رد: منهج السلف في الإفتاء
والعلماء ينقلون عن مالك ويتداولون في كتبهم، أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين مسألة بقوله: لا أدري، وأجاب السائل عن أربع.
الذي يجيب هذه النسبة عشر ما يسأل عنه هل يصنف عالم، وإلا طالب علم، وإلا لا علم له، عنده، بماذا ينصف؟ هل هذا فقيه؟ يعني لو إنسان يسأل طول عمره ما يجيب إلا بالعشر، هل يصنف عالم وإلا ما يصنف؟ هل يقال: هذا فقيه وإلا ليس بفقيه؟ إي نعم في عرف أهل العلم أن مثل هذا ليس من أهل العلم.
لكن عند أهل العلم أن الفقه كما يكون بالفعل يكون بالقوة القريبة إلى الفعل، إيش معنى القوة القريبة من الفعل؟
مالك الآن ليست عنده مراجع، سئل عن هذه المسائل وأجاب عن أربع هذه يتبينها مثل الشمس، والبقية يشك فيها، فهل يلزم أن يجيب فيها؟ لا يلزم، لكن مالكاً إذا رجع إلى كتبه وأصوله، يستطيع أن يحرر هذه المسائل أو لا يستطيع؟ يستطيع، فمالك فقيه؛ لأن الفقه عندهم إما أن يكون بالفعل بأن يسأل عن المسائل فيجيب عن الأسئلة بأدلتها، وإما أن يكون بالقوة القريبة من الفعل بأن تكون لديه الأهلية لبحث المسائل العلمية والترجيح والتعامل مع النصوص على مقتضى الجادة المعروفة عند أهل العلم، هذا فقيه بالقوة، لكن من سئل عن مسألة في الطهارة مثلاً، فأخذ كتاباً من كتب الفقه المرتبة على الطريقة المعروفة عند أهل العلم، ثم أخذ يقلب الصفحات الأخيرة، هذا فقيه بالفعل أو بالقوة؟ لا هذا، ولا هذا، كما لو سئل عن مسائل في الإقرار فذهب يبحث عنها في أوائل الكتب المرتبة.
لكن بعض الناس بالفعل فقيه، تسأله عن مسألة فيذهب إلى الكتاب فيفتح الكتاب يقع على المسألة، قد يقع على المسألة وقد يقدم ورقة ويؤخر ورقة، هذا الفقيه بالقوة القريبة من الفعل، يستطيع الوصول إلى المسائل في كتب أهل العلم، ويستطيع أن يتعامل مع كلام أهل العلم بالطريقة المسلوكة عنده، لكن من تخرج على المذكرات هل يستطيع أن يتعامل في كتب أهل العلم، ويفهم كلام أهل العلم؟ لا يستطيع، كلام أهل العلم عندهم أصول، وعندهم قواعد، وعندهم اصطلاحات لا يفهمها إلا من عانى كلامهم، ولذا المطلوب من طلاب العلم ألا يقرءوا ولا يعتمدوا على كتب المعاصرين، يكون معولهم على الكتب التي ألفت لطبقات المتعلمين من أهل العلم، وهي التي يربى عليها طالب علم، أما أن يقرأ في مذكرات، وفي كتب معاصرين صيغت للمعاصرين يفهمها كل أحد، هذه ما تربي طالب علم؛ لأنه قد يحتاج إلى مسألة في كتاب من كتب المتقدمين، فلا يستطيع فهمها.
يقول عبد الله بن الإمام أحمد: كثيراً ما يسأل الإمام أحمد عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيراً ما يقول: سل غيري فإن قيل له: من نسأل؟ قال: سلوا العلماء، ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه، لا يكاد يسمي رجلاً بعينه، قال: وسمعت أبي يقول: "كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق، ويقول: من يحسن هذا".
مع أنه من أهل الفتوى المعروفين ابن عيينة.
وكان أحمد -رحمه الله- تعالى شديد الكراهية والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، يعني مسألة جديدة، نازلة، الإمام أحمد يكره كراهية شديدة أن يفتي بهذه المسألة التي لم يسبق إليها، كما قال الإمام أحمد لبعض أصحابه: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام".
