رد: مشاهير النساء العُزَّاب
منتخبات من مقدمة الكتاب
الحمد لله كما يُحِبُّ أن يُحْمَد، والصلاة والسلام على النبي مُحَمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّمَ مِنَ اليوم إلى الأبَد. وبعد:
فهذا كتاب لم يسألني أحدٌ تأليفه، ولا حمَّلْتُ النفْسَ في جمْعِه ما لا تُطيقُه. ولكني رجل مُغْرَمٌ بمطالعة كتب التواريخ والتراجم والمناقب والأخبار الذاتية في التراث العربي خاصة، وفي التراث الإنساني عامة.
فكان يمرُّ بي في تلك الكتب جماعة من المشاهير من العلماء والأدباء والمفكرين والشعراء والمؤرخين والفقهاء وأصحاب العلوم التجريبية كالطِّبِّ والفَلَك والهندسة والرياضيات وغيرها، كلهم لم يتزوج أو مات عَزَبًا. فكنت ربما جمعْتُ أسماء بعضهم في مَضْبَطةٍ عندي من باب تدوين الفوائد.
وقد كنتُ وقفت على كتاب بعنوان: «العلماء العُزَّاب الذين آثروا العلم على الزواج»(1). فإذا هو فريد في بابه، مفيد لمن نظر في فصوله وأبوابه.
ثم وقفتُ على كتاب آخر: بعنوان: «العُزَّاب»(2). فإذا هو قد حَوَى الغاية، وزاد على الذي قبله حتى يكاد يبلغ النهاية.
لكنَّ مادة كلا الكتابين تكاد تكون مقصورة على العُزَّاب من الرجال فقط، فليس فيهما من النساء إلا اثنتين أو ثلاث لمن أراد الإحاطة بالعدد!
ثم الكتابان مَقْصُوران على العُزَّاب في التراث الإسلام خاصة، لا سِيَّما العلماء الشَّرْعِيين منهم أيضًا.
فقَوِيَ العزمُ عندي على الشروع في تأليف كتابٍ يشمل الكتابيْن السابقيْن مع زيادات كثيرة عليهما، تتعلق بإدراج كثير من مشاهير علماء الغرْب في علوم الكيمياء والطبيعة والفلك والنجوم والهندسة والفلسفة وغير ذلك من المعارف، وأيضًا: الملوك والأمراء والوزراء وقادة الجيوش وأصحاب مقاليد الأمور في الحرب والسلام. ولا أزال أجمع في مادة هذا الكتاب حتى الآن.
ثم راودني خاطر لطيف، وهو إفراد مشاهير النساء العُزَّاب(3) بكتاب، وعرضتُ هذا الخاطر على الأستاذ الكريم «وليد ناصيف» صاحب «دار الكتاب العربي» فأعجبتْه الفكرة، فامتزج إعجابُه بسوابق خاطري، فكان هذا الكتاب اللطيف.
أبو الـمظفَّر:
سعيد بن محمد السِّنَّاري.
------ الحاشية --------
(1) هو للشيخ البحاثة العلامة عبد الفتاح أبو غُدَّة الحلبي، والكتاب من إصدار «مكتب المطبوعات الإسلامية/بيروت». وكانت طبعته الأولى ( عام 1402هـ - 1982م ).
وهو كتاب فريد في بابه، لكنه يحتاج إلى تحرير وتقويم. فضلا عما فيه من الإعواز.
(2) هو للشيخ البحاثة المحقق بكر بن عبد الله أبو زيد القضاعي، وكتابه مطبوع ضمن مجموع بعنوان: «النظائر» وهو من إصدارات «دار العاصمة/المملكة العربية السعودية».
وهذا الكتاب جمع فأوعى، مع التحرير والتحقيق والتدقيق، كعادة مؤلفه في سائر تواليفه، وقد عقد فيه فصلا خاصًا لانتقاد كتاب سابقه «أبو غدة» فأجاد وبلغ المراد.
(3) يقال: نساء «عُزَّاب» و«عزَبات»، و«أعْزاب»، وامرأة «عزْباء» و«عَزَبة»، ولا يقال: «عزْبة» بسكون الزاي، فهذا من أخطاء العامَّة، والمرأة العزَبة هي التي لا زوج لها. ويقال: رجل «عازب» و«عزَب» ورجال «عُزَّاب» و«أعزاب». والرجل العزَب هو الذي ليس له زوجة. راجع: «تهذيب اللغة» [2/ 88]، للأزهري، و«القاموس المحيط» [ص/ 650] للفيروزبآدي.
