احذر, الخطرات وذكريات الذنوب القديمة خلايا سرطانية فتاكة بالقلوب:
احذر, الخطرات وذكريات الذنوب القديمة خلايا سرطانية فتاكة بالقلوب:
ذنوب قديمة تعمل, عبارة سمعتها قديما من واعظ وقعت من نفسي موقعها، وأنتظر ثمرة التوفيق لمنفعتها، يا للهول، {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}، فالمحصى المكتوب أمران, مقدم عمل÷ وآثار، فالأول معلوم واضح، والتخلص منه طريقه ميسورة لمن وفقه الله تعالى، لكن، ما يخفى هو الثاني، {وآثارهم}، كنت أظن زمنا من عمري أنه واضح كالأول, دعوة إلى ضلالة، أو استنان ضلالة، كما أن على ابن آدم القاتل وزر في كل قتل يقع على وجه الأرض، لأنه أول من قتل، ولا شك في خطورة هذا النوع على وضوحه، والخطورة خطورتان, خطورة مدركة معلومة, كمعرفة أن الكفر الأكبر أعظم خطرا من الذنوب، وخطورة نسبية لا تنافي الأولى إلا أن سببها الجهل، فالخطر الواضح المحدق يعد له العقلاء في الأعم الأغلب عدة الاحتراز، لكن، ما لا يتفطن إليه لا تعد له عدت الاحتراز للجهل به، فإن إتي المرء من قبله تكون الهلكة عظيمة به، مع أن الإنسان احترز مما هو أعظم منه في الأصل، وما أتي الإنسان من قبله أضعف، لكنها الغفلة، والأعداء عدوان, عدو تعلمه تحترز منه، وعدو تجهله، فقد يناجزك العدو المعلوم أزمنة لا ينال منك لاحترازك منه مع قوته وصلابته، وينال منك عدو أضعف منه بجهالتك لعداوته لك.
إذا وضحت الفكرة، وعلم أن الآثار المكتوبة المحصاة غير ما قدم الإنسان، فإن من الآثار المحصاة ما هو ظاهر, كالدعوة إلى ضلال، أو استنان ضلال، ومنها ما يغفل كثير من الناس عنه, كذكريات الذنوب.
وخطر الذنوب من أربع جهات, جهة يعلمها الناس عامة، وهو التلبس بالذنب, فإما توبة، وإما إصرار، وهناك ثلاث جهات لا يعد العدة للاحتراز منها إلا القليل:
--الجهة الأولى, ذنب نسيت ذكره، وحين أحدثته لم تتبعه بتوبة، أو كانت التوبة غير مستوفية لشروطها, وهي التي نزل فيها قول الله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم، إن الله غفور حليم}.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية:
ثُمَّ قَالَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ أَيْ: بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ جَزَاء السيئةَ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا".
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/213-214):
"ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تَوَلِّي مَنْ تَوَلَّى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنَّهُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، فَاسْتَزَلَّهُم ُ الشَّيْطَانُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ حَتَّى تَوَلَّوْا، فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ جُنْدًا عَلَيْهِمُ ازْدَادَ بِهَا عَدُوُّهُمْ قُوَّةً، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ جُنْدٌ لِلْعَبْدِ وَجُنْدٌ عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ، فَلِلْعَبْدِ كُلُّ وَقْتٍ سَرِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ تَهْزِمُهُ أَوْ تَنْصُرُهُ، فَهُوَ يَمُدُّ عَدُوَّهُ بِأَعْمَالِهِ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ بِهَا، وَيَبْعَثُ إلَيْهِ سَرِيَّةً تَغْزُوهُ مَعَ عَدُوِّهِ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَغْزُو عَدُوَّهُ، فَأَعْمَالُ الْعَبْدِ تَسُوقُهُ قَسْرًا إِلَى مُقْتَضَاهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْعَبْدُ لَا يَشْعُرُ أَوْ يَشْعُرُ وَيَتَعَامَى، فَفِرَارُ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدُوِّهِ وَهُوَ يُطِيقُهُ إنَّمَا هُوَ بِجُنْدٍ مِنْ عَمَلِهِ بَعَثَهُ لَهُ الشَّيْطَانُ وَاسْتَزَلَّهُ بِهِ ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْفِرَارَ لَمْ يَكُنْ عَنْ نِفَاقٍ وَلَا شَكٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ عَارِضًا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فَعَادَتْ شَجَاعَةُ الْإِيمَانِ وَثَبَاتُهُ إلَى مَرْكَزِهَا وَنِصَابِهَا.
