سلسلة دروس في مصطلح الحديث
الصحيح
الحديث الصحيح: هو ما اتصل إسناده برواية عدلٍ تمَّ ضبطهُ عن مثلهِ إلى منتهاه، ولم يكن شاذاً ولا معلاً.
فيظهر من هذا التعريف أن شروط صحة الحديث خمسة :
الأوّل : الاتصال ، وهو سماع الحديث لكل راوٍ من الراوي الذي يليه .
ويعرف الاتصال بأحد أَمرين :
الأول أن يصرح الراوي بإحدى صيغ السّماع كأن يقول الراوي : حدثنا ، أو حدثني ، أو أَخبرنا ، أو أخبرني ، أو أَنبأنا ، أو أنبأني ، أو سمعت ، أو قال لي ، أو قال لنا ، أو نحوها من صيغ السماع .
الثاني : أن يأتي الراوي بصيغةٍ تحتمل السّماع وغير السّماع ، كأن يقول الراوي : عن ، أو أن ، أو
قال ، أو حدث ، أو روى ، أو ذكر ، وغيرها من الصيغ التي تحتمل السّماعَ وعدم السّماع .
فهنا تشترط ثلاثة أمور :
الأول : عدم التدليس .
الثاني : المعاصرة .
الثالث : ثبوت السّماع .
وقد اكتفى مسلم بالشرطين الأوليين ، أما الشرط الثالث فقد اشترطه البخاري ، وشيخه علي بن المديني ، واشتراطه قول جمهور أهل العلم .
وباشتراط الاتصال يخرج : المنقطع ، والمعضل ، والمعلق ، والمدلس ، والمرسل .
أما الشرط الثاني : فهوَ العدالة : وهي هيئة راسخة في النفس تمنح صاحبها عدم فعل الكبائر ، وَعدم الإصرار على الصغائر ، وَعدم فعل ما يخرم المروءة .
أمّا الشرط الثالث : فهو الضبط : وهو تيقظ الراوي حين تحمله وفهمه لما سمعه ، وضبطه لذلك من وقت التحمل إلى وقت الأداء .
والضبط ضبطان : ضبط صدرٍ ، وضبط كتاب ، ويلخص مما ذكر في الضبط بقولنا : أنْ يكون الراوي حافظاً عالماً بما يرويه ، إن حدث من حفظه ، فاهماً إن حدث على المعنى ، وحافظاً لكتابه من دخول التحريف أو التبديل ، أو النقص عليه إن حدث من كتابه .
وفي اشتراط الضبط احترازٌ عن حديث المغفل ، وكثير الخطأ ، وسيئ الحفظ ، والذي يقبل التلقين . وهذه الشروط ( الاتصال ، العدالة ، الضبط ) الثلاثة تتعلق بالإسناد .
أما الشرط الرابع : فهو عدم الشذوذ ، والحديث الشاذ هو الذي خالف فيه راويه من هو أوثق منه عدداً أو حفظاً .
أمّا الشرط الخامس : فهو عدم العلة هو أنْ لا يكون الحديث معلاً ، والحديث المعل هو ما اطلع فيه على علةٍ خفيةٍ تقدح في صحته ، مع أنْ الظاهر سلامة الحديث من العلة .
وينقسم الحديث الصحيح إلى قسمين : صحيح لذاته وصحيح لغيره ، فالصحيح لذاته هو ما تقدم تعريفه ، وقلنا : لذاته ؛ لأن صحته ناشئة من نفسه دون إضافة شيء .
أما الصحيح لغيره : فهو الحديث الحسن الذي ارتقى بمتابع أو شاهد .
وقد تكلم العلماء في أصح الأسانيد فقيل : أصحها الزهري ، عن سالم ، عن أبيه .
وقيل : الأعمش ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس ، عن عبد الله بن مسعود .
وقيل : مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر .
وقيل : محمد بن سيرين ، عن عَبيدة بن عمرو السلماني عن علي .
وهذه تنفع عند الاختلاف ، فما قيل فيه : أصح الأسانيد يرجح على غيره ، وكذا يعرف به صحة الحديث .
وإذا قال المحدثون : صحيح الإسناد ، أو إسناده صحيح ، فهذا معناه : أنْ الحديث قد استكمل شروط الصحةِ الثلاثةِ الأولى ، ولا يلزم منه أن يكون صحيحاً ؛ إذ قد يكون شاذاً أو معلاً فلا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن ، ولا من ضعف الإسناد ضعف المتن ، وهذا ليس على إطلاقه .
وإذا قال المحدثون : أصحُ شيءٍ في الباب فلا يعنون صحته ، وإنما يعنون أنه أمثل شيءٍ في الباب .
أما أول من صنّف في الصحيح المجرد فهو الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة المولود سنة ( 194 ه* ) ، والمتوفى سنة ( 256 ه* ) ، وقد طلب العلم صغيراً وله أحد عشر عاماً ، وكان من أوعيةِ العلم ، وكتابه أصحُ كتابٍ بعد كتاب الله ، واسم الكتاب " الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننهِ وأيامهِ " .
ويستفاد من قوله : ( الجامع ) أنه يجمع الأحكام والفضائل والأخبار عن الأمور الماضية ، والآتية ، والآداب ، والرقائق ، والتفسير .
ويستفاد من قوله : ( الصحيح ) أنه احترز عن إدخال الضعيف في كتابهِ ، وقد صح عن الإمام البخاري أنّه قال : (( ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح )) .
