رد: تعظيم الآثار رؤية شرعية
لا مجال لتعظيم إلاَّ ما عظَّمه الله -تعالى- ورسوله، فضلاً عن تعظيم الجمادات من الأحجار والأخْشاب، حتَّى ولو كانت تلك الجمادات تنتسِب للإسلام والمسلمين، فلا مُعظَّم إلا ما عظَّمه الشَّرعُ، وما سوى ذلك فلا يدخله التعظيم؛ دفعًا للغلو وسدًّا لذريعة الشرك، كما هو مقرَّر في موطنه من كتُب العقائد التي اعتنتْ بِمسائل الشِّرْك وأسبابه، والحذَر منه ومن الذَّرائع المؤدِّية إليه.
قال ابن تيمية في "الصراط المستقيم": "فإنَّ تعظيم مكانٍ لم يعظِّمه الشَّرع شرٌّ من تعظيم زمان لم يعظِّمْه؛ فإنَّ تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقْرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان"؛ (1 -318).2- مخالفة القُرآن صراحة، ومحادَّة الشَّرع بصورة لا يرتاب فيها مسلم فهِم عن الله تعالى، وهذا يقع بتعظيم ما أهانه الله -تعالى- من الأمم وجعلهم عبرة للخالفين، مثل قوم فرعون الَّذين يُعظَّمون تحت مسمَّى الحضارة الفرعونيَّة المصريَّة، ممَّا يعارض قولَه -تعالى-: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18]، ومن المقرَّر ضرورةً كُفْر فرعونَ وقومِه؛ كما سُطر ذلك في كثير من الآيات القرآنيَّة، ومنها قوله -تعالى-: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾ [هود: 96 - 99]، وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُ مْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ [القصص: 38 - 41].3- كثير من هذه الآثار تكون على هيْئة الأصنام والمقابر، ومن المعلوم أنَّه لا يجوز تعظيم القبور في الإسلام، وأن هذا من جنس فِعْل المشْركين، والأدلَّة متواترة على تَحريم تعظيم الأوْثان والأصنام والقبور بشتَّى الصور المختلفة، سواء بالزّيارة أو الطَّواف أو غير ذلك، ويُمكن أن يستدلَّ لذلك بقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (27 - 107):"لم يأْمُر الله ولا رسولُه ولا أئمَّة المسلمين بتقْبيل شيء من قبور الأنبِياء والصَّالحين، ولا التمسُّح به، لا قبر نبيِّنا، ولا قبر الخليل، ولا قبر غيرِهما؛ بل ولا بالتَّقبيل والاستِلام لصخرة بيت المقْدس، ولا الرُّكنين الشَّاميين من البيت العتيق، بل إنَّما يُستلم الرُّكنان اليمانيَّان فقط اتِّباعًا لسنَّة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه لم يستلِم إلاَّ اليمانيَّين ولم يقبِّل إلاَّ الحجر الأسود، واتَّفقوا على أنَّ الشاميّين لا يستلمان ولا يقبَّلان، واتَّفقوا على أنَّ اليمانيين يستلمان، واتَّفقوا على تقْبيل الحجر الأسود.وتنازعوا في تقْبيل اليماني على ثلاثة أقوال معروفة، قيل: يقبَّل، وقيل: يُستَلَم وتقبَّل اليد، وقيل: يستلم ولا تقبَّل اليد، وهذا هو الصَّحيح؛ فإنَّ الثَّابت عن النبيِّ أنَّه استلمه ولم يقبِّله، ولم يقبِّل يدَه لمَّا استلمه، ولا أجْرَ ولا ثواب فيما ليس بواجب ولا مستحبّ، فإنَّ الأجر والثَّواب إنَّما يكون على الأعْمال الصَّالحة، والأعمال الصَّالحة إمَّا واجبة وإمَّا مستحبَّة.فإذا كان الاستلام والتَّقبيل لهذه الأجسام ليس بواجب ولا مستحبّ، لم يكن في ذلك أجر ولا ثواب، ومنِ اعتقد أنَّه يؤْجَر على ذلك ويُثاب، فهو جاهل ضالٌّ مخطئ، كالذي يعتقد أنَّه يؤجر ويثاب إذا سجد لقبور الأنبِياء والصَّالحين، والذي يعتقد أنَّه يؤجر ويثاب إذا دعاهم من دون الله، والذي يعتقد أنَّه يؤجر ويثاب إذا صوَّر صُوَرَهم كما يفعل النَّصارى، ودعا تلك الصور وسجد لها، ونحو ذلك من البِدَع الَّتي ليستْ واجبةً ولا مستحبَّة؛ بل هي إمَّا كفر وإمَّا جهل وضلال.