رد: محنة الإمام أحمد بن حنبل
محنة الإمام أحمد بن حنبل
الكاتب: شريف عبدالعزيز الزهيري.
♦ وفي طريق السفر كان الإمام أحمد يتهجد ويصلي في جوف الليل، ويدعو الله عز وجل أن لا يرى المأمون، وألا يجتمع معه أبدًا، ويلح في الدعاء، وفي رجب سنة 218هـ، وقبل أن يصل الإمام أحمد ورفيقه محمد بن نوح إلى طرسوس هلك المأمون فجأة بلا مرض أو تعب؛ فراح ضحية سهم من سهام الليل، من قوس مظلوم، بوتر ملكوم: وهو دعاء الإمام أحمد عليه.
الفصل الثالث: الإمام أحمد والمعتصم العباسي:
هذا الفصل هو الأشد والأروع في فصول هذه المحنة العظمى، وتجلى فيه صمود الإمام أحمد؛ حيث أصبح وحده في الميدان بعد أن مات محمد بن نوح تحت وطأة الحبس والتنكيل، ورغم أن الخليفة المعتصم لم يكن من أهل الفكرة، ولا يعتنقها في الأساس، ولكنه خاض في الفتنة، وانغمر فيها لأن أخاه المأمون قد أوصاه بذلك، فحمله حبه لأخيه المأمون على أن يعمل بوصيته، بل يزايد عليها؛ فكان أول قرار أخذه المعتصم هو رد الإمام أحمد إلى بغداد، وسجنه هناك في سجن ضيق مظلم، والقيود في يديه ورجليه، حتى أنه أصيب بمرض شديد في شهر رمضان، فنقلوه إلى سجن أوسع مع عموم الناس، ومكث في هذا السجن ثلاثين شهرًا.
وفي السجن أخذ رجال الاعتزال ورؤوس الفتنة يأتونه: واحدًا تلو الآخر ليناظروه في خلق القرآن، وزادوا في قيوده، وبعد عدة أيام - وكانوا في شهر رمضان - بدأت فصول المناظرة العلنية، بحضور الخليفة المعتصم نفسه.
ولنا أن نتخيل هذا المشهد المهول الذي حضره الإمام أحمد وحده، وكان في مجلس الخليفة المعتصم، وفيه كل رجال البدعة، والوزراء والقادة والحجَّاب والولاة والسيافون والجلادون، وكان الذي بدأ معه الكلام هو المعتصم نفسه، وقد حاول استمالته وترغيبه في أول الأمر، ثم أمر علماء البدعة بمناظرته، فهزمهم الإمام كلهم، وهو يحتج عليهم بالآيات والأحاديث والآثار، وهم يحتجون بكلام الفلاسفة: مثل العرض والجوهر، والشيء والوجود والعدم؛ لذلك فلقد علت حجته حجتهم،
والإمام يقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله، وكان قائد الشرطة بعد الرحمن بن إسحاق وهو بالمناسبة ابن إسحاق بن إبراهيم القائد السابق - ممن يدافع عن الإمام أحمد، ويقول للخليفة المعتصم: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة، وإنه ليرى طاعتك، والحج والجهاد معك، وإنه لعالم، وإنه لفقيه، ولكن في المقابل كان أحمد بن داود أشد الناس عليه، ويحرض المعتصم عليه بشدة ليقتله، ويقسم له إنه ضال، وكافر ومبتدع.
استمرت هذه المناظرة العلنية ثلاثة أيام، وكانوا في شهر رمضان، والإمام ثابت لا يتزعزع، وخصومه من حوله تتساقط شبههم وبدعهم، حتى كان اليوم الرابع، وكان المعتصم قد ضجر من طول المناظرة، وأغراه قاضي المحنة أحمد بن داود، حتى وصل الأمر إلى التهديد بالضرب والجلد، وأحضرت الخشبة والسياط، وشد أحمد على العقابين [وهما خشبتان يشق الرجل بينهما بالجلد] فخلعت يداه وهو صامد، وعندها أخذت المعتصم شفقة على الإمام، وأعجب بثباته وتصميمه وصلابته، ولكن أحمد بن أبي دواد أغراه، وقال له يا أمير المؤمنين تتركه فيقال غلب خليفتين؛ فعمي المعتصم لكلمته الشريرة، وأمر بالإمام فأخذ الجلادون في ضربه بالسياط، يتناوبون على ضربه: هذا يضرب سوطين، والآخر ثلاثة، وهكذا حتى إذا بلغ سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم وقال له: يا أحمد علام تقتل نفسك؟ وإني والله عليك لشفيق، وجعل عُجَيْفٌ أحد قادة الأتراك العسكريين في جيش المعتصم ينخسه بقائمة سيفه ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك إمامك الخليفة على رأسك قائم، وقال: بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم، وأنت في الشمس قائم، والمعتصم يقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فيجيب الإمام بكل صمود وثبات: أعطوني شيئًا من كتاب الله، أو سنة رسول الله أقول به، فيأمر المعتصم بمواصلة الضرب، ثم قال له المعتصم مرة أخرى: أجبني إلى شيء فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ومع ذلك الإمام صامد، فأخذوا في ضربه حتى أغمي عليه من شدة الضرب، وقد تمزق ظهره من لهيب السياط.
بعد هذا الثبات العجيب التي تعجز عن مثله الجبال الراسيات، أمر المعتصم بإطلاق سراحه، ولكن بعد أن فعل شيئًا في منتهى العجب والغرابة، وهو قيامه بإحضار أقارب الإمام أحمد وأهله وجيرانه وأشهدهم على أنه سليم البدن، وذلك خوفًا من ثورة الناس عليه إن حصل للإمام مكروه، هذا على الرغم من قوة المعتصم وشجاعته وسلطته، ولكن قوة الحق، وسلطة الصمود، وشجاعة الثبات الذي عليه الإمام أحمد كانت أكبر من ذلك كله، وخرج الإمام أحمد وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا من الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ.