رد: مشاهير النساء العُزَّاب
منتخبات من مقدمة الكتاب
أولا: لِيعْلم الواقف على كتابنا هذا أننا إنما جمعناه على سبيل التَّنَدُّر بذِكْر النوادر والمُلَح والاستظراف لغرائب الأخبار التي بَدَت لنا من فوائد المطالعة، ولم نجْمَعه على وجْه الاهتمام والرغبة في رواج «العُزُوبة» بين المسلمين، أو «الرهْبنة» بين طوائف الموحِّدين، لأنه لا يرتاب عاقل في كون الزواج هو سُنَّة الله التي فطر الناس عليها، وأنه السبيل الشرعي الوحيد لبقاء النوع الإنساني.
ومعلوم أنه «لا رهبانية في الإسلام»، وأن التبتُّل والانقطاع والعزوف عن النكاح ليس من سنة المسلمين في شيء، بل قد نهانا الشرع عن ذلك وحثَّنا على التزويج، وأخبرنا أنه من سنن الهدى، وجادَّة الإسلام.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: « ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي-صلى الله عليه وسلم- تزوج أربع عشرة، ومات عن تِسْع ... ولو ترك الناسُ النكاحَ لم يكنْ غزْوٌ، ولا حَج، ولا كذا، ولا كذا(1)، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُصْبِح وما عندهم شيء(2)، ومات عن تسع(3)، وكان يختار النكاح ويحثًّ عليه، ونهى عن التبتُّل( 4)، فمن رغب عن سنة النبي-صلى الله عليه وسلم- فهو على غير الحق» (5).
والأصل فيمن نذكرهن من النِّسْوَة المسلمات المشهورات بالعلم والفقه أنهن ما ترَكْنَ الزواج رغبةً عنه، ولا انقطاعًا للعلم والمعرفة دُونَه، ولا تفضيلا منهن لــ «العُزُوبة» على التزويج! بل قد يكون لهن من صُنُوف الأعذار ما يدفع عنهن المَلام.
ومعلوم أن الأسباب متكاثرة، والعوارض متواردة:
1- فقد يكون بعضهن لم تجد الزوج المناسب.
2- أو يكون قد أصابها مرضٌ يحول بينها وبين الزواج.
3- أو تكون قد ماتت في أوْج شبابها.
4- أو لم يطْلُبْها الخُطَّاب للزواج.
5- أو أن ولِيَّها كان يتعنَّت في تزويجها.
6- أو أنها كانت تتعزَّز وتَتدَلَّلُ على طالِبِيها حتى فاتها القِطار!
7- وقد يكون المانع لهن من الزواج غير شيء مما يعرض للناس في سائر الأزمان!
وفي أمثالنا الشعبية السائرة: «خطبوها فتعزَّزَتْ»، وفيها أيضَا: «مِنْ كَثْرَةِ خُطَّابِها بارَتْ». وغير ذلك.
أمَّا غير المُسْلِمات في هذا الكتاب فإن «الرَّهْبَنة» شائعة في دياناتهن، فلا تثريب عليهن في ذلك. فلهنَّ دينهن ولنا ديننا.
-------- حاشية ----------
(1) يعني: لو عزَف المسلمون عن النكاح لانقطع نسلهم، وتعطَّل الحج والجهاد في سبيل الله، وغير ذلك.
(2) يعني: طعام وشراب.
(3) يعني: تسع نساء، فلم تمنعْه قلة ذات يده --صلى الله عليه وسلم- عن سُنَّة الزواج.
(4) التبتُّل: هو الانقطاع والتفرغ للعبادة، وترْكُ النكاح ولذَّات الحياة!
(5) نقله عنه ابن القيم في «روضة المُحِبِّين» [ص/214-215].
