مسألة البيع مع الشرط الفاسد
بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127
[مسألة البيع مع الشرط الفاسد]
قال أبو بكر حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: "أراد أهل بريرة أن يبيعوها ويشترطوا الولاء فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" فقال: «اشتريها وأعتقيها فإن الولاء لمن أعتق»
قال أبو بكر حدثنا عفان حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن مواليها اشترطوا الولاء فقضى أن «الولاء لمن أعتق»
قال أبو بكر حدثنا شبابة بن سوار عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال أرادت عائشة أن تشتري بريرة فقالوا: "أتبتاعينها على أن ولاءها لنا؟" فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يضرك ذلك منها فإنما الولاء لمن أعتق»
قال أبو بكر: وذكر أن أبا حنيفة قال: هذا الشراء فاسد لا يجوز
اختلف أهل العلم فى الرجل يبيع شيئا من رجل ويشترط عليه شروطا ليست فى عقدة البيع كأن يبيعه جارية ويشترط عليه أن لا يبيع ولا يهب فقال أكثر أهل العلم الشرط باطل والبيع باطل ثم استثنى بعضهم شروطا ومنهم من قال الشرط باطل والبيع جائز ثم اختلفوا هل لمن بطل شرطه أن يرد البيع لمَّا لم يُوَف له المشترى بشرطه أم أن البيع قد لزمه فلا يكون له رده؟ وقال قلة منهم البيع جائز والشرط جائز وهذا قول شاذ مخالف ما عليه عامة أهل العلم والله أعلم.
وفى قولهم جميعا إن ما صح من الشروط فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو جائز كالرهن والحميل والخيار فى البيع واشتراط الأجل فى بيع السلم واشتراط صفات فى الشىء المبيع ثم اختلفوا فى شروط سوى ذلك.
ففى قول الشافعى لا يصح من الشروط إلا شرط العتق فى البيع لحديث بريرة فإذا ابتاع المشترى عبدا على أن يعتقه فالبيع جائز والعبد حر وولاؤه للمشترى المُعتِق فأما إذا باعه على أن يعتقه ويكون الولاء للبائع فالشرط باطل والبيع باطل لأن الولاء لمن أعتق. وأبطل الشافعى وأكثر أهل العلم أن يشترط البائع منفعة المبيع إلى أجل كأن يبيعه دابة ويشترط ركوبها إلى أجل أو يبيعه دارا ويشترط سكناها إلى أجل وتأولوا حديث جابر الذى أنا ذاكره بعد إن شاء الله.
وقال مالك إذا اشترى عبدا على أن يعتقه فالبيع جائز ويجبر المشترى على أن يعتقه ولكن إذا اشترط البائع عليه أن يعتقه بعد أجل أو يدبره فهذا غرر لا يجوز والبيع باطل. وقال إذا باعه دابة واشترط عليه ركوبها إلى أجل فإن كان ذلك يسيرا كاليوم واليومين فجائز وإن تطاول ذلك فلا خير فيه وإن باعه دارا واشترط عليه سكناها إلى أجل فإن كان ذلك أجلا يسيرا كالشهور والسنة فهو جائز وإلا فلا خير فيه. ويشبه والله أعلم أن مالكا حمل ذلك محمل الهبة والتبرع وذلك أن من المعروف عند الناس أن الرجل إذا باع دارا هو ساكن فيها فإن المشترى يمهله حتى يجمع متاعه ويجد مسكنا غيره وكذلك إذا ابتاع منه دابة فى السفر فمن المعروف أن يمهله حتى يرجع إلى بلده ثم يسلم إليه الدابة وأصل ما يذهب إليه مالك أن