رد: وقفات مع حديث السحابة
وقفات مع حديث السحابة (2)
كتبه/ محمد سعيد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا مع وقفات حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَما رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ؛ فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ؛ فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ) (رواه مسلم)، وفي رواية الطيالسي: (وَمَشَى الرَّجُلُ مَعَ السَّحَابَةِ حَتَّى انتَهَى إِلَى رَجُلٍ قَائِمٍ فِي حَدِيقَتِهِ يَسْقِيهَا).
- لَمَّا سَمِعَ هذا الرَّجُلُ صوتًا في السَّحابَةِ؛ انطلق خلفَهَا ليعرف مُستقرَّها، حتى وقفت فوق أرضٍ تكثُرُ عليها حجارة سوداء كأنها أُحرِقَت بالنار، لذلك يُقالُ لها: "الحرَّة"، ثم نزل المطر بغزارة في "شَرْجَةٍ": جمعها شِرَاج، وهي مَسَايل الماء في الأرض المرتفعة إلى السَّهل، ثم جَرَى الماء في مَجرَىً واحدٍ فقط حتى وَصَلَ إلى حديقةٍ، وفيها فلاحٌ قائمٌ، يوزِّعُ الماءَ ويوجِّهُهُ بِمِسحَاتِهِ إلى الأماكن التي لم يصل إليها الماء.
وكان مِن فوائد نُزُولِ المطر بهذه الطريقةِ وسَيرِهِ مِن خلال مَجرَى الماء: أن يرويَ حديقَتَهُ مِن ماءِ السماء، وألا يُبَلَّ له ثوبًا، ولا يُفسِد عليه طريقًا.
ويمكنُ أن نستخلِصَ مِمَّا سبقَ فائدتين:
1- بيانُ أنَّ الله تعالى هو الذي يُصرِّفُ شئون الكون: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82).
2- الرَّدُّ على أهل الإلحاد: فهذا فيه ردٌّ على أهل الإلحاد الذين ينسِبُون تصريفَ شئون الكون إلى الطبيعة، وأنَّ كلَّ ما في الكون يسيرُ بشكلٍ طبيعيٍّ دون مُصرِّفٍ له؛ فهذا الرجل سَمِعَ صوتَ المَلَك في السَّحاب لِيَنْزِلَ المطرُ بشكلٍ مخصوصٍ في مكانٍ مخصوصٍ إلى رجلٍ مخصوصٍ؛ فهذا دليلٌ قاطعٌ على وجودِ مُصرِّفٍ له، ولو كان ما حَصَلَ تُسيِّرُهُ الطبيعةُ -كما يزعمون- لَمَا صدَرَ صوتٌ مِن السَّحاب، ولَنَزَلَ المطرُ مُتفرِّقًا كما ينزل، ولَمَا سُقِيَت حديقة واحدة بهذا الشكل العجيب.
والإيمانُ بوجود الله هو أمرٌ مركوزٌ في فِطَرِ بني آدم، كما قال تعالى على لِسَان رسلِهِ: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (إبراهيم: 10)، وفي صحيح البخاري عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون َ) (الطور: 35-37)، قَالَ: "كَادَ *قَلْبِي *أَنْ *يَطِيرَ". وكان جُبَيرُ إذ ذاك مشركًا، وكان سماعُهُ هذه الآية مِن جملةِ ما حَمَلَهُ على الدُّخول في الإسلام بعدها.
ويُذْكَر أنه في مدرسةٍ ابتدائية، قال المعلم لتلاميذ الصف السادس الابتدائي: "أترونني؟ قالوا: نعم، قال: فإذًا أنا موجود، ثم قال: أترون اللوح؟، قالوا: نعم، قال: فاللوح إذًا موجود، ثم قال: أترون الله؟! قالوا: لا، قال: فالله إذًا غير موجود! فوقف أحد الطلاب الأذكياء، وقال: أترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: فعقلُ الأستاذ إذًا غير موجود!".
