الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
مقصود هذه الرسالة الرد على فودة في رسالته (أهل السنة)، التي ادعى فيها أنه يبين أحق الفريقين بلقب أهل السنة والجماعة، وضمنتها أيضاً بيان مذهب الشافعية خصوصاً في المعتقد، دفعاً لما شاع وذاع اليوم أن أكثر الشافعية أشاعرة، بل ظن البعض أن الغالب على المذاهب الثلاثة سوى الحنبلي هو التمشعر، وأنه في مذهب أحمد قليل. والصواب أن الغالب على المذاهب الأربعة حتى القرن الخامس بل إلى زمن ابن عساكر رحمه الله هو القول بالسنة بفضل الله جل وعلا.
ويكفي أن تعلم أن أبا الطيب الباقلاني كين يتستر هو وأصحابه بمجالسهم ولا يظهرونها، ولعله يأتي معنا النقل لاحقاً لما يؤيد ذلك.
وقد صرح فودة في أول رسالته أن مقصوده من رسالته هو : هل اعتقاد شيخ الإسلام ابن تيمية واعتقاد الأشاعرة يندرج تحت (باب) واحد أم لا ؟ (كذا عبر فودة، أي بلفظ باب)
وهو خلاف الظاهر من عنوان رسالته الموهمة بأنه سيبين من هم أهل السنة والجماعة.
وقد فرض فودة خلافاً بين طائفتين هم الأشاعرة والسلفيون، لكنه قال : (والحقيقة أنني قد كتبت حول هذا المعنىكلاما مفصلا وعددت فيه كثيرا من المسائل التي تبين وجوه الخلاف الحقيقية في كثير منالأصول بين ابن تيمية وأتباعه ولنسميهم ( التيميين) من جهة ، وبين سائر الأشاعرة من جهة أخرى ، كائنا من كان منهممستحقا اسم أهل السنة والجماعة.)
لكن اختياره لتسمية شيخ الإسلام ومن وافقه في المعتقد بـ (التيميين) خطأ من جهة إيهام أن أو من قال بهذه المعتقدات مجموعة هو شيخ الإسلام، مع أن فودة يصرح بأن شيخ الإسلام كثير المتابعة لعثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله، كما أنهم يصرحون بأن كثيراً ممن تقدم شيخ الإسلام قد سبقوه إلى ما قال، ويسمونهم مشبهة، كالسجزي رحمه الله صاحب رسالة (إثبات الحرف والصوت) وقبله إمام الأئمة ابن خزيمة الذي يسمون كتابه (كتاب الشرك)، ولهذه الطائفة اسم ارتضته لنفسها واشتهر عنها، فكانت الإحالة إليه أولى، وهو (السلفية) أو (السلفيون).
فإن قال: أنا لم اطلق عليهم هذا الإسم لما فيه من إيهام أنهم متابعون للسلف الصالح، وأنا لا أقر ذلك. قيل له: إن هذا لا يضر، فإن اسم (الأشاعرة) موهم لاتباع أبي الحسن الأشعري والخصم لا يسلم هذه المتابعة، ولا ينكر نفس التسمية. وهذا كالمتفق عليه، فإنا نقول: الجعفرية والزيدية والإسماعيلة لطوائف من الشيعة مع اعتقادنا أنهم لم يتابعوا أحداً ممن انتسبوا إليه.
فإن قال: لكن شيخ الإسلام قد خالف من تقدمه بأقوال لم نراهم قالوا بها، كمسألة قدم النوع وتسلسل الحوادث ـ وهما مسألة واحدة ـ وفناء النار، وقيام الحوادث في الذات.
قيل له : لا نسلم أنه خالفهم في شيء من ذلك، وعلى تسليمه، فإن من سميتهم بالتيميين لا يوافقونه على جميع ذلك، فمنهم من صرح بتخطئته في مسألة فناء النار والقدم النوعي. فلماذا ألصقتهم به في التسمية ؟
فإن قال : لأنهم يوافقونه في مجمل اعتقاده وأن خالفوه في مسائل معينة.
قيل له : فهلا قلت في شيخ الإسلام ما قلته في من تسميهم بالتيميين، أي أن مخالفته لمن تقدم في بعض المسائل لا تضر لموافقته لهم في مجمل اعتقادهم.
ولا نطيل في هذا، المقصود أني أسمي الطائفتين هنا بالأشاعرة و السلفية لأن المقصود بهذين الإسميين معروف جلي لكل من يقرأه سواء وافق في صحة التسمية أو خالف في ذلك.