وليس شيءٌ من هذا من الدّين الَّذي بعث الله به محمَّدًا باتّفاق المسلمين، ومَن اعتقد أنَّ هذا من الدّين وفعله، وجب أن يُنْهَى عنْه، ولَم يستحبَّ هذا أحدٌ من الأئمَّة الأربعة، ولا فعله أحد من الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان.ومَن أمر النَّاس بشيء من ذلك، أو رغَّبهم فيه، أو أعانَهم عليه من القُوَّام أو غير القوَّام، فإنَّه يجب نَهيه عن ذلك ومنْعه منه، ويُثاب وليّ الأمر على منْع هؤلاء، ومَن لم ينتهِ عن ذلك فإنَّه يعزَّر تعزيرًا يرْدَعُه، وأقلّ ذلك أن يعزل ولا يُتْرك من يأمر النَّاس بما ليس من دين المسلمين.
والكسْب الَّذي يُكسب بمثل ذلك خبيثٌ من جنس كسْب الَّذين يكذبون على الله ورسوله، ويأخذون على ذلك جُعلاً، ومن جنس كسْب سدنة الأصنام الذين يأمرون بالشِّرْك ويأخذون على ذلك جُعلاً، فإنَّ هذه الأمور من جملة ما نُهي عنه من أسباب الشرك ودواعيه وأجزائه"؛
رد: تعظيم الآثار رؤية شرعية
حكم الإسلام في إحياء الآثار
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وبعد:
فقد نشرت بعض الصحف مقالات حول إحياء الآثار والاهتمام بها لبعض الكتاب ومنهم الأستاذ صالح محمد جمال. وقد رد عليه سماحة العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد فأجاد وأفاد وأحسن أجزل الله مثوبته. ولكن الأستاذ أنور أبا الجدايل هداه الله وألهمه رشده لم يقتنع بهذا الرد أو لم يطلع عليه فكتب مقالاً في الموضوع نشرته جريدة المدينة بعددها الصادر برقم 5448 وتاريخ 22 \4 \1402 هـ بعنوان ( طريق الهجرتين ) قال فيه " والكلمة المنشورة بجريدة المدينة بالعدد 5433 وتاريخ 7 \4 \1402 هـ للأستاذ البحاثة عبد القدوس الأنصاري عطفًا على ما قام به الأديب الباحث الأستاذ عبد العزيز الرفاعي من تحقيق للمواقع التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الذي سلكه في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة، تدفعنا إلى استنهاض همة المسئولين إلى وضع شواخص تدل عليها كمثل خيمتين أدنى ما تكونان إلى خيمتي أم معبد مع ما يلائم بقية المواقع من ذلك بعد اتخاذ الحيطة اللازمة لمنع أي تجاوز يعطيها صفة التقديس أو التبرك أو الانحراف عن مقتضيات الشرع، لأن المقصود هو إيقاف الطلبة والدارسين ومن يشاء من السائحين على ما يريدونه من التعرف على هذا الطريق ومواقعه هذه لمعرفة ما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته السرية المتكتمة
هذه من متاعب وذلك لمجرد أخذ العبرة وحمل النفوس على تحمل مشاق الدعوة إلى الله؛ تأسيًا بما تحمله في ذلك عليه الصلاة والسلام. على أن تعمل لها طرق فرعية معبدة تخرج من الطريق العام وتقام بها نزل واستراحات للسائحين وأن يُعنى أيضًا بتسهيل الصعود إلى أماكن تواجده صلى الله عليه وسلم بدأً بغار حراء ثم ثور، والكراع حيث تعقبه سراقة بن مالك حتى الوصول إلى قباء وما سبق ذلك من مواقع في مكة المكرمة كدار الأرقم بن أبي الأرقم والشعب الذي قوطع هو وأهله فيه وطريق دخوله في فتح مكة ثم نزوله بالأبطح، وكذا في الحديبية وحنين وبدر. وكذلك مواقعه في المدينة المنورة. ومواقع غزواته. وتواجده في أريافها ثم طريقه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإلى تبوك، وتواجده فيهما لإعطاء المزيد من الإحاطة والإلمام بجهاده الفذ في نشر الدعوة الإسلامية والعمل على التأسي به في ذلك ) ا هـ. كما دعا الدكتور فاروق أخضر في مقاله المنشور