رد: ومع ذلك .. فقد أسلموا
فذاب سهيل ومن معه خجلاً وحياءًا من أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم ورحمته التى تجعل العقول تطيش من الحيرة وتجعل الألسنة لا تملك أن تقول كلمة واحدة .
امتلأ قلب سهيل بحب النبى صلى الله عليه وسلم والرغبة فى الإسلام فأرسل سهيل إلى ابنه عبد الله (أبو جندل) ليستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه فخرج إلى حنين مع رسول الله r وهو على شركه حتى أسلم بمنطقة تسمى الجعرانة ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ مائة من الإبل من غنائم حنين[1].
وما إن لامس الإسلام شغاف قلب سهيلحتى حاول أن يعوض ما فاته وقلبه يعتصر ألمًا على كل لحظة قضاها بعيدًا عن طاعة الله. إن العناد والمكابرة والحرب قد غطوا أعين هؤلاء القوم فلما أزيل الغطاء انكشفت حقيقة الإيمان أمام أعينهم وشعروها فى قلوبهم .
وشهد له الصحابة ومن بعدهم قائلين فى حقه : ( لم يكن أحد من كبراء قريش الذين تأخر إسلامهم فأسلموا يوم فتح مكة ، أكثر صلاة ولا صومًا ولا صدقة ولا أقبل على ما يعنيه من أمر الآخرة، من سهيل ابن عمرو ، حتى إن كان لقد شحب لونه. وكان كثير البكاء رقيقًا عند قراءة القرآن . لقد رُئى يختلف إلى معاذ بن جبل حتى يقرئه القرآن وهو بمكة ، فقال له رجل : تذهب إلى معاذ ؟!
أفلا ذهبت الى رجل من أهل قريش يعلمك ؟
فقال سهيل : هذا الذى صنع بنا ما صنع حتى سبقنا كل السبق ، أى لعمرى اختلف إليه لقد وضع الإسلام أمر الجاهلية ، ورفع الله بالإسلام قومًا كانوا لا يُذكرون فى الجاهلية فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا)[2] .
ومضى سهيل يشق طريقه الى جنة الرحمن ، وإلى تعويض ما فاته .. وإذا به يقول قولته الشهيرة : ( والله لا أدع موقفًا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقةً أنفقتها مع المشركين إلا أنفقتُ على المسلمين مثلها، لعل أمرى أن يتلو بعضه بعضًا)[3].
ولما مات النبى صلى الله عليه وسلم وأخذت القبائل ترتد عن الإسلام فأراد أهل مكة أن يحاكوا هذه البلاد المرتدة فقام سُهيل بن عمرو يثبت قومه وقال لهم يا أهل مكة كنتم آخر الناس دخولا فى دين محمد فلا تكونوا أول الناس خروجًا منه ... ثم قال لهم : ( مَنْ كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَنْ كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت)[4].
وظل سهيل على الخير والإيمان كثير الصلاة والصيام والصدقة بكاء عند كتاب الله ، وخرج بجماعته الى الشام مجاهدًا ، يضرب أعداءه وكان فى اليرموك أميرًا على كُرْدُوسٍ[5] .
وظل مرابطًا بأرض الشام متذكرًا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مقام أحدكم فى سبيل الله ساعة من عُمره خيرٌ من عمله عمره فى أهله ) قال سهيل : فإنما أرابط حتى أموت ، ولا أرجع إلى مكة ، فلم يزل مقيمًا بالشام حتى مات فى طاعون عمواس[6] .وقد قال صلى الله عليه وسلم : (الطاعون شهادة لكل مسلم )[7].
فرضى الله عن سهيل بن عمرو ..
وأما الحارث بن هشامفظل محاربًا للمسلمين حتى يوم فتح مكة، إذ علم أنه من أوائل المطلوبين فاستجار بأم هانئ بنت أبى طالب فأجارته فأراد أخوها قتله فذكرت ذلك للنبى قائلة : زعم فلان- تقصد أخاها - ألا إجارة لى ، فقال e : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) .
وكانت دهشته لا تقدر إذ صعد بلال بن رباح رضي الله عنه فوق الكعبة قارعًا أذانهم بقوله : جاء الحق وزهق الباطل .. إن الباطل كان زهوقا .
وكان الحارث يقول : يا ليتنى مت قبل هذا ولم أشهد هذا اليوم .
ولما قيل للحارث بن هشام : ألا ترى ما يصنع محمد من كسر الآلهة ونداء هذا العبد الأسود على الكعبة ؟!
فقال الحارث : إن كان الله يكره هذا ، فسيغيره ..
وأخذت قلوب أئمة الكفر تفكر فى الإسلام خاصة وإن النبى عليه الصلاة والسلام عفا عنهم وأعطى الكثير منهم الأمان فى داره وفى المسجد ..
وكان الحارث ممن أسلم يومذاك ، ثم كانت غزوة حنين بعدها فتألف النبى صلى الله عليه وسلم قلوب هؤلاء القوم فأعطاهم حتى رضوا. وأعطى للحارث يومها مائة من الإبل فكُسرت شوكة العداء والعناد فى قلبه ثم رويدًا رويدًا أخذت تعاليم الإسلام تشق طريقها الى قلب الرجل فنما زرع الإيمان فى قلبه فحسن إسلامه رضي الله عنه ثم هاجر الحارث إلى الشام فى عصر عمر رضي الله عنه ، فلم يزل مجاهدا ، حتى كان يوم اليرموك فقال عكرمة بن أبى جهل : من يبايع على الموت فبايعه مائتان من الرجال على الشهادة فى سبيل الله . وأخذ الأبطال يتساقطون على الأرض وتصعد أرواحهم الى السماء ...
[1] ) الطبقات لابن سعد 7/284 .
[2] ) صفة الصفوة 1/314 .
[3] ) الإصابة للحافظ ابن حجر 3/178 .
[4] ) رواه البيهقى فى الدلائل – نقلا من الإصابة لابن حجر 3/178 .
[5] ) الطائفة العظيمة من الخيل والجيش – والجمع كراديس .
[6] ) الإصابة لابن حجر 3/178 .
[7] ) متفق عليه عن أنس – صحيح الجامع 3947 .
رد: ومع ذلك .. فقد أسلموا
وكان من بين هؤلاء الحارث بن هشام استشهد باليرموك وسجل التاريخ له موقفًا عظيمًا فى الإيثار قبل موته ، إذ جاءه رجل يريد أن يسقيه ماءً - وهو فى النزع الأخير - فسمع أنين عكرمة فآثره على نفسه وقال اذهبوا الى عكرمة . فذهبوا إلي عكرمة بالماء فسمع أنين عياش بن ربيعة فأشار أن اذهبوا الى عياش ، فذهبوا الى عياش فوجدوه قد فارق الحياة ، ثم رجعوا الى عكرمة فوجدوه قد فارق الحياة ، ثم رجعوا الى الحارث فوجدوه قد مات .
فرضى الله عن الحارث بن هشام ...
وأما صفوان بن أمية فلم يزل محاربًا لله ورسوله فى سره وعلانيته خاصةً وأن أباه أميّة بن خلف قد لقي مصرعه في بدر ..
وبلغ من عداء صفوان للنبى صلى الله عليه وسلم أن جلس يومًا مع عمير بن وهب فتذاكرا قتلى بدر . فقال صفوان: والله ما في العيش خير بعدهم .
وقال له عمير: صدقت، ووالله لولا دينٌ عليّ لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت الى محمد حتى أقتله.
ثم أتبع عمير قائلا : أقول لمحمد قدمت من أجل ابني الأسير عندكم.
فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك، أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا..
فقال له عمير: إذن فاكتم شأني وشأنك ...
ثم أمر عمير بسيفه فشُحذ له وسُمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة.
فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلمقال له : ما جاء بك يا عمير..؟؟
قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم.
قال النبي: فما بال السيف في عنقك ؟
قال عمير : قبّحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا ؟
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدقني يا عمير، ما الذي جئت له ؟
قال : ما جئت الا لذلك.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : بل قعدت أنت وصفوان بن أميّة في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت، لولا دينٌ عليّ، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك ..
