أول الخطى
ما أجمل أن يعرف العبد الهدف الذي يقصده، والغاية التي يسير إليها، وأن يدرك الطريق إلى الله، والأجمل من ذلك كله أن يضع قدميه بثبات ويقين على ذلك الطريق، نحو المقصد السامي والنبيل، وما أسعده حين يجعل أول تلك الخطوات هي تطهير النفس، وتزكيتها من الشوائب والعلائق التي تعيقها عن الوصول إلى الغاية الرشيدة، والحياة السعيدة، في جنة الرحمن وتحت ظلال الرحمة والرضوان، فإن هذا كله لا يتأتَّى في ظل وجود ذلك الركام من الموانع والصوارف من الذنوب والآثام.
لهذا كان الحديث إلى النفس؛ فهي أداة العمل التي زوَّدها الله باستعدادات الخير والشر، والهدى والضلال، فالنفس إما إناء للطاعة والتقوى، وإما وعاء للضلال والفجور، وقد عظم الله أمرها وأقسم بها فقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشّمس: 7-8].
والنفس تدعو إلى التكاسل والعصيان، والتقاعس عن تأدية أوامر الرحمن، ومقتضيات الإيمان، تارة بالوساوس نحو المهاوي والهلكات: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ *} [ق: 16].
وتارة تأمر بالسوء، وفعل ما يسوء فتجلب للعبد فساد الحال، وسوء المآل إلا من عصم الله: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يُوسُف: 53].
لذا كان لابد من مجاهدة النفس، وتخليصها من كل ما يشينها ويدنسها؛ لاسيما وأنها قد جُبلت على الضعف والتقصير، وحب الدنيا، والملذات، ومسايرة سلطان الشهوات، قال تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ *وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العَاديَات: 6-8].
ويكون ذلك بالإقبال على الله، والرجوع إلى الحق، واتهام النفس، ودعوتها إلى التوبة، لاسيما وأن الله سبحانه يحب لعباده التوبة بل وأرادها لهم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 27].
فإن الله يريد لعباده اليسر والسلامة، والسعادة في الدنيا والآخرة، والذي لا يكون إلا في هذا الدين، والتمسك بأوامره، والتحاكم إلى أحكامه، والتأدب بآدابه، متى أردنا النجاة والفوز والفلاح.
فإن للعبد أعداءً متربصين؛ نفسٌ تدعوه إلى الرغبات والشهوات، وهوًى يهوي به إلى الدركات والهلكات، ودنيا غَرورٍ ذات فتنٍ وزخارفَ وملذاتٍ، وشيطانٌ مريدٌ، وضع التدابير وأعلن العداوات، وأتباعُ ضلالٍ وأربابُ غوايةٍ، يريدون بالناس الردى والضياع، وخسارة الدارين.
وإن السبيل الأمثل لتزكية النفس ونجاتها وفلاحها، ومقاومة أعدائها، والتصدي لحيلهم؛ إنما هو بالتوبة والعودة إلى الحق.
ومن تأمل نهاية المطاف، وعاين عواقب الأمور ومستقبلها، ونظر بعين الأناة والبصيرة، فله حينها أن يتساءل: أين لذة المعصية؟! .. وأين تعب الطاعة؟!
لقد رحل كلٌّ بما فيه؛ رحلت الطاعة وبقيت لذتها، ورحلت المعصية وبقيت حسرتها، نعوذ بالله من العمى والخذلان.
{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. [الحَجّ: 46]
وكما قيل: "فليت الذنوب إذا تخلّت خلت!"[1]. أي: ليتها حين تخلَّت عنك وتركتك، تركت لك بالًا خاليًا من الهموم.
يقول يحيى بن معاذ رحمه الله: "مَنْ أَرْضَى الْجَوَارِحَ فِي اللَّذَّاتِ، فَقَدْ غَرَسَ لِنَفْسِهِ شَجَرَ النَّدَامَاتِ"[2].
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها --- من الحرام ويبقى الوزر والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها --- لا خير في لذة من بعدها النار[3]
***
لماذا نتـوب؟ |
|
نتوب .. لأن المعاصي سواد، والتوبة جلاؤها.
نتوب .. لأن التوبة من أفضل العبادات وأجلِّها.
نتوب .. لأن التوبة هي نقطة الانطلاق نحو الحياة الكريمة.