في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3354 وتاريخ 13\1\1402 هـ إلى تطوير الأماكن الأثرية في المملكة لزيارتها من قبل المسلمين بصفة مستمرة، لضمان الدخل بزعمه بعد نفاذ البترول - ومما استدل به: ( أن السياحة الدينية في المسيحية في الفاتيكان تعتبر أحد الدخول الرئيسية للاقتصاد الإيطالي، وأن إسرائيل قد قامت ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا على اعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس ) كما أشار إلى أنها ستؤدي من الفوائد أيضًا: ( في تثبيت العلم بالإسلام عند الأطفال المسلمين... إلخ ). ونظرا لما يؤدي إليه إحياء الآثار المتعلقة بالدين من مخاطر تمس العقيدة أحببت إيضاح الحق وتأييد ماكتبه أهل العلم في ذلك والتعاون معهم على البر والتقوى والنصح لله ولعباده وكشف الشبهة وإيضاح الحجة.
فأقول:
إن العناية بالآثار على الوجه الذي ذكر يؤدي إلى الشرك بالله جل وعلا؛ لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها. والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس لا يدركها. والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها، وما فيها من أشجار أو أحجار، ويصلي عندها ويدعو من نسبت إليه ظنًّا منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه ولحصول الشفاعة. وكشف الكربة. ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية في نفوسهم والذين يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم حتى يحصل بسبب ذلك على بعض الكسب المادي، وليس هناك غالبًا من يخبر زوارها بأن المقصود العبرة فقط بل الغالب العكس. ويشاهد العاقل ذلك واضحًا في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة وأصبحوا يعبدونها من دون الله، ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها أولياء فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن الشيطان لا يفتر في تحين الأوقات المناسبة لإضلال الناس. قال الله تعالى عن الشيطان إنه قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُم ْ أَجْمَعِينَ
(82) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
وقال أيضًا سبحانه عن عدو الله الشيطان: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
(16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
وقد أغوى آدم فأخرجه من الجنة مع أن الله سبحانه وتعالى حذره منه وبين له أنه عدوه كما
قال تعالى في سورة طه:
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى
(121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى
ومن ذلك قصة بني إسرائيل مع السامري حينما وضع لهم من حليهم عجلاً ليعبدوه من دون الله فزين لهم الشيطان عبادته مع ظهور بطلانها. وثبت في جامع الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة لتركبن سنن من كان قبلكم . شبه قولهم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة. فدل ذلك على أن الاعتبار بالمعاني والمقاصد لا بمجرد الألفاظ. ولعظم جريمة الشرك وخطره في إحباط العمل نرى الخليل عليه السلام يدعو الله له ولبنيه السلامة منه. قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ
(35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ
الآية. فإذا خافه الأنبياء والرسل - وهم أشرف الخلق وأعلمهم بالله وأتقاهم له - فغيرهم أولى وأحرى بأن يخاف عليه ذلك ويجب تحذيره منه كما يجب سد الذرائع الموصلة إليه.
