الرقابة على التراث ، للشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين . أما بعد :
فقد دعاني ما كتبته عن (( تحريف النُّصوص )) إلى هذا الخطاب متضمناً الدعوةَ إلى : ( الرقابة على التراث ) معروضاً على أنظار علماء العصر وأساتيذه ، ومن شاء الله من النبهاء الفضلاء على مرِّ الزمان في كل مكان ، فأقول :
لقد فضَّل اللهُ المسلمين على الكافرين بنعمٍ عظيمة ، وآلاء جسيمة ، من أجلِّها (( نعمة التراث )) في شتَّى العلوم والمعارف الإسلامية ، مما خطَّتهُ أقلام المسلمين ، وانفتقت عنه المفاهيم في نصوص الوحيين الشريفين ، وما تفرَّع عنهما ، وما دلاَّ عليه من علوم شتى ، ومعارف جُلَّى ، بقي منها على الرُّغم من عاديات الأيام نحو (( 3.000.000 )) ثلاثة ملايين (( مخطوط )) في نحو (( 2.000 )) ألفي مكتبة من مكتبات العالم .
ويوجد مجموعة كبيرة من فهارس هذه المكتبات في المكاتب العامَّة بالجامعات ، والمجامع العلمية .
هذا العدد التقريبي للتراث الإسلامي ، المحفوظ في (( خزائن العالم )) : تميَّز به المسلمون مع تطاول القرون على أمم الأرض كافة .
فهو في تميُّزِه :
يُكّوِّن في حياة من ألَّفه ، وانفتقت عنه قريحته :
ديناً يتقرب به إلى الله تعالى .
وعلماً ينتفع به من شاء الله من عباده " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " ، و " رب مبلغ أوعى من سامع " .
وحملاً للدعوة إلى الله تعالى .
وبلاغاً إلى قومٍ آخرين .
ولم يحصل لهم هذا التميُّز إلا بعد جهدٍ جاهدٍ من الطلب والتحصيل وسعة معارفهم وعلومهم ، وتعددها ، محفوفةً بسداد كلامهم ، وسلامة منهجهم ( رحمة الله عليهم أجمعين ) .
ويُّكوِّن هذا (( التراث )) في حياة المسلمين : أمانةً تحت أيديهم هم مستحفظون عليها ، ولعلمائهم العاملين حقّ القوامةِ عليها بحملها وتبليغها من بعدهم ؛ لقول انبي – صلى الله عليه وسلم - : " يحمل هذا العلم من كلِّ خلفٍ عدوله ؛ ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين " .
وإذا كان ما روي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – مرفوعاً : " اتقوا الله في الضعيفين : المملوك والمرأة " روه ابن عساكر بسندٍ ضعيفٍ : تفيده نصوص الشريعة الأخرى ، وكلياتها الجامعة ، فإن رعاية حرمةِ التراث تُدَاخِلُ كلَّ واحدةٍ من الضروريات الخمس ، التي بُنِيَت عليها الملة ، ودعت إلى حفظها :
• فأولى الضروريات : المحافظة على الدين ، وهذا التراث من لُباب الديانة .
• والثانية : المحافظة على النفس ، وهذا التراث نتاجُ عقولِ المسلمين ونسلُ قلوبهم :
ما نَسْلُ قَلْبي كَنَسْلِ صُلْبِي * مَنْ قَاس رُدَّ لَهُ قِيَاسُه
• والثالثة : المحافظة على العقل ، وهذا التراث : غذاُ عقولها .
• والرابعة : المحافظة على العرض ، وهذا التراث : عِرْضُ الأمة .
• والخامسة : المحافظة على المال ، وهذا التراث كَنْزٌ لَهَا .
وما حقُّ التأليف عن الذهن ببعيد .
فحقيقٌ أن يكون أهلُ الإسلام لهذا التراث ، كالجسد الواحد ، إذا نيلَ من كتابٍ واحد ، هرعوا لكفِّ العدوان ، وصدِّ المعتدين .
وتراثٌ هذه منزلته الكبيرة ، ودرجته الرفيعة ، يالله ! كم يفرحُ المسلم ، إذا فُتحت خزائن الكتب في ديار المسلمين ، وجُلبت إليها المخطوطات ، أو مصوراتها من أنحاء العالم .
وكم يبتهج إذا وضعت الفهارس لمكتبات العالم ، وطُبعت وصار ما تناثر منها في أرجاء الدنيا في زاوية من مكتبته .
وكم ينعم المسلم ، إذا رأى لافتةَ هيئةٍ تُساعد المحققين على حِرْفَتِهِم الشاقة ، ورحلتهم المضنية في إخراج التراث .
وإذا رأى مطبعةً تديرها أيدٍ غنيةٍ ، قادرة ، أمينة .
وإذا قامت مصلحةٌ حكومية ، أو خيرية ، تعتني بتمويل الكتاب ونشره للناس .
أمَّا إذا نُفِضَ غُبار الزمن عن (( مخطوط )) ، وتداوله الناس مطبوعاً ، فهذه نعمةٌ كبرى ، تحوي مجموعةَ آلاء :
• إنقاذ المخطوط ونشر ما فيه .
• واستشعار عظمة الماضين .
• وانتفاع مَنْ شاء الله من عباده به .
• وتقوية إعداد الأمة في الحاضر .
• ومدّ آمالها المستقبلية على جسورٍ من العلم والمعرفة .
• وتحريك الهمم ، وشحذ الذهان بالعلم والبحث .
****