِذَلِكَ : أَكَلْتُ الْعَسَلَ ، كَمَا جَازَ عِنْدَكُمْ : اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكَ ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ ؟
فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ ! خَرَجُوا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ ، وَأَجَازُوا فِي لُغَتِهَا مَا تُخَطِّئُهُ جَمِيعُ الْعَرَبِ فِي لُغَتِهَا . وَإِنْ قَالُوا : لَا ؛ سُئِلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا . فَلَنْ يَقُولُوا فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمُوا فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِ لَبِيدٍ هَذَا عِنْدَكَ ؟
قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ ، كِلَاهُمَا غَيْرُ الَّذِي قَالَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ .
أَحَدُهُمَا : أَنْ "السَّلَامَ " اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَبِيدٌ عَنَى بِقَوْلِهِ : "ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا " ، ثُمَّ الْزَمَا اسْمَ اللَّهِ وَذِكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَدَعَا ذِكْرِي وَالْبُكَاءَ عَلَيَّ; عَلَى وَجْهِ الْإِغْرَاءِ . فَرَفَعَ الِاسْمَ ، إِذْ أَخَّرَ الْحَرْفَ الَّذِي يَأْتِي بِمَعْنَى الْإِغْرَاءِ . وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ ، إِذَا أَخَّرَتِ الْإِغْرَاءَ وَقَدَّمَتِ الْمُغْرَى بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَنْصِبُ بِهِ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
يَا أَيُّهَا الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا! إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَا!
فَأَغْرَى بِ "دُونَكَ " ، وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : دُونَكَ دَلْوِي . فَذَلِكَ قَوْلُ لَبِيدٍ :
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا
يَعْنِي : عَلَيْكُمَا اسْمَ السَّلَامِ ، أَيْ : الْزَمَا ذِكْرَ اللَّهِ وَدَعَا ذِكْرِي وَالْوَجْدُ بِي ، لِأَنَّ مَنْ بَكَى حَوْلًا عَلَى امْرِئٍ مَيِّتٍ فَقَدِ اعْتَذَرَ . فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْهِ . [ ص: 121 ]
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا : ثُمَّ تَسْمِيَتِي اللَّهَ عَلَيْكُمَا ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلشَّيْءِ يَرَاهُ فَيُعْجِبُهُ : "اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكَ " يُعَوِّذُهُ بِذَلِكَ مِنَ السُّوءِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكُمَا مِنَ السُّوءِ ، وَكَأَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِ لَبِيدٍ .
وَيُقَالُ لِمَنْ وَجَّهَ بَيْتَ لَبِيدٍ هَذَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ، أَتَرَى مَا قُلْنَا - مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ - جَائِزًا ، أَوْ أَحَدُهُمَا ، أَوْ غَيْرَ مَا قُلْتَ فِيهِ ؟
فَإِنْ قَالَ : لَا ! أَبَانَ مِقْدَارَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِتَصَارِيفَ وُجُوهِ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَأَغْنَى خَصْمِهِ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ .
وَإِنْ قَالَ : بَلَى !
قِيلَ لَهُ : فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَنَّهُ الصَّوَابُ ، دُونَ الَّذِي ذَكَرْتَ أَنَّهُ مُحْتَمِلُهُ - مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَلْزَمُنَا تَسْلِيمُهُ لَكَ ؟ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي : -
140 - حَدَّثَنَا بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ الضَّحَّاكِ وَهُوَ يُلَقَّبُ بِزِبْرِيقَ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ ، عَنْ عَطِيَّةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ ، فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ : اكْتُبْ "بِسْمِ " فَقَالَ لَهُ عِيسَى : وَمَا "بِسْمِ " ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ : مَا أَدْرِي ! فَقَالَ عِيسَى : الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ ، وَالسِّينُ : سَنَاؤُهُ ، وَالْمِيمُ : مَمْلَكَتُهُ . [ ص: 122 ]
فَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ غَلَطًا مِنَ الْمُحَدِّثِ ، وَأَنْ يَكُونَ أَرَادَ ب س م ، عَلَى سَبِيلِ مَا يُعَلَّمُ الْمُبْتَدِئُ مِنَ الصِّبْيَانِ فِي الْكُتَّابِ حُرُوفَ أَبِي جَادٍ ، فَغَلِطَ بِذَلِكَ ، فَوَصَلَهُ ، فَقَالَ : "بِسْمِ " ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا التَّأْوِيلِ إِذَا تُلِيَ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، عَلَى مَا يَتْلُوهُ الْقَارِئُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَاهُ عَلَى الْمَفْهُومِ بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ لِسَانِهَا ، إِذَا حُمِلَ تَأْوِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (10)
صــ 123إلى صــ 134
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( اللَّهِ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ "اللَّهِ " ، فَإِنَّهُ عَلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ لَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - : هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَيَعْبُدُهُ كُلُّ خَلْقٍ . [ ص: 123 ]
141 - وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : "اللَّهِ " ذُو الْأُلُوهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِي َّةِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَهَلْ لِذَلِكَ فِي "فَعَلَ وَيَفْعَلُ " أَصْلٌ كَانَ مِنْهُ بِنَاءُ هَذَا الِاسْمِ ؟
قِيلَ : أَمَّا سَمَاعًا مِنْ الْعَرَبِ فَلَا وَلَكِنِ اسْتِدْلَالًا .
فَإِنْ قَالَ : وَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ هِيَ الْعِبَادَةُ ، وَأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ ، وَأَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي "فَعَلَ وَيَفْعَلُ " .
قِيلَ : لَا تَمَانُعَ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي الْحُكْمِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ - يَصِفُ رَجُلًا بِعِبَادَةٍ ، وَبِطَلَبِ مَا عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ : "تَأَلَّهَ فَلَانٌ " - بِالصِّحَّةِ وَلَا خِلَافَ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ :
لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ الْمُدَّهِ سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي
يَعْنِي : مِنْ تَعَبُّدِي وَطَلَبِي اللَّهَ بِعَمَلِي .
وَلَا شَكَّ أَنَّ "التَّأَلُّهَ " ، التَّفَعُّلَ مِنْ : "أَلَهَ يَأْلَهُ " ، وَأَنَّ مَعْنَى "أَلَهَ " - إِذَا نُطِقَ بِهِ : - عَبَدَ اللَّهَ . وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ نَطَقَتْ مِنْهُ بِ "فَعَلَ يَفْعَلُ " بِغَيْرِ زِيَادَةٍ .
142 - وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَرَأَ " وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ " سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 127 قَالَ : عِبَادَتَكَ ، وَيُقَالُ : إِنَّهُ كَانَ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ . [ ص: 124 ]
143 - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) ، قَالَ : إِنَّمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ
وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا وَمُجَاهِدٌ .
144 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : قَوْلُهُ " وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ " قَالَ : وَعِبَادَتَكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِلَاهَةَ - عَلَى مَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ - مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : أَلَهَ اللَّهَ فُلَانٌ إِلَاهَةً ، كَمَا يُقَالُ : عَبَدَ اللَّهَ فُلَانٌ عِبَادَةً ، وَعَبَرَ الرُّؤْيَا عِبَارَةً . فَقَدْ بَيَّنَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ هَذَا : أَنَّ "أَلَهَ " عَبَدَ ، وَأَنَّ "الْإِلَاهَةَ " مَصْدَرُهُ .
فَإِنْ قَالَ : فَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَبَدَ اللَّهَ : أَلَهَهُ - عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ - فَكَيْفَ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ ، إِذَا أَرَادَ الْمُخْبِرُ الْخَبَرَ عَنِ اسْتِيجَابِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ ؟ [ ص: 125 ]
قِيلَ : أَمَّا الرِّوَايَةُ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ - عَلَى قِيَاسِ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي : -
145 - حَدَّثَنَا بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ عِيسَى أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ اكْتُبْ "اللَّهَ " فَقَالَ لَهُ عِيسَى : "أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ اللَّهُ إِلَهُ الْآلِهَةِ " .
- أَنْ يُقَالَ ، اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ أَلَهَ الْعَبْدَ ، وَالْعَبْدُ أَلَهَهُ . وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ "اللَّهِ " - مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ "الْإِلَهُ " .
فَإِنْ قَالَ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، مَعَ اخْتِلَافِ لَفْظَيْهِمَا ؟
قِيلَ : كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 38 ] أَصْلُهُ : لَكِنَّ أَنَا ، هُوَ اللَّهُ رَبِّي ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ ، أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ وَتَقْلِينَنِي ، لَكِنَّ إِيَّاكِ لَا أَقْلِي
يُرِيدُ : لَكِنَّ أَنَا إِيَّاكِ لَا أَقْلِي ، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ "أَنَا " فَالْتَقَتْ نُونُ "أَنَا " "وَنُونُ "لَكِنْ " وَهِيَ سَاكِنَةٌ ، فَأُدْغِمَتْ فِي نُونِ "أَنَا " فَصَارَتَا نُونًا مُشَدَّدَةً . فَكَذَلِكَ "اللَّهُ " أَصْلُهُ "الْإِلَهُ " ، أُسْقِطَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الِاسْمِ ، فَالْتَقَتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الِاسْمِ ، وَاللَّامُ الزَّائِدَةُ الَّتِي دَخَلَتْ مَعَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ ، فَأُدْغِمَتْ فِي [ ص: 126 ] الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ عَيْنُ الِاسْمِ ، فَصَارَتَا فِي اللَّفْظِ لَامًا وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً ، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَمَّا " الرَّحْمَنُ " ، فَهُوَ فَعْلَانُ ، مِنْ رَحِمَ ، وَ "الرَّحِيمُ " فَعِيلٌ مِنْهُ . وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تَبْنِي الْأَسْمَاءَ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " عَلَى "فَعْلَانِ " ، كَقَوْلِهِمْ مِنْ غَضِبَ : غَضْبَانُ ، وَمَنْ سَكِرَ : سَكْرَانُ ، وَمِنْ عَطِشَ : عَطْشَانُ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ "رَحْمَنُ " مِنْ رَحِمَ ، لِأَنَّ "فَعِلَ " مِنْهُ : رَحِمَ يَرْحَمُ . وَقِيلَ "رَحِيمٌ " ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ "فَعِلَ " مِنْهَا مَكْسُورَةً ، لِأَنَّهُ مَدْحٌ . وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يَحْمِلُوا أَبْنِيَةَ الْأَسْمَاءِ - إِذَا كَانَ فِيهَا مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ - عَلَى "فَعِيلٍ " ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ "فَعِلَ " مِنْهَا مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً ، كَمَا قَالُوا مِنْ "عَلِمَ " عَالِمٌ وَعَلِيمٌ ، وَمِنْ "قَدَرَ " قَادِرٌ وَقَدِيرٌ . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى أَفْعَالِهَا ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " وَ "فَعَلَ يَفْعِلُ " فَاعِلٌ . فَلَوْ كَانَ "الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ " خَارِجَيْنِ عَلَى بِنَاءِ أَفْعَالِهِمَا لَكَانَتْ صُورَتُهُمَا "الرَّاحِمَ " .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ اسْمَيْنِ مُشْتَقَّيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ ، فَمَا وَجْهُ تَكْرِيرِ ذَلِكَ ، وَأَحَدُهُمَا مُؤَدٍّ عَنْ مَعْنَى الْآخَرِ ؟
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ ، بَلْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهُمَا مَعْنًى لَا تُؤَدِّي الْأُخْرَى مِنْهُمَا عَنْهَا .
فَإِنْ قَالَ : وَمَا الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَتْ بِهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَصَارَتْ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ مُؤَدِّيَةٍ الْمَعْنَى عَنِ الْأُخْرَى ؟
قِيلَ : أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ ، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : "الرَّحْمَنُ " - عَنْ أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ [ ص: 127 ] مِنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " - أَشَدُّ عُدُولًا مِنْ قَوْلِهِ "الرَّحِيمُ " . وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، أَنَّ كُلَّ اسْمٍ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي "فَعِلَ يَفْعَلُ " - ثُمَّ كَانَ عَنْ أَصْلِهِ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " أَشَدَّ عُدُولًا - أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ مُفَضَّلٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِالِاسْمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِهِ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " ، إِذَا كَانَتِ التَّسْمِيَةُ بِهِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا . فَهَذَا مَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ "الرَّحْمَنُ " ، مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ "الرَّحِيمُ " فِي اللُّغَةِ .
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ وَالْخَبَرِ ، فَفِيهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ اخْتِلَافٌ : -
146 - فَحَدَّثَنِي السُّرِّيُّ بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْعَرْزَمِيَّ يَقُولُ : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، قَالَ : الرَّحْمَنُ بِجَمِيعِ الْخَلْقِ ، "الرَّحِيمُ" قَالَ : بِالْمُؤْمِنِين َ .
147 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - يَعْنِي الْخُدْرِيَّ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ : الرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا ، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ " .
فَهَذَانِ الْخَبِرَانِ قَدْ أَنْبَآ عَنْ فَرْقٍ مَا بَيْنَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "رَحْمَنُ " ، وَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "رَحِيمٌ " ، وَاخْتِلَافُ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ - وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْفَرْقِ ، فَدَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ، وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ .
فَإِنْ قَالَ : فَأَيُّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْن ِ أَوْلَى عِنْدَكَ بِالصِّحَّةِ ؟ [ ص: 128 ]
قِيلَ : لِجَمِيعِهِمَا عِنْدَنَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ قَائِلٍ : أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ بِالرَّحْمَنِ ، دُونَ الَّذِي فِي تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحِيمِ : هُوَ أَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحْمَنِ مَوْصُوفٌ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ جَمِيعَ خَلْقِهِ ، وَأَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحِيمِ مَوْصُوفٌ بِخُصُوصِ الرَّحْمَةِ بَعْضَ خَلْقِهِ ، إِمَّا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ ، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ . فَلَا شَكَّ - إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - أَنَّ ذَلِكَ الْخُصُوصَ الَّذِي فِي وَصْفِهِ بِالرَّحِيمِ لَا يَسْتَحِيلُ عَنْ مَعْنَاهُ ، فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ أَوْ فِي الْآخِرَةِ ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا .
فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ - وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ خَصَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِمَا لَطَفَ بِهِمْ مِنْ تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِطَاعَتِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ ، مِمَّا خُذِلَ عَنْهُ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ ، وَكَفَرَ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَرَكِبَ مَعَاصِيَهُ; وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، مَا أَعَدَّ فِي آجِلِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْفَوْزِ الْمُبِينِ ، لِمَنْ آمَنَ بِهِ ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ ، وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ ، خَالِصًا ، دُونَ مَنْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ بِهِ - كَانَ بَيِّنًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، مَعَ مَا قَدْ عَمَّهُمْ بِهِ وَالْكُفَّارَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى جَمِيعِهِمْ ، فِي الْبَسْطِ فِي الرِّزْقِ ، وَتَسْخِيرِ السَّحَابِ بِالْغَيْثِ ، وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ ، وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَالْعُقُولِ ، وَسَائِرِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى ، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ .
فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ رَحْمَنُ جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَرَحِيمُ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَأَمَّا الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ فَكَانَ رَحْمَانًا لَهُمْ بِهِ ، فَمَا ذَكَرْنَا مَعَ نَظَائِرِهِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِحْصَائِهَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 34 ، وَسُورَةُ النَّحْلِ : 18 ] .
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ ، فَالَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ ، فَكَانَ لَهُمْ رَحْمَانًا ، تَسْوِيَتُهُ [ ص: 129 ] بَيْنَ جَمِيعِهِمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي عَدْلِهِ وَقَضَائِهِ ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ . فَذَلِكَ مَعْنَى عُمُومِهِ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحْمَانًا فِي الْآخِرَةِ .
وَأَمَّا مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ فِيهَا ، كَمَا قَالَ جُلَّ ذِكْرِهِ : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيمًا ) [ سُورَةُ الْأَحْزَابِ : 43 ] فَمَا وَصَفْنَا مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ ، فَخَصَّهُمْ بِهِ ، دُونَ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ .
وَأَمَّا مَا خَصَّهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَكَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ دُونَ الْكَافِرِينَ ، فَمَا وَصَفْنَا آنِفًا مِمَّا أَعَدَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ ، وَالْكَرَامَةِ الَّتِي تَقْصُرُ عَنْهَا الْأَمَانِيُّ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي تَأْوِيلِهِ فَهُوَ مَا : -
148 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : الرَّحْمَنُ ، الْفِعْلَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ . قَالَ : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ : الرَّقِيقُ الرَّفِيقُ بِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْحَمَهُ ، وَالْبَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْنُفَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي بِهِ رَبُّنَا رَحْمَنُ ، هُوَ الَّذِي بِهِ رَحِيمٌ ، وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ "الرَّحْمَنِ " مِنَ الْمَعْنَى ، مَا لَيْسَ لِقَوْلِهِ "الرَّحِيمِ " . لِأَنَّهُ جَعَلَ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ " بِمَعْنَى الرَّقِيقِ عَلَى مَنْ رَقَّ عَلَيْهِ ، وَمَعْنَى "الرَّحِيمِ " بِمَعْنَى الرَّفِيقِ بِمَنْ رَفُقَ بِهِ .
وَالْقَوْلُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْنَاهُ عَنِ الْعَرْزَمِيِّ ، أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَإِنْ [ ص: 130 ] كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا مَعْنَاهُ مَعْنَى ذَلِكَ ، فِي أَنَّ لِلرَّحْمَنِ مِنَ الْمَعْنَى مَا لَيْسَ لِلرَّحِيمِ ، وَأَنَّ لِلرَّحِيمِ تَأْوِيلًا غَيْرَ تَأْوِيلِ الرَّحْمَنِ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا : -
149 - حَدَّثَنِي بِهِ عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ نَصْرُ بْنُ عَمْرٍو اللَّخْمِيُّ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيّ َ يَقُولُ : كَانَ الرَّحْمَنُ ، فَلَمَّا اخْتَزَلَ الرَّحْمَنُ مِنِ اسْمِهِ كَانَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ .
وَالَّذِي أَرَادَ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، عَطَاءٌ بِقَوْلِهِ هَذَا : أَنَّ الرَّحْمَنَ كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَتَسَمَّى بِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ، فَلَمَّا تَسَمَّى بِهِ الْكَذَّابُ مُسَيْلِمَةُ - وَهُوَ اخْتِزَالُهُ إِيَّاهُ ، يَعْنِي اقْتِطَاعَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ لِنَفْسِهِ - أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ اسْمَهُ "الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " لِيَفْصِلَ بِذَلِكَ لِعِبَادِهِ اسْمَهُ مِنِ اسْمِ مَنْ قَدْ تَسَمَّى بِأَسْمَائِهِ ، إِذْ كَانَ لَا يُسَمَّى أَحَدٌ "الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ " ، فَيُجْمَعُ لَهُ هَذَانِ الِاسْمَانِ ، غَيْرَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ . وَإِنَّمَا يَتَسَمَّى بَعْضُ خَلْقِهِ إِمَّا رَحِيمًا ، أَوْ يَتَسَمَّى رَحْمَنَ . فَأَمَّا "رَحْمَنُ رَحِيمٌ " ، فَلَمْ يَجْتَمِعَا قَطُّ لِأَحَدٍ سِوَاهُ ، وَلَا يُجْمَعَانِ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ . فَكَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ هَذَا : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا فَصَلَ بِتَكْرِيرِ الرَّحِيمِ عَلَى الرَّحْمَنِ ، بَيْنَ اسْمِهِ وَاسْمِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ ، اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا أَوِ اتَّفَقَا .
وَالَّذِي قَالَ عَطَاءٌ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ فَاسِدِ الْمَعْنَى ، بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَصَّ نَفْسَهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِهِمَا مَعًا مُجْتَمِعَيْنَ ، إِبَانَةً لَهَا مِنْ خَلْقِهِ ، لِيَعْرِفَ عِبَادُهُ بِذِكْرِهِمَا مَجْمُوعَيْنِ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِهِمَا دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ ، مَعَ مَا فِي تَأْوِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ فِي الْآخَرِ مِنْهُمَا . [ ص: 131 ]
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ "الرَّحْمَنَ " ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي لُغَتِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) [ سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 60 ] ، إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِهَذَا الِاسْمِ ، كَأَنَّهُ كَانَ مُحَالًا عِنْدَهُ أَنْ يُنْكِرَ أَهْلُ الشِّرْكِ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّتِهِ ، أَوْ : لَا ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتْلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَوْلَ اللَّهِ ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ) - يَعْنِي مُحَمَّدًا - ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 146 ] وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِهِ مُكَذِّبُونَ ، وَلِنُبُوَّتِهِ جَاحِدُونَ! فَيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُدَافِعُونَ حَقِيقَةً مَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ ، وَاسْتَحْكَمَتْ لَدَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ . وَقَدْ أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ :
أَلَا ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا أَلَا قَضَبَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا
وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ السَّعْدِيُّ :
عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ وَيُطْلِقُ
[ ص: 132 ]
وَقَدْ زَعَمَ أَيْضًا بَعْضُ مَنْ ضَعُفَتْ مَعْرِفَتُهُ بِتَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ، وَقَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ، أَنَّ "الرَّحْمَنَ " مَجَازُهُ : ذُو الرَّحْمَةِ ، وَ "الرَّحِيمَ " مَجَازُهُ : الرَّاحِمُ ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ يُقَدِّرُونَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ، وَذَلِكَ لِاتِّسَاعِ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ . قَالَ : وَقَدْ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا : نَدْمَانُ وَنَدِيمٌ ، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ بِبَيْتِ بُرْجِ بْنِ مُسْهِرٍ الطَّائِيِّ :
وَنَدْمَانٍ يَزِيدُ الْكَأَسَ طِيبًا ، سَقَيْتُ وَقَدْ تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ
وَاسْتَشْهَدَ بِأَبْيَاتِ نَظَائِرِهِ فِي النَّدِيمِ وَالنَّدْمَانِ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ فِي التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ : الرَّحْمَنُ ذُو الرَّحْمَةِ ، وَالرَّحِيمُ الرَّاحِمُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ بَيَانَ تَأْوِيلِ مَعْنَيَيْهِمَا عَلَى صِحَّتِهِ . ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِاللَّفْظَيْنِ يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، فَعَادَ إِلَى مَا قَدْ جَعَلَهُ بِمَعْنَيَيْنِ ، فَجَعَلَهُ مِثَالَ مَا هُوَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَا الرَّحْمَةِ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّ لَهُ الرَّحْمَةَ ، وَصَحَّ أَنَّهَا لَهُ صِفَةٌ; وَأَنَّ الرَّاحِمَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ سَيَرْحَمُ ، أَوْ قَدْ رَحِمَ فَانْقَضَى ذَلِكَ مِنْهُ ، أَوْ هُوَ فِيهِ .
وَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنَّ الرَّحْمَةَ لَهُ صِفَةٌ ، كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَهُ صِفَةٌ ، إِذَا وُصِفَ بِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ . فَأَيْنَ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " عَلَى تَأْوِيلِهِ ، مِنْ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ تَأْتِيَانِ مُقَدَّرَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَاتِّفَاقِ الْمَعَانِي ؟ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ إِذَا كَانَ غَيْرَ أَصْلٍ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ ، كَانَ وَاضِحًا عَوَارُهُ .
وَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَلِمَ قَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهُ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنُ " ، وَاسْمَهُ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنُ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمُ " ؟
قِيلَ : لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ ، إِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ مُخْبَرٍ عَنْهُ ، أَنْ يُقَدِّمُوا اسْمَهُ ، ثُمَّ يُتْبِعُوهُ صِفَاتِهِ وَنُعُوتَهُ . وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْحُكْمِ : أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُقَدَّمًا قَبْلَ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُ الْخَبَرَ ، عَمَّنِ الْخَبَرُ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - [ ص: 133 ] وَكَانَ لِلَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَسْمَاءٌ قَدْ حَرَّمَ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَتَسَمَّوْا بِهَا ، خَصَّ بِهَا نَفْسَهُ دُونَهُمْ ، وَذَلِكَ مِثْلُ "اللَّهِ " وَ "الرَّحْمَنِ " وَ "الْخَالِقِ "; وَأَسْمَاءٌ أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يُسَمِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا ، وَذَلِكَ : كَالرَّحِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالْكَرِيمِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ - كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تُقَدَّمَ أَسْمَاؤُهُ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، لِيَعْرِفَ السَّامِعُ ذَلِكَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَمْدُ وَالتَّمْجِيدُ ، ثُمَّ يُتْبِعُ ذَلِكَ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي قَدْ تَسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ ، بَعْدَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَوِ السَّامِعِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ مَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي . فَبَدَأَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ لِأَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، لَا مِنْ جِهَةِ التَّسَمِّي بِهِ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى "اللَّهِ " تَعَالَى ذِكْرُهُ الْمَعْبُودُ ، وَلَا مَعْبُودَ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَأَنَّ التَّسَمِّيَ بِهِ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَإِنْ قَصَدَ الْمُتَسَمِّي بِهِ مَا يَقْصِدُ الْمُتَسَمِّي بِسَعِيدٍ وَهُوَ شَقِيٌّ ، وَبِحَسَنٍ وَهُوَ قَبِيحٌ .
أَوَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ قَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ : ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) فَاسْتَكْبَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُقِرِّ بِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي خُصُوصِهِ نَفْسَهُ بِاللَّهِ وَبِالرَّحْمَنِ : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوَا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 110 ] . ثُمَّ ثَنَّى بِاسْمِهِ ، الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ ، إِذْ كَانَ قَدْ مَنَعَ أَيْضًا خَلْقَهُ التَّسَمِّيَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ قَدْ يَسْتَحِقُّ تَسْمِيَتَهُ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ وَصْفُ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ دُونَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ ، بِبَعْضِ صِفَاتِ الرَّحْمَةِ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ الْأُلُوهِيَّةِ أَحَدٌ دُونَهُ . فَلِذَلِكَ جَاءَ الرَّحْمَنُ ثَانِيًا لِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهِ " .
وَأَمَّا اسْمُهُ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمِ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِمَّا هُوَ جَائِزٌ وَصْفُ غَيْرِهِ بِهِ . وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ، فَكَانَ - إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا - وَاقِعًا مَوَاقِعَ نُعُوتِ الْأَسْمَاءِ اللَّوَاتِي هُنَّ تَوَابِعُهَا ، بَعْدَ تَقَدُّمِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهَا . فَهَذَا وَجْهُ تَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ [ ص: 133 ] الَّذِي هُوَ "اللَّهِ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنِ " ، وَاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنِ " عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمِ " .
وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ فِي "الرَّحْمَنِ " مِثْلَ مَا قُلْنَا ، أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي مَنَعَ التَّسَمِّيَ بِهَا الْعِبَادَ .
150 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ ، عَنْ عَوْفٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : "الرَّحْمَنِ " اسْمٌ مَمْنُوعٌ .
مَعَ أَنَّ فِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ مَنْعِ التَّسَمِّي بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ ، مَا يُغْنِي عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة
الحلقة (11)
صــ 135إلى صــ 146
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) :
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَعْنَى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) : الشُّكْرُ خَالِصًا لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ ، وَدُونَ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ ، بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْعَدَدُ ، وَلَا يُحِيطُ بِعَدَدِهَا غَيْرُهُ أَحَدٌ ، فِي تَصْحِيحِ الْآلَاتِ لِطَاعَتِهِ ، وَتَمْكِينِ جَوَارِحِ أَجْسَامِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ ، مَعَ مَا بَسَطَ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ ، وَغَذَّاهُمْ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْعَيْشِ ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَمَعَ مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ ، مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دَوَامِ الْخُلُودِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ . فَلِرَبِّنَا الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا .
وَبِمَا ذَكَرَنَا مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِ رَبِّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ، جَاءَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : -
151 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا : قُلْ يَا مُحَمَّدُ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " : هُوَ الشُّكْرُ لِلَّهِ ، وَالِاسْتِخْذَا ءُ لِلَّهِ ، وَالْإِقْرَارُ بِنِعْمَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَابْتِدَائِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ . [ ص: 136 ]
152 - وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا قُلْتَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ ، فَزَادَكَ . [ ص: 137 ]
قَالَ : وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْحُسْنَى ، وَقَوْلُهُ : "الشُّكْرُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَأَيَادِيهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، مِنْ أَيِّ مَعْنَيَيِ الثَّنَاءِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ذَلِكَ .
153 - حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي السَّلُولِيُّ ، عَنْ كَعْبٍ ، قَالَ : مَنْ قَالَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، فَذَلِكَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ .
154 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْخَرَّازُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الْقُرْقُسَانِي ُّ ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنِ الْأُسُودِ بْنِ سَرِيعٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْحَمْدُ ، مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " . [ ص: 138 ]
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنَ الْحُكْمِ ، لِقَوْلِ الْقَائِلِ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا " - بِالصِّحَّةِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ - إِذْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ صَحِيحًا - أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ قَدْ يُنْطَقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ ، وَأَنَّ الشُّكْرَ قَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْحَمْدِ . لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا " ، فَيَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " مَصْدَرُ : "أَشْكُرُ " ، لِأَنَّ الشُّكْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى الْحَمْدِ ، كَانَ خَطَأً أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْحَمْدِ غَيْرُ مَعْنَاهُ وَغَيْرُ لَفْظِهِ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَمَا وَجْهُ إِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ ؟ وَهَلَّا قِيلَ : حَمْدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟
قِيلَ : إِنَّ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ ، مَعْنًى لَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ "حَمْدًا " ، بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ . وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَهُمَا فِي الْحَمْدِ مُنْبِئٌ عَنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : جَمِيعُ الْمَحَامِدِ وَالشُّكْرُ الْكَامِلُ لِلَّهِ . وَلَوْ أُسْقِطَتَا مِنْهُ لَمَا دَلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ حَمْدَ قَائِلِ ذَلِكَ لِلَّهِ ، دُونَ الْمَحَامِدِ كُلِّهَا . إِذْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : "حَمْدًا لِلَّهِ " أَوْ "حَمْدٌ لِلَّهِ " : [ ص: 139 ] أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا ، وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ الْعَالَمِينَ ) ، تَالِيًا سُورَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ : أَحْمَدُ اللَّهَ ، بَلِ التَّأْوِيلُ فِي ذَلِكَ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ ، مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ بِأُلُوهِيَّتِه ِ وَإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا كِفَاءَ لَهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَالْعَاجِلِ وَالْآجِلِ .
وَلِذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى ، تَتَابَعَتْ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَمْدِ مِنَ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) دُونَ نَصْبِهَا ، الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى تَالِيهِ كَذَلِكَ : أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا . وَلَوْ قَرَأَ قَارِئُ ذَلِكَ بِالنَّصْبِ ، لَكَانَ عِنْدِي مُحِيلًا مَعْنَاهُ ، وَمُسْتَحِقًّا الْعُقُوبَةَ عَلَى قِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ ، إِذَا تَعَمَّدَ قِرَاءَتَهُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِخَطَئِهِ وَفَسَادِ تَأْوِيلِهِ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ؟ أَحَمِدَ اللَّهُ نَفْسَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَأَثْنَى عَلَيْهَا ، ثُمَّ عَلَّمْنَاهُ لِنَقُولَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِذًا ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وَهُوَ عَزَّ ذِكْرُهُ مَعْبُودٌ لَا عَابِدٌ ؟ أَمْ ذَلِكَ مِنْ قِيلِ جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلَّهِ كَلَامًا .
قِيلَ : بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ حَمِدَ نَفْسَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهَا بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ، ثُمَّ عَلَّمَ ذَلِكَ عِبَادَهُ ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ تِلَاوَتَهُ ، اخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ وَابْتِلَاءً ، فَقَالَ لَهُمْ قُولُوا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَقُولُوا : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) . فَقَوْلُهُ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) مِمَّا عَلَّمَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ يَقُولُوهُ وَيَدِينُوا لَهُ بِمَعْنَاهُ ، وَذَلِكَ مَوْصُولٌ بِقَوْلِهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَكَأَنَّهُ قَالَ : قُولُوا هَذَا وَهَذَا .
فَإِنْ قَالَ : وَأَيْنَ قَوْلُهُ : "قُولُوا " ، فَيَكُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا ادَّعَيْتَ ؟
قِيلَ : قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ شَأْنِهَا - إِذَا عَرَفَتْ مَكَانَ الْكَلِمَةِ ، [ ص: 140 ] وَلَمْ تَشُكَّ أَنَّ سَامِعَهَا يَعْرِفُ ، بِمَا أَظْهَرَتْ مِنْ مَنْطِقِهَا ، مَا حَذَفَتْ - حَذْفُ مَا كَفَى مِنْهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْطِقِهَا ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي حُذِفَتْ ، قَوْلًا أَوْ تَأْوِيلَ قَوْلٍ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَأَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَكُونُ رَمْسًا إِذَا سَارَ النَّوَاعِجُ لَا يَسِيرُ
فَقَالَ السَّائِلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ ؟ فَقَالَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ : وَزِيرُ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يُرِيدُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ : الْمَيِّتُ وَزِيرٌ ، فَأَسْقَطَ الْمَيِّتَ ، إِذْ كَانَ قَدْ أَتَى مِنَ الْكَلَامِ بِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ :
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ : وَحَامِلًا رُمْحًا ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ ، اكْتُفِيَ بِمَا قَدْ ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ ، عَنْ إِظْهَارِ مَا حُذِفَ مِنْهُ . وَقَدْ يَقُولُونَ لِلْمُسَافِرِ إِذَا وَدَّعُوهُ : "مُصَاحَبًا مُعَافًى " ، يَحْذِفُونَ "سِرْ ، وَاخْرُجْ " ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ ، وَإِنْ أَسْقَطَ ذِكْرَهُ .
فَكَذَلِكَ مَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، لَمَّا عُلِمَ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، [ ص: 141 ] مِنْ مَعْنَى أَمْرِهِ عِبَادَهُ ، أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ إِبْدَاءٍ مَا حُذِفَ .
وَقَدْ رَوَيْنَا الْخَبَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مُبْتَدَأً فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، وَبَيَّنَا أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا عَلَّمَ مُحَمَّدًا مَا أُمِرَ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ . وَهَذَا الْخَبَرُ يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( رَبِّ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ تَأْوِيلِ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهِ " ، فِي " بِسْمِ اللَّهِ " ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى تِكْرَارِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ( رَبِّ ) ، فَإِنَّ الرَّبَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُنْصَرِفٌ عَلَى مَعَانٍ : فَالسَّيِّدُ الْمُطَاعُ فِيهَا يُدْعَى رَبًّا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ :
وَأَهْلَكْنَ يَوْمًا رَبَّ كِنْدَةَ وَابْنَهُ وَرَبَّ مَعَدٍّ ، بَيْنَ خَبْتٍ وعَرْعَرِ
يَعْنِي بِرَبِّ كِنْدَةَ : سَيِّدَ كِنْدَةَ . وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ :
تَخُبُّ إِلَى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنَالَهُ فِدًى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي
وَالرَّجُلُ الْمُصْلِحُ لِلشَّيْءِ يُدْعَى رَبًّا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ بْنِ غَالِبٍ : [ ص: 142 ]
كَانُوا كَسَالِئَةٍ حَمْقَاءَ إِذْ حَقَنَتْ سِلَاءَهَا فِي أَدِيمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ
يَعْنِي بِذَلِكَ : فِي أَدِيمٍ غَيْرِ مُصْلَحٍ . وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ : إِنَّ فُلَانًا يَرُبُّ صَنِيعَتَهُ عِنْدَ فُلَانٍ; إِذَا كَانَ يُحَاوِلُ إِصْلَاحَهَا وَإِدَامَتَهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ :
فَكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي ، فَضِعْتُ ، رُبُوبُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : "أَفْضَتْ إِلَيْكَ " أَيْ وَصَلَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي ، فَصِرْتَ أَنْتَ الَّذِي تَرُبُّ أَمْرِي فَتُصْلِحُهُ ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ رَبَابَةِ غَيْرِكَ مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكَ عَلَيَّ ، فَضَيَّعُوا أَمْرِي وَتَرَكُوا تَفَقُّدَهُ - وَهُمُ الرُّبُوبُ : وَاحِدُهُمْ رَبٌّ . وَالْمَالِكُ لِلشَّيْءِ يُدْعَى رَبَّهُ . وَقَدْ يَتَصَرَّفُ أَيْضًا مَعْنَى "الرَّبِّ " فِي وُجُوهٍ غَيْرِ ذَلِكَ ، غَيْرَ أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ .
فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ : السَّيِّدُ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ ، وَلَا مِثْلَ فِي سُؤْدُدِهِ ، وَالْمُصْلِحُ أَمْرَ خَلْقِهِ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ ، وَالْمَالِكُ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : -
155 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا [ ص: 143 ] بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ : "يَا مُحَمَّدُ قُلْ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) " ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَقُولُ : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ - السَّمَوَاتُ كُلُّهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَالْأَرَضُونَ كُلُّهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ ، مِمَّا يُعْلَمُ وَمِمَّا لَا يُعْلَمُ . يَقُولُ : اعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ رَبَّكَ هَذَا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( الْعَالَمِينَ ) .
قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالْعَالَمُونَ جَمْعُ عَالَمٍ ، وَالْعَالَمُ : جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ ، كَالْأَنَامِ وَالرَّهْطِ وَالْجَيْشِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعَاتٌ عَلَى جِمَاعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ .
وَالْعَالَمُ اسْمٌ لِأَصْنَافِ الْأُمَمِ ، وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا عَالَمٌ ، وَأَهْلُ كُلِّ قَرْنٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا عَالَمُ ذَلِكَ الْقَرْنِ وَذَلِكَ الزَّمَانِ . فَالْإِنْسُ عَالَمٌ ، وَكُلُّ أَهْلِ زَمَانٍ مِنْهُمْ عَالَمُ ذَلِكَ الزَّمَانِ . وَالْجِنُّ عَالَمٌ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ ، كُلُّ جِنْسٍ مِنْهَا عَالَمُ زَمَانِهِ . وَلِذَلِكَ جُمِعَ فَقِيلَ : عَالَمُونَ ، وَوَاحِدُهُ جَمْعٌ ، لِكَوْنِ عَالَمِ كُلِّ زَمَانٍ مِنْ ذَلِكَ عَالَمَ ذَلِكَ الزَّمَانِ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَجَّاجِ :
فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ
فَجَعْلَهُمْ عَالَمَ زَمَانِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَاهُ ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ . [ ص: 144 ]
156 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضِّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ : السَّمَوَاتُ وَالْأَرَضُونَ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَمَا بَيْنَهُنَّ ، مِمَّا يُعْلَمُ وَلَا يُعْلَمُ .
157 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ، عَنْ شَبِيبٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) : الْجِنُّ وَالْإِنْسُ .
158 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قَالَ : رَبِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ .
159 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا قَيْسٌ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : قَوْلُهُ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قَالَ : الْجِنُّ وَالْإِنْسُ . [ ص: 145 ]
160 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَوْلُهُ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قَالَ : ابْنِ آدَمَ ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ عَالَمٌ عَلَى حِدَتِهِ .
161 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قَالَ : الْإِنْسُ وَالْجِنُّ .
162 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمَثَلِهِ .
163 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قَالَ : كُلُّ صِنْفٍ عَالَمٌ . [ ص: 146 ]
164 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قَالَ : الْإِنْسُ عَالَمٌ ، وَالْجِنُّ عَالَمٌ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَالَمٍ ، أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَالَمٍ - هُوَ يَشُكُّ - مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَلِلْأَرْضِ أَرْبَعُ زَوَايَا ، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ ثَلَاثَةُ آلَافِ عَالَمٍ وَخَمْسُمِائَةِ عَالَمٍ ، خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ .
165 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( رَبِّ الَعَالَمِينَ ) قَالَ : الْجِنُّ وَالْإِنْسُ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/28.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (2)
الحلقة (12)
صــ 147إلى صــ 154
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، فِي تَأْوِيلِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلَمْ نَحْتَجْ إِلَى الْإِبَانَةِ عَنْ وَجْهِ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، إِذْ كُنَّا لَا نَرَى أَنَّ [ ص: 147 ] "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ - آيَةٌ ، فَيَكُونَ عَلَيْنَا لِسَائِلٍ مَسْأَلَةٌ بِأَنْ يَقُولَ : مَا وَجْهُ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ مَضَى وَصْفُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، مَعَ قُرْبِ مَكَانِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مِنَ الْأُخْرَى ، وَمُجَاوَرَتِهَ ا صَاحِبَتَهَا ؟ بَلْ ذَلِكَ لَنَا حُجَّةٌ عَلَى خَطَأِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ آيَةٌ . إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، لَكَانَ ذَلِكَ إِعَادَةَ آيَةٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَفْظٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا . وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آيَتَانِ مُتَجَاوِرَتَان ِ مُكَرَّرَتَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنًى وَاحِدٍ ، لَا فَصْلَ بَيْنِهِمَا مِنْ كَلَامٍ يُخَالِفُ مَعْنَاهُ مَعْنَاهُمَا . وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِتَكْرِيرِ آيَةٍ بِكَمَالِهَا فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ ، مَعَ فُصُولٍ تَفْصِلُ بَيْنَ ذَلِكَ ، وَكَلَامٍ يُعْتَرَضُ بِهِ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمُكَرَّرَاتِ أَوْ غَيْرَ أَلْفَاظِهَا ، وَلَا فَاصِلَ بَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِنْ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، وَقَوْلِ اللَّهِ : " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، مِنْ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " .
فَإِنْ قَالَ : فَإِنَّ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " فَاصِلٌ مِنْ ذَلِكَ .
قِيلَ : قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ، وَقَالُوا : إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ ، وَإِنَّمَا هُوَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ . وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : "مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ، فَقَالُوا : إِنَّ قَوْلَهُ "مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَبْدَهُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْمُلْكِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَلِكِ ، وَبِالْمِلْكِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ " مَالِكِ " . قَالُوا : فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُجَاوِرَ وَصَفِّهِ بِالْمُلْكِ أَوِ الْمِلْكِ ، مَا كَانَ نَظِيرَ ذَلِكَ مِنَ الْوَصْفِ; وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ : "رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنْ مِلْكِهِ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ; وَأَنْ يَكُونَ مُجَاوِرَ وَصْفِهِ بِالْعَظَمَةِ وَالْأُلُوهَةِ مَا كَانَ لَهُ نَظِيرًا فِي الْمَعْنَى مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .
فَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ قَبْلَ " رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُؤَخَّرًا . وَقَالُوا : نَظَائِرُ ذَلِكَ - مِنَ التَّقْدِيمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ ، وَالْمُؤَخَّرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ - فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَفْشَى ، وَفِي مَنْطِقِهَا أَكْثَرُ ، مِنْ أَنْ يُحْصَى . مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ : [ ص: 148 ]
طَافَ الْخَيَالُ - وَأَيْنَ مِنْكَ ؟ - لِمَامَا فَارْجِعْ لِزَوْرِكَ بِالسَّلَامِ سَلَامًا
بِمَعْنَى طَافَ الْخَيَالُ لِمَامًا ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْكَ ؟ وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابِهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا ) سُورَةُ الْكَهْفِ : 1 بِمَعْنَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ - ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ - آيَةً
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : الْقُرَّاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي تِلَاوَةِ ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) . فَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ، وَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ ( مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ) بِنَصْبِ الْكَافِ . وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا حِكَايَةَ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةٌ فِي " كِتَابٍ الْقِرَاءَاتِ " ، وَأَخْبَرَنَا بِالَّذِي نَخْتَارُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ ، وَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ صِحَّةَ مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ ، فَكَرِهْنَا إِعَادَةَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، إِذْ كَانَ الَّذِي قَصَدْنَا لَهُ ، فِي كِتَابِنَا هَذَا ، الْبَيَانَ عَنْ وُجُوهِ تَأْوِيلِ آيِ الْقُرْآنِ ، دُونَ وُجُوهِ قِرَاءَتِهَا .
وَلَا خِلَافَ بَيْنِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ ، أَنَّ الْمَلِكَ مِنْ "الْمُلْكِ " [ ص: 149 ] مُشْتَقٌّ ، وَأَنَّ الْمَالِكَ مِنْ "الْمِلْكِ " مَأْخُوذٌ . فَتَأْوِيلُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ : ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، أَنَّ لِلَّهِ الْمُلْكَ يَوْمَ الدِّينِ خَالِصًا دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مُلُوكًا جَبَابِرَةً يُنَازِعُونَهُ الْمُلْكَ ، وَيُدَافِعُونَه ُ الِانْفِرَادَ بِالْكِبْرِيَاء ِ وَالْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْجَبْرِيَّة ِ . فَأَيْقَنُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمَ الدِّينِ أَنَّهُمُ الصَّغَرَةُ الْأَذِلَّةُ ، وَأَنَّ لَهُ - مِنْ دُونِهِمْ ، وَدُونَ غَيْرِهِمْ - الْمُلْكَ وَالْكِبْرِيَاء َ ، وَالْعِزَّةَ وَالْبَهَاءَ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) سُورَةُ غَافِرٍ : 16 . فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ يَوْمَئِذٍ بِالْمُلْكِ دُونَ مُلُوكِ الدُّنْيَا ، الَّذِينَ صَارُوا يَوْمَ الدِّينِ مِنْ مُلْكِهِمْ إِلَى ذِلَّةٍ وَصَغَارٍ ، وَمِنْ دُنْيَاهُمْ فِي الْمَعَادِ إِلَى خَسَارٍ .
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فَمَا : -
166 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، يَقُولُ : لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَهُ حُكْمًا كَمِلْكِهِمْ فِي الدُّنْيَا . ثُمَّ قَالَ : ( لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) سُورَةُ النَّبَأِ : 38 وَقَالَ : ( وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) سُورَةُ طَهَ : 108 . وَقَالَ : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 28 .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْن ِ بِالْآيَةِ ، وَأَصَحُّ الْقِرَاءَتَيْن ِ فِي التِّلَاوَةِ عِنْدِي ، [ ص: 150 ] التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ "مَلِكِ " بِمَعْنَى "الْمُلْكِ " . لِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ بِالِانْفِرَادِ بِالْمُلْكِ ، إِيجَابًا لِانْفِرَادِهِ بِالْمِلْكِ ، وَفَضِيلَةَ زِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنْ لَا مَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مَالِكٌ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَالِكُ لَا مَلِكًا .
وَبَعْدُ ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ ، قَدْ أَخْبَرَ عِبَادَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ قَوْلِهِ ( مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ ) أَنَّهُ مَالِكُ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَسَيِّدُهُمْ ، وَمُصْلِحِهِمْ ، وَالنَّاظِرُ لَهُمْ ، وَالرَّحِيمُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، بِقَوْلِهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .
وَإِذْ كَانَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدْ أَنْبَأَهُمْ عَنْ مِلْكِهِ [ ص: 151 ] إِيَّاهُمْ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، فَأُولَى الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ يَتْبَعَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَحْوِهِ قَوْلُهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، مَعَ قُرْبِ مَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْمُوَاصَلَةِ وَالْمُجَاوَرَة ِ ، إِذْ كَانَتْ حِكْمَتُهُ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا حِكْمَةٌ ، وَكَانَ فِي إِعَادَةِ وَصْفِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِأَنَّهُ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، إِعَادَةُ مَا قَدْ مَضَى مِنْ وَصْفِهِ بِهِ فِي قَوْلِهِ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، مَعَ تَقَارُبِ الْآيَتَيْنِ وَتَجَاوُزِ الصِّفَتَيْنِ . وَكَانَ فِي إِعَادَةِ ذَلِكَ تَكْرَارُ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ بِمَعَانٍ مُتَّفِقَةٍ ، لَا تُفِيدُ سَامِعَ مَا كُرِّرَ مِنْهُ فَائِدَةً بِهِ إِلَيْهَا حَاجَةٌ . وَالَّذِي لَمَّ يَحْوِهِ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ مَا قَبْلَ قَوْلِهِ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ : ( مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ ) ، وَهُوَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ الْمَلِكُ .
فَبَيِّنٌ إِذًا أَنَّ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْن ِ بِالصَّوَابِ ، وَأَحَقُّ التَّأْوِيلَيْن ِ بِالْكِتَابِ ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، بِمَعْنَى إِخْلَاصُ الْمُلْكِ لَهُ يَوْمَ الدِّينِ ، دُونَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) الَّذِي بِمَعْنَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ وَفَصْلَ الْقَضَاءِ ، مُتَفَرِّدًا بِهِ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ .
فَإِنَّ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) نَبَّأَ عَنْ مِلْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ ، يُوجِبُ وَصْلَ ذَلِكَ بِالنَّبَأِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ : مَنْ مَلَكَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ مِلْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) - فَقَدْ أَغْفَلَ وَظَنَّ خَطَأً .
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِظَانٍّ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ قَوْلَهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) مَحْصُورٌ مَعْنَاهُ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ رُبُوبِيَّةِ عَالَمِ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمِ الْآخِرَةِ ، مَعَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنًى ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ ، أَوْ فِي خَبَرٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مَنْقُولٍ ، أَوْ بِحُجَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْمَعْقُولِ - لَجَازَ لِآخَرَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ مَحْصُورٌ عَلَى عَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، دُونَ سَائِرِ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْعَالَمِينَ . إِذْ كَانَ صَحِيحًا بِمَا قَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْبَيَانِ ، أَنَّ عَالَمَ كُلِّ زَمَانٍ غَيْرَ عَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي بَعْدَهُ .
فَإِنْ غَبِيَ - عَنْ عِلْمِ صِحَّةِ ذَلِكَ بِمَا قَدْ قَدَّمْنَا - ذُو غَبَاءٍ ، فَإِنَّ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) سُورَةُ الْجَاثِيَةِ : 16 دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ عَالَمَ كُلِّ زَمَانٍ ، غَيْرُ عَالِمِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ، وَعَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي بَعْدَهُ ، إِذْ كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ فَضَّلَ أُمَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ ، وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) الْآيَةُ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 110 . فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا لَمْ يَكُونُوا - مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ ، بَلْ كَانَ أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَبَعْدَهُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ، الْمُؤْمِنُونَ بِهِ الْمُتَّبِعُونَ مِنْهَاجَهُ ، دُونَ مِنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ الضَّالَّةِ عَنْ مِنْهَاجِهِ .
وَإِذْ كَانَ بَيِّنًا فَسَادُ تَأْوِيلِ مُتَأَوِّلٍ لَوْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ [ ص: 152 ] أَنَّ اللَّهَ رَبُّ عَالَمَيْ زَمَنِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دُونَ عَالَمَيْ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ غَيْرِهِ - كَانَ وَاضِحًا فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ : رَبُّ عَالَمِ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمِ الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " اسْتَحَقَّ الْوَصْلَ بِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ مِلْكِهِمْ وَرُبُوبِيَّتِه ِمْ بِمِثْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا .
وَيُسْأَلُ زَاعِمُ ذَلِكَ ، الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُتَحَكِّمٍ مِثْلِهِ - فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، تَحَكَّمَ فَقَالَ : إِنَّهُ إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ رَبُّ عَالَمَيْ زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دُونَ عَالَمَيْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَهُ ، وَالْحَادِثَةِ بَعْدَهُ ، كَالَّذِي زَعَمَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّهُ عَنَى بِهِ عَالَمَيِ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمَيِ الْآخِرَةِ - مِنْ أَصْلٍ أَوْ دَلَالَةٍ . فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِلَّا أَلْزَمَ فِي الْآخَرِ مَثَلَهُ .