ومهما عمل أهل الحق من احتياط أو تحفظ فلن يحول ذلك بين الجهال وبين المفاسد المترتبة على تعظيم الآثار؛ لأن الناس يختلفون من حيث الفهم
والتأثر والبحث عن الحق اختلافًا كثيرًا، ولذلك عبد قوم نوح عليه السلام - ودًا - وسواعًا - ويغوث - ويعوق - ونسرا. مع أن الأصل في تصويرهم هو التذكير بأعمالهم الصالحة للتأسي والاقتداء بهم لا للغلو فيهم وعبادتهم من دون الله ولكن الشيطان أنسى من جاء بعد من صورهم هذا المقصد وزين لهم عبادتهم من دون الله وكان ذلك هو سبب الشرك في بني آدم - روى ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
. قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم؛ ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى، فإن الله جل وعلا أمر بالحذر من طريقهم؛ لأنه طريق ضلال وهلاك ولا يجوز التشبه بهم في أعمالهم المخالفة لشرعنا، وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما جاء به أنبياؤهم. فلهذا ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك طريقهم. والحاصل أن المفاسد التي ستنشأ عن الاعتناء بالآثار وإحيائها محققة ولا يحصى كميتها وأنواعها وغاياتها إلا الله سبحانه، فوجب منع إحيائها وسد الذرائع إلى ذلك. ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أعلم الناس بدين الله وأحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكملهم نصحًا لله ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار ولم يعظموها ولم يدعوا إلى إحيائها بل لما رأى عمر رضي الله عنه بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها أمر بقطعها
؛ خوفًا على الناس من الغلو فيها والشرك بها. فشكر له المسلمون ذلك وعدوه من مناقبه رضي الله عنه. ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمرًا مشروعًا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه. وسبق أنهم أعلم الناس بشريعة الله وأحبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وأنصحهم لله ولعباده ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء حين كانوا بمكة أو غار ثور، ولم يفعلوا ذلك أيضًا حين عمرة القضاء، ولا عام الفتح ولا في حجة الوداع ولم يعرجوا على موضع خيمتي أم معبد ولا محل شجرة البيعة فعلم أن زيارتها وتمهيد الطرق إليها أمر مبتدع لا أصل له في شرع الله. وهو من أعظم الوسائل إلى الشرك الأكبر. ولما كان البناء على القبور واتخاذ مساجد عليها من أعظم وسائل الشرك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعن اليهود والنصارى على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد وأخبر عمن يفعل ذلك أنهم شرار الخلق. وقال فيما ثبت عنه في صحيح مسلم رحمه الله عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك . وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه. وأن يبنى عليه زاد الترمذي بإسناد صحيح وأن يكتب عليه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة على وجوب سد الذرائع القولية والفعلية، واحتج العلماء على ذلك بأدلة لا تحصى كثرة، وذكر منها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: إعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلاً كلها تدل على وجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي، وذكر منها قول الله تعالى:
وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
الآية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس سدًّا لذريعة عبادة الشمس من دون الله.
ومنعًا للتشبه بمن فعل ذلك. كما ذكر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجدَ وعن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدًا وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانًا والإشراك بها وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدًّا للذريعة.
فالواجب على علماء المسلمين وعلى ولاة أمرهم أن يسلكوا مسلك نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في هذا الباب وغيره، وأن ينهوا عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسدوا الذرائع والوسائل المفضية إلى الشرك والمعاصي والغلو في الأنبياء والأولياء حماية لجناب التوحيد وسدًّا لطرق الشرك ووسائله. والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين وأن يفقههم في الدين وأن يوفق علماءهم وولاة أمرهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة وأن يوفق قادة المسلمين لتحكيم شريعة الله والحكم بها في كل شئونهم وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
https://www.alifta.gov.sa/Ar/IftaCon...eID=1&BookID=4