فضل العمل والسعي في طلب الأرزاق:
قال عليه الصلاة والسلام: "فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ": كان صاحبُ القصةِ يعمل بالزراعةِ، ويأكل مِن كَسبِ يده، والعملُ في طلب الأرزاق خير مِن قبول الهدايا والعطايا؛ فضلًا عن سؤال الناس، فَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ *الْعُلْيَا *الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ) (متفق عليه)، ففي القصَّةِ إشارةٌ إلى قيمةِ العمل ومكانتِهِ؛ فهذا الرَّجُل ما اعتزل الدنيا أو تركها وراء ظهره، ولكنَّهُ جدَّ واجتهد، وبَذَلَ الأسبابَ، وسَعَى وراءَ الرِّزقِ، ثم تصدَّق من مالِهِ، وهذا هو حالُ الأمَّةِ العاملةِ، تبني وتُشيِّدُ، وتَجِدُّ وتَسْعَى، حتى تنالَ مكانتها بين الأمم.
وَاختَلَفَ أهلُ العلم فِي أفضل المكَاسِبِ، فقيل: أفضلُها الزِّرَاعَة. وَقيل: الصِّنَاعَة، وَقيل: التِّجَارَة؛ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : "الأَرْجَحُ عِنْدِي: أَنَّ أَطْيَبَهَا الزِّرَاعَةُ؛ لأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّلِ".
وقيلَ: أفضلُ الكسْبِ يختلفُ باخْتلافِ حَاجَةِ النَّاسِ.
وللحديث بقية إن شاء الله.
رد: وقفات مع حديث السحابة
السلام عليكم
جزاكم الله خيرا أخي ابو وليد وزادكم الله فقها في الدين
وننتظر المزيد إن شاء الله...
والله الموفق
والحمد لله
رد: وقفات مع حديث السحابة
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
آمين وإياكم
بارك الله فيكم واحسن الله إليكم
رد: وقفات مع حديث السحابة
وقفات مع حديث السحابة (3)
كتبه/ محمد سعيد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا مع وقفات حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَما رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ؛ فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ؛ فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ) (رواه مسلم).
لَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ صوتًا في السَّحابَةِ؛ انطلق خلفَهَا ليعرف مُستقرَّها، ثم نزل المطر وجَرَى الماء حتى وَصَلَ إلى حديقةٍ فيها فلاحٌ قائمٌ، يوزِّعُ الماءَ بِمِسحَاتِهِ، ثم حدث ما يلي: قال -صلى الله عليه وسلم-: (فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ).
لَمَّا اتّجه الرَّجُلُ إلى المزارع الصالح وسألَهُ عن اسمه، فكان ذاتُ الاسم الذي سمعه في السَّحابة؛ كان مِن الطبيعي أن يستغرب صاحب الحديقة من السؤال، فبادَرَهُ قائلًا: "يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟"، فقصَّ عليه الرَّجُلُ ما سمعه وَرَآه مِن شأن السَّحابة، فقال: (إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ) الذي ذَكَرْتَ لي؛ فإذًا أمرُ حديقتك هذه أمرٌ غريبٌ، وشأنُها شأنٌ عجيبٌ.
وهنا يمكنُ أن نستخرِجَ عدَّةَ فوائد، وهي:
1- أنَّ الشخص الذي لم يُعرَف اسمُهُ يُنادَى بـ(عبد الله)، وفي قول الرَّجُلُ: "يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟"، وقول الآخر: "يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟"، دليلٌ على أنَّ الشخص الذي لم يُعرَف اسمُهُ يُنادَى بـ(عبد الله)، فلا تقُل: (يا... وتسكُت) أو (أنت يا... وتسكُت)؛ هذا ليس مِن الأدب الشرعيُّ.