وقال بعضهم: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بنص فافعل، يعني لا بد أن يكون لك قدوة في عملك، وفي قولك، وكان -رحمه الله- يسوغ استفتاء فقهاء الحديث، وأصحاب مالك ويدل عليهم، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه، ولا يسوغ العمل بفتواه؛ لأن عناية الإمام أحمد بالوحيين ظاهرة، حتى أن من أهل العلم من لا يعده فقيهاً، وإنما يعده من أهل الحديث، وابن عبد البر لما ترجم للأمة الفقهاء ترجم للثلاثة وتركه، لكن مثل هذا لا يضيره، ففقه معروف، ومتداول وأصحابه فيهم كثرة، وحملت علمه الذي بقي إلى يومنا هذا قامت بهم مئونة حمل هذا العلم العظيم، عن هذا الإمام المقتدي المؤتسي، المتثبت إمام أهل السنة الإمام أحمد.
قال أبو داود في مسائله: "ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري، قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى، أي ما رأيت أحسن منه، وكان أهون عليه أن يقول: لا أدري" يقول: لا أدري.
وقال سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه".
ويقول ابن القيم: "الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، ومن غزارته وسعته، "الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، ومن غزارته وسعته".
فقليل العلم -مثل ما ذكرنا سابقاً- يريد أن يبني شخصيته، ولو كان على حساب دينه وشغل ذمته، والعالم المتبحر عنده ما يجيب به في كثير من المسائل أو كبار المسائل.
يقول: "فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا وقد بلغ ما جمع من فتواه في عشرين سفراً" عشرين مجلد.
كان الناس ينظرون إلى مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ويقولون: كيف جمع هذا العلم، وجمع هذه، وأجاب عن جميع هذه المسائل في هذا العمر؟ شيخ الإسلام لم يعمر، من واحد وستين إلى ثمان وعشرين، أربعين وسبعة وعشرين سبعة وستين سنة، ما شاء الله، سبع وثلاثين مجلد فتاوى إذا نظرت إلى فتاوى النووي إذا هي في جزء صغير، وإذا قارنا هذا بفتاوى من يتصدى للإفتاء في وقتنا تجد البون كبير، يعني لو أن إنسان يجيب في كل يوم عن خمس مسائل مثلاً في عصرنا هذا في السنة يحتاج إلى كم؟ ألف وسبعمائة مسألة، وفي عشر سنوات يجيب عن سبعة عشر ألف مسألة، وفي العشرين وهكذا إلى أن تبلغ المئات من المجلدات، وهذا الحاصل، يعني لو جمعنا فتاوى شيوخنا مثلاً، يعني ما جمع معنا مثلاً الشيخ ابن باز، يقرب من فتاوى شيخ الإسلام، وبقي الشيء الكثير، ولو جمعت فتاواه في الطلاق لبلغت حجم مجموع فتاوى شيخ الإسلام كله، والحاجة داعية، والناس كثرت عندهم الإشكالات، كثر عندهم ما يحتاج إلى سؤال أهل العلم من مشاكل سواءً كانت في الدين، أو في أمور الدنيا، أو في التعامل والأمور الاجتماعية، هذه كثيرة جداً، تحتاج إلى من يحلها بالطريقة الشرعية.
وكان سعيد بن المسيب أيضاً واسع الفتيا وكانوا يسمونه الجريء، كانوا يسمونه جريء، يعني تحس إن بعض الناس جرأة، جرأة لكن إن كانت الجرأة مبنية على أصول شرعية فنعمت الجرأة، وإن كانت غير مبنية على الأصول الشرعية فيا ويلهم، يعني أحياناً تقرأ فتوى لشيخ الإسلام بذيولها واستطراداتها تجد عنده قوة في الكلام، وقد تقول: هذا الكلام فيه جرأة، لكنها جرأة سببها الإحاطة بنصوص الشرع وقواعده وأصوله، ومع ذلك سئل عنه محمد رشيد رضا، يعني نظير ابن عباس مع من تقدمه من الصحابة، شيخ الإسلام مع من تقدمه من الأئمة، رشيد رضا سئل عن شيخ الإسلام هل هو أعلم من الأئمة الأربعة، أو هم أعلم منه؟ فقال: "من وجه باعتبار أن شيخ الإسلام -رحمه الله- تعالى تخرج على كتب الأئمة، وكتب أصحابهم فلهم الفضل عليه، وباعتبار إحاطته بما كتبه هؤلاء الأئمة فهو أوسع منهم علماً".