من ألزم نفسه معروفا فقد لزمه كما لو كان له دين حال على رجل فأجله بالدين فقد لزمه الأجل وقال أكثر أهل العلم لا يلزمه والدين حال وقال مالك إذا أعاره شيئا ينتفع به إلى أجل فليس له أن يأخذه منه قبل الأجل وقال أكثر أهل العلم له ذلك. فأما ما تطاول من الأجل فى ركوب البائع الدابة وسكنى البائع الدار فلا خير فيه لأن الركوب والسكنى لهما حينئذ حظ من الثمن فيكون بيعا وإجارة ولا يجوز الجمع بين البيع والإجارة فى عقدة واحدة فى قول مالك وأكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه البيع فى كل ذلك باطل والشرط باطل فإذا اشترى جارية على أن يعتقها فالبيع باطل وهذا خلاف الحديث. وقالوا فى ذلك قولا محالا فقالوا إذا أعتقها المشترى قبل أن يستردها البائع فقد مضى العتق ويرجع عليه بالثمن فى قول أبى حنيفة ومحمد وبالقيمة فى قول أبى يوسف وهذا قول محال لأن البيع إذا بطل فالجارية للبائع وعتق المشترى إياها باطل ثم إنهم أخطأوا ثانية حين قالوا يرجع البائع على المشترى بالثمن إذا فاتت بالعتق لأن ما تلف وفات من السلع فإنما يرجع صاحبه على متلفه بالقيمة لا بالثمن. وقول مالك فى الفوت بالعتق فى المدبر كقول أبى يوسف إن صاحبه يرجع بالقيمة. وفى قول الشافعى إن العتق باطل والجارية للبائع.
قال سحنون: "قلت: أرأيت إن اشتريت عبدا على أن أعتقه أيجوز هذا الشرط في قول مالك؟ قال: نعم.
قلت: لم أجزته وهذا البائع لم يستقص الثمن كله للشرط الذي في العبد؟
قال: لأن البائع وضع من الثمن للشرط فلم يقع فيه الغرر، وإنما كان يكون فيه الغرر ولو باعه على أن يعتقه إلى سنين أو يدبره فهذه المخاطرة والغرر فلا يجوز ما وضع له هاهنا من الثمن، فإن فات هذا البيع هاهنا بعتق أو تدبير رد إلى القيمة في رأيي.
قلت: وكيف الغرر هاهنا وقد فعل المبتاع ما اشترط عليه البائع؟
قال: لأن العتق إلى أجل، والتدبير غرر، وإن فعل المبتاع ذلك لأن العبد إن مات قبل أن يأتي الأجل مات عبدا، ولأن المدبر إذا مات قبل مولاه مات عبدا ولعل الدين يلحقه بعد موت سيده فيرق، ولعله لا يترك مالا فلا يعتق إلا ثلثه وهذا يدلك على أنه غرر، وإن بتات العتق ليس بغرر لأنه بتت عتقه.
قلت: فما قول مالك إن اشتريت عبدا على أن أعتقه؟ قال: لا بأس بذلك عند مالك.
قلت: فإن أبى المبتاع أن يعتقه بعد أن اشتراه؟
قال: قال مالك: إن كان اشتراه على إيجاب العتق لزمه العتق، وإن كان لم يشتره على إيجاب العتق كان له أن لا يعتقه وأن يبدله بغيره.
قال ابن القاسم: وأرى للبائع أن يرجع إذا لم يعتقه فيأخذه وينتقض البيع إذا كان بحدثان ذلك ما لم يفت أو يسلمه البائع إن شاء بلا شرط قال: فإن فات العبد وشح البائع على حقه كانت فيه القيمة. وقال أشهب: يأخذه بذلك والشرط لك لازم وعليك أن تعتقه، وهو بيع جائز لا بأس به.
قلت: أرأيت إن اشتريت عبدا على أن لا أبيع ولا أهب ولا أتصدق؟ قال: قال مالك: هذا البيع لا يجوز، فإن تفاوت فالقيمة.
قلت: أرأيت إن اشتريت جارية على أن أتخذها أم ولد؟ قال: قال مالك: هذا البيع لا يصلح.