وَأَمَّا الزَّاعِمُ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) أَنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ إِقَامَةَ يَوْمِ الدِّينِ ، فَإِنَّ الَّذِي أَلْزَمْنَا قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ - لَهُ لَازِمٌ . إِذْ كَانَتْ إِقَامَةُ الْقِيَامَةِ ، إِنَّمَا هِيَ إِعَادَةُ الْخَلْقِ الَّذِينَ قَدْ بَادُوا لِهَيْئَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ الْهَلَاكِ ، فِي الدَّارِ الَّتِي أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِيهَا مَا أَعَدَّ . وُهُمُ الْعَالَمُونَ الَّذِينَ قَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ فِي قَوْلِهِ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
وَأَمَّا تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فَإِنَّهُ أَرَادَ : يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ، فَنَصَبَهُ بِنِيَّةِ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) سُورَةُ يُوسُفَ : 29 بِتَأْوِيلِ : يَا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ، وَهُوَ شِعْرٌ - فِيمَا يُقَالُ - جَاهِلِيٌّ :
إِنْ كُنْتَ أَزْنَنْتَنِي بِهَا كَذِبًا جَزْءُ ، فَلَاقَيْتَ مِثْلَهَا عَجِلَا
[ ص: 153 ]
يُرِيدُ : يَا جَزْءُ ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ :
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ لَا تَنْكِحُونَهَا بَنِي شَابَ قَرْنَاهَا تَصُرُّ وتَحْلُبُ
يُرِيدُ : يَا بَنِي شَابَ قَرْنَاهَا . وَإِنَّمَا أَوْرَطَهُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ - بِنَصْبِ الْكَافِ مِنْ "مَالِكَ " ، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ - حَيْرَتُهُ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وِجْهَتَهُ ، مَعَ جَرِّ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وَخَفْضِهِ . فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعْنَى ذَلِكَ بَعْدَ جَرِّهِ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فَنَصَبَ : "مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ " لِيَكُونَ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) لَهُ خِطَابًا . كَأَنَّهُ أَرَادَ : يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . وَلَوْ كَانَ عَلِمَ تَأْوِيلِ أَوَّلِ السُّورَةِ ، وَأَنْ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَبْدَهُ بِقِيلٍ ذَلِكَ - كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنْ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ ، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، وَقُلْ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) - وَكَانَ عَقَلَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا إِذَا حَكَتْ أَوْ أَمَرَتْ بِحِكَايَةِ خَبَرٍ يَتْلُو الْقَوْلَ ، أَنْ تُخَاطِبَ ثُمَّ تُخْبِرَ عَنْ غَائِبٍ ، وَتُخْبِرَ عَنِ الْغَائِبِ ثُمَّ تَعُودَ إِلَى الْخِطَابِ ، لِمَا فِي الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ مِنْ مَعْنَى الْغَائِبِ وَالْمُخَاطَبِ ، كَقَوْلِهِمْ لِلرَّجُلِ : قَدْ قُلْتُ لِأَخِيكَ : لَوْ قُمْتَ لَقُمْتُ ، وَقَدْ قُلْتُ لِأَخِيكَ : لَوْ قَامَ لَقُمْتُ - لَسَهُلَ عَلَيْهِ مَخْرَجُ مَا اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ وُجْهَتُهُ مِنْ جَرِّ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " . [ ص: 154 ]
وَمِنْ نَظِيرِ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " مَجْرُورًا ، ثُمَّ عَوْدِهِ إِلَى الْخِطَابِ بِ "إِيَّاكَ نَعْبُدُ " ، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ - الْبَيْتُ السَّائِرُ مِنْ شِعْرِ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ :
يَا لَهْفَ نَفْسِي كَانَ جِدَّةُ خَالِدٍ وَبَيَاضُ وَجْهِكَ لِلتُّرَابِ الْأَعْفَرِ
فَرَجْعَ إِلَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ : " وَبَيَاضُ وَجْهِكَ " ، بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى الْخَبَرُ عَنْ خَالِدٍ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ .
وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ :
بَاتَتْ تَشَكَّى إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا
فَرَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخَبَرُ عَنْهَا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ .
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ ، وَهُوَ أَصْدَقُ قِيلٍ وَأَثْبَتُ حُجَّةٍ : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) سُورَةُ يُونُسَ : 22 ، فَخَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ، وَلَمْ يَقُلْ : وَجَرَيْنَ بِكُمْ . وَالشَّوَاهِدُ مِنَ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ .
فَقِرَاءَةُ : " مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ " مَحْظُورَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى رَفْضِ الْقِرَاءَةِ بِهَا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/12/29.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (3)
الحلقة (13)
صــ 155إلى صــ 166
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( يَوْمِ الدِّينِ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالدِّينُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، بِتَأْوِيلِ الْحِسَابِ وَالْمُجَازَاةِ بِالْأَعْمَالِ ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ :
إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمْ وَدِنَّاهُمُ مِثْلَ مَا يُقْرِضُونَا
وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ :
وَاعْلَمْ وأَيْقِنْ أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَا تَدِينُ تُدَانُ
يَعْنِي : مَا تَجْزِي تُجَازَى .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) - يَعْنِي : بِالْجَزَاءِ - ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) سُورَةُ الِانْفِطَارِ : 9 ، 10 يُحْصُونَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ( فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) سُورَةُ الْوَاقِعَةِ : 86 ، يَعْنِي غَيْرَ مَجْزِيِّينَ بِأَعْمَالِكُمْ وَلَا مُحَاسَبِينَ .
وَلِلدِّينِ مَعَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، غَيْرُ مَعْنَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ ، سَنَذْكُرُهَا فِي أَمَاكِنِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ . [ ص: 156 ]
وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( يَوْمِ الدِّينِ ) جَاءَتِ الْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، مَعَ تَصْحِيحِ الشَّوَاهِدِ تَأْوِيلَهُمُ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ فِي ذَلِكَ .
167 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : ( يَوْمِ الدِّينِ ) ، قَالَ : يَوْمِ حِسَابِ الْخَلَائِقِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرًّا ، إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ ، فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ . ثُمَّ قَالَ : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 54 .
168 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ الْقَنَّادِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ) ، هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ .
169 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا [ ص: 157 ] [ ص: 158 ] [ ص: 159 ] [ ص: 160 ] مَعْمَرُ ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قَالَ : يَوْمَ يَدِينُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ .
170 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قَالَ : يَوْمَ يُدَانُ النَّاسُ بِالْحِسَابِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) : لَكَ اللَّهُمَّ نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ ، إِقْرَارًا لَكَ يَا رَبَّنَا بِالرُّبُوبِيَّ ةِ لَا لِغَيْرِكَ .
171 - كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) ، إِيَّاكَ نُوَحِّدُ وَنَخَافُ وَنَرْجُو يَا رَبَّنَا لَا غَيْرُكَ . [ ص: 161 ]
وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا . وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِهِ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ ، دُونَ الْبَيَانِ عَنْهُ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَرْجُو وَنَخَافُ - وَإِنْ كَانَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مَعَ ذِلَّةٍ - لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ ، عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ أَصِلُهَا الذِّلَّةُ ، وَأَنَّهَا تُسَمَّى الطَّرِيقَ الْمُذَلَّلَ الَّذِي قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ ، وَذَلَّلَتْهُ السَّابِلَةُ : مُعَبَّدًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ :
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
يَعْنِي بِالْمَوْرِ : الطَّرِيقَ . وَبِالْمُعَبَّد ِ : الْمُذَلَّلَ الْمَوْطُوءَ . وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْبَعِيرِ الْمُذَلَّلِ بِالرُّكُوبِ فِي الْحَوَائِجِ : مُعَبَّدٌ . وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَبْدُ عَبْدًا لِذِلَّتِهِ لِمَوْلَاهُ . وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ - مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا - أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) : وَإِيَّاكَ رَبَّنَا نَسْتَعِينُ عَلَى عِبَادَتِنَا إِيَّاكَ وَطَاعَتِنَا لَكَ وَفِي أُمُورِنَا كُلِّهَا - لَا أَحَدًا سِوَاكَ ، إِذْ كَانَ مَنْ يَكْفُرُ بِكَ يَسْتَعِينُ فِي أُمُورِهِ مَعْبُودَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ مِنَ الْأَوْثَانِ دُونَكَ ، وَنَحْنُ بِكَ نَسْتَعِينُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مُخْلِصِينَ لَكَ الْعِبَادَةَ .
172 - كَالَّذِي حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، [ ص: 162 ] قَالَ : حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، قَالَ : إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا مَعْنَى أَمْرِ اللَّهِ عِبَادَهُ بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْمَعُونَةَ عَلَى طَاعَتِهِ ؟ أَوَجَائِزٌ ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ ، أَنْ لَا يُعِينُهُمْ عَلَيْهَا ؟ أَمْ هَلْ يَقُولُ قَائِلٌ لِرَبِّهِ : إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ ، إِلَّا وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ مُعَانٌ ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّاعَةُ . فَمَا وَجْهُ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ مَا قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ؟
قِيلَ : إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الدَّاعِي رَبَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ إِيَّاهُ ، دَاعٍ أَنْ يُعِينَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى مَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ ، دُونَ مَا قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فِيمَا خَلَا مِنْ عُمْرِهِ . وَجَازَتْ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ اللَّهِ عَبْدَهُ ذَلِكَ - مَعَ تَمْكِينِهِ جَوَارِحَهُ لِأَدَاءٍ مَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهِ ، فَضْلٌ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلُطْفٌ مِنْهُ لَطَفَ لَهُ فِيهِ . وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ التَّفَضُّلَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ بِالتَّوْفِيقِ - مَعَ اشْتِغَالِ عَبْدِهِ بِمَعْصِيَتِهِ ، وَانْصِرَافِهِ عَنْ مَحَبَّتِهِ ، وَلَا فِي بَسْطِهِ فَضْلَهُ عَلَى بَعْضِهِمْ ، مَعَ إِجْهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَمُسَارَعَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ - فَسَادٌ فِي تَدْبِيرٍ ، وَلَا جَوْرٌ فِي حُكْمٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ جَاهِلٌ مَوْضِعَ حُكْمِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ عَبْدَهُ بِمَسْأَلَتِهِ عَوْنَهُ عَلَى طَاعَتِهِ .
وَفِي أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ أَنْ يَقُولُوا : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، بِمَعْنَى مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ الْمَعُونَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ ، أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّفْوِيضِ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ ، الَّذِينَ أَحَالُوا أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِأَمْرٍ ، أَوْ يُكَلِّفَهُ [ ص: 163 ] فَرْضَ عَمَلٍ ، إِلَّا بَعْدَ إِعْطَائِهِ الْمَعُونَةَ عَلَى فِعْلِهِ وَعَلَى تَرْكِهِ . وَلَوْ كَانَ الَّذِي قَالُوا مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا ، لَبَطَلَتِ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى طَاعَتِهِ . إِذْ كَانَ - عَلَى قَوْلِهِمْ ، مَعَ وُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ - حَقًّا وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِعْطَاؤُهُ الْمَعُونَةَ عَلَيْهِ ، سَأَلَهُ عَبْدُهُ أَوْ تَرَكَ مَسْأَلَةَ ذَلِكَ . بَلْ تَرْكُ إِعْطَائِهِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ جَوْرٌ . وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا ، لَكَانَ الْقَائِلُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، إِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ لَا يَجُورَ .
وَفِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَمِيعًا - عَلَى تَصْوِيبِ قَوْلِ الْقَائِلِ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ " ، وَتَخْطِئَتِهِم ْ قَوْلَ الْقَائِلِ : "اللَّهُمَّ لَا تَجُرْ عَلَيْنَا " - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى خَطَأِ مَا قَالَ الَّذِينَ وَصَفْتُ قَوْلَهُمْ . إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِ الْقَائِلِ عِنْدَهُمْ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ - اللَّهُمَّ لَا تَتْرُكْ مَعُونَتَنَا الَّتِي تَرْكُكَها جَوْرٌ مِنْكَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَكَيْفَ قِيلَ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، فَقُدِّمَ الْخَبَرُ عَنِ الْعِبَادَةِ ، وَأُخِّرَتْ مَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا بَعْدَهَا ؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ بِالْمَعُونَةِ ، فَمَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ كَانَتْ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ قَبْلَ الْمُعَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ ، وَالْعِبَادَةُ بِهَا .
قِيلَ : لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنْ الْعِبَادَةَ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ إِلَيْهَا إِلَّا بِمَعُونَةٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَكَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَابِدًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْعِبَادَةِ مُعَانٌ ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَانًا عَلَيْهَا إِلَّا وَهُوَ لَهَا فَاعِلٌ - كَانَ سَوَاءً تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ . كَمَا سَوَاءٌ قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ إِذَا قَضَى حَاجَتَكَ فَأَحْسَنَ إِلَيْكَ فِي قَضَائِهَا : "قَضَيْتَ حَاجَتِي فَأَحْسَنْتَ إِلَيَّ " ، فَقَدَّمْتَ ذِكْرَ قَضَائِهِ حَاجَتَكَ ، أَوْ قُلْتَ : أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَقَضَيْتَ حَاجَتِي " ، فَقَدَّمْتَ ذِكْرَ الْإِحْسَانِ عَلَى ذِكْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ . لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاضِيًا حَاجَتَكَ إِلَّا وَهُوَ إِلَيْكَ مُحْسِنٌ ، وَلَا مُحْسِنًا إِلَيْكَ إِلَّا وَهُوَ لِحَاجَتِكَ قَاضٍ . فَكَذَلِكَ سَوَاءٌ قَوْلُ الْقَائِلِ : اللَّهُمَّ إِنَّا إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَأَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ ، وَقَوْلُهُ : اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ فَإِنَّا إِيَّاكَ نَعْبُدُ . [ ص: 164 ]
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
ولَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي ، وَلَمْ أَطْلُبْ ، قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
يُرِيدُ بِذَلِكَ : كَفَانِي قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ وَلَمْ أَطْلُبْ كَثِيرًا . وَذَلِكَ - مِنْ مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَمِنْ مُشَابَهَةِ بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ - بِمَعْزِلٍ . مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَكْفِيهِ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَالِ وَيَطْلُبُ الْكَثِيرَ ، فَلَيْسَ وُجُودُ مَا يَكْفِيهِ مِنْهُ بِمُوجِبٍ لَهُ تَرْكَ طَلَبِ الْكَثِيرِ ، فَيَكُونَ نَظِيرَ الْعِبَادَةِ الَّتِي بِوُجُودِهَا وُجُودُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا ، وَبِوُجُودِ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا وُجُودُهَا ، فَيَكُونَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا دَالًّا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَعْتَدِلَ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ ، أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا فِي دَرَجَتِهِ وَمُرَتَّبًا فِي مَرْتَبَتِهِ .
فَإِنْ قَالَ : فَمَا وَجْهُ تَكْرَارِهِ : "إِيَّاكَ " مَعَ قَوْلِهِ : "نَسْتَعِينُ " ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ قَبْلَ "نَعْبُدُ " ؟ وَهَلَّا قِيلَ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ " ، إِذْ كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ ، هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ الْمُسْتَعَانُ ؟
قِيلَ لَهُ : إِنَّ الْكَافَ الَّتِي مَعَ " إِيَّا " ، هِيَ الْكَافُ الَّتِي كَانَتْ تَتَصِلُ بِالْفِعْلِ - أَعْنِي بِقَوْلِهِ : "نَعْبُدُ " - لَوْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً بَعْدَ الْفِعْلِ . وَهِيَ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطِبِ الْمَنْصُوبِ بِالْفِعْلِ ، فَكُثِّرَتْ بِ "إِيّا " مُتَقَدِّمَةً ، إِذْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ إِذَا انْفَرَدَتْ بِأَنْفُسِهَا لَا تَكُونُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ .
فَلَمَّا كَانَتِ الْكَافُ مِنْ " إِيَّاكَ " هِيَ كِنَايَةَ اسْمِ الْمُخَاطَبِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ كَافًا وَحْدَهَا مُتَّصِلَةً بِالْفِعْلِ إِذَا كَانَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ ، ثُمَّ كَانَ حَظُّهَا أَنْ تُعَادَ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ اتَّصَلَتْ بِهِ ، فَيُقَالُ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعْبُدُكَ وَنَسْتَعِينُكَ وَنَحْمَدُكَ وَنَشْكُرُكَ " ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْصَحَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يُقَالَ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعْبُدُكَ وَنَسْتَعِينُ وَنَحْمَدُ " - كَانَ كَذَلِكَ ، إِذَا قُدِّمَتْ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطَبِ قَبْلَ الْفِعْلِ مَوْصُولَةً بِ "إِيَّا " ، كَانَ الْأَفْصَحُ إِعَادَتَهَا مَعَ كُلِّ فِعْلٍ . كَمَا كَانَ الْفَصِيحُ مِنَ الْكَلَامِ إِعَادَتَهَا مَعَ [ ص: 165 ] كُلِّ فِعْلٍ ، إِذَا كَانَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ مُتَّصِلَةً بِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُ إِعَادَتِهَا جَائِزًا .
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُنْعِمِ النَّظَرَ أَنَّ إِعَادَةَ " إِيَّاكَ " مَعَ " نَسْتَعِينُ " ، بَعْدَ تَقَدُّمِهَا فِي قَوْلِهِ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ " ، بِمَعْنَى قَوْلِ عُدَيِّ بْنِ زَيْدٍ الْعَبَّادِيِّ :
وجَاعِلِ الشَّمسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وَبيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا
وَكَقَوْلِ أَعْشَى هَمْدَانَ :
بَيْنَ الْأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ بَاذِخٌ بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وَلِلْمَولُودِ
وَذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ جَهْلٌ ، مِنْ أَجْلِ أَنْ حَظَّ "إِيَّاكَ " أَنْ تَكُونَ مُكَرِّرَةٌ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ ، لِمَا وَصَفَنَا آنِفًا مِنَ الْعِلَّةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ " بَيْنَ " لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ - إِذِ اقْتَضَتِ اثْنَيْنِ - إِلَّا تَكْرِيرًا إِذَا أُعِيدَتْ ، إِذْ كَانَتْ لَا تَنْفَرِدُ بِالْوَاحِدِ . وَأَنَّهَا لَوْ أُفْرِدَتْ بِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ ، فِي حَالِ اقْتِضَائِهَا اثْنَيْنِ ، كَانَ الْكَلَامُ كَالْمُسْتَحِيل ِ . وَذَلِكَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : "الشَّمْسُ قَدْ فَصَلَتْ بَيْنَ النَّهَارِ " ، لَكَانَ مِنَ الْكَلَامِ خَلْفًا لِنُقْصَانِ الْكَلَامِ عَمَّا بِهِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ ، مِنْ تَمَامِهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ " بَيْنَ " .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : " اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ " ، لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا تَامًّا . فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ حَاجَةَ كُلِّ كَلِمَةٍ - كَانَتْ نَظِيرَةَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " - إِلَى " إِيَّاكَ " كَحَاجَةِ [ ص: 166 ] " نَعْبُدُ " إِلَيْهَا وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا " إِيَّاكَ " ، إِذْ كَانَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهَا جُمْلَةَ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ ، وَبَيَّنَّا حُكْمَ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ حُكْمَ " بَيْنَ " فِيمَا وَفَّقَ بَيْنَهُمَا الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (4)
الحلقة (14)
صــ 167إلى صــ 177
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( اهْدِنَا ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَنَا : وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَيْهِ ، كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : -
173 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَة ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ : " قُلْ ، يَا مُحَمَّدُ ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " . يَقُولُ : أَلْهِمْنَا الطَّرِيقَ الْهَادِيَ .
وَإِلْهَامُهُ إِيَّاهُ ذَلِكَ ، هُوَ تَوْفِيقُهُ لَهُ ، كَالَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِهِ . وَمَعْنَاهُ نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ : " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " ، فِي أَنَّهُ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ التَّوْفِيقَ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ ، وَإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ ، فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ ، دُونَ مَا قَدْ مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِ ، وَتَقَضَّى فِيمَا سَلَفَ مِنْ عُمُرِهِ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : "إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " ، مَسْأَلَةٌ مِنْهُ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى أَدَاءِ مَا قَدْ كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ ، فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ .
فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ : اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، مُخْلِصِينَ لَكَ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاكَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ ، فَأَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ ، وَوَفِّقْنَا لِمَا [ ص: 167 ] وَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبِيَائِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ ، مِنَ السَّبِيلِ وَالْمِنْهَاجِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَأَنَّى وَجَدْتَ الْهِدَايَةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ ؟
قِيلَ لَهُ : ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى عَدَدُ مَا جَاءَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ . فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
لَا تَحْرِمَنِّي ، هَدَاكَ اللَّهُ ، مَسْأَلَتِي وَلَا أكُونَنْ كَمَنْ أَوْدَى بِهِ السَّفَرُ
يَعْنِي بِهِ : وَفَّقَكَ اللَّهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِي . وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ :
وَلَا تُعْجِلَنِّي هَدَاكَ الْمَلِيكُ فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا
فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ : وَفَّقَكَ اللَّهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِي أَمْرِي .
وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ تَنْزِيلِهِ . وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ ، أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُ لِلظَّالِمِينَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ . وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ، وَقَدْ عَمَّ بِالْبَيَانِ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْ خَلْقِهِ ؟ وَلَكِنَّهُ عَنَى جَلَّ وَعَزَّ أَنَّهُ لَا يُوَفِّقُهُمْ ، وَلَا يَشْرَحُ لِلْحَقِّ وَالْإِيمَانِ صُدُورَهُمْ .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا ) : زِدْنَا هِدَايَةً .
وَلَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَنَّ قَائِلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ .
فَإِنْ كَانَ ظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ الزِّيَادَةَ فِي الْبَيَانِ ، فَذَلِكَ مَا لَا وَجْهَ لَهُ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُكَلِّفُ عَبْدًا فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهِ ، إِلَّا بَعْدَ تَبْيِينِهِ لَهُ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ . وَلَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى مَسْأَلَتِهِ الْبَيَانَ ، لَكَانَ قَدْ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا فَرَضَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ خَلْفٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَفْرِضُ فَرْضًا إِلَّا مُبَيَّنًا [ ص: 168 ] لِمَنْ فَرَضَهُ عَلَيْهِ . أَوْ يَكُونُ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ الْفَرَائِضَ الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا .
وَفِي فَسَادِ وَجْهِ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ ذَلِكَ ، مَا يُوَضِّحُ عَنْ أَنَّ مَعْنَى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، غَيْرُ مَعْنَى : بَيِّنْ لَنَا فَرَائِضَكَ وَحُدُودَكَ .
أَوْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَلَنْ تَخْلُوَ مَسْأَلَتُهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةً لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ عَمَلِهِ ، أَوْ عَلَى مَا يَحْدُثُ .
وَفِي ارْتِفَاعِ حَاجَةِ الْعَبْدِ إِلَى الْمَعُونَةِ عَلَى مَا قَدْ تَقَضَّى مِنْ عَمَلِهِ ، مَا يُعْلِمُ أَنَّ مَعْنَى مَسْأَلَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ إِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَتُهُ الزِّيَادَةَ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ عَمَلِهِ . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، صَارَ الْأَمْرُ إِلَى مَا وَصَفْنَا وَقُلْنَا فِي ذَلِكَ : مِنْ أَنَّهُ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ التَّوْفِيقَ لِأَدَاءِ مَا كُلِّفَ مِنْ فَرَائِضِهِ ، فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ .
وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ ، فَسَادُ قَوْلِ أَهْلِ الْقَدَرِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِأَمْرٍ أَوْ مُكَلَّفٍ فَرْضًا ، فَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْمَعُونَةِ عَلَيْهِ ، مَا قَدِ ارْتَفَعَتْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ حَاجَتُهُ إِلَى رَبِّهِ . لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ ، لَبَطَلَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) . وَفِي صِحَّةِ مَعْنَى ذَلِكَ ، عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَسَادُ قَوْلِهِمْ .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) : أَسْلِكْنَا طَرِيقَ الْجَنَّةِ فِي الْمَعَادِ ، أَيْ قَدِّمْنَا لَهُ وَامْضِ بِنَا إِلَيْهِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 23 ، أَيْ أَدْخِلُوهُمُ النَّارَ ، كَمَا تُهْدَى الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهَا تُدْخَلُ إِلَيْهِ ، وَكَمَا تُهْدَى الْهَدِيَّةُ إِلَى الرَّجُلِ ، وَكَمَا تَهْدِي السَّاقَ الْقَدَمُ ، نَظِيرَ قَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ : [ ص: 169 ]
لَعِبَتْ بَعْدِي السُّيُولُ بِهِ وجَرَى فِي رَوْنَقٍ رِهْمُهْ
لِلْفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهْ
أَيْ تَرِدُ بِهِ الْمَوَارِدُ .
وَفِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) مَا يُنْبِئُ عَنْ خَطَأِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، مَعَ شَهَادَةِ الْحُجَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى " الصِّرَاطَ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ : " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى عِبَادَتِهِ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " اهْدِنَا " إِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ الثَّبَاتِ عَلَى الْهُدَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ : هَدَيْتُ فُلَانًا الطَّرِيقَ ، وهَدَيْتُهُ لِلطَّرِيقِ ، وهَدَيْتُهُ إِلَى الطَّرِيقِ ، إِذَا أَرْشَدْتَهُ إِلَيْهِ وَسَدَّدْتَهُ لَهُ . وَبِكُلِّ ذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ) سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 43 ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : ( اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) سُورَةُ النَّحْلِ : 121 ، وَقَالَ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .
وَكُلُّ ذَلِكَ فَاشٍ فِي مَنْطِقِهَا ، مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهَا ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ، رَبَّ الْعِبَادِ ، إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
[ ص: 170 ]
يُرِيدُ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَنْبٍ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) سُورَةُ غَافِرٍ : 55 .
وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ بَنِي ذُبْيانَ :
فَيَصِيدُنَا الْعَيْرَ الْمُدِلَّ بِحُضْرِهِ قَبْلَ الْوَنَى وَالأَشْعَبَ النَبَّاحَا
يُرِيدُ : فَيَصِيدُ لَنَا . وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْهُ كِفَايَةٌ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ "الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " ، هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيِّ :
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقيمِ
يُرِيدُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ . وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ أَبِي ذُؤَيْبٍ :
صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى تَرَكْنَاهَا أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ
[ ص: 171 ]
وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ :
فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْقَاصِدِ
وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا غِنًى عَمَّا تَرَكْنَا .
ثُمَّ تَسْتَعِيرُ الْعَرَبُ "الصِّرَاطَ " فَتَسْتَعْمِلُه ُ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وُصِفَ بِاسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ ، فَتَصِفُ الْمُسْتَقِيمَ بِاسْتِقَامَتِه ِ ، وَالْمُعْوَجَّ بِاعْوِجَاجِهِ .
وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدِي ، أَعْنِي : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ : وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ ، مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ . لِأَنَّ مَنْ وُفِّقَ لِمَا وُفِّقَ لَهُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ ، فَقَدْ وُفِّقَ لِلْإِسْلَامِ ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَالِانْزِجَارِ عَمَّا زَجَرَهُ عَنْهُ ، وَاتِّبَاعِ مَنْهَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْهَاجِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . وَكُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ ، وَكُلِّ ذَلِكَ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ .
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . يَشْمَلُ مَعَانِيَ جَمِيعِهِمْ فِي ذَلِكَ ، مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِيهِ .
وَمِمَّا قَالَتْهُ فِي ذَلِكَ ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ ، وَذَكَرَ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ : هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ .
174 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ ، قَال : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ الْجُعْفِيُّ ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ ، عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ ، عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ ، عَنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَلَيٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . [ ص: 172 ]
175 - وحُدِّثْتُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، عَنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَلَيٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِثْلَهُ . [ ص: 173 ]
176 - وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ ، عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ ، عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ ، عَنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَلَيٍّ ، قَالَ : " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ : كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ " .
177 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - ح - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ . حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ " كِتَابُ اللَّهِ " .
178 - حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ الطَّالْقَانِيّ ُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَلَيٌّ وَالْحَسَنُ ابْنَا صَالِحٍ ، جَمِيعًا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : الْإِسْلَامُ ، قَالَ : هُوَ أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . [ ص: 174 ]
179 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : [ ص: 175 ] ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) يَقُولُ : أَلْهِمْنَا الطَّرِيقَ الْهَادِيَ ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا عِوَجَ لَهُ .
180 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَوْفٍ ، عَنِ الْفُرَاتِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : ذَلِكَ الْإِسْلَامُ .
181 - حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِلَابِيُّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ ، عَنْ أَبِي عُمَرَ الْبَزَّارِ ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادِ غَيْرَهُ .
182 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثْنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ الْقَنَّادِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيُّ - فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ - عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : هُوَ الْإِسْلَامُ
183 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : الطَّرِيقُ .
184 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ أَبُو صُدَيْفٍ الآمُلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، قَالَ : هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَصَاحِبَاهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . قَالَ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ ، فَقَالَ : صَدَقَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصَحَ [ ص: 176 ]
185 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " ، قَالَ : الْإِسْلَامُ .
186 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيُّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا " . وَالصِّرَاطُ : الْإِسْلَامُ .
187 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِي ُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِمِثْلِهِ . [ ص: 177 ]
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِقَامَ ةِ ، لِأَنَّهُ صَوَابٌ لَا خَطَأَ فِيهِ . وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ ، أَنَّهُ سَمَّاهُ مُسْتَقِيمًا ، لِاسْتِقَامَتِه ِ بِأَهْلِهِ إِلَى الْجَنَّةِ . وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ لِتَأْوِيلِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ خِلَافٌ ، وَكَفَى بِإِجْمَاعٍ جَمِيعِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلًا عَلَى خَطَئِهِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (5)
الحلقة (15)
صــ 178إلى صــ 177
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) .
وَقَوْلُهُ ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ، إِبَانَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، أَيُّ الصِّرَاطِ هُوَ ؟ إِذْ كَانَ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . فَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : اهْدِنَا يَا رَبَّنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ ، بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ ، مِنْ مَلَائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
وَذَلِكَ نَظِيرَ مَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنزِيلِهِ : [ ص: 178 ] ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُ مْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ) سُورَةُ النِّسَاءِ : 66 - 69 .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَالَّذِي أُمِرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ أَنْ يَسْأَلُوا رَبَّهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ ، هِيَ الْهِدَايَةُ لِلطَّرِيقِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُ . وَذَلِكَ الطَّرِيقُ ، هُوَ طَرِيقُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي تَنزِيلِهِ ، وَوَعَدَ مَنْ سَلَكَهُ فَاسْتَقَامَ فِيهِ طَائِعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنْ يُورِدَهُ مَوَارِدَهُمْ ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ .
وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .
188 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " يَقُولُ : طَرِيقَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، الَّذِينَ أَطَاعُوكَ وَعَبَدُوكَ .
189 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعٍ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، قَالَ : النَّبِيُّونَ .
190 - حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " قَالَ : الْمُؤْمِنِينَ .
191 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : قَالَ وَكِيعٍ : " أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، الْمُسْلِمِينَ . [ ص: 179 ]
192 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ مَعَهُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يَنَالُهَا الْمُطِيعُونَ إِلَّا بِإِنْعَامِ اللَّهِ بِهَا عَلَيْهِمْ ، وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لَهَا . أَوَ لَا يَسْمَعُونَهُ يَقُولُ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، فَأَضَافَ كُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنِ اهْتِدَاءٍ وَطَاعَةٍ وَعِبَادَةٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْعَامٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ ؟
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَأَيْنَ تَمَامُ هَذَا الْخَبَرِ ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِآخَرَ : "أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ " ، مُقْتَضٍ الْخَبَرَ عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ ، فَأَيْنَ ذَلِكَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ؟ وَمَا تِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ ؟
قِيلَ لَهُ : قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ - فِيمَا مَضَى مِنْ كُتَّابِنَا هَذَا - عَنْ إِجْرَاءِ الْعَرَبِ فِي مَنْطِقِهَا بِبَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ ، إِذَا كَانَ الْبَعْضُ الظَّاهِرُ دَالًّا عَلَى الْبَعْضِ الْبَاطِنِ وَكَافِيًا مِنْهُ . فَقَوْلُهُ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " مِنْ ذَلِكَ . لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ بِمَسْأَلَتِهِ الْمَعُونَةَ ، وَطَلَبِهِمْ مِنْهُ الْهِدَايَةَ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، لِمَا كَانَ مُتَقَدِّمًا قَوْلَهُ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، الَّذِي هُوَ إِبَانَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَإِبْدَالٌ مِنْهُ - كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى مَنْ أَمَرْنَا بِمَسْأَلَتِهِ الْهِدَايَةَ لِطَرِيقِهِمْ ، هُوَ الْمِنْهَاجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ، الَّذِي قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِهِ آنِفًا ، فَكَانَ ظَاهِرٌ مَا ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ قُرْبِ تَجَاوُرِ الْكَلِمَتَيْنِ - مُغْنِيًا عَنْ تَكْرَارِهِ .
كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ :
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
[ ص: 180 ]
يُرِيدُ : كَأَنَّكَ مِنْ جَمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ، جَمَلٌ يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ ، فَاكْتَفَى بِمَا ظَهَرَ مِنْ ذِكْرِ "الْجِمَالِ " الدَّالِّ عَلَى الْمَحْذُوفِ ، مِنْ إِظْهَارِ مَا حُذِفَ . وَكَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ بْنُ غَالِبٍ :
تَرَى أَرْبَاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا إِذَا صَدِئَ الْحَدِيدُ عَلَى الْكُمَاةِ
يُرِيدُ : مُتَقَلَّدِيهَا هُمْ ، فَحَذَفَ "هُمْ " ، إِذْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ أَرْبَاقَهُمْ ، دَالًّا عَلَيْهَا .
وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالْقَرَأَةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ " غَيْرِ " بِجَرِّ الرَّاءِ مِنْهَا . وَالْخَفْضُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ "غَيْرِ " صِفَةً لِ "الَّذِينَ " وَنَعْتًا لَهُمْ فَتَخْفِضَهَا . إِذْ كَانَ " الَّذِينَ " خَفْضًا ، وَهِيَ لَهُمْ نَعْتٌ وَصِفَةٌ . وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ " غَيْرِ " نَعْتًا لِ " الَّذِينَ " ، وَ " الَّذِينَ " مَعْرِفَةً وَ "غَيْرِ " نَكِرَةٌ ، لِأَنَّ " الَّذِينَ " بِصِلَتِهَا لَيْسَتْ بِالْمَعْرِفَةِ الْمُؤَقَّتَةِ كَالْأَسْمَاءِ [ ص: 181 ] الَّتِي هِيَ أَمَارَاتٌ بَيْنَ النَّاسِ ، مِثْلُ : زَيْدٍ وَعَمْرٍو ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; وَإِنَّمَا هِيَ كَالنَّكِرَاتِ الْمَجْهُولَاتِ ، مِثْلُ : الرَّجُلُ وَالْبَعِيرُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . فَلَمَّا كَانَ " الَّذِينَ " كَذَلِكَ صِفَتُهَا ، وَكَانَتْ "غَيْرَ " مُضَافَةٍ إِلَى مَجْهُولٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ ، نَظِيرَ " الَّذِينَ " ، فِي أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ غَيْرُ مُوَقَّتَةٍ ، كَمَا " الَّذِينَ " مَعْرِفَةٌ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ - جَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " نَعْتًا لِ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " كَمَا يُقَالُ : " لَا أَجْلِسُ إِلَّا إِلَى الْعَالِمِ غَيْرِ الْجَاهِلِ " ، يُرَادُ : لَا أَجْلِسُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَعْلَمُ ، لَا إِلَى مَنْ يَجْهَلُ .
وَلَوْ كَانَ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " مَعْرِفَةٌ مُوَقَّتَةٌ . كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " لَهَا نَعْتًا . وَذَلِكَ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ - إِذَا وَصَفْتَ مَعْرِفَةً مُؤَقَّتَةً بِنَكِرَةٍ - أَنْ تُلْزِمَ نَعْتَهَا النَّكِرَةَ إِعْرَابَ الْمَعْرِفَةِ الْمَنْعُوتِ بِهَا ، إِلَّا عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ مَا أُعْرِبَ الْمَنْعُوتُ بِهَا . خَطَأٌ فِي كَلَامِهِمْ أَنْ يُقَالَ : "مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ غَيْرِ الْعَالِمِ " ، فَتَخْفِضُ " غَيْرِ " ، إِلَّا عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ الْبَاءِ الَّتِي أَعْرَبَتْ عَبْدَ اللَّهِ . فَكَانَ مَعْنًى ذَلِكَ لَوْ قِيلَ كَذَلِكَ : مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ ، مَرَرْتُ بِغَيْرِ الْعَالَمِ . فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيِ الْخَفْضِ فِي : "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ وَجْهَيِ الْخَفْضِ فِيهَا : أَنْ يَكُونَ " الَّذِينَ " بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ الْمُؤَقَّتَةِ . وَإِذَا وُجِّهَ إِلَى ذَلِكَ ، كَانَتْ "غَيْرَ " مَخْفُوضَةٍ بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ "الصِّرَاطِ " الَّذِي خُفِضَ "الَّذِينَ " عَلَيْهَا ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ ، صِرَاطَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .
وَهَذَانَ التَّأْوِيلَانِ فِي " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، وَإِنِ اخْتَلَفَا بِاخْتِلَافِ مُعْرِبِيهِمَا ، فَإِنَّهُمَا يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا . مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهَدَاهُ لِدِينِهِ الْحَقِّ ، فَقَدْ سَلِمَ مَنْ غَضَبِ رَبِّهِ وَنَجَا مِنَ الضَّلَالِ فِي دِينِهِ .
فَسَوَاءٌ - إِذَا كَانَ سَبَبُ قَوْلِهِ : " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " [ ص: 182 ] غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَرْتَابَ ، مَعَ سَمَاعِهِ ذَلِكَ مِنْ تَالِيهِ ، فِي أَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ لِلصِّرَاطِ غَيْرُ غَاضِبٍ رَبُّهُمْ عَلَيْهِمْ ، مَعَ النِّعْمَةِ الَّتِي قَدْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ; وَلَا أَنْ يَكُونُوا ضُلَّالًا وَقَدْ هَدَاهُمُ الْحَقَّ رَبُّهُمْ . إِذْ كَانَ مُسْتَحِيلًا فِي فِطَرِهِمُ اجْتِمَاعُ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ شَخْصٍ وَالْغَضَبُ عَلَيْهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَاجْتِمَاعُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ - أَوُصِفَ الْقَوْمُ; مَعَ وَصْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ وَهِدَايَتِهِ لَهُمْ ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ ، بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ ضَالُّونَ; أَمْ لَمْ يُوصَفُوا بِذَلِكَ . لِأَنَّ الصِّفَةَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا ، قَدْ أَنْبَأَتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ وَصْفُهُمْ بِهِ .
هَذَا ، إِذَا وَجَّهْنَا " غَيْرَ " إِلَى أَنَّهَا مَخْفُوضَةٌ عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ "الصِّرَاطِ " الْخَافِضِ "الَّذِينَ " ، وَلَمْ نَجْعَلْ " غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ " مِنْ صِفَةِ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، بَلْ إِذَا حَمَّلْنَاهُمْ غَيْرَهُمْ . وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ لَا شَكَّ مُنْعَمًا عَلَيْهِمَا فِي أَدْيَانِهِمْ .
فَأَمَّا إِذَا وَجَّهْنَا " غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ " إِلَى أَنَّهَا مِنْ نَعْتِ ، " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " . فَلَا حَاجَةَ بِسَامِعِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ، إِذْ كَانَ الصَّرِيحُ مِنْ مَعْنَاهُ قَدْ أَغْنَى عَنِ الدَّلِيلِ .
وَقَدْ يَجُوزُ نَصْبُ " غَيْرَ " فِي " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، وَإِنْ كُنْتُ لِلْقِرَاءَةِ بِهَا كَارِهًا لِشُذُوذِهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ . وَإِنَّ مَا شَذَّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأُمَّةُ نَقْلًا ظَاهِرًا مُسْتَفِيضًا ، فَرَأْيٌ لِلْحَقِّ مُخَالِفٌ . وَعَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلِ الْمُسْلِمِينَ مُتَجَانِفٌ . وَإِنْ كَانَ لَهُ - لَوْ كَانَ جَائِزًا الْقِرَاءَةُ بِهِ - فِي الصَّوَابِ مَخْرَجٌ . [ ص: 183 ]
وَتَأْوِيلُ وَجْهِ صَوَابِهِ إِذَا نَصَبْتَ : أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْهَاءِ وَالْمِيمِ اللَّتَيْنِ فِي " عَلَيْهِمْ " الْعَائِدَةِ عَلَى " الَّذِينَ " . لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَخْفُوضَةً بِ " عَلَى " ، فَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ : " أَنْعَمْتَ " . فَكَأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ - إِذَا نَصَبْتَ " غَيْرَ " الَّتِي مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " - : صِرَاطَ الَّذِينَ هَدَيْتَهُمْ إِنْعَامًا مِنْكَ عَلَيْهِمْ ، غَيْرَ مَغَضُوبٍ عَلَيْهِمْ ، أَيْ لَا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ وَلَا ضَالِّينَ . فَيَكُونُ النَّصْبُ فِي ذَلِكَ حِينَئِذٍ ، كَالنَّصْبِ فِي " غَيْرَ " فِي قَوْلِكَ : مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ الْكَرِيمِ وَلَا الرَّشِيدِ ، فَتَقْطَعُ "غَيْرَ الْكَرِيمِ " مِنْ "عَبْدِ اللَّهِ " ، إِذْ كَانَ "عَبْدُ اللَّهِ " مَعْرِفَةً مُؤَقَّتَةً ، وَ "غَيْرُ الْكَرِيمِ " نَكِرَةٌ مَجْهُولَةٌ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيَّ الْبَصْرِيِّينَ يَزْعُمُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ نَصَبَ " غَيْرَ " فِي "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، عَلَى وَجْهِ اسْتِثْنَاءِ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " مِنْ مَعَانِي صِفَةِ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، كَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَعْنَى الَّذِينَ قَرَأُوا ذَلِكَ نَصْبًا : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، إِلَّا الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ - الَّذِينَ لَمْ تُنْعِمْ عَلَيْهِمْ فِي أَدْيَانِهِمْ وَلَمْ تَهْدِهِمْ لِلْحَقِّ - فَلَا تَجْعَلْنَا مِنْهُمْ . كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ :
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا ، وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلَّا أَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا
وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَة ِ الْجَلَدِ
[ ص: 184 ]
وَالْأَوَارِيُّ مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عِدَادِ "أَحَدٍ " فِي شَيْءٍ . فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ ، اسْتَثْنَى " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " مِنَ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ مَعَانِيهِمْ فِي الدِّينِ فِي شَيْءٍ .
وَأَمَّا نَحْوِيُّو الْكُوفِيِّينَ ، فَأَنْكَرُوا هَذَا التَّأْوِيلَ وَاسْتَخَفُّوهُ ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ الزَّاعِمُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، لَكَانَ خَطَأً أَنْ يُقَالَ : " وَلَا الضَّالِّينَ " .
لِأَنَّ " لَا " نَفِيٌ وَجَحْدٌ ، وَلَا يُعْطَفُ بِجَحْدٍ إِلَّا عَلَى جَحْدٍ . وَقَالُوا : لَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتِثْنَاءً يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِجَحْدٍ ، وَإِنَّمَا وَجَدْنَاهُمْ يَعْطِفُونَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِالِاسْتِثْنَا ءِ ، وَبِالْجَحْدِ عَلَى الْجَحْدِ ، فَيَقُولُونَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ : قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَخَاكَ وَإِلَّا أَبَاكَ .
وَفِي الْجَحْدِ : مَا قَامَ أَخُوكَ وَلَا أَبُوكَ . وَأَمَّا : قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَبَاكَ وَلَا أَخَاكَ . فَلَمْ نَجِدْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ . قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْدُومًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ الْقُرْآنُ بِأَفْصَحِ لِسَانِ الْعَرَبِ نُزُولُهُ ، عَلِمْنَا - إِذْ كَانَ قَوْلُهُ " وَلَا الضَّالِّينَ " مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " - أَنَّ " غَيْرَ " بِمَعْنَى الْجَحْدِ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ وَجَّهَهَا إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ خَطَأٌ .
فَهَذِهِ أَوْجُهُ تَأْوِيلِ " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، بِاخْتِلَافِ أَوْجُهِ إِعْرَابِ ذَلِكَ .
وَإِنَّمَا اعْتَرَضْنَا بِمَا اعْتَرَضْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ إِعْرَابِهِ - وَإِنْ كَانَ قَصْدُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَشْفُ عَنْ تَأْوِيلِ آيِ الْقُرْآنِ - لِمَا فِي اخْتِلَافِ وُجُوهِ إِعْرَابِ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ وُجُوهِ تَأْوِيلِهِ . فَاضْطَرَّتْنَا الْحَاجَةُ إِلَى كَشْفِ وُجُوهِ إِعْرَابِهِ ، لِتَنْكَشِفَ لِطَالِبِ تَأْوِيلِهِ وُجُوهُ تَأْوِيلِهِ ، عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَأْوِيلِهِ وَقِرَاءَتِهِ .
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِهِ وَقِرَاءَتِهِ عِنْدَنَا ، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) بِخَفْضِ الرَّاءِ مِنْ " غَيْرِ " . بِتَأْوِيلِ أَنَّهَا صِفَةٌ لِ "الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " وَنَعْتٌ لَهُمْ - لِمَا قَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْبَيَانِ - إِنْ شِئْتَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَبِتَأْوِيلِ تَكْرَارِ " صِرَاطَ " . كُلُّ ذَلِكَ صَوَابٌ حَسَنٌ . [ ص: 185 ]
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَمَنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ ، الَّذِينَ أَمَرَنَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَسْأَلَتِهِ أَنْ لَا يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ ؟
قِيلَ : هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ فَقَالَ : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) سُورَةَ الْمَائِدَةِ : 60 . فَأَعْلَمْنَا جَلَّ ذِكْرُهُ ثَمَّةَ ، مَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ بِمَعْصِيَتِهِم ْ إِيَّاهُ . ثُمَّ عَلِمْنَا ، مِنْهُ مَنَّهُ عَلَيْنَا ، وَجْهَ السَّبِيلَ إِلَى النَّجَاةِ مِنْ أَنْ يَحِلَ بِنَا مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ ، وَرَأْفَةً مِنْهُ بِنَا .
فَإِنْ قِيلَ : وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ أُولَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ وَذَكَرَ نَبَأَهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا وَصَفْتُ ؟ قِيلَ :
193 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ ، الْيَهُودُ .
194 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ . [ ص: 186 ]
195 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ مُرِّيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : سَأَلَتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " قَالَ : هُمُ الْيَهُودُ .
196 - حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ السَّامِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : أَنَّ رُجْلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى ، فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُحَاصِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ ، الْيَهُودُ
. [ ص: 187 ] 197 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ .
198 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرْنَا مَعْمَرُ ، عَنْ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ : أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى ، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ - قَالَ : الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ . وَأَشَارَ إِلَىالْيَهُودِ .
199 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ
200 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . [ ص: 188 ]
201 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، هُمُ الْيَهُودُ .
202 - حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، قَالَ : هُمْ الْيَهُودُ .
203 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ رَبِيعٍ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، قَالَ : الْيَهُودُ .
204 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " قَالَ : الْيَهُودُ .
205 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، الْيَهُودُ .
206 - حَدَّثَنِي يُونُسُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، الْيَهُودُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَاخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ :
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ ، إِحْلَالُ عُقُوبَتِهِ بِمَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ ، إِمَّا فِي دُنْيَاهُ ، وَإِمَّا فِي آخِرَتِهِ ، كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ ) سُورَةَ الزُّخْرُفِ : 55 .
وَكَمَا قَالَ : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) [ ص: 189 ] سُورَةَ الْمَائِدَةِ : 60 .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ ، ذَمٌّ مِنْهُ لَهُمْ وَلِأَفْعَالِهِ مْ ، وَشَتْمٌ لَهُمْ مِنْهُ بِالْقَوْلِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْغَضَبُ مِنْهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ ، كَالَّذِي يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِي الْغَضَبِ ، غَيْرَ أَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ - فَمُخَالِفٌ مَعْنَاهُ مِنْهُ مَعْنَى مَا يَكُونُ مِنْ غَضَبِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِينَ يُزْعِجُهُمْ وَيُحَرِّكُهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيُؤْذِيهِمْ .
لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا تَحِلُّ ذَاتَهُ الْآفَاتُ ، وَلَكِنَّهُ لَهُ صِفَةٌ ، كَمَا الْعِلْمُ لَهُ صِفَةٌ ، وَالْقُدْرَةُ لَهُ صِفَةٌ ، عَلَى مَا يُعْقَلُ مِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ ، وَإِنْ خَالَفَتْ مَعَانِي ذَلِكَ مَعَانِي عُلُومِ الْعِبَادِ ، الَّتِي هِيَ مَعَارِفُ الْقُلُوبِ ، وَقُوَاهُمُ الَّتِي تُوجَدُ مَعَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ وَتُعْدَمُ مَعَ عَدَمِهَا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (6)
الحلقة (16)
صــ 178إلى صــ 201
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَلَا الضَّالِّينَ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ " لَا " مَعَ " الضَّالِّينَ " أُدْخِلَتْ تَتْمِيمًا لِلْكَلَامِ ، وَالْمَعْنَى إِلْغَاؤُهَا ، يَسْتَشْهِدُ عَلَى قِيلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْعَجَاجِ : [ ص: 190 ]
فِي بِئْرِ حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرَ
وَيَتَأَوَّلُهُ بِمَعْنَى : فِي بِئْرِ حُورٍ سَرَى ، أَيْ فِي بِئْرِ هِلْكَةٍ ، وَأَنَّ " لَا " بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ وَالصِّلَةِ . وَيَعْتَلُ أَيْضًا لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ :
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تَسْخَرَا لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمِطَ الْقَفَنْدَرَا
وَهُوَ يُرِيدُ : فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ تَسْخَرَ وَبُقُولِ الْأَحْوَصِ :
وَيَلْحِيِنَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ لَا أُحِبَّهُ وَلِلَّهْوُ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ
يُرِيدُ : وَيَلْحِينَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ أُحِبَّهُ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ) سُورَةَ الْأَعْرَافِ : 12 ، يُرِيدُ أَنْ تَسْجُدَ . وَحُكِيَ عَنْ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ " غَيْرَ " الَّتِي " مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، أَنَّهَا بِمَعْنَى " سِوَى . فَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ كَانَ عِنْدَهُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، الَّذِينَ هُمْ سِوَى الْمَغْضُوبِ وَالضَّالِّينَ .
وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَسْتَنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّ " غَيْرَ " [ ص: 191 ] الَّتِي " مَعَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى سِوَى ، لَكَانَ خَطَأً أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا بِ " لَا " ، إِذْ كَانَتْ " لَا " لَا يُعْطَفُ بِهَا إِلَّا عَلَى جَحْدٍ قَدْ تُقَدَّمَهَا . كَمَا كَانَ خَطَأً قَوْلُ الْقَائِلِ : "عِنْدِي سِوَى أَخِيكَ وَلَا أَبِيكَ " ، لِأَنَّ سِوَى لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ النَّفْيِ وَالْجُحُودِ . وَيَقُولُ : لَمَّا كَانَ ذَلِكَ خَطَأٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ الْقُرْآنُ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الَّذِي زَعَمَهُ الْقَائِلُ : أَنَّ "غَيْرِ " مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " بِمَعْنَى : سِوَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، خَطَأٌ . إِذْ كَانَ قَدْ كَرَّ عَلَيْهِ الْكَلَامَ بِ " لَا " . وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ " غَيْرِ " هُنَالِكَ إِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْجَحْدِ . إِذْ كَانَ صَحِيحًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَفَاشِيًا ظَاهِرًا فِي مَنْطِقِهَا تَوْجِيهُ " غَيْرِ " إِلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَمُسْتَعْمِلًا فِيهِمْ : "أَخُوكَ غَيْرُ مُحْسِنٍ وَلَا مُجَمِّلٍ " ، يُرَادُ بِذَلِكَ أَخُوكَ لَا مُحْسِنٌ ، وَلَا مُجَمِّلٍ ، وَيُسْتَنْكَرُ أَنْ تَأْتِيَ " لَا " بِمَعْنَى الْحَذْفِ فِي الْكَلَامِ مُبْتَدَأً ، وَلَمَّا يَتَقَدَّمُهَا جَحْدٌ . وَيَقُولُ : لَوْ جَازَ مَجِيئُهَا بِمَعْنَى الْحَذْفِ مُبْتَدَأٌ ، قَبْلَ دَلَالَةٍ تَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ جَحْدٍ سَابِقٍ ، لَصَحَّ قَوْلُ قَائِلٍ قَالَ : "أَرَدْتُ أَنْ لَا أُكْرِمَ أَخَاكَ " ، بِمَعْنَى : أَرَدْتُ أَنْ أُكْرِمَ أَخَاكَ . وَكَانَ يَقُولُ : فَفِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى تَخْطِئَةِ قَائِلِ ذَلِكَ ، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ " لَا " لَا تَأْتِي مُبْتَدَأَةً بِمَعْنَى الْحَذْفِ ، وَلَمَّا يَتَقَدَّمْهَا جَحْدٌ . وَكَانَ يَتَأَوَّلُ فِي " لَا " الَّتِي فِي بَيْتِ الْعَجَّاجِ ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَصْرِيَّ اسْتَشْهَدَ بِهِ ، بِقَوْلِهِ : إِنَّهَا جَحْدٌ صَحِيحٌ ، وَأَنَّ مَعْنَى الْبَيْتِ : سَرَى فِي بِئْرٍ لَا تُحِيرُ عَلَيْهِ خَيْرًا ، وَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ فِيهَا أَثَرُ عَمَلٍ ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَلَا يَدْرِي بِهِ . مِنْ قَوْلِهِمْ : "طَحَنَتِ الطَّاحِنَةُ فَمَا أَحَارَتْ شَيْئًا " ، أَيْ لَمْ يُتَبَيَّنْ لَهَا أَثَرُ عَمَلٍ . وَيَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَبْيَاتِ الْأُخَرِ ، أَعْنِي مِثْلَ بَيْتِ أَبِي النَّجْمِ : :
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تَسْخَرَا
إِنَّمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ " لَا " بِمَعْنَى الْحَذْفِ ، لِأَنَّ الْجَحْدَ قَدْ تَقَدَّمَهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ، فَكَانَ الْكَلَامُ الْآخَرُ مُوَاصِلًا لِلْأَوَّلِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ ص: 192 ]
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ
فَجَازَ ذَلِكَ ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْجَحْدُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْأَوَّلِ ، إِذْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ جَحْدٍ تَقَدَّمَهُ بِ " لَا " الَّتِي مَعْنَاهَا الْحَذْفُ ، وَلَا جَائِزٌ الْعَطْفُ بِهَا عَلَى " سِوَى " ، وَلَا عَلَى حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ . وَإِنَّمَا لِ " غَيْرَ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا الِاسْتِثْنَاءُ ، وَالْآخِرُ الْجَحْدُ ، وَالثَّالِثُ سِوَى . فَإِذَا ثَبَتَ خَطَأُ " لَا " أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ مُبْتَدَأٌ ، وَفَسَدَ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى " غَيْرِ " الَّتِي مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى " إِلَّا " الَّتِي هِيَ اسْتِثْنَاءٌ ، وَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى " سِوَى " ، وَكَانَتْ " لَا " مَوْجُودَةً عَطْفًا بِالْوَاوِ الَّتِي هِيَ عَاطِفَةٌ لَهَا عَلَى مَا قَبِلَهَا - صَحَّ وَثَبَتَ أَنْ لَا وَجْهَ لِ " غَيْرِ " ، الَّتِي مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، يَجُوزُ تَوْجِيهُهَا إِلَيْهِ عَلَى صِحَّةِ إِلَّا بِمَعْنَى الْجَحْدِ وَالنَّفْيِ ، وَأَنْ لَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، إِلَّا الْعَطْفُ عَلَى " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " .
فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا - إِذْ كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا بِالَّذِي عَلَيْهِ اسْتَشْهَدْنَا - اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، لَا الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَمَنْ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ الَّذِينَ أَمَرَنَا اللَّهُ بِالِاسْتِعَاذَ ةِ بِاللَّهِ أَنْ يَسْلُكَ بِنَا سَبِيلَهُمْ ، أَوْ نَضِلَّ ضَلَالَهُمْ ؟
قِيلَ : هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ فَقَالَ : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) [ ص: 193 ] سُورَةَ الْمَائِدَةِ : 77 .
فَإِنْ قَالَ : وَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّهُمْ أُولَاءِ ؟
قِيلَ :
207 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا الضَّالِّينَ " قَالَ : النَّصَارَى .
208 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ سِمَاكٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنَّ الضَّالِّينَ : النَّصَارَى " .
209 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ مُرِّيِّ بْنِ قُطْرِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، قَالَ : النَّصَارَى هُمُ الضَّالُّونَ .
210 - حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ السَّامِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْجَرِيرِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى قَالَ : قُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ : النَّصَارَى .
211 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ . [ ص: 194 ]
212 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ ، عَنْ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ - قَالَ : هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ " ، يَعْنِي النَّصَارَى .
213 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدُ الْوَاسِطِيُّ ، عَنْ خَالِدٍ الْحِذَاءِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : الضَّالُّونَ . يَعْنِي النَّصَارَى .
214 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : " وَلَا الضَّالِّينَ " قَالَ : النَّصَارَى .
215 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " وَلَا الضَّالِّينَ " قَالَ : وَغَيْرِ طَرِيقِ النَّصَارَى الَّذِينَ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ بِفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهِ . قَالَ : يَقُولُ : فَأَلْهِمْنَا دِينَكَ الْحَقَّ ، وَهُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، حَتَّى لَا تَغْضَبَ عَلَيْنَا كَمَا غَضِبْتَ عَلَى الْيَهُودِ ، وَلَا تُضِلَّنَا كَمَا أَضْلَلْتَ النَّصَارَى فَتُعَذِّبَنَا بِمَا تُعَذِّبُهُمْ بِهِ . يَقُولُ امْنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ بِرِفْقِكَ وَرَحْمَتِكَ وَقُدْرَتِكَ .
216 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الضَّالِّينَ النَّصَارَى . [ ص: 195 ]
217 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، هُمُ النَّصَارَى .
218 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ رَبِيعٍ : "وَلَا الضَّالِّينَ " ، النَّصَارَى .
219 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : "وَلَا الضَّالِّينَ " ، النَّصَارَى .
220 - حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ . قَالَ : الضَّالِّينَ ، النَّصَارَى .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَكُلُّ حَائِدٍ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ ، وَسَالِكٍ غَيْرَ الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ ، فَضَالٌّ عِنْدَ الْعَرَبِ ، لِإِضْلَالِهِ وَجْهَ الطَّرِيقِ . فَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ النَّصَارَى ضُلَّالًا لِخَطَئِهِمْ فِي الْحَقِّ مَنْهَجَ السَّبِيلِ ، وَأَخْذِهِمْ مِنَ الدِّينِ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَوَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ ؟
قِيلَ : بَلَى!
فَإِنْ قَالَ : كَيْفَ خَصَّ النَّصَارَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَخَصَّ الْيَهُودَ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ؟
قِيلَ : كِلَّا الْفَرِيقَيْنِ ضُلَّالٌ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَسَمَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَنْ صِفَتِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا يَعْرِفُونَهُ بِهِ ، إِذَا ذَكَرَهُ لَهُمْ أَوْ أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ . وَلَمْ يُسَمِّ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا بِمَا هُوَ لَهُ صِفَةٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ زِيَادَاتٌ عَلَيْهِ .
فَيَظُنُّ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ فِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ النَّصَارَى [ ص: 196 ] بِالضَّلَالِ ، بِقَوْلِهِ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، وَإِضَافَتِهِ الضَّلَالَ إِلَيْهِمْ دُونَ إِضَافَةِ إِضْلَالِهِمْ إِلَى نَفْسِهِ ، وَتَرْكِهِ وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمُ الْمُضَلَّلُونَ ، كَالَّذِي وَصَفَ بِهِ الْيَهُودَ أَنَّهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ - دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ إِخْوَانُهُ مِنْ جَهَلَةِ الْقَدَرِيَّةِ ، جَهْلًا مِنْهُ بِسَعَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ وُجُوهِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَّهُ الْغَبِيُّ الَّذِي وَصَفْنَا شَأْنَهُ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ أَوْ مُضَافٍ إِلَيْهِ فِعْلٌ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سَبَبٌ لِغَيْرِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ سَبَبٌ ، فَالْحَقُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى مُسَبِّبِهِ ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَطَأً قَوْلُ الْقَائِلِ : " تَحَرَّكَتِ الشَّجَرَةُ " ، إِذْ حَرَّكَتْهَا الرِّيَاحُ; وَ " اضْطَرَبَتِ الْأَرْضُ " ، إِذْ حَرَّكَتْهَا الزَّلْزَلَةُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَطُولُ بِإِحْصَائِهِ الْكِتَابَ .
وَفِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ) سُورَةَ يُونُسَ : 22 - بِإِضَافَتِهِ الْجَرْيَ إِلَى الْفُلْكِ ، وَإِنْ كَانَ جَرْيُهَا بِإِجْرَاءِ غَيْرِهَا إِيَّاهَا - مَا دَلَّ عَلَى خَطَأِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ مِنْ وَصَفْنَا قَوْلَهُ فِي قَوْلِهِ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، وَادِّعَائِهِ أَنَّ فِي نِسْبَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الضَّلَالَةَ إِلَى مَنْ نَسَبَهَا إِلَيْهِ مِنَ النَّصَارَى ، تَصْحِيحًا لِمَا ادَّعَى الْمُنْكِرُونَ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَفْعَالِ خَلْقِهِ سَبَبٌ مِنْ أَجْلِهِ وُجِدَتْ أَفْعَالُهُمْ ، مَعَ إِبَانَةِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ نَصًّا فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ تَنْزِيلِهِ ، أَنَّهُ الْمُضِلُّ الْهَادِي ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) سُورَةَ الْجَاثِيَةِ : 23 . فَأَنْبَأَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ الْمُضِلُّ الْهَادِي دُونَ غَيْرِهِ .
وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ - وَإِنْ كَانَ مُسَبِّبُهُ غَيْرَ الَّذِي وُجِدَ [ ص: 197 ] مِنْهُ - أَحْيَانًا ، وَأَحْيَانًا إِلَى مُسَبِّبِهِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ غَيْرَهُ . فَكَيْفَ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ كَسْبًا ، وَيُوجِدُهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَيْنًا مُنْشَأَةً ؟ بَلْ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُضَافَ إِلَى مُكْتَسِبِهِ; كَسْبًا لَهُ ، بِالْقُوَّةِ مِنْهُ عَلَيْهِ ، وَالِاخْتِيَارِ مِنْهُ لَهُ - وَإِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، بِإِيجَادِ عَيْنِهِ وَإِنْشَائِهَا تَدْبِيرًا .
[ ص: 198 ] ( مَسْأَلَةٌ يَسْأَلُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِلْحَادِ الطَّاعِنُونَ فِي الْقُرْآنِ )
إِنْ سَأَلَنَا مِنْهُمْ سَائِلٌ فَقَالَ : إِنَّكَ قَدْ قَدَّمْتَ فِي أَوَّلِ كِتَابِكَ هَذَا فِي وَصْفِ الْبَيَانِ : بِأَنَّ أَعْلَاهُ دَرَجَةً وَأَشْرَفَهُ مَرْتَبَةً ، أَبْلَغَهُ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ حَاجَةِ الْمُبِينِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَبْيَنَهُ عَنْ مُرَادِ قَائِلِهِ ، وَأَقْرَبَهُ مِنْ فَهْمِ سَامِعِهِ . وَقُلْتَ ، مَعَ ذَلِكَ : إِنَّ أَوْلَى الْبَيَانِ بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، كَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ وَبِارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ عَلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْبَيَانِ ، فَمَا الْوَجْهُ - إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ - فِي إِطَالَةِ الْكَلَامِ بِمِثْلِ سُورَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ بِسَبْعِ آيَاتٍ ؟ وَقَدْ حَوَتْ مَعَانِيَ جَمِيعَهَا مِنْهَا آيَتَانِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، إِذْ كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ عَرَفَ : مَلِكَ يَوْمِ الدِّينِ ، فَقَدْ عَرَفَهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى . وَأَنَّ مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لِسَبِيلِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ مُتَّبَعٌ ، وَعَنْ سَبِيلِ مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ وَضَلَّ مُنْعَدِلٌ . فَمَا فِي زِيَادَةِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْبَاقِيَةِ ، مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي لَمْ تَحْوِهَا الْآيَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرْنَا ؟
قِيلَ لَهُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَمَعَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ - بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ - مَعَانِيَ لَمْ يَجْمَعْهُنَّ بِكِتَابٍ أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيٍّ قَبْلَهُ ، وَلَا لِأُمَّةِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ قَبْلَهُ ، فَإِنَّمَا أُنْزِلَ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْوِي جَمِيعَهَا كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَالتَّوْرَاةِ الَّتِي هِيَ مَوَاعِظُ وَتَفْصِيلٌ ، وَالزَّبُورِ الَّذِي هُوَ تَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ ، وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي هُوَ مَوَاعِظُ وَتَذْكِيرٌ - لَا مُعْجِزَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا تَشْهَدُ لِمَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ بِالتَّصْدِيقِ . وَالْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَحْوِي مَعَانِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي سَائِرُ الْكُتُبِ غَيْرُهُ مِنْهَا خَالٍ . [ ص: 199 ] وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .
وَمِنْ أَشْرَفِ تِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي فَضُلَ بِهَا كِتَابُنَا سَائِرَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ ، نَظْمُهُ الْعَجِيبُ وَرَصْفُهُ الْغَرِيبُ وَتَأْلِيفُهُ الْبَدِيعُ; الَّذِي عَجَزَتْ عَنْ نَظْمِ مِثْلِ أَصْغَرِ سُورَةٍ مِنْهُ الْخُطَبَاءُ ، وَكَلَّتْ عَنْ وَصْفِ شَكْلِ بَعْضِهِ الْبُلَغَاءُ ، وَتَحَيَّرَتْ فِي تَأْلِيفِهِ الشُّعَرَاءُ ، وَتَبَلَّدَتْ - قُصُورًا عَنْ أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِهِ - لَدَيْهِ أَفْهَامُ الْفُهَمَاءُ ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلَّا التَّسْلِيمَ وَالْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ . مَعَ مَا يَحْوِي ، مَعَ ذَلِكَ ، مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ ، وَأَمْرٌ وَزَجْرٌ ، وَقَصَصٌ وَجَدَلٌ وَمَثَلٌ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَمْ تَجْتَمِعْ فِي كِتَابٍ أُنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ .
فَمَهْمَا يَكُنْ فِيهِ مِنْ إِطَالَةٍ ، عَلَى نَحْوِ مَا فِي أُمِّ الْقُرْآنِ ، فَلِمَا وَصَفْتُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ - بِرَصْفِهِ الْعَجِيبِ وَنَظْمِهِ الْغَرِيبِ ، الْمُنْعَدِلِ عَنْ أَوْزَانِ الْأَشْعَارِ ، وَسَجْعِ الْكُهَّانِ وَخُطَبِ الْخُطَبَاءِ وَرَسَائِلِ الْبُلَغَاءِ ، الْعَاجِزِ عَنْ رَصْفِ مِثْلِهِ جَمِيعُ الْأَنَامِ ، وَعَنْ نَظْمِ نَظِيرِهِ كُلُّ الْعِبَادِ - الدَّلَالَةَ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَبِمَا فِيهِ مِنْ تَحْمِيدٍ وَتَمْجِيدٍ وَثَنَاءٍ عَلَيْهِ ، تَنْبِيهَ الْعِبَادِ عَلَى عَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِظَمِ مَمْلَكَتِهِ ، لِيَذْكُرُوهُ بِآلَائِهِ ، وَيَحْمَدُوهُ عَلَى نَعْمَائِهِ ، فَيَسْتَحِقُّوا بِهِ مِنْهُ الْمَزِيدَ ، وَيَسْتَوْجِبُو ا عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ; وَبِمَا فِيهِ مِنْ نَعْتِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِهِ ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لِطَاعَتِهِ ، تَعْرِيفُ عِبَادِهِ أَنَّ كُلَّ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، فَمِنْهُ ، لِيَصْرِفُوا رَغْبَتَهُمْ إِلَيْهِ ، وَيَبْتَغُوا حَاجَاتِهِمْ مِنْ عِنْدِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِهِ مَا أَحَلَّ بِمَنْ عَصَاهُ مِنْ مَثُلَاتِهِ ، وَأَنْزَلَ بِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ مِنْ عُقُوبَاتِهِ - تَرْهِيبُ عِبَادِهِ عَنْ رُكُوبِ [ ص: 200 ] مَعَاصِيهِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ مِنْ سَخَطِهِ ، فَيَسْلُكَ بِهِمْ فِي النَّكَالِ وَالنِّقِمَاتِ سَبِيلَ مَنْ رَكِبَ ذَلِكَ مِنَ الْهُلَّاكِ .
فَذَلِكَ وَجْهُ إِطَالَةِ الْبَيَانِ فِي سُورَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ ، وَفِيمَا كَانَ نَظِيرًا لَهَا مِنْ سَائِرِ سُوَرِ الْفُرْقَانِ . وَذَلِكَ هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الْكَامِلَةُ .
221 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى زُهْرَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا قَالَ الْعَبْدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، قَالَ اللَّهُ : "حَمِدَنِي عَبْدِي " . وَإِذَا قَالَ : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، قَالَ : "أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي " . وَإِذَا قَالَ : "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ، قَالَ : "مَجَّدَنِي عَبْدِي . فَهَذَا لِي " . وَإِذَا قَالَ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " إِلَى أَنْ يَخْتِمَ السُّورَةَ ، قَالَ : "فَذَاكَ لَهُ .
222 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَدَةُ ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : إِذَا قَالَ الْعَبْدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ .
223 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْحُرَقَةِ ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِثْلَهُ .
224 - حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ الْمِرْوَزِيَّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ، [ ص: 201 ] قَالَ : حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : "قَسَمَتِ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلَهُ مَا سَأَلَ " . فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " قَالَ اللَّهُ : "حَمِدَنِي عَبْدِي " ، وَإِذَا قَالَ : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، قَالَ : "أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي " ، وَإِذَا قَالَ : "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " قَالَ : "مَجَّدَنِي عَبْدِي " قَالَ : "هَذَا لِي ، وَمَا بَقِيَ " . "آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(1)
الحلقة (17)
صــ 202إلى صــ 224
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ أَعِنْ ( الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ )
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الم ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : اخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَةُ الْقُرْآنِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ "الم " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
225 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ ، أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : "الم " ، قَالَ : اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
226 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْآمُلُيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْلٌ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
227 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ فَوَاتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
228 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ الْكُوفِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، فَوَاتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ . [ ص: 206 ]
229 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، فَوَاتِحُ .
230 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ يَحْيَى بْنُ آدَمَ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، وَ "حم " ، وَ "المص " ، وَ "ص " ، فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا .
231 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، مِثْلَ حَدِيثِ هَارُونَ بْنِ إِدْرِيسَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
232 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهَبٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " وَ "الم تَنْزِيلُ " ، وَ "المر تِلْكَ " ، فَقَالَ : قَالَ أَبِي : إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
233 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، قَالَ : سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عَنْ "حم " وَ "طسم " وَ "الم " ، فَقَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ .
234 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو النُّعْمَانِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَذِكْرَ نَحْوَهُ .
235 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : فَوَاتِحُ السُّوَرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ : [ ص: 207 ]
236 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ .
237 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : "الم " ، قَسَمٌ . [ ص: 208 ]
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مِنْ أَسْمَاءٍ وَأَفْعَالٍ ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَعْنَى غَيْرِ مَعْنَى الْحَرْفِ الْآخَرِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
238 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ - وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ شَرِيكٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "الم " قَالَ : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ .
239 - حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَقْظَانِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : قَوْلُهُ : "الم " ، قَالَ : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ .
240 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ الْقَنَّادُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الم " قَالَ : أَمَّا "الم " فَهُوَ حَرْفٌ اشْتُقَّ مِنْ حُرُوفِ هِجَاءِ أَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ .
241 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ زِيَادٍ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : "الم " وَ "حم " وَ "ن " ، قَالَ : اسْمٌ مُقَطَّعٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ حُرُوفُ هِجَاءٍ مَوْضُوعٍ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
242 - حُدِّثْتُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي نُوَيْرَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ ، عَنْ خُصَيْفٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : فَوَاتِحُ السُّوَرِ كُلُّهَا "ق " وَ "ص " وَ "حم " وَ "طسم " وَ "الر " وَغَيْرُ ذَلِكَ ، هِجَاءٌ مَوْضُوعٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ يَشْتَمِلُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ شَتَّى مُخْتَلِفَةٍ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
243 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : "الم " ، قَالَ : هَذِهِ الْأَحْرُفُ ، مِنَ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا ، دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسُنُ كُلُّهَا . لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي آلَائِهِ وَبَلَائِهِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ قَوْمِ وَآجَالِهِمْ . وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : "وَعَجِيبٌ يَنْطِقُونَ فِي أَسْمَائِهِ ، وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقِهِ ، فَكَيْفَ يَكْفُرُونَ ؟ " . قَالَ : الْأَلْفُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "اللَّهُ " ، وَاللَّامُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "لَطِيفٌ " ، وَالْمِيمُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "مَجِيدٌ " . وَالْأَلْفُ آلَاءُ اللَّهِ ، وَاللَّامُ لُطْفُهُ ، وَالْمِيمُ : مَجَّدُهُ . الْأَلْفُ سَنَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ، وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً .
244 - حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَكَّامٌ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنِ الرَّبِيعِ بِنَحْوِهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ - كَرِهْنَا ذِكْرَ الَّذِي حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ ، إِذْ كَانَ الَّذِي رَوَاهُ مِمَّنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ وَنَقْلِهِ . وَقَدْ مَضَتِ الرِّوَايَةُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . [ ص: 209 ]
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِكُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ ، وَسِرُ الْقُرْآنِ فَوَاتِحُهُ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، اسْتُغْنِيَ بِذِكْرٍ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورِ عَنْ ذِكْرِ بَوَاقِيهَا ، الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا; كَمَا اسْتَغْنَى الْمُخْبَرُ - عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا - بِذِكْرِ "أ ب ت ث " ، عَنْ ذِكْرِ بَوَاقِي حُرُوفِهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ : قَالَ . وَلِذَلِكَ رُفِعَ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ مِنْ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ، ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ مَجْمُوعًا لَا رَيْبَ فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ "أ ب ت ث " ، قَدْ صَارَتْ كَالِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ ، كَمَا كَانَ "الْحَمْدُ " اسْمًا لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ .
قِيلَ لَهُ : لِمَا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : ابْنِي فِي "ط ظ " ، وَكَانَ مَعْلُومًا بِقِيلِهِ ذَلِكَ لَوْ قَالَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخَبَرَ عَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ - عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ "أ ب ت ث " لَيْسَ لَهَا بِاسْمٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ آثَرَ فِي الذَّكَرِ مِنْ سَائِرِهَا . قَالَ : وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْنَ ذِكْرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ ، فَذُكِرَتْ فِي أَوَائِلِهَا مُخْتَلِفَةً ، وَذِكْرِهَا إِذَا ذُكِّرَتْ بِأَوَائِلِهَا الَّتِي هِيَ "أ ب ت ث " ، مُؤْتَلِفَةً ، لِيَفْصِلَ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهَا إِذَا أُرِيدَ - بِذِكْرٍ مَا ذَكَرَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا - الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ; وَإِذَا أُرِيدَ - بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا مُؤْتَلِفًا - الدَّلَالَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بِأَعْيَانِهَا . وَاسْتَشْهَدُوا - لِإِجَازَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ : ابْنِي فِي "ط ظ " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ فِي الْبَيَانِ يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ : ابْنِي فِي "أ ب ت ث " - بِرَجَزِ بَعْضِ الرُّجَّازِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ :
لَمَّا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي حُطِّي وفَنَكَتْ فِي كَذِبٍ ولَطِّ أَخذْتُ مِنْهَا بِقُرُونٍ [ ص: 210 ] شُمْطٍ
فَلَمْ يَزَلْ صَوْبِي بِهَا ومَعْطِي
حَتَّى عَلَا الرَّأْسَ دَمٌ يُغَطِّي
فَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ عَنِ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا فِي "أَبِي جَادٍ " ، فَأَقَامَ قَوْلَهُ : "لِمَا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي حُطِّي " مَقَامَ خَبَرِهِ عَنْهَا أَنَّهَا فِي "أَبِي جَادٍ " ، إِذْ كَانَ ذَاكَ مِنْ قَوْلِهِ ، يَدُلُّ سَامِعَهُ عَلَى مَا يَدُلُّهُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : لِمَا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي "أَبِي جَادٍ " .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ ابْتُدِئَتْ بِذَلِكَ أَوَائِلُ السُّورِ لِيَفْتَحَ لِاسْتِمَاعِهِ أَسْمَاعَ الْمُشْرِكِينَ - إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ - حَتَّى إِذَا اسْتَمَعُوا لَهُ ، تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْمُؤَلَّفُ مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ السُّوَرِ حُرُوفٌ يَسْتَفْتِحُ اللَّهُ بِهَا كَلَامَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنَى ؟
قِيلَ : مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ افْتَتَحَ بِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي قَبِلَهَا قَدِ انْقَضَتْ ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي أُخْرَى ، فَجَعَلَ هَذَا عَلَّامَةَ انْقِطَاعٍ مَا بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، يُنْشِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الشِّعْرَ فَيَقُولُ :
بَلْ وَبَلْدَةٍ مَا الْإِنْسُ مِنْ آهَالِهَا
وَيَقُولُ :
لَا بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا
وَ "بَلْ " لَيْسَتْ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا تُعَدُّ فِي وَزْنِهِ ، وَلَكِنْ يَقْطَعُ بِهَا كَلَامًا وَيَسْتَأْنِفُ الْآخَرَ . [ ص: 211 ]
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَجْهٌ مَعْرُوفٌ .
فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ ، فَلِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنْ "الم " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ ، كَمَا الْفُرْقَانُ اسْمٌ لَهُ . وَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَائِلِ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ . كَأَنَّهُ قَالَ : وَالْقُرْآنِ ، هَذَا الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ .
وَالْآخَرُ مِنْهُمَا : أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ السُّورَةِ الَّتِي تُعَرَفُ بِهِ ، كَمَا تُعْرَفُ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ بِأَسْمَائِهَا الَّتِي هِيَ لَهَا أَمَارَاتٌ تُعَرَفُ بِهَا ، فَيَفْهَمُ السَّامِعُ مِنَ الْقَائِلِ يَقُولُ : - قَرَأْتُ الْيَوْمَ "المص " وَ "ن " - ، أَيِ السُّوَرِ الَّتِي قَرَأَهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، كَمَا يَفْهَمُ عَنْهُ - إِذَا قَالَ : لَقِيتُ الْيَوْمَ عَمْرًا وَزَيْدًا ، وَهَمَّا بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو عَارِفَانِ - مَنِ الَّذِي لَقِيَ مِنَ النَّاسِ .
وَإِنْ أَشْكَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى امْرِئٍ فَقَالَ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، وَنَظَائِرُ "الم " "الر " فِي الْقُرْآنِ جَمَاعَةٌ مِنَ السُّورِ ؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْأَسْمَاءُ أَمَارَاتٍ إِذَا كَانَتْ مُمَيِّزَةً بَيْنَ الْأَشْخَاصِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُمَيَّزَةٍ فَلَيْسَتْ أَمَارَاتٍ .
قِيلَ : إِنَّ الْأَسْمَاءَ - وَإِنْ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ ، لِاشْتِرَاكِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا ، غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ إِلَّا بِمَعَانَ أُخَرَ مَعَهَا مِنْ ضَمِّ نِسْبَةِ الْمُسَمَّى بِهَا إِلَيْهَا أَوْ نَعْتِهِ أَوْ صِفَتِهِ ، بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَشْكَالِهَا - فَإِنَّهَا وُضِعَتِ ابْتِدَاءً لِلتَّمْيِيزِ لَا شَكَ . ثُمَّ احْتِيجَ ، عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ ، إِلَى الْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْن ِ بِهَا . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ . جُعِلَ كُلُّ اسْمٍ - فِي قَوْلٍ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ - أَمَارَةً لِلْمُسَمَّى بِهِ مِنَ السُّورِ . فَلَمَّا شَارَكَ الْمُسَمَّى بِهِ فِيهِ غَيْرَهُ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، احْتَاجَ الْمُخْبِرُ عَنْ [ ص: 212 ] سُورَةٍ مِنْهَا أَنْ يَضُمَّ إِلَى اسْمِهَا الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ ذَلِكَ ، مَا يُفَرِّقُ بِهِ السَّامِعُ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا ، مِنْ نَعْتٍ وَصِفَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَيَقُولُ الْمُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ تَلَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، إِذَا سَمَّاهَا بِاسْمِهَا الَّذِي هُوَ "الم " : قَرَأْتُ "الم الْبَقَرَةَ " ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ : قَرَأْتُ "الم آلَ عِمْرَانَ " ، وَ "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَ "الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " . كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ رَجُلَيْنِ ، اسْمُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا "عَمْرٌو " ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَمِيمِيٌّ وَالْآخِرَ أَزْدِيٌّ ، لَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَرَادَ إِخْبَارَهُ عَنْهُمَا : لَقِيتُ عَمْرًا التَّمِيمِيَّ وَعَمْرًا الْأَزْدِيَّ ، إِذْ كَانَ لَا يَفْرُقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يُشَارِكُهُمَا فِي أَسْمَائِهِمَا ، إِلَّا بِنِسْبَتِهِمَا كَذَلِكَ . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّورِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ فَوَاتِحُ يَفْتَتِحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا كَلَامَهُ ، فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى نَحْوِ الْمَعْنَى الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، أَنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ أَدِلَّةٌ عَلَى انْقِضَاءٍ سُورَةٍ وَابْتِدَاءٍ فِي أُخْرَى ، وَعَلَامَةٌ لِانْقِطَاعٍ مَا بَيْنَهُمَا ، كَمَا جُعِلَتْ "بَلْ " فِي ابْتِدَاءِ قَصِيدَةٍ دَلَالَةً عَلَى ابْتِدَاءٍ فِيهَا ، وَانْقِضَاءِ أُخْرَى قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادُوا الِابْتِدَاءَ فِي إِنْشَادِ قَصِيدَةٍ ، قَالُوا :
بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا
وَ "بَلْ " لَيْسَتْ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا دَاخِلَةً فِي وَزْنِهِ ، وَلَكِنْ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى قَطْعِ كَلَامٍ وَابْتِدَاءِ آخَرَ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ بَعْضُهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَبَعْضُهَا مِنْ صِفَاتِهِ ، وَلِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْحَرْفِ الْآخَرِ ، فَإِنَّهُمْ نَحَوْا بِتَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ :
قُلْنَا لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَافْ
[ ص: 213 ]
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : "قَالَتْ قَافٌ " ، قَالَتْ : قَدْ وَقَفْتُ . فَدَلَّتْ بِإِظْهَارِ الْقَافِ مَنْ "وَقَفَتْ " ، عَلَى مُرَادِهَا مِنْ تَمَامِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ "وَقَفْتُ" . فَصَرَفُوا قَوْلَهُ : "الم " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، إِلَى نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَلِفُ أَلِفُ "أَنَا " ، وَاللَّامُ لَامُ "اللَّهُ " ، وَالْمِيمُ مِيمُ "أَعْلَمُ " ، وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى كَلِمَةٍ تَامَّةٍ . قَالُوا : فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ إِذَا ظَهَرَ مَعَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُنَّ تَمَامُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ ، "أَنَا " اللَّهُ أَعْلَمُ " . قَالُوا : وَكَذَلِكَ سَائِرُ جَمِيعِ مَا فِي أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ . قَالُوا : وَمُسْتَفِيضٌ ظَاهِرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُنْقِصَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ مَنَ الْكَلِمَةِ الْأَحْرُفَ ، إِذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْهَا - وَيَزِيدَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ، إِذَا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُلَبِّسَةً مَعْنَاهَا عَلَى سَامِعِهَا - كَحَذْفِهِمْ فِي النَّقْصِ فِي التَّرْخِيمِ مِنْ "حَارِثٍ " الثَّاءَ ، فَيَقُولُونَ : يَا حَارِ ، وَمِنْ "مَالِكٍ " الْكَافَ ، فَيَقُولُونَ : يَا مَالِ ، وَأَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ ، وَكَقَوْلِ رَاجِزِهِمْ :
مَا لِلظَلِيمِ عَالَ ؟ كَيْفَ لَا يَا يَنْقَدُّ عَنْهُ جِلْدُهُ إِذَا يَا
كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : إِذَا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ، فَاكْتَفَى بِالْيَاءِ مَنْ "يَفْعَلُ " ، وَكَمَا قَالَ آخَرُ مِنْهُمْ :
بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإِنْ شَرًّا فَا
يُرِيدُ : فَشَرًّا .
وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا
.
يُرِيدُ : إِلَّا أَنْ تَشَاءَ ، فَاكْتَفَى بِالتَّاءِ وَالْفَاءِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ جَمِيعًا ، مِنْ سَائِرِ حُرُوفِهِمَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ الَّتِي يَطُولُ الْكِتَابُ بِاسْتِيعَابِهِ . [ ص: 214 ]
245 - وَكَمَا حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، وَابْنُ عَوْنٍ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِي عَبْدَةُ : إِنِّي لَا أَرَاهَا إِلَّا كَائِنَةً فِتْنَةً ، فَافْزَعْ مِنْ ضَيْعَتِكَ وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ . قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : أَحَبُّ إِلَيَّ لَكَ أَنْ تَا - قَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ بَيْدِهِ تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ ، يَصِفُ الِاضْطِجَاعَ - حَتَّى تَرَى أَمْرًا تَعْرِفُهُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يَعْنِي بِ "تَا " تَضْطَجِعُ ، فَاجْتَزَأَ بِالتَّاءِ مَنْ تَضْطَجِعُ . وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْتُ :
أَقُولُ إِذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ يَا نَاقَتِي مَا جُلْتِ مِنْ مَجَالِ
يُرِيدُ : الْكَلْكَلُ ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ :
إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَكَ شَتَّى فَالْزَمِي الْخُصَّ وَاخْفِضِي تَبْيَضِّضِي
.
فَزَادَ ضَادًا ، وَلَيْسَتْ فِي الْكَلِمَةِ .
قَالُوا : فَكَذَلِكَ مَا نَقَصَ مِنْ تَمَامِ حُرُوفِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَتِمَّةُ حُرُوفِ "الم " وَنَظَائِرُهَا - نَظِيرُ مَا نَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ الْعَرَبِ فِي أَشْعَارِهَا وَكَلَامِهَا .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : كُلُّ حَرْفٍ مِنْ "الم " وَنَظَائِرُهَا ، دَالٌّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى - [ ص: 215 ] نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ - فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى مِثْلِ الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ : هُوَ بِتَأْوِيلِ "أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ " ، فِي أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ بَعْضُ حُرُوفِ كَلِمَةٍ تَامَّةٍ ، اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَامِهِ عَنْ ذِكْرِ تَمَامِهِ - وَإِنْ كَانُوا لَهُ مُخَالِفِينَ فِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ : أَهْوَ مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهَا قَائِلُو الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَمْ مِنْ غَيْرِهَا ؟ فَقَالُوا : بَلِ الْأَلْفُ مِنْ "الم " مِنْ كَلِمَاتٍ شَتَّى ، هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَعَلَى تَمَامِهِ . قَالُوا : وَإِنَّمَا أَفْرَدَ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَصَّرَ بِهِ عَنْ تَمَامِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ ، أَنَّ جَمِيعَ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ لَوْ أُظْهِرَتْ ، لَمْ تَدُلَّ الْكَلِمَةُ الَّتِي تُظْهَرُ - الَّتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بَعْضٌ لَهَا - إِلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمَا . قَالُوا : وَإِذْ كَانَ لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ ، لَوْ أَظْهَرَ جَمِيعَهَا ، إِلَّا عَلَى مَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ ، وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَرَادَ الدَّلَالَةَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ - لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُفْرَدَ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي ، لِيَعْلَمَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْصِدْ قَصْدَ مَعْنًى وَاحِدٍ وَدَلَّالَةٍ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الدَّلَالَةَ بِهِ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ . قَالُوا : فَالْأَلِفُ مِنْ "الم " مُقْتَضِيَةٌ مَعَانِيَ كَثِيرَةً ، مِنْهَا تَمَامُ اسْمِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ "اللَّهُ " ، وَتَمَامُ اسْمِ نَعْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ آلَاءُ اللَّهِ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ سَنَةٌ ، إِذَا كَانَتِ الْأَلِفُ فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ وَاحِدًا . وَاللَّامُ مُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ لَطِيفٌ ، وَتَمَامَ اسْمَ فَضْلِهِ الَّذِي هُوَ لُطْفٌ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً . وَالْمِيمُ مُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَجِيدٌ ، وَتَمَامَ اسْمِ عَظَمَتِهِ الَّتِي هِيَ مَجْدٌ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً . فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ - فِي تَأْوِيلِ قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ افْتَتَحَ كَلَامَهُ بِوَصْفِ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ مَنْهَجًا يَسْلُكُونَهُ فِي مُفْتَتَحِ خُطَبِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ وَمُهِمِّ أُمُورِهِمْ ، وَابْتِلَاءً مِنْهُ لَهُمْ لِيَسْتَوْجِبُو ا بِهِ عَظِيمَ الثَّوَابِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ ، .
كَمَا افْتَتَحَ بِ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ) ، سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 1 [ ص: 216 ] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحَهَا الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ ، وَكَمَا جَعَلَ مَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَعْظِيمَ نَفْسِهِ وَإِجْلَالَهَا بِالتَّسْبِيحِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ) سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 1 ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَحْمِيدَ نَفْسِهِ ، وَمَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَمْجِيدَهَا ، وَمَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَعْظِيمَهَا وَتَنْزِيهَهَا . فَكَذَلِكَ جَعَلَ مَفَاتِحَ السُّورِ الْأُخَرِ الَّتِي أَوَائِلُهَا بَعْضُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، مَدَائِحَ نَفْسِهِ ، أَحْيَانًا بِالْعِلْمِ ، وَأَحْيَانًا بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، وَأَحْيَانًا بِالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ ، بِإِيجَازٍ وَاخْتِصَارٍ ، ثُمَّ اقْتِصَاصَ الْأُمُورِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ فِي أَمَاكِنِ الرَّفْعِ ، مَرْفُوعًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، دُونَ قَوْلِهِ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، وَيَكُونُ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " خَبَرًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَنْ مَعْنَى "الم " . وَكَذَلِكَ "ذَلِكَ " فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي ، مَرْفُوعٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِ قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : هُنَّ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ حِسَابِ الْجُمَلِ دُونَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا نَعْرِفُ لِلْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مَعْنًى يُفْهَمُ سِوَى حِسَابِ الْجُمَلِ ، وَسِوَى تَهَجِّي قَوْلِ الْقَائِلِ : "الم " . وَقَالُوا : غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَيَعْقِلُونَهُ عَنْهُ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - وَكَانَ قَوْلُهُ "الم " لَا يُعْقَلُ لَهَا وَجْهٌ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ ، إِلَّا أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ، فَبَطَلَ أَحَدُ وَجْهَيْهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا تَهَجِّي "الم " - صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ حِسَابُ الْجُمَلِ; لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : "الم " لَا يَجُوزُ أَنْ يَلِيَهُ مِنَ الْكَلَامِ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ ، إِنْ وَلِيَ "الم " "ذَلِكَ الْكِتَابُ " .
وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا : -
246 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ ، قَالَ : مَرَّ [ ص: 217 ] أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) ، فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ : تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ ، لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) فَقَالُوا : أَنْتَ سَمِعْتَهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ! قَالَ : فَمَشَى حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ يَهُودَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، أَلَمْ يُذْكَرْ لَنَا أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلَى! فَقَالُوا : أَجَاءَكَ بِهَذَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعِمَ! قَالُوا : لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءُ ، مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ ، مَا مُدَّةَ مِلْكِهِ وَمَا أَكْلَ أُمَّتَهُ غَيْرَكَ! فَقَالَ : حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ : الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً . أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَكْلِ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ : ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : ( المص ) . قَالَ : هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ ، الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، وَالصَّادُ تِسْعُونَ ، فَهَذِهِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً . هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : ( الر ) . قَالَ : هَذِهِ [ ص: 218 ] [ ص: 219 ] وَاللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ . الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ ، فَقَالَ : هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ، ( المر ) ، قَالَ : فَهَذِهِ وَاللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ . ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ يَا مُحَمَّدُ ، حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلَا أَعْطَيْتَ أَمْ كَثِيرًا ؟ ثُمَّ قَامُوا عَنْهُ . فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيِّيَ بُنِ أَخْطَبَ ، وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْبَارِ : مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ لِمُحَمَّدٍ ، إِحْدَى وَسَبْعُونَ ، وَإِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ ، وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ ، وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ ، فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ! فَقَالُوا : لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ! وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) . [ ص: 220 ]
قَالُوا : فَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْخَبَرُ بِصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ ، وَفَسَادِ مَا قَالَهُ مُخَالِفُونَا فِيهِ .
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ مَفَاتِحِ السُّورِ ، الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَهَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً وَلَمْ يَصِلْ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ - فَيَجْعَلُهَا كَسَائِرِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ الْحُرُوفُ - لِأَنَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ، لَا عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ ، كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَإِنْ كَانَ الرَّبِيعُ قَدِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ ، دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا .
وَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ عِنْدِي : أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ يَحْوِي مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ ، وَمَا قَالَهُ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُهُ فِيهِ - سِوَى مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْقَوْلِ عَمَّنْ ذَكَرَتْ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ : أَنَّهُ كَانَ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ حُرُوفُ هِجَاءٍ ، اسْتُغْنِيَ [ ص: 221 ] بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ فِي مَفَاتِيحِ السُّورِ ، عَنْ ذِكْرِ تَتِمَّةِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، بِتَأْوِيلِ : أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ ، ذَلِكَ الْكِتَابُ ، مَجْمُوعَةٌ ، لَا رَيْبَ فِيهِ - فَإِنَّهُ قَوْلٌ خَطَّأٌ فَاسِدٌ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ أَقْوَالِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ . فَكَفَى دَلَالَةً عَلَى خَطَئِهِ ، شَهَادَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالْخَطَأِ ، مَعَ إِبْطَالِ قَائِلِ ذَلِكَ قَوْلَهُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ - إِذْ صَارَ إِلَى الْبَيَانِ عَنْ رَفْعِ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " - بِقَوْلِهِ مَرَّةً إِنَّهُ مَرْفُوعٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ ، وَمَرَّةً أُخْرَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالرَّاجِعِ مِنْ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ " لَا رَيْبَ فِيهِ " وَمَرَّةً بِقَوْلِهِ " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " . وَذَلِكَ تَرْكٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ : إِنَّ "الم " رَافِعَةٌ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَخُرُوجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي تَأْوِيلِ " الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ : هَذِهِ الْحُرُوفُ ذَلِكَ الْكِتَابُ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرْفٌ وَاحِدٌ شَامِلًا الدَّلَالَةَ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ؟
قِيلَ : كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ، كَقَوْلِهِمْ لِلْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ : أُمَّةٌ ، وَلِلْحِينِ مِنَ الزَّمَانِ : أُمَّةٌ ، وَلِلرَّجُلِ الْمُتَعَبِّدِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ : أُمَّةٌ ، وَلِلدِّينِ وَالْمِلَّةِ : أُمَّةٌ . وَكَقَوْلِهِمْ لِلْجَزَاءِ وَالْقِصَاصِ : دِينٌ ، وَلِلسُّلْطَانِ وَالطَّاعَةِ : دِينٌ ، وَلِلتَّذَلُّلِ : دِينٌ ، وَلِلْحِسَابِ : دِينٌ ، فِي أَشْبَاهٍ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ الْكِتَابُ بِإِحْصَائِهَا - مِمَّا يَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : "الم " وَ "الر " ، وَ "المص " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ أَوَائِلِ السُّوَرِ ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى ، شَامِلٌ جَمِيعَهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ . وَهُنَّ ، مَعَ ذَلِكَ ، فَوَاتِحُ السُّوَرِ ، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ . [ ص: 222 ] وَلَيْسَ كَوْنٌ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصِفَاتِهِ ، بِمَانِعِهَا أَنْ تَكُونَ لِلسُّورِ فَوَاتِحَ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدِ افْتَتَحَ كَثِيرًا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا ، وَكَثِيرًا مِنْهَا بِتَمْجِيدِهَا وَتَعْظِيمِهَا ، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بَعْضَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِهَا .
فَالَّتِي ابْتُدِئَ أَوَائِلُهَا بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، أَحَدُ مَعَانِي أَوَائِلِهَا : أَنَّهُنَّ فَوَاتِحُ مَا افْتَتَحَ بِهِنَّ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ . وَهُنَّ مِمَّا أَقْسَمَ بِهِنَّ ، لِأَنَّ أَحَدَ مَعَانِيهِنَّ أَنَّهُنَّ مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَصِفَاتِهِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهَا ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَى الْقَسَمِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . وَهُنَّ مَنَّ حُرُوفِ حِسَابِ الْجُمَّلِ . وَهُنَّ لِلسُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهِنَّ شِعَارٌ وَأَسْمَاءٌ . فَذَلِكَ يُحْوَى مَعَانِيَ جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ، مِمَّا بَيَّنَا ، مِنْ وُجُوهِهِ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، الدَّلَالَةَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ ذَلِكَ ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي غَيْرِهِ ، لَأَبَانَ ذَلِكَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبَانَةً غَيْرَ مُشْكِلَةٍ . إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَفِي تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبَانَةَ ذَلِكَ - أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ مِنْ وُجُوهِ تَأْوِيلِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ - أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ وُجُوهِهِ الَّتِي هُوَ لَهَا مُحْتَمَلٌ . إِذْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا فِي الْعَقْلِ وَجْهٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ اجْتِمَاعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ ، بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ ، فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ .
وَمِنْ أَبَى مَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ ، سُئِلَ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَأْتِي بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ ، كَالْأُمَّةِ وَالدِّينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ . فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مَثْلَهُ .
وَكَذَلِكَ يُسْأَلُ كُلُّ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ - عَلَى وَجْهٍ دُونَ الْأَوْجُهِ الْأُخَرِ [ ص: 223 ] الَّتِي وَصَفْنَا - عَنِ الْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُ ، مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ . ثُمَّ يُعَارَضُ بِقَوْلِ مُخَالِفِهِ فِي ذَلِكَ ، وَيُسْأَلُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ : مِنْ أَصْلٍ ، أَوْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلٌ . فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مَثْلَهُ .
وَأَمَّا الَّذِي زَعَمَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ : أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ "بَلْ " فِي قَوْلِ الْمُنْشِدِ شِعْرًا :
بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا
وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْكَلَامِ مَعْنَاهُ الطَّرْحُ - فَإِنَّهُ أَخْطَأَ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى
أَحَدُهَا : أَنَّهُ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِغَيْرِ مَا هُوَ مِنْ لُغَتِهَا ، وَغَيْرِ مَا هُوَ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ . إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ - وَإِنْ كَانَتْ قَدْ كَانَتْ تَفْتَتِحُ أَوَائِلَ إِنْشَادِهَا مَا أَنْشَدَتْ مِنَ الشِّعْرِ بِ "بَلْ " - فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَبْتَدِئُ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ بِ "الم " وَ "الر " وَ "المص " ، بِمَعْنَى ابْتِدَائِهَا ذَلِكَ بِ "بَلْ " . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنِ ابْتِدَائِهَا - وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ ، بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَاتِهِمْ ، وَيَسْتَعْمِلُو نَ بَيْنَهُمْ مِنْ مَنْطِقِهِمْ ، فِي جَمِيعِ آيِهِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ سَبِيلَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا أَوَائِلُ السُّوَرِ ، الَّتِي هُنَّ لَهَا فَوَاتِحُ ، سَبِيلُ سَائِرِ الْقُرْآنِ ، فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بِهَا عَنْ لُغَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا بِهَا عَارِفِينَ ، وَلَهَا بَيْنُهُمْ فِي مَنْطِقِهِمْ مُسْتَعْمِلِينِ . لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سَبِيلِ لُغَاتِهِمْ وَمَنْطِقِهِمْ ، كَانَ خَارِجًا عَنْ مَعْنَى الْإِبَانَةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْقُرْآنَ ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) . وَأَنَّى يَكُونُ مُبِينًا مَا لَا يَعْقِلُهُ وَلَا يَفْقَهُهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ ، فِي قَوْلِ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَلَا يُعْرَفُ فِي مَنْطِقِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، فِي قَوْلِهِ ؟ وَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ، مَا يُكَذِّبُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَيُنْبِئُ عَنْهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا بِهِ [ ص: 224 ] عَالِمِينَ ، وَهُوَ لَهَا مُسْتَبِينٌ . فَذَلِكَ أَحَدُ أَوْجُهِ خَطَئِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ : إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ خَاطَبَ عِبَادَهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ ، مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي سَوَاءٌ الْخِطَابُ فِيهِ بِهِ وَتَرْكُ الْخَطَّابِ بِهِ . وَذَلِكَ إِضَافَةُ الْعَبَثِ الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ عَنِ اللَّهِ - إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ خَطَئِهِ : أَنْ "بَلْ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَفْهُومٌ تَأْوِيلِهَا وَمَعْنَاهَا ، وَأَنَّهَا تُدْخِلُهَا فِي كَلَامِهَا رُجُوعًا عَنْ كَلَامٍ لَهَا قَدْ تَقَضَّى كَقَوْلِهِمْ : مَا جَاءَنِي أَخُوكَ بَلْ أَبُوكَ ; وَمَا رَأَيْتُ عَمْرًا بَلْ عَبْدَ اللَّهِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ :
وَلَأَشْرَبَنَّ ثَمَانِيًا وَثَمَانِيًا وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعَا
وَمَضَى فِي كَلِمَتِهِ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ :
بِالْجُلَّسَانِ ، وَطَيِّبٌ أَرْدَانُهُ بِالْوَنِّ يَضْرِبُ لِي يَكُرُّ الْإِصْبَعَا
ثُمَّ قَالَ :
بَلْ عَدِّ هَذَا فِي قَرِيضٍ غَيْرِهِ وَاذْكُرْ فَتًى سَمْحَ الْخَلِيقَةِ أَرْوَعَا
فَكَأَنَّهُ قَالَ : دَعْ هَذَا وَخُذْ فِي قَرِيضِ غَيْرِهِ . فَ "بَلْ " إِنَّمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْكَلَامِ ، فَأَمَّا افْتِتَاحًا لِكَلَامِهَا مُبْتَدَأً بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ وَالْحَذْفِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَنْطِقِهَا ، سِوَى الَّذِي ذَكَرْتُ قَوْلَهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَصْلًا يُشَبَّهُ بِهِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ سُوَرِ الْقُرْآنِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا - لَوْ كَانَتْ لَهُ مُشْبِهَةً - فَكَيْفَ وَهِيَ مِنَ الشَّبَهِ بِهِ بَعِيدَةٌ ؟
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(2)
الحلقة (18)
صــ 225إلى صــ 229
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) .
قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ : تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) : هَذَا الْكِتَابُ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
247 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ الْكُوفِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : "ذَلِكَ الْكِتَابُ " قَالَ : هُوَ هَذَا الْكِتَابُ .
248 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا خَالِدُ الْحَذَّاءِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : "ذَلِكَ الْكِتَابُ " : هَذَا الْكِتَابُ .
249 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، فِي قَوْلِهِ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " قَالَ : هَذَا الْكِتَابُ .
250 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ . قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَوْلُهُ : "ذَلِكَ الْكِتَابُ " : هَذَا الْكِتَابُ . قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : "ذَلِكَ الْكِتَابُ " : هَذَا الْكِتَابُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ "ذَلِكَ " بِمَعْنَى "هَذَا " ؟ وَ "هَذَا " لَا شَكَّ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ مُعَايَنٍ ، وَ "ذَلِكَ " إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ غَيْرِ حَاضِرٍ وَلَا مُعَايَنٍ ؟ [ ص: 226 ]
قِيلَ : جَازَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ كُلَّ مَا تَقَضَّى ، بِقُرْبِ تَقَضِّيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ ، فَهُوَ - وَإِنْ صَارَ بِمَعْنَى غَيْرِ الْحَاضِرِ - فَكَالْحَاضِرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ . وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ يُحَدِّثُ الرَّجُلَ الْحَدِيثَ فَيَقُولُ السَّامِعُ : "إِنَّ ذَلِكَ وَاللَّهِ لَكُمَا قُلْتَ " ، وَ "هَذَا وَاللَّهِ كَمَا قُلْتَ " ، وَ "هُوَ وَاللَّهِ كَمَا ذَكَرْتَ " ، فَيُخْبِرُ عَنْهُ مَرَّةً بِمَعْنَى الْغَائِبَ ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى ، وَمَرَّةً بِمَعْنَى الْحَاضِرِ ، لِقُرْبِ جَوَابِهِ مِنْ كَلَامِ مُخْبِرِهِ ، كَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَضٍ . فَكَذَلِكَ "ذَلِكَ " فِي قَوْلِهِ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ لَمَّا قَدَّمَ قَبْلَ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " "الم" ، الَّتِي ذَكَرْنَا تَصَرُّفَهَا فِي وُجُوهِهَا مِنَ الْمَعَانِي عَلَى مَا وَصَفْنَا ، قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ وَبَيَّنْتُهُ لَكَ ، الْكِتَابُ . وَلِذَلِكَ حَسُنَ وَضْعُ "ذَلِكَ " فِي مَكَانِ "هَذَا " ، لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْخَبَرِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ "الم" مِنَ الْمَعَانِي ، بَعْدَ تَقَضِّي الْخَبَرِ عَنْهُ بِ "الم" ، فَصَارَ لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مَنْ تَقَضِّيهِ ، كَالْحَاضِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ ، فَأَخْبَرَ بِهِ بِ "ذَلِكَ " لِانْقِضَائِهِ ، وَمَصِيرُ الْخَبَرِ عَنْهُ كَالْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ، وَتَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ : أَنَّهُ بِمَعْنَى "هَذَا " ، لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مِنِ انْقِضَائِهِ ، فَكَانَ كَالْمُشَاهَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِ "هَذَا " ، نَحْوَ الَّذِي وَصَفْنَا مِنَ الْكَلَامِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُحَاوَرَاتِهِم ْ ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ : ( وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ ) سُورَةُ ص : 48 ، 49 فَهَذَا مَا فِي "ذَلِكَ " إِذَا عَنَى بِهَا "هَذَا " .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ السُّوَرُ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّدُ ، اعْلَمْ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُوَرُ الْكِتَابِ الَّتِي قَدْ أَنْزَلْتُهَا إِلَيْكَ ، هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ . ثُمَّ تَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ مَعْنَى "ذَلِكَ " "هَذَا الْكِتَابُ " ، [ ص: 227 ] إِذْ كَانَتْ تِلْكَ السُّوَرُ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، مِنْ جُمْلَةِ جَمِيعِ كِتَابِنَا هَذَا ، الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَانَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِي قَوْلِهِمُ الَّذِي قَالُوهُ فِي "ذَلِكَ " .