وقال الشيخ ابن عثيمين في تفسير الآية:
"﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ الباء هنا للسببية؛ أي: ببعض الذي كسبوه، وما هو الذي يكون سببًا لإغواء الشيطان من المكاسب؟ هو المعاصي؛ أي: أن لديهم ذنوبًا كانت سابقة، ثم إن الشيطان استزلهم بها، أي: أوقعهم في الزلل بسبب هذه الذنوب؛ لأن الذنوب تكون سببًا للذنوب الأخرى، ولهذا قال بعض السلف: إن من علامة قبول الحسنةِ الحسنةَ بعدها، ومن علامة ردها السيئة بعدها. فالإنسان إذا أذنب ذنبًا فإنه إن لم يتُب فإن الشيطان يوقعه في ذنب آخر، وهكذا حتى يصبح قد أحاطت به خطيئته والعياذ بالله، ولهذا قال العلماء: إن المعاصي بريد الكفر؛ يعني تنتقل بالإنسان مرحلة بعد أخرى حتى يصل إلى قمة المعاصي؛ وهو الكفر.
ثم قال الله عز وجل لما بيّن خطأهم وأنهم هم السبب في هذا الخطأ قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ وهذه كالتي سبَقت في قوله: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ فكرّر الله العفو مرتين. ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ أي: عن الذين تولوا، والعفو: ترك المؤاخذة على الذنب، ويكون في الغالب في ترك الواجبات؛ يعني أن الله يعفو عمن ترك الواجب، والمغفرة تكون في من فعل المحرّم.
﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ الغفور من أسماء الله، والحليم من أسمائه".
قد لا يستفيد الإنسان الكثير من مباحث ثانوية للآية, من مثل, الاستقصاء في العدد والأعيان ، وماهية تلك الذنوب المقصودة في الآية، لأن الباري عز وجل لم يصرح إلا بالثمرة, {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا}، فأما من نزلت فيهم فقد جاءهم ضمان العفو بتكراره في السورة مرتين، كما مر نقله، فأين أنا وأنت من هذا الضمان؟
--الجهة الثانية, ذنوب تحدثك بها نفسك ولما تعمل بها، لكن يهب خاطرها، ويبقى وازع الإيمان يصارعها حتى تكون الغلبة لأحد الفريقين، وهي التي يشملها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله تَجاوَزَ لي عن أُمَّتي ما وَسْوَسَتْ بهِ صُدورُها، [أو حَدَّثَتْ به أنفُسَها ما لمْ تَعْمَلْ [به] أو تكَلَّمْ".
ومع هذا فالاسترسال معها خطير. قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي ص154-155:
"[فَصْلٌ الْخَطْرَةُ]
وَأَمَّا الْخَطَرَاتُ: فَشَأْنُهَا أَصْعَبُ، فَإِنَّهَا مَبْدَأُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمِنْهَا تَتَوَلَّدُ الْإِرَادَاتُ وَالْهِمَمُ وَالْعَزَائِمُ، فَمَنْ رَاعَى خَطَرَاتِهِ مَلَكَ زِمَامَ نَفْسِهِ وَقَهَرَ هَوَاهُ، وَمَنْ غَلَبَتْهُ خَطَرَاتُهُ فَهَوَاهُ وَنَفْسُهُ لَهُ أَغْلَبُ، وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالْخَطَرَاتِ قَادَتْهُ قَهْرًا إِلَى الْهَلَكَاتِ، وَلَا تَزَالُ الْخَطَرَاتُ تَتَرَدَّدُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى تَصِيرَ مُنًى بَاطِلَةً.
{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سُورَةُ النُّورِ: 39] .
