رد: توبة فتاة كانت لا تصلي
فأبعدت يدي..
قلت لها: آسفة إذ ضايقتك..
قالت: كلا ولكني تفكرت في قوله - تعالى -: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) [سورة القيامة: 29-30]، قالت: عليك يا هناء بالدعاء لي، فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخرة..
سفري بعيد وزادي لن يبلغني *** وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوب لست أعلمها *** الله يعلمها في السر والعلن
سقطت دمعه من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت، لم أعي أين أنا، استمرت عيناي في البكاء، أصبح أبي خائفاً علي أكثر من نورا، لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي، مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين ساد صمت طويل في بيتنا، دخلت علي ابنة خالتي، ثم ابنة عمتي أحداث سريعة متتالية، كثر القادمون، اختلطت الأصوات، شيء واحد عرفته، نورا ماتت، نورا ماتت!!
لم أعد أميز من جاء، ولا أعرف ماذا قالوا يالله، أين أنا!!..
وماذا يجري!!..
عجزت حتى عن البكاء، أخبروني فيما بعد أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير، وأني قبّلتها، ثم لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً، حين نظرت إليها ممدده على فراش الموت، تذكرت قولها وهي تقرأ قوله - تعالى -: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) عرفت عندها الحقيقة!، عرفت عندها الحقيقة، (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)، في تلك الليلة ذهبت إلى مصلاها المظلم، وجلست فيه، تذكرت من قاسمتني رحم أمي، فنحن توأمين، تذكرت، من شاركتني همومي، تذكرت من نفَّست عني كربتي، تذكرت تلك التي كانت تدعو لي بالهداية، كم ذرفت من الدموع في ليالٍ طويلة وهي تحدثني عن الموت، والحساب، والله المستعان[1].
ثم ندمت على تفريطها في الصلاة، وبكت كثيراً على أيامها التي أضاعتها، وفرطت فيها...
ويمكن لنا أن نقف في هذه القصة على جملة فوائد فمنها:
الفائدة الأولى: أخذ العبرة: هي إن هذه القصص التي تذكر ليس الغرض منها مجرد العرض والتفكه بتلك الحكايات، ولكن الغرض الكبير هو كما قال الله- تبارك وتعالى -: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)[سورة يوسف: 111]، أي: عبرة وعضة لأهل العقول والبصائر، وأخذ العبرة من هذه القصة بأن الإنسان قد يعيش في غفلة وهو لا يشعر بذلك، فيحتاج إلى من يذكره بالله العظيم، يخوفه بعقاب الله، ويمكن للمحتسبة أن تسلك ما سلكته هذه المرأة الصالحة بنصح أقاربها، وممن تخالطهم، يمكن لها إن كانت مدرسة أن تحتسب في المدرسة بتذكير الطالبات بالله تبارك وتعالى، وتُرغبهم في طاعته، وتخوفهم من عذابه، وتحتسب على كل منكر رأته بحكمة وبصيرة وأسلوب حسن.
الفائدة الثانية: التذكير بالموت: وذلك أخذاً من قولها: ألا تخافين أخيه من الموت بغتة؟!، أليست هند أصغر منك وقد توفيت في حادث سيارة، وفلانة، وفلانة، أخيه الموت لا يعرف عمراً، فبتذكير الإنسان مصيره الذي ينتظره الذي أخبر الله- تبارك وتعالى -عنه في القرآن وأنه مصير كل كائن فقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[سورة آل عمران: 185]، فما قيمة الدنيا وهي فانية، وهي دار الغرور، دار اللهو واللعب، وإن الحياة الحقيقية هي في الآخرة حين يزحزح العبد من النار ويدخل الجنة.
الفائدة الثالثة: أهمية الصلاة: الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام وهي الصلة بين العبد وربه تبارك وتعالى، هي الفرقان بين أهل الإيمان وأهل الكفر، هي أول ما يحاسب عليها العبد يوم القيامة، فعلى كل مسلم ومسلمة رأى من يقصر في أمرها ويتهاون بها أن يزجره وينهاه ويخوفه بعذاب مولاه، فإن عذابه شديد قال رب العزة والجلال: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)[سورة البروج: 12]، وقال: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [سورة هود: 102]، فلا تغتر أو تغتري بالصحة والعافية التي وهبكم ربكم - جل وعلا -، فتتمادوا في الطغيان فإن أحدكم لا يدري متى سيأتيه مصيره الذي يتمنى أن يرد إلى هذه الحياة ليزداد فيها من الطاعات.
الفائدة الرابعة: أن الله- تبارك وتعالى - يوفق ويثبت من كان من أهل الاستقامة عند الموت: وذلك أن الله- تبارك وتعالى -وفق هذه الأخت التي كانت عابدة لله - جل وعلا - عند الممات.
الفائدة الخامسة: التحلي بالرفق واللين: وذلك لأن الرفق لا يكون في شيء إلا زانة ولا ينزع من شيء إلا شانه، الكلمة إذا كانت طيبة وبأسلوب حسن فإن أثرها على نفس المدعو عظيم، وقبولها أدعى، فما أحوج الدعاة -ذكوراً وإناثاً- إلى قول الكلمة الطيبة وخفض الجناح للمدعو حتى يكون سريع الإجابة.
أسأل الله- تبارك وتعالى -أن يوفقنا والدعاة والمصلحين لكل خير وفلاح، وأن يرزقنا وإياهم الأسلوب الحسن في الدعوة إلى الله، وأن يهدينا ويهدي بنا، وأن يهدي ضال المسلمين ويتوب عليهم، والحمد لله رب العالمين.
_____________
[1]: انظر كتيب بعنوان الزمن القادم، للشيخ عبد الملك القاسم