ثم تأكيداً على غرضه، وهو بيان أن شيخ الأسلام وأتباعه لا يدخلون مع الأشاعرة تحت إسم واحد قال: (وهذه المسائل الأصولمن عرفها وعرف أن الخلاف قائم بين هذين الفريقين فيها ، عرف قطعا أنه يكون منالغباء التام أن يدرج ابن تيمية والأشاعرة تحت اسم واحد،إلا إذا كان لا يعرف ما الذي يقوله، أو عرف وعرف ما يندرج تحته منتناقضات وتخابطات، ومع ذلك أصر على ما يقول، ومثل هذا لا يلتفت إليه في العلوموالمعارف، لأنه ليس منضبطا بموازين العلم الصحيحة وإن حسب نفسه كذلك.)
وهذا من تنطعه، حيث يطلق الألفاظ في أماكن التقييد، وإلا فإن اسم الإسلام والإيمان وأهل القبلة يشملهم، كما يجوز أن يندرجا تحت مسمى أهل السنة إذا أُريد به المقابلة للشيعة مثلاً. وهكذا إذا أُريد به من يدعي بناء عقيدته على السنة، سواءً كان محقاً أو مبطلاً، وهكذا يدخلان تحت مسمى الصفاتية وأهل الإثبات، ونحو ذلك.
وهناك طوائف كالمعتزلة والفلاسفة يجعلون الفريقين داخلين في مسمى المشبهة والمجسمة والحشوية.
وكان الصواب أن ينفي دخول أو اندراج الفريقين تحت مسمى معين له مفهوم معين، وذلك بأن يعطي اسماً خاصاً كـ (أهل السنة والجماعة) ويفسره ثم يقول : إن الأشاعرة والسلفيون لا يدخلون معاً تحت هذا اللقب بهذا المفهوم.
أما أن يطلق دعواه أنه لا يمكن أن يدخل شيخ الإسلام والأشاعرة تحت مسمى واحد ويتشدد ويتنطع في دعوة استحالة ذلك حتى يرمي من يدعي جوازه بأنه ممن لا يُلتفت إليه في العلوم والمعارف وعدم الإنضباط بموازين العلم الصحيح، فهذا من جهله، ولولا أن للرجل أتباع يظنون فيه الظن الحسن ما تعانيت الرد عليه.
ثم ما هي هذه الضوابط والموازين المانعة من اندراج شيخ الإسلام والأشاعرة تحت مسمى واحد ؟
لا شيء سوى الدعوى المجردة.
ثم شرع في موضوع رسالته، وهو بيان عدم اندراج السلفيين والأشاعرة تحت مسمى واحد، ومقصوده هنا مسمى أهل السنة والجماعة، ولما كان محتاجاً أولاً لبيان معنى هذا اللقب قال: (أول ما نتكلم عليهباختصار هو مفهوم اسم أهل السنة والجماعة)أي قارئ يتوقع بعد هذه العبارة أن يأتي فودة بتفسير أو تعريف يوضح معنى اللقب من جهة مفرداته أولاً، ومن جهة مفهومه العام ثانياً، ثم ما يمتاز به أصحاب هذا اللقب من عقائد. وبعد ذلك يشرع في بيان اعتقاد الأشاعرة واعتقاد السلفيين ومدى مطابقة عقيدة كل طائفة لمفهوم اللقب الذي شرحه.
لكن تعال واقرأ معي ماذا قال فودة في مفهوم اسم أهل السنة والجماعة.
قال فودة : (إن اسمأهل السنة والجماعةأطلق في التاريخ على طائفة من الناس اشتركوا في أصول معينة،وأجمعوا على أقوال محددة)
أي شيء يمكن أن يُسْتَفاد من هذا الكلام ؟
لا شيء.
فإن السلفية إسم أطلق على طائفة من الناس اشتركوا في أصول معينة، وأجمعوا على أقوال محددة.
الأشاعرة أيضاً إسم أطلق على طائفة من الناس اشتركوا في أصول معينة، وأجمعوا على أقوال محددة.
وكذلك المعتزلة والجهمية والسالمية والكرامية والمقاتلية بل والفلاسفة والباطنية بل والدهرية وكل طائفة في الدنيا لها إسم يجمعها تحت أصول وأقوال محددة.
بعدد تشدده وتعنته في كون شيخ الإسلام والأشاعرة لا يمكن أن يندرجا تحت مسمى واحد، عاد فأعطى لإسم أهل السنة مفهوماً يندرج فيه شيخ الإسلام والأشاعرة ومعهم جميع الطوائف في الدنيا بدأ ظهور الطوائف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها !
فلنقوم نحن بما كان يتوجب على فودة في رسالته فنقول:
أهل السنة والجماعة لقب يتكون من ثلاث مفردات أهل والسنة والجماعة. والسنة الطريقة، والمراد بها هنا طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كل ما نقل لنا عنه من فعله وقوله وتقريره. و(أهل) باعتباره مضاف إلى السنة بمعنى من يدين بها، كما تقول: أهل الإسلام من يدين به، وأهل المذهب من يدين به. والجماعة كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (هم الجماعة) يراد به السواد الأعظم وجماعة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في بعض الروايات (هم السواد الأعظم) و (هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ولا خلاف بين الروايات لكون الجماعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا إلا نفس رسول الله صلى عليه عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهم في ذلك العهد السواد الأعظم بلا خلاف.
ويدخل معهم القرون الثلاثة المفضلة، لثنائه صلى الله عليه وسلم عليها.
وعليه فمعنى أهل السنة والجماعة من دان بالسنة ودان بدين الجماعة أو بمتابعة الجماعة الذين هم السلف الأول رضي الله عنهم.
فإذا أردنا المقارنة لنعرف أي الفريقين أولى بهذا الإسم، فحينئذٍ ننظر إلى أصول اعتقاده ونقارنه بما جاء في الكتاب والسنة وبأقوال السلف الصالح، فما وافقها فهو اعتقاد أهل السنة والجماعة، وما خالفها فهو على خلاف ذلك، وهو حينئذٍ من دين أهل الأهواء والبدع.
ثم ذكر كلاماً ساذجاً لا حاصل تحته، نذكره فقط ليرى الناس مبلغ علم الرجل، حيث قال : (وهذا الاسم لا يستطيعأحد أن يقول إنه قد ورد نص من الرسول على أنه يجب أن يطلق على هذه الطائفة،وبالتالي فهو لا يمكن أن يكون إلا اصطلاحا منهم أو من غيرهم على تسميتهم كذلك. وذلكتبعا لما لوحظ عليهم من اشتراكهم على هذه الأقوال. ولذا فإن انتسابالواحد إلى الطائفة التي يقال عليها أنها أهل السنة والجماعة لا يدخله الجنة لمجردذلك، ولا يكون خروج أحد من هذه الفرقة حكما عليه بالدخول قطعا في النار هذا الأمر يجب أن يدركه كل واحد من الذين يتصدون للكلام على مثلهذه المباحث)
ما الفائدة التي يمكن تحصيلها من هذا الكلام ؟ إن هذا الكلام أشبه بقول الشاعر
الليل ليل والنهار نهار***والأرض فيها الماء والأشجاروقول الآخر:
كأننا والماء من حولنا***قومٌ جلوس حولهم ماءفإن هذا الذي يوجب على الناس إدراكه ، مُدْرَكٌ بالبديهة، إذ لا يقول عاقل أن مجرد الإنتساب إلى طائفة بمجرد الإسم يجعلنا مستحقين لما تستحقه هذه الطائفة من الأحكام. لكن هكذا قضى الله، أن يكون لمثل هذا الرجل أتباع يلقبونه بالعلامة النظار!!
ثم زعم أن إسم أهل السنة والجماعة لم يتنازعه إلا الأشاعرة والسلفيون وقال: (وإن كان النزاع محسوما في سائر العصورلصالح السادة الأشاعرة. فالعلماء قداتفقوا على أن الأشاعرة هم الممثلون الحقيقيون للسنة والجماعة وأنها الفرقة التيكشفت عن حقائق هذا الدين مما أهلها لن ينضم تحت لوائها جماهير علماءالإسلام) ثم نقل عن السبكي والزبيدي والخيالي والكستلي ما يؤيد به دعواه.
وهذا تناقض واضح، حيث زعم وجود نزاع بين السلفيين والأشاعرة في الأحقية المتعلقة باللقب، ثم زعم وجود اتفاق على من هو الأحق بهذا اللقب. فإن كان هناك نزاع، فأين الإتفاق، وإن اتفق العلماء فأين النزاع ؟
وإن قال : عنيت بالنزاع اختلاف الأشاعرة والسلفيين وبالاتفاق اتفاق علماء الأشاعرة فقط. قيل له: فهذا الإتفاق لا يحسم النزاع، وأنت زعمته محسوماً به. ثم كيف يكون مثل هذا الاتفاق معتبراً ـ وأنت العلامة النظار بحسب دعوى أتباعك ـ مع أنها مجرد دعوى من طائفة مقابلة بمثلها ؟ إذ حاصل هذه الدعوى أن الأشاعرة أحق بلقب أهل السنة والجماعة لأن الأشاعرة يقولون أنهم أحق بهذا اللقب. فحينئذٍ لو عارضه معارض بقوله : بل السلفيون أحق باللقب لأنهم يقولون أنهم أحق به. لم تزد دعواه على دعواهم شيئاً.