قلت: فإن اتخذها أم ولد وفاتت بحمل؟
قال: قال مالك: يكون عليه قيمتها يوم قبضها.
قلت: وكذلك إن أعتقها ولم يتخذها أم ولد أيكون عليه قيمتها يوم قبضها في قول مالك ويكون العتق جائزا؟ قال: نعم إلا أن مالكا قال لي في الذي يبتاعها على أن يتخذها أم ولد إذا فاتت بحمل ردت إلى القيمة، فإن كانت القيمة أقل من الثمن الذي ابتاعها به لم يكن له أن يرجع على البائع بشيء وإنما الحجة هاهنا للبائع وليس للمبتاع هاهنا حجة لأنه قد رضي أن يأخذها بما قد أعطاه" (المدونة 3/191)
وفى اختلاف العراقيين: "قال أبو يوسف: وإذا اشترى الرجل عبدا واشترط فيه شرطا أن يبيعه من فلان، أو يهبه لفلان، أو على أن يعتقه فإن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - كان يقول البيع في هذا فاسد وبه يأخذ، وقد بلغنا عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - نحو من ذلك، وكان ابن أبي ليلى يقول البيع جائز والشرط باطل
(قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : وإذا باع الرجلُ الرجلَ العبدَ على أن لا يبيعه من فلان، أو على أن لا يستخدمه، أو على أن ينفق عليه كذا، أو على أن يخارجه فالبيع فيه كله فاسد؛ لأن هذا كله غير تمام ملك ولا يجوز الشرط في هذا إلا في موضع واحد وهو العتق اتباعا للسنة ولفراق العتق لما سواه فنقول إن اشتراه منه على أن يعتقه فأعتقه فالبيع جائز فإن قال رجل ما فرق بين العتق وغيره قيل قد يكون لي نصف العبد فأهبه وأبيعه وأصنع فيه ما شئت غير العتق فلا يلزمني ضمان نصيب شريكي فيه ولا يخرج نصيب شريكي من يده لأن كلا مالك لما ملك فإن أعتقته وأنا موسر عَتَقَ عَلَىَّ نصيبُ شريكي الذي لا أملك ولم أعتق وضمنت قيمته وخرج من يدي شريكي بغير أمره وأُعْتِقُ الحَمْلَ فتلده لأقل من ستة أشهر فيقع عليه العتق، ولو بعته لم يجز البيع مع خلافه لغيره في هذا وفي أم الولد، والمكاتب وما سواهما" (الأم 7/107)
قال الشافعى: "فإذا كان من أصل مذهبنا أنه لا يجوز أن أبيع الجارية على أن لا يبيعها صاحبها لأني إذا شرطت عليه هذا فقد نقصته من الملك شيئا ولا يصلح أن أملكه بعوض آخذه منه إلا ما ملكه عليه تام فقد نقصته بشرط الخيار كل الملك حتى حظرته عليه وأصل البيع على الخيار لولا الخبر كان ينبغي أن يكون فاسدا؛ لأنا نفسد البيع بأقل منه مما ذكرت فلما شرط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «في المصراة خيار ثلاث بعد البيع» وروي عنه - عليه الصلاة والسلام - «أنه جعل لحبان بن منقذ خيار ثلاث فيما ابتاع» انتهينا إلى ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخيار ولم نجاوزه إذا لم يجاوزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن أمره به يشبه أن يكون كالحد لغايته من قبل أن المصراة قد تعرف تصريتها بعد أول حلبة في يوم وليلة وفي يومين حتى لا يشك فيها فلو كان الخيار إنما هو ليعلم استبانة عيب التصرية أشبه أن يقال له الخيار حتى يعلم أنها مصراة طال ذلك، أو قصر كما يكون له الخيار في العيب إذا علمه بلا وقت طال ذلك، أو قصر، ولو كان خيار حبان إنما كان لاستشارة غيره أمكنه أن يستشيره في مقامه وبعده بساعة وأمكن فيه أن يدع الاستشارة دهرا فكان الخبر دل على أن خيار ثلاث أقصى غاية الخيار فلم يجز لنا أن نجاوزه ومن جاوزه كان عندنا مشترطا بيعا فاسدا" (الأم 7/106)