وعندئذ صاح عمير : أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أنك رسول الله، هذا أمر لم يحضره الا أنا وصفوان، فوالله ما أنبأك به الا الله، فالحمد لله الذي هداني للاسلام . وأمر النبى صلى الله عليه وسلمأصحابه قائلا : فقّهوا أخاكم في الدين ، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ..
ولا يزال صفوان على عناده حتى يوم الفتح العظيم، راح عمير بن وهب يُناشد صفوان الإسلام ويدعوه إليه، بيْد أن صفوان شدّ رحاله صوب جدّة ليبحر منها إلى اليمن ، فذهب عمير الى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له : ( يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه ، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر ، فأمِّـنه ) .
فقال النبي : ( هو آمن ) .
قال : ( يا رسول الله أعطني آية يعرف بها أمانك ) ، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلمعمامته التي دخل فيها مكة .
فخرج بها عمير حتى أدرك صفوان فقال : ( يا صفوان فِداك أبي وأمي، الله الله فى نفسك أن تُهلكها، هذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلمقد جئتك به) .
قال له صفوان : ( وَيْحَك ، اغْرُب عني فلا تكلمني ) .
قال : ( أيْ صفوان فداك أبي وأمي ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلمأفضـل الناس وأبـر الناس ، وأحلـم الناس وخيـر الناس ، عِزَّه عِزَّك ، وشَرَفه شَرَفـك ) قال : ( إنـي أخاف على نفسـي ) .
قال : هو أحلم من ذاك وأكرم ) .
فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم : (إن هذا يزعم أنك قد أمَّـنْتَني ) .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( صدق ) .
قال صفوان : ( فاجعلني فيها بالخيار شهرين ) .
فقـال الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر .
و لمّا أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلمالسير إلى هوازن ليلقاهم ، ذُكِرَ له أن عند صفوان بن أمية أدراعًا له وسلاحًا ، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك، فقال : ( أعرنا سلاحك هذا نلقَ فيه عدونا غدًا ) .
فقال صفوان : ( أغصبًا يا محمد ؟) .
قال : ( بل عارِيَةٌ ومضمونة حتى نؤديها إليك ) .
قال : ( ليس بهذا بأس ) .
وقد هلك بعضها فقال رسول الله : ( إن شئت غَرِمتُها لك ؟) .
قال : لا .
وبعد غزوة حنين كانت الغنائم هائلة ، فأخذ صفْوان ينظر إلى شِعْبٍ ملآن نَعماً وشاءً ورعاءَ ، فلمحه رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال :
( يُعْجِبُـكَ هذا الشّعْبُ ؟)
قال : ( نعم ) .
رد: ومع ذلك .. فقد أسلموا
قال : ( هو لك وما فيه ) .
فقبض صفوان ما في الشّعْب و قال : ( ما طابتْ نفسُ أحدٍ بمثل هذا
إلا نفسُ نبيّ ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبدُهُ ورسوله ). وأسلم في مكانه .
وأقام صفوان بمكة مسلمًا بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى المدينة .
فقيل له : ( لا إسلام لمن لا هجرة له ) .
فقدم المدينة فنزل على العباس، فقال : ( ذاك أبرَّ قريش بقريش، ارجع الى مكة ، فإنه لا هجرة بعد الفتح . ومن لأباطحِ مكة ؟! ) .
فرجع صفوان فأقام بمكة فكان صفوان أحد كرماء مكة المطعمين، وكان يُقال له : ( سِداد البطحاء) . وحسن إسلامه واستخدم لسانه الفصيح الذى لطالما آذى به المسلمين ، فاليوم هو يستخدمه فى نصرة دين الله ، وظل الرجل على دينه القويم حتى مات رضي الله عنه كريمًا حميدًا .
فرضى الله عن صفوان بن امية ...
وهكذا أسلم الثلاثة رجال وحسن إسلامهم وتاب الله عليهم لتتقرر القاعدة أن الله يهدى من يشاء ويضل من يشاء ..
وإن العجب ليشتد فى أمر هؤلاء ...
كيف كان البدء ..
ثم كيف صار الختام .
رد: ومع ذلك .. فقد أسلموا
"الكاتب يكتب أشياء نعرفها جميعا...فقط لا نعرف أننا نعرفها "
أورهان باموك