ابن عباس جمع، جمع الله له علم كبار الصحابة كلهم، و تأخرت حياته حتى احتيج إليه، احتيج إليه، احتيج إلى علمه، فكثرت فتاواه، ولذلك تجدون الشيخ إذا عُمّر وهو على الجادة، وعلى هدي شرعي تجده يكون محل ثقة الناس، يعني الشيخ ابن باز -رحمه الله- عمر بعد أقرانه فاحتاج الناس إلى علمه، انقرض أقرانه قبله بعشر، سنوات عشرين سنة احتاج الناس على ما عنده، ولذلك انتشر علمه انتشار الليل والنهار، بيمنا من أقرانه من لو جمعت فتاواه في مجلد مثلاً، فالتأخر تأخر السن بعد الأقران لا شك أنه تكثر الحاجة إليه، ولذا يقولون في العبادلة الأربعة ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، قالوا: ابن مسعود ليس من العبادلة الذين انتشرت فتاواهم، لماذا؟ لأنه مات قديم، وهؤلاء تأخروا حتى احتاج الناس إلى علمهم، فالحاجة هي التي تجعل الانتشار للعلم أكثر وأوسع.
ذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي عن أبي إسحاق قال: "كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس، حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتيا" فيجيبه سعيد، سعيد أعلم التابعين على الإطلاق، ووارث علم أبي هريرة، صهره.
وقال سحنون: "إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر فلم ألام على حبس الجواب؟".
يعني إذا كانت المسألة فيها ثمانية أقوال فلماذا أستعجل أنا في إبداء رأيي قبل أن ينضج الرأي، فلم ألام على حسب الجواب؟ والمسألة أفتى فيها أئمة، ويأتي من الشباب من يقول: هم رجال ونحن رجال.
وقال ابن وهب حدثنا أشهل بن حاتم عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين قال: قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً أو أحمق متكلف، هذا كلام حذيفة "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً، أو أحمق متكلف، قال: "فربما قال ابن سيرين: "قلت: فلست بواحد من هذين، لست الأول والثاني، ولا أحب أن أكون الثالث" يعني الأحمق المتكلف.
يقول: من يعلم ما نسخ من القرآن، إيش معنى هذا الكلام؟ يعني ليعرف كيف يتعامل مع النصوص؛ لأن نصوص الكتاب والسنة فيها المتقدم والمتأخر، وفيها المحكم والمتشابه، وفيها المطلق والمقيد، وفيها العام والخاص، وفيها الظاهر والنص، والمؤول وفيها أنواع كثيرة جداً، كيف يتعامل، الذي يستطيع أن يتعامل مع النصوص بمعرفة هذه الأمور هو الذي يفتي الناس.
والنسخ في عرف السلف أعم من الرفع الكلي للحكم، النسخ في عرف السلف أعم من أن يكون رفعاً كلياً للحكم، كما هو المعنى الاصطلاحي العرفي عند أهل العلم، بل يشمل النسخ الكلي، ويشمل أيضاً النسخ الجزئي من التقييد والتخصيص وغيرهما.
إذا نظرنا في سير السلف الصالح، نجدهم بدءاً من الصحابة منهم المقل ومنهم المتوسط، ومنهم المكثر، منهم من لو جمعت فتاواه لبلغت عشرات المجلدات، ومنهم من تبلغ الآحاد، ومنهم من مما لو جمعت فتاواه لصارت في جزء صغير فهم متفاوتون، وكل منهم الحادي له على ما ارتضاه لنفسه النصوص، الله -جل وعلا- أخذ العهد وا لميثاق على أهل العلم أن يبينوه، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، ولو لم يسأل، لا بد من البيان ولو لم يسأل الإنسان، لكن إذا سئل تعين؛ لأنه لا يجوز تأخير هذا البيان عن وقت الحاجة.
يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة:159-160].
يقول -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة:174].
ويقول -جل وعلا-: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران:187].
أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: "لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت، ويقول الناس: أكثر أبو هريرة والله الموعد، ولولا آيتان من كتاب الله ما حدثت: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} إلى آخره.
فالكتمان مغبته وخيمة، كما أن الجرأة من غير تأهل أيضاً شأنها عظيم وخطير، في حديث أبي هريرة المخرج في المسند والسنن ومستدرك الحاكم: ((من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).