نتوب .. لأن التوبة دعوة للنفس نحو التطهر، والاستعلاء، والرُّقي.
نتوب .. لأن للتوبة أهمية بالغة، وثمرات مباركة، في الدنيا والآخرة.
نتوب .. لأن الله يتفضل على التائب برحمته ورضوانه، وكرمه وإحسانه.
نتوب .. لأن التوبة بداية التصحيح، ومفتاح الأمان من غضب الجبار وعقابه.
نتوب .. لأننا جميعا عبيد لله لا للشهوة والهوى، وقد أُمرنا بطاعة ربنا الذي نحن إليه راجعون، وعما عملنا واقترفنا محاسبون ومجزيون.
نتوب .. لأن التائب الصادق كما هو معلوم ومشاهد يعود أكمل وأسعد وأفضل مما كان قبل التوبة، شهد بذلك عقلاء كل زمان ومكان.
نتوب .. لأن التوبة دعوة كريمة للنفس نحو الاعتراف بالذنب والتقصير، واللجوء الكامل إلى فضل الله، وطلب العفو والرحمة منه وحده.
نتوب .. لأن التوبة واجبة، تضافرت بذلك نصوص القرآن والسنة.
قال القرطبي رحمه الله: "واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين"[1].
وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: "الإجماع منعقد على وجوب التوبة"[2].
وقال الخازن رحمه الله: "وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة"[3].
نتوب .. لأن هناك ما يدفعنا نحو التوبة، وهو ما بيّنه الله من جميل فضائلها، وحلاوة ثمارها، فقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى *} [طه: 82].
غفار لمن تاب من السيئات، وآمن بالله عظيم الصفات، وأقلع فندم على ما مضى من الزلات والخطيئات، وسارع إلى مرضاة ربه بالأعمال الصالحات، ثم اهتدى وداوم على الإنابة حتى الممات.
ولهذا كان لزاما علينا جميعًا أن ندعو أنفسنا إلى التوبة والرجوع إلى الله، وأن نسعى جاهدين في إنقاذ أنفسنا وانتشالها من الزلة والعثرة.
نتوب .. لأن الله هو الذي فتح أبواب التوبة، ويسر أسبابها، ورتب على التوبة الرحمة والغفران، والفوز بالجنان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»([4]).
ولماذا يأبى؟! إنه الاغترار بالعاجلة، وبما فيها من الملذات والشهوات، فالدنيا حلوة خضرة، لكنها سرعان ما تنقضي وتزول.
نتوب .. لأن التعبد لله بالتوبة من أشرف التعبدات، فهي تجمع الخضوع، والذل، والانكسار بين يدي الله جل وعلا، إضافة إلى تحقيق الحب والرجاء، وهذه هي العبودية التي تحقق لصاحبها شرف الانتساب إلى ركب المؤمنين من عباد الرحمن أهل التوحيد والإيمان. يا رب بك أستجير ومن يجير سواك؟ ---- فارحم ضعيفًا يحتمي بحماك
يا رب قد أذنبت فاقبل توبتي ---- من يغفر الذنب العظيم سواك؟
*** |
التوبة شعار الصالحين إن دأب الصالحين والأولياء والمقربين من عباد الله أن قلوبهم يقظة وجلة بتوفيق الله، قد شعشع الإيمان في صدورهم، فدومًا يستشعرون الخوف من الله ويستحضرون خشيته ومراقبته، وأنهم إلى ربهم صائرون وإليه سوف يحشرون، قد استحضرت قلوبهم ذكر الله وأمور الآخرة، واستجابوا لأمر ربهم تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البَقَرَة: 203].
فدومًا ترى المؤمنين من عباد الرحمن يلومون أنفسهم ويحاسبونها، ثم يرجعون إلى ربهم بقلوب منكسرة خاشعة، قد امتلئت رهبة وخشية.
قال الله عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ *مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ *} [ق: 32-33]. أي: رجاع إلى الله في جميع الأوقات، بذكره والاستعانة به، وحبه وخوفه ورجائه.
إنه قلب أناب إلى الله وأقبل على كتابه فزاده الله هداية ونورا وعلما وبصيرة، ويسّر الله له الوصول إليه، فإن الله هو الموفق للإيمان والتوبة {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[الرّعد: 27].