ثم قال : (وأوضح ـ أي الكستلي ـ هناك أنأهل الحديث ليسوا مستقلين عن أهل السنة والجماعة، والمقصود بأهلالحديث هنا الذين يعتمدون على الأحاديث ولا يلتفتون إلى النظر العقلي كثيرا فيالاستدلال على العقائد الإيمانية، فأكثر أهل الحديث يوافقون الأشاعرة والماتريديةفي العقائد، ولكن طريقة كل منهما تختلف عن الآخر في طرح وشرح هذه العقائد، وهذاكما تعلمون ليس خلافا جوهريا يكفي للقول إن هناك عقيدة خاصة بأهل الحديث. بل إن اهل الحديث في الحقيقة موافقون للأشاعرة، لايخالفونهم وإن خالفوهم لم يلتفت إليهم من حيث هم أهل حديث، بل ينظر إليهم على انهمفرقة أخرى)
انظر كيف قرر أولاً أن أهل الحديث ليسوا طائفة أخرى غير أهل السنة، ثم أتبع ذلك بدعوى أن أكثر أهل الحديث يوافقون الأشاعرة والماتريدية في العقائد. فحكم أولاً أن أهل الحديث هم أهل السنة، وثانياً بأن أهل الحديث هم أشاعرة. فحسم الخلاف بمجرد الدعوى كما فعل سابقاً في دعوى وجود الاتفاق على أن الأشاعرة هم أهل السنة.
وزاد ضغثاً على إبالة حيث زعم أنه عل فرض وجود خلاف بين أهل الحديث لم يلتفت إلى أهل الحديث من حيث هم أهل حديث، بل ينظر إليهم على أنهم فرقة أخرى !! وهذا الكلام على ركته وسخافته يعود على دعواه بالنقض؛ حيث زعم أولاً أن أهل الحديث ليسوا طائفة أخرى غير أهل السنة، ثم فرض وجود خلاف بينهم وبين الأشاعرة الذين هم أيضاً أهل سنة، ثم رأى أنه على فرض وجود ذلك الخلاف، فلا التفات إلى قول أهل الحديث، وكل ذلك بمجرد الدعوى.
فأنت ترى أن مستند الرجل في كامل رسالته هو الدعوى، وإذا أراد أن يدعمها ويقويها زاد دعوى أخرى وأتبعها بأخرى وهكذا، أما البرهان، فحاشاه أن يلجأ إليه.
لكن أحب أن أنبه هنا أن إسم أهل الحديث إذا أُطلِقَ في كتب العقائد لا يراد به رواته فقط، بل والعاملين به، لذا يقول علي بن المديني في قوله صلى الله عليه وسلم (إلا واحدة) هم أهل الحديث، ومثله أحمد بن حنبل، وصنف الأئمة عقائداً وكتباً باسم أهل الحديث، ككتاب (الإنتصار لأصحاب الحديث) للإمام السمعاني، وأئمته معروفون يذكرون بأسمائهم، على رأسهم أحمد بن حنبل وأبو نعيم وابن راهويه وابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي والبخاري والرازيان وغيرهم كما سيأتي.
وقد يطلق اسم أهل الحديث ويراد به العارفين به رواية ودراية، لا مجرد أن يكون روى شيئاً من الحديث ولو كان ثقة في نفسه، لذا تجد في عبارات الجرح والتعديل (لم يكن يعرف الحديث) و(لم يكن يُعْرَفُ بالحديث) و (ليس من أهل هذا الشأن) وغير هذه العبارات في رواة الحديث، فلا يعد كل من روى حديثاً من أهل الحديث، بل المكثر منه العارف به.