وَأَخَسُّ النَّاسِ هِمَّةً وَأَوْضَعُهُمْ نَفْسًا، مَنْ رَضِيَ مِنَ الْحَقَائِقِ بِالْأَمَانِي الْكَاذِبَةِ، وَاسْتَجْلَبَهَ ا لِنَفْسِهِ وَتَجَلَّى بِهَا، وَهِيَ لَعَمْرُ اللَّهِ رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمُفْلِسِينَ، وَمَتَاجِرُ الْبَطَّالِينَ، وَهِيَ قُوتُ النَّفْسِ الْفَارِغَةِ، الَّتِي قَدْ قَنَعَتْ مِنَ الْوَصْلِ بِزَوْرَةِ الْخَيَالِ، وَمِنَ الْحَقَائِقِ بِكَوَاذِبِ الْآمَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَانِيَّ مِنْ سُعْدَى رِوَاءٌ عَلَى الظَّمَا ... سَقَتْنَا بِهَا سُعْدَى عَلَى ظَمَأٍ بَرْدَا
مُنًى إِنْ تَكُنْ حَقًّا تَكُنْ أَحْسَنَ الْمُنَى ... وَإِلَّا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنًا رَغْدَا
وَهِيَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْعَجْزُ وَالْكَسَلُ، وَتُوَلِّدُ التَّفْرِيطَ وَالْحَسْرَةَ وَالنَّدَمَ، وَالْمُتَمَنِّي لَمَّا فَاتَتْهُ مُبَاشَرَةُ الْحَقِيقَةِ بِجِسْمِهِ حَوَّلَ صُورَتَهَا فِي قَلْبِهِ، وَعَانَقَهَا وَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَقَنَعَ بِوِصَالِ صُورَةٍ وَهْمِيَّةٍ خَيَالِيَّةٍ صَوَّرَهَا فِكْرُهُ.
وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَثَلُهُ مَثَلُ الْجَائِعِ وَالظَّمْآنِ، يُصَوِّرُ فِي وَهْمِهِ صُورَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ.
وَالسُّكُونُ إِلَى ذَلِكَ وَاسْتِجْلَابُه ُ يَدُلُّ عَلَى خَسَارَةِ النَّفْسِ وَوَضَاعَتِهَا، وَإِنَّمَا شَرَفُ النَّفْسِ وَزَكَاؤُهَا، وَطَهَارَتُهَا وَعُلُوُّهَا بِأَنْ يَنْفِيَ عَنْهَا كُلَّ خَطْرَةٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَلَا يَرْضَى أَنْ يُخْطِرَهَا بِبَالِهِ، وَيَأْنَفَ لِنَفْسِهِ مِنْهَا".
وأقل مفسدة هذه الذنوب التي تطير بأجنحة الخطرات أنها مضيعة للوقت فيما لا يفيد، كيف لو زاد مع ذلك تحولها إلى أوهام وأماني كاذبة.
حدثت عن رجل تزوجت امرأة كان يريدها لنفسه، فمكث ينتظرها، فلما سألوه: لماذا لا يختار طريقه كما تيسر لها طريقها، فقال لعل زوجها يموت أو تطلق!
ناهيك عمن يعيشون مع خيالات وأوهام بعيدة، يستل بها الشيطان أعمارهم استلالا، بعضها يسميه المشتغلون بعلم النفس أحلام اليقظة، وما أكثر ما يعجز الإنسان في واقعه عن أمور يحقق الانتصارات الوهمية آلاف المرات في خيالاته، ويفيق فيجد واقعه كما هو، وما هي إلا أن ضاعت أوقات كان يمكن أن ينفقها في الضراعة والاستكانة لله ليكشف الله ما به من ضر.
وقصة بائع الجرار شهيرة, وذاك أنه يحكى أن تاجرا هنديا كان يبيع جرار الفخار في عربته، ومرة سئم من عمله هذا ففكر فهام مع نفسه أنه باع الجرار، واشترى من الأنعام القطعان، وكثرت تجارته واتسعت حتى أصبح كبير التجار، وسمع به الملك فتقرب منه وأراد خطبة ابنته الأميرة فوافق الملك، وفي العرس جاء من يريد اختطاف الأميرة العروس، فهب صاحبنا لينقذها، وما هو إلا أن كان دفاعه وقتاله لجراره في عربته في حلم يقظة خسر فيه رأس ماله ولم يبق له شيء.