وَقَدْ وَجَّهَ مَعْنَى "ذَلِكَ " بَعْضُهُمْ ، إِلَى نَظِيرِ مَعْنَى بَيْتِ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَّمِيِّ :
فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا فَعَمْدًا عَلَى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا
أَقُولُ لَهُ ، وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ : تَأَمَّلْ خُفَافًا ، إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
كَأَنَّهُ أَرَادَ : تَأَمَّلْنِي أَنَا ذَلِكَ . فَزَعَمَ أَنَّ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " بِمَعْنَى "هَذَا " ، نَظِيرُهُ . أَظْهَرُ خِفَافٌ مِنِ اسْمِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ، وَهُوَ مُخْبِرٌ عَنْ نَفْسِهِ . فَكَذَلِكَ أَظْهَرَ "ذَلِكَ " بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَلِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، يَعْنِي بِهِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ، وَإِذَا وُجِّهَ [ ص: 228 ] تَأْوِيلُ "ذَلِكَ " إِلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَلَا مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَى مُتَأَوِّلِهِ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ "ذَلِكَ " يَكُونُ حِينَئِذٍ إِخْبَارًا عَنْ غَائِبٍ عَلَى صِحَّةٍ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( لَا رَيْبَ فِيهِ ) .
وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " " لَا شَكَّ فِيهِ " . كَمَا : -
251 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : لَا رَيْبَ فِيهِ ، قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ .
252 - حَدَّثَنِي سَلَّامُ بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ يَاسِينَ الْكُوفِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، " لَا رَيْبَ فِيهِ " : قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ .
253 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، قَالَ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، لَا شَكَّ فِيهِ .
254 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيُّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، لَا شَكَّ فِيهِ .
255 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، [ ص: 229 ] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ .
256 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، يَقُولُ : لَا شَكَّ فِيهِ .
257 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ ، عَنْ قَتَادَةَ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، يَقُولُ : لَا شَكَّ فِيهِ .
258 - حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ : قَوْلُهُ " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، يَقُولُ : لَا شَكَّ فِيهِ .
وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : رَابَنِي الشَّيْءُ يَرِيبُنِي رَيْبًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ الْهُذَلِيِّ :
فَقَالُوا : تَرَكْنَا الْحَيَّ قَدْ حَصِرُوا بِهِ ، فَلَا رَيْبَ أَنْ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيمُ
وَيُرْوَى : "حَصَرُوا " وَ "حَصِرُوا " وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ ، وَالْكَسْرُ جَائِزٌ . يَعْنِي بِقَوْلِهِ "حَصَرُوا بِهِ " : أَطَافُوا بِهِ . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ " لَا رَيْبَ " . لَا شَكَّ فِيهِ . وَبِقَوْلِهِ "أَنَّ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيمُ " ، يَعْنِي قَتِيلًا يُقَالُ : قَدْ لُحِمَ ، إِذَا قُتِلَ .
وَالْهَاءُ الَّتِي فِي "فِيهِ " عَائِدَةٌ عَلَى الْكِتَابِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(3)
الحلقة (19)
صــ 230إلى صــ 236
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( هُدًى )
259 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا [ ص: 230 ] سُفْيَانُ ، عَنْ بَيَانٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، "هُدًى " قَالَ : هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ .
260 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيُّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " ، يَقُولُ : نُورٌ لِلْمُتَّقِينَ .
وَالْهُدَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ : هَدَيْتُ فُلَانًا الطَّرِيقَ - إِذَا أَرْشَدْتَهُ إِلَيْهِ ، وَدَلَلَتْهُ عَلَيْهِ ، وَبَيَّنْتَهُ لَهُ - أَهْدِيهِ هُدًى وَهِدَايَةً .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : أَوَ مَا كِتَابُ اللَّهِ نُورًا إِلَّا لِلْمُتَّقِينَ ، وَلَا رَشَادًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ ؟ قِيلَ : ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ . وَلَوْ كَانَ نُورًا لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ ، وَرَشَادًا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ ، لَمْ يَخْصُصِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُ لَهُمْ هُدًى ، بَلْ كَانَ يَعُمُّ بِهِ جَمِيعَ الْمُنْذَرِينَ . وَلَكِنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَوَقْرٌ فِي آذَانِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَعَمًى لِأَبْصَارِ الْجَاحِدِينَ ، وَحُجَّةٌ لِلَّهِ بَالِغَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ . فَالْمُؤْمِنُ بِهِ مُهْتَدٍ ، وَالْكَافِرُ بِهِ مَحْجُوجٌ .
وَقَوْلُهُ "هُدًى " يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا مِنَ الْمَعَانِي :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ نَصْبًا ، لِمَعْنَى الْقَطْعِ مِنَ الْكِتَابِ ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ وَالْكِتَابُ مَعْرِفَةٌ . فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ حِينَئِذٍ : الم ذَلِكَ الْكِتَابُ هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ . وَ"ذَلِكَ " مَرْفُوعٌ بِ "الم " ، وَ " الم " بِهِ ، وَالْكِتَابُ نَعَتٌ لِ "ذَلِكَ " .
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا ، عَلَى الْقَطْعِ مِنْ رَاجِعِ ذِكْرِ الْكِتَابِ الَّذِي فِي [ ص: 231 ] "فِيهِ " ، فَيَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ : الم الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ هَادِيًا .
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا نَصْبًا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، أَعْنِي عَلَى وَجْهَ الْقَطْعِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي "فِيهِ " ، وَمِنْ "الْكِتَابِ " ، عَلَى أَنْ "الم " كَلَامٌ تَامٌّ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ مَعْنَاهُ : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ . ثُمَّ يَكُونُ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا ، فَيُرْفَعُ حِينَئِذٍ "الْكِتَابُ " بِ "ذَلِكَ " ، وَ "ذَلِكَ " بِ "الْكِتَابُ " ، وَيَكُونُ "هُدًى " قَطْعًا مِنْ "الْكِتَابِ " ، وَعَلَى أَنْ يُرْفَعَ "ذَلِكَ " بِالْهَاءِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهِ الَّتِي فِي "فِيهِ " ، وَ "الْكِتَابُ " نَعْتٌ لَهُ; وَالْهُدَى قَطْعٌ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي " فِيهِ " . وَإِنْ جُعِلَ الْهُدَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " إِلَّا خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا ، وَ "الم " كَلَامًا تَامًّا مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ ، إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنْ يُرْفَعَ حِينَئِذٍ "هُدًى " بِمَعْنَى الْمَدْحِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ : ( الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ ) سُورَةُ لُقْمَانَ : 1 - 3 فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ "رَحْمَةٌ " . بِالرَّفْعِ ، عَلَى الْمَدْحِ لِلْآيَاتِ .
وَالرَّفْعُ فِي "هُدًى " حِينَئِذٍ يَجُوزُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَدْحٌ مُسْتَأْنَفٌ . وَالْآخَرُ : عَلَى أَنْ يُجْعَلَ مُرَافِعَ " ذَلِكَ " ، وَ "الْكِتَابُ " نَعْتٌ "لِذَلِكَ " . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُجْعَلَ تَابِعًا لِمَوْضِعِ " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، وَيَكُونُ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " مَرْفُوعًا بِالْعَائِدِ فِي "فِيهِ " . فَيَكُونُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 92 .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِي نَ فِي الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّة ِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ ، أَنَّ "الم " مُرَافِعُ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " بِمَعْنَى : هَذِهِ الْحُرُوفُ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُوحِيهِ إِلَيْكَ . ثُمَّ نَقَضَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فَأَسْرَعَ نَقْضَهُ ، وَهَدَمَ مَا بَنَى فَأَسْرَعَ هَدْمَهُ ، فَزَعَمَ أَنَّ الرَّفْعَ فِي "هُدًى " مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَالنَّصْبَ مِنْ وَجْهَيْنِ . وَأَنَّ أَحَدَ وَجْهَيِ الرَّفْعِ : أَنْ يَكُونَ "الْكِتَابُ " نَعْتًا لِ "ذَلِكَ " وَ "الْهُدَى " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرٌ لِ "ذَلِكَ " . [ ص: 232 ] كَأَنَّكَ قُلْتَ : ذَلِكَ هُدًى لَا شَكَّ فِيهِ . قَالَ : وَإِنْ جَعَلْتَ " لَا رَيْبَ فِيهِ " خَبَّرَهُ ، رَفَعْتَ أَيْضًا "هُدًى " ، بِجَعْلِهِ تَابِعًا لِمَوْضِعِ " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) ، كَأَنَّهُ قَالَ : وَهَذَا كِتَابٌ هُدًى مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا . قَالَ : وَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ النَّصْبِ فَأَنْ تَجْعَلَ الْكِتَابَ خَبَرًا لِ "ذَلِكَ " ، وَتَنْصِبَ "هُدًى " عَلَى الْقَطْعِ ، لِأَنَّ "هُدًى " نَكِرَةٌ اتَّصَلَتْ بِمَعْرِفَةٍ ، وَقَدْ تَمَّ خَبَرُهَا فَنَصَبْتَهَا لِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَةٍ . وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَ "هُدًى " عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي "فِيهِ " كَأَنَّكَ قُلْتَ : لَا شَكَّ فِيهِ هَادِيًا .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَتَرْكُ الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلَهُ فِي "الم " وَأَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ . وَاللَّازِمُ كَانَ لَهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلَهُ ، أَنْ لَا يُجِيزَ الرَّفْعَ فِي "هُدًى " بِحَالٍ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ مِنْ قِبْلِ الِاسْتِئْنَافِ ، إِذْ كَانَ مَدْحًا . فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ "لِذَلِكَ " ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِتْبَاعِ لِمَوْضِعِ "لَا رَيْبَ فِيهِ " ، فَكَانَ اللَّازِمُ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ خَطَأً . وَذَلِكَ أَنْ "الم " إِذَا رَافَعَتْ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، فَلَا شَكَّ أَنْ "هُدًى " غَيْرُ جَائِزٍ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا "لِذَلِكَ " ، بِمَعْنَى الْمُرَافِعِ لَهُ ، أَوْ تَابِعًا لِمَوْضِعِ "لَا رَيْبَ فِيهِ " ، لِأَنَّ مَوْضِعَهُ حِينَئِذٍ نَصْبٌ ، لِتَمَامِ الْخَبَرِ قَبْلَهُ ، وَانْقِطَاعِهِ - بِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ - عَنْهُ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( لِلْمُتَّقِينَ ( 2 ) )
261 - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَوْلُهُ : "لِلْمتقين " قَالَ : اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، وَأَدَّوْا مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ . [ ص: 233 ]
262 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "لِلْمتقين " ، أَيِ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ .
263 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " ، قَالَ : هُمُ الْمُؤْمِنُونَ .
264 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، قَالَ : سَأَلَنِي الْأَعْمَشُ عَنِ "الْمتقين " ، قَالَ : فَأَجَبْتُهُ ، فَقَالَ لِي : سُئِلَ عَنْهَا الْكَلْبَيُّ . فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ . قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَى الْأَعْمَشِ ، فَقَالَ : نُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ . وَلَمْ يُنْكِرْهُ .
265 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ أَبُو حَفْصٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ : "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " ، هُمْ مَنْ نَعَتَهُمْ وَوَصَفَهُمْ فَأَثْبَتَ صِفَتَهُمْ ، فَقَالَ : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .
266 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "لِلْمتقين " قَالَ : الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِي ، وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي .
وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ، تَأْوِيلُ مَنْ وَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رُكُوبِ مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ ، فَتَجَنَّبُوا [ ص: 234 ] مَعَاصِيَهُ ، وَاتَّقَوْهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ ، فَأَطَاعُوهُ بِأَدَائِهَا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى ، فَلَمْ يَحْصُرْ تَقْوَاهُمْ إِيَّاهُ عَلَى بَعْضِ مَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ . فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْصُرَ مَعْنَى ذَلِكَ ، عَلَى وَصْفِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ شَيْءٍ ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا . لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْقَوْمِ - لَوْ كَانَ مَحْصُورًا عَلَى خَاصٍّ مِنْ مَعَانِي التَّقْوَى دُونَ الْعَامِّ مِنْهَا - لَمْ يَدَعِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيَانَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ : إِمَّا فِي كِتَابِهِ ، وَإِمَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ وَصْفِهِمْ بِعُمُومِ التَّقْوَى .
فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ : الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَبَرِئُوا مِنَ النِّفَاقِ . لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ فَاسِقٌ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ أَنَّ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ - عِنْدِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلُ - مَعْنَى النِّفَاقِ : رُكُوبُ الْفَوَاحِشِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَتَضْيِيعُ فَرَائِضِهِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِ . فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ كَانَتْ تُسَمِّي مَنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُنَافِقًا . فَيَكُونُ - وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي تَسْمِيَتِهِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِهَذَا الِاسْمِ - مُصِيبًا تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "لِلْمتقين " .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ )
267 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ " ، قَالَ : يُصَدِّقُونَ .
268 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ ، [ ص: 235 ] قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "يُؤْمِنُونَ " : يُصَدِّقُونَ .
269 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ : "يُؤْمِنُونَ " : يَخْشَوْنَ .
270 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : الْإِيمَانُ الْعَمَلُ .
271 - حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : الْإِيمَانُ : التَّصْدِيقُ .
وَمَعْنَى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ : التَّصْدِيقُ ، فَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ بِالشَّيْءِ قَوْلًا مُؤْمِنًا بِهِ ، وَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ ، مُؤْمِنًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) سُورَةُ يُوسُفَ : 17 ، يَعْنِي : وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلِنَا . وَقَدْ تَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ ، الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ . وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ الْإِقْرَارَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَتَصْدِيقَ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَأَشْبَهُ بِصِفَةِ الْقَوْمِ : أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْغَيْبِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْصُرْهُمْ مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلَى مَعْنًى دُونَ مَعْنًى ، بَلْ أَجْمَلَ وَصْفَهُمْ بِهِ ، مِنْ غَيْرِ خُصُوصِ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ أَخْرَجَهُ مِنْ صِفَتْهِمْ بِخَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(4)
الحلقة (20)
صــ 237إلى صــ 242
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( بِالْغَيْبِ )
272 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "بِالْغَيْبِ " ، قَالَ : بِمَا جَاءَ مِنْهُ ، يَعْنِي : مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ .
273 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، "بِالْغَيْبِ " : أَمَّا الْغَيْبُ فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَأَمْرِ النَّارِ ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقُرْآنِ . لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُمْ بِذَلِكَ - يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ - مِنْ قِبَلِ أَصْلِ كِتَابٍ أَوْ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُمْ .
274 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزَّبِيرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ زِرٍّ ، قَالَ : الْغَيْبُ الْقُرْآنُ .
275 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " ، قَالَ : آمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَبِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَكُلُّ هَذَا غَيْبٌ .
276 - حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، [ ص: 237 ] عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " : آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَلِقَائِهِ ، وَآمَنُوا بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَهَذَا كُلُّهُ غَيْبٌ .
وَأَصْلُ الْغَيْبِ : كُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْ شَيْءٍ . وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ : غَابَ فُلَانٌ يَغِيبُ غَيْبًا .
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَعْيَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِيهِمْ ، وَفِي نَعْتِهِمْ وَصِفَتِهِمُ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا ، مِنْ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ ، وَسَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي حَوَتْهَا الْآيَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِمْ غَيْرَهُ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ مُؤْمِنُو الْعَرَبِ خَاصَّةً ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَحَقِيقَةِ تَأْوِيلِهِمْ ، بِالْآيَةِ الَّتِي تَتْلُو هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) . قَالُوا : فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ كِتَابٌ قَبْلَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تَدِينُ بِتَصْدِيقِهِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ . وَإِنَّمَا كَانَ الْكِتَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ غَيْرِهَا . قَالُوا : فَلَمَّا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبَّأَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ - بَعْدَ اقْتِصَاصِهِ نَبَّأَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ - عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرُ الصِّنْفِ الْآخَرِ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُصَدِّقِ بِالْكِتَابَيْن ِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مُنَزَّلٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى مَنْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ . [ ص: 238 ]
قَالُوا : وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْبَعْثِ ، وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَجَمِيعِ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَدِينُ بِهِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا ، مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ الدَّيْنُونَةَ بِهِ - دُونَ غَيْرِهِمْ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
277 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ ، ( وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) . أَمَّا الْغَيْبُ فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ . لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَصْلِ كِتَابٍ أَوْ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُمْ . ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً ، لِإِيمَانِهِمْ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ فِيهِ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيُسِرُّونَهَا ، فَعَلِمُوا عِنْدَ إِظْهَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ ، أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ، فَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَصَدَّقُوا بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا ، لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ - بِالْحُجَّةِ الَّتِي احْتَجَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ ، مِنَ الْإِخْبَارِ فِيهِ عَمَّا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ - أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . [ ص: 239 ]
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَلِكَ صِفَتُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسِوَاهُمْ . وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَةُ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ ، وَالْمُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا أَنْزَلَ مِنْ قَبْلِهِ ، هُوَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ .
قَالُوا : وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ ، بَعْدَ تَقْضِّي وَصْفِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ ، لِأَنَّ وَصْفَهُ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ ، كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي كَلَّفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْإِيمَانَ بِهَا ، مِمَّا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِمَّا هُوَ آتٍ ، دُونَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَمِنَ الْكُتُبِ .
قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي قَوْلِهِ ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) - كَانَتِ الْحَاجَةُ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ صِفَتِهِمْ بِذَلِكَ لِيَعْرِفُوهُمْ ، نَظِيرَ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا مِنْ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ لِيَعْلَمُوا مَا يَرْضَى اللَّهُ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَيُحِبُّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ ، فَيَكُونُوا بِهِ - إِنْ وَفَّقَهُمْ لَهُ رَبُّهُمْ - مُؤْمِنِينَ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
278 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرُو بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَاهِلِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ الْمَكِّيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ ، [ ص: 240 ] وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ .
279 - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، بِمِثْلِهِ .
280 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْلٌ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، مِثْلَهُ .
281 - حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، قَالَ : أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ - يَعْنِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ - فِي الَّذِينَ آمَنُوا ، وَآيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ .
وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ ، وَأَشْبَهَهُمَا بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ ، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ : أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ ، وَبِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الَأَوَّلَتَيْن ِ ، غَيْرُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ ، لِمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْعِلَلِ قَبْلُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ .
وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ، أَنَّهُ جَنَّسَ - بَعْدَ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَصَفَ ، وَبَعْدَ تَصْنِيفِهِ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا صَنَّفَ الْكُفَّارَ - [ ص: 241 ] جِنْسَيْنِ فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا مَطْبُوعًا عَلَى قَلْبِهِ ، مَخْتُومًا عَلَيْهِ ، مَأْيُوسًا مِنْ إِيَابِهِ ، وَالْآخَرَ مُنَافِقًا ، يُرَائِي بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ فِي الظَّاهِرِ ، وَيَسْتَسِرُّ النِّفَاقَ فِي الْبَاطِنِ . فَصَيَّرَ الْكُفَّارَ جِنْسَيْنِ ، كَمَا صَيَّرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ جِنْسَيْنِ . ثُمَّ عَرَّفَ عِبَادُهُ نَعْتَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ وَصِفَتَهُمْ ، وَمَا أَعَدَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ ، وَذَمَّ أَهَّلَ الذَّمِّ مِنْهُمْ ، وَشَكَرَ سَعْيَ أَهَّلَ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَيُقِيمُونَ )
وَإِقَامَتُهَا : أَدَاؤُهَا - بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَالْوَاجِبِ فِيهَا - عَلَى مَا فُرِضَتْ عَلَيْهِ . كَمَا يُقَالُ : أَقَامَ الْقَوْمُ سُوقَهُمْ ، إِذَا لَمْ يُعَطِّلُوهَا مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهَا ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
أَقَمْنَا لِأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ ال ضِّرَابِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا
282 - وَكَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " ، قَالَ : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا .
283 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " قَالَ : إِقَامَةُ [ ص: 242 ] الصَّلَاةِ تَمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَالتِّلَاوَةُ وَالْخُشُوعُ ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهَا فِيهَا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(5)
الحلقة (21)
صــ 243إلى صــ 250
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الصَّلَاةَ )
284 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا جُوَيْبَرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ : " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " : يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى :
لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
يَعْنِي بِذَلِكَ : دَعَا لَهَا ، وَكَقَوْلِ الْأَعْشَى أَيْضًا .
وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ [ ص: 243 ]
وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ سُمِّيَتْ "صَلَاةً " ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُتَعَرِّضٌ لِاسْتِنْجَاحِ طَلِبَتِهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ ، مَعَ مَا يَسْأَلُ رَبَّهُ مِنْ حَاجَاتِهِ ، تَعَرُّضَ الدَّاعِي بِدُعَائِهِ رَبَّهُ اسْتِنْجَاحَ حَاجَاتِهِ وَسُؤْلَهُ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 ) )
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا : -
285 - حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ احْتِسَابًا بِهَا .
286 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .
287 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسُورِهِمْ وَجُهْدِهِمْ ، حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ : سَبْعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ ، مِمَّا يَذْكُرُ فِيهِنَّ الصَّدَقَاتِ ، هُنَّ الْمُثْبَتِاتُ النَّاسِخَاتُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا : -
288 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ [ ص: 244 ] النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " : هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ . وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ .
وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ وَأَحَقُّهَا بِصِفَةِ الْقَوْمِ : أَنْ يَكُونُوا كَانُوا لِجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، مُؤَدِّينَ ، زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ ، مِنْ أَهْلٍ وَعِيَالٍ وَغَيْرُهُمْ ، مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ وَصَفَهُمْ إِذْ وَصَفَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ ، فَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ . فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِذْ لَمْ يَخْصُصْ مَدْحَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا دُونَ نَوْعٍ بِخَبَرٍ وَلَا غَيْرِهِ - أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِجَمِيعِ مَعَانِي النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا مَنْ طِيبِ مَا رَزَقَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ ، وَذَلِكَ الْحَلَالُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَشُبْهُ حَرَامٌ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ )
قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنِ الْمَنْعُوتِينَ بِهَذَا النَّعْتِ ، وَأَيُّ أَجْنَاسِ النَّاسِ هُمْ . غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلٌ :
289 - فَحَدَّثْنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ " : أَيْ يُصَدِّقُونَكَ [ ص: 245 ] بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ ، وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ .
290 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " : هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 ) )
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : أَمَّا الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا صِفَةٌ لِلدَّارِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ : 64 . وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِمَصِيرِهَا آخِرَةً لِأُولَى كَانَتْ قَبْلَهَا ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ : "أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، فَلَمْ تَشْكُرْ لِيَ الْأُولَى وَلَا الْآخِرَةَ " ، وَإِنَّمَا صَارَتْ آخِرَةً لِلْأُولَى ، لِتَقَدُّمِ الْأُولَى أَمَامَهَا . فَكَذَلِكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ، سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَقَدُّمِ الدَّارِ الْأُولَى أَمَامَهَا ، فَصَارَتِ التَّالِيَةُ لَهَا آخِرَةً . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْخَلْقِ ، كَمَا سُمِّيَتِ الدُّنْيَا "دُنْيَا " لِدُنُوِّهَا مِنَ الْخَلْقِ . [ ص: 246 ]
وَأَمَّا الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ - بِمَا أَنْزَلَ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَنْزَلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ - مِنْ إِيقَانِهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ، فَهُوَ إِيقَانُهُمْ بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِهِ جَاحِدِينَ : مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِخَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . كَمَا : -
291 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) : أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ ، أَيْ ، لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ قَبْلَكَ ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ صَرَّحَ عَنْ أَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا - وَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا مِنْ نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ - تَعْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَمِّ كَفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ - بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ - مُصَدِّقُونَ ، وَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مُكَذِّبُونَ ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّنْزِيلِ جَاحِدُونَ ، وَيَدَّعُونَ مَعَ جُحُودِهِمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ بِقَوْلِهِ : ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) . وَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ : أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ هَدًى لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى - خَاصَّةً ، دُونَ مَنْ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، وَادَّعَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الرُّسُلِ [ ص: 247 ] وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكُتُبِ . ثُمَّ أَكَّدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ - بِقَوْلِهِ : ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ هُمْ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْخَسَارِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ )
اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " : فَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَت َيْنِ ، أَعْنِي : الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعَرَبِ ، وَالْمُؤْمِنِين َ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ . وَإِيَّاهُمْ جَمِيعًا وَصَفَ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْهُ ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ :
292 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مَرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمَّا " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " ، الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ : " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [ ص: 248 ] بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ ، وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ .
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْآخَرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) فِي مَحَلِّ خَفْضٍ ، وَمَحَلِّ رَفْعٍ .
فَأَمَّا الرَّفْعُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ قِبَلِ الْعَطْفِ عَلَى مَا فِي " يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " مِنْ ذِكْرِ "الَّذِينَ " ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ ، أَوْ يَكُونَ " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " ، مُرَافِعُهَا .
وَأَمَّا الْخَفْضُ فَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى "الْمتقين " ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى "الَّذِينَ " اتَّجَهَ لَهَا وَجْهَانِ مِنَ الْمَعْنَى : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ هِيَ وَ "الَّذِينَ " الْأُولَى ، مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ . وَذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ "الم " ، نَزَلَتْ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً فِي الْإِعْرَابِ عَلَى "الْمتقين " بِمَعْنَى الْخَفْضِ ، وَهُمْ فِي الْمَعْنَى صِنْفٌ غَيْرُ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ . وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَأَى أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْأُولَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ "الم " ، غَيْرُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْآخِرَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيَانِ الْأُولَتَيْنِ .
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةً فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى الِائْتِنَافِ ، إِذْ كَانَتْ مُبْتَدَأً بِهَا بَعْدَ تَمَامِ آيَةٍ وَانْقِضَاءِ قِصَّةٍ . وَقَدْ يَجُوزُ الرَّفْعُ فِيهَا أَيْضًا بِنْيَةِ الِائْتِنَافِ ، إِذْ كَانَتْ فِي مُبْتَدَأِ آيَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ .
فَالرَّفْعُ إِذًا يَصِحُّ فِيهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، وَالْخَفْضُ مِنْ وَجْهَيْنِ .
وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ عِنْدِي بِقَوْلِهِ ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) مَا ذَكَرْتُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنْ تَكُونَ "أُولَئِكَ " إِشَارَةً إِلَى الْفَرِيقَيْنِ ، أَعْنِي : [ ص: 249 ] الْمُتَّقِينَ ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَتَكُونُ "أُولَئِكَ " مَرْفُوعَةً بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ " عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ "; وَأَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلُ مِنَ الْكَلَامِ ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ .
وَإِنَّمَا رَأَيْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَعَتَ الْفَرِيقَيْنِ بِنَعْتِهِمُ الْمَحْمُودِ ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ . فَلَمْ يَكُنْ عَزَّ وَجَلَّ لِيَخُصَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالثَّنَاءِ ، مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِيمَا اسْتَحَقَّا بِهِ الثَّنَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ . كَمَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي عَدْلِهِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْجَزَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ ، فَيَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِالْجَزَاءِ دُونَ الْآخَرِ ، وَيَحْرِمُ الْآخَرَ جَزَاءَ عَمَلِهِ . فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّنَاءِ بِالْأَعْمَالِ ، لِأَنَّ الثَّنَاءَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْجَزَاءِ .
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : أَنَّهُمْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ ، بِتَسْدِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ ، وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ . كَمَا : -
293 - حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، [ ص: 250 ] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " : أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(6)
الحلقة (22)
صــ 251إلى صــ 256
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وأولئك هم المفلحون ( 5 ) )
وتأويل قوله : " وأولئك هم المفلحون " أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنان ، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب . كما : -
294 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وأولئك هم المفلحون ) أي الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا .
ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح ، إدراك الطلبة والظفر بالحاجة ، قول لبيد بن ربيعة :
اعقلي ، إن كنت لما تعقلي ، ولقد أفلح من كان عقل
يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا ، ومنه قول الراجز :
عدمت أما ولدت رياحا جاءت به مفركحا فركاحا
تحسب أن قد ولدت نجاحا! أشهد لا يزيدها فلاحا
يعني : خيرا وقربا من حاجتها . والفلاح مصدر من قولك : أفلح فلان يفلح إفلاحا وفلاحا وفلحا . والفلاح أيضا : البقاء ، ومنه قول لبيد :
نحل بلادا ، كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
يريد البقاء ، ومنه أيضا قول عبيد :
أفلح بما شئت ، فقد يدرك بالض عف ، وقد يخدع الأريب
يريد : عش وابق بما شئت ، وكذلك قول نابغة بني ذبيان :
وكل فتى ستشعبه شعوب وإن أثرى ، وإن لاقى فلاحا
أي نجاحا بحاجته وبقاء .
القول في تأويل قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )
اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفيمن نزلت . فكان ابن عباس يقول ، كما : -
295 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " إن الذين كفروا " ، أي بما أنزل إليك من ربك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك .
وكان ابن عباس يرى أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توبيخا لهم في جحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به ، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله إليهم وإلى الناس كافة .
296 - وقد حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها ، نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ، من المنافقين من الأوس والخزرج . كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم . [ ص: 252 ]
وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر ، وهو ما : -
297 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول .
وقال آخرون بما : -
298 - حدثت به عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : آيتان في قادة الأحزاب : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) ، قال : وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) سورة إبراهيم : 28 ، 29 ، قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عنه . وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب . [ ص: 253 ]
فأما مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس ، فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون ، وأن الإنذار غير نافعهم ، ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة - لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادة الأحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر - علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية .
وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك ، فهي أن قول الله جل ثناؤه ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب ، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله . فأولى الأمور بحكمة الله ، أن يتلي ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم ، وذم أسبابهم وأحوالهم ، وإظهار شتمهم والبراءة منهم . لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم - فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل .
وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل ، الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته - بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه ، فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك ، هو الذي أنزل الكتاب على موسى . إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد [ ص: 254 ] صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي ، وأن ما جاء به فمن عند الله . وأنى يمكن ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ، ولا يحسب ، فيقال قرأ الكتب فعلم ، أو حسب فنجم ؟ وانبعث على أحبار قراء كتبة - قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم - يخبرهم عن مستور عيوبهم ، ومصون علومهم ، ومكتوم أخبارهم ، وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم . إن أمر من كان كذلك لغير مشكل ، وإن صدقه لبين .
ومما ينبئ عن صحة ما قلنا - من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه - اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم ، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه السلام ، بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين ، واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم - في قوله : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) سورة البقرة : 40 وما بعدها ، واحتجاجه لنبيه عليهم ، بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته . فإذ كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب ، وآخرا عن مشركيهم ، فأولى أن يكون وسطا : - عنهم . إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع ، إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدأ به من معانيه ، فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه . [ ص: 255 ]
وأما معنى الكفر في قوله " إن الذين كفروا " فإنه الجحود . وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس وكتموا أمره ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .
وأصل الكفر عند العرب : تغطية الشيء ، ولذلك سموا الليل "كافرا " ، لتغطية ظلمته ما لبسته ، كما قال الشاعر :
فتذكرا ثقلا رثيدا ، بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر
وقال لبيد بن ربيعة :
في ليلة كفر النجوم غمامها
يعني غطاها . فكذلك الأحبار من اليهود غطوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه الناس - مع علمهم بنبوته ، ووجودهم صفته في كتبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) سورة البقرة : 159 ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .
[ ص: 256 ]
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )
وتأويل "سواء " : معتدل . مأخوذ من التساوي ، كقولك : "متساو هذان الأمران عندي " ، و "هما عندي سواء " ، أي هما متعادلان عندي ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( فانبذ إليهم على سواء ) سورة الأنفال : 58 ، يعني : أعلمهم وآذنهم بالحرب ، حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر . فكذلك قوله " سواء عليهم " : معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم ، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم . ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات :
تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها
يعني بذلك : معتدل عندها في السير الليل والنهار ، لأنه لا فتور فيه . ومنه قول الآخر
وليل يقول المرء من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(7)
الحلقة (23)
صــ 257إلى صــ 262
وأما قوله : ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر ; لأنه وقع موقع "أي " كما تقول : "لا نبالي أقمت أم [ ص: 257 ] قعدت " ، وأنت مخبر لا مستفهم ، لوقوع ذلك موقع "أي " . وذلك أن معناه إذا قلت ذلك : ما نبالي أي هذين كان منك . فكذلك ذلك في قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم - حسن في موضعه مع سواء : "أفعلت أم لم تفعل " .
وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع "سواء " ، وليس باستفهام ، لأن المستفهم إذا استفهم غيره فقال : "أزيد عندك أم عمرو ؟ " مستثبت صاحبه أيهما عنده . فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الآخر . فلما كان قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " بمعنى التسوية ، أشبه ذلك الاستفهام ، إذ أشبهه في التسوية . وقد بينا الصواب في ذلك .
فتأويل الكلام إذا : معتدل يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها ، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي ، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك ، وأن يبينوه للناس ، ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، فإنهم لا يؤمنون ، ولا يرجعون إلى الحق ، ولا يصدقون بك وبما جئتهم به . كما : -
299 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ .
[ ص: 258 ]
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم )
قال أبو جعفر : وأصل الختم : الطبع . والخاتم هو الطابع . يقال منه : ختمت الكتاب ، إذا طبعته .
فإن قال لنا قائل : وكيف يختم على القلوب ، وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف ؟
قيل : فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم ، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تدرك المسموعات ، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات - نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف .
فإن قال : فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها ؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار ، أم هي بخلاف ذلك ؟
قيل : قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك ، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم :
300 - فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بإصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى هكذا ، حتى ضم أصابعه كلها ، قال : ثم يطبع عليه بطابع . قال [ ص: 259 ] مجاهد : وكانوا يرون أن ذلك : الرين .
301 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : القلب مثل الكف ، فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يرون أنه الران .
302 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال مجاهد : نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه الطبع ، والطبع : الختم . قال ابن جريج : الختم ، الختم على القلب والسمع .
303 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : الران أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الأقفال ، والأقفال أشد ذلك كله . [ ص: 260 ]
وقال بعضهم : إنما معنى قوله " ختم الله على قلوبهم " إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم ، وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق ، كما يقال : "إن فلانا لأصم عن هذا الكلام " ، إذا امتنع من سماعه ، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا .
قال أبو جعفر : والحق في ذلك عندي ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما : -
304 - حدثنا به محمد بن بشار قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : حدثنا ابن عجلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقلت قلبه ، فإن زاد زادت حتى تغلق قلبه ، فذلك "الران " الذي قال الله جل ثناؤه : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) سورة المطففين : 14 . [ ص: 261 ]
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر منها مخلص ، فذلك هو الطبع . والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) ، نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف ، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها . فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم ، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها .
ويقال لقائلي القول الثاني ، الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، هو وصفهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دعوا إليه من الإقرار بالحق تكبرا : أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة ، وإعراضهم عن الإقرار بما دعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللواحق به - أفعل منهم ، أم فعل من الله تعالى ذكره بهم ؟
فإن زعموا أن ذلك فعل منهم - وذلك قولهم - قيل لهم : فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم . وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان ، وتكبره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم - ختما من الله على قلبه وسمعه ، وختمه على قلبه وسمعه ، فعل الله عز وجل دون الكافر ؟
فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبره وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه ، فلما كان الختم سببا لذلك ، جاز أن يسمى مسببه به - تركوا قولهم ، وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم ، معنى غير كفر الكافر ، وغير تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به . وذلك دخول فيما أنكروه . [ ص: 262 ]
وهذه الآية من أوضح الدليل على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله ، لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم ، ثم لم يسقط التكليف عنهم ، ولم يضع عن أحد منهم فرائضه ، ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بل أخبر أن لجميعهم منه عذابا عظيما على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه ، مع حتمه القضاء عليهم مع ذلك ، بأنهم لا يؤمنون .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وعلى أبصارهم غشاوة )
قال أبو جعفر : وقوله ( وعلى أبصارهم غشاوة ) خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم . وذلك أن "غشاوة " مرفوعة بقوله " وعلى أبصارهم " ، فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ ، وأن قوله " ختم الله على قلوبهم " ، قد تناهى عند قوله " وعلى سمعهم " .
وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين :
أحدهما : اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها ، وانفراد المخالف لهم في ذلك ، وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون . وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدا على خطئها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(8)
الحلقة (24)
صــ 263إلى صــ 268
والثاني : أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله ، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا موجود في لغة أحد من العرب . وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى : ( وختم على سمعه وقلبه ) ، ثم قال : ( وجعل على بصره غشاوة ) [ ص: 263 ] سورة الجاثية : 23 ، فلم يدخل البصر في معنى الختم . وذلك هو المعروف في كلام العرب ، فلم يجز لنا ، ولا لأحد من الناس ، القراءة بنصب الغشاوة ، لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت ، وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية .
وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل ، روي الخبر عن ابن عباس :
305 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي الحسين بن الحسن ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، والغشاوة على أبصارهم . [ ص: 264 ]
فإن قال قائل : وما وجه مخرج النصب فيها ؟
قيل له : أن تنصبها بإضمار "جعل " ، كأنه قال : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ثم أسقط "جعل " ، إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه . وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع ، إذ كان موضعه نصبا ، وإن لم يكن حسنا إعادة العامل فيه على "غشاوة " ، ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضا ، كما قال تعالى ذكره : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق ) ، ثم قال : ( وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين ) ، سورة الواقعة : 17 - 22 ، فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة ، إتباعا لآخر الكلام أوله . ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور العين ، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه :
علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها
[ ص: 265 ]
ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به ، ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل ، وكما قال الآخر :
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
وكان ابن جريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله " وعلى سمعهم " ، وابتداء الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه ، ويتأول فيه من كتاب الله ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) سورة الشورى : 24 .
306 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى ذكره : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) ، وقال : ( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) [ سورة الجاثية : 23 ] .
والغشاوة في كلام العرب : الغطاء ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص :
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
ومنه يقال : تغشاه الهم : إذا تجلله وركبه ، ومنه قول نابغة بني ذبيان : [ ص: 266 ]
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
يعني بذلك : تجلله وخالطه .
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود ، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها ، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه ، وفيما حدد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم ، فلا يسمعون من محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوته ، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه وصحة أمره . وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى ، فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردى .
وبنحو ما قلنا في ذلك ، روي الخبر عن جماعة من أهل التأويل :
307 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) ، أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك ، حتى يؤمنوا به ، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .
308 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول [ ص: 267 ] الله صلى الله عليه وسلم : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " يقول : فلا يعقلون ولا يسمعون . ويقول : "وجعل على أبصارهم غشاوة " يقول : على أعينهم فلا يبصرون .
وأما آخرون ، فإنهم كانوا يتأولون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم ، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر .
309 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : هاتان الآيتان إلى ( ولهم عذاب عظيم ) هم ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) سورة إبراهيم : 28 ، وهم الذين قتلوا يوم بدر ، فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان بن حرب ، والحكم بن أبي العاص .
310 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، قال : أما القادة فليس فيهم مجيب ولا ناج ولا مهتد .
وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب ، فكرهنا إعادته .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولهم عذاب عظيم ( 7 ) )
وتأويل ذلك عندي ، كما قاله ابن عباس وتأوله : [ ص: 268 ]
311 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم . قال : فهذا في الأحبار من يهود ، فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم .
" القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( 8 ) )
قال أبو جعفر : أما قوله : " ومن الناس " ، فإن في "الناس " وجهين :
أحدهما : أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه ، وإنما واحدهم "إنسان " ، وواحدتهم "إنسانة " .
والوجه الآخر : أن يكون أصله "أناس " أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرفتان ، فأدغمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون ، كما قيل في ( لكنا هو الله ربي ) سورة الكهف : 38 ، على ما قد بينا في "اسم الله " الذي هو الله . وقد زعم بعضهم أن "الناس " لغة غير "أناس " ، وأنه سمع العرب تصغره "نويس " من الناس ، وأن الأصل لو كان "أناس" لقيل في التصغير : "أنيس" ، فرد إلى أصله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(9)
الحلقة (25)
صــ 269إلى صــ 274
وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم . [ ص: 269 ]
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم :
312 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم .
وقد سمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبي بن كعب ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .
313 - حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، حتى بلغ : ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) قال : هذه في المنافقين .
314 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة ، في نعت المنافقين .
315 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
316 حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 270 ]
317 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) هم المنافقون .
318 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) إلى ( فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم ) ، قال : هؤلاء أهل النفاق .
319 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) قال : هذا المنافق ، يخالف قوله فعله ، وسره علانيته ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه .
وتأويل ذلك : أن الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته ، واستقر بها قراره ، وأظهر الله بها كلمته ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذل بها من فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن ، وأبدوا له العداوة والشنآن ، حسدا وبغيا ، إلا نفرا منهم هداهم الله للإسلام فأسلموا ، كما قال جل ثناؤه : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) سورة البقرة : 109 ، وطابقهم سرا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ ص: 271 ] وبغيهم الغوائل ، قوم - من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه - وكانوا قد عسوا في شركهم وجاهليتهم قد سموا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم ، وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار ، حذار القتل على أنفسهم ، والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام . فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حذارا على أنفسهم - : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث ، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ، ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك ، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم . وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، فخلوا بهم قالوا : ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) . فإياهم عنى جل ذكره بقوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، يعني بقوله تعالى خبرا عنهم : آمنا بالله - : وصدقنا بالله .
وقد دللنا على أن معنى الإيمان : التصديق ، فيما مضى قبل من كتابنا هذا .
وقوله : ( وباليوم الآخر ) ، يعني : بالبعث يوم القيامة ، وإنما سمي يوم القيامة " اليوم الآخر " ، لأنه آخر يوم ، لا يوم بعده سواه .
فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاع للآخرة ولا فناء ، ولا زوال ؟ [ ص: 272 ]
قيل : إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوما . فيوم القيامة يوم لا ليل بعده ، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام . ولذلك سماه الله جل ثناؤه "اليوم الآخر " ، ونعته بالعقيم . ووصفه بأنه يوم عقيم ، لأنه لا ليل بعده .
وأما تأويل قوله : " وما هم بمؤمنين " ، ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان ، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم ، وضد ما في عزائم نفوسهم .
وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية : من أن الإيمان هو التصديق بالقول ، دون سائر المعاني غيره . وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق ، أنهم قالوا بألسنتهم : " آمنا بالله وباليوم الآخر " ، ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك .
وقوله " وما هم بمؤمنين " ، يعني بمصدقين " فيما يزعمون أنهم به مصدقون .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( يخادعون الله والذين آمنوا )
قال أبو جعفر : وخداع المنافق ربه والمؤمنين ، إظهاره [ ص: 273 ] بلسانه من القول والتصديق ، خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ، ليدرأ عن نفسه ، بما أظهر بلسانه ، حكم الله عز وجل - اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب ، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار - من القتل والسباء . فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله .
فإن قال قائل : وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟
قيل : لا تمتنع العرب من أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف ، فنجا بذلك مما خافه - مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية . فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر مستبطن . وذلك من فعله - وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها ، أنه يعطيها أمنيتها ، ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرعها به كأس عذابها ، ومزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعته نفسه ، ظنا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال جل ثناؤه : " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " ، إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم - غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، كان ابن زيد يقول .
320 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد عن قول الله جل ذكره : ( يخادعون الله والذين آمنوا ) إلى [ ص: 274 ] آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا ، أنهم مؤمنون بما أظهروا .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه الزاعمين : أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا ، بعد علمه بوحدانيته ، وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده ، والإقرار بكتبه ورسله - عنده . لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق ، وخداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون ، وأنهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به - مخدوعون . ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه ، واعتقاد الكفر به ، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون ، وهم على الكفر مصرون .
فإن قال لنا قائل : قد علمت أن "المفاعلة " لا تكون إلا من فاعلين ، كقولك : ضاربت أخاك ، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه . فأما إذا كان الفعل من أحدهما ، فإنما يقال : ضربت أخاك ، وجلست إلى أبيك ، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه : خادع الله والمؤمنين ؟
قيل : قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة أعني "يخادع " بصورة "يفاعل " ، وهو بمعنى "يفعل " ، في حروف أمثالها شاذة من منطق العرب ، نظير قولهم : قاتلك الله ، بمعنى قتلك الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(10)
الحلقة (26)
صــ 275إلى صــ 280
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال ، بل ذلك من "التفاعل " الذي لا يكون إلا من اثنين ، كسائر ما يعرف من معنى "يفاعل ومفاعل " في كل كلام العرب . وذلك : أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه - على ما قد تقدم [ ص: 275 ] وصفه - والله تبارك اسمه خادعه ، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده ، كالذي أخبر في قوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) سورة آل عمران : 178 ، وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الآخرة بقوله : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) سورة الحديد : 13 ، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام ب "يفاعل ومفاعل " . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول : لا تكون المفاعلة إلا من شيئين ، ولكنه إنما قيل : " يخادعون الله " عند أنفسهم ، بظنهم أن لا يعاقبوا ، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم ، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته ، وما يخدعون إلا أنفسهم . قال : وقد قال بعضهم : " وما يخدعون " يقول : يخدعون أنفسهم بالتخلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وما يخدعون إلا أنفسهم )
إن قال قائل : أو ليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين - بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم ، وإن [ ص: 276 ] كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟
قيل : خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين . لأنا إذا قلنا ذلك ، أوجبنا لهم حقيقة خدعة جازت لهم على المؤمنين . كما أنا لو قلنا : قتل فلان فلانا ، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان . ولكنا نقول : خادع المنافقون ربهم والمؤمنين ، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم ، كما قال جل ثناؤه ، دون غيرها ، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر ، فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه : قاتل فلان فلانا فلم يقتل إلا نفسه ، فتوجب له مقاتلة صاحبه ، وتنفي عنه قتله صاحبه ، وتوجب له قتل نفسه . فكذلك تقول : "خادع المنافق ربه والمؤمنين فلم يخدع إلا نفسه " ، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين ، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه ، لأن الخادع هو الذي قد صحت الخديعة له ، ووقع منه فعلها . فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم ، لأن ما كان لهم من مال وأهل ، فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم - في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها - فيستنقذوه بخداعهم منهم ، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم ، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة ، والله بما يخفون من أمورهم عالم . وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه ، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه . فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه غير لاحقه من خداعه إياه مكروه ، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ، ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها ، والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه ، ولا عارف باطلاعه على ضميره ، وأن إمهال مستدرجه إياه ، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع - من استحقاقه عقوبة مستدرجه ، [ ص: 277 ] بكثرة إساءته ، وطول عصيانه إياه ، وكثرة صفح المستدرج ، وطول عفوه عنه أقصى غاية فإنما هو خادع نفسه لا شك ، دون من حدثته نفسه أنه له مخادع . ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه ، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته .
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به ، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها ، لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) دون ( وما يخادعون ) لأن لفظ "المخادع " غير موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولفظ "خادع " موجب تثبيت خديعة على صحة . ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين - بنفاقه ، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) .
ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ : ( وما يخدعون ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ : ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضاد في المعنى ، وذلك غير جائز من الله جل وعز .
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وما يشعرون ( 9 ) )
يعني بقوله جل ثناؤه " وما يشعرون " ، وما يدرون . يقال : ما شعر فلان بهذا الأمر ، وهو لا يشعر به - إذا لم يدر ولم يعلم - شعرا وشعورا . وقال الشاعر : [ ص: 278 ]
عقوا بسهم ولم يشعر به أحد ثم استفاءوا وقالوا : حبذا الوضح
يعني بقوله : لم يشعر به ، لم يدر به أحد ولم يعلم . فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين : أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم ، بإملائه لهم واستدراجه إياهم ، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة ، ومنهم لأنفسهم خديعة ، ولها في الآجل مضرة . كالذي - :
321 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قوله : ( وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) ، قال : ما يشعرون أنهم ضروا أنفسهم ، بما أسروا من الكفر والنفاق . وقرأ قول الله تعالى ذكره : ( يوم يبعثهم الله جميعا ) ، قال : هم المنافقون حتى بلغ ( ويحسبون أنهم على شيء ) سورة المجادلة : 18 ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( في قلوبهم مرض )
قال أبو جعفر : وأصل المرض : السقم ، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان . فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا ، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره [ ص: 279 ] عن مرض قلوبهم ، الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب ، أنه معني به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد - استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لجأ :
وسبحت المدينة ، لا تلمها ، رأت قمرا بسوقهم نهارا
يريد : وسبح أهل المدينة ، فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة ، عن الخبر عن أهلها . ومثله قول عنترة العبسي :
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ؟ إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يريد : هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : "يا خيل الله اركبي " ، يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا . والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .
فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : ( في قلوبهم مرض ) إنما يعني : في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين ، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله - مرض وسقم . فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه ، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم .
والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه : هو شكهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله ، وتحيرهم فيه ، فلا هم به موقنون إيقان إيمان ، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ، ولكنهم ، كما وصفهم الله عز وجل ، مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما يقال : فلان يمرض في هذا الأمر [ ص: 280 ] أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه .
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك ، تظاهر القول في تفسيره من المفسرين .
ذكر من قال ذلك :
322 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " في قلوبهم مرض " أي شك .
323 - وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : المرض : النفاق .
324 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في قلوبهم مرض " يقول : في قلوبهم شك .
325 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " في قلوبهم مرض " قال : هذا مرض في الدين ، وليس مرضا في الأجساد ، قال : وهم المنافقون .
326 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله " في قلوبهم مرض " قال : في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه .
327 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " في قلوبهم مرض " قال : هؤلاء أهل النفاق ، والمرض الذي في قلوبهم : الشك في أمر الله تعالى ذكره .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(11)
الحلقة (27)
صــ 281إلى صــ 286
328 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) حتى بلغ ( في قلوبهم مرض ) [ ص: 281 ] قال : المرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فزادهم الله مرضا )
قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين ، هو الشك في اعتقادات قلوبهم وأديانهم ، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون .
فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم ، نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة ، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه - التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة ، إذ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف ، من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك . كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك ، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به ، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه - إيمانا . كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) [ ص: 282 ] [ سورة التوبة : 124 ، 125 ] . فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم ، هو ما وصفنا . والتي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم ، هو ما بينا . وذلك هو التأويل المجمع عليه .
ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل :
329 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فزادهم الله مرضا " قال : شكا .
330 - حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فزادهم الله مرضا " يقول : فزادهم الله ريبة وشكا .
331 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة : " فزادهم الله مرضا " يقول : فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله .
332 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " قال : زادهم رجسا ، وقرأ قول الله عز وجل : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) قال : شرا إلى شرهم ، وضلالة إلى ضلالتهم .
333 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فزادهم الله مرضا " قال : زادهم الله شكا .
[ ص: 283 ]
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولهم عذاب أليم )
قال أبو جعفر : والأليم : هو الموجع . ومعناه : ولهم عذاب مؤلم . بصرف " مؤلم " إلى " أليم " كما يقال : ضرب وجيع بمعنى موجع ، والله بديع السماوات والأرض ، بمعنى مبدع . ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
بمعنى المسمع . ومنه قول ذي الرمة :
وترفع من صدور شمردلات يصد وجوهها وهج أليم
ويروى " يصك " وإنما الأليم صفة للعذاب ، كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم . وهو مأخوذ من الألم ، والألم : الوجع . كما :
334 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الأليم ، الموجع .
335 - حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الأليم ، الموجع . [ ص: 284 ]
336 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله " أليم " قال : هو العذاب الموجع . وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( بما كانوا يكذبون ( 10 ) )
اختلفت القرأة في قراءة ذلك فقرأه بعضهم : ( بما كانوا يكذبون ) مخففة الذال مفتوحة الياء ، وهي قراءة عظم قرأة أهل الكوفة . وقرأه آخرون : " يكذبون " بضم الياء وتشديد الذال ، وهي قراءة عظم أهل المدينة والحجاز والبصرة .