يقول المناوي: أي أدخل في فيه، أي أدخل في فيه لجام من نار مكافئة له على فعله، حيث ألجم نفسه بالسكوت في محل الكلام، فالحديث خرج على مشاكلة العقوبة للذنب، يعني الجزاء من جنس العمل، وذلك لأنه -سبحانه وتعالى- أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، وفيه حث على تعليم العلم؛ لأن تعلم العلم إنما هو لنشره والعمل به، ودعوة الحق إليه، والكاتم يزاول إبطال هذه الحكمة وهو بعيد عن الحكيم المتقن، ولهذا كان جزاءه أن يلجم تشبيهاً له بالحيوان الذي سخر ومنع من قصد ما يريده"؛ لأنه أشبه الحيوان، الحيوان أعجم لا يتكلم، وهذا شبيه له حينما سكت في موضع الكلام، أو في وقت يتعين عليه فيه الكلام أشبه العجماوات، والحيوان يحتاج إلى لجام، وكذلك من كتم هذا العلم يحتاج إلى أن يلجم بلجام من نار.
يقول الشيخ حافظ الحكمي في ميميته الفريدة الشهيرة:
والكتم للعلم فاحذره إن كاتمه***في لعنة الله والأقوام كلهم
ومن عقوبته أن في المعاد له ***من الجحيم لجاماً ليس كاللُجم
وصائن العلم عمن ليس يحمله***ما ذا بكتمان بل صون فلا تلم
وإنما الكتم منع العلم طالبه***من مستحق له فافهم ولا تهم
وعلى هذا فعلى طالب العلم أن يرى ويعرف ويقرر مكانته في هذا العلم، يعرف واقعه وحقيقته، فإن كان ممن أخذ عليه العهد والميثاق أن يبين، فلا يجوز له حينئذ أن يحجم البتة؛ لئلا يلجم بلجام من نار، وإذا كان ممن لم يبلغ هذه المرتبة، ولم يتمكن من معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها فلا يجوز له حينئذ أن يقدم.
ومما يشاهد أن من الأكفاء في وقتنا الحاضر من انزوى في بيت أو في مزرعة أو اقتصر على عمل رسمي، ولم يشارك في نفع الناس، ولا ولم يساهم في إخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ولم يساهم في حل إشكالاتهم، وإجابة سؤالاتهم، فمثل هذا هو الذي صار سبباً في جرأة بعض غير الأكفاء على أن أضلوا الناس بعد أن أضلوا بأنفسهم.
قد يقول قائل: أنا لا أستطيع أن أقرر عن نفسي أنني وصلت إلى الحد الذي يلزمني أن أفتي ولم أتجاوز الذي لا يجوز لي أن أفتي، فالمسألة تحتاج إلى وضوح، وسئل بعض الكبار لماذا لا تتصدى لتعليم طلاب العلم؟ فقال: إن النصاب لم يكتمل، والأمة كلها تشهد له أن نصابه قد زاد، فهل يقال إن الإنسان متروك له هذا الأمر وله أن يقول: أن أعرف بنفسي ما بلغت، وكثير منهم يقول مثل هذا الكلام من باب التواضع، وهضم النفس، من باب التواضع، وهضم النفس، لكن مثل هذا التواضع لا يعفيه من الوعيد الشديد الذي جاء بصدده العهد والميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس ما نزل إليهم، ولو تواضع، لا يعفيه هذا التواضع، إلا إذا قام بالأمر من يكفي، أما إذا تعين عليه فلا بد أن يساهم، لا بد أن يبين، لا بد أن يجيب، وأقول مثل هذه المواقف لا شك أنها فيها شيء من الخفاء والغموض، يعني قد يكون الإنسان تأهل بالفعل، لكن لا يدري عن نفسه، وقد يكون شديد الحذر، شديد الخوف على نفسه، من بلوغه الحد الذي يلزمه أن يتصدى لتعليم الناس وإفتائهم، ورفع الجهل عنهم، وبيان ما نزل إليهم، وبعضهم قد يجرؤ ظناً منه أنه قد وصل إلى الحد، ولا شك أن مثل هذا الأمر تكفي فيه الاستفاضة، تكفي فيه الاستفاضة، بالنسبة للشخص نفسه ولغيره أيضاً، لا يستفيض بين أهل العلم أن فلاناً قد بلغ مبلغاً يتعين عليه أن يعلم، يتعين عليه أن يدعو، يتعين عليه أن يقضي، يتعين عليه أن يفتي، إذا استفاض بين أهل العلم لا سيما الموثوقين منهم، فإنه حينئذ يكون نصابه قد بلغ، وذمته تبرأ بتصديه لهذه الأعمال.
