رد: الظلم في المنظور القرآني
الظلم في المنظور القرآني (2/ 2)
بو عصيدة الخير
الحمدُ لله رب العالمين وبه نستعين.
النموذج2:
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: ٥٩].
هذه الآية الكريمة تفتح آفاقًا وتزيدنا يقظة، ونحن نقاومُ الظلمَ وأهله؛ إذ رب العالمين يكشفُ لنا أنَّ ساحات حركة الظُّلم ليست حبيسةَ السلطة وغرفات الحكومات، بل تتَّسع فتهيمن على مواقعَ أخرى، وهذا ما سنبيِّنه ونكشفه:
1- إنَّ الظلم صفة نفسية تنطبع بالشخص أو المجتمع، وتظهرُ تجليَاتها على سلوكه، فالآية حددت وصفًا خاصًّا لقوم موسى - عليه السَّلام - إذ بدلوا وغيروا الصيغة الربَّانية للقول الموحى إليهم، فهم الظالمون الذين لم يحفظوا أمانة الله لهم، وهذه الصفات السالفة الذِّكر (التبديل والتحريف) تُمثل صورًا لسلوك الظُّلمة؛ إذْ هي اعتداءٌ على ما اختصَّ الله ربُّ العالمين بالتوجيه والتشريع الملزم.
2- المتبصر في هذا النَّموذج القرآني يُوقن أنَّ كلَّ تبديل وتغيير وتحريف لثوابت الشَّرع وقطعياته هو ظُلم واضح لحق رب العالمين بالألوهية دون سواه، ولا ننسى أنْ ندرج ضمن الصُّور السابقة الابتداع في الدِّين.
ومما سبق وبرويَّة ندرك أنَّ نشاط الظلم يتجاوز دوائرَ الحكم والسياسة إلى أسوار العقيدة والشريعة والأخلاق.
هذا التجاوز الظَّالم قابله ربُّ العالمين برِجْزٍ يتنزل من السماء على أجساد وأرواح القوم الظالمين، وهكذا يقتضي منا عند كلِّ اعتداء على حقوق الله - تعالى - أنْ نقابله بالرَّفض والرد والنقد، ولا نجامله مهما كان مصدره، بل يستوجب على أهلِ الإيمان في مراحل الطُّغيان وظلم حقوق الله أنْ يلجؤوا إلى اليد لاستئصال الظالمين، فنأخذ على أيديهم، فإذا عجزنا حقًّا وصدقًا، كفانا الله قتالَهم بعذابٍ مِن عندِه يُسلطه عليهم في الوقت الذي يُقدِّره، وبالصورة التي تكشف نِقمته.
فالآية توجب ردَّ الظلم بإيجابية، وألَّا نركنَ إلى جبرية قاتلة، ولا نستسلم أبدًا للمعتدين ظلمًا على شِرعة الله تعالى.
لطيفة: التبديل والتغيير والابتداع مسالك الظالمين:
النموذج3:
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: ١١٤].
قرَّرنا في النموذج القرآني (2):
أنَّ ساحاتِ الظلم تتجاوز السياسات والحكومات إلى العقائد والشرائع، فالنَّموذج (3) يكشف تنوُّع وتعدُّد ضحايا الظَّالمين مِن نوع البشرية والأحياء إلى الجمادات والأموات.
فالآية التي أمامنا تذكُر صِنفًا جمادًا لا رُوحَ له يتعرَّض إلى ظُلم عظيم، واعتداءٍ سافرٍ على سرِّ وجوده، وهذا الصِّنف هو بيوتُ الله - تعالى -: "مساجد الله - تعالى - وليس البيت العتيق الوحيد المقصود في الآية"، وتجلَّى ظلمُها في حرمانها من أداءِ وظيفتها الطبيعيَّة الشرعية بحرمانِها مِن روَّادها، وصدِّ عُمَّارها عنها.
وهذا حالُ كل الطغاة يظلمون مساجدَ الله فتُجرَّد مِن بُعدها الإيماني المشروع، وتفرَّغ مِن رصيدها البشري بشكل مُمنهج ترهيبًا وإغواءً وإلهاءً، وتَواصُل هذا التفريغ والتجريد المقصود يَدفع إلى تبنِّي الظَّالمين لخيارات استئصاليَّة عنيفة بهدم هذه البيوت الربانية إذا ما وجدوا ردودَ أفعال رَخوة، ونَجد هذه السنوات دُوَلًا تنتهج هذا المسلك الظَّالم باعتمادهم إستراتيجيَّات تجفيف منابع التديُّن في أوساط أهل التوحيد الحق.
ولكن مكرَ أولئك يَبُور، وسينقلب سِحْرُهم عليهم، وسيُصيبُهم الخزي والهوان في دُنيا الناس قبل يوم الجزاء العادل.
لطيفة: ويتجلَّى الخزي في الحياة أنْ يُمكِّن الله - تعالى - لدعوة الحقِّ في القلوب، وعلى أرض الناس، فتُبنَى المساجد المهدمة، ويُعبد فيها اللهُ - تعالى - وحْدَه، ويعمرها أهلُ الإيمان، فتدور دورة الزَّمن، فيضطر الظلمة إلى ارتيادها خوفًا مِن لسان الناس الغَيَارى على الدِّين، أو حذرًا مِن عدل المظلوم ونقمته.
لطيفة: الآية تُقَرِّر صورة أخرى للظلم: "الظلم التعبُّدي الشعائري".