ومن قوله : ( المسند ) أن مقصوده الأصلي تخريج الأحاديث المتصل إسنادها بالصحابةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولٍ ، أو فعلٍ ، أو تقريرٍ ، وأنّ ما وقع في الكتاب من غير ذلك فإنما وقع تبعاً وعرضاً لا أصلاً ومقصوداً ، وذكر للاستشهاد والاستئناس ؛ ليكون الكتاب جامعاً لمعاني الإسلام .
ثمَّ تبعه بجمع الصحيح تلميذه وخريجه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النَّيْسابوري المتوفى سنة
( 261ه* ) ، وقد استفاد من شيخه البخاري ، وفاق البخاريَّ من حيث التبويب ، والترتيب ، والجمع ، والتنسيق ، وكتاب البخاري أجود من حيث الصحة على رأي الجمهور .
هل استوعب الصحيحان جميع الصحيح ؟
لم يستوعب الصحيحان جميع الصحيح ، ولم يريدا ذلك ، فقد قال البخاري : (( تركت من الصحاح لحالِ الطولِ )) ، وقال الإمام مسلم : (( ليس كل شيء عندي صحيح وَضعته هاهنا )) .
وَيوجد في كتب العلم تصحيح للإمام البخاري ومسلم لكثيرٍ من الأحاديث ، وتوجد كتب أخرى التزم مصنفوها الصحة لكنهم وقعوا في بعض الأخطاء منهم ابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن السكن ، والضياء في المختارة .
تتمة يسيرة لفك بعض قيود التعريف :
مثال الشاذ : ما رواه عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه )) فقد أخطأ عبد الواحد بن زياد وشذّ حينما جعل الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم والصواب أنه من فعله هكذا رواه سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عند ابن ماجه ( 1199 )، والنسائي في الكبرى ( 1456 )، وكذا رواه محمد بن إبراهيم ، عن أبي صالح عند البيهقي 3/45 .
وقد صرح جمع من الأئمة بشذوذ رواية عبد الواحد بن زياد منهم البيهقي في السنن الكبرى 3/45 فقال عن رواية الفعل: (( وهذا أولى أن يكون محفوظاً لموافقته سائر الروايات عن عائشة وابن عباس )) ، وكذا نقل الحكم بالشذوذ ابن القيم عن شيخه ابن تيمية في زاد المعاد 1/308 فقال : (( هذا باطل وليس بصحيح ، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها ، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه )) . وبنحو هذا قال الذهبي في الميزان 2/672 . وهذا الشذوذ في جميع المتن ، وهناك شذوذ ببعض المتن كزيادة التسمية في حديث أنس في الوضوء .
مثال المعل : مثاله ما رواه شعبة عن سلمة بن كهيل ، عن حجر أبي العنبس ، عن علقمة بن وائل ، عن أبيه : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) فقال : آمين ، وخفض بها صوته )) .
وهذا الحديث فيه ثلاث علل نص عليها البخاري فيما نقله عنه الترمذي في الجامع عقب ( 248 ) فقال : (( سمعت محمداً – يعني البخاري – يقول : حديث سفيان أصح من حديث شعبة في مواضع من هذا الحديث ، فقال : عن حُجر أبي العنبس ، وإنما هو حجر بن عنبس ، ويكنى أبا السكن ، وزاد فيه : عن علقمة بن وائل ، وليس فيه عن علقمة ، وإنما هو حجر بن عنبس ، عن وائل بن حجر ، وقال : (( وخفض بها صوته )) وإنما هو (( ومدّ بها صوته )) .
ورواية سفيان الصحيحة هي ما قال فيها : عن سلمة بن كهيل ، عن حجر بن عنبس ، عن وائل بن حجر ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : (( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) ، فقال : (( آمين )) ، ومدّ بها صوته .
أقول : ومما يرجح رواية سفيان أنه قد توبع على ذلك تابعه العلاء بن صالح الأسدي ومحمد بن سلمة قال الترمذي
: (( وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث ؟ فقال : حديث سفيان في هذا أصح ، وقال : وروى العلاء بن صالح الأسدي عن سلمة بن كهيل نحو رواية سفيان )) .
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
ولمزيد الفائدة انظر في المنقطع :
معرفة علوم الحديث: 27–29 ، والكفاية: ( 58 ت ، 21 ه* ) ، والتمهيد 1/21 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 132 ، وإرشاد طلاب الحقائق 1/180–182 ، والتقريب : 58 ، والاقتراح : 208 ، ورسوم التحديث : 71 ، والمنهل الروي : 46 – 47 ، والخلاصة : 68–69 ، والموقظة : 40 ، وجامع التحصيل : 31 ، واختصار علوم الحديث : 1/162 ، وبتحقيقي : 119 ، والشذا الفياح 1/157 ، والمقنع 1/141 ، ومحاسن الاصطلاح : 64 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/215 ، وتنقيح الأنظار : 132 ، ونزهة النظر : 64 ، والمختصر : 131 – 132 ، وفتح المغيث 1/149 ، وألفية السيوطي : 24 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 75 ، وفتح الباقي 1/204 ، وتوضيح الأفكار 1/323 ، وظفر الأماني : 354–355 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 412 ، واليواقيت والدرر 2/3 ، وقواعد التحديث : 130 ، ولمحات في أصول الحديث : 233 .