أما إذا لم يستفض أمره وخفي أمره على الناس فهذا يوكل إليه، وحينئذ يعرف عن نفسه ما يعرف، لا سيما قبل أن يعرف، ومثله بالنسبة للعامي ومن يستفتيه، العامي ليست لديه أهلية الموازنة بين أهل العلم، هناك أمور ظاهرة إذا اتصف بها العالم فهو أهل لأن يستفتى،
وليس في فتواه مفت متبع ***ما لم يضف للعلم والدين الورع
لا بد من أن يتحلى بهذه الأوصاف الثلاثة: العلم والدين، والورع؛ لأن بعض الناس عنده علم، لكن ليس عنده ورع، إذا لاح له مطمع دنيوي أو شرف أو جاه، تخطى هذا العلم الذي يحمله، وتجاوزه، وبعضهم ليس عنده دين يحميه وبعضهم ليس عنده علم، فلا بد من توافر الأمور الثلاثة، والعامي أيضاً يكفيه في تقرير من يسأل استفاضة هذا الذي يراد سؤاله عند أهل العلم الموثوقين، إذا استفاض على ألسنة أهل العلم أن فلان أهل لأن يستفتى فيقصده الناس للاستفتاء من عامة وأشباههم، ومع هذه النصوص المحكمة في المنع والإلزام نجد في عصرنا من يجرؤ على الفتوى وهو ليس من أهل العلم أصلاً، كما أسلفنا في المقدمة، يعني يجمع في قناة من القنوات ثلة من الشباب، وثلة من الجنس الآخر من الشابات، ثم يطرح مسألة شرعية وقد يكون معه ممن يستطيع استغفال الناس واللعب بعقولهم ممن يؤيده على كلامه وطريقته واستفتائه، ثم يقول: ماذا تقولون في كذا؟ ثم بعد ذلك يحسب الأقوال، ثلاثين صوت، من يعارضهم عشرة أصوات، إذن الحكم كذا، هل هذه طريقة شرعية لتقرير المسائل العلمية؟
هؤلاء هم الذين أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عنهم أنهم اتخذوا رؤوسا جهالاً، يضلون بأنفسهم، ويضلون غيرهم، ويصرح ويتبجح بأنه ليس من أهل العلم، إذا انتهى من تقرير المسائل بهذه الطريقة قال: يا الإخوان، أنا تخصصي غير شرعي، تخصصه كيمياء وإلا صيدلة، وإلا زراعة وإلا شيء آخر، لكنها وسيلة كسب، وسيلة كسب مادة، فويل لمثل هذا ويل له، يتخبط في دين الله ويقرر أحكام شرعية بهذه الطريقة، نسأل الله السلامة والعافية.
مع هذه النصوص المحكمة في المنع والإلزام نجد في عصرنا من يجرؤ على الفتوى وهو ليس من أهل العلم أصلاً، فضلاً عن طالب غير متأهل لا سيما مع تيسر وصول أقوالهم إلى الناس بواسطة الوسائل المتعددة، مما سبب اضطراب في الفتوى، وضياع للمستفتين، وضياع للمستفتين، والمسئولية في مثل هذا تقع على أولياء الأمور، من العلماء والقادة، أن يوضع لهذا الاضطراب، وهذا اللعب، والتلاعب على الحد؛ لأن الناس اضطربوا، ونسبوا هذا الاضطراب إلى الدين، كم سمعنا على ألسنة العامة أن الدين تغير!، كنا نرى الناس يصلون كذا، وظهرت أقوال، كنا نراهم يفعلون كذا وظهر غير ما كنا نعلم، فنسبوا هذا الاضطراب إلى الدين والدين منه بريء، نعم أهل العلم بينهم خلاف، والخلاف موجود من عصر الصحابة لكن في مثل هذه الظروف التي ظهرت فيها هذه الأقوال، لا بد أن يطلع العامة على الأسباب الحقيقية للاختلاف، وأن يعرى أمثال هؤلاء الأدعياء الذين يضللون الناس وأن تبين حقائقهم، مما سبب اضطراب في الفتوى وتبلبلاً عند الناس وتشتت لعدم تمييزهم بين العالم وغيره، فكثيراً ممن يتصدى لذلك قد يكون ممن وهب بلاغة وفصاحة يؤثر بها على الناس، وقد جاء في الحديث كما تقدم: ((إن من البيان لسحراً)).
