كلمة عن لمز النّفاة أهل السنّة بالحشوية
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وءاله وصحبه أمّا بعد :
فإنّ الغمز واللّمز من أهل الباطل لأهل الحق لازال سنّة مستمرّة عنهم في كلّ زمان , بَدأً من المشركين الذين وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقولهم مذمّما ومجنونا وساحرا , والله تعالى بمنّه وكرمه يصرف كيدهم عن رسوله صلوات الله وسلامه عليه , فليس يلحقه شيء من ذلك ولا ضار له , وهكذا دواليك , لكلّ قوم وارث , فوصف المعطّلة أهل السنّة بالمجسّمة والمشبّهة والحشوية , تنفيرا لعامّة النّاس عنهم , وليس شيء من ذلك هو قول لأهل السنّة , فلم يقل أهل السنّة أنّ الله جسم , بل استفصلوا عن معنى الكلمات المحدثة وردّوا لفظها , وأخذوا الحقّ من المعنى وردّوا الباطل فيه , وليس من عقيدة أهل السنّة أنّ الله جلّ وعلا يشبه المخلوقات في صفاته وليس ذلك في شيء من أقوالهم و ولكنّهم مع ذلك لم يحملهم هذا على أن ينكروا ما قد أثبته الله جلّ وعلا لنفسه في محكم كتابه العزيز , أو صحّت به سنّة المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلّم , فإنّ الله جلّ وعلا أعلم بنفسه وبما يليق به من غيره , ورسوله كذلك , فهم ممتثلون قول الله جل وعلا " ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير " فنفى عن نفسه سبحانه مماثلة المخلوقين , وأثبت لنفسه السّمع والبصر , مع أنّ المخلوق يوصف بالسّمع والبصر , فدلّ على أنّ المراد هو الإثبات المنزّه عن التمثيل , والتنزيه المجرّد عن التّعطيل , فئامن أهل السنّة بالكتاب كلّه , ولم يفرّقوا بين ماجاء الله به "ءامنّا به كلّ من عند ربّنا " قال العلاّمة الحكمي رحمه الله :
هذا مقال المؤمنين جميــعهـم = وعصابة التوحيد أعلام الهدى
الكاشفين عوار كلِّ مشبـــه = والقامعين لكلِّ من قد ألحـدا
زن قولهم بالوحي وانظر هل ترى = ميلا لهم عمّا إليه أرشــدا
حاشاهم عن أن يمـيلوا خطوة = عمّا إليـه الله إيّـاهم هــدى
بل أثبتوا لله ما قد أثبـتــت = آي الكتاب وكل نص أسنــدا
ومن النّفاة تبرّأوا وكـذاك من = قول الممثّل إذ تغـالى واعتــدى
جعلوا إمامهم الكتاب وسنّـة = المختار يا طوبى لمن بهما اهتـدى
ولذاك أعلى الله جـلّ منارهم = والملحدون بناءهـم قـد هـدّدا
وأتمّ نورهم الإله وغيرهــم = في ظلمة إذ لم يكـن بهـم اقتدى
يا ربِّ ألحقنا بهم واجعل لنـا = نورا نميزُ به الضلال مـن الهـدى
وأمّا لفظة الحشوية التي يلمز بها أهل الباطل على اختلاف طوائفهم من باطنية وجهمية ومعتزلة وءاخرهم الأشاعرة , فهي من سلسلة الألفاظ التي أطلقوها تنفيرا وتشنيعا وبهتانا من القول وزورا . قال ابن قتيبة رحمه الله في تأويل مختلف الحديث ([1]) ذاكرا بعض ما وصف به أهل البدع أهل الحديث : وقد لقبوهم بالحشوية، والنابتة، والمجبرة، وربّما قالوا: الجبرية. وسموهم الغثاء والغثر , وهذه كلّها أنباز لم يأت بها خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم <.اهـ ِ
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله :" إنّ الباطنية تسمّي أهل الحديث : حشوية , لقولهم بالأخبار وتعلّقهم بالآثار < اهـ ([2]).
وقال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله : وعلى هذا عهدنا في أسفارنا وأوطاننا كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة، ويسميها الحشوية .اهـ . ([3])
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان أول من قال هذا اللّفظ ومعناه : هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة، فإنهم يسمّون الجماعة والسواد الأعظم الحشو، كما تسميهم الرّافضة الجمهور، وحشو الناس: هم عموم الناس وجمهورهم , وهم غير الأعيان المتميزين , يقولون هذا من حشو الناس , كما يقال هذا من جمهورهم. وأول من تكلّم بهذا عمرو بن عبيد، وقال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حشويا, فالمعتزلة سموا الجماعة حشوا كما تسميهم الرّافضة الجمهور. < اهـ .([4])
وقال أيضا : > قلت : مسمّى الحشوية في لغة الناطقين به ليس هو اسمًا لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته , كالجهمية والكلابية والأشعرية , ولا اسمًا لقول معيّن من قاله كان كذلك , والطّائفة إنما تتميّز بذكر قولها أو بذكر رئيسها , ولهذا كان المؤمنون متميّزون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله , والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم < ([5])
وقال شمس الدّين ابن القيّم رحمه الله في نونيته :
فصل: في تلقيبهم أهل السنة بالحشوية وبيان من أولى بالوصف المذموم من هذا اللقب من الطائفتين وذكر أول من لقب به أهل السنة أم أهل البدع .