والقصة على شهرتها وسذاجتها قد لا تكون إلى خيالا محضايعكس صورة واقعية أشد إيلاما حين يوافي العبد ربه برأس مال هو أوهام لا أكثر, وإذا كان في العباد من يعمل أعمالا يجعلها الله هباء منثورا، ومن يأتي بأعمال كسراب بقيعة، ومن يعمل أعمال كزرع يعجب الزراع ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما، فما بالك بمن لا يأتي معه إلا أوهام.
نعم:
أَمَانِيَّ مِنْ سُعْدَى رِوَاءٌ عَلَى الظَّمَا ... سَقَتْنَا بِهَا سُعْدَى عَلَى ظَمَأٍ بَرْدَا
مُنًى إِنْ تَكُنْ حَقًّا تَكُنْ أَحْسَنَ الْمُنَى ... وَإِلَّا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنًا رَغْدَا
لا تقل أيها القارئ الكريم إن هذا قليل عند المرضى نفسيا، فلو كنت تعرف حال الشباب مع من يعجبون به من محبوبين أو مشاهير أو فنانين لطال عجبك، لكن، كثير ممن يعيشون مع الأوهام لا يحدثون عن ذلك أحدا، ولا يكاد يكتشفهم أحد إلا عند استفحال الأمر، ومن يدري؟! ربما أنا وأنت عندنا من هذا ولكن لا نجرؤ أن نبوح به لأحد.
وهل مبدأ تحرك الشهوات عند الشباب إلا من هذا النحو؟ وكم يعيش المسكين من حلم بمن أعجب به تراءى له في المنام بتسويل النفس أو الشيطان فيعيش عليه يوما أو أياما بسعادة مزيفة أو مرارة من وهم.
وكم من مبتلى بهذا ربما قطعت عليه لحظات تفكير طويل بمزحة معه عاتبك بقوله: لقد قطعت علي لحظات من أسعد لحظات حياتي، وأسوأ فصول هذه القصة أنهم يعيشون ويضيعون أوقاتهم في عوالمهم الوهمية مع من لا يشعرون بهم من معجبيهم، ويبنون الآمال حول لقياهم والأنس به على هواء، وقد كان لهم غنية عن كل هذا لو أخذ بأيديهم فعرفوا ربهم، فصرفوا أوقاتهم مع من يقول: {وأنا جليس من ذكرني}، و{أنا مع عبدي إن ذكرني وتحركت بي شفتاه}، أو كما جاء في الحديث، إذن لوجدوا للحياة طعما مختلفا، لا يعرفه إلا من جرب، ومن جرب عرف كما يقول ابن القيم.
رسخ هذا العيش مع الأوهام في شبابنا وغيرهم تلك الروايات والمسلسلات والأفلام التي هي أصلا من نسج الخيال، فلو يعلم الروائيون والكتاب والمخرجون وأرباب المنتاج كيف يصنعون بأفئدة العباد حين يفعلون التراجيديا والرومانسية كما يسمونهما حين يحكون بأحدث أدواتهم وأبرع أساليبهم مشاهد الخيالات في المتلقين مع ما يحدثه السماع المذموم من تأثير مصاحب، وكيف يتحول هذا المشهد الروائي أو الممثل مرضا يغذوه الوهم في واقع المتلقين فيعيشه مرارا لا مرة واحدة حين يحاكيه، لكن الفارق كبير, بين من كتب أو جسد مشهدا وتقاضى عليه الأجور الدنيوية، وبين من يحاكي ليضيع رأس ماله وهو عمره في البعد عن أغلى ما يمكن أن تنفق فيه الأوقات وهو التعلق بالله والتعبد له وتأمل كيف يصور ابن القيم الحال في النص السابق, وَالْمُتَمَنِّي لَمَّا فَاتَتْهُ مُبَاشَرَةُ الْحَقِيقَةِ بِجِسْمِهِ حَوَّلَ صُورَتَهَا فِي قَلْبِهِ، وَعَانَقَهَا وَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَقَنَعَ بِوِصَالِ صُورَةٍ وَهْمِيَّةٍ خَيَالِيَّةٍ صَوَّرَهَا فِكْرُهُ.
وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَثَلُهُ مَثَلُ الْجَائِعِ وَالظَّمْآنِ، يُصَوِّرُ فِي وَهْمِهِ صُورَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَب"ُ.