وقال فى كفارة الظهار: "لا يجزئ في ظهار ولا رقبة واجبة رقبة تشترى بشرط أن تعتق لأن ذلك يضع من ثمنها" (الأم - من يجزئ من الرقاب إذا أعتق ومن لا يجزئ)
وقال: "ولو كان على رجل ظهار فأعتق عنه رجل عبدا للمُعْتِقِ بغير أمره لم يجزئه وكان ولاؤه لسيده الذي أعتقه ولو كان الذي عليه الظهار أعطاه شيئا على أن يعتق عنه عبدا له بعينه أو لم يعطه فسأله أن يعتق عنه عبدا له بعينه فأعتقه أجزأه والولاء للذي عليه الظهار الذي أعتق عنه وهذا منه كشراء مقبوض أو هبة مقبوضة وكما لو اشترى رجل من رجل عبدا فلم يقبضه المشتري حتى يعتقه جاز عتقه وكان ضمانه منه" (الأم 5/299)
قال الطحاوى: "قال أصحابنا البيع فاسد فإن قبضه فأعتقه فعليه الثمن في قول أبي حنيفة
وقال أبو يوسف ومحمد عليه القيمة
وقال ابن أبي ليلى إذا ابتاع بيعا فاسدا واشترط أن يبيعه من فلان أو يهبه أو على أن يعتقه فالبيع جائز والشرط باطل
وقال ابن شبرمة البيع فاسد
وقال ابن القاسم عن مالك فيمن اشترى عبدا على أن يعتقه أنه لا بأس بذلك ولو باعه على أن يعتقه إلى سنتين أويدبره فهذا من المخاطرة والغرر ولا يجوز
وقال الثوري إذا باع عبده على أن يعتقه ويكون الولاء له فإنما يكون الولاء للذي أعتقه
وقال ابن المبارك عن الثوري فيمن اشترى دارا على أنه إن أدركه فيها درك فله مثل ذرعها من دار أخرى فالبيع جائز وشرطه باطل
وإن قال أبيعك والخلاص علي فالبيع جائز والشرط باطل
وقال الحسن بن حي كل شرط في بيع هدم المبيع إلا العتاقة وكل شرط في نكاح هدمة النكاح إلا الطلاق
روى نحوه عن إبراهيم
قال الحسن بن حي فإذا اشترى عبدا على أن يعتقه جاز البيع ولزم المشتري أن يعتقه فإن مات قبل أن يعتقه لزم ورثته أن يعتقوه وكان الحسن بن حي يجيز بيع الخادم إذا اشترط صاحبها خدمتها أجلا معلوما وللمشتري أن يطأها وإن لم يشترط للخدمة وقتا معلوما فالبيع مردود فإن اشترط البائع خدمتها وقتا معلوما ثم أعتقها المشتري سقطت عنها الخدمة وكان على المشتري أن يرد على البائع بحصة الخدمة من الثمن
وقال الحسن بن حي في الرجل يبيع المتاع ويشترط أن له نصف ربحه فإنه إن كان قائما رد البيع فيه وإن كان قد باعه تصدق بربحه
وقال الليث فيمن اشترى عبدا على أن يعتقه فإن أبي أجبر على عتقه وكذلك لو باعه من رجل رقبة فهو مثل ذلك
وقال في الرجل يبيع غلامه على أنه حر فإنه يعتق على المشتري شاء أو أبى وليس لواحد منهما أن يقطع وفي الرجل يبيع الجارية على أنه إن باعها فهي له بالثمن الذي يبيعها به فإنه لا يصلح أن يطأها على هذا الشرط والبيع جائز ولا بأس بأن يبيع عبدا من رجل على هذا الشرط ويمنعه على أن يخرج به من مصره أو على أن لا يخرج به فإن كانت أمة لم يطأها وفيها شرط
وروى عنه أنه قال لا يجوز البيع على شرط أنه إن باعه فهو له بالثم
وقال الشافعي فيما ذكره الربيع عنه أنه إن باع العبد على أن يعتقه أو على أن يبيعه من فلان أو على أن يستخدمه فالبيع في هذا كله فاسد ولا يجوز الشرط في هذا إلا في موضع واحد وهو العتق أن يباع للسنة فإذا اشتراه على أن يعتقه فأعتقه فالبيع جائز
وحكى أبو ثور عن الشافعي أن البيع جائز في هذا المسائل كلها والشرط باطل" (مختصر اختلاف العلماء - فيمن اشترى عبدا على أن يعتقه)
والقول الذى نسبه أبو ثور للشافعى قوله القديم الذى كان يقول به إذ هو بالعراق وما حكاه الربيع عنه هو آخر قوله وقاله بمصر.