ومن العجائب قولهم لمن اقتدى ... بالوحي من أثر ومن قرآن
حشْوية يعنون حشوا في الوجو ... د وفضلة في أمّة الإنسان
ويظن جاهلُهم بأنّهم حَشَوْا ... ربَّ العباد بداخل الأكوان
إذ قولُهم فوقَ العباد وفي السما ... ء الرّبُ ذو الملكوت والسلطان
ظنّ الحمير بأن في للظرف والر ... حمن محوي بظرف مكان
والله لم نسمع بذا من فرقة ... قالته في زمن من الأزمان
لا تبهتُوا أهل الحديث به فما ... ذا قولَهم تبًّا لذي البهتان
بل قولُهم إنّ السّموات العلى ... في كفِّ خالق هذه الأكوان
حقا كخردلة تُرى في كف ممــ... سكها تعالى الله ذو السلْطان
أترونه المحصورَ بعد أم السّما ... يا قومنا ارتدِعُوا عن العُداون
كم ذا مُشبِّهة وكمْ حشْويّة ... فالبَهت لا يخفى على الرّحمن
يا قوم إن كان الكتاب وسنّة الـ... مختار حشْوا فاشهدوا ببيانِ
أنّا بحمد إلهنا حشْوية ... صِرفٌ بلا جحدٍ ولا كتمان
تدرُون من سمَّت شيوخكم بهـَـ... ـذا الاسم في الماضي من الأزمان
سمّى به عمرو لعبدالله ذا ... ك ابن الخليفةِ طارد الشيطان
فورثتم عمرًا كما ورثوا لعبد ... الله أنى يسْتوي الإرثان
تدرون من أولى بهذا الاسم وهـ ... ـو مناسب أحواله بوِزان
من قد حشَا الأوراق والأذهان مِن ... بدَع تخالف موجَب القرآن
هذا هو الحشويُّ لا أهلُ الحد يــ... ـث أئمة الإسلام والإيمان
وردُوا عِذَابَ مناهل السُّنن التي ... ليست زُبالةَ هذه الأذهان
ووردتُمُ القلُّوط مجرى كل ذي الـ ... ـأوساخ والأقذار والأنتان
وكسِلتم أن تصعدوا للوِرْدِ من ... رأس الشريعة خيبةَ الكسلان
فهذا أصل هذه الكلمة , و مردّها , ومنشئها , ومعناها , وقد تبيّن للعاقل اللّبيب سببها , ودافعها , وزورها , وبطلانها .
و هذه أبيات في تسلية كلّ من سُب بالبهتان من نظم الإمام ابن القيّم رحمه الله , قال :
هذا وثمّ لطيفة أخرى بها ... سُلوان من قد سبَّ بالبُهتان
تجدُ المعطِّل لاعنا لمجسِّم ... ومشبِّه لله بالإنسان
والله يصرفُ ذاك عن أهل الهُدى ... كمحمَّد ومذممٍ اِسْمان
هم يشتُمُون مذمّما ومحمدٌّ ... عن شتمهم في معزِل وصِيَان
صان الإله محمّدا عن شتْمهِم ... في اللّفظ والمعنى هما صِنوان
كصيانة الأتباع عن شتم ... المعطّل للمشبِّه هكذا الإرثان
والسّبُ مرجِعه عليهِم إذ هُمُ ... أهلٌ لكل مذمَّة ٍوهَوَان
وكذا المعطِّل يلعنُ اسمَ مشبِّه ... واسمُ الموحِّد في حمِى الرحمن
هذي حسانُ عرائِسٍ زُفَّتْ لكم ... ولدى المعطّل هنَّ غير حسان
والعلمُ يدخل قلب كلّ موفّق ... من غير بوّابٍ ولا استئذان
ويردُّه المحرومُ من خِذلانه ... لا تُشقِنا اللهمّ بالحِرمان
يا فرقةً نفتِ الإله وقولَه ... وعلوّه بالجحد والكفران
مُوتُوا بغيظكمُ فربِّي عالم ... بسرائرٍ منكم وخُبث جَنان
فالله ناصرُ دِينِه وكِتابِه ... ورسولِه بالعلمِ والسُّلطان
والحقُّ ركنٌ لا يقومُ لهدِّه ... أحدٌ ولو جمُعَت له الثقلان
تُوبوا إلى الرّحمن من تعطِيلكُم ... فالرّبُ يقبل توبةَ النّدمان
من تاب منكم فالجِنان مصيره ... أو مات جهميٍّا ففي النّيران
وفي الختام أسأل الله أن يعصم علينا ديننا , وأن يعيذنا من مضلات الفتن ماظهر منها وبطن , وله الحمد سبحانه على سلوك طريقه المستقيم , طريق الأنبياء والمرسلين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدّين , وصلّى الله وسلّم وبارك وأنعم عل نبيّه محمّد وءاله وصحبه وسلّم
([1])تأويل مختلف الحديث ([1])(1/136)
([2])(الغنية 1/176)
([3])معرفة علوم الحديث 14
([4])مجموع الفتاوى 3/185-186
([5]). بيان تلبيس الجهمية 2/124-125.