والنفس يشببها سلفنا بالطاحون أو الرحة لا بد لها من حركة بالطحن، فقد يخرج منها الدقيق الفاخر، وقد تسمع جعجعة ولا ترى طحينا.
ومن مظاهر ذلك بجلاء فلتات اللسان التي تسمع كل وقت وحين, فهذا يردد أغنية، وهذا يذكر مشهدا، وهذا يتكلم بكفر سمعه دراه أو لا يدري معناه، قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/408):
"وَرَأَيْتَ مِنْ ظُلْمِهِمُ الْأَقْدَارَ وَاتِّهَامِهِمُ الْجَبَّارِ مَا يَبْدُو عَلَى فَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَصَفَحَاتِ وُجُوهِهِمْ، وَتَسْمَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ مِنَ التَّظَلُّمِ وَالتَّوَجُّعِ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ الْخَصْمِ الْمَغْلُوبِ الْعَاجِزِ عَنْ خَصْمِهِ"، أي التسخط على القدر، ويا ويل فلتات الألسن،
بل وأخفى منه ما يظهر على صفحات الوجوه يطلع الله عليه من شاء كما مر عن ابن القيم رحمه الله، وكما يقول شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الصحيح ج6 ص489-491
"وَالرَّجُلُ الصَّادِقُ الْبَارُّ يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ نُورِ صِدْقِهِ، وَبَهْجَةِ وَجْهِهِ سِيمَا يُعْرَفُ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْكَاذِبُ الْفَاجِرُ، وَكُلَّمَا طَالَ عُمُرُ الْإِنْسَانِ ظَهَرَ هَذَا الْأَثَرُ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ فِي صِغَرِهِ جَمِيلَ الْوَجْهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفُجُورِ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ يَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ مِنْ قُبْحِ الْوَجْهِ مَا أَثَّرَهُ بَاطِنُهُ، وَبِالْعَكْسِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ، وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ، وَبَغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مِمَّنْ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ لَكِنْ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاتٍ بَاطِلَةً كَاذِبَةً فِي اللَّهِ أَوْ فِي رُسُلِهِ أَوْ فِي دِينِهِ أَوْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَتَكُونُ لَهُ زَهَادَةٌ، وَعِبَادَةٌ، وَاجْتِهَادٌ فِي ذَلِكَ فَيُؤَثِّرُ ذَلِكَ الْكَذِبُ الَّذِي ظَنَّهُ صِدْقًا وَتَوَابِعُهُ فِي بَاطِنِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَعْلُوهُ مِنَ الْقَتَرَةِ وَالسَّوَادِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوِ ادَّهَنَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ كُلَّ يَوْمٍ بِدِهَانٍ، إِنَّ سَوَادَ الْبِدْعَةِ لَفِي وَجْهِهِ "
وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظُهُورًا تَامًّا. قَالَ تَعَالَى:
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى {الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِ ينَ} [الزمر: 60] (60) {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61]
وَقَالَ تَعَالَى:
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] (106) {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ قَصْدِ الصِّدْقِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْبِرِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ يَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ حَتَّى يُعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا مِنْ أَبْلَغِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ مَا فِيهَا مِنْ قَصْدِ الْكَذِبِ وَالْبُغْضِ وَالْفُجُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ يُرَافِقُ فِي سَفَرِهِ مَنْ لَمْ يَرَهُ قَطُّ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ فَلَا يَلْبَثُ إِذَا رَآهُ مُدَّةً، وَسَمِعَ كَلَامَهُ أَنْ يَعْرِفَ هَلْ هُوَ مَأْمُونٌ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ؟ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ وَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَرُبَّمَا غَلِطَ، لَكِنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بَعْدُ لِعَامَّةِ النَّاسِ".
