رد: شعراء يترفعون عن المديح
وتشبَّه من المحدَثين بعمر بن أبي ربيعة العباسُ بن الأحنف؛ فإنه - كما يقول ابن رشيق - ممن أنف عن المدح تظرفًا، وقال فيه مصعب الزبيري: العباس عمر العراق، يريد أنه لأهل العراق كعمر بن أبي ربيعة لأهل الحجاز، استرسالاً في الكلام، وأنفة عن المدح والهجاء، واشتهر بذلك، فلم يكن يكلِّفه إياه أحدٌ من الملوك ولا الوزراء.."[9].
ومنهم يحيى بن نوفل الحِميري، لم يمدح أحدًا، قال يذكر بلال بن أبي بردة:
فلو كنتُ ممتدحًا للنَّوال
فتًى، لامتدحتُ بلالاً
ولكنَّني لستُ ممن يريدُ
بمدحِ الرِّجال الكرامِ السُّؤالاَ[10]
وعُرف ذو الرمَّة بهذا الموقف الخُلقي، فتجافى عن المديح، قال السيوطي: "كان ذو الرمة مليحَ الشِّعر، يشبِّه فيُجيد ويُحسن، ولم يكن هجَّاءً ولا مدَّاحًا..."[11].
وكان من هؤلاء كذلك عليُّ بن الجهم، قال في المتوكِّل:
وما الشِّعرُ مما أستظلُّ بظلِّه
ولا زادني قدرًا ولا حطَّ من قدري
ولكنَّ إحسانَ الخليفةِ جعفر
دعاني إلى ما قلتُ فيه من الشِّعرِ
فذكر - كما يقول ابن رشيق - "أنه لا يستظل بظل الشعر"؛ أي: لا يتكسَّب به، وأنه لم يزِدْه قدرًا؛ لأنه كان نابهَ الذكر قبل عمل الشعر، ثم قال: "ولا حطَّ من قدري"، فأحسَنَ الاعتذار لنفسه وللشعر، يقول: ليس الشِّعر ضَعةً في نفسه، ولا صنعته فيمن دون الخليفة، وما كفاه ذلك حتى جعل نفسه بإزاء الخليفة، بل مكافئًا له بشعره على إحسان بدأه الخليفة به، ولم يرضَ أن يجعلَ نفسه راغبًا ولا مجتديًا..."[12].
وخاطب شاعر عبدالله بن طاهر بن الحسين فعكس هذه الأنفة قائلاً:
لساني وقلبي شاعرانِ كلاهما
ولكن وجهي مُفْحَم غيرُ شاعرِ
فلو كان وجهي شاعرًا كسب الغنى
ولكن وجهي مثلُ وجهِ ابن طاهرِ
فتًى يتقي أن يخدِش اللؤمُ عِرضَه
ولا يتَّقي حدَّ السيوفِ البواترِ[13]
وعُرِف بهذه الأنَفَة ابنُ خفاجة الأندلسي؛ فقد ترفَّع عن مديح الملوك، قال ابن بسام عنه: "كان مقيمًا بشرق الأندلس، ولم يتعرَّض لاستماحة ملوك طوائفها، مع تهافتِهم على أهل الأدب.."[14].
ومن عجبٍ أن نجد الحُطَيئة - الذي كان سُؤَلة ملحافًا - يعكس موقفًا خُلقيًّا؛ إذ أدرك أن وضاعة الغرض الشعري تحدر صاحبها عن منزلته الشعرية، وترفَع فوقه مَن هو دونه، سأله ابن عباس مرة: من أشعرُ الناس؟ قال: أمن الماضين أم من الباقين؟ قال: من الماضين، قال: الذي يقول:
ومن يجعلِ المعروفَ من دون عِرضِه
يفِرْه، ومَن لا يتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
وما بدونه الذي يقول:
ولستَ بمستبقٍ أخًا لا تلُمُّه
على شَعَثٍ، أيُّ الرِّجالِ المهذَّبُ؟
ثم قال عن النابغة: "ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولاً - يعني نفسه - والله - يا بن عم رسول الله - لولا الطمعُ والجشع لكنتُ أشعرَ الماضين..."[15].
وهكذا وُجدت طائفة من الشعراء في الجاهلية والإسلام، تأنف من المديح، والتكسب بالشعر، وتتخذ من ذلك موقفًا خُلقيًّا؛ إذ ترى في ذلك انتقاصًا من قدر الشاعر، وتهوينًا من شأن الكلمة، وتسخيرًا للفن في أغراض غيرِ نبيلة، وهو مزلقة إلى الكذبِ والنفاق، وتزوير القِيَم، فكم حقير عظَّمه! وكم قزم نفجه وعملقه!
وكان هذا المعيار الدِّيني الخُلقي أحدَ أسباب انحدار مكانة الشاعر وسقوط منزلته، قال ابن رشيق: "كان الشاعر في مبدأ الأمر أرفعَ منزلة من الخطيب؛ لشدة حاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة العارضة، وحماية العشيرة... فلما تكسبوا به، وجعلوه طُعْمة، وتولوا به الأعراض وتناولوها، صارت الخطابةُ فوقه، وعلى هذا المنهاج حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعموا أموال الناس، وجشُعُوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقَّر نفسه وقارها، وعرَف لها مقدارها، حتى قُبض نقي العِرْض، مصُون الوجه..."[16].
وقال المرزوقي في بيان تأخُّر رتبة الشعراء عن رتبة البلغاء، فذكر من ذلك: "أنهم اتخذوا من الشِّعر مكسبة وتجارة، وتوصلوا به إلى السوقِ كما توصلوا به إلى العِلْية، وتعرضوا لأعراض الناس، فوصفوا اللئيم عند الطمع بصفة الكريم، والكريم عند تأخر الصلة بصفة اللئيم، حتى قيل: الشعر أدنى مروءة السريِّ، وأسرى مروءة الدنيِّ..."[17].
[1] الكامل: 744، الأغاني: 18/79.
[2] العمدة: 1/82.
[3] اختيار الممتع في علم الشعر: 1/297.
[4] السابق نفسه.
[5] العمدة: 1/83.
[6] اختيار الممتع: 1/301.
[7] الأغاني: 3/312.
[8] الأغاني: 1/74.
[9] العمدة: 1/84
[10] الكامل للمبرد (ط: الدالي)، 569.
[11] شرح شواهد المغني: 1/23، الموشح: 228.
[12] العمدة: 1/42.
[13] اختيار الممتع: 1/301.
[14] وفَيات الأعيان: 1/56.
[15] الأغاني: 2/193، العمدة: 1/97.
[16] العمدة: 1/83.
[17] شرح ديوان الحماسة لأبي تمام: 1/97.