صاحب ذلك إحجام من كثير من طلاب العلم المتأهلين احتجاجاً بما جاء من نصوص المنع والوعيد، وتأسياً بسلف هذه الأمة في تدافع الفتيا وتدارئها مما فسح المجال لأدعياء العلم أن يتصدروا في القنوات والوسائل والمجالس ولا شك أن الحاجة قائمة، وقد أمر الله جل علا بسؤال أهل العلم، بسؤال أهل العلم قال -جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء:7]، فالعامي ومن في حكمه ممن ليست لديه أهلية النظر فرضه تقليد أهل العلم، وسؤالهم بنص القرآن، فإذا أحجم الكفؤ مع اضطرار العامة إلى من يفتيهم اضطروا إلى سؤال من ليسو من أهل العلم فضلوا وأضلوا، نسأل الله السلامة والعافية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن أجبنا على جميع هذه الأسئلة نقضنا الكلام النظري الذي قلنا.
طالب:......
هذه وإلا ذي؟
طالب:.......
أقول: إذا أجبنا على الأسئلة ما اكتفينا بالسابق.
طالب: هو تطبيق عملي يا شيخ.
والله كأنه نقل عملي، إيش رأيك.
طالب: اللي تشوفه يا شيخ.
هاه.
طالب:......
أنا أعرف بنفسي، نعود إلى كلامنا السابق، الله المستعان.
نجيب على الأسئلة الواضحة التي لا تحتاج إلى أئمة.
يقول: عملت في هيئة الحرم، وتعرضت لسؤال الناس من الحجاج والمعتمرين، وأفتيت الكثير بعد إلحاحهم على فتاوى علماءنا بقولنا: قال ابن باز، وقال؟
هذه ليست فتوى، هذا نقل للفتوى، هذا نقل للفتوى، وإذا أحلت على من تبرأ الذمة بتقليده، فأنت في حل من هذا النقل، شريطة أن تتأكد مما تنقل.
يقول: متى يكون المفتي مجتهداً؟ هل بعد حفظه للقرآن وكتب السنة، أم بعد حفظه لمتون أهل العلم، أم بعد معرفته لجميع ما يتعلق بالفتاوى في الكتاب والسنة؟
لا شك أن المفتي عقد له فصول في كتب الأصول، وضعوا له شروط، وضعوا له شروط، وعلى كل حال أوجب الواجبات على من أراد أن يتأهل لهذا المنصب أن يحفظ من نصوص الكتاب والسنة، نصوص الكتاب والسنة ما يكفيه، ثم بعد ذلك يعرف كيف يتعامل مع نصوص الكتاب والسنة بمعرفة ما قرره أهل العلم في هذا الشأن.
يقول: ما مدى صحة قاعد: لا إنكار في مسائل الخلاف، وقد شرحت في الدرس الأول، ولكن لم أستوعب ما قاله الشيخ وفقه الله، من غير نقص فيه للأهمية؟
على كل حال ما دام شرح من قبل أهل العلم لا داعي أن يكرر الشرح، لا سيما في مكان واحد؛ لأننا نقع في شيء من الاضطراب.
ما الراجح في تفسير القرآن بالرأي؟
جاء الوعيد الشديد على من قال في كتاب الله برأيه، على من قال في القرآن برأيه، والقرآن يفسر بالقرآن وبالسنة وبأقوال الصحابة والتابعين، وبلغة العرب، ومثل ما ذكرنا سابقاً أن الدعي الذي لا علاقة له بالقرآن، ولا بما يخدم القرآن، هذا ليس له أن يتكلم في القرآن، ونسمع ونقرأ بعض المقالات في الصحف من أناس لا في العير ولا في النفير، يتكلمون في كلام الله -جل وعلا- بكلام هو أبعد ما يكون عن مراد الله -جل وعلا-؛ لأنهم ليست لهم عناية في الكتاب ولا ما يخدم الكتاب، لكن من كانت له عناية بالقرآن، صار من أهله ونظر كثيراً، وأطال، وأدام النظر في كتب أهل العلم الموثوقين، هذا له أن يدلي برأيه؛ لأنه تكونت لديه ملكة يستطيع بها أن يتعامل مع نصوص القرآن، والسنة.