رد: مسألة البيع مع الشرط الفاسد
فأما حديث جابر رضى الله عنه فإن ابن أبى شيبة قال حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «قد أخذت جملك بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة»
وقال حدثنا يحيى بن زكريا عن زكريا عن الشعبي عن جابر قال: "بعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما بلغت المدينة أتيته فنقدني" وقال: «أتراني إنما ماكستك لآخذ جملك ومالك فهما لك»
فاحتج بذلك بعض أهل العلم على صحة مثل هذا البيع وقاسوا عليه كل مبيع باعه البائع واستثنى منافعه مدة معلومة وهذا قول الأوزاعى وأحمد وإسحاق وابن المنذر.
وخالفهم أكثر أهل العلم فقالوا من باع شيئا واستثنى منفعته لأجل معلوم أو مجهول فالشرط فاسد والبيع فاسد وهذا قول مالك والشافعى وأبى حنيفة. وتأولوا الحديث فمنهم من قال إن هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضلا على جابر لا شرطا فى نفس العقد وقد جاء من روايات الحديث ما يشبه ذلك ومنهم من زعم أن هذا الحديث منسوخ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث بريرة: «ما بال ناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق»
قال سحنون: "قلت: أرأيت إن اشتريت دابة من رجل واستثنى علي ركوبها يوما أو يومين؟ قال: البيع جائز عند مالك.
قلت: فإن تلفت في اليومين؟
قال: قال مالك: المصيبة من المشتري، قال مالك: وكذلك لو اشترط أن يسافر عليها اليوم ثم تلفت فيه كان مصيبتها من المشتري.
قلت: أرأيت إن اشترطت أن أسافر عليها أكثر من اليوم؟
قال: لم يكن مالك يحدد فيه حدا إلا أنه كان يقول: لا أحب ما يتباعد من ذلك؛ لأن الدابة تتغير فيه ولا يدري مشتريها كيف ترجع إليه فلا يعجبني.
قال مالك: ولا أرى بأسا في اليوم واليومين والموضع القريب.
قال مالك: وما تلفت الدابة فيه مما يجوز له أن يشترطه فهو من المشتري وما تلفت فيه مما لا يجوز له اشتراطه فهو من البائع وما تلفت فيه وهو مما يجوز لهما اشتراطه مثل الموضع القريب فهو من المشتري" (المدونة - بيع الدابة واستثناء ركوبها)
قال الشافعى: "ولا خير في أن يشتري الرجل الدابة بعينها على أن يقبضها بعد سنة؛ لأنها قد تتغير إلى سنة وتتلف ولا خير في أن يبيع الرجل الدابة ويشترط ركوبها قل ذلك أو كثر" (الأم 3/41)
قال المزنى: "ومنها: ما روي عن عامر الشعبي، قال: عن جابر بن عبدالله أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، قال: فلحقني رسول الله فضربه، وقال: «سر»، فسار سيرا لم يكن يسير مثله، ثم قال: «بعنيه بأوقية»، فبعته منه بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أهلي أتيته بالجمل، فنقد ثمنه، فرجعت، فأرسل على إثري، فقال: «أترى إنما ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهما لك»، والمطلب بن حنطب عن جابر بن عبدالله، قال: اشترى رسول الله مني بعيرا وأفقرني ظهره إلى المدينة.