وجاء في مجموع الفتاوى (16/68):
"فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلصَّالِحِينَ سيما وَجَعَلَ لِلْفَاجِرِينَ سيما. قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} وَقَالَ يَظْهَرُ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُ مْ فَلَعَرَفْتَهُم ْ بِسِيمَاهُمْ} الْآيَةَ. فَجَعَلَ الْإِرَادَةَ وَالتَّعْرِيفَ بِالسِّيمَا الَّذِي يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ مُعَلَّقًا عَلَى الْمَشِيئَةِ وَأَقْسَمَ عَلَى التَّعْرِيفِ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفُوا فِي أَصْوَاتِهِمْ وَكَلَامِهِمْ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ لَحْنُ قَوْلِهِمْ وَهَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ فِي النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْفِرَاسَةِ فِي الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَظْهَرُ فِيهَا مِنْ النَّوَاقِضِ وَالْفُحْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا ظُهُورُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ ظُهُورَ مَا فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ عَلَى فَلَتَاتِ لِسَانِهِ أَقْوَى مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ فَإِظْهَارُهُ لِمَا أَكَنَّهُ أَوْكَدُ؛ وَلِأَنَّ دَلَالَةَ اللِّسَانِ قَالِيَةٌ وَدَلَالَةَ الْوَجْهِ حَالِيَّةٌ. وَالْقَوْلُ أَجْمَعُ وَأَوْسَعُ لِلْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقَلْبِ مِنْ الْحَالِ؛ وَلِهَذَا فَضَّلَ مَنْ فَضَّلَ كَابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ السَّمْعَ عَلَى الْبَصَرِ".
ولو لم يكن كل ذلك كذلك، وكان شيء واحد, هو ما ذكره الله عز وجل: {ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، لكان أدعى في محاربة الخطرات، خوفا وحياء من الله عز وجل، كيف لا وقد زادت معه ثالثة, تجاوز الله عنها ما لم تثمر عملا أو كلاما، هذا أدعى للحياء من الله عز وجل, كيف يخطر ببالي كذا وكذا والله يعلم، ثم يتجاوز عني، فذاك يثمر المدافعة.
فأول مراتب المدافعة, الخوف والحياء، ثم مرتبة أعلى, الخوف من البدو على صفحات الوجه، ثم مرتبة أعلى تدل على تمكن الخطرات وتولدها إلى أن تصل إلى فلتات اللسان، ثم ما تلبث أن تتغير إلى ما هو أسوأ, أن تصبح اعتقادات، أو تثمر أعمالا، وأخطر ما يكون ذلك أن يخلى بينك وبينها فتكون في سكرات الموت, ويبعث المرء على ما مات عليه، ويموت المرء على ما كان أكثر شأنه في الدنيا، والمعصوم من عصم الله عز وجل.
ومن درجات الخطرات الهم، وهو كما ينقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الإمام أحمد أنه درجتان, هم خطرات، وهم إصرار، والفرق بينهما أن هم الخطرات إذا كان سيئة وترك مع القدرة إجر صاحبه، وإذا كانت حسنة فعجز عن فعلها إجر، ففي صحيح مسلم: {قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً - وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ - فَقَالَ ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي}، وأما هم الإصرار فإنه يؤزر صاحبه وإن لم يتممه, وحديث {إذا التقى المسلمان بسفيهما فالقاتل والمقتول في النار}، وإنما كانت علة أن المقتول في النار حرصه على قتل صاحبه مع أنه لم يقتله.
ولو سألت نفسك, كم من الخطرات السيئة مرت بي في حياتي ودخلت في عفو الله وحلمه؟ وكم منها وقاني الله عز وجل الاسترسال معها؟ وكم منها ما يزال في نفسي, إما خاملا لا أدري متى ينشط، وإما نشطا لا أدري أتكون هلكتي فيه مع الاسترسال أم يعصمني الله عز وجل منه، عندها وإن كنت تعلم المعنى ينشأ في تصورك مقدار عظمة قول الله عز وجل: {وكان بالمؤمنين رحيما}.
حين تتفكر في هذا تعلم عظم مقدار الغفلة التي نحن فيها، فنحن نتوقى الواضحات ونعد العدة لحربها، ولا ندري أن هناك في أنفسنا ما ينبغي الحذر منه، وكم أتينا من قبله ونحن لا نشعر، وكم يسعنا الله بحلمه، وكم نحيا لا نقدر الله حق قدره فنعيش في أمنة من مكره حين نؤتى من قبل أنفسنا!