والمعضل : لقب خاص لنوع من المنقطع ، فكل معضل منقطع ، وليس كل منقطع معضلاً .
ويُعرف الإعضال بما سبق ممّا يُعرف به المنقطع ، ويتأكد ذلك بأحد أمرين :
أولاً : التأريخ ، وذلك ببُعد طبقة الراوي ، عن طبقة شيخه .
ثانياً : دلالة السبر لطرق الحديث .
ولمزيد الفائدة انظر في المعضل :
معرفة علوم الحديث : 36 ، والكفاية : (58 ت ، 21 ه* ) ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 135 ، والإرشاد 1/183 ، والتقريب : 59 ، والاقتراح : 208 ، ورسوم التحديث : 73 ، والمنهل الروي : 47 ، والخلاصة : 68 ، والموقظة : 40 ، وجامع التحصيل : 32 – 96 ، واختصار علوم الحديث : 1/167 ، وبتحقيقي : 123 ، والشذا الفياح 1/159 ، والمقنع 1/145 ، ومحاسن الاصطلاح : 67 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/215 ، وتنقيح الأنظار : 132 ، ونزهة النظر : 63 ، والمختصر: 131 ، وفتح المغيث 1 / 149 ، وألفية السيوطي : 24 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 75 ، وفتح الباقي 1/204 ، وتوضيح الأفكار 1/323 ، وظفر الأماني : 355 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 409 ، واليواقيت والدرر 2/3 ، وقواعد التحديث : 130 ، ولمحات في أصول الحديث : 235 .
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
ثالثاً _ الحديث المرسل : هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا من أجود التعاريف ؛ لأنه يعمّ ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، أو صفة ؛ فعلى هذا من عرَّفه بأنه : ما قال فيه التابعي : قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فتعريفه قاصر ؛ لأنه لا يشمل التقرير ، أو الصفة ، أو الفعل . وكذا من عرَّفه بأنه : ما سقط منه الصحابي ، فكذلك تعريفه غير جيد ؛ لأنّا لو كنَّا نعلم أن الصحابي وحده هو الساقط لما ضعفنا الحديث ، إذ العلة بالمرسل :خشية أن يكون التابعي قد سمعه من تابعي آخر ، ولا نعلم لهذا التابعي الآخر عدالةً ولا ضبطاً .
وأما التابعي الذي يروي المرسل : فهو الذي لقي بعض الصحابة ، وسمع منهم أحاديث ، ولا يشترط فيه أن يكون كبيراً كما اشترطه بعضهم .
أما التابعي الذي له رؤية لبعض الصحابة ، ولم يسمع من أحد منهم ، فهذا إذا روى شيئاً مباشرةً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فحديثه معضل ، وإذا روى شيئاً عن الصحابة فهو منقطع ؛ لأنّه ثبت له شرف التابعية ، لا أحكامها .
ومن هؤلاء : إبراهيم النّخعي ، والأعمش .
فإبراهيم النّخعي لقي عائشة ، ولم يسمع منها شيئاً ، والأعمش رأى أنساً ، ولم يسمع منه شيئاً .
وللفائدة : فإنَّ هذا التعريف للمرسل هو الذي استقر عليه الاصطلاح . أما السابقون : فكانوا يطلقون كلمة ( مرسل ) على كل منقطع .
فعلى هذا تكون طريقة تمييز المرسل بمجرد أن يعلم أنَّ الذي حدَّث به عن النبي صلى الله عليه وسلم تابعي ، وتمييز التابعين من غيرهم يعرف من كتب رجال الحديث .
حكم الحديث المرسل
اختلف أهل العلم في الاحتجاج بالمرسل على أقوال كثيرة ، أشهرها ثلاثة أقوال رئيسة :
القول الأول : إنَّ الحديث المرسل ضعيف ، لا تقوم به حجَّة . وهذا ما ذهب إليه جمهور المحدِّثين ، وكثير من أهل الفقه والأصول .
قال الإمام مسلم _ رحمه الله تعالى _ : (( والمرسل في أصل قولنا ، وقول أهل العلم بالأخبار ، ليس حجَّة )) .
وقال ابن الصلاح : (( وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل ، والحكم بضعفه ، هو الذي استقرَّ عليه آراء جماعة حفاظ الحديث ، ونقّاد الأثر ، وتداولوه في تصانيفهم )) .
وحجَّتهم : هو جهالة الواسطة التي روى المرسل الحديث عنه ، إذ قد يكون الساقط صحابياً ، وقد يكون تابعياً . وعلى الاحتمال الثاني : قد يكون ثقة ، وقد يكون غير ثقة ، قال الخطيب البغدادي : ( والذي نختاره : سقوط فرض العمل بالمرسل ، وأنَّ المرسل غير مقبول ، والذي يدل على ذلك : أنَّ إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ، ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه ، وقد بيَّنا من قبل أنَّه لا يجوز قبول الخبر إلاّ ممن عرفت عدالته ، فوجب كذلك كونه غير مقبول ، وأيضاً فإنَّ العدل لو سئل : عمَّن أرسل ؟ فلم يعدله ،لم يجب العمل بخبره ، إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره ، وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره ، وتعديله ؛ لأنَّه مع الإمساك عن ذكره غير معدل له ، فوجب أن لا يقبل الخبر عنه )) .