يقول: هل ينبغي لطالب العلم أن ينكر المنكر، مع وجود عالم في المجلس الذي فيه المنكر، مثال: الجوالات، وأصواتها في المسجد مع وجود عالم فهل أقول وأنكر هذا؟
من باب الأدب، هو الإنكار لا بد منه سواءً كان من العالم أو من غيره، ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)) لكن لو كان على طريقة السؤال لهذا العالم، ما رأيكم في مثل هذه النغمة، ما رأيكم في مثل هذا الصوت؟ فيجيب الشيخ إن شاء الله بما ينفع، وإن أجاب أيضاً بخلاف ما يراه هذا، هذا يراه منكر، والشيخ لا يراه منكر، فعليه أن يبين رأيه لكن مع الأدب.
يقول: في زماننا ما الأفضل: عالم أحجم عن الفتوى في ظل نطق الرويبضة، أم عالم تصدر للفتوى لنشر العلم والفهم الصحيح في الأمة؟
لا شك أن مثل هذا فرع عن العزلة والخلطة، العزلة والخلطة، هذه كما تكون لسائر الناس، تكون أيضاً للعلماء، فالعالم الذي يستطيع أن يؤثر بالناس، ولا يخشى على نفسه من التأثر بما عندهم من منكرات هذا يتعين عليه أن يخالط وأن يعلم، وأن يفتي، وأن يقضي، وإذا كان يخشى على نفسه من التأثر، فإنه حينئذ لا مانع من عزلته؛ لأن حرصه على نفسه آكد وأوجب، ذكرنا في حديث ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)) أن الأصح أنه مرسل.
يقول: كثير من طلاب العلم في هذا الوقت لا يفرق بين المدارسة والفتيا؟
لا شك أنه إذا اجتمع مجموعة من طلاب العلم، وتذاكروا العلم، وتدارسوه فيما بينهم، وطرح بعضهم سؤال وطلب الجواب من البقية، وقال بعضهم: لعله كذا، لعله كذا، بحيث لا يجزم، هذا لا إشكال فيه إن شاء الله تعالى.
هناك أيضاً الأسئلة في الامتحان، قد يدخل الإنسان الامتحان ثم يسأل بأسئلة ما مرت عليه، يجيب وإلا ما يجيب؟ نقول: هذا ليس مجال فتوى، هذا ليس بمجال فتوى، إنما هو مجال كشف ما عند الشخص، فليكشف ما عنده من علم أو جهل، لكن يتقي الله -جل وعلا- ألا يقول باطلاً، ألا يقول باطلاً، ولو صدر كلامه بلعل كان أحوط.
متى يكون الشخص من أهل العلم، ومتى من يكون له حق الفتيا؟
ذكرنا أنه لا بد من التأهل وأخذ العلم بجميع أبوابه، وجميع متطلباته، واستفاضة الخبر خبر هذا الشخص من قبل أهل العلم، فإذا اجتاز هذه الاستفاضة وصار على ألسنة أهل العلم أنه أهل للتعليم، وأهل للفتيا، كان من أهلها، وإلا فلا.
يقول: إذا كان الوقت ضيق، وسؤال طالب العلم وليس عنده تصور كان وسئل، طالب العلم وليس عنده تصور كامل للمسألة فماذا يفعل؟
عليه أن يقول: الله أعلم.
هل قول: لا أدري مع العلم بالمسألة يعد كذباً؟
نعم هو كذب بلا شك؛ لأنه مخالف للواقع، هذا كذب، لكن قد يحمل على قول لا أدري ممن يعرف الحكم، ما يجعل الإنسان يدرأ عن نفسه شراً، فمثل هذا قد يعفى عنه.
يقول: لو سئلت عن مسألة أعرفها فهل أجيب عنها؟
إن كنت تعرفها بأدلتها وذيولها وما تتطلبه من تفصيل، فتجيب عنها؛ لأنك حينئذ من أهل النظر في هذه المسألة، ولو كنت لست من أهل النظر في مسائل أخرى وأبواب أخرى تجيب عنها، لكن إذا كانت المسألة غير مكتملة في ذهنك، وتحفظ فيها قول لمن تبرأ الذمة بتقليده فانقل هذا القول لمن يسألك.
ونكتفي بهذا القدر من الأسئلة والبقية كثيرة لكن الوقت يعني تأخر على الإخوان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.