تأفف وهو ينظر إلى الموظف الذي ترك عمله وراح يثرثر مع زميله بفم ممتلئ بالطعام والشراب تاركا إياهم في طوابير طويلة حالمين بقضاء المصالح...
حتى إذا حان دوره بعد ما مر من الوقت ما مر حاول صرفه بشتى الطرق متكاسلا عن فتح ملف ما ليتأكد من سلامة الأوراق!
هتف في سره مغتاظا: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه!
** * * * * * * * * * *
في طريق عودته التقطت عيناه كل سلبية وجفونه ترسل نظرات نارية لكل شيء وكل شخص...
تمتم في غيظ: لو يتقن كل شخص عمله!!
لم يترك شيء إلا انتقده واحتقره حتى أن بصيرته ارتدت تلقائيا منظارا أسود اللون حول كل إيجابية إلى سلبية وضخم كل سلبية ثلاث أضعاف ..على الأقل!
شعر بثقل يجسم على قلبه كالجبال ..وراح يردد: أن يتقنه ..!
** * * * * * * * * * *
طلب منه والده أن يغسل السيارة فنهض متثاقلا تاركا الجهاز..
تمتم: أهذا وقت مناسب؟!
لم يستغرق إلا خمس دقائق في غسل السيارة..ليعود مسرعا لجهازه الحبيب..
وضع على أذنيه السماعتين حتى لا يسمع صراخ الوالد وهو يضرب كفا بكف...غير أن أذنيه التقطتا جزء من العبارة...: أن يتقنه!
** * * * * * * * * * *
قالت لها مبتسمة: تعالي ساعديني في المطبخ
نهضت في تكاسل متصنعة الحماسة: حالا!
دخلت ساحة القتال تجرجر أقدامها جرا، ووقفت في تأفف أمام الحوض الصغير الذي امتلأ بكامله بسبب زيارتها العائلية الميمونة لوالدتها..
تمتمت في إحباط: هذا هو جزاء البر!
شرعت تزيل آثار العدوان عن الأطباق وشرد ذهنها لتسليتها وتمضية الوقت فلم تستفق إلا على صوت الوالدة ممسكة قدرا من القدور المغسولة: .......... أن يتقنه!
** * * * * * * * * * *
قاطع ثرثرتها صوت والدها مطالبا إياها بكوب من الشاي!
ألم يجد من أخواتي سواي؟؟ كذا هتفت في غيظ
انصرفت عن الثرثرة رغما عنها ولكن لسانها طفق يتحرك داخل سجنه ..كي لا ينسى الكلام ومنطق الحروف...تابعه عقلها فصارت ثرثرة داخلية جديرة بإصابة أشد الرجال احتمالا بآلام الرأس المزمنة!!
وضعت الكوب مسرعة لتكمل ثرثرتها مع صاحباتها فلم تشعر إلا بصوت أبيها يتمتم عبارة طويلة غاضبة لم تدرك أذنها سوى...: أن يتقنه!
** * * * * * * * * * *
استيقظت باكرا على صوته اللطيف: لم توقظيني باكرا!
قالت في جفاء: مرهقة!
طلب إفطاره فقامت متثاقلة ..سأل عن ملابسه التي طلب منها أمس أن تعتني بها..
فقالت: حالا
سارعت لكيّ الملابس ثم أسرعت متبرمة لإعداد الفطور..كانت تفعل كل هذا بعين نصف نائمة خشية أن يذهب عنها النعاس ..
اندست في الفراش محاولة غلق أذنيها مثلما أغلقت عينيها حتى لا تسمع شكواه من الطعام البارد والملابس التي لم تحصل على قدر كاف من العناية ..
غير أنه صك سمعها جزء من العبارة...: أن يتقنه!
** * * * * * * * * * *
عندما طلب منه المدير أن ينهي التقرير سريعا ..لم يكن يقصد أن يكتب كلمتين باردتين لا تسمن ولا تغني من جوع المعلومات!
لكن لم يكن لديه الوقت الكافي لأكثر من هذا فالحديث شيق مع صاحبه ...
وعندما ذهب إلى مديره ليتلقى اللوم كان قد استعد جيدا بما سيقول عن كثرة العمل وضغوط الأوقات..يعرف أنه سيغلق أذنه جيدا حتى لا يسمع شيء...
إلا أنه رغم ذلك صفع سمعه آخر الحديث..يا بني ..أن يتقنه!
** * * * * * * * * * *
طلبت من ابنتها الصغيرة استكمال كتابة الصفحة حتى تنتهي من بعض أعمال المنزل..
لم تكد تبدأ العمل حتى وجدت ابنتها خلفها تهتف في سعادة: أنهيت الواجب!
قطبت متوجسة وتناولت الكتاب فتفاجأت بعرض مسرحي من جميع الأحجام والأشكال
شعرت بالدماء تثور في عروقها واستحالت الرؤية أمامها حمراء سوداء ...
لم تشعر إلا وأذن الصغيرة بين أصابعها وهي تضغط في غل هاتفة بغيظ: أن يتقنه!
** * * * * * * * * * *
صلاته لا تستغرق ثوان
إن قال الأذكار فقلبه في الملاهي
إن تصدق تخير ما يكره..
وإذا نظر لغيره تنقص..
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس..
وإذا عمل عملا ..راقب فيه رب الناس
ابدأ بنفسك...وعلم غيرك برفق..عامل رب العباد لا العباد
واعلم أنه لو انشغل كل منا بعمله لصارت الدنيا أفضل..والآخرة خير وأبقى..
اللهم أصلح أحوالنا كلها