وقال الحافظ ابن حجر ، بعد أن ذكر المرسل في أنواع المردود : (( وإنَّما ذُكرَ في قسم المردود ؛ للجهل بحال المحذوف ؛ لأنَّه يحتمل أن يكون صحابياً ، ويحتمل أن يكون تابعياً ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً ، ويحتمل أن يكون ثقة ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي ، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق ، ويتعدد إمَّا بالتجويز العقلي ، فإلى ما لا نهاية ، وإمَّا بالاستقراء ، فإلى ستة ، أو سبعة ، وهو أكثر ما وُجدَ في رواية بعض التابعين عن بعض )) .
القول الثاني : يقبل المرسل من كبار التابعين دون غيرهم ، بشرط الاعتبار في الحديث المرسَل ، والراوي المرسِل . أمَّا الاعتبار في الحديث : فهو أن يعتضد بواحد من أربعة أُمور : أن يروى مسنداً من وجه آخر ، أو يُروى مرسلاً بمعناه عن راوٍ آخر لم يأخذ عن شيوخ الأول ؛ فيدلّ ذلك على تعدد مخرج الحديث ، أو يوافقه قول بعض الصحابة ، أو يكون قال به أكثر أهل العلم .
وأمَّا الاعتبار في راوي المرسل : فأن يكون الراوي إذا سمَّى من روى عنه لم يسمِ مجهولاً ، ولا مرغوباً عنه في الرواية . فإذا وجدت هذه الأمور كانت دلالة على صحة مخرج حديثه ، فيحتجُّ به . وهو قول الإمام الشافعي .
القول الثالث : يقبل المرسل ويحتجّ به إذا كان راويه ثقة .
وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، ورواية عن أحمد .
والقول الصحيح هو الأول ؛ لأنَّ المرسل فقد شرط الاتصال ، والاتصال شرطٌ رئيسيٌ في صحة الحديث ، وليس هناك فرق بين القول الأول والثاني ؛ لأنَّ أصحاب القول الأول متَّفِقون على أن المرسل ليس من الضعف الشديد ، يتقوى بالمتابعات والشواهد ، فالقول الثاني ليس هو ناف للقول الأول ، إلا أن الفرق أن الشافعي خصه بكبار التابعين ، وسبب جعله قسيماً للقول الأول ؛ أنَّنا لم نجد من فصَّله بهذا التفصيل الرائع ، وعُد هذا من مآثر الإمام الشافعي ، زيادة على أنَّ قضية تقوية الأحاديث تدرك بالمباشرة ، وجعل ذلك تحت قاعدة كلِّية، يتورع عنها كثير من الناس ، إذ لكل حديث حالته الخاصة لاسيما قضية تقوية الحديث بعمل أهل العلم به يتوقف فيها كثير من الناس .
مثال المرسل : ما رواه أبو داود في سننه ( 105 ) ، قال : حدَّثنا محمد بن سليمان الأنباري ، حدَّثنا كثير بن هشام ، عن عمر بن سليم الباهلي ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حصِّنوا أموالكم بالزكاة ، وداووا مرضاكم بالصدقة ، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع )) .
فهذا حديث مرسل ، فإنَّ الحسن البصري تابعي ، وقد أرسله إلى النبيصلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر عمن سمعه ، فهو ضعيف من جهة إرساله ، وعدم اتصاله .
ومراسيل التابعين كلها ضعيفة ، لكنّها تتفاوت ، فبعضها أهون من بعض ، بحسب قدم التابعي المرسل ، وكبره ، أو صغره .
فكبار التابعين : الذين أدركوا كبار الصحابة كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وأكثر روايتهم إذا سمّوا شيوخهم عن الصحابة ، وهؤلاء مثل : قيس بن أبي حازم ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق بن الأجدع ، ويندرج في جملتهم من يُطلق عليه اسم المخضرمين ، وهم التابعون الذين أدركوا الجاهلية و الإسلام ، لكنهم لم يثبت لهم شرف الصحبة ، مثل : سويد بن غفلة ، وعمر بن ميمون الأودي ، وأبي رجاء العطاردي .
فمراسيل هؤلاء الكبار أفضل من غيرهم ، واحتمال تقويتها بالمتابعات والشواهد ، أقوى وأسرع .
أمَّا الطبقة الثانية : فهم طبقة أواسط التابعين ، وهم الذين أدركوا علي بن أبي طالب ، ومن بقي حياً إلى عهده ، وبُعيده من الصحابة كحذيفة بن اليمان ، وأبي موسى الأشعري ، و أبي أيوب الأنصاري ، وعمران بن حصين ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة أُمّ المؤمنين ، وأبي هريرة ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عباس ، ووقع سماعهم من بعضهم ، ومن هؤلاء التابعين الأوساط الذين أدركوا بعض هؤلاء الصحابة : الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاووس اليماني ، وأبو سلمة بن عبد الرحمان ، وعامر الشعبي ، ومجاهد بن جبر .
فمراسيل هذه الطبقة دون مراسيل أصحاب الطبقة الأولى من كبار التابعين ، ولكنها تكتب للاعتبار ، وتتقوى بالمتابعات والشواهد .
أمَّا الطبقة الثالثة : وهم صغار التابعين ، وهم من أدرك وسمع ممن تأخر موته من الصحابة ، الواحد و الاثنين ، والعدد يسير ، كمن سمع من أنس بن مالك ، وسهل بن سعد ، وأبي أمامة الباهلي . ومن هؤلاء من التابعين الصغار : ابن شهاب الزهري ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وحُميد الطويل ، فمراسيل هؤلاء من أضعف المراسيل ، وهي أشبه أن تكون معضلة ؛ لأنَّ غالب روايات هؤلاء عن التابعين ، فإذا أرسل أحدهم فيغلب على الظن أنه أسقط من الإسناد رجلين فأكثر .