وكأن الذين قرءوا ذلك ، بتشديد الذال وضم الياء ، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد اليسير من العذاب ، فكيف بالأليم منه ؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا . وذلك : أن الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة ، بأنهم يكذبون بدعواهم الإيمان ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم ، خداعا لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين ، فقال : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا ) [ ص: 285 ] بذلك من قيلهم ، مع استسرارهم الشك والريبة ، ( وما يخدعون ) بصنيعهم ذلك ( إلا أنفسهم ) دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ( وما يشعرون ) بموضع خديعتهم أنفسهم ، واستدراج الله عز وجل إياهم بإملائه لهم ، ( في قلوبهم ) شك النفاق وريبته والله زائدهم شكا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم في قيلهم ذلك كذبة ، لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم . فأولى في حكمة الله جل جلاله ، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم ، دون ما لم يجر له ذكر من أفعالهم . إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل ، وهو : أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم ، ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم .
فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوئ أفعال المنافقين - أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم . فهذا هذا ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا ، وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا ، وأن الصواب من التأويل ما تأولنا ، من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ) [ سورة المنافقون : 1 ، 2 ] . والآية [ ص: 286 ] الأخرى في المجادلة : ( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ) [ سورة المجادلة : 16 ] . فأخبر جل ثناؤه أن المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون . ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم ، على ذلك من كذبهم . ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة : " ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " لكانت القراءة في السورة الأخرى : " والله يشهد إن المنافقين " لمكذبون ، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب لا على الكذب . وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله : " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم - أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : " بما كانوا يكذبون " بمعنى الكذب ، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب - حق - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذكر - نظير الذي في سورة المنافقين سواء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(12)
الحلقة (28)
صــ 287إلى صــ 292
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن " ما " من قول الله تبارك اسمه " بما كانوا يكذبون " اسم للمصدر ، كما أن " أن " و " الفعل " اسمان للمصدر في قولك : أحب أن تأتيني ، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم . قال : وأدخل " كان " ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما يقال : ما أحسن ما كان عبد الله ، فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه ، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ، ويقول : إنما ألغيت " كان " في التعجب ، لأن الفعل قد تقدمها ، فكأنه قال : " حسنا كان زيد " و " حسن كان زيد " يبطل " كان " ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء ، إذا جاءت قبل " كان " ووقعت " كان " بينها وبين الأسماء . وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال ، فلشبه الصفات والأسماء ب " فعل " و " يفعل " اللتين لا يظهر عمل [ ص: 287 ] " كان " فيهما . ألا ترى أنك تقول : " يقوم كان زيد " ولا يظهر عمل " كان " في " يقوم " وكذلك " قام كان زيد " فلذلك أبطل عملها مع " فاعل " تمثيلا ب " فعل " و " يفعل " وأعملت مع " فاعل " أحيانا لأنه اسم ، كما تعمل في الأسماء . فأما إذا تقدمت " كان " الأسماء والأفعال ، وكان الاسم والفعل بعدها ، فخطأ عنده أن تكون " كان " مبطلة . فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه ، وتأول قول الله عز وجل بما كانوا يكذبون أنه بمعنى : الذي يكذبونه .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض )
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية :
فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول : لم يجئ هؤلاء بعد .
337 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن علي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت المنهال بن عمرو يحدث ، عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان ، قال : ما جاء هؤلاء بعد ، الذين ( إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) . [ ص: 288 ]
338 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان ، أنه قال في هذه الآية : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : ما جاء هؤلاء بعد .
وقال آخرون بما :
339 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، هم المنافقون . أما " لا تفسدوا في الأرض " فإن الفساد ، هو الكفر والعمل بالمعصية .
340 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) يقول : لا تعصوا في الأرض ( قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : فكان فسادهم ذلك معصية الله جل ثناؤه ، لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته ، فقد أفسد في الأرض ، لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة . [ ص: 289 ]
وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : إن قول الله تبارك اسمه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة .
وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية : " ما جاء هؤلاء بعد " أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبرا منه عمن هو جاء منهم بعدهم ولما يجئ بعد ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد .
وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين ، وأن هذه الآيات فيهم نزلت . والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن ، من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير .
والإفساد في الأرض ، العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه ، وتضييع ما أمر الله بحفظه ، فذلك جملة الإفساد ، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ سورة البقرة : 30 ] ، يعنون بذلك : أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك ؟ فكذلك صفة أهل النفاق : مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله ، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا . فذلك إفساد المنافقين في أرض الله ، وهم [ ص: 290 ] يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها . فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته ، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته - بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون - بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره ، والأليم من عذابه ، والعار العاجل بسب الله إياهم وشتمه لهم ، فقال تعالى : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم ، أدل الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين : إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه ، بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( قالوا إنما نحن مصلحون ( 11 ) )
وتأويل ذلك كالذي قاله ابن عباس ، الذي :
341 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( إنما نحن مصلحون ) ، أي قالوا : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب .
وخالفه في ذلك غيره .
342 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) ، قال : إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى مصلحون . [ ص: 291 ]
قال أبو جعفر : وأي الأمرين كان منهم في ذلك ، أعني في دعواهم أنهم مصلحون ، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون . فسواء بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاح ، أو في أديانهم ، وفيما ركبوا من معصية الله ، وكذبهم المؤمنين فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون ، لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين ، وهم عند الله مسيئون ، ولأمر الله مخالفون . لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوة اليهود وحربهم مع المسلمين ، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله ، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين . فكان لقاؤهم اليهود - على وجه الولاية منهم لهم - ، وشكهم في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظم الفساد ، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى : في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود ، فقال جل ثناؤه فيهم : ( ألا إنهم هم المفسدون ) دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض ، ( ولكن لا يشعرون )
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( 12 ) )
وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم . إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ، ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه ، قالوا : إنما نحن مصلحون لا مفسدون ، ونحن على رشد وهدى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالون . فكذبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم فقال : ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمر الله عز وجل ، المتعدون حدوده ، الراكبون معصيته ، التاركون فروضه ، وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين ، [ ص: 292 ] وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين .
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس )
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون : ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) : صدقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، كما صدق به الناس . ويعني ب " الناس " المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله . كما :
343 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) ، يقول : وإذا قيل لهم صدقوا كما صدق أصحاب محمد ، قولوا : إنه نبي ورسول ، وإن ما أنزل عليه حق ، وصدقوا بالآخرة ، وأنكم مبعوثون من بعد الموت .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(13)
الحلقة (29)
صــ 293إلى صــ 298
وإنما أدخلت الألف واللام في " الناس " وهم بعض الناس لا جميعهم ، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم ، وإنما معناه : آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر . فلذلك أدخلت الألف واللام فيه ، كما أدخلتا في قوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) [ ص: 293 ] [ سورة آل عمران : 173 ] ، لأنه أشير بدخولها إلى ناس معروفين عند من خوطب بذلك .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء )
قال أبو جعفر : والسفهاء جمع سفيه ، كما العلماء جمع عليم ، والحكماء جمع حكيم . والسفيه : الجاهل ، الضعيف الرأي ، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار . ولذلك سمى الله عز وجل النساء والصبيان سفهاء ، فقال تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) [ سورة النساء : 5 ] ، فقال عامة أهل التأويل : هم النساء والصبيان ، لضعف آرائهم ، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضار التي تصرف إليها الأموال .
وإنما عنى المنافقون بقيلهم : أنؤمن كما آمن السفهاء - إذ دعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، والإقرار بالبعث فقيل لهم : آمنوا كما آمن [ الناس ] - أصحاب محمد وأتباعه من المؤمنين المصدقين به ، من أهل الإيمان واليقين ، والتصديق بالله ، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه ، وباليوم الآخر . فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم : أنؤمن كما آمن أهل الجهل ، ونصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام ؟ كالذي :
344 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن [ ص: 294 ] عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) ، يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
345 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
346 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : " قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء " قال : هذا قول المنافقين ، يريدون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
347 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) يقولون : أنقول كما تقول السفهاء ؟ يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، لخلافهم لدينهم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ( 13 ) )
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعته لهم ، ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنهم هم الجهال في أديانهم ، [ ص: 295 ] الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم ، من الشك والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته ، وفيما جاء به من عند الله ، وأمر البعث ، لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك وهم يحسبون أنهم إليها يحسنون . وذلك هو عين السفه ، لأن السفيه إنما يفسد من حيث يرى أنه يصلح ، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ ، فكذلك المنافق : يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه ، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به ، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها ، كما وصفهم به ربنا جل ذكره ، فقال : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) ، وقال : ( ألا إنهم هم السفهاء ) - دون المؤمنين المصدقين بالله وبكتابه ، وبرسوله وثوابه وعقابه - ( ولكن لا يعلمون ) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية .
348 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم السفهاء ) ، يقول : الجهال ، ( ولكن لا يعلمون ) ، يقول : ولكن لا يعقلون .
وأما وجه دخول الألف واللام في " السفهاء " فشبيه بوجه دخولهما في " الناس " في قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) ، وقد بينا العلة في دخولهما هنالك ، والعلة في دخولهما في " السفهاء " نظيرتها في دخولهما في " الناس " هنالك ، سواء .
والدلالة التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من الله لا يستحقها إلا المعاند ربه ، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظير دلالة الآيات الأخر التي قد تقدم ذكرنا تأويلها في قوله " ولكن لا يشعرون " ونظائر ذلك .
[ ص: 296 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم )
قال أبو جعفر : وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جل ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسوله والمؤمنين ، فقال تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) . ثم أكذبهم تعالى ذكره بقوله : ( وما هم بمؤمنين ) ، وأنهم بقيلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا . وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون - للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسوله - بألسنتهم : آمنا وصدقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ودرءا لهم عنها ، وأنهم إذا خلوا إلى مردتهم وأهل العتو والشر والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم ، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شيء مردته - قالوا لهم : " إنا معكم " أي إنا معكم على دينكم ، وظهراؤكم على من خالفكم فيه ، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، " إنما نحن مستهزئون " بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه ، كالذي :
349 - حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم ، قالوا : إنا على دينكم . وإذا خلوا إلى أصحابهم ، وهم شياطينهم ، قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون . [ ص: 397 ]
350 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم ) قال : إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول ( قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه ( إنما نحن مستهزئون ) .
351 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، أما شياطينهم ، فهم رءوسهم في الكفر .
352 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) أي رؤسائهم في الشر ( قالوا إنما نحن مستهزئون ) .
353 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر عن قتادة في قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : المشركون .
354 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار .
355 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل بن عباد ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : أصحابهم من المنافقين والمشركين .
356 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي [ ص: 198 ] جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إخوانهم من المشركين ، ( قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .
357 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : إذا أصاب المؤمنين رخاء قالوا : إنا نحن معكم ، إنما نحن إخوانكم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين .
358 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وقال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين .
فإن قال لنا قائل : أرأيت قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ؟ فكيف قيل : ( خلوا إلى شياطينهم ) ، ولم يقل خلوا بشياطينهم ؟ فقد علمت أن الجاري بين الناس في كلامهم : " خلوت بفلان " أكثر وأفشى من : " خلوت إلى فلان " ومن قولك : إن القرآن أفصح البيان!
قيل : قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب . فكان بعض نحويي البصرة يقول : يقال " خلوت إلى فلان " إذا أريد به : خلوت إليه في حاجة خاصة . لا يحتمل - إذا قيل كذلك - إلا الخلاء إليه في قضاء الحاجة . فأما إذا قيل : " خلوت به " احتمل معنيين : أحدهما الخلاء به في الحاجة ، والآخر في السخرية به . فعلى هذا القول ، ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، لا شك أفصح منه لو قيل " وإذا خلوا بشياطينهم " لما في قول القائل : " إذا خلوا بشياطينهم " من التباس المعنى على سامعيه ، الذي هو منتف عن قوله : " وإذا خلوا إلى شياطينهم " فهذا أحد الأقوال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(14)
الحلقة (30)
صــ 299إلى صــ 304
والقول الآخر : فأن توجه معنى قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، " وإذا [ ص: 299 ] خلوا مع شياطينهم " إذ كانت حروف الصفات يعاقب بعضها بعضا ، كما قال الله مخبرا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين : ( من أنصاري إلى الله ) [ سورة الصف : 14 ] ، يريد : مع الله . وكما توضع " على " في موضع " من " و " في " و " عن " و " الباء " كما قال الشاعر :
إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها
بمعنى عني .
وأما بعض نحويي أهل الكوفة ، فإنه كان يتأول أن ذلك بمعنى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب ل " إلى " المعنى الذي دل عليه الكلام : من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم ، لا قوله " خلوا " وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع " إلى " غيرها ، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها .
وهذا القول عندي أولى بالصواب ، لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها . ول " إلى " في كل موضع دخلت من الكلام حكم ، وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها .
[ ص: 300 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( إنما نحن مستهزئون ( 14 ) )
أجمع أهل التأويل جميعا - لا خلاف بينهم - على أن معنى قوله : ( إنما نحن مستهزئون ) : إنما نحن ساخرون . فمعنى الكلام إذا : وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مردتهم من المنافقين والمشركين قالوا : إنا معكم على ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، ومعاداته ومعاداة أتباعه ، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، بقيلنا لهم إذا لقيناهم : آمنا بالله وباليوم الآخر كما :
359 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا : ( إنما نحن مستهزئون ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
360 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي : إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم .
361 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : ( إنما نحن مستهزئون ) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونسخر بهم .
362 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 301 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الله يستهزئ بهم )
قال أبو جعفر : اختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله ، الذي ذكر أنه فاعله بالمنافقين ، الذين وصف صفتهم . فقال بعضهم : استهزاؤه بهم ، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعل بهم يوم القيامة في قوله تعالى : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ) [ سورة الحديد : 13 ، 14 ] . الآية . وكالذي أخبرنا أنه فعل بالكفار بقوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) [ سورة آل عمران : 178 ] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول ، ومتأولي هذا التأويل .
وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم ، توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصي الله والكفر به ، كما يقال : " إن فلانا ليهزأ منه منذ اليوم ، ويسخر منه " يراد به توبيخ الناس إياه ولومهم له ، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، كما قال عبيد بن الأبرص :
سائل بنا حجر ابن أم قطام ، إذ ظلت به السمر النواهل تلعب
[ ص: 302 ]
فزعموا أن السمر - وهي القنا - لا لعب منها ، ولكنها لما قتلتهم وشردتهم ، جعل ذلك من فعلها لعبا بمن فعلت ذلك به . قالوا : فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بمن استهزأ به من أهل النفاق والكفر به : إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، وإما إملاؤه لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة ، أو توبيخه لهم ولائمته إياهم . قالوا : وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسخرية .
وقال آخرون قوله : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ سورة النساء : 142 ] على الجواب ، كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به : " أنا الذي خدعتك " ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه . قالوا : وكذلك قوله : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) [ سورة آل عمران : 54 ] ، و " الله يستهزئ بهم " على الجواب . والله لا يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم .
وقال آخرون : قوله : ( إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ) ، وقوله : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ سورة النساء : 142 ] ، وقوله : ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) [ سورة التوبة : 79 ] ، ( نسوا الله فنسيهم ) [ سورة التوبة : 67 ] ، وما أشبه ذلك ، إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ، ومعاقبهم عقوبة الخداع . فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم ، مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان . كما قال جل ثناؤه : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ سورة الشورى : 40 ] ، ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة ، إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية ، وأن الأخرى عدل ، لأنها من الله جزاء [ ص: 303 ] للعاصي على المعصية ، فهما - وإن اتفق لفظاهما - مختلفا المعنى . وكذلك قوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) [ سورة البقرة : 194 ] ، فالعدوان الأول ظلم ، والثاني جزاء لا ظلم ، بل هو عدل ، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه ، وإن وافق لفظه لفظ الأول .
وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك ، مما هو خبر عن مكر الله جل وعز بقوم ، وما أشبه ذلك .
وقال آخرون : إن معنى ذلك : أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا : إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما نظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون . يعنون : إنا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حق ولا هدى . قالوا : وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء ، فأخبر الله أنه " يستهزئ بهم " فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم .
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا : أن معنى الاستهزاء في كلام العرب : إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرا ، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنا . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(15)
الحلقة (31)
صــ 305إلى صــ 310
فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم ، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ، المدخلهم في عداد من يشمله اسم الإسلام ، وإن كانوا لغير ذلك [ ص: 304 ] مستبطنين - أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك ، بضمائر قلوبهم ، وصحائح عزائمهم ، وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - مع علم الله عز وجل بكذبهم ، واطلاعه على خبث اعتقادهم ، وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم به مصدقون ، حتى ظنوا في الآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا ، أنهم واردون موردهم . وداخلون مدخلهم . والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقتهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه ، وتفريقه بينهم وبينهم - معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ، ما أعد منه لأعدى أعدائه وشر عباده ، حتى ميز بينهم وبين أوليائه ، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم - وإن كان جزاء لهم على أفعالهم ، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له - كان بهم - بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم : من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء ، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين - إلى أن ميز بينهم وبينهم - مستهزئا ، وبهم ساخرا ، ولهم خادعا ، وبهم ماكرا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل ، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم ، أو عليه فيها غير عادل ، بل ذلك معناه في كل أحواله ، إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره . [ ص: 305 ]
وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس :
363 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " الله يستهزئ بهم " قال : يسخر بهم للنقمة منهم .
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره : الله يستهزئ بهم " إنما هو على وجه الجواب ، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة ، فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه ، وأوجبه لها . وسواء قال قائل : لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به ، أو قال : لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم .
ويقال لقائل ذلك : إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم ، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم ، وعن آخرين أنه أغرقهم ، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك ، ولم نفرق بين شيء منه . فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه ، بزعمك : أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به ، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به ؟
ثم نعكس القول عليه في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .
فإن لجأ إلى أن يقول : إن الاستهزاء عبث ولعب ، وذلك عن الله عز وجل منفي .
قيل له : إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء ، أفلست [ ص: 306 ] تقول : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " و " مكر الله بهم " وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية ؟
فإن قال : " لا " كذب بالقرآن ، وخرج عن ملة الإسلام .
وإن قال : " بلى " قيل له : أفنقول من الوجه الذي قلت : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " - " يلعب الله بهم " و " يعبث " - ولا لعب من الله ولا عبث ؟
فإن قال : " نعم " ! وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه ، وعلى تخطئة واصفه به ، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه .
وإن قال : لا أقول : " يلعب الله بهم " ولا " يعبث " وقد أقول " يستهزئ بهم " و " يسخر منهم "
قيل : فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث ، والهزء والسخرية ، والمكر والخديعة . ومن الوجه الذي جاز قيل هذا ، ولم يجز قيل هذا ، افترق معنياهما . فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر .
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا ، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه . وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ويمدهم )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ويمدهم ) ، فقال بعضهم بما :
364 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - [ ص: 307 ] وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يمدهم " يملي لهم .
وقال آخرون بما :
365 - حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة عن مجاهد : " يمدهم " قال : يزيدهم .
وكان بعض نحويي البصرة يتأول ذلك أنه بمعنى : يمد لهم ، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب : الغلام يلعب الكعاب ، يراد به يلعب بالكعاب . قال : وذلك أنهم قد يقولون : " قد مددت له وأمددت له " في غير هذا المعنى ، وهو قول الله تعالى ذكره : ( وأمددناهم ) [ سورة الطور : 22 ] ، وهذا من : " مددناهم " قال : ويقال : قد " مد البحر فهو ماد " و " أمد الجرح فهو ممد " وحكي عن يونس الجرمي أنه كان يقول : ما كان من الشر فهو " مددت " وما كان من الخير فهو " أمددت " ثم قال : وهو كما فسرت لك ، إذا أردت أنك تركته فهو " مددت له " وإذا أردت أنك أعطيته قلت : " أمددت "
وأما بعض نحويي الكوفة فإنه كان يقول : كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو " مددت " بغير ألف ، كما تقول : " مد النهر ، ومده نهر آخر غيره " إذا اتصل به فصار منه ، وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو بألف ، كقولك : " أمد الجرح " لأن المدة من غير الجرح ، وأمددت الجيش بمدد .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله : " ويمدهم " : أن يكون بمعنى يزيدهم ، على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم ، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله [ ص: 308 ] ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ سورة الأنعام : 110 ] ، يعني نذرهم ونتركهم فيه ، ونملي لهم ليزدادوا إثما إلى إثمهم .
ولا وجه لقول من قال : ذلك بمعنى " يمد لهم " لأنه لا تدافع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل : " مد النهر نهر آخر " بمعنى : اتصل به فصار زائدا ماء المتصل به بماء المتصل - من غير تأول منهم . ذلك أن معناه : مد النهر نهر آخر . فكذلك ذلك في قول الله : ( ويمدهم في طغيانهم يعمهون )
القول في تأويل قوله : ( في طغيانهم )
قال أبو جعفر : و " الطغيان " " الفعلان " من قولك : " طغى فلان يطغى طغيانا " إذا تجاوز في الأمر حده فبغى . ومنه قول الله : ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ سورة العلق : 6 ، 7 ] ، أي يتجاوز حده . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
ودعا الله دعوة لات هنا بعد طغيانه ، فظل مشيرا
وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله ( ويمدهم في طغيانهم ) ، [ ص: 309 ] أنه يملي لهم ، ويذرهم يبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون . كما :
366 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( في طغيانهم يعمهون ) ، قال : في كفرهم يترددون .
367 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في طغيانهم " في كفرهم .
368 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( في طغيانهم يعمهون ) ، أي في ضلالتهم يعمهون .
369 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " في طغيانهم " في ضلالتهم .
370 - وحدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " في طغيانهم " قال : طغيانهم كفرهم وضلالتهم .
القول في تأويل قوله : ( يعمهون ( 15 ) )
قال أبو جعفر : والعمه نفسه : الضلال . يقال منه : عمه فلان يعمه عمهانا وعموها ، إذا ضل . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مضلة من المهامه :
ومخفق من لهله ولهله من مهمه يجتبنه في مهمه
[ ص: 310 ]
أعمى الهدى بالجاهلين العمه
و " العمه " جمع عامه ، وهم الذين يضلون فيه فيتحيرون . فمعنى قوله إذا : ( في طغيانهم يعمهون ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه ، وعلاهم رجسه ، يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا .
وبنحو ما قلنا في " العمه " جاء تأويل المتأولين .
371 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يعمهون " يتمادون في كفرهم .
372 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يعمهون " قال : يتمادون .
373 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " يعمهون " قال : يترددون .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(17)
الحلقة (32)
صــ 311إلى صــ 315
374 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " يعمهون " : المتلدد . [ ص: 311 ]
375 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( في طغيانهم يعمهون ) ، قال : يترددون .
376 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
377 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .
378 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، عن مجاهد ، مثله .
379 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، " يعمهون " قال : يترددون .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى )
قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى ، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم : باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمت أن معنى الشراء المفهوم : اعتياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه ، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة ، لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا ؟ [ ص: 312 ]
قيل : قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فنذكر ما قالوا فيه ، ثم نبين الصحيح من التأويل في ذلك إن شاء الله :
380 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، أي الكفر بالإيمان .
381 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، يقول : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .
382 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى .
383 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، آمنوا ثم كفروا .
384 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك : " أخذوا الضلالة وتركوا الهدى " - وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به ، فقالوا : كذلك المنافق والكافر ، قد أخذا مكان الإيمان الكفر ، فكان ذلك منهما شراء [ ص: 313 ] للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى ، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التي أخذاها .
وأما الذين تأولوا أن معنى قوله " اشتروا " : " استحبوا " فإنهم لما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفار في موضع آخر ، فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى ، فقال : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ سورة فصلت : 17 ] ، صرفوا قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) إلى ذلك . وقالوا : قد تدخل " الباء " مكان " على " و " على " مكان " الباء " كما يقال : مررت بفلان ، ومررت على فلان ، بمعنى واحد ، وكقول الله جل ثناؤه : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) [ سورة آل عمران : 75 ] ، أي على قنطار . فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء : أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى . وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه " اشتروا " إلى معنى اختاروا ، لأن العرب تقول : اشتريت كذا على كذا ، واستريته - يعنون اخترته عليه .
ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة
فقد أخرج الكاعب المسترا ة من خدرها وأشيع القمار
يعني بالمستراة : المختارة .
وقال ذو الرمة ، في الاشتراء بمعنى الاختيار :
يذب القصايا عن شراة كأنها جماهير تحت المدجنات الهواضب
.
يعني بالشراة : المختارة . [ ص: 314 ]
وقال آخر في مثل ذلك :
إن الشراة روقة الأموال وحزرة القلب خيار المال
قال أبو جعفر : وهذا ، وإن كان وجها من التأويل ، فلست له بمختار . لأن الله جل ثناؤه قال : ( فما ربحت تجارتهم ) ، فدل بذلك على أن معنى قوله ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) معنى الشراء الذي يتعارفه الناس ، من استبدال شيء مكان شيء ، وأخذ عوض على عوض .
وأما الذين قالوا : إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا ، فإنه لا مئونة عليهم ، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم . لأن الأمر إذا كان كذلك ، فقد تركوا الإيمان ، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى . وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع ، ولكن دلائل أول الآيات في نعوتهم إلى آخرها ، دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ، ولا دخلوا في ملة الإسلام ، أوما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ في نعتهم ، إلى أن أتى على صفتهم ، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم : بدعواهم التصديق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم ، واستهزاء في نفوسهم بالمؤمنين ، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون . يقول الله جل جلاله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، ثم اقتص قصصهم إلى قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ؟ [ ص: 315 ] فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟
فإن كان قائل هذه المقالة ظن أن قوله : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر ، فلذلك قيل لهم " اشتروا " - فإن ذلك تأويل غير مسلم له ، إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره ، وقد يكون بمعنى الاختيار ، وبغير ذلك من المعاني . والكلمة إذا احتملت وجوها ، لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا ، باكتسابه الكفر الذي وجد منه ، بدلا من الإيمان الذي أمر به . أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) [ سورة البقرة : 108 ] وذلك هو معنى الشراء ، لأن كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بديلا منه . فكذلك المنافق والكافر ، استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق ، فأضلهما الله ، وسلبهما نور الهدى ، فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(18)
الحلقة (33)
صــ 316إلى صــ 320
القول في تأويل قوله : ( فما ربحت تجارتهم )
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالة بالهدى - خسروا ولم يربحوا ، لأن الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه [ ص: 316 ] بدلا هو أنفس من سلعته المملوكة أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به . فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي ابتاعها به ، فهو الخاسر في تجارته لا شك . فكذلك الكافر والمنافق ، لأنهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى ، والخوف والرعب على الحفظ والأمن ، واستبدلا في العاجل : بالرشاد الحيرة ، وبالهدى الضلالة ، وبالحفظ الخوف ، وبالأمن الرعب - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب ، فخابا وخسرا ، ذلك هو الخسران المبين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول .
385 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [ ص: 317 ] : قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) ؟ وهل التجارة مما تربح أو توكس ، فيقال : ربحت أو وضعت ؟
قيل : إن وجه ذلك على غير ما ظننت . وإنما معنى ذلك : فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشتروا ، ولا فيما شروا . ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا ، وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لآخر : خاب سعيك ، ونام ليلك ، وخسر بيعك ، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام ، فقال : ( فما ربحت تجارتهم ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة ، كما النوم في الليل . فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك ، عن أن يقال : فما ربحوا في تجارتهم ، وإن كان ذلك معناه ، كما قال الشاعر :
وشر المنايا ميت وسط أهله كهلك الفتاة أسلم الحي حاضره
يعني بذلك : وشر المنايا منية ميت وسط أهله ، فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك ، عن إظهار ما ترك إظهاره ، وكما قال رؤبة بن العجاج :
حارث! قد فرجت عني همي فنام ليلي وتجلى غمي
فوصف بالنوم الليل ، ومعناه أنه هو الذي نام ، وكما قال جرير بن الخطفى :
وأعور من نبهان أما نهاره فأعمى ، وأما ليله فبصير
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ، ومراده وصف النبهاني بذلك .
القول في تأويل قوله : ( وما كانوا مهتدين ( 16 ) )
يعني بقوله جل ثناؤه ( وما كانوا مهتدين ) : ما كانوا رشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى ، واستبدالهم الكفر بالإيمان ، واشترائهم النفاق بالتصديق والإقرار .
[ ص: 318 ] القول في تأويل قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( 17 ) )
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، وقد علمت أن " الهاء والميم " من قوله " مثلهم " كناية جماع - من الرجال أو الرجال والنساء - و " الذي " دلالة على واحد من الذكور ؟ فكيف جعل الخبر عن واحد مثلا لجماعة ؟ وهلا قيل : مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا ؟ وإن جاز عندك أن تمثل الجماعة بالواحد ، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم ، أن يقول : كأن هؤلاء ، أو كأن أجسام هؤلاء ، نخ لة ؟
قيل : أما في الموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من المنافقين ، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسن ، وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك : ( تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) [ سورة الأحزاب : 19 ] ، يعني كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت - وكقوله : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ سورة لقمان : 28 ] بمعنى : إلا كبعث نفس واحدة .
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال ، في الطول وتمام الخلق ، بالواحدة من النخيل ، فغير جائز ، ولا في نظائره ، لفرق بينهما .
فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد ، فإنما جاز ، لأن المراد من [ ص: 319 ] الخبر عن مثل المنافقين ، الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرديئة ، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر . والاستضاءة - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنى واحد ، لا معان مختلفة . فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد ، من الأشياء المختلفة الأشخاص .
وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، قولا وهم به مكذبون اعتقادا ، كمثل استضاءة الموقد نارا . ثم أسقط ذكر الاستضاءة ، وأضيف المثل إليهم ، كما قال نابغة بني جعدة :
وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب
يريد : كخلالة أبي مرحب ، فأسقط " خلالة " إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه على ما حذف منه . فكذلك القول في قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام ، أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حسن حذف ذكر الاستضاءة ، وإضافة المثل إلى أهله . والمقصود بالمثل ما ذكرنا . فلما وصفنا ، جاز وحسن قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد ، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى .
وأما إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام ، بشيء - فالصواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة ، والواحد بالواحد ، لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الآخرين .
ولذلك من المعنى ، افترق القول في تشبيه الأفعال والأسماء . فجاز تشبيه أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحد - بفعل الواحد ، [ ص: 320 ] ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل . فيقال : ما أفعالكم إلا كفعل الكلب ، ثم يحذف فيقال : ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب ، وأنت تعني : إلا كفعل الكلب ، وإلا كفعل الكلاب . ولم يجز أن تقول : ما هم إلا نخلة ، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطول والتمام .
وأما قوله : ( استوقد نارا ) ، فإنه في تأويل : أوقد ، كما قال الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
يريد : فلم يجبه . فكان معنى الكلام إذا مثل استضاءة هؤلاء المنافقين في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم ، من قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وصدقنا بمحمد وبما جاء به ، وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم مثل استضاءة موقد نار بناره ، حتى أضاءت له النار ما حوله ، يعني : ما حول المستوقد .
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة : أن " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " بمعنى الذين ، كما قال جل ثناؤه : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] ، وكما قال الشاعر :
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(19)
الحلقة (34)
صــ 321إلى صــ 325
قال أبو جعفر : والقول الأول هو القول ، لما وصفنا من العلة . وقد أغفل قائل [ ص: 321 ] ذلك فرق ما بين " الذي " في الآيتين وفي البيت . لأن " الذي " في قوله : " والذي جاء بالصدق " قد جاءت الدلالة على أن معناها الجمع ، وهو قوله : ( أولئك هم المتقون ) ، وكذلك " الذي " في البيت ، وهو قوله " دماؤهم " وليست هذه الدلالة في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " فذلك فرق ما بين " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " وسائر شواهده التي استشهد بها على أن معنى " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " بمعنى الجماع . وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره ، إلا بحجة يجب التسليم لها .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فروي عن ابن عباس فيه أقوال :
أحدها ما :
386 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ضرب الله للمنافقين مثلا فقال : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه ، فتركهم في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق . والآخر ما :
387 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) إلى آخر الآية : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز ، كما سلب صاحب النار ضوءه . ( وتركهم في ظلمات ) يقول : في عذاب . [ ص: 322 ]
والثالث : ما
388 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) ، زعم أن أناسا دخلوا في الإسلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينا هو كذلك ، إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى . فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلال من الحرام ، والخير من الشر ، فبينا هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر . وأما النور ، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وكانت الظلمة نفاقهم . والآخر : ما
389 - حدثني به محمد بن سعيد ، قال : حدثني أبي سعيد بن محمد قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) إلى " فهم لا يرجعون " ضربه الله مثلا للمنافق . وقوله : ( ذهب الله بنورهم ) قال : أما النور ، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به . وأما الظلمة ، فهي ضلالتهم وكفرهم يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك .
وقال آخرون : بما
390 - حدثني به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) ، وإن المنافق تكلم [ ص: 323 ] بلا إله إلا الله ، فأضاءت له في الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازى بها المسلمين ، ووارث بها المسلمين ، وحقن بها دمه وماله . فلما كان عند الموت ، سلبها المنافق ، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في علمه .
391 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " هي : لا إله إلا الله ، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا ، وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا بها دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .
392 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " قال : أما النور ، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمات ، فهي ضلالتهم وكفرهم .
وقال آخرون بما :
393 - حدثني به محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " قال : أما إضاءة النار ، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى ، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة . [ ص: 324 ]
394 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى ، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة .
395 - حدثني القاسم ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
396 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ضرب مثل أهل النفاق فقال : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " قال : إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها . كذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .
397 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين . كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار ، فتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة ، والضحاك ، وما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وذلك : أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين - الذين وصف صفتهم وقص قصصهم ، من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " لا المعلنين بالكفر المجاهرين [ ص: 325 ] بالشرك ، ولو كان المثل لمن آمن إيمانا صحيحا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحا - على ما ظن المتأول قول الله جل ثناؤه : ( كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) : أن ضوء النار مثل لإيمانهم الذي كان منهم عنده على صحة ، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن هناك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق . وأنى يكون خداع ونفاق ممن لم يبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها ، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها ؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد ، ومن الخداع بريء . وإذ كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان : حال إيمان ظاهر ، وحال كفر ظاهر ، فقد سقط عن القوم اسم النفاق ؛ لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين ، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين . ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقين .
وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ، ما ينبئ عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم : أن القوم كانوا مؤمنين ، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه ، إلى الكفر الذي هو نفاق . وذلك قول إن قاله ، لم تدرك صحته إلا بخبر مستفيض ، أو ببعض المعاني الموجبة صحته . فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته ، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(20)
الحلقة (35)
صــ 326إلى صــ 330
فإذ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك ، فأولى تأويلات الآية بالآية : مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به ، وقولهم له وللمؤمنين : آمنا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، حتى حكم لهم بذلك [ ص: 326 ] في عاجل الدنيا بحكم المسلمين : في حقن الدماء والأموال ، والأمن على الذرية من السباء ، وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقد النار بالنار ، حتى إذا ارتفق بضيائها ، وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة ، خمدت النار وانطفأت ، فذهب نوره ، وعاد المستضيء به في ظلمة وحيرة .
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء ، مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه - تخيل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادع ، حتى سولت له نفسه - إذ ورد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق . أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ، ثم أخبر خبرهم عند ورودهم عليه : ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ) [ سورة المجادلة : 18 ] ، ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة ، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا : من الكذب والإفك ، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا ، حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال ، واستهزاء بأنفسهم وخداع ، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة ، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا واصلوا سعيرا . فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له ، فبقي في ظلمته حيران تائها ، يقول الله جل ثناؤه : [ ص: 327 ] ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ) [ سورة الحديد : 13 - 15 ] .
فإن قال لنا قائل : إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالى ذكره " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " : خمدت وانطفأت ، وليس ذلك بموجود في القرآن . فما دلالتك على أن ذلك معناه ؟
قيل : قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار ، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :
عصيت إليها القلب ، إني لأمرها سميع ، فما أدري أرشد طلابها!
يعني بذلك : فما أدري أرشد طلابها أم غي ، فحذف ذكر " أم غي " إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها ، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير :
فلما لبسن الليل ، أو حين ، نصبت له من خذا آذانها وهو جانح
[ ص: 328 ]
يعني : أو حين أقبل الليل ، في نظائر لذلك كثيرة ، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها . فكذلك قوله : " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " لما كان فيه وفيما بعده من قوله : " ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " [ ص: 329 ] دلالة على المتروك كافية من ذكره - اختصر الكلام طلب الإيجاز .
وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده ، نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النار . لأن معنى الكلام : فكذلك المنافقون ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد ، بانطفاء ناره وخمودها ، فبقي في ظلمة لا يبصر .
و " الهاء والميم " في قوله " ذهب الله بنورهم " عائدة على " الهاء والميم " في قوله " مثلهم "
القول في تأويل قول الله : ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ( 18 ) )
قال أبو جعفر : وإذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه : " ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " هو ما وصفنا - من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة ، عند هتك أستارهم ، وإظهاره فضائح أسرارهم ، وسلبه ضياء أنوارهم ، من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون ، وفي حنادسها لا يبصرون ، فبين أن قوله جل ثناؤه : " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، صم بكم عمي فهم لا يرجعون ، مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، أو كمثل صيب من السماء .
وإذ كان ذلك معنى الكلام : فمعلوم أن قوله : " صم بكم عمي " يأتيه الرفع من وجهين ، والنصب من وجهين :
فأما أحد وجهي الرفع : فعلى الاستئناف ، لما فيه من الذم . وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم ، فتنصب وترفع ، وإن كان خبرا عن معرفة ، كما قال الشاعر :
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك
والطيبين معاقد الأزر
فيروى : " النازلون " و " النازلين " وكذلك " الطيبون " و " الطيبين " على ما وصفت من المدح . [ ص: 330 ]
والوجه الآخر : على نية التكرير من " أولئك " فيكون المعني حينئذ : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، أولئك صم بكم عمي فهم لا يرجعون .
وأما أحد وجهي النصب : فأن يكون قطعا مما في " مهتدين " من ذكر " أولئك " لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة ، والصم نكرة .
والآخر : أن يكون قطعا من " الذين " لأن " الذين " معرفة و " الصم " نكرة .
وقد يجوز النصب فيه أيضا على وجه الذم ، فيكون ذلك وجها من النصب ثالثا .
فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وجه رواية علي بن أبي طلحة عنه ، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد ، وهو الاستئناف .
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين : أحدهما : الذم ، والآخر : القطع من " الهاء والميم " اللتين في " تركهم " أو من ذكرهم في " لا يبصرون "
وقد بينا القول الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك . والقراءة التي هي القراءة ، الرفع دون النصب؛ لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين . وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم .
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين : أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين ، بل هم صم عنهما فلا يسمعونهما ، لغلبة خذلان الله عليهم ، بكم عن القيل بهما فلا ينطقون بهما ، والبكم : الخرس ، وهو جماع أبكم ، عمي عن أن يبصروهما فيعقلوهما ، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(21)
الحلقة (36)
صــ 331إلى صــ 335
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل :
398 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، [ ص: 331 ] عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " صم بكم عمي " عن الخير .
399 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " صم بكم عمي " يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه .
400 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " بكم " هم الخرس .
401 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله " صم بكم عمي " : صم عن الحق فلا يسمعونه ، عمي عن الحق فلا يبصرونه ، بكم عن الحق فلا ينطقون به .
القول في تأويل قوله : ( فهم لا يرجعون ( 18 ) )
قال أبو جعفر : وقوله " فهم لا يرجعون " إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى ، وصممهم عن سماع الخير والحق ، وبكمهم عن القيل بهما ، وعماهم عن إبصارهما ، أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم ، ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم . فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدا ، أو يقولوا حقا ، أو يسمعوا داعيا إلى الهدى ، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم ، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب [ ص: 332 ] والمشركين وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشى على أبصارهم .
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
402 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " فهم لا يرجعون " أي : لا يتوبون ولا يذكرون .
403 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فهم لا يرجعون " : فهم لا يرجعون إلى الإسلام .
وقد روي عن ابن عباس قول يخالف معناه معنى هذا الخبر ، وهو ما :
404 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فهم لا يرجعون " أي : فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه .
وهذا تأويل ظاهر التلاوة بخلافه . وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون - عن اشترائهم الضلالة بالهدى - إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق ، من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت وحال دون حال . وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ، ينبئ أن ذلك من صفتهم محصور على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين ، وأن لهم السبيل إلى الرجوع [ ص: 333 ] عنه . وذلك من التأويل دعوى باطلة ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبر تقوم بمثله الحجة فيسلم لها .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( أو كصيب من السماء )
قال أبو جعفر : والصيب الفيعل من قولك : صاب المطر يصوب صوبا ، إذا انحدر ونزل ، كما قال الشاعر :
فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
وكما قال علقمة بن عبدة :
كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب
[ ص: 334 ] فلا تعدلي بيني وبين مغمر ، سقيت روايا المزن حين تصوب
يعني : حين تنحدر . وهو في الأصل " صيوب " ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة ، صيرتا جميعا ياء مشددة ، كما قيل : سيد ، من ساد يسود ، وجيد ، من جاد يجود . وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة ، تصيرهما جميعا ياء مشددة .
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
405 - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله " أو كصيب من السماء " قال : القطر .
406 - حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال لي عطاء : الصيب ، المطر .
407 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قال : الصيب ، المطر .
408 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 335 ] السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الصيب ، المطر .
409 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي سعد ، قال : حدثني عمي الحسين ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، مثله .
410 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " أو كصيب " يقول : المطر .
411 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
412 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، وعمرو بن علي ، قالا حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصيب الربيع .
413 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصيب ، المطر .
414 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : الصيب ، المطر .
415 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الصيب المطر .
416 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : " أو كصيب من السماء " قال : أو كغيث من السماء .
417 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان : الصيب ، الذي فيه المطر . [ ص: 336 ]
418 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، في قوله : " أو كصيب من السماء " قال : المطر .
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر مثل إضاءة موقد نار بضوء ناره ، على ما وصف جل ثناؤه من صفته ، أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء ، تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة . وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه .
فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين : أهما مثلان للمنافقين ، أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين ، فكيف قيل : " أو كصيب " و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام ، ولم يقل " وكصيب " بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما ، فما وجه ذكر الآخر ب " أو " ؟ وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه ، كقول القائل : " لقيني أخوك أو أبوك " وإنما لقيه أحدهما ، ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما ، مع علمه أن أحدهما قد لقيه . وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء ، أو عزوب علم شيء عنه ، فيما أخبر أو ترك الخبر عنه .
قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . و " أو " - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو ، إما بسابق من الكلام قبلها ، وإما بما يأتي بعدها ، كقول توبة بن الحمير :
وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
[ ص: 337 ]
ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال ، ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها ، وضعها موضعها ، وكذلك قول جرير :
نال الخلافة أو كانت له قدرا ، كما أتى ربه موسى على قدر
وكما قال الآخر :
فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على بجير أو عفاق
على المرأين إذ مضيا جميعا لشأنهما ، بحزن واشتياق
فقد دل بقوله " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر ، بل أراد أن يبكيهما جميعا . فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه " أو كصيب من السماء " لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب " أو " أو ب " الواو " وكذلك وجه حذف " المثل " من قوله " أو كصيب " لما كان قوله : [ ص: 338 ] " كمثل الذي استوقد نارا " دالا على أن معناه : كمثل صيب ، حذف " المثل " واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " على أن معناه : أو كمثل صيب ، من إعادة ذكر المثل ؛ طلب الإيجاز والاختصار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(22)
الحلقة (37)
صــ 336إلى صــ 340
417 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان : الصيب ، الذي فيه المطر . [ ص: 336 ]
418 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، في قوله : " أو كصيب من السماء " قال : المطر .
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر مثل إضاءة موقد نار بضوء ناره ، على ما وصف جل ثناؤه من صفته ، أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء ، تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة . وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه .
فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين : أهما مثلان للمنافقين ، أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين ، فكيف قيل : " أو كصيب " و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام ، ولم يقل " وكصيب " بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما ، فما وجه ذكر الآخر ب " أو " ؟ وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه ، كقول القائل : " لقيني أخوك أو أبوك " وإنما لقيه أحدهما ، ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما ، مع علمه أن أحدهما قد لقيه . وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء ، أو عزوب علم شيء عنه ، فيما أخبر أو ترك الخبر عنه .
قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . و " أو " - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو ، إما بسابق من الكلام قبلها ، وإما بما يأتي بعدها ، كقول توبة بن الحمير :
وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
[ ص: 337 ]
ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال ، ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها ، وضعها موضعها ، وكذلك قول جرير :
نال الخلافة أو كانت له قدرا ، كما أتى ربه موسى على قدر
وكما قال الآخر :
فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على بجير أو عفاق
على المرأين إذ مضيا جميعا لشأنهما ، بحزن واشتياق
فقد دل بقوله " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر ، بل أراد أن يبكيهما جميعا . فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه " أو كصيب من السماء " لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب " أو " أو ب " الواو " وكذلك وجه حذف " المثل " من قوله " أو كصيب " لما كان قوله : [ ص: 338 ] " كمثل الذي استوقد نارا " دالا على أن معناه : كمثل صيب ، حذف " المثل " واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " على أن معناه : أو كمثل صيب ، من إعادة ذكر المثل ؛ طلب الإيجاز والاختصار .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ( 19 ) )
قال أبو جعفر : فأما الظلمات ، فجمع ، واحدها ظلمة .
أما الرعد ، فإن أهل العلم اختلفوا فيه :
فقال بعضهم : هو ملك يزجر السحاب .
ذكر من قال ذلك :
419 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد ، ملك يزجر السحاب بصوته .
420 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .
421 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
422 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم قال : أنبأنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قال : الرعد ، ملك من الملائكة يسبح . [ ص: 339 ]
423 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا محمد بن يعلى ، عن أبي الخطاب البصري ، عن شهر بن حوشب ، قال : الرعد ، ملك موكل بالسحاب يسوقه ، كما يسوق الحادي الإبل ، يسبح . كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه ، فهي الصواعق التي رأيتم .
424 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ، ملك من الملائكة اسمه الرعد ، وهو الذي تسمعون صوته .
425 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبد الملك بن حسين ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ، ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير .
426 - وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : الرعد اسم ملك ، وصوته هذا تسبيحه ، فإذا اشتد زجره السحاب ، اضطرب السحاب واحتك . فتخرج الصواعق من بينه .
427 - حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عفان . قال : حدثنا أبو عوانة ، عن [ ص: 340 ] موسى البزار ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح ، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه .
428 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، وشبابة ، قالا حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد ملك يزجر السحاب .
429 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عتاب بن زياد ، عن عكرمة ، قال : الرعد ملك في السحاب ، يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل .
430 - وحدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الرعد خلق من خلق الله جل وعز ، سامع مطيع لله جل وعز .
431 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : إن الرعد ملك يؤمر بإزجاء السحاب فيؤلف بينه ، فذلك الصوت تسبيحه .
432 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الرعد ملك .
433 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه ، أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرعد ملك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(23)
الحلقة (38)
صــ 341إلى صــ 345
434 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم ، مولى ابن عباس ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد ملك . [ ص: 341 ]
435 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا عمر بن الوليد الشني ، عن عكرمة ، قال : الرعد ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل .
436 - حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس إذا سمع الرعد ، قال : سبحان الذي سبحت له ، قال : وكان يقول : إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه .
وقال آخرون : إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصاعد ، فيكون منه ذلك الصوت .
ذكر من قال ذلك :
437 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الجلد ، إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : " كتبت تسألني عن الرعد ، فالرعد الريح .
438 - حدثني إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه قال : كتب ابن عباس [ ص: 342 ] إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد ريح .
قال أبو جعفر : فإن كان الرعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد ، فمعنى الآية : أو كصيب من السماء فيه ظلمات وصوت رعد . لأن الرعد إن كان ملكا يسوق السحاب ، فغير كائن في الصيب ، لأن الصيب إنما هو ما تحدر من صوب السحاب ، والرعد إنما هو في جو السماء يسوق السحاب . على أنه لو كان فيه ثم لم يكن له صوت مسموع ، فلم يكن هنالك رعب يرعب به أحد ، لأنه قد قيل : إن مع كل قطرة من قطر المطر ملكا ، فلا يعدو الملك الذي اسمه " الرعد " لو كان مع الصيب ، إذا لم يكن مسموعا صوته ، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض ، في أن لا رعب على أحد بكونه فيه . فقد علم - إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس - أن معنى الآية : أو كمثل غيث تحدر من السماء فيه ظلمات وصوت رعد ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس ، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته . وإن كان الرعد ما قاله أبو الجلد فلا شيء في قوله : " فيه ظلمات ورعد " متروك . لأن معنى الكلام حينئذ : فيه ظلمات ورعد الذي هو ما وصفنا صفته .
وأما البرق ، فإن أهل العلم اختلفوا فيه : فقال بعضهم بما :
439 - حدثنا مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، - ح - وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثني عبد الرحمن بن مهدي ، - ح - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قالوا جميعا : حدثنا سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن أشوع ، عن ربيعة [ ص: 343 ] بن الأبيض ، عن علي ، قال : البرق مخاريق الملائكة .
440 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عبد الملك بن الحسين ، عن أبي مالك ، عن السدي ، عن ابن عباس : البرق مخاريق بأيدي الملائكة ، يزجرون بها السحاب .
441 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه ، أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرعد الملك ، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد .
وقال آخرون : هو سوط من نور يزجي به الملك السحاب .
ذكر من قال ذلك :
442 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، بذلك .
وقال آخرون : هو ماء .
ذكر من قال ذلك :
443 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الجلد ، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : " كتبت إلي تسألني عن البرق ، فالبرق الماء "
444 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق ماء . [ ص: 344 ]
445 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن رجل ، من أهل البصرة من قرائهم ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد - رجل من أهل هجر - يسأله عن البرق ، فكتب إليه : " كتبت إلي تسألني عن البرق ، وإنه من الماء "
وقال آخرون : هو مصع ملك .
446 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : البرق ، مصع ملك .
447 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، قال : بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه ، وجه إنسان ، ووجه ثور ، ووجه نسر ، ووجه أسد ، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق .
448 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي قال : في كتاب الله : الملائكة حملة العرش ، لكل ملك منهم وجه إنسان وثور وأسد ، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق [ ص: 345 ] . وقال أمية بن أبي الصلت :
رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى ، وليث مرصد
449 - حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : البرق ملك .
450 - وقد حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق ، يصيب منه من يشاء .
قال أبو جعفر : وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد . وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر علي رضي الله عنه أنها هي البرق ، هي السياط التي هي من نور ، التي يزجي بها الملك السحاب ، كما قال ابن عباس . ويكون إزجاء الملك بها السحاب مصعه إياه . وذلك أن المصاع عند العرب أصله : المجالدة بالسيوف ، ثم تستعمله في كل شيء جولد به في حرب وغير حرب ، كما قال أعشى بني ثعلبة ، وهو يصف جواري يلعبن بحليهن ويجالدن به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(24)
الحلقة (39)
صــ 346إلى صــ 350
إذا هن نازلن أقرانهن
وكان المصاع بما في الجون
يقال منه : ماصعه مصاعا . وكأن مجاهدا إنما قال : " مصع ملك " إذ كان السحاب لا يماصع الملك ، وإنما الرعد هو المماصع له ، فجعله مصدرا من مصعه يمصعه مصعا .
وقد ذكرنا ما في معنى " الصاعقة " ما قال شهر بن حوشب فيما مضى .
وأما تأويل الآية ، فإن أهل التأويل مختلفون فيه :
فروي عن ابن عباس في ذلك أقوال : أحدها ما
451 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " : أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب ، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت ، يكاد البرق يخطف أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق - كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ، أي يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين .
والآخر ما [ ص: 347 ]
452 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى " إن الله على كل شيء قدير " أما الصيب فالمطر . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله ، فيه رعد شديد وصواعق وبرق ، فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده ، وحسن إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا ، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه ، فإذا كثرت أموالهم ، وولد لهم الغلمان ، وأصابوا غنيمة أو فتحا ، مشوا فيه ، وقالوا : إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق . فاستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان يمشيان ، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا [ ص: 348 ] إذا هلكت أموالهم ، وولد لهم الجواري ، وأصابهم البلاء ، قالوا : هذا من أجل دين محمد ، فارتدوا كفارا ، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما .
والثالث ما
453 - حدثني به محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء " كمطر ، " فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى آخر الآية ، هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس ، فإذا خلا وحده عمل بغيره ، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك . وأما الظلمات فالضلالة ، وأما البرق فالإيمان ، وهم أهل الكتاب . [ ص: 349 ]
وإذا أظلم عليهم ، فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه .
والرابع ما
454 - حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء " وهو المطر ، ضرب مثله في القرآن يقول : " فيه ظلمات " يقول : ابتلاء ، " ورعد " يقول فيه تخويف " وبرق يكاد البرق يخطف أبصارهم " يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين ، " كلما أضاء لهم مشوا فيه " يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا اطمأنوا ، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر يقول : " وإذا أظلم عليهم قاموا " كقوله : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) [ سورة الحج : 11 ] .
ثم اختلف سائر أهل التأويل بعد في ذلك ، نظير ما روي عن ابن عباس من الاختلاف :
455 - فحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إضاءة البرق وإظلامه ، على نحو ذلك المثل .
456 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 350 ]
457 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
458 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قول الله : " فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى قوله " وإذا أظلم عليهم قاموا " فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة أو سلوة من عيش ، قال : أنا معكم وأنا منكم ، وإذا أصابته شديدة حقحق والله عندها ، فانقطع به ، فلم يصبر على بلائها ، ولم يحتسب أجرها ، ولم يرج عاقبتها .
459 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " فيه ظلمات ورعد وبرق " يقول : أجبن قوم لا يسمعون شيئا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت والله محيط بالكافرين ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال : " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه " يقول : هذا المنافق ، إذا كثر ماله ، وكثرت ماشيته ، وأصابته عافية قال : لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير " وإذا أظلم عليهم قاموا " يقول : إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء ، قاموا متحيرين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(25)
الحلقة (40)
صــ 351إلى صــ 355
460 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فيه ظلمات ورعد وبرق " قال : مثلهم [ ص: 351 ] كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ، ولها مطر ورعد وبرق على جادة ، فلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها ، وإذا ذهب البرق تحيروا . وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك تحير ووقع في الظلمة ، فكذلك قوله : " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " ثم قال : في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس ، " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم "
قال أبو جعفر :
461 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان الباهلي ، عن الضحاك بن مزاحم ، " فيه ظلمات " قال : أما الظلمات فالضلالة ، والبرق الإيمان .
462 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله : " فيه ظلمات ورعد وبرق " فقرأ حتى بلغ : " إن الله على كل شيء قدير " قال : هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين ، كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق .
463 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظن أنه يراد به ، وأنه الموت ، كراهية له ، والمنافق أكره خلق الله للموت - كما إذا كانوا بالبراز في المطر ، فروا من الصواعق .
464 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " قال : مثل ضرب للكافر . [ ص: 352 ]
وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه ، فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقاربات المعاني ، لأنها جميعا تنبئ عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلا ومثل ما فيه من ظلمات لضلالته ، وما فيه من ضياء برق لنور إيمانه ، واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه ، لضعف جنانه ونخب فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته ، ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه ، وقيامه في الظلام ، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه .
فتأويل الآية إذا - إذ كان الأمر على ما وصفنا - أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به ، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين ، وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر ، مكذبون ، ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون ، على عمى منهم ، وجهالة بما هم عليه من الضلالة لا يدرون أي الأمرين اللذين قد شرعا لهم [ فيه ] الهداية ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم ، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وجلون ، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون ، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا . كمثل غيث سرى ليلا في مزنة ظلماء [ ص: 353 ] وليلة مظلمة يحدوها رعد ، ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه ، كثير خطرانه ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه ، وينهبط منها تارات صواعق ، تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق .
فالصيب مثل لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق ، والظلمات التي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب . وأما الرعد والصواعق ، فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه ، إما في العاجل وإما في الآجل ، أن يحل بهم ، مع شكهم في ذلك : هل هو كائن أم غير كائن ؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل ؟ مثل . فهم من وجلهم ، أن يكون ذلك حقا ، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم ، مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات ، وذلك تأويل قوله جل ثناؤه " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " يعني بذلك : يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار ، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها ، حذرا على نفسه منها .
وقد ذكرنا الخبر الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان : إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم [ ص: 354 ] في آذانهم فرقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يذكروا بشيء فيقتلوا . فإن كان ذلك صحيحا - ولست أعلمه صحيحا إذ كنت بإسناده مرتابا - فإن القول الذي روي عنهما هو القول ، وإن يكن غير صحيح ، فأولى بتأويل الآية ما قلنا ، لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصتهم ، أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون ، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم . وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم . فكذلك ذلك في هذه الآية .
وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به ، كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه ، وذلك من المثل نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق . وكذلك قوله " حذر الموت " جعله جل ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلكهم الذي توعدوه بساحتهم كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه ، حذر العطب والموت على نفسه ، أن تزهق من شدتها .
وإنما نصب قوله " حذر الموت " على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك : " زرتك تكرمة لك " تريد بذلك : من أجل تكرمتك ، وكما قال جل ثناؤه ، ( ويدعوننا رغبا ورهبا ) [ سورة الأنبياء : 90 ] على التفسير للفعل .
وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله : " حذر الموت " حذرا من الموت . [ ص: 355 ]
465 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عنه .
وذلك مذهب من التأويل ضعيف ، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من الموت ، فيكون معناه ما قال إنه يراد به ، حذرا من الموت ، وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم .
وكان قتادة وابن جريج يتأولان قوله : " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " أن ذلك من الله جل ثناؤه صفة للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت ، ويتأولان في ذلك قوله : ( يحسبون كل صيحة عليهم ) [ سورة المنافقون ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(26)
الحلقة (41)
صــ 356إلى صــ 360
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا . وذلك أنه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته ، كقزمان ، الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين بأحد ، أو دونه . وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتركهم معاونته على أعدائه ، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين ، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين ، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين ، إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وصف من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم ، إما عاجلا وإما آجلا . ثم أخبر جل ثناؤه أن [ ص: 356 ] المنافقين - الذين نعتهم الله النعت الذي ذكر - وضرب لهم الأمثال التي وصف ، وإن اتقوا عقابه ، وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم ، وحلوله بساحتهم ، إما عاجلا في الدنيا ، وإما آجلا في الآخرة ، للذي في قلوبهم من مرضها ، والشك في اعتقادها ، فقال : " والله محيط بالكافرين " بمعنى جامعهم ، فمحل بهم عقوبته .
وكان مجاهد يتأول ذلك كما :
466 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم . عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " والله محيط بالكافرين " قال : جامعهم في جهنم .
وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما :
467 - حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " والله محيط بالكافرين " يقول : الله منزل ذلك بهم من النقمة .
468 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : " والله محيط بالكافرين " قال : جامعهم .
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم ، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم ، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربه لهم ولشكهم ومرض قلوبهم ، فقال : " يكاد البرق " يعني بالبرق ، الإقرار الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم . فجعل البرق له مثلا على ما قدمنا صفته . [ ص: 357 ]
" يخطف أبصارهم " يعني : يذهب بها ويستلبها ويلتمعها من شدة ضيائه ونور شعاعه .
469 - كما حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " يكاد البرق يخطف أبصارهم " قال : يلتمع أبصارهم ولما يفعل .
قال أبو جعفر : والخطف السلب ، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطفة ، يعني بها النهبة . ومنه قيل للخطاف الذي يخرج به الدلو من البئر خطاف ، لاختطافه واستلابه ما علق به ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :
خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها أيد إليك نوازع
[ ص: 358 ]
فجعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره ، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشعاع نوره ، مثلا .
ثم قال تعالى ذكره : " كلما أضاء لهم " يعني أن البرق كلما أضاء لهم ، وجعل البرق لإيمانهم مثلا . وإنما أراد بذلك : أنهم كلما أضاء لهم الإيمان ، وإضاءته لهم أن يروا فيه ما يعجبهم في عاجل دنياهم ، من النصرة على الأعداء ، وإصابة الغنائم في المغازي ، وكثرة الفتوح ، ومنافعها ، والثراء في الأموال ، والسلامة في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءته لهم ، لأنهم إنما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ، ابتغاء ذلك ، ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم ، وهم كما وصفهم الله جل ثناؤه بقوله : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ) [ سورة الحج : 11 ] .
ويعني بقوله " مشوا فيه " مشوا في ضوء البرق . وإنما ذلك مثل لإقرارهم على ما وصفنا . فمعناه : كلما رأوا في الإيمان ما يعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا ، ثبتوا عليه وأقاموا فيه ، كما يمشي السائر في ظلمة الليل وظلمة الصيب الذي وصفه جل ثناؤه ، إذا برقت فيها بارقة أبصر طريقه فيها .
" وإذا أظلم " يعني : ذهب ضوء البرق عنهم .
ويعني بقوله " عليهم " على السائرين في الصيب الذي وصف جل ذكره . وذلك للمنافقين مثل . ومعنى إظلام ذلك أن المنافقين كلما لم يروا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضراء ، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء ، من إخفاقهم في مغزاهم ، وإنالة عدوهم منهم ، أو إدبار من [ ص: 359 ] دنياهم عنهم أقاموا على نفاقهم ، وثبتوا على ضلالتهم ، كما قام السائر في الصيب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وخفت ضوء البرق ، فحار في طريقه ، فلم يعرف منهجه .
القول في تأويل قوله : ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم )
[ ص: 360 ] قال أبو جعفر : وإنما خص جل ذكره السمع والأبصار - بأنه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم - للذي جرى من ذكرها في الآيتين ، أعني قوله : " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق " وقوله : " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه " فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل ، ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم ، وعيدا من الله لهم ، كما توعدهم في الآية التي قبلها بقوله : " والله محيط بالكافرين " واصفا بذلك جل ذكره نفسه أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم ، لإحلال سخطه بهم ، وإنزال نقمته عليهم ، ومحذرهم بذلك سطوته ، ومخوفهم به عقوبته ، ليتقوا بأسه ، ويسارعوا إليه بالتوبة .
470 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم " لما تركوا من الحق بعد معرفته .
471 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ثم قال - يعني قال الله - في أسماعهم - يعني أسماع المنافقين - وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس : " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم "
قال أبو جعفر : وإنما معنى قوله : " لذهب بسمعهم وأبصارهم " لأذهب سمعهم وأبصارهم ، ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا : ذهبت ببصره ، وإذا حذفوا الباء قالوا : أذهبت بصره ، كما قال جل ثناؤه : ( آتنا غداءنا ) [ سورة الكهف : 62 ] ، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل : ائتنا بغدائنا .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " لذهب بسمعهم " فوحد ، وقال : " وأبصارهم " فجمع ؟ وقد علمت أن الخبر في السمع خبر عن سمع جماعة ، كما الخبر عن الأبصار خبر عن أبصار جماعة ؟
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(27)
الحلقة (42)
صــ 361إلى صــ 365
قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفة : وحد السمع لأنه عنى به المصدر وقصد به الخرق ، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين . وكان بعض نحويي البصرة يزعم : أن السمع وإن كان في لفظ واحد ، فإنه بمعنى جماعة . ويحتج في ذلك بقول الله : ( لا يرتد إليهم طرفهم ) [ سورة إبراهيم : 43 ] ، يريد : لا ترتد إليهم أطرافهم ، وبقوله : ( ويولون الدبر ) [ سورة القمر : 45 ] ، [ ص: 361 ] يراد به أدبارهم . وإنما جاز ذلك عندي ، لأن في الكلام ما يدل على أنه مراد به الجمع ، فكان في دلالته على المراد منه ، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة ، مغنيا عن جماعه . ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع ، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار - من الجمع والتوحيد - كان فصيحا صحيحا ، لما ذكرنا من العلة ، كما قال الشاعر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زماننا زمن خميص
فوحد البطن ، والمراد منه البطون ، لما وصفنا من العلة .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( إن الله على كل شيء قدير ( 20 ) )
قال أبو جعفر : وإنما وصف الله نفسه جل ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته ، وأخبرهم أنه بهم محيط ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير . ثم قال : فاتقوني أيها المنافقون ، واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي ، لا أحل بكم نقمتي ، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير . ومعنى " قدير " قادر ، كما معنى " عليم " عالم ، على ما وصفت فيما [ ص: 362 ] تقدم من نظائره ، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .
القول في تأويل قول الله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم )
قال أبو جعفر : فأمر جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه سواء عليهم أأنذروا أم لم ينذروا أنهم لا يؤمنون ، لطبعه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعن الآخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله : آمنا بالله وباليوم الآخر ، مع استبطانه خلاف ذلك ، ومرض قلبه وشكه في حقيقة ما يبدي من ذلك ، وغيرهم من سائر خلقه المكلفين بالاستكانة ، والخضوع له بالطاعة ، وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة . لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم ، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم . فقال لهم جل ذكره : فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم وسائر الخلق غيركم ، وهو يقدر على ضركم ونفعكم ، أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نفع ولا ضر .
وكان ابن عباس : فيما روي لنا عنه ، يقول في ذلك نظير ما قلنا فيه ، غير أنه ذكر عنه أنه كان يقول في معنى " اعبدوا ربكم " : وحدوا ربكم . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى العبادة : الخضوع لله بالطاعة ، [ ص: 363 ] والتذلل له بالاستكانة . والذي أراد ابن عباس - إن شاء الله - بقوله في تأويل قوله : " اعبدوا ربكم " وحدوه ، أي أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه .
472 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين ، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .
473 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم " يقول : خلقكم وخلق الذين من قبلكم .
قال أبو جعفر : وهذه الآية من أدل دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غير جائز ، إلا بعد إعطاء الله المكلف المعونة على ما كلفه . وذلك أن الله أمر من وصفنا ، بعبادته والتوبة من كفره ، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون ، وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون .
[ ص: 364 ] القول في تأويل قوله : ( لعلكم تتقون ( 21 ) )
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : لعلكم تتقون بعبادتكم ربكم الذي خلقكم ، وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وإفرادكم له العبادة لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل عليكم ، وتكونوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم .
وكان مجاهد يقول في تأويل قوله : " لعلكم تتقون " : تطيعون .
474 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " لعلكم تتقون " قال : لعلكم تطيعون .
قال أبو جعفر : والذي أظن أن مجاهدا أراد بقوله هذا : لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه ، وإقلاعكم عن ضلالتكم .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فكيف قال جل ثناؤه : " لعلكم تتقون " ؟ أو لم يكن عالما بما يصير إليه أمرهم إذا هم عبدوه وأطاعوه ، حتى قال لهم : لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا ، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشك ؟
قيل له : ذلك على غير المعنى الذي توهمت ، وإنما معنى ذلك : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ، كما قال الشاعر :
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم
كلمح سراب في الفلا متألق
[ ص: 365 ]
يريد بذلك : قلتم لنا كفوا لنكف . وذلك أن " لعل " في هذا الموضع لو كان شكا ، لم يكونوا وثقوا لهم كل موثق .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا )
وقوله : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " مردود على " الذي " الأولى في قوله " اعبدوا ربكم الذي خلقكم " وهما جميعا من نعت " ربكم " فكأنه قال : اعبدوا ربكم الخالقكم والخالق الذين من قبلكم ، الجاعل لكم الأرض فراشا ، يعني بذلك أنه جعل لكم الأرض مهادا موطأ وقرارا يستقر عليها ، يذكر ربنا جل ذكره - بذلك من قيله - عباده نعمه عندهم وآلاءه لديهم ليذكروا أياديه عندهم ، فينيبوا إلى طاعته - تعطفا منه بذلك عليهم ، ورأفة منه بهم ، ورحمة لهم ، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم ، ولكن ليتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون .
475 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " فهي فراش يمشى عليها ، وهي المهاد والقرار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(28)
الحلقة (43)
صــ 366إلى صــ 370
476 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " قال : مهادا لكم . [ ص: 366 ]
477 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " أي مهادا .
القول في تأويل قوله : ( والسماء بناء )
قال أبو جعفر : وإنما سميت السماء سماء لعلوها على الأرض وعلى سكانها من خلقه ، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماء ، ولذلك قيل لسقف البيت : سماوة ، لأنه فوقه مرتفع عليه . ولذلك قيل : سما فلان لفلان إذا أشرف له وقصد نحوه عاليا عليه ، كما قال الفرزدق :
سمونا لنجران اليماني وأهله ونجران أرض لم تديث مقاوله
وكما قال نابغة بني ذبيان :
سمت لي نظرة فرأيت منها تحيت الخدر واضعة القرام
يريد بذلك : أشرفت لي نظرة وبدت ، فكذلك السماء سميت للأرض سماء لعلوها وإشرافها عليها . [ ص: 367 ]
478 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي ، صلى الله عليه وسلم : " والسماء بناء " فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة ، وهي سقف على الأرض .
479 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة في قول الله : " والسماء بناء " قال : جعل السماء سقفا لك .
وإنما ذكر تعالى ذكره السماء والأرض فيما عدد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم ، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم ، وبهما قوام دنياهم . فأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم ، هو المستحق عليهم الطاعة ، والمستوجب منهم الشكر والعبادة ، دون الأصنام والأوثان ، التي لا تضر ولا تنفع .
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم )
يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنزل من السماء مطرا ، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقا لهم ، غذاء وأقواتا . فنبههم بذلك على قدرته وسلطانه ، وذكرهم به آلاءه لديهم ، وأنه هو الذي خلقهم ، وهو الذي يرزقهم ويكفلهم ، دون من جعلوه له ندا وعدلا من الأوثان والآلهة . [ ص: 368 ] ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا ، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم ، وأنه لا ند له ولا عدل ، ولا لهم نافع ولا ضار ولا خالق ولا رازق سواه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادا )
قال أبو جعفر : والأنداد جمع ند ، والند : العدل والمثل ، كما قال حسان بن ثابت :
أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء
يعني بقوله : " ولست له بند " لست له بمثل ولا عدل . وكل شيء كان نظيرا لشيء وله شبيها فهو له ند .
480 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فلا تجعلوا لله أندادا " أي عدلاء .
481 - حدثني المثنى ، قال : حدثني أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نحيح ، عن مجاهد : " فلا تجعلوا لله أندادا " أي عدلاء .
482 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فلا تجعلوا لله أندادا " قال : أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله . [ ص: 369 ]
483 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : " فلا تجعلوا لله أندادا " قال : الأنداد الآلهة التي جعلوها معه ، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له .
484 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " فلا تجعلوا لله أندادا " قال : أشباها .
485 - حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة : " فلا تجعلوا لله أندادا " أن تقولوا : لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار ، لولا كلبنا صاح في الدار ، ونحو ذلك .
فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا ، وأن يعبدوا غيره ، أو يتخذوا له ندا وعدلا في الطاعة ، فقال : كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم ونعمي التي أنعمتها عليكم ، فكذلك فأفردوا لي الطاعة ، [ ص: 370 ] وأخلصوا لي العبادة ، ولا تجعلوا لي شريكا وندا من خلقي ، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم فمني .
القول في تأويل قوله : ( وأنتم تعلمون ( 22 ) )
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية :
فقال بعضهم : عنى بها جميع المشركين من مشركي العرب وأهل الكتاب .
وقال بعضهم : عنى بذلك أهل الكتابين ، أهل التوراة والإنجيل .
ذكر من قال : عنى بها جميع عبدة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين :
486 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزل ذلك في الفريقين جميعا من الكفار والمنافقين . وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(29)
الحلقة (44)
صــ 371إلى صــ 375
487 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " وأنتم تعلمون " أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض ، ثم تجعلون له أندادا . [ ص: 371 ]
ذكر من قال : عني بذلك أهل الكتابين :
488 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " أنه إله واحد في التوراة والإنجيل .
489 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، مثله .
490 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأنتم تعلمون " يقول : وأنتم تعلمون أنه لا ند له في التوراة والإنجيل .
قال أبو جعفر : وأحسب أن الذي دعا مجاهدا إلى هذا التأويل وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم - الظن منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها ، بجحودها وحدانية ربها وإشراكها معه في العبادة غيره ، وإن ذلك لقول! ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقر بوحدانيته ، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها ، فقال جل ثناؤه : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ سورة الزخرف : 87 ] ، وقال : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [ سورة يونس : 31 ] . [ ص: 372 ]
فالذي هو أولى بتأويل قوله : " وأنتم تعلمون " - إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله ، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم ، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ، ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل [ ص: 373 ] ثناؤه عنى بقوله : " وأنتم تعلمون " أحد الحزبين ، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم ، لأنه تحدى الناس كلهم بقوله : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة ، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله وأنه لا شريك له في خلقه ، يشرك معه في عبادته غيره ، كائنا من كان من الناس ، عربيا كان أو أعجميا ، كاتبا أو أميا ، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل النفاق منهم ، وممن بين ظهرانيهم ممن كان مشركا فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله )
قال أبو جعفر : وهذا من الله عز وجل احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم ، وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " وإياهم يخاطب بهذه الآيات ، وضرباءهم يعني بها ، قال الله جل ثناؤه : وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين ، في شك - وهو الريب - مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان : أنه من عندي ، وأني الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول ، فأتوا بحجة تدفع حجته ، لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق . ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه ، وبرهانه على حقيقة نبوته ، وأن ما جاء به من عندي - عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله . وإذا عجزتم عن ذلك - وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذرابة - فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز . كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه ، وحجته على نبوته من الآيات ، ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي . فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوله ولم يختلقه ، لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقولا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله . لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعد أن يكون بشرا مثلكم ، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان ، فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه ، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فأتوا بسورة من مثله "
491 - فحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فأتوا بسورة من مثله " يعني : من مثل هذا القرآن حقا وصدقا ، لا باطل فيه ولا كذب .
492 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا [ ص: 374 ] معمر ، عن قتادة في قوله : " فأتوا بسورة من مثله " يقول : بسورة مثل هذا القرآن .
493 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فأتوا بسورة من مثله " مثل القرآن .
494 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
495 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " فأتوا بسورة من مثله " قال : " مثله " مثل القرآن .
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما : أن الله جل ذكره قال لمن حاجه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار : فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب ، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم .
وقد قال قوم آخرون : إن معنى قوله : " فأتوا بسورة من مثله " من مثل محمد من البشر ، لأن محمدا بشر مثلكم .
قال أبو جعفر : والتأويل الأول الذي قاله مجاهد وقتادة هو التأويل الصحيح؛ لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ) [ سورة يونس : 38 ] ، ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه ، فيجوز أن يقال : فأتوا بسورة مثل محمد .
فإن قال قائل : إنك ذكرت أن الله عنى بقوله " فأتوا بسورة من مثله " [ ص: 375 ] من مثل هذا القرآن ، فهل للقرآن من مثل فيقال : ائتوا بسورة من مثله ؟
قيل : إنه لم يعن به : ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره ، وإنما عنى : ائتوا بسورة من مثله في البيان ، لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي ، فكلام العرب لا شك له مثل في معنى العربية . فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين ، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه .
وإنما احتج الله جل ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به له عليهم من القرآن ، إذ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان ، إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم ، وكلاما نزل بلسانهم ، فقال لهم جل ثناؤه : وإن كنتم في ريب من أن ما أنزلت على عبدي من القرآن من عندي ، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية ، إذ كنتم عربا ، وهو بيان نظير بيانكم ، وكلام شبيه كلامكم . فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن ، فيقدروا أن يقولوا : كلفتنا ما لو أحسناه أتينا به ، وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به ، فليس لك علينا بهذا حجة . لأنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا ؛ لأنا لسنا من أهله ، ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به . ولكنه جل ثناؤه قال لهم : ائتوا بسورة مثله ، لأن مثله من الألسن ألسنكم ، وأنتم - إن كانمحمد اختلقه وافتراه إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - [ ص: 376 ] أقدر على اختلاقه ورصفه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه ، فلن تعجزوا - وأنتم جميع - عما قدر عليه محمد من ذلك وهو وحيد ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدا افتراه واختلقه ، وأنه من عند غيري .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(30)
الحلقة (45)
صــ 376إلى صــ 380
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ( 23 ) )
فقال ابن عباس بما :
496 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : " وادعوا شهداءكم من دون الله " يعني أعوانكم على ما أنتم عليه ، إن كنتم صادقين .
497 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وادعوا شهداءكم " ناس يشهدون .
498 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
499 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : قوم يشهدون لكم . [ ص: 377 ]
500 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " وادعوا شهداءكم " قال : ناس يشهدون . قال ابن جريج : " شهداءكم " عليها إذا أتيتم بها أنها مثله ، مثل القرآن .
وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله " فادعوا " يعني : استنصروا واستغيثوا ، كما قال الشاعر :
فلما التقت فرساننا ورجالهم دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر
يعني بقوله : " دعوا يا لكعب " استنصروا كعبا واستغاثوا بهم .
وأما الشهداء فإنها جمع شهيد ، كما الشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب . والشهيد يسمى به الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه . وقد يسمى به المشاهد للشيء ، كما يقال : فلان جليس فلان يعني به مجالسه ، ونديمه يعني به منادمه ، وكذلك يقال : شهيده يعني به مشاهده .
فإذا كانت " الشهداء " محتملة أن تكون جمع " الشهيد " الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفت ، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن يكون معناه : واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانكم وشهداءكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله ، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم ، إن كنتم محقين في جحودكم أن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء ، لتمتحنوا أنفسكم وغيركم ، هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من [ ص: 378 ] مثله ، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا ؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جريج في تأويل ذلك فلا وجه له ؛ لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافا ثلاثة : أهل إيمان صحيح ، وأهل كفر صحيح ، وأهل نفاق بين ذلك . فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين ، فكان من المحال أن يدعي الكفار أن لهم شهداء على حقيقة ما كانوا يأتون به ، لو أتوا باختلاق من الرسالة ، ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من المؤمنين . فأما أهل النفاق والكفر ، فلا شك أنهم لو دعوا إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم ، فمن أي الفريقين كانت تكون شهداؤهم لو ادعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن ؟
ولكن ذلك كما قال جل ثناؤه : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ سورة الإسراء : 88 ] فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية ، أن مثل القرآن لا يأتي به الجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به ، وتحداهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين " يعني بذلك : إن كنتم في شك في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي فأتوا بسورة [ ص: 379 ] من مثله ، وليستنصر بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم ، حتى تعلموا أنكم إذ عجزتم عن ذلك أنه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا من البشر أحد ، ويصح عندكم أنه تنزيلي ووحيي إلى عبدي .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإن لم تفعلوا " إن لم تأتوا بسورة من مثله ، فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع خلقي عنه ، وعلمتم أنه من عندي ، ثم أقمتم على التكذيب به .
وقوله : " ولن تفعلوا " أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدا .
501 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه .
502 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " فقد بين لكم الحق .
[ ص: 380 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله " فاتقوا النار " يقول : فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي ، بعد تبينكم أنه كتابي ومن عندي ، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي ، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله .
ثم وصف جل ثناؤه النار التي حذرهم صليها فأخبرهم أن الناس وقودها ، وأن الحجارة وقودها ، فقال : " التي وقودها الناس والحجارة " يعني بقوله : " وقودها " حطبها ، والعرب تجعله مصدرا وهو اسم ، إذا فتحت الواو ، بمنزلة الحطب .
فإذا ضمت الواو من " الوقود " كان مصدرا من قول القائل : وقدت النار فهي تقد وقودا وقدة ووقدانا ووقدا ، يراد بذلك أنها التهبت .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(31)
الحلقة (46)
صــ 381إلى صــ 385
فإن قال قائل : وكيف خصت الحجارة فقرنت بالناس ، حتى جعلت لنار جهنم حطبا ؟ [ ص: 381 ]
قيل : إنها حجارة الكبريت ، وهي أشد الحجارة - فيما بلغنا - حرا إذا أحميت .
503 - كما حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : " وقودها الناس والحجارة " قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ، يعدها للكافرين .
504 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا ابن عيينة ، عن مسعر ، عن عبد الملك الزراد ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن مسعود في قوله : " وقودها الناس والحجارة " قال : حجارة الكبريت ، جعلها الله كما شاء . [ ص: 382 ]
505 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة " أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون به مع النار .
506 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : " وقودها الناس والحجارة " قال : حجارة من كبريت أسود في النار ، قال : وقال لي عمرو بن دينار : حجارة أصلب من هذه وأعظم .
507 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : حجارة من الكبريت خلقها الله عنده كيف شاء وكما شاء .
القول في تأويل قوله : ( أعدت للكافرين ( 24 ) )
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا ، على أن " الكافر " في كلام العرب هو الساتر شيئا بغطاء ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا لجحوده آلاءه عنده ، وتغطيته نعماءه قبله .
فمعنى قوله إذا : " أعدت للكافرين " أعدت النار للجاحدين أن الله ربهم المتوحد بخلقهم وخلق الذين من قبلهم ، الذي جعل لهم الأرض فراشا ، والسماء [ ص: 383 ] بناء ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم ، المشركين معه في عبادته الأنداد والآلهة ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء ، والمتوحد بالأقوات والأرزاق .
508 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : " أعدت للكافرين " أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .
القول في تأويل قوله : ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار )
قال أبو جعفر : أما قوله تعالى : " وبشر " فإنه يعني : أخبرهم . والبشارة أصلها الخبر بما يسر به المخبر ، إذا كان سابقا به كل مخبر سواه .
وهذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه ، وصدقوا إيمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة ، فقال له : يا محمد ، بشر من صدقك أنك رسولي ، وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي ، وحقق تصديقه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتها عليه ، وأوجبتها في كتابي على لسانك عليه ، أن له جنات تجري من تحتها الأنهار خاصة ، دون من كذب بك وأنكر ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك ، ودون من أظهر تصديقك ، وأقر [ ص: 384 ] أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادا ، ولم يحققه عملا . فإن لأولئك النار التي وقودها الناس والحجارة ، معدة عندي . والجنات : جمع جنة ، والجنة البستان .
وإنما عنى جل ذكره بذكر الجنة : ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها ، دون أرضها ، ولذلك قال عز ذكره " : تجري من تحتها الأنهار " لأنه معلوم أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبر عن ماء أنهارها أنه جار تحت أشجارها وغروسها وثمارها ، لا أنه جار تحت أرضها ، لأن الماء إذا كان جاريا تحت الأرض ، فلا حظ فيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه . على أن الذي توصف به أنهار الجنة ، أنها جارية في غير أخاديد .
509 - كما حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن مسروق ، قال : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وماؤها يجري في غير أخدود .
510 - حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا مسعر بن كدام ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، بنحوه .
511 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عمرو بن مرة يحدث ، عن أبي عبيدة - فذكر مثله - قال : فقلت لأبي عبيدة : من حدثك ؟ فغضب ، وقال : مسروق . [ ص: 385 ]
فإذا كان الأمر كذلك ، في أن أنهارها جارية في غير أخاديد ، فلا شك أن الذي أريد بالجنات أشجار الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها ، إذ كانت أنهارها تجري فوق أرضها وتحت غروسها وأشجارها ، على ما ذكره مسروق . وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جارية تحت أرضها .
وإنما رغب الله جل ثناؤه بهذه الآية عباده في الإيمان ، وحضهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعده لأهل طاعته والإيمان به عنده ، كما حذرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعد لأهل الكفر به - الجاعلين معه الآلهة والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه ، والتعرض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " كلما رزقوا منها " : من الجنات ، والهاء راجعة على الجنات ، وإنما المعني أشجارها ، فكأنه قال : كلما رزقوا - من أشجار البساتين التي أعدها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " هذا الذي رزقنا من قبل "
فقال بعضهم : تأويل ذلك : هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(32)
الحلقة (47)
صــ 386إلى صــ 390
ذكر من قال ذلك :
512 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا [ ص: 386 ] أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : " هذا الذي رزقنا من قبل " قال : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ، فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا .
513 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " أي في الدنيا .
514 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " يقولون : ما أشبهه به .
515 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
516 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " في الدنيا ، قال : " وأتوا به متشابها " يعرفونه .
قال أبو جعفر : وقال آخرون : بل تأويل ذلك : هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا ، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضا . ومن علة قائلي هذا القول : أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله .
517 - كما حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عمرو بن مرة يحدث ، عن أبي عبيدة ، قال : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرها مثل القلال ، كلما نزعت منها ثمرة عادت مكانها أخرى . [ ص: 387 ]
قالوا : فإنما اشتبهت عند أهل الجنة ، لأن التي عادت ، نظيرة التي نزعت فأكلت ، في كل معانيها . قالوا : ولذلك قال الله جل ثناؤه : " وأتوا به متشابها " لاشتباه جميعه في كل معانيه .
وقال بعضهم : بل قالوا : " هذا الذي رزقنا من قبل " لمشابهته الذي قبله في اللون ، وإن خالفه في الطعم .
ذكر من قال ذلك :
518 - حدثنا القاسم بن الحسين ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثنا شيخ من المصيصة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل . فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف .
وهذا التأويل مذهب من تأول الآية . غير أنه يدفع صحته ظاهر التلاوة . والذي يدل على صحته ظاهر الآية ويحقق صحته قول القائلين : إن معنى ذلك : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا . وذلك أن الله جل ثناؤه قال : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا " فأخبر جل ثناؤه أن من قيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقا أن يقولوا : هذا الذي رزقنا من قبل . ولم يخصص بأن ذلك من قيلهم في بعض ذلك دون بعض . فإذ كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها ، فلا شك أن ذلك من قيلهم في أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها ، الذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة . فإذ كان لا شك أن ذلك من قيلهم في أوله ، كما هو من قيلهم في أوسطه وما يتلوه - فمعلوم أنه محال أن يكون من قيلهم لأول رزق رزقوه من ثمار الجنة : هذا الذي رزقنا من قبل هذا من ثمار [ ص: 388 ] الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رزقوه من ثمارها ولما يتقدمه عندهم غيره : هذا هو الذي رزقناه من قبل ؟ إلا أن ينسبهم ذو غية وضلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه ، أو يدفع دافع أن يكون ذلك من قيلهم لأول رزق رزقوه منها من ثمارها ، فيدفع صحة ما أوجب الله صحته بقوله : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا " من غير نصب دلالة على أنه معني به حال من أحوال دون حال .
فقد تبين بما بينا أن معنى الآية : كلما رزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا .
فإن سألنا سائل ، فقال : وكيف قال القوم : هذا الذي رزقنا من قبل ، والذي رزقوه من قبل قد عدم بأكلهم إياه ؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له ؟
قيل : إن الأمر على غير ما ذهبت إليه في ذلك . وإنما معناه : هذا من النوع الذي رزقناه من قبل هذا ، من الثمار والرزق . كالرجل يقول لآخر : قد أعد لك فلان من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى . فيقول المقول له ذاك : هذا طعامي في منزلي . يعني بذلك : أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعده له من الطعام هو طعامه ، لا أن أعيان ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له ، هو طعامه . بل ذلك مما لا يجوز لسامع سمعه يقول ذلك ، أن يتوهم أنه أراده أو قصده ، لأن ذلك خلاف مخرج كلام المتكلم . وإنما يوجه كلام كل متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه ، دون المجهول من معانيه . فكذلك ذلك في قوله : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " إذ كان ما كانوا رزقوه من قبل قد فني وعدم . فمعلوم أنهم عنوا بذلك : هذا من النوع الذي رزقناه من قبل ، ومن جنسه [ ص: 389 ] في السمات والألوان ، على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا .
القول في تأويل قوله : ( وأتوا به متشابها )
قال أبو جعفر : والهاء في قوله : " وأتوا به متشابها " عائدة على الرزق ، فتأويله : وأتوا بالذي رزقوا من ثمارها متشابها .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل " المتشابه " في ذلك :
فقال بعضهم : تشابهه أن كله خيار لا رذل فيه .
ذكر من قال ذلك :
519 - حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا أبو عامر ، عن الحسن في قوله : " متشابها " قال : خيارا كلها لا رذل فيها .
520 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء : قرأ الحسن آيات من البقرة ، فأتى على هذه الآية : " وأتوا به متشابها " قال : ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه ؟ وإن ذلك ليس فيه رذل .
521 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : " وأتوا به متشابها " قال : يشبه بعضه بعضا ، ليس فيه من رذل .
522 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " وأتوا به متشابها " [ ص: 390 ] ، أي خيارا لا رذل فيه ، وإن ثمار الدنيا ينقى منها ويرذل منها ، وثمار الجنة خيار كله ، لا يرذل منه شيء .
523 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج . قال : ثمر الدنيا منه ما يرذل ، ومنه نقاوة ، وثمر الجنة نقاوة كله ، يشبه بعضه بعضا في الطيب ، ليس منه مرذول .
وقال بعضهم : تشابهه في اللون وهو مختلف في الطعم .
ذكر من قال ذلك :
524 - حدثني موسى ، قال حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " وأتوا به متشابها " في اللون والمرأى ، وليس يشبه الطعم .
525 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأتوا به متشابها " مثل الخيار .
526 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأتوا به متشابها لونه مختلفا طعمه ، مثل الخيار من القثاء .
527 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " وأتوا به متشابها " يشبه بعضه بعضا ويختلف الطعم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(33)
الحلقة (48)
صــ 391إلى صــ 395
528 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " متشابها " قال : مشتبها في اللون ، ومختلفا في الطعم . [ ص: 391 ]
529 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " وأتوا به متشابها " مثل الخيار .
وقال بعضهم : تشابهه في اللون والطعم .
ذكر من قال ذلك :
530 - حدثنا ابن وكيع . قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قوله : " متشابها " قال : اللون والطعم .
531 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ويحيى بن سعيد : " متشابها " قالا في اللون والطعم .
وقال بعضهم : تشابهه ، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون ، وإن اختلف طعومهما .
ذكر من قال ذلك :
532 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وأتوا به متشابها " قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيب .
533 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " وأتوا به متشابها " قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيب .
وقال بعضهم : لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا ، إلا الأسماء .
ذكر من قال ذلك :
534 - حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعي - ح - وحدثنا محمد [ ص: 392 ] بن بشار ، قال ، حدثنا مؤمل ، قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي - : لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا ، إلا الأسماء . وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل ، قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء .
535 - حدثنا عباس بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء .
536 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " وأتوا به متشابها " قال : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا ، التفاح بالتفاح والرمان بالرمان ، قالوا في الجنة : " هذا الذي رزقنا من قبل " في الدنيا " وأتوا به متشابها " يعرفونه ، وليس هو مثله في الطعم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية ، تأويل من قال : وأتوا به متشابها في اللون والمنظر والطعم مختلف . يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون ، مختلفا في الطعم والذوق ، لما قدمنا من العلة في تأويل قوله : " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " وأن معناه : كلما رزقوا من الجنان من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا : فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك ، ومن أجل أنهم أتوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابها ، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه ، والذي كانوا رزقوه في الدنيا ، في اللون والمرأى والمنظر ، وإن اختلفا في الطعم والذوق فتباينا ، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا .
وقد دللنا [ ص: 393 ] على فساد قول من زعم أن معنى قوله : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثمر الجنة ببعض . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول ، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله : " وأتوا به متشابها " لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم : " هذا الذي رزقنا من قبل " بقوله : " وأتوا به متشابها "
ويسأل من أنكر ذلك ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه ، فيقال له : أيجوز أن يكون أسماء ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائر أسماء ما في الدنيا منها ؟
فإن أنكر ذلك خالف نص كتاب الله ، لأن الله جل ثناؤه إنما عرف عباده في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك .
وإن قال : ذلك جائز ، بل هو كذلك .
قيل : فما أنكرت أن يكون ألوان ما فيها من ذلك ، نظير ألوان ما في الدنيا منه ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان ، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المرآة والمنظر ، فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المرآة والمنظر ، خلاف الذي لما في الدنيا منه ، كما كان جائزا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضل في أجسامها ؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .
وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما :
537 - حدثني به ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، وعبد الوهاب ، ومحمد بن جعفر ، عن عوف ، عن قسامة ، عن الأشعري ، قال : إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة ، وعلمه صنعة كل شيء ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أن هذه تغير وتلك لا تغير . [ ص: 394 ]
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله : " وأتوا به متشابها " أنه متشابه في الفضل ، أي كل واحد منه له من الفضل في نحوه ، مثل الذي للآخر في نحوه .
قال أبو جعفر : وليس هذا قولا نستجيز التشاغل بالدلالة على فساده ، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل . وحسب قول بخروجه عن قول جميع أهل العلم دلالة على خطئه .
[ ص: 395 ] القول في تأويل قوله : ( ولهم فيها أزواج مطهرة )
قال أبو جعفر : والهاء والميم اللتان في " لهم " عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والهاء والألف اللتان في " فيها " عائدتان على الجنات . وتأويل ذلك : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات فيها أزواج مطهرة .
والأزواج جمع زوج ، وهي امرأة الرجل ، يقال : فلانة زوج فلان وزوجته .
وأما قوله : " مطهرة " فإن تأويله أنهن طهرن من كل أذى وقذى وريبة ، مما يكون في نساء أهل الدنيا ، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبصاق والمني ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره .
538 - كما حدثنا به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما أزواج مطهرة فإنهن لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن .
539 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " أزواج مطهرة " يقول : مطهرة من القذر والأذى .
540 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : لا يبلن ولا يتغوطن ولا يمذين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(34)
الحلقة (49)
صــ 396إلى صــ 400
541 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه زاد فيه : ولا يمنين ولا يحضن . [ ص: 396 ]
542 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .
543 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
544 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لا يبلن ولا يتغوطن ولا يحضن ولا يلدن ولا يمنين ولا يبزقن .
545 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
546 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " ولهم فيها أزواج مطهرة " إي والله من الإثم والأذى .
547 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : طهرهن الله من كل بول وغائط وقذر ، ومن كل مأثم .
548 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال مطهرة من الحيض والحبل والأذى .
549 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : المطهرة من الحيض والحبل .
550 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : المطهرة التي لا تحيض . قال : وأزواج الدنيا ليست بمطهرة ، ألا تراهن يدمين ويتركن الصلاة والصيام ؟ قال ابن زيد : وكذلك خلقت حواء حتى عصت ، فلما عصت قال الله : إني خلقتك مطهرة [ ص: 397 ] وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة .
551 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن الحسن في قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال يقول : مطهرة من الحيض .
552 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا خالد بن يزيد ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن في قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : من الحيض .
553 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : من الولد والحيض والغائط والبول ، وذكر أشياء من هذا النحو .
القول في تأويل قوله : ( وهم فيها خالدون ( 25 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون . والهاء والميم من قوله " وهم " عائدة على الذين آمنوا وعملوا [ ص: 398 ] الصالحات . والهاء والألف في " فيها " على الجنات . وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الحبرة والنعيم المقيم .
القول في تأويل قوله : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) [ ص: 399 ]
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها .
فقال بعضهم بما :
554 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " وقوله : " أو كصيب من السماء " الآيات الثلاث - قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله : " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة " إلى قوله : " أولئك هم الخاسرون "
وقال آخرون بما :
555 - حدثني به أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا قراد ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، في قوله تعالى : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ، إن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت . وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن : إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك . قال : ثم تلا ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] .
556 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس بنحوه ، إلا أنه قال : فإذا خلت آجالهم وانقطعت مدتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت ، وتموت إذا رويت ، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل ، إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله فأهلكهم . فذلك قوله : ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] .
وقال آخرون بما :
557 - حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : [ ص: 400 ] " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "
558 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "
وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية ، وفي المعنى الذي نزلت فيه ، مذهبا ، غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحق ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس .
وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ، ضربها للمنافقين ، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها . فلأن يكون هذا القول - أعني قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة ، أحق وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(35)
الحلقة (50)
صــ 401إلى صــ 405
فإن قال قائل : إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور ، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى لما أخبر عنه : أنه لا يستحيي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت ، وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب . وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة ، فيجوز أن يقال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا . [ ص: 401 ]
فإن ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أن قول الله جل ثناؤه : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحق من الأمثال صغيرها وكبيرها ، ابتلاء بذلك عباده واختبارا منه لهم ، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به ، إضلالا منه به لقوم ، وهداية منه به لآخرين .
559 - كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " مثلا ما بعوضة " يعني الأمثال صغيرها وكبيرها ، يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ويضل بها الفاسقين . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
560 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .
561 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر : لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها ، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -
562 - كما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البعوضة أضعف ما خلق الله .
563 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، بنحوه . [ ص: 402 ]
- خصها الله بالذكر في القلة ، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقل الأمثال في الحق وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع ، جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيب من السماء ، على ما نعتهما به من نعتهما .
فإن قال لنا قائل : وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت ، الذي هذا الخبر جوابه ، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت ؟
قيل : الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره " : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " وإن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الآيتين المقدمتين - اللتين مثل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بموقد النار وبالصيب من السماء ، على ما وصف من ذلك قبل قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " - قد أنكروا المثل وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قيلهم ذلك ، وقبح لهم ما نطقوا به ، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه ، وأنه ضلال وفسوق ، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه .
وأما تأويل قوله : " إن الله لا يستحيي " فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى " إن الله لا يستحيي " : إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى : ( وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [ سورة الأحزاب : 37 ] ، ويزعم أن معنى ذلك : وتستحي الناس والله أحق أن تستحيه ، فيقول : الاستحياء بمعنى الخشية ، والخشية بمعنى الاستحياء . [ ص: 403 ]
وأما معنى قوله : " أن يضرب مثلا " فهو أن يبين ويصف ، كما قال جل ثناؤه : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) [ سورة الروم : 28 ] ، بمعنى وصف لكم ، وكما قال الكميت :
وذلك ضرب أخماس أريدت لأسداس عسى أن لا تكونا
بمعنى : وصف أخماس .
والمثل : الشبه ، يقال : هذا مثل هذا ومثله ، كما يقال : شبهه وشبهه ، ومنه قول كعب بن زهير :
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيدها إلا الأباطيل
يعني شبها ، فمعنى قوله إذا : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " إن [ ص: 404 ] الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به .
وأما " ما " التي مع " مثل " فإنها بمعنى " الذي " لأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها - مثلا .
فإن قال لنا قائل : فإن كان القول في ذلك ما قلت ، فما وجه نصب البعوضة ، وقد علمت أن تأويل الكلام على ما تأولت : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة ، فالبعوضة على قولك في محل الرفع ؟ فأنى أتاها النصب ؟
قيل : أتاها النصب من وجهين : أحدهما ، أن " ما " لما كانت في محل نصب بقوله " يضرب " وكانت البعوضة لها صلة ، عربت بتعريبها فألزمت إعرابها ، كما قال حسان بن ثابت :
وكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا
فعربت " غير " بإعراب " من " والعرب تفعل ذلك خاصة في " من " و " ما " تعرب صلاتهما بإعرابهما ، لأنهما يكونان معرفة أحيانا ، ونكرة أحيانا . [ ص: 405 ]
وأما الوجه الآخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر " بين " و " إلى " إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في " ما " الثانية ، دلالة عليهما ، كما قالت العرب : " مطرنا ما زبالة فالثعلبية " و " له عشرون ما ناقة فجملا " و " هي أحسن الناس ما قرنا فقدما " يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها . وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول : " ما بين كذا إلى كذا " ينصبون الأول والثاني ، ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله : " ما بعوضة فما فوقها "
وقد زعم بعض أهل العربية أن " ما " التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا فما فوقها . فعلى هذا التأويل ، يجب أن تكون " بعوضة " منصوبة ب " يضرب " وأن تكون " ما " الثانية التي في " فما فوقها " معطوفة على البعوضة لا على " ما "
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(36)
الحلقة (51)
صــ 406إلى صــ410
وأما تأويل قوله " فما فوقها " : فما هو أعظم منها - عندي - لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج : أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذ كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف . وإذ كانت كذلك ، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه ، فقد يجب أن يكون المعنى [ ص: 406 ] - على ما قالاه - فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة .
وقيل في تأويل قوله " فما فوقها " في الصغر والقلة ، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح ، فيقول السامع : " نعم ، وفوق ذاك " يعني فوق الذي وصف في الشح واللؤم ، وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضى معرفتهم بتأويل القرآن .
فقد تبين إذا ، بما وصفنا ، أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة .
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة ، فغير جائز في " ما " إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول .
القول في تأويل قوله : ( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فأما الذين آمنوا " فأما الذين صدقوا الله ورسوله . وقوله : " فيعلمون أنه الحق من ربهم " يعني : فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله ، لما ضربه له - مثل .
564 - كما حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " [ ص: 407 ] ، أن هذا المثل الحق من ربهم ، وأنه كلام الله ومن عنده .
565 - وكما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " أي يعلمون أنه كلام الرحمن ، وأنه الحق من الله .
" وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا "
قال أبو جعفر : وقوله " وأما الذين كفروا " يعني الذين جحدوا آيات الله ، وأنكروا ما عرفوا ، وستروا ما علموا أنه حق ، وذلك صفة المنافقين ، وإياهم عنى الله جل وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية ، فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي :
566 - حدثنا به محمد عن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " الآية ، قال : يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ، ويضل بها الفاسقون . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
وتأويل قوله : " ماذا أراد الله بهذا مثلا " ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا . " فذا " الذي مع " ما " في معنى " الذي " وأراد صلته ، وهذا إشارة إلى المثل .
[ ص: 408 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعز : " يضل به كثيرا " يضل الله به كثيرا من خلقه . والهاء في " به " من ذكر المثل . وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ ، ومعنى الكلام : أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر :
567 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يضل به كثيرا " يعني المنافقين ، " ويهدي به كثيرا " يعني المؤمنين .
- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم ، لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له ، وأنه لما ضربه له موافق . فذلك إضلال الله إياهم به . ويهدي به " يعني بالمثل ، كثيرا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم . لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به . وذلك هداية من الله لهم به .
وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن المنافقين ، كأنهم قالوا : ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد ، يضل به هذا ويهدي به هذا . ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله ، فقال الله : " وما يضل به إلا الفاسقين " وفيما في سورة المدثر - من قول الله : " وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء " - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك مبتدأ ، أعني قوله : " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا "
[ ص: 409 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وما يضل به إلا الفاسقين ( 26 ) )
وتأويل ذلك ما :
568 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " وما يضل به إلا الفاسقين " هم المنافقون .
569 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " وما يضل به إلا الفاسقين " فسقوا فأضلهم الله على فسقهم .
570 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " وما يضل به إلا الفاسقين " هم أهل النفاق .
قال أبو جعفر : وأصل الفسق في كلام العرب : الخروج عن الشيء . يقال منه : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها . ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة ، لخروجها عن جحرها ، فكذلك المنافق والكافر سميا فاسقين ، لخروجهما عن طاعة ربهما . ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس : ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) [ سورة الكهف : 50 ] ، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره .
571 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، [ ص: 410 ] عن داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس في قوله : ( بما كانوا يفسقون ) [ سورة البقرة : 59 ] أي بما بعدوا عن أمري . فمعنى قوله : " وما يضل به إلا الفاسقين " وما يضل الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق ، إلا الخارجين عن طاعته ، والتاركين اتباع أمره ، من أهل الكفر به من أهل الكتاب ، وأهل الضلال من أهل النفاق .
القول في تأويل قوله : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه )
قال أبو جعفر : وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يضل بالمثل الذي ضربه لأهل النفاق غيرهم ، فقال : وما يضل الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبل في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه :
فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته ، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونقضهم ذلك تركهم العمل به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(37)
الحلقة (52)
صــ 411إلى صــ415
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم " وبقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " فكل ما في هذه الآيات ، فعذل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قصصهم ، قالوا : فعهد الله الذي [ ص: 411 ] نقضوه بعد ميثاقه ، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - من العمل بما فيها ، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث ، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك الناس ، بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا .
وقال بعضهم : إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفاق . وعهده إلى جميعهم في توحيده : ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته . وعهده إليهم في أمره ونهيه : ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها ، الشاهدة لهم على صدقهم . قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة ، وتكذيبهم الرسل والكتب ، مع علمهم أن ما أتوا به حق .
وقال آخرون : العهد الذي ذكره الله جل ذكره ، هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ، الذي وصفه في قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ سورة الأعراف : 172 - 173 ] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به .
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال : إن هذه الآيات نزلت في كفار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 412 ] وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل ، ومن كان على شركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصصهم فيما مضى من كتابنا هذا .
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه : " إن الذين كفروا سواء عليهم " وقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " فيهم أنزلت ، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله . غير أن هذه الآيات عندي ، وإن كانت فيهم نزلت ، فإنه معني بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال ، ومعني بما وافق منها صفة المنافقين خاصة ، جميع المنافقين ، وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود ، جميع من كان لهم نظيرا في كفرهم .
وذلك أن الله جل ثناؤه يعم أحيانا جميعهم بالصفة ، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرت قصصهم ، ويخص أحيانا بالصفة بعضهم ، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيهم ، أعني : فريق المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله ، وفريق كفار أحبار اليهود . فالذين ينقضون عهد الله ، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وتبيين نبوته للناس ، الكاتمون بيان ذلك بعد علمهم به ، وبما قد أخذ الله عليهم في ذلك ، كما قال الله جل ذكره : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم ) [ سورة آل عمران : 187 ] ، ونبذهم ذلك وراء ظهورهم هو نقضهم العهد الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه وتركهم العمل به .