قال المزني: يحتمل هذا وجوها: منها - أن يكون هذا كان جائزا قبل أن يقول عليه السلام في اشتراط سادة بريرة على عائشة بأن الولاء لهم: «ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل» ومعنى من أعتق أن له الولاء، ومعنى من ملك بعيرا أن له الظهر، فيكون ما قال جابر منسوخا، ويكون ما أبان رسول الله من فساد الشرط ناسخا، ومنها - أن يكون وعد جابر على غير عقد، فإن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، ومنها - أن لا يكون وعد، وكان الشرى مطلقا، ولا وعد قبل ذلك، فلما اشترى رسول الله تفضل بظهره على جابر، ولا أعلم خلافا بين المسلمين أن من ملك بعيرا أن له ركوبه وبيعه وإكراءه، وأنه لا يجوز أن يشترط منعه مما له في عقدة الشرى، وفي ذلك دليل على أحد الوجوه التي وصفنا، وبالله التوفيق" (الأمر والنهى على معنى الشافعى 345)
قال أبو جعفر الطحاوى: "قال أصحابنا إذا اشترى دارا على أن يسكنها البائع شهرا أو شرط له خدمة العبد أو كوب الدابة مؤقتا أو غير مؤقت فالبيع فاسد وهو قول الشافعي.
وقال مالك لا بأس بأن يشترط للبائع سكناها مدة معلومة الشهور والسنة ما لم يتباعد وإن شرط سكناها حياته فلا خير فيه وإن باع دابه على أن له ركوبها شهرا فلا خير فيه ويجوز في اليوم واليومين.
وقال الأوزاعي جائز أن يبيع الرجل بعيرا ويشترط ظهره إلى المدينة وإلى وقت يسميه.
وقال الليث لا بأس بأن يشترط سكنى الدار سنة لأنها وإن أحرقت كانت من المشتري وأما الدابة فإن كان شيئا قريبا فلا بأس وإن كان بعيدا لم أحبه ولا يجوز أن يشترط ظهر الدابة إلى موضع لا قريب ولا بعيد ولا يصلح أن يبيع الدابة ويستثني ظهرها وكره أن يستثني سكنى الدار عشر سنين.
قال أبو جعفر روى ابن جريج عن عطاء عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعني بعيرك فقلت هو لك يا رسول الله فقال بعينه قد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة فلما قدمنا المدينة قال يا بلال اقضه حقه ورده فأعطاني أربعة دنانير وزادني قيراطا.
فاحتج من أجاز استثناء الظهر بذلك.
وقد روى الشعبي عن جابر قال فيه فبعته بأوقية واستثنيت حملانه حتى يقدم المدينة فلما قدمنا أتيته بالبعير فقلت هذا بعيرك يا رسول الله فقال لعلك ترى إنما حسبتك لأذهب ببعيرك يابلال أعطه أوقية قال انطلق ببعيرك فهما لك.
فدل ذلك على أن الخطاب لم يكن بيعا ولو صح أنه كان بيعا فلا دلاله فيه على أنه شرط في العقد وجائز أن يكون باع وجعل له ظهره إلى المدينة وأيضا شرط ركوب البائع لا يخلو من أن يكون الركوب فيه مستحقا من مال المشتري فيكون البيع فاسدا لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري عليه وإن كان استثناؤه الركوب أوجب بقاء الركوب في ملك البائع هذا فجاز لأن المشتري لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع وإنما ملكها لأنها طرأت على ملكه وكذلك سكنى الدار ونحوها" (مختصر اختلاف العلماء - في شرط سكنى الدار وركوب الدابة للبائع)