ومن أقوى المراسيل : مراسيل سعيد بن المسيب ، فقد تتبعت فوجد غالبها مسانيد ، ومن المراسيل الجيدة : مراسيل عروة بن الزبير ؛ لشدَّة تحرِّيه ، وكذلك مراسيل الحسن البصري عند بعضهم ، وكذا مراسيل عامر بن شراحيل الشعبي .
أمَّا مراسيل الصحابة : وهو ما وقع لبعض الصحابة ، ممّا لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، إنما سمعوه من صحابة آخرين ، وهذا يحصل لصغار الصحابة ، مثل ابن عباس ، وأنس بن مالك ، فهذا مقبول عند جمهور المحدِّثين ؛ لأنَّ ما لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فإنَّما سمعوه من صحابة آخرين ، والصحابة كلّهم عدول .
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
انظر في المُرسَل :
معرفة علوم الحديث : 25 ، والكفاية : ( 58 ت ، 21 ه* ) ، والتمهيد 1/19 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 126 ، وجامع الأصول 1/115 ، وإرشاد طلاب الحقائق 1/167 – 179 ، والمجموع شرح المهذب 1/60 ، والاقتراح : 208 ، والتقريب : 54 – 57 ، ورسوم التحديث : 68 ، والمنهل الروي : 42 ، والخلاصة : 65 ، والموقظة : 38 ، وجامع التحصيل : 23 وما بعدها ، واختصار علوم الحديث : 1/153 ، وبتحقيقي : 113 ، والبحر المحيط 4/403 ، والشذا الفياح 1/147 ، والمقنع 1/129 ، ومحاسن الاصطلاح : 57 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/202 ، وتنقيح الأنظار : 121 ، ونزهة النظر : 62 ، والمختصر : 128 ، وفتح المغيث 1/128 ، وألفية السيوطي : 25 – 29 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 72 ، وفتح الباقي 1/194 ، وتوضيح الأفكار 1/283 ، وظفر الأماني : 343 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 399 ، واليواقيت والدرر 1/498 ، وقواعد التحديث : 133 ، ولمحات في أصول الحديث : 225 .
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
رابعاً : التدليس
هُوَ أحد الأسباب الرئيسة المهمة في علم علل الحديث ؛ لأن التدليس يكشف عَنْ سقوط راوٍ أحياناً فيكون لهذا الساقط دور في اختلاف الأسانيد والمتون أو يكون الراوي ضعيفاً ولم يتابع فيضعف الحديث من أجله ولابدّ لنا من تفصيل القَوْل في التدليس :
فالتدليس لغة : مأخوذ من الدَّلَسِ – بالتحريك – وَهُوَ اختلاط الظلام الذي هو سبب لتغطية الأشياء عن البصر . قال ابن حجر : وكأنه أظلم على الناظر لتغطية وجه الصواب فيه . ومنه التدليس في البيع ، يقال : دلس فلان على فلان ، أي : ستر عنه العيب الذي في متاعه كأنه أظلم عليه الأمر ، وأصله مما ذكرنا من الدلس .
أما في الاصطلاح ، فإن التدليس عندهم يتنوع إلى عدة أنواع :
الأول : تدليس الإسناد :
وَهُوَ أن يروي الرَّاوِي عمن لقيه ما لَمْ يسمعه مِنْهُ بصيغة محتملة .
والمراد من الصيغة المحتملة : أن لا يصرح بالسماع أَوْ الإخبار مثل : حَدَّثَنَا ، وأخبرنا وأنبأنا ، وسمعت ، وَقَالَ لنا ، وإنما يجيء بلفظ يحتمل الاتصال وعدمه ، مثل : إن ، وعن ، وَقَالَ ، وحدّث ، وروى ، وذكر ، لذا لَمْ يقبل الْمُحَدِّثُوْن َ حَدِيْث المدلس ما لَمْ يصرِّح بالسماع .
الثاني: تدليس الشيوخ :
وَهُوَ أن يأتي باسم شيخه أَوْ كنيته عَلَى خلاف المشهور بِهِ تعمية لأمره وتوعيراً للوقوف عَلَى حاله . وهذا النوع حكمه أخف من السابق ، وفي هَذَا النوع تضييع للمروي عَنْهُ وللمروي وتوعير لطريق مَعْرِفَة حالهما . ثُمَّ إن الحال في كراهيته يختلف بحسب الغرض الحامل عَلَيْهِ، إِذْ إن من يدلس هَذَا التدليس قَدْ يحمله كون شيخه الَّذِيْ غيّر سمته غَيْر ثقة ، أو أصغر من الرَّاوِي عَنْهُ ، أو متأخر الوفاة قَدْ شاركه في السَّمَاع مِنْهُ جَمَاعَة دونه ، أو كونه كثير الرِّوَايَة عَنْهُ فلا يحب تكرار شخص عَلَى صورة واحدة .