2- جوازُ الإخبار بالكرامة مع أمْنِ الفتنة: لا بأسَ بإخبارِ الشخص عن كرامةِ الله له إذا كان يُؤمَنُ عليه مِن الفتنةِ؛ فمِن بابِ البِشَارةِ يُقالُ له: حصَلَ كذا وكذا مِن الأشياءِ الصالحةِ، أو النِّعم، أو الكرامات التي أكرمَهُ اللهُ بها.
3- أنَّ العبدَ الصالحَ يُرزق مِن حيثُ لا يحتسبُ: فهذا الرَّجُلُ المتصدِّقُ رُزِقَ بأمرين: رُزِقَ مِن ماء السماء، وَرُزِقَ بِمَن يُخبِرُهُ بما يدُلُّ على مكانتِهِ عند الله، ولو شاءَ اللهُ لَمَا هيَّأ له هذا الرَّجُلَ ليُخبِرَهُ بما حدَثَ. ويشبِهُ ذلك: ما حَصَلَ مع الرجل الأمين صاحب الخشبة؛ فإنَّ اللهُ -عز وجل- أراد أن يُعلِمَهُ بما حَصَلَ لهُ من كرامةٍ.
4- يَصِحُّ أن يكون للوليِّ أموالٌ وممتلكاتٌ: قال القرطبيُّ -رحمه الله-: "وَهَذَا الحَدِيثُ -أي: حديثَ السَّحابةِ- لا يُنَاقِضُهُ قَولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَتَّخِذُوا *الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ فَإِنَّهُ مَحمُولٌ عَلَى مَنِ اتَّخَذَهَا مُستَكثِرًا أَو مُتَنَعِّمًا وَمُتَمَتِّعًا بِزَهرَتِهَا، وَأمَّا مَن اتَّخَذَهَا مَعَاشًا يَصُونُ بِهَا دِينَهُ وَعِيَالَهُ؛ فَاتِّخَاذُهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ مِن أَفضَلِ الأعمَالِ، وَهِيَ مِن أفضَلِ الأَموَالِ".
5- الحمدُ والثناءُ على المؤمنِ بُشرَى تعجَّلها الله -عز وجل- له: إذا كان هذا الرُّجلُ الصالح قد نَالَ مِن خير تلك السَّحابة وبركاتها؛ فتلك عاجِلُ بُشرَاهُ في الدنيا؛ كما في صحيح مسلمٍ عَن أَبِى ذَرٍّ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (تِلْكَ *عَاجِلُ *بُشْرَى الْمُؤْمِنِ)، أي: عُنوَانُ الخيرِ له، ودليلٌ على رِضا اللهِ عنه وحبِّهِ له، أمَّا في الآخرةِ فَمَا أعدَّهُ اللهُ له مِن ألوان الكَرَامةِ أعظمُ وأعظمُ.
وللحديث بقية إن شاء الله.
رد: وقفات مع حديث السحابة
وقفات مع حديث السحابة (4)
كتبه/ محمد سعيد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا مع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَما رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ) (رواه مسلم).
فبيَّن الرَّجُلُ عظيمَ شوقِهِ لمعرفةِ سِرِّ التوفيقِ الإلهيِّ والعِنايةِ الرَّبانيَّةِ التي حَظِيَ بها صاحب الحديقة؛ لأنَّ أمرَ هذه الحديقةِ أمرٌ غريبٌ، وشأنَهَا شأنٌ عجِيبٌ، فَسَألَهُ قائِلًا: (فَما تَصْنَعُ فيها؟)، أي: فأخبرني كيف وصلتَ إلى هذه الدَّرجة، وماذا تفعل في ثمارِها التي تسبَّبت في حُصُولِ هذه الكرامة؟! فقال له صاحبُ الحديقة: (أمَا إذْ قُلْتَ هذا...)، والمعنى: أني لم أكُن لأخبرَكَ لولا أنك بشَّرتني بهذه البِشَارةِ.
فالأصلُ والأفضلُ إخفاءُ الأعمالِ الصالحةِ التي يقومُ بها العبدُ، وألا يجاهرَ بها، وألا يعرِّضَها للبُطلان والحبُوط بالرِّياءِ السُّمعَةِ.
