ابن الجزري وبعض كتب القراءات الكبار

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد،
فإن كتاب النشر في القراءات العشر - كما قال فضيلة الشيخ الضباع رحمه الله -:
سِفْرٌ جلَّ قدره، وفاح بين الأنام عِطْرُه، وعزَّ على الزَّمان أن يأتي بمثله، وعجزتِ الأقلام عن حصْر فضله، فهو كتاب حقيقٌ أن تشدَّ إليه الرِّحال؛ لما حواه من صحيح النّقول وفصيح الأقوال، جَمع فيه مؤلِّفه - رحمه الله تعالى - من الرِّوايات والطُّرُق ما لا يعْتوره وهن، ولا يتطرَّق إليه شكّ ولا طعن، على تواتُر مُحْكم، وسند متَّصل معْلم، فهو البقيَّة المغْنية في القراءات، بما حواه من محرّر طرق الرِّوايات، وهو البستان الجامع والرَّوضة الزاهية، والإرشاد النَّافع والتذكرة الواقية.
هذا إلى ما انطوى في ثناياه من علوم الأداء، الجارية في فقه اللغة العربية مَجرى الأساس من البناء، فمِن علم مخارج الحروف وصفاتها، إلى علم الوقوف وأحكامها، إلى بحوث في الإدغامين، والهمزات والياءَين، والفتح والإمالة والرسم، وفنَّي الابتداء والختم، إلى غير ذلك من:

معادنٍ يَجتليها كلُّ ذي بصَرٍ * * * وروضةٍ يَجتنيها كلُّ ذي أدَبِ
فهو سِفْر يحتاج إليه كل ناظر فيه؛ من قارئ وأديب ومؤرخ وفقيه

يُتبع ....

والذي يناسب ما أنا مُقْدم عليه هنا، أن أقول - إن كان يحق لي أن أقول -:
بل كتاب النشر في القراءات العشر هو مما يصدق فيه: كل الصيد في جوف الفرا.

وحقًّا، لقد شغل هذا الكتابُ علماء القراءات من بعده، وألهاهم عمَّا سواه، حتى تركوا أكثر ما بأيديهم من الكتب الأصيلة، وعكفوا عليه، فكان حالهم في هذا كحال بني تغلب مع قصيدة عمرو بن كلثوم:

ألهى بني تغْلبٍ عن كلِّ مكرمةٍ * * * قصيدةٌ قالها عمرُو بنُ كلثومِ
يُفاخِرون بِها مُذْ كان أوَّلهم * * * يا لَلرّجال لشِعْرٍ غيرِ مذْمومِ