الثالث: تدليس التسوية :
وَهُوَ أن يروي عَنْ شيخه ، ثُمَّ يسقط ضعيفاً بَيْنَ ثقتين قَدْ سَمِعَ أحدهما من الآخر أو لقيه ، ويرويه بصيغة محتملة بَيْنَ الثقتين . وممن اشتهر بهذا النوع : الوليد بن مُسْلِم ، وبقية بن الوليد . وهذا النوع من التدليس يشترط فِيْهِ التحديث والإخبار من المدلس إلى آخره .
تنبيه : هذا النوع من التدليس قَدْ سماه القدماء تجويداً . فتح المغيث 1/199 ،وتدريب الرَّاوِي 1/226 ،وشرح ألفية السيوطي: 36 – أي يذكر فيه الجياد من أهل الإسناد ، أو أنه جعل ظاهر الإسناد جيداً بهذا الصنع القبيح ، أو لأن المدلس يبقي جيد رواته - . وسماه صاحب ظفر الأماني : 377 بـ : " التحسين " – أي أن المدلس يحسن ظاهر الإسناد .
وسمي هذا النوع من التدليس تسوية ؛ لأن فاعله يسقط المجروح من الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله في الثقة .
الرابع: تدليس العطف :
وَهُوَ مثل أن يقول الرَّاوِي : حَدَّثَنَا فُلاَن وفلان ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَع من الثاني .
الخامس: تدليس السكوت :
وَهُوَ كأن يقول الرَّاوِي: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ، ثُمَّ يسكت برهة ، ثُمَّ يقول: هشام بن عروة أو الأعمش موهماً أنه سَمِعَ منهما ، وليس كذلك .
السادس: تدليس القطع :
وَهُوَ أن يحذف الصيغة ويقتصر عَلَى قوله مثلاً : الزهري عَنْ أنس .
السابع: تدليس صيغ الأداء :
وَهُوَ ما يقع من الْمُحَدِّثِيْن َ من التعبير بالتحديث أَوْ الإخبار عَن الإجازة موهماً للسماع ، وَلَمْ يَكُنْ تحمله لِذَلِكَ المروي عَنْ طريق السَّمَاع .
وهذه الأنواع السبعة ليست كلها مشتهرة إنما المشتهر مِنْهَا والشائع الأول والثاني وعند الإطلاق يراد الأول . وهذا القسم هُوَ الَّذِيْ لَهُ دورٌ في الاختلافات الحديثية متوناً وأسانيد ، إِذْ قَدْ يكشف خلال البحث بَعْدَ التنقير والتفتيش عَنْ سقوط رجل من الإسناد وربما كَانَ هَذَا الساقط ضعيفاً أَوْ في حفظه شيءٌ ، أو لَمْ يضبط حديثه هَذَا .
ومن الأمثلة عَلَى ذَلِكَ ما رَوَاهُ ابن حبان في صحيحه ( 1423 ) من طريق ابن جريج ، عَنْ نافع، عَن ابن عمر ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تَبُلْ قائماً )) .
وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أنَّ ابن جريج مدلسٌ وَقَدْ عنعن هنا وَلَمْ يصرح بسماعه من نافع ، وَهُوَ قَدْ سَمِعَ من نافع أحاديث كثيرة ، فهُوَ معروف
بالرواية عَنْهُ ، وروايته عَنْهُ في الكتب الستة . ولكن النقاد ببصيرتهم الناقدة
ونظرهم الثاقب كشفوا أنَّ في هَذَا السند واسطة بَيْنَ ابن جريج ونافع ، وأن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع مباشرة ، بَلْ سمعه من عَبْد الكريم بن أبي المخارق الضعيف ، وَقَدْ صرّح ابن جريج في بعض طرق الْحَدِيْث بهذا الساقط ، فبان تدليسه ؛ فَقَدْ رَوَى
عَبْد الرزاق في مصنفه (15924 ) – ومِنْ طريقه ابن ماجه في سننه ( 308 ) )، وأبو عوانة في مسنده (4/25 ) ، وابن عدي في الكامل ( 7/40 ) ، وتمام
الرازي في : الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام ( 1/203 ( 148 ) ) ، والحاكم في : المستدرك ( 1/158 ) ، والبيهقي في السنن الكبرى ( 1/102 ) - عَن ابن جريج ، عَنْ عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، عَنْ نافع ، بِهِ .
ومن بدائه علم الْحَدِيْث أن حَدِيْث الثقة ليس كله صحيحاً ، كَمَا أنّ حَدِيْث الضعيف ليس كله ضعيفاً ، ومعرفة كلا النوعين من أحاديث الفريقين ليس بالأمر اليسير إنما يطلع عَلَى ذَلِكَ الأئمة النقاد الغواصون في أعماق ما يكمن في الروايات من صحة أو خطأ ، لذا فتّش العلماء في حَدِيْث ابن أبي المخارق هل توبع عَلَيْهِ ، أم أخطأ فِيْهِ ؟ وخالف الثقات الأثبات أم انفرد ؟ فنجدهُمْ قَدْ صرّحوا بخطأ ابن أبي المخارق لمخالفته الثقات الأثبات في ذَلِكَ ، قَالَ البوصيري في مصباح الزجاجة ( 1/45 ) – بَعْدَ أن ضعّف حَدِيْث ابن أبي المخارق - : (( عارضه خبر عبيد الله بن عمر العمري الثقة المأمون المجمع عَلَى ثقته ، ولا يُغتر بتصحيح ابن حِبّان هَذَا الخبر من طريق هشام بن يوسف ، عَن ابن جريج عَنْ نافع ، عَن ابن عمر . فإنه قَالَ بعده : أخاف أن يَكُوْن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع ، وَقَدْ صحّ ظنُّه ، فإنّ ابن جريج إمّا سمعه من ابن أبي المخارق كَمَا ثبت في رِوَايَة ابن ماجه هَذِهِ والحاكم في المستدرك واعتذر عَنْ تخريجه أنه إنّما أخرجه في المتابعات )) .