رد: مشاهير النساء العُزَّاب
منتخبات من مقدمة الكتاب
وإذا تأملنا فلسفة النساء العازفات عن الزواج اللائي أوردنا سِيَرهن فسنجد أن:
1– هناك من لم تتزوج قط لغيرتها بأن تكون ضجيعة لأحد من الرجال! مثل الملكة الهندية: «زِيب النساء» لأنها كانت شاعرةً تسحرُ الألبابَ وتفْلقُ القلوبَ، ولا تضاهيها امرأةٌ في الهند في جودة القريحة، وسلامة الفكرة، ولطافة الطبع.
2 – وهناك من كانت عازمة على الزواج؛ فأصبتها مصيبة جعلتْها تترك الزواج إلى الأبد!
مثل الأديبة السورية «ماري عجمي» كان في حياتها قصة حب كبيرة بينها وبين شاب يُسمَّى: «باترو باولي» لكنه قُتِل مع جماعة من الشباب الثائر في حادثة شهيرة في (6 مايو عام 1916م) فأخلَصتْ ماري لذكراه حتى وفاتها.
3 – وهناك من عزفتْ عن الزواج حتى لا تقع في أسْرِ أحدٍ من الرجال يأمرها وينهاها! فهذه «جميلة بنت ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان صاحب الموصل»: إحدى شهيرات النساء في الكرم والعقل والجمال. لم تتزوج أنَفَةْ من أن يتحكَّم بها الزوج.
4 – وهناك من تركت النكاح لكونها تزوجت بالعلم والمعرفة! ورأت فيهما الزوج الصالح! فلم تكن بحاجة إلى زوج من طرازٍ آخر!
فهذه العالمة النووية الشهيرة «سميرة موسى» كانت تقول: «أنا تزوجتُ العلم، ولا يُوجَد رجلٌ ينافِس العِلْم»!
5 – وهناك من كانت ترى الزواج نوعًا من القذارة (1) التي ينبغي عليها التنظُّف منها!
فهذه الكاتبة المعروفة «نبويَّة موسى» كانت -على حد تعبيرها- تكره الزواج وتعتبره قذارة، ولذلك رفضت الزواج وانصرفت عن حياتها الخاصة إلى العمل العام.
6 – وهناك من كانت تكره الزواج لكونه زواجًا! وتراه امتهانًا في حق المرأة! وكانت ترضى لنفسها الذل على تكون في عصمة رجل!
فهذه الملكة «إليزابيث الأولى» كانت دائمًا تقول: «.. إنني أُفَضِّل أنْ أتسوَّل بلا زواج على أن أكون مَلِكة متزوجة»!
7- يقول الحكيم والمُعلِّم الرٌّوحي الهندي الشهير «أوشو» (1931م- 1990م): «أعرف امرأة لم تتزوج قط، وعندما كانت تُحتضر , سألها صديق: «لماذا لم تتزوجي رغم أنك جميلة جدا؟» فأجابتْه: ولماذا أتزوج؟ إذا كانت الغاية أن أُدرِّبَ مخلوقًا ما, فقد كان لي «كلب» أُدَرِّبُه كل يوم, لكنه لم يتعلم شيئا! أُدَرِّبُه يوميا, لكنه دائما يعود إلى البيت في وقت متأخر من الليل.
وعندي بَبَّغاء يقول لي كل ما يفترض أن يقوله الزوج لزوجته! في الصباح يقول لي: «هاي حبيبتي!» ولَدَيَّ خادم يسرِق ويكذب باستمرار.
فما هي حاجتي إلى زوج؟؟ لا ينقصني أي شيء. أهذه فقط هي الحاجة إلى الزوج؟»(2).
8- وهناك من كانت تشترط عدم الزواج لمن تقرأ عليها! فقد جاء في ترجمة الشيخة الحافظة «أم السَّعْد»(3)، أنها بعد أن أتمَّتْ حفظ القرآن الكريم في الخامسة عشرة من عمرها، ذهبت إلى الشيخة «نفيسة بنت أبي العلا» -شيخة أهل زمانها كما تُوصَف- لتطلب منها تَعلُّم القراءات العشْر، فاشترطت عليها شرطًا عجيبًا وهو: ألا تتزوج أبدًا، فقد كانت ترفض بشدة تعليم البنات؛ لأنهن يتزوَّجْن وينشغلن فيهملن القرآن الكريم(4).
والأعجب من الشرط أن «أم السعد» قبِلَتْ شرط شيختها التي كانت معروفة بصرامتها وقسوتها على السيدات، ككل اللواتي لا يصلحن -في رأيها- لهذه المهمة الشريفة!
ومما شجَّعها على ذلك أن «نفيسة» نفسها لم تتزوج رغم كثرة من طلبوها للزواج من الأكابر، وماتت وهي بِكْر في الثمانين، انقطاعًا للقرآن الكريم!.
تقول أم السعد: المفاجأة أنني تزوجت، ولتسامِحْني شيختي! لم أستطع الوفاء بالوعد الذي قطعْتُه لشيختي «نفيسة» بعدم الزواج!(5)
9- وهناك من كملتْ محاسنُها ولم تتزوج! فقد جاء في كتاب: «نَفْح الطِّيب» كان في الأندلس شاعرة من اليهود يُقال لها «قسمونة بنت إسماعيل اليهودي» وكان أبوها شاعرًا واعتنَى بتأديبها .....
نظرتْ «قسمونة» في المرآة يومًا فرأتْ جمالها وقد بلغت أوان التزويج ولم تتزوج! فتنهَّدَتْ وقالت:
أرى رَوْضة قد حانَ منها قِطَافُها *** ولستُ أرى جانٍ يَمدُّ لها يَدا
فوا أسفَا يمضِي الشباب مُضَيَّعَا *** ويَبْقَى الذي ما إنْ أُسَمِّيه مُفْرَدا
فسمعها أبوها فنظر في تزويجها (6).
-------- حاشية ----------
(1) وهذا من انتكاس الفِطرة، كما سنوضِّحه في ترجمة «نبوية موسى».
(2) نقلا عن مقال «Marriage should be exceeded » للمُعلِّم الهندي المشهور: «أوشو» منشور على شبكة المعلومات الدولية.
(3) هي أشهر حافظة ومُحَفِّظة للقرآن بالقرآءت العشر في العصر الحديث. وقد قمنا بالتعريف بها في ترجمة شيختها «نفيسة بنت أبو العلا» كما سيأتي.
(4) لعلها تقصد نوعًا خاصًا من النساء كانت تراهنَّ لا يصلحن لذلك! كما سيأتي في ترجمتها.
(5) قد قمنا بتوثيق هذه الفائدة في ترجمة الشيخة «نفيسة». فانظرها هناك.
(6) انظر: «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» [3/ 530]، للمقري.
رد: مشاهير النساء العُزَّاب
منتخبات من مقدمة الكتاب
ثانيًا: لم نقصد الاستيعاب في هذا المقصد، ولا المقاربة أيضًا، وإنما انتقينا وانتخبنا جملة من المشهورات من العُزَّاب من النساء وقع عليهن الغرض فقط (1).
وقد اشترطنا أن لا نذكر من المشهورات من الأحياء أحدًا وإن كانت لا تزال عذراء! لكوننا لا نعلم بماذا ينتهي حالها؟ فربما تلحق قطارَ الزواج وإن كان متأخرًا.
ثالثًا: اعتمادُنا في الكشف عن «عُزُوبة» اللاتي نذكرهنَّ في هذا الكتاب، إنما كان بما ظهر لنا منهن في عموم أحوالهن، وقاله عنهن الذين ترجموا لهن بعد وفاتهن مِنْ عدم زواجهن.
ولا يعني هذا أن لا يكون بعضهن قد تزوجْن سرًا! فليس لنا إلا الظاهر من أحوالهن وحسب، أما الباطن فيعلمه علام الغيوب.
وبعض النساء قد اختلف المؤرخون في زواجها من عدمه، فمتى ترجَّح لنا زواجها فإنا لا نذكرها في هذا الكتاب، ومتى ترجح لنا عدم زواجها فهي على شرطنا في هذا الكتاب.
ولستُ أترجم لامرأة إلا بعد التأكد-في الظاهر- من أنها ماتت ولم تتزوج، وذلك يكون بأنْ ينصَّ عليه مَنْ نراه يصلح للاعتماد عليه في هذا الأمر.
ومن نشك في قوله، أو لا نتأكد من صحة كلامه، فإنا لا نعتمد عليه في دعواه.
ولهذا الأمر: فإني لم أذكر في هذا الكتاب مثلا: «رابعة العدوية» تلك الزاهدة المشهورة، مع كوني رأيت بعض الناس يذكر أنها لم تتزوج! لكن لم يصح ذلك عندي، كما لم يثبت لدي أنها تزوجت! فلذلك توقفْتُ في شأنها.
وهكذا فعلتُ في حق طائفة أخرى من النِّسْوة كان حالهنَّ معي كحال رابِعة.
-------- حاشية ----------
(1) نقول هذا إعذارًا حتى لا يظن البعض أننا أغفلنا ذِكْرَ جماعة من النسوة العازبات المعروفات! بل تركناهن عمدا لكوننا لم نقصد الاستيعاب كما ذكرنا
رد: مشاهير النساء العُزَّاب
رد: مشاهير النساء العُزَّاب
القسم الأول
نــساء عـربـيـات ومسلمات
رد: مشاهير النساء العُزَّاب
1-
مريم بنت عمران.
هي العذراء البتول، أم المسيح عليه السلام، الزاهدة العابدة. خادمة عِبَاد الله في بيت المقدس، لُقِّبَتْ بذلك لأن أمها نذرت ما في بطنها لله. وقد اختلف العلماء في نبوتها على قولين...
«هي المحفوظة من الشيطان منذ البدء: «وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم». [سورة آل عمران : 36]
وهي المكرّمة بكرامة الله: «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب». [سورة آل عمران : 37] .
- وهي الطاهرة المصطفاة على نساء العالمين: «وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين» . [سورة آل عمران : 42].
وهي القانتة الساجدة الراكعة: «يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين». [سورة آل عمران : 43]
- وهي الصديقة: «ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة». [سورة آل عمران : 75].
- وهي المُبشَّرَة بالمولود العظيم الوجيه: «وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين». [سورة آل عمران : ].
- وهي آية للعالمين:«وجعلناها وابنها آية للعالمين». [سورة الأنبياء : 91] «وجعلنا ابن مريم وأمه آية» [سورة المؤمنون: 50]
- وهي الصديقة: «وأمه صديقة» .[سورة آل عمران : 75].
- وهي العذراء الطاهرة التي لم تتزوج -قط- ولم يمسسها بشر أبدًا: «.. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيًا ». [سورة مريم : 20]
- وهي المرفوع ذكرها في القرآن: «واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا». [سورة مريم : 16] .
ولما كان القرآن يُصدِّق بعضه بعضًا، فإن مريم قد ذكرت في القرآن: ذِكرًا حَسنًا.
مرة: طاهرة مطهّرة، بريئة مُبرّأة، مصونة معصومة في حمْلها وولادتها، لم يمسسها بشر. وإنما جعل الله حملها وولادتها معجزة من عنده، وهو الغالب على أمره جل ثناؤه. ولقد رفع الله قدر المرأة -كنوع- برفْع قدر مريم بنت عمران».(1)
نشأتها:
«كان نبي الله زكريا وعمران بن ساهم متزوجين بأختين:
إحداهما: عند زكريا وهي «الْيصابات بنت فاقود أم يحيى.
والأخرى: عند عمران وهي حنة بنت فاقود أم مريم.
وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى [يَئِسَتْ] وعجزتْ, وكانوا أهل بيت بمكان، فبينما هي في ظل شجرة إذ نظرت طائرًا يُطْعِمُ فَرْخًا(2) فتحركت عند ذلك شهوتها للولد, ودعت الله تعالى أن يهب لها ولدًا وقد نذرت على نفسها إنْ رزقها الله بولد تتصدق به على البيت المقدس, فيكون من خَدَمَته, ورُهبانه, فتقبل الله دعاءها وحملت بمريم، فحرَّرتْ ما في بطنها.
ولكن لم تعلم ما هو؟ فقالت: رب إني نذرت لك ما في بطني محررا عن الدنيا وأشغالها خالصًا لك وخادمًا لبيتك المقدس.
فقال لها زوجها: ويحك, ماذا صنعت إنْ كان في بطنك أنثى لا تصلح لذلك، فلما أتمت مدة حملها وضعت جارية فقالت: ربي إني وضعتها أنثى ـ والله أعلم بما وضعت ـ وليس الذكر كالأنثى في خدمة بيتك المقدس، وإني سميتها مريم.
صفاتـــها
وكانت مريم أجمل النساء وأفضلهن وأحسنهن, وأنبتها الله نباتًا حسنًا. وكانت أخذتها أمها ولفَّتْها في خِرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتْها عند الأحبار، كما نذرتْ على نفسها وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة. فتنافس فيها الأحبار وكُلٌّ منهم أراد أخْذَها وقال لهم زكريا - وكان أكبرهم -: أنا أحق بها منكم؛ لأن عندي خالتها.
فقالت له الأحبار: لا نفعل ذلك ولا نسلمها إليك، ولكن نقْترع(3) عليها ومن خرج سهمه أخذها، فاقترعوا فطلعت من سهم زكريا, فأخذها وكفَلها وضمها إلى خالتها أم يحيى، واسترضعتْ منها حتى بلغت مبالغ النساء، وبنى لها محرابًا في المسجد، وجعل بابه مرتفعًا لا يُرْتَقَى إليها إلا بسُلَّم فلا يصعد إليها غيره, وكان يأتيها بطعامها وشرابها في كل يوم، وكان إذا خرج من عندها أغلق بابها فإذا دخل عليها وجد عندها رزقًا -أي فاكهة- فيقول لها: من أين أتى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله.
فلما ضعف زكريا عن حِمْلِها خرج إلى قومه وقال لهم: إني كبرت وضعفت عن حِمْل ابنة عمران فأيكم يكفلها بعدي ويقوم بأداء خدمتها كما كنت أفعل بها؟
فقالوا: لقد جهدنا وأصابنا من الجهد ما ترى فلم نجد من يحملها، فتقارعوا عليها بالسهام فخرجت سهم رجل صالح نَجَّار يقال له: يوسف بن يعقوب بن ناثان، وكان ابن عمها، فتكفل بها وحملها، فقالت له مريم: يا يوسف, أحسن الظن بالله سيرزقنا من حيث لا نحتسب، فجعل يوسف يرزقه الله برزق حسن ويأتي كل يوم لها بما بصلحها من كسْبِه فيدخل إليها زكريا فيرى عندها فضْلا من الرزق، فتقول له: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
بـِشارَتُها بعيسى عليه السلام
فلما بلغتْ من العمر خمس عشرة سنة وهي إذ ذاك في خدمة البيت المقدس, وكان اعتراهم يوم شديد الحر نفد فيه ماؤها، فأخذت قلتها وانطلقت إلى العيْن التي فيها الماء لتملأها منها.
فلما أنْ أتتْ إلى العين وجدتْ عندها جبريل قد مثَّله الله بشرًا سويًا، فقال لها: يا مريم, إن الله بعثني إليك لأهب لك غلامًا زكيًا. قالت: أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا. قال لها: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًا. قالت: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيًا؟ قال: كذلك قال ربك هو على هَيِّنٌ.
فلما قال لها ذلك استسلمت لقضاء الله فنفخ جبريل في جَيْبْ دِرْعِها وكانت وضعتْه إليه.
فلما انصرف عنها لبستْ درعها فحملتْ بعيسى بإذن الله, ثم ملأتْ قُلَّتَها وانصرفت إلى مسجدها, فلما ظهر عليها حمْلها كان أول من أنكر عليها ذلك ابنُ عمها يوسف النجار، واستعظم ذلك الأمر، ولم يدْرِ ماذا يصنع, وكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها وبراءتها وأنها لم تغب عنه ساعة واحدة، فلما اشتد ذلك عليه وأعياه الأمر كلَّمها وقال لها: إنه قد وقع في نفسي مِنْ أمْرِك شيء، وقد حرصتُ على أن أكتمه فغلبني ذلك ورأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري. فقالت له: قل قولًا جميلًا.
قال لها: أخبريني يا مريم هل نبَت زرْع من غير بِذْر؟ قالت: نعم. قال: هل نبتت شجرة من غير غَيْث؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟
قالت: نعم, ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر, والبذر يكون من الزرع الذي أنبته من غير بذر، ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الشجر من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما على حِدَته. أوَ تقول: إن الله لا يقدر أن ينبت شجرًا حتى استعان بالماء, ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ فقال لها يوسف: نعم, إن الله قادر على كل شيء، وقادر على أن يقول للشيء: كن فيكون. فقالت له مريم: ألم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قال: بلى.
فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها من أمر الله، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه وذلك لِمَا رأى من كتمانها لذلك, ثم تولى خدمة المسجد وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه لِمَا رأى من رِقة جسمها واصفرار لونها وضعف قوتها.
فلمَّا ثقل حمْلُها ودنتْ ولادتها خرجت من المسجد على بيت خالتها لتلد فيه.
ولما أقامت في بيت خالتها أوحى الله إليها: إنك إنْ ولدتِ بجهة قومك قتلوك أنت وولدك فاخرجي من عندهم. فأخذها يوسف النجار ابنُ عمها وخرج بها هاربًا وقد حملها على حمار حتى أتى قريبًا من أرض مصر أدركها النِّفاس فألجأها إلى أصْل نخلة، وهي في موضع يقال له بيت لحم. قال: فلما اشتد الأمر بمريم تضرعتْ على ربها وقالت: يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، فنُودِيَتْ أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سَريَّا، وهُزِّي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رُطَبًا جنيًا.
فلما ولدت ونزل الغلام من بطنها ناداها وكلمها من تحتها بإذن الله تعالى. وقد أجرى الله لها نهرًا من ماء عذب بارد، ولَمَّا يسر الله لها أسباب ولادتها رجعتْ به إلى قومها وكانت قد غابت عنهم أربعين يومًا، فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله, فلما دخلتْ على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وقالوا: يا مريم لقد جئت شيئًا فَرِيًّا، يا أخت هارون ما كان أبوك امْرَأ سُوءٍ وما كانت أمك بَغِيًّا. فمن أين لك هذا الولد؟
فأشارت لهم مريم إلى الصبي أنْ كلِّموه. فغضبوا وقالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبيًّا؟ فقال عند ذلك الصبي وهو ابن أربعين يومًا: إني عبد الله آتاني الكتب وجعلني نبيًا، وجعلني مباركًا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمتُ حيًا، وبَرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا، والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا.
لجوئها لـمصر:
فلما شاع خبره بين قومه أراد "هيردوس" ملكهم أن يهِمَّ بقتله، فأخذهما يوسف النجار وهرب إلى مصر, فأقامت مريم بمصر اثنتي عشرة سنة تغزل الكتان وتلتقط السنبل في أثَر الحاصدين إلى أن بلغها أن «هيردوس» الملك قد مات، فرجعت هي وابن عمها يوسف النجار إلى أن أتوا إلى جبل يقال له: الناصرة، فسكنوا فيه إلى أن بلغ ولدها من العمر ثلاثين سنة, ثم خرجوا إلى قومهم. وقيل: إن وفاتها قبل رَفْعِ ولدها عيسى -عليه السلام- بست سنين»(4).
-------- حاشية ----------
(1) نقلا عن مقالة: «العلاقات البَيْنِيَّة بين الأنبياء » للأستاذ عبد الله حسن عيسي. وهي منشورة على شبكة المعلومات الدولية.
(2) فرْخًا: يعني صغيرًا له.
(3) نقْترع: أي نعمل قُرْعة.
(4) نقلا عن « الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» [ص/ 494- 496] لزينب بنت فواز العاملي.
رد: مشاهير النساء العُزَّاب
2
هـيـبـاتـيـــــ ا
أول عالمة وفيلسوفة مصرية عرفها التاريخ. إنها الفيلسوفة المصرية هيباشيا ابنة ثيون أستاذ الرياضيات فى متحف الإسكندرية، وآخر عظيم من عظمائها سُجِّلَ بلوحة الخالدين.
جاء بدائرة المعارف البريطانية عنها: «فيلسوفة مصرية وعالمة في الرياضيات، ولِدَتْ بالإسكندرية عام (380مـ) وماتت بها في مارس(415مـ) وكانت المرأة الأولى التي لمعت في ميدان الرياضيات والفلسفة، وأول عالمة بها».
حــياتــــــــه ا:
كانت أظرف شخصية في علوم ذلك العصر، ولمعت كفيلسوفة وعالمة في الرياضيات، وكان والدها ثيون Theon هو آخر من سُجِّلَتْ أسماؤهم في سجل أساتذة متحف الإسكندرية الذي كان إما ملاصقًا لمكتبة الإسكندرية أو بداخلها. وقد كتب شرحا لكتاب Syntaxis لبطليموس أقرّ فيه لما كان لابنته من نصيب في تأليفه.
ويقول سويداس: إن هيباتيا كتبتْ شروحًا لكتاب القوانين الفلكية لبطليموس، وكتاب المخروطات لأپولونيوس البرجي، ولكن مؤلفاتها كلها لم يبق منها شيء.
ثم انتقلت من الرياضيات إلى الفلسفة، وسلكت في بحوثها على هَدْي أفلاطون، وتفوقت على جميع فلاسفة زمانها (على حد قول سقراط الدارس المؤرخ المسيحي).
ولمَّا عُيِّنَتْ أستاذة للفلسفة في متحف الإسكندرية هُرع لسماع محاضراتها عدد كبير من الناس من شتى الأقطار النائية. وهامَ بعض الطلاب بحبها، ولكن يبدو أنها لم تتزوج قط.
وقد بلغ من حبها للفلسفة أنها كانت تقف في الشوارع وتشرح لكل من يسألها النُّقَط الصعبة في كتب أفلاطون أو أرسطو، ويقول سقراط المُؤرخ: «إنه قد بلغ من رباطة جأشها ودماثة أخلاقها الناشِئتين من عقلها المهذَّب المثقَّف: أنها كانت في كثير من الأحيان تقف أمام قُضاة المدينة وحُكَّامها دون أن تفقد - وهي في حضرة الرجال - مسلَكها المتواضع المهيب الذي امتازت به عن غيرها، والذي أكسبها احترام الناس جميعًا وإعجابهم بها.
قتيلة العلم:
لكن هذا الإعجاب لم يكن في واقع الأمر يشمل الناس جميعًا، فما من شك في أن مَسيحييِّ الإسكندرية كانوا يضيقون بها، لأنها لم تكن كافرة فاتنة فحسب، بل كانت إلى ذلك صديقة وَفِيَّة لأرستيز حاكم المدينة الوثني.
وما إنْ حرَّض كيرلس الأول (سيريل) بطريرك الكنيسة القبطية بالإسكندرية - أتباعَه الرهبان على طرد اليهود من الإسكندرية أرسل أرستيز إلى ثيودوسيوس الثاني تقريرًا عن الحادث بعيدًا عن النزاهة بُعْدًا استاء منه كبير الأساقفة ورجاله أشد الاستياء. وقذف بعض الرهبان الحاكم بالحجارة، فأمر بالقبض على زعيم الفتنة وتعذيبه حتى مات (415م).
واتَّهم أنصار كيرلس هيباتيا بأنها صاحبة السلطان الأكبر على أرستيز، وقالوا: إنها هي وحدها التي تحول دون الاتفاق بين الحاكم والبطريق.
مقتلها
وفي ذات يوم من شهر مارس سنة 415م هجم عليها جماعة من المتعصبين يتزعمهم «قارئ» أي كاتب صغير من موظفي سيريل، اسمه پيتر، وأنزلوها من عربتها، وجرُّوها إلى إحدى الكنائس، وجردوها من ملابسها، وأخذوا يرجمونها بقطع القرميد(1) حتى قضوا على حياتها، ثم قطعوا جسمها إِرَبًا، ودفنوا ما بقيَ منها في [مكان] وحشي شنيع. ولم يُعاقَب أحدٌ من المجرمين، واكتفى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني بأن قيَّد حرية الرهبان في الظهور أمام الجماهير، وبذلك كان انتصار كيرلس انتصارًا كاملا »(2).
وكانت هيباتيا هذه أُولى قِتِيلات الحكمة والفلسفة على مدى العصور والدهور، وصاحبة أبشع موتة لم يَسْبِق لها مثيل ...
-------- حاشية ----------
(1) القِرْميدُ: هو حجارة مصنوعة تنضج بالنار ويُبْنَى بها أو يُغَطَّى بها وجْه البناء. انظر: «تكملة المعاجم العربية» [8/ 250].
(2) نقلا عن «قصة الحضارة» [13/ 284- 286]. تأليف: وِلْ ديورانت.