فقول فودة : (فأنت تعلم أيها القارئ أن كثيرا منالكرامية قد اشتغلوا بالحديث بل واشتهروا بالزهد ، ولكن مع هذا فقد خالفوا عقائدأهل السنة والجماعة في قولهم إن الله تعالى جسم، وإنه تعالى على العرش إما بمسافةأو بلا مسافة أي بمماسة، كما يجلس الواحد منا على كرسيه، فهؤلاء من الفرق المبتدعةالتي لا يلتفت إلى خلافهم من حيث العقائد. وهم ليسوا من أهل السنة والجماع)
فهذا من جهله وجرأته على الدعوى بلا برهان، وإلا فإن الذين تعانوا الحديث من الكرامية هم أقل القليل، وأنا لا أعرف الساعة منهم سوى محمد بن أحمد بن علي أبو عبد الله المجاشعي الهروي، ذكره ابن عساكر رحمه الله في (تاريخه) 51/ 90 وزعم أنه كرامي، أما البستيغي ونحوه، فإنه ليس من أهل الحديث، لكنهم عرفوا بالزهد والعبادة.
لكن فودة أراد أن يزهد في أهل الحديث، ويقلل من شأن مخالفتهم، عامله الله بما يستحق.
وزعم أن ممن وافق الكرامية الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، وذكر اعتماد شيخ الإسلام عليه وقال : (وفي الواقع فما هو إلا أحد أكبر زعماء المجسمة)
ولا يخفى على المشتغل بالحديث الناظر في كتب التراجم أن أئمة الجرح والتعديل لم يتركوا أحد فيه بدعة، إلا وذكروه بها وحذروا منه، حتى في المسائل المختلف فيها كنحو اللفظ، حتى تكلموا في البخاري ومسلم وغيرهم كالحارث المحاسبي والكرابيسي والقلانسي داود الظاهري من أجلها، ولم يسكتوا حتى عمن تكلم في فتنة القول بخلق القرآن مضطراً نحو علي بن المديني وابن معين، فإذا كان عثمان بن سعيد الدارمي مبتدعاً أي بدعة كانت، فضلاً عن أن يكون من كبار المجسمة، بل من أكبر زعماء المجسمة، لما تركوه من غير نبزٍ له بما يبين ذلك. لكن الذي في كتب التراجم هو مطلق الثناء عليه:
قال أبو الفضل يعقوب الهروي: (ما رأينا مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى هو مثل نفسه)
وقال الحافظ أبو حامد الأعمش : (ما رأيت في المحدثين مثل محمد بن يحيى، وعثمان بن سعيد، ويعقوب الفسوي)
وقال أبو داود السجستاني: (منه تعلمنا الحديث)
وقال محمد بن المنذر شكر: سمعت أبا زرعة الرازي، وسألته عن عثمان بن سعيد، فقال: (ذاك رزق حسن التصنيف)
وقال ابن الجوزي : (إمام عصره بهراه)
وقال الإمام الذهبي : (الإمام، العلامة، الحافظ، الناقد، شيخ تلك الديار)
وقال رحمه الله : (قلت: كان عثمان الدارمي جذعا في أعين المبتدعة)
وقال ابن عبد الهادي : (الإمام الحافظ شيخ الإسلام)
وقال الصفدي : (وكان جذعاً في أعين المبتدعين)
هذا هو الدارمي في كتب الرجال والتراجم، كان جذعاً في أعين سلف فودة من الجهمية والمعطلة، بل كان جذعاً في أعين المشبهة كالكرامية، فإنه الذي قام بإخراج ابن كرام فيما قيل.
ومن أئمتنا الشافعية المتفق على إمامتهم وجلالتهم الإمام أبو عثمان الصابوني ذكر في كتابه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث) صفحة 314 عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله من ضمن الأئمة المقتدى بهم، والمهتدى بهديهم، الذين من أحبهم فهو صاحب سنة. وبحسب قوله هذا يكون فودة ومن وافقه ممن يبغض الدارمي ليسوا أصحاب سنة، وتبين بذلك كذبه في دعواه السابقة اتفاق العلماء على أن الأشاعرة هم الممثلون الحقيقيون لأهل السنة.
وعلى قياس قول فودة، فإن الإمام الصابوني رحمه الله عنده مجسم مشبه، لاقتدائه وأخذه بهدي أحد أكبر زعماء المجسمة بحسب اعتقاد فودة.
ومن أئمة الشافعية أيضاً الإمام الذهبي رحمه الله اعتمده في كتابه (العلو للعلي الغفار) فقال رحمه الله : (ذكر ما قاله الأئمة عند ظهور الجهم ومقالته) ثم عددهم طبقة طبقة حتى وصل إلى عثمان بن سعيد الدارمي ونقل عن كتابه (الرد على بشر المريسي) قوله : (قد إتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سمواته) فهو عنده من الأئمة الذي يؤخذ بقولهم في الاعتقاد. وقد تقدم وصفه له بالإمام العلامة وأنه كان جذعاً في أعين المبتدعة.
يتبع ...