وإنما قلت : إنه عنى بهذه الآيات من قلت إنه عنى بها ، لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة - فيهم نزلت ، إلى تمام قصصهم . [ ص: 413 ] وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانه في قوله . ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ سورة البقرة : 40 ] . وخطابه إياهم - جل ذكره - بالوفاء في ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدل على أن قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " مقصود به كفارهم ومنافقوهم ، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم . غير أن الخطاب - وإن كان لمن وصفت من الفريقين - فداخل في أحكامهم ، وفيما أوجب الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ ، كل من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي .
فمعنى الآية إذا : وما يضل به إلا التاركين طاعة الله ، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه ، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم ، في الكتب التي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه ، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس ، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته ، وترك كتمان ذلك لهم ، ونكثهم ذلك ونقضهم إياه هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفت أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك . كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله : ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ) . [ سورة الأعراف : 169 ] . [ ص: 114 ]
وأما قوله : " من بعد ميثاقه " فإنه يعني : من بعد توثق الله فيه ، بأخذ عهوده بالوفاء له ، بما عهد إليهم في ذلك . غير أن التوثق مصدر من قولك : توثقت من فلان توثقا ، والميثاق اسم منه . والهاء في الميثاق عائدة على اسم الله .
وقد يدخل في حكم هذه الآية كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار ، في نقض العهد وقطع الرحم والإفساد في الأرض .
572 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " فإياكم ونقض هذا الميثاق ، فإن الله قد كره نقضه وأوعد فيه ، وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة ، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق . فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليف به لله .
573 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون " فهي ست خلال في أهل النفاق ، إذا كانت لهم الظهرة ، أظهروا هذه الخلال الست [ ص: 415 ] جميعا : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض . وإذا كانت عليهم الظهرة ، أظهروا الخلال الثلاث إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل )
قال أبو جعفر : والذي رغب الله في وصله وذم على قطعه في هذه الآية : الرحم . وقد بين ذلك في كتابه ، فقال تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) [ سورة محمد : 22 ] . وإنما عنى بالرحم ، أهل الرحم الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة . وقطع ذلك : ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها ، وأوجب من برها . ووصلها : أداء الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجب لها ، والتعطف عليها بما يحق التعطف به عليها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(38)
الحلقة (53)
صــ 416إلى صــ420
" وأن " التي مع " يوصل " في محل خفض ، بمعنى ردها على موضع الهاء التي في " به " : فكان معنى الكلام : ويقطعون الذي أمر الله بأن يوصل . والهاء التي في " به " هي كناية عن ذكر " أن يوصل " وبما قلنا في تأويل قوله : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " وأنه الرحم ، كان قتادة يقول : [ ص: 416 ]
574 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة .
وقد تأول بعضهم ذلك : أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامهم . واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية ، وأن لا دلالة على أنه معني بها بعض ما أمر الله وصله دون بعض .
قال أبو جعفر : وهذا مذهب من تأويل الآية غير بعيد من الصواب ، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه ، فوصفهم بقطع الأرحام . فهذه نظيرة تلك ، غير أنها - وإن كانت كذلك - فهي دالة على ذم الله كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله ، رحما كانت أو غيرها .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ويفسدون في الأرض )
قال أبو جعفر : وفسادهم في الأرض : هو ما تقدم وصفناه قبل من معصيتهم ربهم ، وكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله ، وجحدهم نبوته ، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حق من عنده .
[ ص: 417 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك هم الخاسرون ( 27 ) )
قال أبو جعفر : والخاسرون جمع خاسر ، والخاسرون : الناقصون أنفسهم حظوظها - بمعصيتهم الله - من رحمته ، كما يخسر الرجل في تجارته ، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه . فكذلك الكافر والمنافق ، خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة ، أحوج ما كان إلى رحمته . يقال منه : خسر الرجل يخسر خسرا وخسرانا وخسارا ، كما قال جرير بن عطية :
إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنه
يعني بقوله : " في الخسار " أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم . وقد قيل : إن معنى " أولئك هم الخاسرون " : أولئك هم الهالكون . وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية ، بحرمان الله إياه ما حرمه من رحمته ، بمعصيته إياه وكفره به . فحمل تأويل الكلام على معناه ، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها ، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه .
وقال بعضهم في ذلك بما :
575 - حدثت به عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل " خاسر " فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام ، فإنما يعني به الذنب .
[ ص: 418 ] القول في تأويل قول الله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ( 28 ) )
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم بما :
576 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " يقول : لم تكونوا شيئا فخلقكم ، ثم يميتكم ، ثم يحييكم يوم القيامة .
577 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : ( أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) [ سورة غافر : 11 ] ، قال : هي كالتي في البقرة : " كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم "
578 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : خلقتنا ولم نكن شيئا ، ثم أمتنا ، ثم أحييتنا .
579 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : كانوا أمواتا فأحياهم الله ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم . [ ص: 419 ]
580 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " قال : لم تكونوا شيئا حين خلقكم ، ثم يميتكم الموتة الحق ، ثم يحييكم . وقوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " مثلها .
581 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : هو قوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين "
582 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، في قول الله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " يقول : حين لم يكونوا شيئا ، ثم أحياهم حين خلقهم ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، ثم رجعوا إليه بعد الحياة .
583 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم ، فهذه إحياءة . ثم يميتكم فترجعون إلى القبور ، فهذه ميتة أخرى . ثم يبعثكم يوم القيامة ، فهذه إحياءة . فهما ميتتان وحياتان ، فهو قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "
وقال آخرون بما :
584 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي صالح : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " قال : يحييكم في القبر ، ثم يميتكم .
وقال آخرون بما :
585 - حدثنا به بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، [ ص: 420 ] عن قتادة ، قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " الآية . قال : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله وخلقهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما حياتان وموتتان .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(39)
الحلقة (54)
صــ 421إلى صــ425
وقال بعضهم بما :
586 - حدثني به يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله تعالى : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال : خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق ، وقرأ : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، حتى بلغ : ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ سورة الأعراف : 172 - 173 ] . قال : فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق . قال : وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصيرى فخلق منه حواء ، ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وذلك قول الله تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ) [ سورة النساء : 1 ] ، قال : وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا ، وقرأ : ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ) [ سورة الزمر : 6 ] ، قال : خلقا بعد ذلك . قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ، ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، فذلك قول الله : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ) ، [ ص: 421 ] وقرأ قول الله : ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) [ سورة الأحزاب : 7 ] . قال : يومئذ . قال : وقرأ قول الله : ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) [ سورة المائدة : 7 ] .
قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه ، وجه ومذهب من التأويل .
فأما وجه تأويل من تأول قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " أي لم تكونوا شيئا ، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر : هذا شيء ميت ، وهذا أمر ميت - يراد بوصفه بالموت : خمول ذكره ، ودروس أثره من الناس . وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه : هذا أمر حي ، وذكر حي - يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس ، كما قال أبو نخيلة السعدي :
فأحييت لي ذكري ، وما كنت خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
يريد بقوله : " فأحييت لي ذكري " أي : رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورا حيا ، بعد أن كان خاملا ميتا . فكذلك تأويل قول من قال في قوله : " وكنتم أمواتا " لم تكونوا شيئا ، أي كنتم خمولا لا ذكر لكم ، وذلك كان موتكم فأحياكم ، فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون ، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم ، كالذي كنتم قبل أن يحييكم ، من دروس ذكركم ، وتعفي آثاركم ، وخمول أموركم ، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ، ونفخ الروح فيها ، [ ص: 422 ] وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة ، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم .
وأما وجه تأويل من تأول ذلك : أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد ، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله " وكنتم أمواتا " إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم . وذلك معنى بعيد ، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم ، لا استعتاب واسترجاع . وقوله جل ذكره : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " توبيخ مستعتب عباده ، وتأنيب مسترجع خلقه من المعاصي إلى الطاعة ، ومن الضلالة إلى الإنابة ، ولا إنابة في القبور بعد الممات ، ولا توبة فيها بعد الوفاة .
وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك : أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم . فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفا لا أرواح فيها ، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها . وإحياؤه إياها تعالى ذكره ، نفخه الأرواح فيها ، وإماتته إياهم بعد ذلك ، قبضه أرواحهم . وإحياؤه إياهم بعد ذلك ، نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ، ويبعث الخلق للموعود .
وأما ابن زيد ، فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك ، وأن الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عباده في أصلاب آبائهم ، بعد ما أخذهم من صلب آدم ، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم ، وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب ، والمصير في البرزخ إلى يوم [ ص: 423 ] البعث ، وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة .
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافا لظاهر قول الله الذي زعم مفسره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره . وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه - عن الذين أخبر عنهم من خلقه - أنهم قالوا : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " وزعم ابن زيد في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات ، وأماتهم ثلاث إماتات . والأمر عندنا - وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته ، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف ، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين - أعني قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا " الآية ، وقوله : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " - في شيء . لأن أحدا لم يدع أن الله أمات من ذرأ يومئذ غير الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث ، فيكون جائزا أن يوجه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد .
وقال بعضهم : الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة ، فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها . ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرا سويا بعد تارات تأتي عليها . ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه ، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور ، فيرد في جسده روحه ، فيعود حيا سويا لبعث القيامة . فذلك موتتان وحياتان . وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول ، لأنهم قالوا : موت ذي الروح مفارقة الروح إياه . فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حي [ ص: 424 ] ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح ، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح ، فارقته الحياة فصار ميتا . كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه والرجل من رجليه - لو قطعت فأبينت ، والمقطوع ذلك منه حي ، كان الذي بان من جسده ميتا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح . قالوا : فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح ، فإذا فارقته مباينة له صارت ميتة نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه . وهذا قول ووجه من التأويل ، لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضى للقرآن تأويلهم .
وأولى ما ذكرنا - من الأقوال التي بينا - بتأويل قول الله جل ذكره : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " الآية ، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس : من أن معنى قوله : " وكنتم أمواتا " أموات الذكر ، خمولا في أصلاب آبائكم نطفا ، لا تعرفون ولا تذكرون : فأحياكم بإنشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم ، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة ، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك ، كما قال : " ثم إليه ترجعون " لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم ، ثم يحشرهم لموقف الحساب ، كما قال جل ذكره : ( يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ) [ سورة المعارج : 43 ] وقال : ( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) [ سورة يس : 51 ] . والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ، ما قد قدمنا ذكره للقائلين به ، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل .
وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين : " آمنا بالله وباليوم الآخر " الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم ، غير مؤمنين به . وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين ، فعذلهم الله بقوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " ووبخهم واحتج عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم ، [ لبعث القيامة ، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن [ ص: 425 ] بالإحسان ، وقد كنتم نطفا أمواتا في أصلاب آبائكم ، فأنشأكم خلقا سويا ، وجعلكم أحياء ، ثم أماتكم بعد إنشائكم . فقد علمتم أن من فعل ذلك بقدرته ، غير معجزه - بالقدرة التي فعل ذلك بكم - إحياؤكم بعد إماتتكم ] وإعادتكم بعد إفنائكم ، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم .
ثم عدد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم ، التي عظمت منهم مواقعها . ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها ، بما ركبوا من الآثام ، واجترموا من الأجرام ، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية ، محذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم ، كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم ، ومخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم ، ومعرفهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه ، وتعجيل التوبة ، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(40)
الحلقة (55)
صــ 426إلى صــ430
فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون ، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه ، وما سلف منه من كرامته إليه ، وآلائه لديه ، وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به . وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه . وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل ، وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل ، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة ، منبها لهم على حكمه [ ص: 426 ] في المنيبين إليه بالتوبة ، وقضائه في المستكبرين عن الإنابة ، إعذارا من الله بذلك إليهم ، وإنذارا لهم ، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب . وخاصا أهل الكتاب - بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها ، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان - بالاحتجاج عليهم - دون غيرهم من سائر أصناف الأمم ، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك ، أنه لله رسول مبعوث ، وأن ما جاءهم به فمن عنده ، إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص ، من مكنون علومهم ، ومصون ما في كتبهم ، وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم .
وكان معلوما من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبا ، ولا لأسفارهم تاليا ، ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا ، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم ، فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه ، مع كفرهم به ، وتركهم شكره عليها بما يجب له عليهم من طاعته : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ) [ سورة البقرة : 29 ] . فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع . أما في الدين ، فدليل على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه .
فلذلك قال جل ذكره : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " [ ص: 427 ]
وقوله : " هو " مكني من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله : " كيف تكفرون بالله " ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه ، إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود . و " ما " بمعنى " الذي "
فمعنى الكلام إذا : كيف تكفرون بالله وكنتم نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرا أحياء ، ثم يميتكم ، ثم هو محييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم .
و " كيف " بمعنى التعجب والتوبيخ ، لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويحكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : ( فأين تذهبون ) [ سورة التكوير : 26 ] . وحل قوله : " وكنتم أمواتا فأحياكم " محل الحال . وفيه ضمير " قد " ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها . وذلك أن " فعل " إذا حلت محل الحال كان معلوما أنها مقتضية " قد " كما قال جل ثناؤه : ( أو جاءوكم حصرت صدورهم ) [ سورة النساء : 90 ] ، بمعنى : قد حصرت صدورهم . وكما تقول للرجل : أصبحت كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك .
وبنحو الذي قلنا في قوله : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " كان قتادة يقول :
587 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " نعم والله سخر لكم ما في الأرض .
[ ص: 428 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات )
قال أبو جعفر : اختلفوا في تأويل قوله : " ثم استوى إلى السماء "
فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلا على فلان ، ثم استوى علي يشاتمني ، واستوى إلي يشاتمني . بمعنى : أقبل علي وإلي يشاتمني . واستشهد على أن الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر :
أقول وقد قطعن بنا شرورى سوامد ، واستوين من الضجوع
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضجوع ، وكان ذلك عنده بمعنى : أقبلن . وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ ، وإنما معنى قوله : " واستوين من الضجوع " استوين على الطريق من الضجوع خارجات ، بمعنى استقمن عليه .
وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحول ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ، ثم تحول إلى الشام . إنما يريد : [ ص: 429 ] تحول فعله . [ وقال بعضهم : قوله : " ثم استوى إلى السماء " يعني به : استوت ] . كما قال الشاعر :
أقول له لما استوى في ترابه على أي دين قتل الناس مصعب
وقال بعضهم : " ثم استوى إلى السماء " عمد لها . وقال : بل كل تارك عملا كان فيه إلى آخر فهو مستو لما عمد له ، ومستو إليه .
وقال بعضهم : الاستواء هو العلو ، والعلو هو الارتفاع . وممن قال ذلك الربيع بن أنس .
588 - حدثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " ثم استوى إلى السماء " يقول : ارتفع إلى السماء .
ثم اختلف متأولو الاستواء بمعنى العلو والارتفاع ، في الذي استوى إلى السماء . فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها ، هو خالقها ومنشئها . وقال بعضهم : بل العالي عليها : الدخان الذي جعله الله للأرض سماء .
قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاء شباب الرجل وقوته ، فيقال ، إذا صار كذلك : قد استوى الرجل . ومنها استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمره . إذا استقام بعد أود ، ومنه قول الطرماح بن حكيم :
طال على رسم مهدد أبده وعفا واستوى به بلده
[ ص: 430 ]
يعني : استقام به . ومنها : الإقبال على الشيء يقال استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه . ومنها . الاحتياز والاستيلاء ، كقولهم : استوى فلان على المملكة . بمعنى احتوى عليها وحازها . ومنها : العلو والارتفاع ، كقول القائل ، استوى فلان على سريره . يعني به علوه عليه .
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : " ثم استوى إلى السماء فسواهن " علا عليهن وارتفع ، فدبرهن بقدرته ، وخلقهن سبع سماوات .
والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : " ثم استوى إلى السماء " الذي هو بمعنى العلو والارتفاع ، هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك - أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر . ثم لم ينج مما هرب منه! فيقال له : زعمت أن تأويل قوله " استوى " أقبل ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علو ملك وسلطان ، لا علو انتقال وزوال . ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله . ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه ، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفا . وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(41)
الحلقة (56)
صــ 431إلى صــ435
قال أبو جعفر : وإن قال لنا قائل : أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟
قيل : بعده ، وقبل أن يسويهن سبع سماوات ، كما قال جل ثناؤه : [ ص: 431 ] ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ) [ سورة فصلت : 11 ] . والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا ، وقبل أن يسويها سبع سماوات .
وقال بعضهم : إنما قال : " استوى إلى السماء " ولا سماء ، كقول الرجل لآخر : " اعمل هذا الثوب " وإنما معه غزل .
وأما قوله " فسواهن " فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبرهن وقومهن . والتسوية في كلام العرب ، التقويم والإصلاح والتوطئة ، كما يقال : سوى فلان لفلان هذا الأمر . إذا قومه وأصلحه ووطأه له . فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سماواته : تقويمه إياهن على مشيئته ، وتدبيره لهن على إرادته ، وتفتيقهن بعد ارتتاقهن .
589 - كما : حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فسواهن سبع سماوات " يقول : سوى خلقهن ، " وهو بكل شيء عليم .
وقال جل ذكره : " فسواهن " فأخرج مكنيهن مخرج مكني الجميع ، وقد قال قبل : " ثم استوى إلى السماء " فأخرجها على تقدير الواحد . وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكني الجمع ، لأن السماء جمع واحدها سماوة ، فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل ، وما أشبه ذلك . ولذلك أنثت مرة فقيل : هذه سماء ، وذكرت أخرى فقيل : ( السماء منفطر به ) [ سورة المزمل : 18 ] ، [ ص: 432 ] كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها ، فيقال : هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل ، وما أشبه ذلك .
وكان بعض أهل العربية يزعم أن السماء واحدة ، غير أنها تدل على السماوات ، فقيل : " فسواهن " يراد بذلك التي ذكرت وما دلت عليه من سائر السماوات التي لم تذكر معها . قال : وإنما تذكر إذا ذكرت وهي مؤنثة ، فيقال : " السماء منفطر به " كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وكما قال أعشى بني ثعلبة :
فإما تري لمتي بدلت فإن الحوادث أزرى بها
[ ص: 433 ]
وقال بعضهم : السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضا فوق أرض ، فهي في التأويل واحدة إن شئت ، ثم تكون تلك الواحدة جماعا ، كما يقال : ثوب أخلاق وأسمال ، وبرمة أعشار ، للمتكسرة ، وبرمة أكسار وأجبار . وأخلاق ، أي أن نواحيه أخلاق .
فإن قال لنا قائل : فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سماوات ، ثم سواها سبعا بعد استوائه إليها ، فكيف زعمت أنها جماع ؟
قيل : إنهن كن سبعا غير مستويات ، فلذلك قال جل ذكره : فسواهن سبعا . كما :
590 - حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال محمد بن إسحاق : كان أول ما خلق الله تبارك وتعالى النور والظلمة ، ثم ميز بينهما ، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما ، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا ، ثم سمك السماوات السبع من دخان - يقال ، والله أعلم ، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبكهن . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها ، وأخرج ضحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم . ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال ، وقدر فيها الأقوات ، وبث فيها ما أراد من الخلق ، ففرغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام . ثم استوى إلى السماء وهي دخان - كما قال - فحبكهن ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كل سماء أمرها ، فأكمل [ ص: 434 ] خلقهن في يومين ، ففرغ من خلق السماوات والأرض في ستة أيام . ثم استوى في اليوم السابع فوق سماواته ، ثم قال للسماوات والأرض : ائتيا طوعا أو كرها لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعا أو كرها ، قالتا : أتينا طائعين .
فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض وما فيها - وهن سبع من دخان ، فسواهن كما وصف . وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق ، لأنه أوضح بيانا - عن خلق السماوات ، أنهن كن سبعا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره ، وأحسن شرحا لما أردنا الاستدلال به ، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها : " ثم استوى إلى السماء " بمعنى الجميع ، على ما وصفنا . وأنه إنما قال جل ثناؤه : " فسواهن " إذ كانت السماء بمعنى الجميع ، على ما بينا .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السماوات التي ذكرها في قوله " فسواهن " إذ كن قد خلقن سبعا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذكر خلقهن بعد ذكر خلق الأرض ؟ ألأنها خلقت قبلها ، أم بمعنى غير ذلك ؟
قيل : قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق ، ونؤكد ذلك تأكيدا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم . [ ص: 435 ]
591 - فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء . فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء . ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين - فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن : " ن والقلم " والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض : فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرت ، فالجبال تخر على الأرض ، فذلك قوله : ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) [ سورة النحل : 15 ] . وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين - في الثلاثاء والأربعاء - وذلك حين يقول : ( أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها ) يقول : أنبت شجرها ( وقدر فيها أقواتها ) يقول : أقواتها لأهلها ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) يقول : قل لمن يسألك : هكذا الأمر ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) [ سورة فصلت : 9 - 11 ] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها [ ص: 436 ] سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين - في الخميس والجمعة - وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض " وأوحى في كل سماء أمرها " قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا ، تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب ، استوى على العرش . فذلك حين يقول : ( خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) [ سورة الأعراف : 54 ] . ويقول : ( كانتا رتقا ففتقناهما ) [ سورة الأنبياء : 30 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(42)
الحلقة (57)
صــ 436إلى صــ440
592 - وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء " قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، بعضهن تحت بعض . [ ص: 437 ]
593 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فسواهن سبع سماوات " قال : بعضهن فوق بعض ، بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام .
594 - حدثنا المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) [ سورة النازعات : 30 ] .
595 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل . فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : هو الذي أنعم عليكم ، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلا منه بذلك عليكم ، ليكون لكم بلاغا في دنياكم ومتاعا إلى موافاة آجالكم ، ودليلا لكم على وحدانية ربكم . ثم علا إلى السماوات السبع وهي دخان ، فسواهن وحبكهن ، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه ، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه .
[
ص: 438 ] القول في
تأويل قوله : ( وهو بكل شيء عليم ( 29 ) )
يعني بقوله جل جلاله : " وهو " نفسه ، وبقوله : " بكل شيء عليم " إن الذي خلقكم ، وخلق لكم ما في الأرض جميعا ، وسوى السماوات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء ، وأتقن صنعهن ، لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب - ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم ، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم على التكذيب به منطوون . وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور ، وهم بصحته عارفون . وجحدوه وكتموا ما قد أخذت عليهم - ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوته - المواثيق وهم به عالمون . بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم .
وقوله : " عليم " بمعنى عالم . وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو الذي قد كمل في علمه .
596 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : العالم الذي قد كمل في علمه .
[ ص: 439 ] القول في تأويل قوله : ( وإذ قال ربك )
قال أبو جعفر : زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة : أن تأويل قوله : " وإذ قال ربك " وقال ربك ، وأن " إذ " من الحروف الزوائد ، وأن معناها الحذف . واعتل لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يعفر :
فإذا وذلك لا مهاه لذكره والدهر يعقب صالحا بفساد
[ ص: 440 ]
ثم قال : ومعناها : وذلك لا مهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن ربع الهذلي :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقال : معناه ، حتى أسلكوهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(43)
الحلقة (58)
صــ 441إلى صــ445
قال أبو جعفر : والأمر في ذلك بخلاف ما قال : وذلك أن " إذ " حرف يأتي بمعنى الجزاء ، ويدل على مجهول من الوقت . وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام . إذ سواء قيل قائل : هو بمعنى التطول ، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيل آخر ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به : وهو بمعنى التطول . [ ص: 441 ]
وليس لما ادعى الذي وصفنا قوله - في بيت الأسود بن يعفر : أن " إذا " بمعنى التطول - وجه مفهوم ، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله :
فإذا وذلك لا مهاه لذكره
وذلك أنه أراد بقوله : فإذا الذي نحن فيه ، وما مضى من عيشنا . وأشار بقوله " ذلك " إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه " مهاه لذكره " يعني لا طعم له ولا فضل ، لإعقاب الدهر صالح ذلك بفساد . وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا . . . . . . . . . . . . . . . . .
لو أسقط منه " إذا " بطل معنى الكلام ، لأن معناه : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله . " أسلكوهم شلا " على معنى المحذوف ، فاستغنى عن ذكره بدلالة " إذا " عليه ، فحذف . كما دل - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا - على ما تفعل العرب في نظائر ذلك . وكما قال النمر بن تولب :
فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما
وهو يريد : أينما ذهب . وكما تقول العرب : " أتيتك من قبل ومن بعد " تريد من قبل ذلك ، ومن بعد ذلك . فكذلك ذلك في " إذا " كما يقول القائل : [ ص: 442 ] " إذا أكرمك أخوك فأكرمه ، وإذا لا فلا " يريد : وإذا لم يكرمك فلا تكرمه .
ومن ذلك قول الآخر :
فإذا وذلك لا يضرك ضره في يوم أسأل نائلا أو أنكد
نظير ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر . وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : " وإذ قال ربك للملائكة " لو أبطلت " إذ " وحذفت من الكلام ، لاستحال عن معناه الذي هو به ، وفيه " إذ "
فإن قال لنا قائل : فما معنى ذلك ؟ وما الجالب ل " إذ " إذ لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه ؟
قيل له : قد ذكرنا فيما مضى : أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " بهذه الآيات والتي بعدها ، موبخهم مقبحا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم ، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم ، ومذكرهم - بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم - بأسه ، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته ، ومعرفهم ما كان منه من تعطفه على التائب منهم استعتابا منه لهم . فكان مما عدد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، وسخر لهم ما في السماوات من شمسها [ ص: 443 ] وقمرها ونجومها ، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع ، فكان في قوله تعالى : ذكره " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " معنى : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئا ، وخلقت لكم ما في الأرض جميعا ، وسويت لكم ما في السماء . ثم عطف بقوله : " وإذ قال ربك للملائكة " على المعنى المقتضى بقوله : " كيف تكفرون بالله " إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله : اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلت ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .
فإن قال قائل : فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت ؟ قيل : نعم ، أكثر من أن يحصى ، من ذلك قول الشاعر :
أجدك لن ترى بثعيلبات ولا بيدان ناجية ذمولا
ولا متدارك والشمس طفل ببعض نواشغ الوادي حمولا
فقال : " ولا متدارك " ولم يتقدمه فعل بلفظ يعطفه عليه ، ولا حرف [ ص: 444 ] معرب إعرابه ، فيرد " متدارك " عليه في إعرابه . ولكنه لما تقدمه فعل مجحود ب " لن " يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف ، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف ، وعامل الكلام في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرا . لأن قوله :
أجدك لن ترى بثعيلبات
بمعنى : " أجدك لست براء " فرد " متداركا " على موضع " ترى " كأن " لست " و " الباء " موجودتان في الكلام . فكذلك قوله : " وإذ قال ربك " لما سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قبلهم وقبل آبائهم من أياديه وآلائه ، وكان قوله : " وإذ قال ربك للملائكة " مع ما بعده من النعم التي عددها عليهم ونبههم على مواقعها رد " إذ " على موضع " وكنتم أمواتا فأحياكم " لأن معنى ذلك : اذكروا هذه من نعمي ، وهذه التي قلت فيها للملائكة . فلما كانت الأولى مقتضية " إذ " عطف ب " إذ " على موضعها في الأولى ، كما وصفنا من قول الشاعر في " ولا متدارك "
القول في تأويل قوله : ( للملائكة )
قال أبو جعفر : والملائكة جمع ملأك ، غير أن أحدهم ، بغير الهمزة أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز ، وذلك أنهم يقولون في واحدهم : ملك من [ ص: 445 ] الملائكة ، فيحذفون الهمز منه ، ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو همز الاسم . وإنما يحركونها بالفتح ، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها : فإذا جمعوا واحدهم ، ردوا الجمع إلى الأصل وهمزوا ، فقالوا : ملائكة .
وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها ، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة ، فيجري كلامهم بترك همزها في حال ، وبهمزها في أخرى ، كقولهم : " رأيت فلانا " فجرى كلامهم بهمز " رأيت " ثم قالوا : " نرى وترى ويرى " فجرى كلامهم في " يفعل " ونظائرها بترك الهمز ، حتى صار الهمز معها شاذا ، مع كون الهمز فيها أصلا . فكذلك ذلك في " ملك وملائكة " جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم ، وبالهمز في جميعهم . وربما جاء الواحد مهموزا ، كما قال الشاعر :
فلست لإنسي ولكن لملأك تحدر من جو السماء يصوب
وقد يقال في واحدهم ، مألك ، فيكون ذلك مثل قولهم : جبذ وجذب ، وشأمل وشمأل ، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة . غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم
" مألك " أن يجمع إذا جمع على ذلك " مآلك " ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا ، ولكنهم قد يجمعون : ملائك وملائكة كما يجمع أشعث أشاعث وأشاعثة ، ومسمع مسامع ومسامعة ، قال أمية بن أبي الصلت في جمعهم كذلك :
وفيهما من عباد الله قوم ملائك ذللوا وهم صعاب
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(44)
الحلقة (59)
صــ 446إلى صــ450
وأصل الملأك : الرسالة ، كما قال عدي بن زيد العبادي : [ ص: 446 ]
أبلغ النعمان عني ملأكا إنه قد طال حبسي وانتظاري
وقد ينشد : مألكا ، على اللغة الأخرى ، فمن قال : ملأكا فهو مفعل ، من لأك إليه يلأك إذا أرسل إليه رسالة ملأكة ، ومن قال : مألكا فهو مفعل من ألكت إليه آلك : إذا أرسلت إليه مألكة وألوكا ، كما قال لبيد بن ربيعة :
وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل
فهذا من " ألكت " ومنه قول نابغة بني ذبيان :
ألكني يا عيين إليك قولا سأهديه ، إليك إليك عني
[ ص: 447 ]
وقال عبد بني الحسحاس :
ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا
يعني بذلك : أبلغها رسالتي . فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة ، لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ، ومن أرسلت إليه من عباده .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( إني جاعل في الأرض )
اختلف أهل التأويل في قوله : " إني جاعل " فقال بعضهم : إني فاعل .
ذكر من قال ذلك :
597 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن ، وأبي بكر - يعني الهذلي ، عن الحسن ، وقتادة قالوا : قال الله تعالى ذكره لملائكته : " إني جاعل في الأرض خليفة " قال لهم : إني فاعل . [ ص: 448 ]
وقال آخرون : إني خالق .
ذكر من قال ذلك :
598 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، قال : كل شيء في القرآن " جعل " فهو خلق .
قال أبو جعفر : والصواب في تأويل قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " : أي مستخلف في الأرض خليفة ، ومصير فيها خلفا . وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة .
وقيل : إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي " مكة "
ذكر من قال ذلك :
599 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ابن سابط : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ، وكانت الملائكة تطوف بالبيت ، فهي أول من طاف به ، وهي " الأرض " التي قال الله : " إني جاعل في الأرض خليفة " وكان النبي إذا هلك قومه ، ونجا هو والصالحون ، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا . فإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب ، بين زمزم والركن والمقام .
[ ص: 449 ] القول في تأويل قوله : ( خليفة )
والخليفة الفعيلة من قولك : خلف فلان فلانا في هذا الأمر ، إذا قام مقامه فيه بعده . كما قال جل ثناؤه ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) [ سورة يونس : 14 ] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم ، فجعلكم خلفاء بعدهم . ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ، لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خلفا . يقال منه : خلف الخليفة ، يخلف خلافة وخليفى .
وكان ابن إسحاق يقول بما :
600 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إني جاعل في الأرض خليفة " يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ، ليس منكم .
وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل [ ص: 450 ] ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة يسكنها - ولكن معناها ما وصفت قبل .
فإن قال قائل : فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرا ، فكان بنو آدم منه بدلا وفيها منه خلفا ؟
قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك .
601 - فحدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا . فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . ثم خلق آدم فأسكنه إياها ، فلذلك قال : " إني جاعل في الأرض خليفة "
فعلى هذا القول : " إني جاعل في الأرض خليفة " من الجن ، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(45)
الحلقة (60)
صــ 451إلى صــ455
602 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " الآية ، قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم [ ص: 451 ] الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ، فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء ، وكان الفساد في الأرض .
وقال آخرون في تأويل قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " أي خلفا يخلف بعضهم بعضا ، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم ، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله . وهذا قول حكي عن الحسن البصري .
ونظير له ما :
603 - حدثني به محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال : يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم .
604 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال الله تعالى ذكره للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة . وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها خلق .
وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن ، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة له يحكم فيها بين خلقه بحكمه ، نظير ما :
605 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي [ ص: 452 ] صلى الله عليه وسلم : أن الله جل ثناؤه قال للملائكة : " إني جاعل في الأرض خليفة " قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي . وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه .
وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها ، فمن غير خلفائه ، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله - لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته - إذ سألوه : ما ذاك الخليفة؟ : إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه ، وأخرج منه خليفته .
وهذا التأويل ، وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه ، فموافق له من وجه . فأما موافقته إياه ، فصرف متأوليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة . وأما مخالفته إياه ، فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها . وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده ، بمعنى خلافة بعضهم بعضا ، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم ، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة .
والذي دعا المتأولين قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " - في التأويل الذي ذكر عن الحسن - إلى ما قالوا في ذلك ، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها ، إذ قال لهم ربهم : " إني جاعل في الأرض خليفة " ، " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " إخبارا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه [ ص: 453 ] جاعله في الأرض لا عن غيره . لأن المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك - وكان الله قد برأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء ، وطهره من ذلك - علم أن الذي عنى به غيره من ذريته . فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم ، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك ، وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا .
وأغفل قائلو هذه المقالة ، ومتأولو الآية هذا التأويل ، سبيل التأويل . وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها : " إني جاعل في الأرض خليفة " لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه ، بل قالت : " أتجعل فيها من يفسد فيها " ؟ وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء ، فقالت : يا ربنا " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " كما قال ابن مسعود وابن عباس ، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل .
[ ص: 454 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ولم يكن آدم بعد مخلوقا ولا ذريته ، فيعلموا ما يفعلون عيانا ؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك ، أم قالت ما قالت من ذلك ظنا ؟ فذلك شهادة منها بالظن وقول بما لا تعلم . وذلك ليس من صفتها . أم ما وجه قيلها ذلك لربها ؟ [ ص: 455 ] قيل : قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا . ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك ، ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة . فروي عن ابن عباس في ذلك ما :
606 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم " الحن " خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال : وكان اسمه الحارث ، قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي . قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت . قال : وخلق الإنسان من طين . فأول من سكن الأرض الجن . فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحن - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه . وقال : " قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد " قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه ، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه . فقال الله للملائكة الذين معه : " إني جاعل في الأرض خليفة " فقالت الملائكة مجيبين له : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " كما [ ص: 456 ] أفسدت الجن وسفكت الدماء ، وإنما بعثنا عليهم لذلك ، فقال : " إني أعلم ما لا تعلمون " يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه ، من كبره واغتراره . قال : ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم من طين لازب ، واللازب : اللزج الصلب ، من حمأ مسنون : منتن . قال : وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب . قال : فخلق منه آدم بيده ، قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى . فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل - أي فيصوت - قال : فهو قول الله : ( من صلصال كالفخار ) [ سورة الرحمن : 14 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(46)
الحلقة (61)
صــ 456إلى صــ460
يقول : كالشيء المنفوخ الذي ليس بمصمت . قال : ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ، ويدخل من دبره ويخرج من فيه ، ثم يقول : لست شيئا! - للصلصلة - ولشيء ما خلقت! لئن سلطت عليك لأهلكنك ، ولئن سلطت علي لأعصينك . قال : فلما نفخ الله فيه من روحه ، أتت النفخة من قبل رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما . فلما انتهت النفخة إلى سرته ، نظر إلى جسده ، فأعجبه ما رأى من حسنه ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله : ( وكان الإنسان عجولا ) [ سورة الإسراء : 11 ] قال : ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء . قال : فلما تمت النفخة في جسده عطس ، فقال : " الحمد لله رب العالمين " بإلهام من الله تعالى ، فقال الله له : يرحمك الله يا آدم . قال : ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات : اسجدوا لآدم . فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر ، لما كان حدث به نفسه من كبره واغتراره . فقال : لا أسجد له ، وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا ، خلقتني من نار وخلقته من طين - يقول : إن النار أقوى من الطين . قال : فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله - أي آيسه من الخير كله ، وجعله شيطانا رجيما [ ص: 457 ] عقوبة لمعصيته . ثم علم آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها . ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة - يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس ، الذين خلقوا من نار السموم - وقال لهم : أنبئوني بأسماء هؤلاء ، يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ، إن كنتم تعلمون أني لم أجعل خليفة في الأرض . قال : فلما علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب ، الذي لا يعلمه غيره ، الذي ليس لهم به علم ، قالوا : سبحانك - تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره - تبنا إليك ، لا علم لنا إلا ما علمتنا ، تبريا منهم من علم الغيب ، إلا ما علمتنا كما علمت آدم . فقال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، يقول : أخبرهم بأسمائهم . فلما أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم - أيها الملائكة خاصة - إني أعلم غيب السماوات والأرض ، ولا يعلمه غيري ، وأعلم ما تبدون ، يقول : ما تظهرون ، وما كنتم تكتمون ، يقول : أعلم السر كما أعلم العلانية ، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
قال أبو جعفر : وهذه الرواية عن ابن عباس ، تنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " خطاب من الله جل ثناؤه لخاص من الملائكة دون الجميع ، وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة - الذين قاتلوا معه جن الأرض قبل خلق آدم - وأن الله إنما خصهم بقيل ذلك امتحانا منه لهم وابتلاء ، ليعرفهم قصور علمهم وفضل كثير ممن هو أضعف خلقا منهم من خلقه عليهم ، وأن كرامته [ ص: 458 ] لا تنال بقوى الأبدان وشدة الأجسام ، كما ظنه إبليس عدو الله . ومصرح بأن قيلهم لربهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " كانت هفوة منهم ورجما بالغيب ، وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك ، ووقفهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رجم الغيب بالظنون ، وتبرأوا إليه أن يعلم الغيب غيره ، وأظهر لهم من إبليس ما كان منطويا عليه من الكبر الذي قد كان عنهم مستخفيا .
وقد روي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية ، وهو ما :
607 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " لما فرغ الله من خلق ما أحب ، استوى على العرش ، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن ؛ وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة . وكان إبليس مع ملكه خازنا ، فوقع في صدره كبر ، وقال : ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي - هكذا قال موسى بن هارون ، وقد حدثني به غيره ، وقال : لمزية لي على الملائكة - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه ، [ ص: 459 ] اطلع الله على ذلك منه ، فقال الله للملائكة : " إني جاعل في الأرض خليفة " قالوا : ربنا ، وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا ، قالوا : ربنا ، " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " يعني من شأن إبليس . فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني . فرجع ، ولم يأخذ . وقال : رب إنها عاذت بك فأعذتها . فبعث الله ميكائيل ، فعاذت منه ، فأعاذها ، فرجع فقال كما قال جبريل . فبعث ملك الموت فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره . فأخذ من وجه الأرض ، وخلط فلم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين . فصعد به ، فبل التراب حتى عاد طينا لازبا - واللازب : هو الذي يلتزق بعضه ببعض - ثم ترك حتى أنتن وتغير . وذلك حين يقول : ( من حمإ مسنون ) [ سورة الحجر : 28 ] ، قال : منتن ، ثم قال للملائكة : ( إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) [ سورة ص : 71 - 72 ] فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه ، ليقول له : تتكبر عما عملت بيدي ، ولم أتكبر أنا عنه ؟ فخلقه بشرا ، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة : فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه . وكان أشدهم منه فزعا إبليس ، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة ، فذلك حين يقول : ( من صلصال كالفخار ) [ سورة الرحمن : 14 ] ويقول لأمر ما خلقت! ودخل من فيه فخرج من دبره . فقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا ، فإن ربكم [ ص: 460 ] صمد وهذا أجوف . لئن سلطت عليه لأهلكنه . فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح ، قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له . فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس ، فقالت له الملائكة : قل الحمد لله . فقال : الحمد لله ، فقال له الله : رحمك ربك . فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة . فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول : ( خلق الإنسان من عجل ) [ سورة الأنبياء : 37 ] . فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين - أي استكبر - وكان من الكافرين . قال الله له : ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي ؟ قال : أنا خير منه ، لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين . قال الله له : اخرج منها فما يكون لك - يعني ما ينبغي لك - أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين - والصغار : هو الذل - . قال : وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرض الخلق على الملائكة ، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء . فقالوا له : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . قال الله : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون . قال قولهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها " فهذا الذي أبدوا ، " وأعلم ما كنتم تكتمون " يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(47)
الحلقة (62)
صــ 461إلى صــ465
قال أبو جعفر : فهذا الخبر أوله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل ، وموافق معنى آخره معناها . وذلك أنه ذكر في أوله أن الملائكة سألت ربها : ما ذاك الخليفة ؟ حين قال لها : إني جاعل في الأرض خليفة . فأجابها أنه تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فقالت الملائكة حينئذ : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ فكان قول الملائكة ما قالت من ذلك لربها ، بعد إعلام الله إياها أن ذلك كائن من ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض . فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه .
وأما موافقته إياه في آخره ، فهو قولهم في تأويل قوله : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " : أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك ، تبريا من علم الغيب : " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم "
وهذا إذا تدبره ذو الفهم ، علم أن أوله يفسد آخره ، وأن آخره يبطل معنى أوله . وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء ، فقالت الملائكة لربها : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، بمثل الذي أخبرها عنهم ربها ، فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم : إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به ، فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه ، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه - بل ذلك خلف من التأويل ، ودعوى على [ ص: 462 ] الله ما لا يجوز أن يكون له صفة . وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة ، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العلم بخبري إياكم أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، حتى استجزتم أن تقولوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " فيكون التوبيخ حينئذ واقعا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم : " إنه يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء " لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن . وذلك أن الله جل ثناؤه ، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرية خليفته في الأرض ، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء ، فقد كان طوى عنهم الخبر عما يكون من كثير منهم ما يكون من طاعتهم ربهم ، وإصلاحهم في أرضه ، وحقن الدماء ، ورفعه منزلتهم ، وكرامتهم عليه ، فلم يخبرهم بذلك . فقالت الملائكة : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " على ظن منها - على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرت وظاهرهما - أن جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء ، فقال الله لهم - إذ علم آدم الأسماء كلها - أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أن جميع بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، على ما ظننتم في أنفسكم . إنكارا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم ، وهو من صفة خاص ذرية الخليفة منهم . وهذا الذي ذكرناه هو صفة منا لتأويل الخبر ، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية . [ ص: 463 ]
ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم ما :
608 - حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط ، قوله : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال : يعنون الناس .
وقال آخرون في ذلك بما :
609 - حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " فاستشار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة . قال : وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ؟ فابتلوا بخلق آدم - وكل خلق مبتلى ، كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة ، فقال الله : ( ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ سورة فصلت : 11 ] .
وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن ، ولكن على الرأي منها والظن ، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من [ ص: 464 ] قيلها ، ورد عليها ما رأت بقوله : " إني أعلم ما لا تعلمون " من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسل والمجتهد في طاعة الله .
وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل ، وهو ما :
610 - حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " أتجعل فيها من يفسد فيها " قال : كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك قوله : " أتجعل فيها من يفسد فيها "
وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل ، منهم الحسن البصري :
611 - حدثنا القاسم : قال حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن - وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة - قالا قال الله لملائكته : " إني جاعل في الأرض خليفة " - قال لهم : إني فاعل - فعرضوا برأيهم ، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه لا يعلمونه ، فقالوا بالعلم الذي علمهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " - وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء - " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " فلما أخذ في خلق آدم ، همست الملائكة فيما بينها ، فقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه . فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا ، ففضله عليهم ، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه ، فقالوا : إن لم نكن خيرا منه فنحن أعلم منه ، لأنا كنا قبله ، وخلقت الأمم قبله . فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا ، ف " علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قال : ففزع القوم إلى التوبة - وإليها يفزع كل مؤمن - فقالوا : " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " [ ص: 465 ] لقولهم : " ليخلق ربنا ما شاء ، فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا " قال : علمه اسم كل شيء ، هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجن والوحش ، وجعل يسمي كل شيء باسمه ، وعرضت عليه كل أمة ، فقال : " ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قال : أما ما أبدوا فقولهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " وأما ما كتموا فقول بعضهم لبعض : " نحن خير منه وأعلم "
612 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " الآية ، قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة . قال : فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء ، وكان الفساد في الأرض . فمن ثم قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(48)
الحلقة (63)
صــ 466إلى صــ470
613 - [ حدثنا محمد بن جرير ، قال ] : حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : أخبرنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله : " ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين [ ص: 466 ] " إلى قوله : " إنك أنت العليم الحكيم " قال : وذلك حين قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " قال : فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم : لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم . فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدم . وعلم آدم الأسماء كلها ، فقال للملائكة : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " إلى قوله : " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " وكان الذي أبدوا حين قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " وكان الذي كتموا بينهم قولهم : " لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم " فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم .
وقال ابن زيد بما :
614 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا ، وقالوا : ربنا لم خلقت هذه النار ؟ ولأي شيء خلقتها ؟ قال : لمن عصاني من خلقي . قال : ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها خلق ، إنما خلق آدم بعد ذلك ، وقرأ قول الله : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) [ سورة الإنسان : 1 ] . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ليت ذلك الحين . ثم قال : قالت الملائكة : يا رب ، أويأتي علينا دهر نعصيك فيه! لا يرون له خلقا غيرهم ، قال : لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا [ ص: 467 ] وأجعل فيها خليفة ، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض . فقالت الملائكة : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ؟ وقد اخترتنا ، فاجعلنا نحن فيها ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك . وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال : " إني أعلم ما لا تعلمون " " يا آدم أنبئهم بأسمائهم " فقال : فلان وفلان . قال : فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم ، وأبى الخبيث إبليس أن يقر له ، قال : " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " قال : " فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها "
وقال ابن إسحاق بما :
615 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق قال : لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به ، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه - وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحب وما تكره ، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا ، وأحاط به علم الله منهم - جمع الملائكة من سكان السماوات والأرض ، ثم قال : " إني جاعل في الأرض خليفة " - ساكنا وعامرا ليسكنها ويعمرها - خلفا ، ليس منكم . ثم أخبرهم بعلمه فيهم ، فقال : يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي . فقالوا جميعا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " [ ص: 468 ] لا نعصي ، ولا نأتي شيئا كرهته ؟ قال : " إني أعلم ما لا تعلمون " - قال : إني أعلم فيكم ومنكم ولم يبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم ، مما يكون في الأرض ، مما ذكرت في بني آدم . قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( قل ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) [ ص : 69 - 72 ] . فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان من ذكره آدم حين أراد خلقه ، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه . فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة : إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون بيدي - تكرمة له وتعظيما لأمره وتشريفا له - حفظت الملائكة عهده ووعوا قوله ، وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدو الله إبليس ، فإنه صمت على ما كان في نفسه من الحسد والبغي والتكبر والمعصية . وخلق الله آدم من أدمة الأرض ، من طين لازب من حمأ مسنون ، بيديه ، تكرمة له وتعظيما لأمره وتشريفا له على سائر خلقه . قال ابن إسحاق : فيقال ، والله أعلم : خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار ، ولم تمسه نار . قال : فيقال ، والله أعلم : إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس فقال : الحمد لله! فقال له ربه : يرحمك ربك ، ووقع الملائكة حين استوى سجودا له ، حفظا لعهد الله الذي عهد إليهم ، وطاعة لأمره الذي أمرهم به . وقام عدو الله إبليس من بينهم فلم يسجد ، مكابرا متعظما بغيا وحسدا . فقال له : ( يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) إلى ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) [ سورة ص : 75 - 85 ] .
قال : فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته ، وأبى إلا المعصية ، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة . ثم أقبل على آدم ، وقد علمه الأسماء كلها ، فقال : " يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " [ ص: 469 ] أي إنما أجبناك فيما علمتنا ، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به . فكان ما سمى آدم من شيء ، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة .
وقال ابن جريج بما :
616 - حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ؟ وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك ، بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم . فسألته الملائكة ، فقالت ، على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ؟ فأجابهم ربهم : إني أعلم ما لا تعلمون ، يعني : أن ذلك كائن منهم - وإن لم تعلموه أنتم - ومن بعض من ترونه لي طائعا . يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه .
وقال بعض أهل العربية : قول الملائكة : " أتجعل فيها من يفسد فيها " على غير وجه الإنكار منهم على ربهم ، وإنما سألوه ليعلموا ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون . وقال : قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى الله ، لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت .
وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : " يا رب خبرنا " مسألة استخبار منهم لله ، لا على وجه مسألة التوبيخ .
قال أبو جعفر : وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه ، مخبرا عن ملائكته قيلها له : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " [ ص: 470 ] ، تأويل من قال : إن ذلك منها استخبار لربها ، بمعنى : أعلمنا يا ربنا أجاعل أنت في الأرض من هذه صفته ، وتارك أن تجعل خلفاءك منا ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، لا إنكار منها لما أعلمها ربها أنه فاعل . وإن كانت قد استعظمت لما أخبرت بذلك ، أن يكون لله خلق يعصيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(49)
الحلقة (64)
صــ 471إلى صــ475
وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على [ ص: 471 ] وجه التعجب ، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ، ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر . وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة .
وأما وصف الملائكة من وصفت - في استخبارها ربها عنه - بالفساد في الأرض وسفك الدماء ، فغير مستحيل فيه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدي ، ووافقهما عليه قتادة من التأويل : وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا ، فقالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها " على ما وصفت من الاستخبار .
فإن قال لنا قائل : وما وجه استخبارها ، والأمر على ما وصفت ، من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن ؟
قيل : وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك . وهل ذلك منهم ؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتى لا يعصوه . وغير فاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عباس ، وتابعه عليه الربيع بن أنس ، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض - قبل آدم - من الجن ، فقالت لربها : " أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون " ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم ، لا على وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك ، فيكون ذلك منها إخبارا عما لم تطلع عليه من علم الغيب . وغير خطأ أيضا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيل الملائكة ما قالت من ذلك ، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلق يعصي خالقه .
وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس ، ووافقه عليه الربيع بن أنس ، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك ، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر ، ويلزم سامعه به الحجة . والخبر عما مضى وما قد سلف ، لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئا يمتنع معه التشاغب والتواطؤ ، ويستحيل معه الكذب والخطأ والسهو . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع ، ولا فيما قاله ابن زيد .
فأولى التأويلات - إذ كان الأمر كذلك - بالآية ، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالة ، مما يصح مخرجه في المفهوم .
فإن قال قائل : فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرت ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء ، فمن أجل ذلك قالت الملائكة : " أتجعل فيها من يفسد فيها " فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك ؟
قيل له : اكتفى بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه ، كما قال الشاعر :
فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ، ولكن خامري أم عامر
فحذف قوله " دعوني للتي يقال لها عند صيدها " : خامري أم عامر . إذ كان فيما أظهر من كلامه دلالة على معنى مراده . فكذلك ذلك في قوله : " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " [ ص: 472 ] ، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض ، اكتفى بدلالته وحذف ، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر . ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى . فلما ذكرنا من ذلك ، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله : " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "
القول في تأويل قوله تعالى ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك )
قال أبو جعفر : أما قوله : " ونحن نسبح بحمدك " فإنه يعني : إنا نعظمك بالحمد لك والشكر ، كما قال جل ثناؤه : ( فسبح بحمد ربك ) [ سورة النصر : 3 ] ، وكما قال : ( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ) [ سورة الشورى : 5 ] ، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيح وصلاة . يقول الرجل منهم : قضيت سبحتي من الذكر والصلاة . وقد قيل : إن التسبيح صلاة الملائكة .
617 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، فمر رجل من المسلمين على رجل من المنافقين ، فقال له : النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس! فقال له : امض إلى عملك إن كان لك عمل . فقال : ما أظن إلا سيمر عليك من ينكر عليك . فمر عليه عمر بن الخطاب فقال له : يا فلان ، النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس! فقال له مثلها ، فقال : هذا من عملي . فوثب عليه فضربه حتى انتهى ، ثم دخل المسجد فصلى [ ص: 473 ] مع النبي صلى الله عليه وسلم . فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر فقال : يا نبي الله مررت آنفا على فلان وأنت تصلي ، فقلت له : النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس! فقال : سر إلى عملك إن كان لك عمل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فهلا ضربت عنقه . فقام عمر مسرعا . فقال : يا عمر ارجع فإن غضبك عز ورضاك حكم ، إن لله في السماوات السبع ملائكة يصلون له غنى عن صلاة فلان . فقال عمر : يا نبي الله ، وما صلاتهم ؟ فلم يرد عليه شيئا ، فأتاه جبريل فقال : يا نبي الله ، سألك عمر عن صلاة أهل السماء ؟ قال : نعم . فقال : اقرأ على عمر السلام ، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : " سبحان ذي الملك والملكوت " وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون : " سبحان ذي العزة والجبروت " وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون : " سبحان الحي الذي لا يموت "
618 - قال أبو جعفر : وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، وسهل بن موسى الرازي ، قالا حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا الجريري ، عن أبي عبد الله الجسري ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده - أو أن أبا ذر عاد النبي صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت ، أي الكلام أحب إلى الله ؟ فقال : ما اصطفى الله لملائكته : " سبحان ربي وبحمده ، سبحان ربي وبحمده " [ ص: 474 ] - في أشكال لما ذكرنا من الأخبار ، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائها .
وأصل التسبيح لله عند العرب : التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه ، والتبرئة له من ذلك ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
يريد : سبحان الله من فخر علقمة ، أي تنزيها لله مما أتى علقمة من الافتخار ، على وجه النكير منه لذلك .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع ، فقال بعضهم : قولهم : " نسبح بحمدك " : نصلي لك .
ذكر من قال ذلك :
619 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " قال : يقولون : نصلي لك .
وقال آخرون : " نسبح بحمدك " التسبيح المعلوم .
ذكر من قال ذلك :
620 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " ونحن نسبح بحمدك " قال : التسبيح التسبيح .
[ ص: 475 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ونقدس لك )
قال أبو جعفر : والتقديس هو التطهير والتعظيم ، ومنه قولهم : " سبوح قدوس " يعنى بقولهم : " سبوح " تنزيه لله ، وبقولهم : " قدوس " طهارة له وتعظيم . ولذلك قيل للأرض : " أرض مقدسة " يعنى بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إذا : " ونحن نسبح بحمدك " ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ، ونصلي لك . " ونقدس لك " ننسبك إلى ما هو من صفاتك ، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك . وقد قيل : إن تقديس الملائكة لربها صلاتها له . كما :
621 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " ونقدس لك " قال : التقديس : الصلاة .
وقال بعضهم : " ونقدس لك " : نعظمك ونمجدك .
ذكر من قال ذلك :
622 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدب ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله : " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " قال : نعظمك ونمجدك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(50)
الحلقة (65)
صــ 476إلى صــ480
623 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل - جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " ونقدس لك " قال نعظمك ونكبرك . [ ص: 476 ]
624 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق : " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه .
625 - وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، في قوله : " ونقدس لك " قال : التقديس : التطهير .
وأما قول من قال : إن التقديس الصلاة أو التعظيم ، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير ، من أجل أن صلاتها لربها تعظيم منها له ، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به . ولو قال مكان : " ونقدس لك " و " نقدسك " كان فصيحا من الكلام . وذلك أن العرب تقول : فلان يسبح الله ويقدسه ، ويسبح لله ويقدس له ، بمعنى واحد . وقد جاء بذلك القرآن ، قال الله جل ثناؤه : ( كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا ) [ سورة طه : 33 - 34 ] ، وقال في موضع آخر : ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ) [ سورة الجمعة : 1 ]
القول في تأويل قوله تعالى : ( قال إني أعلم ما لا تعلمون ( 30 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : يعني بقوله : " أعلم ما لا تعلمون " مما اطلع عليه من إبليس ، وإضماره المعصية لله وإخفائه الكبر ، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته .
ذكر من قال ذلك :
626 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " إني أعلم ما لا تعلمون " [ ص: 477 ] ، يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .
627 - وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " إني أعلم ما لا تعلمون " يعني من شأن إبليس .
628 - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل - قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إني أعلم ما لا تعلمون " قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
629 - وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مجاهد ، بمثله .
630 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مجاهد مثله .
631 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " إني أعلم ما لا تعلمون " قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها . [ ص: 478 ]
632 - وحدثني جعفر بن محمد البزوري ، قال : حدثنا حسن بن بشر ، عن حمزة الزيات ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إني أعلم ما لا تعلمون " قال : علم من إبليس كتمانه الكبر أن لا يسجد لآدم .
633 - وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل - جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : " إني أعلم ما لا تعلمون " قال : علم من إبليس المعصية .
634 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .
635 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : قال مجاهد في قوله : " إني أعلم ما لا تعلمون " قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وقال مرة آدم .
636 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله : " إني أعلم ما لا تعلمون " قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها ، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها . [ ص: 479 ]
637 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، والثوري ، عن علي بن بذيمة ، عن مجاهد في قوله : " إني أعلم ما لا تعلمون " قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
638 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " إني أعلم ما لا تعلمون " أي فيكم ومنكم ، ولم يبدها لهم ، من المعصية والفساد وسفك الدماء .
وقال آخرون : معنى ذلك : إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهل الطاعة والولاية لله .
ذكر من قال ذلك :
639 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : " إني أعلم ما لا تعلمون " فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة .
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه ينبئ عن أن الملائكة التي قالت : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " استفظعت أن يكون لله خلق يعصيه ، وعجبت منه إذ أخبرت أن ذلك كائن . فلذلك قال لهم ربهم : " إني أعلم ما لا تعلمون " يعني بذلك ، والله أعلم : إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه ، وأنا أعلم أنه في بعضكم ، وتصفون أنفسكم بصفة أعلم خلافها من بعضكم ، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم . وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته ، من الفساد وسفك الدماء ، قالت لربها : يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفة من غيرنا ، يكون من ذريته من يعصيك ، أم منا ، فإنا نعظمك [ ص: 480 ] ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك ؟ ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كشحا إبليس من استكباره على ربه ، فقال لهم ربهم : إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم . وذلك هو ما كان مستورا عنهم من أمر إبليس ، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر . وعلى قيلهم ذلك ، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عوتبوا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(51)
الحلقة (66)
صــ 481إلى صــ485
القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( وعلم آدم )
640 - حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بعث رب العزة ملك الموت فأخذ من أديم الأرض ، من عذبها ومالحها ، فخلق منه آدم . ومن ثم سمي آدم . لأنه خلق من أديم الأرض .
641 - وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي ، قال : إن آدم خلق من أديم الأرض ، فيه الطيب والصالح والرديء ، فكل ذلك أنت راء في ولده ، الصالح والرديء . [ ص: 481 ]
642 - وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : خلق آدم من أديم الأرض ، فسمي آدم .
643 - وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض .
644 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن ملك الموت لما بعث ليأخذ من الأرض تربة آدم ، أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين . ولذلك سمي آدم ، لأنه أخذ من أديم الأرض .
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يحقق ما قال من حكينا قوله في معنى آدم . وذلك ما :
645 - حدثني به يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عوف - وحدثنا محمد بن بشار ، وعمر بن شبة - قالا حدثنا يحيى بن سعيد - قال : حدثنا عوف - وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، ومحمد بن جعفر ، وعبد الوهاب الثقفي ، قالوا : حدثنا عوف - وحدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا عنبسة - عن عوف الأعرابي ، عن قسامة بن زهير ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء [ ص: 482 ] بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك ، والسهل والحزن ، والخبيث والطيب .
فعلى التأويل الذي تأول " آدم " من تأوله ، بمعنى أنه خلق من أديم الأرض ، يجب أن يكون أصل " آدم " فعلا سمي به أبو البشر ، كما سمي " أحمد " بالفعل من الإحماد ، و " أسعد " من الإسعاد ، فلذلك لم يجر . ويكون تأويله حينئذ : آدم الملك الأرض ، يعني به بلغ أدمتها - وأدمتها : وجهها الظاهر لرأي العين ، كما أن جلدة كل ذي جلدة له أدمة . ومن ذلك سمي الإدام إداما ، لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه ، ثم نقل من الفعل فجعل اسما للشخص بعينه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( الأسماء كلها )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدم ثم عرضها على الملائكة ، فقال ابن عباس ما :
646 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : علم الله آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة ، وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها . . [ ص: 483 ]
647 - وحدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال : علمه اسم كل شيء .
648 - وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال : علمه اسم كل شيء .
649 - وحدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم الجرمي ، عن محمد بن مصعب ، عن قيس بن الربيع ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء .
650 - وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : علمه اسم كل شيء ، حتى البعير والبقرة والشاة .
651 - وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن معبد ، عن ابن عباس ، قال : علمه اسم القصعة والفسوة والفسية .
652 - وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، [ ص: 484 ] عن عاصم بن كليب ، عن الحسن بن سعد ، عن ابن عباس : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال : حتى الفسوة والفسية .
653 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن قيس ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن معبد ، عن ابن عباس في قول الله : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال : علمه اسم كل شيء حتى الهنة والهنية والفسوة والضرطة .
654 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن عاصم بن كليب ، قال : قال ابن عباس : علمه القصعة من القصيعة ، والفسوة من الفسية .
655 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : " وعلم آدم الأسماء كلها " حتى بلغ : " إنك أنت العليم الحكيم " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه ، وألجأه إلى جنسه .
656 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال : علمه اسم كل شيء ، هذا جبل ، وهذا بحر ، وهذا كذا وهذا كذا ، لكل شيء ، ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
657 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم - ومبارك ، عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة ، [ ص: 485 ] قالا علمه اسم كل شيء : هذه الخيل ، وهذه البغال والإبل والجن والوحش ، وجعل يسمي كل شيء باسمه .
658 - وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : اسم كل شيء .
وقال آخرون : علم آدم الأسماء كلها ، أسماء الملائكة .
ذكر من قال ذلك :
659 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال : أسماء الملائكة .
وقال آخرون : إنما علمه أسماء ذريته كلها .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(52)
الحلقة (67)
صــ 486إلى صــ490
660 - حدثني محمد بن جرير ، قال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال : أسماء ذريته أجمعين .
وأولى هذه الأقوال بالصواب ، وأشبهها بما دل على صحته ظاهر التلاوة ، قول من قال في قوله : " وعلم آدم الأسماء كلها " إنها أسماء ذريته وأسماء الملائكة ، دون أسماء سائر أجناس الخلق . وذلك أن الله جل ثناؤه قال : " ثم عرضهم على الملائكة " يعني بذلك أعيان المسمين بالأسماء التي علمها آدم . ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة . وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوى من وصفناها ، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون ، فقالت : " عرضهن " أو " عرضها " وكذلك تفعل إذا كنت عن أصناف [ ص: 486 ] من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماء بني آدم والملائكة ، فإنها تكني عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف . وربما كنت عنها ، إذا كان كذلك بالهاء والميم ، كما قال جل ثناؤه : ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ) [ سورة النور : 45 ] ، فكنى عنها بالهاء والميم ، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره . وذلك ، وإن كان جائزا ، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وصفنا ، من إخراجهم كناية أسماء أجناس الأمم - إذا اختلطت - بالهاء والألف أو الهاء والنون . فلذلك قلت : أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علمها آدم أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة ، وإن كان ما قال ابن عباس جائزا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله : " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه " الآية . وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود : " ثم عرضهن " وأنها في حرف أبي : " ثم عرضها "
ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله : علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسية ، على قراءة أبي ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبي . وتأويل ابن عباس - على ما حكي عن أبي من قراءته - غير مستنكر ، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب ، على نحو ما تقدم وصفي ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ثم عرضهم على الملائكة )
قال أبو جعفر : قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالآية ، على قراءتنا ورسم مصحفنا ، وأن قوله : " ثم عرضهم " بالدلالة على بني آدم والملائكة ، [ ص: 487 ] أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها ، وإن كان غير فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الأمم ، للعلل التي وصفنا .
ويعني جل ثناؤه بقوله : " ثم عرضهم " ثم عرض أهل الأسماء على الملائكة .
وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله : " ثم عرضهم على الملائكة " نحو اختلافهم في قوله : " وعلم آدم الأسماء كلها " وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قول .
661 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " ثم عرضهم على الملائكة " ثم عرض هذه الأسماء ، يعني أسماء جميع الأشياء ، التي علمها آدم من أصناف جميع الخلق .
662 - وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبى صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " ثم عرضهم " ثم عرض الخلق على الملائكة .
663 - وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أسماء ذريته كلها ، أخذهم من ظهره . قال : ثم عرضهم على الملائكة .
664 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " ثم عرضهم " قال : علمه اسم كل شيء ، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة . [ ص: 488 ]
665 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " ثم عرضهم " عرض أصحاب الأسماء على الملائكة
666 - وحدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن قيس ، عن خصيف ، عن مجاهد : " ثم عرضهم على الملائكة " يعني عرض الأسماء ، الحمامة والغراب .
667 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا علمه اسم كل شيء : هذه الخيل ، وهذه البغال ، وما أشبه ذلك . وجعل يسمي كل شيء باسمه ، وعرضت عليه أمة أمة .
القول في تأويل قوله : ( فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء )
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : " أنبئوني " : أخبروني ، كما :
668 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " أنبئوني " يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء .
ومنه قول نابغة بني ذبيان : [ ص: 489 ]
وأنبأه المنبئ أن حيا حلول من حرام أو جذام
يعني بقوله : " أنبأه " : أخبره وأعلمه .
القول في تأويل قوله جل ذكره : ( بأسماء هؤلاء )
قال أبو جعفر :
669 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال حدثنا عيسى - وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " بأسماء هؤلاء " قال : بأسماء هذه التي حدثت بها آدم .
670 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " يقول : بأسماء هؤلاء التي حدثت بها آدم .
[ ص: 490 ] القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( إن كنتم صادقين ( 31 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في ذلك .
671 - فحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " إن كنتم صادقين " إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة .
672 - وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كنتم صادقين " أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء .
673 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " أني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(53)
الحلقة (68)
صــ 491إلى صــ495
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، تأويل ابن عباس ومن قال بقوله . ومعنى ذلك : فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيتها الملائكة القائلون : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من غيرنا ، أم منا ؟ فنحن نسبح بحمدك [ ص: 491 ] ونقدس لك ؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، وإن جعلتكم فيها أطعتموني ، واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس . فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي ، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم ، وعلمه غيركم بتعليمي إياه ، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بعد ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين ، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم ، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي .
وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له : " أتجعل فيها من يفسد فيها " من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظير قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال : ( رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ) [ سورة هود : 45 ] - : فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين [ سورة هود : 46 ] . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خلفاءه في الأرض ليسبحوه ويقدسوه فيها ، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعله في الأرض خليفة ، يفسدون فيها ويسفكون الدماء ، فقال لهم جل ذكره : " إني أعلم ما لا تعلمون " يعني بذلك : إني أعلم أن بعضكم فاتح المعاصي وخاتمها ، وهو إبليس ، منكرا بذلك تعالى ذكره قولهم . ثم عرفهم موضع هفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك ، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانا ، فكيف بما لم يروه ولم يخبروا عنه ؟ بعرضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ ، وقيله لهم : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " [ ص: 492 ] أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبحتموني وقدستموني ، وإن استخلفت فيها غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء . فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم ، وبدت لهم هفوة زلتهم ، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا : " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " فسارعوا الرجعة من الهفوة ، وبادروا الإنابة من الزلة ، كما قال نوح - حين عوتب في مسألته فقيل له : لا تسألني ما ليس لك به علم - : ( رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) [ سورة هود : 47 ] . وكذلك فعل كل مسدد للحق موفق له - سريعة إلى الحق إنابته ، قريبة إليه أوبته .
وقد زعم بعض نحويي أهل البصرة أن قوله : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " لم يكن ذلك لأن الملائكة ادعوا شيئا ، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب ، وعلمه بذلك وفضله ، فقال : " أنبئوني إن كنتم صادقين " كما يقول الرجل للرجل : " أنبئني بهذا إن كنت تعلم " وهو يعلم أنه لا يعلم ، يريد أنه جاهل .
وهذا قول إذا تدبره متدبر ، علم أن بعضه مفسد بعضا . وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة ، إذ عرض عليهم أهل الأسماء : أنبئوني بأسماء هؤلاء ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون ، ولا هم ادعوا علم شيء يوجب أن يوبخوا بهذا القول .
وزعم أن قوله : " إن كنتم صادقين " نظير قول الرجل للرجل : " أنبئني بهذا إن كنت تعلم " وهو يعلم أنه لا يعلم ، يريد أنه جاهل .
ولا شك أن معنى قوله : " إن كنتم صادقين " إنما هو : إن كنتم صادقين ، إما في قولكم ، وإما في فعلكم . لأن الصدق في كلام العرب ، إنما هو صدق في الخبر لا في [ ص: 493 ] العلم . وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال : صدق الرجل بمعنى علم . فإذ كان ذلك كذلك ، فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة ، على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " وهو يعلم أنهم غير صادقين ، يريد بذلك أنهم كاذبون . وذلك هو عين ما أنكره ، لأنه زعم أن الملائكة لم تدع شيئا ، فكيف جاز أن يقال لهم : إن كنتم صادقين ، فأنبئوني بأسماء هؤلاء ؟ هذا مع خروج هذا القول - الذي حكيناه عن صاحبه - من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير .
وقد حكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله : " إن كنتم صادقين " بمعنى : إذ كنتم صادقين .
ولو كانت " إن " بمعنى " إذ " في هذا الموضع ، لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها ، لأن " إذ " إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة للفعل وسببا له . وذلك كقول القائل : " أقوم إذ قمت " فمعناه أقوم من أجل أنك قمت . والأمر بمعنى الاستقبال ، فمعنى الكلام ، لو كانت " إن " بمعنى " إذ " : أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون . فإذا وضعت " إن " مكان ذلك قيل : أنبئوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين ، مفتوحة الألف . وفي إجماع جميع قراء أهل الإسلام على كسر الألف من " إن " دليل واضح على خطأ تأويل من تأول " إن " بمعنى " إذ " في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ( 32 ) )
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته ، بالأوبة إليه ، وتسليم علم ما لم يعلموه له ، وتبريهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئا إلا ما علمه تعالى ذكره . [ ص: 494 ]
وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبر ، والذكرى لمن ادكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله جل ثناؤه آي هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن .
وذلك أن الله جل ثناؤه احتج فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلع عليها من خلقه إلا خاصا ، ولم يكن مدركا علمه إلا بالإنباء والإخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته ، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده ، ودل فيها على أن كل مخبر خبرا عما قد كان - أو عما هو كائن مما لم يكن ، ولم يأته به خبر ، ولم يوضع له على صحته برهان - فمتقول ما يستوجب به من ربه العقوبة . ألا ترى أن الله جل ذكره رد على ملائكته قيلهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " قال : " إني أعلم ما لا تعلمون " وعرفهم أن قيل ذلك لم يكن جائزا لهم ، بما عرفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء ، فقال : " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " فلم يكن لهم مفزع إلا الإقرار بالعجز ، والتبري إليه أن يعلموا إلا ما علمهم ، بقولهم : " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " فكان في ذلك أوضح الدلالة وأبين الحجة ، على كذب مقالة كل من ادعى شيئا من علوم الغيب من الحزاة والكهنة والعافة والمنجمة . وذكر بها الذين [ ص: 495 ] وصفنا أمرهم من أهل الكتاب - سوالف نعمه على آبائهم ، وأياديه عند أسلافهم ، عند إنابتهم إليه ، وإقبالهم إلى طاعته ، مستعطفهم بذلك إلى الرشاد ، ومستعتبهم به إلى النجاة . وحذرهم - بالإصرار والتمادي في البغي والضلال - حلول العقاب بهم ، نظير ما أحل بعدوه إبليس ، إذ تمادى في الغي والخسار
قال : وأما تأويل قوله : " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " فهو كما :
674 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " قالوا سبحانك " تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ، تبنا إليك " لا علم لنا إلا ما علمتنا " تبريا منهم من علم الغيب ، " إلا ما علمتنا " كما علمت آدم .
وسبحان مصدر لا تصرف له . ومعناه : نسبحك ، كأنهم قالوا : نسبحك تسبيحا ، وننزهك تنزيها ، ونبرئك من أن نعلم شيئا غير ما علمتنا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(54)
الحلقة (69)
صــ 496إلى صــ500
القول في تأويل قوله : ( إنك أنت العليم الحكيم )
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : أنك أنت يا ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن ، والعالم للغيوب دون جميع خلقك . وذلك أنهم نفوا عن أنفسهم بقولهم : " لا علم لنا إلا ما علمتنا " أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم ، وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم : " إنك أنت العليم " [ ص: 496 ] يعنون بذلك العالم من غير تعليم ، إذ كان من سواك لا يعلم شيئا إلا بتعليم غيره إياه . والحكيم : هو ذو الحكمة . كما :
675 - حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " العليم " الذي قد كمل في علمه ، و " الحكيم " الذي قد كمل في حكمه .
وقد قيل ، إن معنى الحكيم : الحاكم ، كما أن العليم بمعنى العالم ، والخبير بمعنى الخابر .
القول في تأويل قوله تعالى : ( قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض )
قال أبو جعفر : إن الله جل ثناؤه عرف ملائكته - الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض ، ووصفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره ، دون غيرهم الذين يفسدون فيها ويسفكون الدماء - أنهم ، من الجهل بمواقع تدبيره ومحل قضائه ، قبل إطلاعه إياهم عليه ، على نحو جهلهم بأسماء الذين عرضهم عليهم ، إذ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه ، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علمهم إياه ربهم ، وأنه يخص بما شاء من العلم من شاء من الخلق ، ويمنعه منهم من شاء ، كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة ، ومنعهم علمها إلا بعد تعليمه إياهم .
فأما تأويل قوله : " قال يا آدم أنبئهم " يقول : أخبر الملائكة ، والهاء والميم في قوله : " أنبئهم " عائدتان على الملائكة . وقوله : " بأسمائهم " يعني بأسماء الذين عرضهم على الملائكة ، والهاء والميم اللتان في " أسمائهم " كناية عن ذكر [ ص: 497 ] " هؤلاء " التي في قوله : " أنبئوني بأسماء هؤلاء " " فلما أنبأهم " يقول : فلما أخبر آدم الملائكة بأسماء الذين عرضهم عليهم ، فلم يعرفوا أسماءهم ، وأيقنوا خطأ قيلهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " وأنهم قد هفوا في ذلك وقالوا ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك لو وقع ، على ما نطقوا به ، قال لهم ربهم : " ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض " والغيب : هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه ، توبيخا من الله جل ثناؤه لهم بذلك ، على ما سلف من قيلهم ، وفرط منهم من خطأ مسألتهم . كما :
676 - حدثنا به محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " يقول : أخبرهم بأسمائهم " فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم " أيها الملائكة خاصة " إني أعلم غيب السماوات والأرض " ولا يعلمه غيري .
677 - وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم : فقال الله للملائكة : كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم ، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها ، هذا عندي قد علمته ، فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني ، قال : وسبق من الله : ( لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ سورة هود : 119 ، وسورة السجدة : 13 ] ، قال : ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه . قال : فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا لآدم بالفضل .
[ ص: 498 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( 33 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فروي عن ابن عباس في ذلك ما :
678 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " وأعلم ما تبدون " يقول : ما تظهرون ، " وما كنتم تكتمون " يقول : أعلم السر كما أعلم العلانية . يعني : ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
679 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قال : قولهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها " فهذا الذي أبدوا ، " وما كنتم تكتمون " يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر .
680 - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، قوله : " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قال : ما أسر إبليس في نفسه . [ ص: 499 ]
681 - وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان في قوله : " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قال : ما أسر إبليس في نفسه من الكبر ألا يسجد لآدم .
682 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : أخبرنا الحجاج الأنماطي ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : سمعت الحسن بن دينار ، قال للحسن ، ونحن جلوس عنده في منزله : يا أبا سعيد ، أرأيت قول الله للملائكة : " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " ما الذي كتمت الملائكة ؟ فقال الحسن : إن الله لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا ، فكأنهم دخلهم من ذلك شيء ، فأقبل بعضهم إلى بعض ، وأسروا ذلك بينهم ، فقالوا : وما يهمكم من هذا المخلوق! إن الله لن يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه .
683 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قال : أسروا بينهم فقالوا : يخلق الله ما يشاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقا إلا ونحن أكرم عليه منه .
684 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي [ ص: 500 ] جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " فكان الذي أبدوا حين قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها " وكان الذي كتموا بينهم قولهم : لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم . فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن معنى قوله : " وأعلم ما تبدون " وأعلم - مع علمي غيب السماوات والأرض - ما تظهرون بألسنتكم " وما كنتم تكتمون " وما كنتم تخفونه في أنفسكم ، فلا يخفى علي شيء ، سواء عندي سرائركم وعلانيتكم .
والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه ، وهو قولهم : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " والذي كانوا يكتمونه ، ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره ، والتكبر عن طاعته . لأنه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غير خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت ، وهو ما قلنا ، والآخر ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة ، ومن قال إن معنى ذلك كتمان الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم عليه منه . فإذ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت ، ثم كان أحدهما غير موجودة على صحته الدلالة من الوجه الذي يجب التسليم له ، صح الوجه الآخر .
فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك ، غير موجودة الدلالة على صحته من الكتاب ، ولا من خبر يجب به حجة . والذي قاله ابن عباس يدل على صحته خبر الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه ، إذ دعاه إلى السجود لآدم فأبى واستكبر ، وإظهاره لسائر الملائكة من معصيته وكبره ، ما كان له كاتما قبل ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(55)
الحلقة (70)
صــ 501إلى صــ505
فإن ظن ظان أن الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه ، لما كان [ ص: 501 ] خارجا مخرج الخبر عن الجميع ، كان غير جائز أن يكون ما روي في تأويل ذلك عن ابن عباس - ومن قال بقوله : من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبر والمعصية - صحيحا ، فقد ظن غير الصواب . وذلك أن من شأن العرب ، إذا أخبرت خبرا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه ، أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم ، وذلك كقولهم : " قتل الجيش وهزموا " وإنما قتل الواحد أو البعض منهم ، وهزم الواحد أو البعض . فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم ، كما قال جل ثناؤه : ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) [ سورة الحجرات : 4 ] ، ذكر أن الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية فيه - كان رجلا من جماعة بني تميم ، كانوا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن الجماعة . فكذلك قوله : " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " أخرج الخبر مخرج الخبر عن الجميع ، والمراد به الواحد منهم .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ( 34 ) )
قال أبو جعفر : أما قوله : " وإذ قلنا " فمعطوف على قوله : " وإذ قال ربك للملائكة " كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، معددا عليهم نعمه ، ومذكرهم آلاءه ، على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل : اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم . [ ص: 502 ] فخلقت لكم ما في الأرض جميعا ، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، فكرمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي ، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له . ثم استثنى من جميعهم إبليس ، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم ، وأنه ممن قد أمر بالسجود معهم ، كما قال جل ثناؤه : ( إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) [ سورة الأعراف : 11 - 12 ] ، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمره من الملائكة بالسجود لآدم . ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدم ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره ، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم .
ثم اختلف أهل التأويل فيه : هل هو من الملائكة ، أم هو من غيرها ؟ فقال بعضهم بما :
685 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم " الحن " خلقوا من نار السموم من بين الملائكة . قال : فكان اسمه الحارث . قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي . قال : وخلقت الجن الذي ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .
686 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس . قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه " عزازيل " وكان من سكان الأرض ، وكان من أشد الملائكة [ ص: 503 ] اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حي يسمون جنا .
687 - وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس ، أو مجاهد أبي الحجاج ، عن ابن عباس وغيره بنحوه ، إلا أنه قال : كان ملكا من الملائكة اسمه " عزازيل " وكان من سكان الأرض وعمارها ، وكان سكان الأرض فيهم يسمون " الجن " من بين الملائكة .
688 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : جعل إبليس على ملك سماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم " الجن " وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة . وكان إبليس مع ملكه خازنا .
689 - وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا حسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان سماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض . قال : قال ابن عباس : وقوله : ( كان من الجن ) [ سورة الكهف : 50 ] إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل مكي ومدني وكوفي وبصري . .
قال ابن جريج ، وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيله ، فكان اسم قبيلته الجن . [ ص: 504 ]
690 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة ، وشريك بن أبي نمر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض .
691 - وحدثت عن الحسن بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : ( فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ) [ سورة الكهف : 50 ] ، قال : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة . ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء .
692 - وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني شيبان ، قال حدثنا سلام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا .
693 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ) [ سورة الكهف : 50 ] كان من قبيل من الملائكة يقال لهم " الجن " [ ص: 505 ] وكان ابن عباس يقول : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة سماء الدنيا ، قال : وكان قتادة يقول : جن عن طاعة ربه .
694 - وحدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " إلا إبليس كان من الجن " قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(56)
الحلقة (71)
صــ 506إلى صــ510
695 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : أما العرب فيقولون : ما الجن إلا كل من اجتن فلم ير . وأما قوله : " إلا إبليس من كان من الجن " أي كان من الملائكة ، وذلك أن الملائكة اجتنوا فلم يروا . وقد قال الله جل ثناؤه : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) [ سورة الصافات : 158 ] ، وذلك لقول قريش : إن الملائكة بنات الله ، فيقول الله : إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها ، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبا . قال : وقد قال الأعشى ، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري ، وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله :
ولو كان شيء خالدا أو معمرا لكان سليمان البريء من الدهر [ ص: 506 ] براه إلهي واصطفاه عباده
وملكه ما بين ثريا إلى مصر وسخر من جن الملائك تسعة
قياما لديه يعملون بلا أجر
قال : فأبت العرب في لغتها إلا أن " الجن " كل ما اجتن . يقول : ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يروا ، وما سمى بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا . فما ظهر فهو إنس ، وما اجتن فلم ير فهو جن .
وقال آخرون بما :
696 - حدثنا به محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس .
697 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول في قوله : " إلا إبليس كان من الجن " ألجأه إلى نسبه فقال الله : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) [ سورة الكهف : 50 ] ، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .
698 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا [ ص: 507 ] أبو سعيد اليحمدي ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا سوار بن الجعد اليحمدي ، عن شهر بن حوشب ، قوله : " من الجن " قال : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء .
699 - وحدثني علي بن الحسين ، قال : حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال ، قال : حدثني سنيد بن داود ، قال حدثنا هشيم ، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن موسى بن نمير ، وعثمان بن سعيد بن كامل ، عن سعد بن مسعود ، قال : كانت الملائكة تقاتل الجن ، فسبي إبليس وكان صغيرا ، فكان مع الملائكة فتعبد معها ، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا . فأبى إبليس . فلذلك قال الله : " إلا إبليس كان من الجن "
700 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلا يقال لهم : الجن ، فكان إبليس منهم ، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فمسخه الله شيطانا رجيما .
701 - قال : وحدثنا يونس ، عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : إبليس أبو الجن ، كما آدم أبو الإنس .
وعلة من قال هذه المقالة ، أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أنه خلق إبليس من نار السموم ، ومن مارج من نار ، ولم يخبر عن الملائكة أنه خلقها من شيء من ذلك ، وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجن - فقالوا : فغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه . قالوا : ولإبليس نسل وذرية ، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد . [ ص: 508 ]
702 - حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شريك ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : إن الله خلق خلقا ، فقال : اسجدوا لآدم : فقالوا : لا نفعل . فبعث الله عليهم نارا تحرقهم ، ثم خلق خلقا آخر ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، اسجدوا لآدم . فأبوا ، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم . قال : ثم خلق هؤلاء ، فقال : اسجدوا لآدم . فقالوا : نعم . وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم .
قال أبو جعفر : وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى . فخلق بعضا من نور ، وبعضا من نار ، وبعضا مما شاء من غير ذلك . وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته ، وإخباره عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم . إذ كان جائزا أن يكون خلق صنفا من ملائكته من نار كان منهم إبليس ، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته . وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأن كان له نسل وذرية ، لما ركب فيه من الشهوة واللذة التي نزعت من سائر الملائكة ، لما أراد الله به من المعصية . وأما خبر الله عن أنه " من الجن " فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جنا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى - فيكون إبليس والملائكة منهم ، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم . [ ص: 509 ]
القول في معنى ( إبليس )
قال أبو جعفر : وإبليس " إفعيل " من الإبلاس ، وهو الإياس من الخير والندم والحزن . كما :
703 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : إبليس ، أبلسه الله من الخير كله ، وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته .
704 - وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان اسم إبليس " الحارث " وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيرا .
قال أبو جعفر : وكما قال الله جل ثناؤه : ( فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] ، يعني به : أنهم آيسون من الخير ، نادمون حزنا ، كما قال العجاج :
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا
[ ص: 510 ]
وقال رؤبة :
وحضرت يوم الخميس الأخماس وفي الوجوه صفرة وإبلاس
يعني به اكتئابا وكسوفا .
فإن قال قائل : فإن كان إبليس ، كما قلت ، " إفعيل " من الإبلاس ، فهلا صرف وأجري ؟ قيل : ترك إجراؤه استثقالا إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب ، فشبهته العرب - إذ كان كذلك - بأسماء العجم التي لا تجرى . وقد قالوا : مررت بإسحاق ، فلم يجروه . وهو من " أسحقه الله إسحاقا " إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ، ثم تسمت به العرب فجرى مجراه - وهو من أسماء العجم - في الإعراب فلم يصرف . وكذلك " أيوب " إنما هو " فيعول " من " آب يؤوب "
وتأويل قوله : " أبى " يعني جل ثناؤه بذلك إبليس ، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له . " واستكبر " يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لآدم . وهذا ، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس ، فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله ، والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه ، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق . وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله ، والتذلل لطاعته ، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم - اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحبارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفين ، وبأنه لله رسول عالمين . ثم استكبروا - مع علمهم بذلك - عن الإقرار بنبوته ، والإذعان لطاعته ، بغيا منهم له وحسدا . فقرعهم الله بخبره عن إبليس [ ص: 511 ] الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدا له وبغيا ، نظير فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوته ، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدا وبغيا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(57)
الحلقة (72)
صــ 511إلى صــ515
ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له ، فقال جل ثناؤه : " وكان " يعني إبليس " من الكافرين " من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده ، بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لآدم ، كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل : من إطعام الله أسلافهم المن والسلوى ، وإظلال الغمام عليهم ، وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم ، خصوصا ما خص الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه ، ومشاهدتهم حجة الله عليهم ، فجحدت نبوته بعد علمهم به ، ومعرفتهم بنبوته حسدا وبغيا . فنسبه الله جل ثناؤه إلى " الكافرين " فجعله من عدادهم في الدين والملة ، وإن خالفهم في الجنس والنسبة . كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض ، لاجتماعهم على النفاق ، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم ، فقال : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) [ سورة التوبة : 67 ] يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال . فكذلك قوله في إبليس : كان من الكافرين ، كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره ، وإن كان مخالفا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم . ومعنى قوله : " وكان من الكافرين " أنه كان - حين أبى عن السجود - من الكافرين حينئذ .
وقد روي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أنه كان يقول : في تأويل قوله : " وكان من الكافرين " في هذا الموضع ، وكان من العاصين .
705 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : " وكان من الكافرين " يعني العاصين . [ ص: 512 ]
706 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله .
وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه .
وكان سجود الملائكة لآدم تكرمة لآدم وطاعة لله ، لا عبادة لآدم ، كما :
707 - حدثنا به بشر بن معاذ : قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " فكانت الطاعة لله ، والسجدة لآدم ، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته . .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة )
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال : إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم ، وأسكنها آدم قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض . ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول : " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه " فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله بعد أن لعن وأظهر التكبر ، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نفخ فيه الروح ، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له ، وعند الامتناع من ذلك حلت عليه اللعنة . كما :
708 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن [ ص: 513 ] ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليغوين آدم وذريته وزوجه ، إلا عباده المخلصين منهم ، بعد أن لعنه الله ، وبعد أن أخرج من الجنة ، وقبل أن يهبط إلى الأرض . وعلم الله آدم الأسماء كلها .
709 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته ، وأبى إلا المعصية وأوقع عليه اللعنة ، ثم أخرجه من الجنة ، أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها ، فقال : " يا آدم أنبئهم بأسمائهم " إلى قوله " إنك أنت العليم الحكيم "
ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خلقت لآدم زوجته ، والوقت الذي جعلت له سكنا . فقال ابن عباس بما :
710 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فأخرج إبليس من الجنة حين لعن ، وأسكن آدم الجنة . فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليها ، فنام نومة فاستيقظ ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها : من أنت ؟ فقالت : امرأة . قال : ولم خلقت ؟ قالت : تسكن إلي . قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ علمه : ما اسمها يا آدم ؟ قال : حواء . قالوا : ولم سميت حواء ؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي . فقال الله له : " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما " [ ص: 514 ]
فهذا الخبر ينبئ أن حواء خلقت بعد أن سكن آدم الجنة ، فجعلت له سكنا .
وقال آخرون : بل خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة .
ذكر من قال ذلك :
711 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ الله من معاتبة إبليس ، أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها فقال : " يا آدم أنبئهم بأسمائهم " إلى قوله : " إنك أنت العليم الحكيم " قال : ثم ألقى السنة على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة ، وغيرهم من أهل العلم ، عن عبد الله بن عباس وغيره - ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ، ولأم مكانه لحما ، وآدم نائم لم يهب من نومته ، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء ، فسواها امرأة ليسكن إليها . فلما كشف عنه السنة وهب من نومته ، رآها إلى جنبه ، فقال ، فيما يزعمون والله أعلم : لحمي ودمي وزوجتي ، فسكن إليها . فلما زوجه الله تبارك وتعالى ، وجعل له سكنا من نفسه ، قال له ، قبيلا " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين "
قال أبو جعفر : ويقال لامرأة الرجل : زوجه وزوجته ، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء . والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزد شنوءة . فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب ، فهو زوج المرأة .
[ ص: 515 ] القول في تأويل قوله : ( وكلا منها رغدا حيث شئتما )
قال أبو جعفر : أما الرغد ، فإنه الواسع من العيش ، الهنيء الذي لا يعني صاحبه . يقال : أرغد فلان : إذا أصاب واسعا من العيش الهنيء ، كما قال امرؤ القيس بن حجر :
بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد
712 - وكما حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " وكلا منها رغدا " قال : الرغد ، الهنيء .
713 - وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " رغدا " قال : لا حساب عليهم .
714 - وحدثنا المثنى ، قال حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
715 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : " وكلا منها رغدا " أي لا حساب عليهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(58)
الحلقة (73)
صــ 516إلى صــ520
716 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، [ ص: 516 ] عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " وكلا منها رغدا حيث شئتما " قال : الرغد : سعة المعيشة .
فمعنى الآية وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وكلا من الجنة رزقا واسعا هنيئا من العيش حيث شئتما .
717 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما " ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق ، كتب على آدم ، كما ابتلي الخلق قبله ، أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رغدا حيث شاء ، غير شجرة واحدة نهي عنها ، وقدم إليه فيها ، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نهي عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولا تقربا هذه الشجرة )
قال أبو جعفر : والشجر في كلام العرب : كل ما قام على ساق ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( والنجم والشجر يسجدان ) [ سورة الرحمن : 6 ] ، يعني بالنجم ما نجم من الأرض من نبت ، وبالشجر ما استقل على ساق .
ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نهي عن أكل ثمرها آدم ، فقال بعضهم : هي السنبلة .
ذكر من قال ذلك :
718 - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا عبد الحميد الحماني ، [ ص: 517 ] عن النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الشجرة التي نهي عن أكل ثمرها آدم ، هي السنبلة .
719 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم - وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عتيبة - جميعا عن حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " ولا تقربا هذه الشجرة " قال : هي السنبلة .
720 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري - قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك ، مثله .
721 - وحدثنا أبو كريب ، وابن وكيع ، قالا حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية في قوله : " ولا تقربا هذه الشجرة " قال : السنبلة .
722 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : الشجرة التي نهي عنها آدم ، هي السنبلة .
723 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثني رجل من بني تميم ، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم ، والشجرة التي تاب عندها : فكتب إليه أبو الجلد : " سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم ، وهي السنبلة ، وسألتني [ ص: 518 ] عن الشجرة التي تاب عندها آدم ، وهي الزيتونة .
724 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن رجل من أهل العلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أنه كان يقول : الشجرة التي نهي عنها آدم : البر .
725 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، وابن المبارك ، عن الحسن بن عمارة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ، السنبلة .
726 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل اليمن ، عن وهب بن منبه اليماني ، أنه كان يقول : هي البر ، ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر ، ألين من الزبد وأحلى من العسل . وأهل التوراة يقولون : هي البر .
727 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة : أنه حدث أنها الشجرة التي تحتك بها الملائكة للخلد .
728 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة ، عن محارب بن دثار ، قال : هي السنبلة .
729 - وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن إبراهيم ، [ ص: 519 ] عن الحسن ، قال : هي السنبلة التي جعلها الله رزقا لولده في الدنيا
قال أبو جعفر : وقال آخرون : هي الكرمة .
ذكر من قال ذلك :
730 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس ، قال : هي الكرمة .
731 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " ولا تقربا هذه الشجرة " قال : هي الكرمة ، وتزعم اليهود أنها الحنطة .
732 - وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : الشجرة هي الكرم .
733 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن جعدة بن هبيرة ، قال : هو العنب في قوله : " ولا تقربا هذه الشجرة "
734 - وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن خلاد الصفار ، عن بيان ، عن الشعبي ، عن جعدة بن هبيرة : " ولا تقربا هذه الشجرة " قال : الكرم .
735 - وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن بيان ، عن الشعبي ، عن جعدة بن هبيرة : " ولا تقربا هذه الشجرة " قال : الكرم .
736 - وحدثنا ابن حميد ، وابن وكيع ، قالا حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن جعدة بن هبيرة ، قال : الشجرة التي نهي عنها آدم ، شجرة الخمر .
737 - وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا [ ص: 520 ] عباد بن العوام ، قال : حدثنا سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، قوله " ولا تقربا هذه الشجرة " قال : الكرم .
738 - وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، قال : العنب .
739 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : عنب .
وقال آخرون : هي التينة .
ذكر من قال ذلك :
740 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : تينة .
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجه أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها ، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها ، بعد أن بين الله جل ثناؤه لهما عين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها ، وأشار لهما إليها بقوله : " ولا تقربا هذه الشجرة " ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطبين بالقرآن ، دلالة على أي أشجار الجنة كان نهيه آدم أن يقربها ، بنص عليها باسمها ، ولا بدلالة عليها . ولو كان لله في العلم بأي ذلك من أي رضا ، لم يخل عباده من نصب دلالة لهم عليها يصلون بها إلى معرفة عينها ، ليطيعوه بعلمهم بها ، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(59)
الحلقة (74)
صــ 521إلى صــ525
فالصواب في ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل [ ص: 521 ] شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها ، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه ، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به . ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ، ولا في السنة الصحيحة . فأنى يأتي ذلك ؟ وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل : كانت شجرة العنب ، وقيل : كانت شجرة التين ، وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك علم ، إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( 35 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل العربية في تأويل قوله : " ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين "
فقال بعض نحويي الكوفيين : تأويل ذلك : ولا تقربا هذه الشجرة ، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين . فصار الثاني في موضع جواب الجزاء . وجواب الجزاء يعمل فيه أوله ، كقولك : إن تقم أقم ، فتجزم الثاني بجزم الأول . فكذلك قوله " فتكونا " لما وقعت الفاء في موضع شرط الأول نصب بها ، وصيرت [ ص: 522 ] بمنزلة " كي " في نصبها الأفعال المستقبلة ، للزومها الاستقبال . إذ كان أصل الجزاء الاستقبال .
وقال بعض نحويي أهل البصرة : تأويل ذلك : لا يكن منكما قرب هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين . غير أنه زعم أن " أن " غير جائز إظهارها مع " لا " ولكنها مضمرة لا بد منها ، ليصح الكلام بعطف اسم - وهي " أن " - على الاسم . كما غير جائز في قولهم : " عسى أن يفعل " عسى الفعل . ولا في قولك : " ما كان ليفعل " : ما كان لأن يفعل .
وهذا القول الثاني يفسده إجماع جميعهم على تخطئة قول القائل : " سرني تقوم يا هذا " وهو يريد سرني قيامك . فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل : " لا تقم " إذا كان المعنى : لا يكن منك قيام . وفي إجماع جميعهم على صحة قول القائل : " لا تقم " وفساد قول القائل : " سرني تقوم " بمعنى سرني قيامك الدليل الواضح على فساد دعوى المدعي أن مع " لا " التي في قوله : " ولا تقربا هذه الشجرة " ضمير " أن " وصحة القول الآخر .
وفي قوله " فتكونا من الظالمين " وجهان من التأويل :
أحدهما أن يكون " فتكونا " في نية العطف على قوله " ولا تقربا " فيكون تأويله حينئذ : ولا تقربا هذه الشجرة ولا تكونا من الظالمين . فيكون " فتكونا " حينئذ في معنى الجزم مجزوما بما جزم به " ولا تقربا " كما يقول القائل : لا تكلم عمرا ولا تؤذه ، وكما قال امرؤ القيس :
فقلت له : صوب ولا تجهدنه فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
فجزم " فيذرك " بما جزم به " لا تجهدنه " كأنه كرر النهي . [ ص: 523 ]
والثاني أن يكون " فتكونا من الظالمين " بمعنى جواب النهي . فيكون تأويله حينئذ : لا تقربا هذه الشجرة ، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين . كما تقول : لا تشتم عمرا فيشتمك ، مجازاة . فيكون " فتكونا " حينئذ في موضع نصب ، إذ كان حرفا عطف على غير شكله ، لما كان في " ولا تقربا " حرف عامل فيه ، ولا يصلح إعادته في " فتكونا " فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة .
وأما تأويل قوله : " فتكونا من الظالمين " فإنه يعني به فتكونا من المتعدين إلى غير ما أذن لهم وأبيح لهم فيه ، وإنما عنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة ، كنتما على منهاج من تعدى حدودي ، وعصى أمري ، واستحل محارمي ، لأن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، والله ولي المتقين .
وأصل " الظلم " في كلام العرب ، وضع الشيء في غير موضعه ، ومنه قول نابغة بني ذبيان :
إلا أواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فجعل الأرض مظلومة ، لأن الذي حفر فيها النؤي حفر في غير موضع الحفر ، فجعلها مظلومة ، لموضع الحفرة منها في غير موضعها . ومن ذلك قول ابن قميئة في صفة غيث : [ ص: 524 ]
ظلم البطاح بها انهلال حريصة فصفا النطاف له بعيد المقلع
وظلمه إياه : مجيئه في غير أوانه ، وانصبابه في غير مصبه . ومنه : ظلم الرجل جزوره ، وهو نحره إياه لغير علة . وذلك عند العرب وضع النحر في غير موضعه .
وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب ، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى . وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( فأزلهما الشيطان عنها )
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأته عامتهم ، " فأزلهما " بتشديد اللام ، بمعنى : استزلهما ، من قولك زل الرجل في دينه : إذا هفا فيه وأخطأ ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه . وأزله غيره : إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه ، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليس خروج آدم وزوجته من الجنة ، فقال : " فأخرجهما " يعني إبليس " مما كانا فيه " لأنه كان الذي سبب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة .
وقرأه آخرون : " فأزالهما " بمعنى إزالة الشيء عن الشيء ، وذلك تنحيته عنه .
وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله : " فأزلهما " ما : [ ص: 525 ]
741 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى : " فأزلهما الشيطان " قال : أغواهما .
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : " فأزلهما " لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه . بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه . وذلك هو معنى قوله " فأزالهما " فلا وجه - إذ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج - أن يقال : " فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه " فيكون كقوله : " فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانا فيه . ولكن المفهوم أن يقال : فاستزلهما إبليس عن طاعة الله ، كما قال جل ثناؤه : " فأزلهما الشيطان " وقرأت به القراء ، فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة .
فإن قال لنا قائل : وكيف كان استزلال إبليس آدم وزوجته ، حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة ؟
قيل : قد قالت العلماء في ذلك أقوالا سنذكر بعضها
فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(60)
الحلقة (75)
صــ 526إلى صــ530
742 - حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مهرب قال : سمعت وهب بن منبه ، يقول : لما [ ص: 526 ] أسكن الله آدم وذريته - أو زوجته - الشك من أبي جعفر ، وهو في أصل كتابه : " وذريته " ، ونهاه عن الشجرة ، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض ، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم ، وهي الثمرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته . فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية ، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بختية ، من أحسن دابة خلقها الله ، فلما دخلت الحية الجنة ، خرج من جوفها إبليس ، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ، فجاء بها إلى حواء فقال : انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت : انظر إلى هذه الشجرة! ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأكل منها آدم ، فبدت لهما سوآتهما . فدخل آدم في جوف الشجرة ، فناداه ربه يا آدم أين أنت ؟ قال : أنا هنا يا رب ! قال : ألا تخرج ؟ قال : أستحيي منك يا رب . قال : ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول ثمرها شوكا . قال : ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كان أفضل من الطلح والسدر ، ثم قال : يا حواء ، أنت التي غررت عبدي ، فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها ، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا . وقال للحية : أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي ، ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك ، ولا يكن لك رزق إلا التراب ، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك ، حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه ، وحيث لقيك شدخ رأسك . قال عمر : قيل لوهب : وما كانت الملائكة تأكل ؟ قال : يفعل الله ما يشاء . [ ص: 527 ]
وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة :
743 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما قال الله عز وجل لآدم : " اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة ، فمنعته الخزنة . فأتى الحية - وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير ، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم ، فأدخلته في فقمها - قال أبو جعفر : والفقم جانب الشدق - فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر . فكلمه من فقمها فلم يبال كلامه ، فخرج إليه فقال : ( يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) [ سورة طه : 120 ] يقول : هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت ملكا مثل الله عز وجل ، أو تكونا من الخالدين ، فلا تموتان أبدا . وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين . وإنما أراد بذلك ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما بهتك لباسهما . وكان قد علم أن لهما سوأة ، لما كان يقرأ من كتب الملائكة ، ولم يكن آدم يعلم ذلك . وكان لباسهما الظفر ، فأبى آدم أن يأكل منها ، فتقدمت حواء فأكلت ، ثم قالت : يا آدم كل! فإني قد أكلت فلم يضرني . فلما أكل آدم بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . [ ص: 528 ]
744 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني محدث : أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم ، فكان يرى أنه البعير ، قال : فلعن ، فسقطت قوائمه فصار حية .
745 - وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : وحدثني أبو العالية أن من الإبل ما كان أولها من الجن ، قال : فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة ، وقيل لهما : " لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " قال : فأتى الشيطان حواء فبدأ بها ، فقال : أنهيتما عن شيء ؟ قالت : نعم! عن هذه الشجرة فقال : ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [ سورة الأعراف : 20 ] قال : فبدأت حواء فأكلت منها ، ثم أمرت آدم فأكل منها . قال : وكانت شجرة من أكل منها أحدث . قال : ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث . قال : " فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه " قال : فأخرج آدم من الجنة .
746 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها ، قال : لو أن خلدا كان! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه ، فأتاه من قبل الخلد . . [ ص: 529 ]
747 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثت : أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما ، أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها ، فقالا ما يبكيك ؟ قال : أبكي عليكما ، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة . فوقع ذلك في أنفسهما . ثم أتاهما فوسوس إليهما ، فقال : يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ؟ وقال : " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " أي تكونا ملكين ، أو تخلدا - إن لم تكونا ملكين - في نعمة الجنة فلا تموتان . يقول الله جل ثناؤه : " فدلاهما بغرور "
748 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها ، ثم حسنها في عين آدم . قال : فدعاها آدم لحاجته ، قالت : لا! إلا أن تأتي ههنا . فلما أتى قالت : لا! إلا أن تأكل من هذه الشجرة . قال : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما . قال : وذهب آدم هاربا في الجنة ، فناداه ربه : يا آدم أمني تفر ؟ قال : لا يا رب ، ولكن حياء منك . قال : يا آدم أنى أتيت ؟ قال : من قبل حواء أي رب . فقال الله : فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة ، كما أدميت هذه الشجرة ، وأن أجعلها سفيهة فقد كنت خلقتها حليمة ، وأن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها ، فقد كنت جعلتها تحمل يسرا وتضع يسرا . قال ابن زيد : ولولا البلية التي أصابت حواء . لكان نساء الدنيا لا يحضن ، ولكن حليمات ، وكن يحملن يسرا ويضعن يسرا . [ ص: 530 ]
749 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن سعيد بن المسيب ، قال : سمعته يحلف بالله ما يستثني ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ، ولكن حواء سقته الخمر ، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل .
750 - وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ليث بن أبي سليم ، عن طاوس اليماني ، عن ابن عباس ، قال : إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض أيها يحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم وزوجته ، فكل الدواب أبى ذلك عليه ، حتى كلم الحية فقال لها : أمنعك من ابن آدم ، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني الجنة . فجعلته بين نابين من أنيابها ، ثم دخلت به ، فكلمهما من فيها ، وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم ، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها . قال : يقول ابن عباس : اقتلوها حيث وجدتموها ، أخفروا ذمة عدو الله فيها .
751 - وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : وأهل التوراة يدرسون : إنما كلم آدم الحية ، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg