( رجل ولا كالرجال ) تقال في معرض الذم لا المدح .. فتبصر !

خطأ يغفل عنه الخاص قبل العام ، بل ربما وقع فيه بعض الأدباء الذين بنوا لأنفسهم قبة من المجد وهالة من الفَخار ..
فإن أريد بزيد مدحا قيل فيه : رجل ولا كالرجال ، يريدون أنه رجل لا يشبه الرجال فهو نسيج وحده .. وهذه الإرادة خاطئة ، فهذا ذم له وليس مدحا ..
وأصل قولنا رجل ولا كالرجال من المثل المضروب قديما " ماء ولا كصَدَّاء ومرعى ولا كالسَّعْدان"
وهذا المثل يضرب للشيء الذي يفضل أقرانه فهذا الماء طيب ولكن صَدّاء أطيب ، وهذا المرعى فاضل إلا أن السعدان أفضل ..
وقد نبه على هذا الزلل الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله - في خبايا كتبه .

* ومقولة ( مرعى ولا كالسعدان ) تروى عن عِدَّة فقد اختلفت كتب الأدب في أبي عُذرها وأول من افتضها ..
- ولعل أشهرها زعمهم أن امرأ القيس بن حجر الكندي كان مفرَّكاً لا يكاد يحظى عند امرأة فتزوج امرأة ثيباً فجعلت لا تقبل عليه ولا تريه من نفسها شيئاً مما يحب، فقال لها ذات يوم: أين أنا من زوجك الذي كان قبل؟ فقالت: مرعىً ولا كالسعدان فأرسلتها مثلاً.
والمفرك : الذي لا تحبه النساء .
والسعدان : نبت له شوك من أفضل مراعي الإبل يطيب لبنُها منه وتَسمَن .

* وأما قصة " ماء ولا كصدّاء" .. فهي رائقة للأنيق ..
- زعموا أن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك رأى يوماً ابنه لقيطاً مختالاً وهو شاب فقال: والله إنك لتختال كأنك أصبت بنتَ قيسِ بن مسعود بن قيس بن خالد ومائةً من هجائن المنذر بن ماء السماء !!
قال: فإن لله عليَّ أن لا يمس رأسي غسل ولا أشرب خمراً حتى آتيك بابنة قيس ومائة من هجائن المنذر أو أبلي في ذلك عذراً ..
فسار لقيط حتى أتى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد، وكان سيد ربيعة ، وكان عليه يمين ألا يخطب إليه إنسان علانية إلا ناله بشر، وسمَّع به ..
فأتاه لقيط وهو جالس في القوم، فسلم عليه ثم خَطب إليه علانية ..
فقال له قيس: ومن أنت؟
قال: أنا لقيط بن زرارة .
قال: فما حملك على أن تخطب إلي علانية؟
قال: لأني قد عرفت أني إن أعالنك لا أشنك وان أناجِك لا أخدعك . ؟ - أعالنك آتك علانية-
فأُعجب قيسٌ بكلامه وقال: كفؤ كريم لا جرم والله لا تبيت عندي لا عزباً ولا محروماً ..
ثم أرسل إلى أم الجارية: إني قد زَوَّجتُ لقيطاً ابنتي القذور فاصنعيها حتى يَبتني بها، وساق عنه قيس، فابنتي بها لقيط وأقام معهم ما شاء الله أن يقيم ..
ثم احتمل بأهله حتى أتى المنذر بن ماء السماء فأخبره بما قال أبوه، فأعطاه مائة من هجائنه، ثم انصرف إلى أبيه ومعه بنت قيس ومائة من هجائن المنذر!!
وزعموا أن لقيطاً لما أراد أن يرتحل بابنت قيس إلى أهله قالت له: أريد أن ألقى أبي فأسلم عليه وأودعه ويوصيني، ففعلت ..
فأوصاها وقال: يا بنية كوني له أمة يكن لك عبداً، وليكن أطيب ريحك الماء حتى يكون ريحك ريح شن غب مطر - والشن طيب الريح ، وغب مطر : بعده - وإن زوجك فارس من فرسان مضر، وإنه يوشك أن يقتل أو يموت، فإن كان ذلك فلا تخمشي وجهاً ولا تحلقي شعراً.
فلما أصيب لقيط أتت قومَه وقالت: يا بني عبد الله أوصيكم بالغرائب خيرا فحبَّب الله بين نسائكم وعادى بين رعائكم .. فوالله ما رأيت مثل لقيط لم يخمش عليه وجه ولم يحلق عليه رأس، ولولا أني غريبة لخمشت وحلقت ..
فلما انصرفت إلى قومها تزوجها رجل منهم ..
فجعل يَسمعها تُكثر ذكر لقيط، فقال لها: أي شيء رأيت من لقيط قط أحسن في عينك؟
قالت: خرج في يوم دجن – ماطر- وقد تطيب وشرب فطَرَد – لحِق- البقر وصرع منها وأتاني وبه نَضح الدماء والطيب ورائحة الشراب، فضممته ضمة وشممته شمة، فوددت أني كنت مِت ثَمَّة، فلم أر قط منظراً أحسن من لقيط ..
فسكت عنها زوجها حتى إذا كان يوم دجن شرب وتطيب ثم ركب فصرع من البقر، فأتاها وبه نضح الدماء والطيب وريح الشراب، فضمته إليها، فقال: كيف ترينني أنا أحسن أم لقيط؟ فقالت: ماء ولا كصَدّاء فأرسلتها مثلاً.

وصَدّاء : اسم رَكيّة أو بئر عذب الماء .

والله أعلم وأعلم .