وَقَالَ الترمذي : (( إنما رفع هَذَا الْحَدِيْث عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، وَهُوَ ضعيف عِنْدَ أهل الْحَدِيْث ، ضعّفه أيوب السختياني وتكلم فِيْهِ . وروى عبيد الله ، عَنْ نافع عَن ابن عمر قَالَ : قَالَ عمررضي الله عنه: ما بلتُ قائِماً منذُ أسلَمْتُ . وهذا أصح من حَدِيْث عَبْد الكريم )) الجامع الكبير للترمذي 1/61-62 عقيب ( 12 ) .
أقول: رِوَايَة عبيد الله الموقوفة أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه (1324) ، والبزار في مسنده (وَهُوَ المسمى بـ : البحر الزخار ( 149 ) ، والحديث أيضاً في كشف الأستار ( 244 ) ) من طريق عبيد الله بن عمر، عَنْ نافع ، عَن ابن عمر ، عَنْ عمر موقوفاً ، وَهُوَ الصواب.
ومما يدل عَلَى عدم صحة حَدِيْث ابن أبي المخارق أن الحافظ ابن حجر قَالَ :
(( وَلَمْ يثبت عَن النَّبِيّ في النهي عَنْه شيء )) فتح الباري 1/330 .
بَعْدَ هَذَا العرض السريع بان لنا واتضح أن التدليس سبب من أسباب الاختلافات في الأسانيد والمتون ؛ إِذْ إنه قَدْ يسفر عَنْ سقوط رجلٍ من الإسناد فيخالف الرَّاوِي غيره من الرُّوَاة .
وما دمت قد مهدت عن التدليس وأنواعه فلا بد أن أذكر أموراً أخرى تتعلق بالتدليس ، وهي كما يأتي :
أولاً . حكم التدليس ، وحكم من عرف بِهِ :
مضى بنا في تعريف التدليس لغة أنّ مجموع معانيه تؤول إلى إخفاء العيب ، وليس من معانيه الكذب ، ومع ذَلِكَ فَقَد اختلف العلماء في حكمه وحكم أهله .
فَقَدْ ورد عن بعضهم ومنهم - شعبة - التشديد فِيْهِ ، فروي عَنْهُ أنه قَالَ : (( التدليس أخو الكذب )) ، وَقَالَ أَيْضاً : (( لأنْ أزني أحب إليّ من أن أدلس )) .
ومنهم من سهّل أمره وتسامح فِيْهِ كثيراً ، قَالَ أبو بكر البزار : (( التدليس ليس بكذب ، وإنما هُوَ تحسين لظاهر الإسناد )) .
وَالصَّحِيْح الَّذِيْ عليه الجمهور أنه ليس بكذب يصح به القدح في عدالة الرَّاوِي حَتَّى نرد جميع حديثه ، وإنما هُوَ ضَرْبٌ من الإيهام ، وعلى هَذَا نصّ الشَّافِعِيّ –رحمه الله– فَقَالَ: (( ومن عرفناه دلّس مرة فَقَدْ أبان لنا عورته في روايته، وليست تِلْكَ العورة بالكذب فنرد بِهَا حديثه ، ولا النصيحة في الصدق ، فنقبل مِنْهُ ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق) ) .
ويمكن حمل التشدد الوارد عن شعبة عَلَى (( المبالغة في الزجر عَنْهُ والتنفير )) .
وإذا تقرر هَذَا ، فما حكم حَدِيْث من عرف بِهِ ؟ للعلماء فِيْهِ أربعة مذاهب :
الأول : لا تقبل رِوَايَة المدلس ، سواء صرح بالسماع أم لا ، حكاه ابن الصَّلاَحِ عن فريق من أهل الْحَدِيْث والفقه ، وهذا مبني عَلَى القَوْل بأنّ التدليس نفسه جرح تسقط بِهِ عدالة من عُرِف بِهِ . وهذا الَّذِي استظهره عَلَى أصول مذهب الإمام مالك القاضي عَبْد الوهاب في الملخص .
الثاني : قبول رِوَايَة المدلس مطلقاً ، وَهُوَ فرع لمذهب من قَبِلَ المرسل ونقله الْخَطِيْب البغدادي عن جمهور من قَبِلَ المراسيل ، وحكاه الزركشي عن بعض شارحي أصول البزدوي من الحنفية . وبنوا هَذَا عَلَى ما بنوا عَلَيْهِ قبول المرسل ؛ من أنّ إضراب الثقة عن ذكر الرَّاوِي تعديل لَهُ ، فإن من مقتضيات ثقته التصريح باسم من روى عَنْهُ إذا كَانَ غَيْر ثقة .
الثالث : إذا كَانَ الغالب عَلَى تدليسه أن يَكُون عن الثقات فهو مقبول كيفما كانت صيغة التحديث ، وإن كَانَ عن غَيْر الثقة هُوَ الغالب رد حديثه حَتَّى يصرح بالسماع ، حكاه الْخَطِيْب عن بعض أهل العلم ، ونقله الزركشي عن أبي الفتح الأزدي .
الرابع : التفصيل بَيْنَ أن يروي بصيغة مبينة للسماع، فيقبل حديثه، وبين أن يروي بصيغة محتملة للسماع وغيره فلا يقبل. وهذا الَّذِي عَلَيْهِ جمهور أَهْل الْحَدِيْث وغيرهم وصححه جمع ، مِنْهُمْ : الْخَطِيْب البغدادي وابن الصَّلاَحِ وغيرهما وهو الحق .
ثانياً . حكم الْحَدِيْث المدلس :
لما كَانَ في حَدِيْث المدلس شبهة وجود انقطاع بَيْنَ المدلس ومن عنعن عَنْهُ ، بحيث قَدْ يَكُوْن الساقط شخصاً أو أكثر ، وَقَدْ يَكُوْن ثقة أَوْ ضعيفاً . فلما توافرت هَذِهِ الشبهة اقتضى ذَلِكَ الحكم بضعفه .
لكن المدلس إذا صرح بالسماع قبل حديث ، مثاله : ما رواه محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة ، قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع ، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي . وأنا أقول : وارأساه ، فقال : بل أنا وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي ، فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك .
فمدار هذا الحديث على محمد بن إسحاق ، وهو مدلس ، وقد عنعن في بعض الطرق ، ولذا ضعف بعض العلماء الحديث بذلك ، لكنه صرح بالسماع عند البيهقي في السنن الكبرى 3/396 فانتفت شبهة تدليسه فقبل حديثه .
ملاحظة : المدلس إذا دلس قد يسقط واحداً وقد يسقط أكثر من واحد .
وأسباب التدليس متعددة ، فمنهم من صنع ذلك من باب إحسان الظن بمن أسقطوه ، وإن كان مجروحاً عند غيرهم ، وأسقطوه تمشية لروايته .
ومنهم دلس لصغر سن شيخه ، ومنهم صنع ذلك لكراهة ذكره ؛ لسوء حاله من جهة أمر لا يعود إلى نفس حديثه .
ومنهم من صنع ذلك لضعف شيخه ، ومنهم من صنع ذلك لطلب العلو ، ومنهم من يصنع ذلك إذا شورك عن ذلك الشيخ من قبل من هم دونه في السن أو غير ذلك .
ومنهم من صنع ذلك لكثرته عن ذلك الشيخ
انظر في التدليس :
معرفة علوم الحديث : 103 ، والمدخل إلى الإكليل : 20 ، والكفاية : (508 ت ، 355 ه* ) ، والتمهيد 1/15 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 156 ، وجامع الأصول 1/167 ، والإرشاد 1/205 ، والتقريب : 63 ، والاقتراح : 217 ، ورسوم التحديث : 74 ، والمنهل الروي : 72 ، والخلاصة : 74 ، والموقظة : 47 ، وجامع التحصيل : 97 ، واختصار علوم الحديث 1/172 ، وبتحقيقي : 129 ، والشذا الفياح 1/173 ، والمقنع: 1/154 ، ومحاسن الاصطلاح : 77 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/234 ، وتنقيح الأنظار : 140 ، ونزهة النظر : 65 ، ومقدمة طبقات المدلسين : 13 ، والمختصر : 132 ، وفتح المغيث 1/169 ، وألفية السيوطي : 33 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 84 ، وفتح الباقي 1/224 ، وتوضيح الأفكار 1/346 ، وظفر الأماني : 373 ، وشرح شرح نخبة الفكر : 416 ، واليواقيت والدرر 2/10 ، وقواعد التحديث : 132 ، ولمحات في أصول الحديث : 237 .
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
بارك الله فيكم
لنا عودة ببعض الإشكالات بعد قراءة الدروس قراءة متأنية
ونسأل الله أن يفتح علينا وعليكم
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
جزاك الله خير الجزاء
وقد سمعت عنكم يا شيخ ما يطيب له القلب
واني لسعيد انني في هذا الملتقى مع طلبة العلم والعلماء امثالكم
اكرمكم الله وأحسن اليكم
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
أجزل الله لكم الثواب ، وأدخلكم الجنة بغير حساب .
أختي أم المثنى : نحن جاهزون لحل أي إشكال
بارك الله فيكم
أخي الكريم ، أحمد شبيب ، حياك الله ومرحباً بك وأسأل الله أن يزيدك من فضله
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
شيخنا الكريم ماهر الفحل
بارك الله فيك ونفع بك والهمك الصواب
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
الشيخ ماهر الفحل ،بارك الله فيكم ، كنت أبحث عن شرح واضح لعلوم الحديث فوجدته هنا ، جزاكم الله عنا كل خير
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أستاذنا الفاضل ، أشكركم على هذا المجهود المبارك في خدمة السنة النبوية الشريفة وجزاكم الله خيرا على ذلك إن شاء الله .
أنا أبحث عن كتب لكم في علوم الحديث تكون مصورة ، فإن هذه الدروس هي عبارة عن محاضرات في علوم الحديث على ما أظن وقد حملته من موقع صيد الفوائد منذ مدة وأنا أرغب في الحصول عليها في كتاب أو كتب للإستفادة من هذه الجواهر وشكرا جزيلا لكم .
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
جزاك الله عنا خير الجزاء يا شيخنا الدكتور ماهر الفحل
رد: سلسلة دروس في مصطلح الحديث
وأنتم جزاكم الله كل خير ونفع بكم وزادكم من فضله