والإنابة والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين، كحال نبي الله أيوب عليه السلام ، قال سبحانه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص: 44].
والإنابة تعني الرجوع إلى الله وانصراف دواعي القلب إليه، وتتضمن محبة الله وخشيته، والخضوع له والإعراض عمّا سواه.
وقد امتدح الله تبارك وتعالى خليله إبراهيم عليه السلام فقال عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ *}[هُود: 75]. أي: سريع الفيئة إلى الله وإلى مرضاته، رجاع إلى الحق وإلى الفضيلة حيثما كان وفي كل حين، ومتضرع إلى الله في جميع الأوقات.
ولك أن تتخيل إبراهيم الخليل عليه السلام حتى وهو يؤدي طاعة ربه فإنه أيضًا يتوب إلى الله مخافة التقصير، لعلمه بأن الله هو التواب الرحيم، جاء ذلك في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *}[البَقَرَة: 128].
وهذا موسى عليه السلام تشرفت نفسه، واشتاقت إلى رؤية الله، وهو الأمر الذي لا يكون، ولا يطيقه بشر في هذه الأرض، حتى الجبل الأصم الغليظ لم يثبت، وانهال كالرمل مدكوكًا قد ساخت قمته رهبة من الله، حينها خرَّ موسى صَعِقا، وبعد الإفاقة ما كان منه إلا أن: استغفر، وثاب إلى نفسه منزهًا ومعظمًا لربه عما لا يليق، ولما صدر منه، من السؤال الذي دافعه الحب والمودة لربه، معلنًا التوبة، وأنه عليه السلام في طليعة المؤمنين بتعظيم ربهم وإجلاله، تجلى ذلك في قوله جل في علاه: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعرَاف: 143].
نعم هذا هو طريق المتقين، وزاد المؤمنين المخلصين، فإنهم يلازمون التوبة في كل حين، وعلى أي حال حتى أصبحت لهم شعارًا ودثارًا.
إنه أدب جميل، وخوف عظيم، يوم يطلب المتقون التوبة من ربهم حتى وهم متلبسون بالطاعة، منفذون لأوامره.
وهو دليل خشية الله وتعظيمه، وطهارة القلب من العُجب، والخوف من التقصير الذي يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تحطُّ بالنفس وتبعدها عن الله.
فليست التوبة محصورة في العصاة، بل حتى المؤمنين... والتائب لابد له من تجديد الإيمان، والتوبة في كل وقت وحال، وفي جميع مراحل العمر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن التوبة: "هي مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل إلى آخر عمره ولا بد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة"[1]. إنها النفوس العظيمة .. فعند التقصير تتوب، وإذا خشيت التقصير أيضًا سألت الله التوبة والغفران.
قال ابن القيم رحمه الله: "التوبة من أفضل مقامات السالكين؛ لأنها أول المنازل، وأوسطها وآخرها، فلا يفارقها العبد أبدًا، ولا يزال فيها إلى الممات"[2].
يعيش العبد مع التقوى، وإذا ألمَّت به وساوس الشيطان، تذكر فعاد إلى الرحمن.
حيث يتذكر عقاب الله وجزاءه، ووعده ووعيده، فيتوب وينيب، ويستعيذ بالله، ويرجع إليه من قريب.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *}[الأعرَاف: 201].
قال مجاهـد رحمه الله: "هـو الرجـل يهمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه"[3].
وقال مقاتل رحمه الله: "إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر، وعرف أنه معصية، فأبصر فنزع عن مخالفة الله"[4].
وإن كانت الوقاية والسلامة من الذنوب والآثام خير من طلب التوبة؛ لأن العبد ربما لا يوفق للتوبة، أو ربما لا تقبل منه، كما أن السلامة من الذنب أيسر من التوبة والندامة.
قال الحسن البصري رحمه الله: «يَا ابْنَ آدَمَ، تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ»[5].
*** --------------------------------------
[1] مجموع الفتاوى (11/ 688).
[2] نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (4/ 1294).
[3] مجموع الفتاوى (7/ 32).
[4] تفسير البغوي - طيبة (3/ 318).
[5] أخرجه أحمد في الزهد (1597). |
أنور إبراهيم النبراوي
باحث في الدراسات القرآنية والتربوية
ومستشار أسري صيد الفوائد |