--الجهة الثالثة, ذكريات الذنوب:
* شابة حققت طموحها مثلها مثل بنات سنها فتزوجت، لك أن تتصور فرحتها، لك أن تتصور آمالها العريضة التي بنتها, إنجاب الأولاد، تربيتهم، العيش في سعادة مع زوج يحفظها ويصونها، لكن، وقع ما لم يكن بالحسبان،, كان سبب طلاقها فلتة لسانها في لحظة ود مع زوجها فقالت: ذكرتني بأيام قديمة، وتحت إلحاح الزوج وتهديده مع ضعفها أخبرته بالحقيقة، لا تحكم عليها أيها القارئ الكريم، فلعلها تابت حتى قبل أن يتقدم لها الزوج، وربما لم تقع في الكبيرة العظمى، وإلا لاتضحت حقيقتها من البداية، لا تعمل عقلك في الوقوف مع طرف ضد الآخر، فالتعاطف أو الذم واقتراحات المشاهد والمستمع لا تغير من الواقع شيئا، وتعطفك عن لب القضية، كل ذلك كان بسبب ذكريات ذنوب قديمة.
* رجل كبير في السن يذهب يوميا إلى المسجد القريب من المقبرة ليحظى بأجر الجنائز، وله همة في الصدقة، لكنه يشتكي، ترى ما شكواه؟ منذ بضع وعشرين سنة أو بضعة وثلاثين كان شابا فتيا يطمع فيما يطمع فيه الشباب، اتفق على مواقعة محرمة مقابل مبلغ مع امرأة فأعطاها المال وتركته يشرب، فلما غرق في السكر أخذت المال وهربت، وما قضى وطره، إلى هنا الوضع طبيعي, ذنب مضى، وصاحبه نحسبه والله حسيبه وضع قدميه على الطريق الصحيح وترك صبوة الشباب، ونحسبه تاب من الشرب وغيره.
إذن، لماذا هذه القصة, مشهد الخديعة عاد إليه بعد عشرات السنين، لماذا لم يبحث عنها وينتقم؟ لم يخبر بهذا إلا شخصا وثق به، لم يخبر بهذا مجاهرة بالعصيان،, لأنه كما أخبر عن نفسه أنه لا يريد فعل ذلك، وبعد هذه السنين، لكنه يسأل: هل يؤاخذني الله عز وجل بهذه الخطرات التي أصبحت تتردد أمامي بين الفينة والأخرى؟ إذن، هي ذكريات الذنوب القديمة، وأقل ما يحرزه عدوه منه تنغيص عيشه، والرغبة في قطع تعلقه بالله، وانتقال الخاطر إلى كلام ولو من باب الاستشارة لمن يثق به دليل على قوة المعركة في نفسه.
* داعية في وسطه الدعوي، يكفي في ذكر نعمة الله عليه ذكر نعمة واحدة، فكيف لو ذكرت ما أعرف من نعم الله عليه، وما يعلمه الله أكثر وأكبر، كان في صغره لا يأبه له، ولا يعرف له قدر، يعيش في إهمال شديد، لتكون صور حياته في الابتلاءات طريقا يسوقه الله منها إليه، ومن مهمل أصبح داعية في وسطه، يحكي أنه سمع وهو راكب في سيارة صبيحة يوم معزوفة أو أغنية كان لمؤديها أو مؤديتها صوت مطرب، فتمنى لوقت قصير لو يرتفع صوت تلك المعزوفة أو الأغنية، لا تستعجل في حكمك، فقد كان سماعها مفروضا عليه في صغره، في حياة الإهمال التي عاشها، حيث لم يكن يفهم حتى معانيها، ولم يكن يدري يومها بحرمة المعازف والغناء، ولو طلبت منه ترديد كلماتها ما تذكر منها شيئا، هكذا يحكي عن نفسه، بل إنه حين عرف بحرمة الأغاني والمعازف أوذي كثيرا في بعض أوساطه التي عاش فيها وهو يبين حكم المعازف والغناء، لكنها خطرات لحظة، أنشبت أظفارها في ذكرى قديمة جددها ذاك السماع، إن أحسننا أنا وأنت الظن به، فلنا أن نتساءل: ماذا لو وكل إلى نفسه في تلك اللحظة فاسترسل، ثم كانت لحظة احتظاره؟
رجل رفعه الله بعد إهماله وظروفه القاسية يمكن أن يخسر ما بينه وبين ربه في لحظة، لك أن تتصور شعوره حين أخذ الله بيده فأكرمه وتتابعت نعم الله عليه، شعور أن الله عوضه عن سنين من الإهمال والمهانة، ثم كان يمكن أن يفقد ذلك كله في لحظة إن لم يعصمه ربنا فيصرف عنه ذلك الخاطر، والسبب ذكريات ذنوب قديمة، وقد يكون الوصف في حقه بأنه ذنب قديم فيه شيء من التجوز، فقد كانت معرفته بتلك المعزوفة أو الأغنية منذ الصبا, بين السادسة والسابعة كما يذكر، لتختفي عنه ويذهل عنها وعن غيرها لعشرات السنين، ولم يكن يعقل معانيها أو يتذكر كلماتها، ثم تصادف بقدر الله سمعه في لحظة أو لحظات جددت ذكرى قديمة.
