أمَّا الإمام الشاطبي - رحِمه الله - فلعلَّ أوَّل ذِكْر للإمالة في الشاطبيَّة عنده هو قوله في باب: "إدغام الحرفين المتقاربين في كلمة وفي كلمتين":
وَلا يَمْنَعُ الإِدْغامُ إِذْ هُوَ عَارِضٌ /// /// /// إِمَالَةَ كَالأَبْرَارِ وَالنَّارِ أَثْقَلا
قال أبو شامة في شرح هذا البيت: "وهذه مسألة من مسائل الإمالة، فبابها أليق من باب الإدغام، وقد ذكر في باب الإمالة أنَّ عروض الوقف لا يمنع الإمالة، فالإدغام معه كذلك، وكان يغنيه عن البيتين هنا وثَمَّ أن يقول:
وَلا يَمْنَعُ الإِدْغَامُ وَالوَقْفُ سَاكِنًا /// /// /// إِمَالَةَ مَا لِلْكَسْرِ فِي الوَصْلِ مُيِّلا
فيستغني عن بيتين مفرقين في بابين بهذا البيت الواحد في باب الإمالة". اهـ.
ثم هو[11] بعد ذلكَ قدْ يُوافِق أبا عمرٍو الدانيَّ أو يُخالفُه بِحسَب ما يتأتَّى له في النَّظْم أو بِحسَب ما يرتضيهِ من التَّرتيب.
• ففي سورة آل عمران يذكُر إمالة كلمة (التَّوراة) فيقول:
وَإِضْجَاعُكَ التَّوْرَاةَ مَا رُدَّ حُسْنُهُ /// /// /// وَقُلِّلَ فِي جَوْدٍ وَبِالخُلْفِ بَلَّلا
• وفي سورة الأنعام يذكر إمالة الفعل (رأى)، فيقول:
وَحَرْفَيْ رَأَى كُلاًّ أَمِلْ مُزْنَ صُحْبَةٍ /// /// /// وَفِي هَمْزِهِ حُسْنٌ وَفِي الرَّاءِ يُجْتَلا
بِخُلْفٍ وَخُلْفٌ فِيهِمَا مَعَ مُضْمَرٍ /// /// /// مُصِيبٌ وَعَنْ عُثْمَانَ فِي الكُلِّ قُلِّلا
وَقَبْلَ السُّكُونِ الرَّا أَمِلْ فِي صَفَا يَدٍ /// /// /// بِخُلْفٍ وَقُلْ فِي الهَمْزِ خُلْفٌ يَقِي صِلا
وَقِفْ فِيهِ كَالأُولَى وَنَحْوُ رَأَتْ رَأَوْا /// /// /// رَأَيْتَ بِفَتْحِ الكُلِّ وَقْفًا وَمَوْصِلا
• ثم في أوَّل سورة يونس يذكُر إمالة الحروف المقطعة، فيقول:
وَإِضْجَاعُ رَا كُلِّ الفَوَاتِحِ ذِكْرُهُ .... حِمًى غَيْرَ حَفْصٍ
طَا وَيَا (صُحْبَةٌ) وَلا[12]
وَكَمْ صُحْبَةٍ يَا كَافَ والخُلْفُ يَاسِرٌ
وَهَا صِفْ رِضًا حُلْوًا
وَتَحْتُ جَنًى حَلا ... شَفَا صادِقًا
حَم مُخْتَارُ صُحْبَةٍ
وَبَصْرٍ وَهُمْ أَدْرى وَبِالخُلْفِ مُثِّلا
وَذو الرَّا لِوَرْشٍ بَيْنَ بَيْنَ
وَناَفِعٌ .... لَدى مَرْيَمٍ هَا يَا
وَحَا جِيدُهُ حَلا
• وأيضًا ترى الإمام الشاطبي - رحمه الله - في أثناء ذِكْرِه هذه الحروف يذكُر الخلاف في حرفٍ آخَر ليْس منها، وذلك قوله: وَبَصْرٍ وَهُمْ أَدْرَى وَبِالخُلْفِ مُثِّلا.
فأوضح الخلاف في إمالة لفظ "أدْرى" كيف أتى: (أدراك) و (أدراكم)؛ فيُميله البصري وهو أبو عمرو بنُ العلاء، ومدلولُ صحبةٍ - وهم: حمزة والكسائي وشعبة - وأيضًا ابن ذكْوان[13] لكن بخلاف عنه.
قال أبو شامة: "وأمَّا لفظ "أدرى" فقد عُلِم من مذهب ورشٍ في إمالته بين بين من باب الإمالة، وإنَّما ذكره النَّاظم هنا لأجل زيادةِ أبي بكرٍ وابن ذكوان على أصحاب إمالتِه، وإلاَّ فهو داخلٌ في قولِه: "وَمَا بَعْدَ رَاءٍ شَاعَ حُكْمًا[14]"؛ فأبو عمرو وحمزة والكسائي فيه على أصولهم.
• وفي سورة يوسف - عليه السَّلام - يذكر إمالة {يَا بُشْرَى}، فيقول:
… … … /// /// /// وَبُشْرَايَ حَذْفُ اليَاءِ ثَبْتٌ وَمُيِّلا
شِفَاءً وَقَلِّلْ جِهْبِذًا وَكِلاهُمَا /// /// /// عَنِ ابْنِ العَلا وَالفَتْحُ عَنْهُ تَفَضَّلا
قوله: حذْف الياء ثبتٌ؛ أي: يحذف الياء من "بُشراي" ويقرؤها "بُشرى": الكوفيُّون[15]، وهي بهذا منادى نكِرة مثل التي في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ} [يس: 30]، إلا أنَّ كلمة "بشرى" اسم مقْصور فلم تظهر علامةُ الإعراب[16]، وممنوعة من الصَّرف فلم يظهر التنْوين[17].
وعن السُّدّيّ أن "بشرى" علم على اسم الرَّجُل الذي نودي، فهو منادى مبني على ما يُرفع به، مثل "يا يحيى"، وقد ضُعِّف هذا القول.
وقول الشاطبي: وميلا .. شفاءً؛ أي: يُميل كلمة "بُشْرى" من الكوفيِّين: حمزة والكسائي، وهما مَن يرمز لهما بالشين[18]، ولا يميلها عاصم.
وَقَلِّلْ جِهْبِذًا؛ أي يقرأُ ورْشٌ - وهو الذي يُرْمَز له بالجيم -: يا بُشراي، بالتَّقليل أي الإمالة بين بين.
وقوله: وَكِلاهُمَا عَنِ ابْنِ العَلا وَالفَتْحُ عَنْهُ تَفَضَّلا؛ أوْضح به أنَّ لأبي عمرو بن العلاء ثلاثةَ أوجُه: أقْواها بالفتح أي: بغير إمالة، والثاني بالإمالة المحْضة، ثم بالتقليل؛ أي بين بين، وهو يقرأ كغير الكوفيين: "يا بشرايَ".
• وفي سورة طه لا يذكُر مذهبَ مَن يُميل أو يقلِّل قوله تعالى: {مَكَانًا سوًى} و {أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} وإنَّما يقول:
.... ..... .... ..... /// /// /// .... وَاضْمُمْ سِوًى فِي نَدٍ كَلا
وَيَكْسِرُ بَاقِيهِمْ وَفِيهِ وَفِي "سُدىً" /// /// /// مُمَالُ وُقُوفٍ فِي الأُصُولِ تَأَصَّلا
قال الشَّيخ أبو شامة: "ثم قال: "في الأصول تأصَّل" أي تأصَّل ذلك وتبيَّن في باب الإمالة من أبواب الأصول المقدَّمة قبل السُّور في قوله: سوًى وَسُدًى فِي الوَقْفِ عَنْهُمْ".
أي عن صحبة[19]، أمالوهما إمالةً محْضة، وأبو عمرٍو وورْش يقرآنِهِما بين اللَّفظين كغيرِهِما من رؤُوس الآي، وإنَّما ذكر ذلك هُنا تَجديدًا للعهْد بما تقدَّم، وزيادةَ بيانٍ وتأْكيدًا لذلك؛ لئلاَّ يظنَّ أنَّ ضمَّ السّين مانعٌ من الإمالة لحمزة وأبي بكر، فقال: أَمْرُ الإمالة على ما سبقَ، سواءٌ في ذلك من كسَر السين وهو الكسائيُّ ومَن ضمَّها وهو حَمزة وأبو بكْر".
أقول: وإنَّما ذكر الشَّاطبي ذلك هُنا أيضًا؛ لأنَّ أبا عمرو الدانيَّ ذكَره في هذا الموضِع، والشَّاطبي كانَ قد ذكَرَه في باب الإمالة، فهو هُنا يُحيل عليه حتَّى لا يظنَّ ظانٌّ ممَّن يقف على ما في التَّيسير أنَّ الشَّاطبيَّ أخلَّ في نظمِه بشيء ممَّا ذكرَه الدَّاني.
وفي هذا مزيدُ فضلٍ من الإمام الشَّاطبي - رحِمه الله - فإنَّه يسَعُه أن يترُك مثل هذه الإشارة إذا خالفَ ترْتيب الإمام الدَّاني، كما فعل في مواضعَ أُخرى منها الكلام على إمالة "أعمى" و "نأى"، والله أعْلم.