وكان هذا دأبُ السَّلف، ومن ذلك ما رواه ابن عَسَاكِرَ في "تاريخ دمشق" عن محمدِ بْنِ المُنْكَدِرِ (مِن أكابر التابعين)، قال: "إِني لِلَيْلَةٍ مُوَاجِهٌ هَذَا المِنبَرَ فِي جَوْفِ الليْلِ أدعُو، إِذَا إِنسَانٌ عِندَ أُسطُوَانَةٍ مُقَنِّعٌ رَأسَه، فَأسمَعُهُ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، إِنَّ القَحطَ قَدِ اشْتَدَّ عَلَى عِبَادِكَ، وَإِنِّي مُقسِمٌ عَلَيْكَ يَا رَبِّ إِلا سَقَيْتَهُم. قَالَ: فَمَا كَانَ إِلا سَاعَةٌ، إِذَا سَحَابَةٌ قَد أَقْبَلَتْ، ثُمَّ أرسَلَهَا اللهُ، (وَكَانَ عَزِيْزًا عَلَى ابْنِ المُنْكَدِرِ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الخَيْرِ)، فَقَالَ: هَذَا بِالمَدِيْنَةِ وَلا أَعْرِفُه! فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ، تَقَنَّعَ وَانْصَرَفَ، وَأَتبَعُهُ، وَلَمْ يَجْلِسْ لِلْقَاصِّ حَتَّى أَتَى دَارَ أنَسٍ، فَدَخَلَ مَوْضِعًا، فَفَتَحَ، وَدَخَلَ، وَرَجَعتُ، فَلَمَّا سَبَّحتُ (صليتُ الضُّحى)، أَتَيتُهُ، فَقُلتُ: أَدخُلُ؟ قَالَ: ادْخُلْ، فَإِذَا هُوَ يُنَجِّرُ أَقْدَاحًا، فَقُلتُ: كَيْفَ أَصْبَحتَ؟ أَصْلَحَكَ اللهُ. قَالَ: فَاستَشهَرَهَا، وَأَعظَمَهَا مِنِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ إِقسَامَكَ البَارِحَةَ عَلَى اللهِ، يَا أَخِي، هَلْ لَكَ فِي نَفَقَةٍ تُغنِيكَ عَنْ هَذَا، وَتُفَرِّغُكَ لِمَا تُرِيْدُ مِنَ الآخِرَةِ؟
قَالَ: لا، وَلَكِنْ غَيْرُ ذَلِكَ، لا تَذْكُرُنِي لأَحَدٍ، وَلا تَذْكُرُ هَذَا لأَحَدٍ حَتَّى أَمُوْتَ، وَلا تَأْتِنِي يَا ابْنَ المُنْكَدِرِ، فَإِنَّكَ إِنْ تَأتِنِي شَهَرتَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَلقَاكَ، قَالَ: الْقَنِي فِي المَسْجِدِ. قَالَ: وَكَانَ فَارِسِيًّا، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ المُنْكَدِرِ لأَحَدٍ حَتَّى مَاتَ الرَّجُلُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: بَلَغَنِي أنَّهُ انتقَلَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ، فَلَمْ يُرَ، وَلَمْ يُدرَ أَيْنَ ذَهَبَ. فَقَالَ أَهلُ تِلْكَ الدَّارِ: اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ المُنْكَدِرِ، أَخْرَجَ عَنَّا الرَّجُلَ الصَّالِحَ".
ولكن إذا اضطُّر الإنسانُ إلى الإجابة عن شيءٍ مُعينٍ تطييبًا لخاطِرِ شخصٍ، أو أن يُقتدَى به أو نحو ذلك؛ فلا بأسَ أن يُخبِر عن عملِهِ الصالح، ما دامَ لا يقصِدُ الرَّياءَ والسُّمعَةَ.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.