خاطرة، ولم يسترسل معها، ماذا في ذلك؟ إنه الخوف من الخذلان بالذنوب، ولو كانت أمنيات من أحاديث النفس.
لا يقتصر تأثير ذكريات الذنوب عند المواقف الفردية، بل من حالات النكوص المتكررة الحنين إلى الماضي عبر أفلام الكرتون القديمة والمسلسلات والأفلام، حيث يراها فئام من الناس ليسوا بالقليل ذكريات الزمن الجميل، مع ما فيها من شركيات بالترويج لقدرات السحرة، ومع ما فيها من فسق وفجور ومعازف، والمؤسف مع هذا كله طرب القلب معها حين يعاني صاحبه من ألم عبر وقته الحاضر، فهي رمز للمحبة والصفاء والإخلاص الذي كان بين الناس قديما، ولم يجدوا ما يعبر عنه سوى تلك الأفلام الكرتونية والمسلسلات والأغاني القديمة، وهل كانت فعلا هي المسؤولة عن صفاء زمن قديم؟! هي صورة من صور تلك الأماني الكاذبة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله، وسيطر هذا الوهم على أصحابه حتى لم يعد للصفاء ذكرى سوى أوهام أطلال تلك الذكريات، وما هي إلا ذكريات ذنوب قديمة.
ولو كان لهم وعي تام لندموا على ضياع شيء من أعمارهم في التعلق بتلك الأوهام، ولو أنهم تعلقوا بالله لعاد إليهم ذاك الصفاء القديم الذي لم تكن تلك الأوهام مصدرا له يوما من الأيام. وبعض الناس تصرفه عن التوبة وإصلاح حاله في حاضره الذي من أسباب تعكره الذنوب ذكريات المشاغبات القديمة فيحن إليها، وبعض منها ذنوب، وبعض منها في زمن التكليف، فيتوهم أن السلام مع النفس في استجلاب تلك الذكريات القديمة وامتصاص روح الحماسة منها للعودة إلى الواقع ومواجهته مرة أخرى!
والعلاج الناجع بإذن الله لهذه القصص وغيرها أن يقال: إن ضياع العمر في الجهل بالله وبما يقرب منه وبما يسخطه ويبعد عنه من أعظم ما يتحسر عليه من عرف الله بعد ضيعة وضعف وذل ومسكنة، وقل من ينتبه لهذا، فكيف لو كان هذا الضياع في أوهام كاذبة، وإن كان لهم سلوى بأن الإحسان فيما بقي يجبُّ ما قد مضى.
فلتات اللسان، صفحات الوجوه، ذكريات الذنوب، ذنوب نسيت لم يتب منها صاحبها، أو كانت التوبة فيها قاصرة، أعداء قل من يحترز منهم، وهذا سبب كتابة هذه الأسطر.
فأول السعي في التخلص من ذلك الاستعانة بالله، ثم توقي الفراغ بملء القلب واللسان بذكره سبحانه، والحرص على التوبة العامة، مع التوبة الخاصة من كل ذنب، والتوبة تكون بشروطها مستوفاة، وكذلك الدعاء بالأدعية النبوية، ومنها, {وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك َ لِمَا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ علام الغيوب)}.