والمعتصم - وإن كان هو الذي أقدم على ضرب الإمام أحمد - إلا أنه لم يكن مثل المأمون مقتنعًا، أو معتنقًا لهذه البدعة، وكان يود لو أطلق سراح أحمد بلا ضرب، ولكن رءوس الضلال أوغروا صدره، وأشعلوه غضبه حتى أقدم على جناية ضرب الإمام، لذلك فلقد جعله الإمام أحمد في حلٍ من هذه الجناية؛ وذلك يوم أن جاءه خبر فتح عمورية سنة 223هـ.
الفصل الرابع: الإمام أحمد والواثق العباسي:
ظل أحمد بعد خروجه من سجن المعتصم يعالج في بيته فترة طويلة من آثار الضرب والتعذيب حتى تماثل للشفاء، وأخذ يحضر الجمعة والجماعة، ويحدث الناس ويفتي، حتى مات المعتصم، وولى مكانه ابنه الواثق، وكان قد تربى في حجر قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد؛ فشربه البدعة منذ صغره، فكان الواثق من أشد وأخبث الناس في القول بالبدعة، حيث أظهرها بقوة، وأجبر الناس عليها، وأطلق يد أحمد بن أبي دؤاد فيها؛ فكان يفرق بين الرجل الذي لا يقول ببدعته وبين امرأته، ويأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب هذه البدعة الخبيثة، وبلغ الأمر ذروته عندما كان أحمد بن أبي دؤاد يمتحن أسرى المسلمين عند الروم؛ فمن قال ببدعة خلق القرآن افتداه؛ ومن امتنع يتركه أسيرًا بيد الروم، حتى ضج الناس، وضاقت نفوسهم.
بلغ الأمر بالناس ذروته من فجاجة نشر البدعة، وتسلط المعتزلة على الناس، حتى أقدمت مجموعة من أهل بغداد بقيادة أحمد بن نصر الخزاعي على التحضير للخروج على حكم الخليفة الواثق العباسي، وخلعه من الخلافة، وذهب نفر منهم للإمام أحمد لاستفتائه في الخروج، وعدوا له مساوئ الواثق وجرائمه وبدعه، فلم يوافق الإمام أحمد على ذلك، ومنعهم، وناظرهم في القضية، وأمرهم بالصبر؛ وذلك من فقه وورع ودين الإمام أحمد، على الرغم من الأذى والاضطهاد والعذاب الشديد الذي ناله الإمام على يد هذه الحكومة الجائرة المبتدعة، والتي لو خرج عليها الإمام أحمد ما لامه أحد، إلا أنه قد أدرك أن المفاسد المترتبة على الخروج أعظم وأكبر من المصالح المتوقعة من وراء إسقاطهم، والذي توقعه الإمام قد وقع بالفعل، فلقد فشلت حركة الخزاعي، وراح فيها الكثيرون.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبه الإمام أحمد في إقناع الكثيرين بعدم الخروج على الواثق إلا أن الواثق قد قابل ذلك بفعل شرير، بالغ السوء: حيث أمر بنفيه من بغداد، وأرسل إليه يقول: لا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكني بأرض، ولا مدينة أنا فيها. فخرج الإمام من بيته، واختبأ بدار أحد تلاميذه عدة أيام، ثم انتقل إلى موضع آخر؛ فمكث فيه عدة شهور حتى هدأ الطلب عنه، ثم تحول إلى مكان آخر، وظل هكذا لا يستطيع أن يخرج إلى الصلاة، ولا إلى مجلس علم وتحديث، حتى هلك الواثق العباسي سنة231هـ، فخرج الإمام للناس، وجلس للتحديث، ذلك أن المتوكل الذي ولى بعد الواثق كان على مذهب أهل السنة، وقد أمر برفع البدعة، وإظهار السنة، وأيضًا لم يسلم الإمام من الفتنة أيام المتوكل، ولكنها كانت فتنة بالسراء، ليس بالضراء، ذلك أن المتوكل قد أفاض عليه بالأموال والعطايا الجزيلة، وحاول استمالته ليسكن مدينة سامرا، ويترك بغداد، وأن يتولى تعليم وتأديب ولده((الـمُعتز))، ولكن الإمام رفض ذلك بشدة، وعانى بسبب هذا الرفض معاناة شديدة.
ثناء الناس على الإمام:
كان الناس يثنون على الإمام أحمد بن حنبل قبل أحداث الفتنة والمحنة، فلما رأوا ثباته وصموده وحده أمام حكومة البدعة، ودولة الاعتزال زاد ثناؤهم وتقديرهم للإمام، حتى لربما خرجوا لطور المغالاة، والمدح الزائد عن الشرع، ومن يقرأ ترجمة الإمام في كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني يجد نماذج كثيرة لهذا الغلو، الذي ربما خرج لحد السخف كما يقول الحافظ الذهبي؛ لذلك نقتصر في هذا المقام على ما ذكره ثقات العلماء، وصحاح الآثار.
قال قتيبة بن سعيد: خير أهل زماننا ابن المبارك، ثم هذا الشاب يعني أحمد بن حنبل وإذا رأيت رجلا يحب أحمد فأعلم أنه صاحب سنة، ولو أدرك عصر الثوري والأوزاعي والليث لكان هو المقدم عليهم، وقال أيضًا: لولا الثوري لمات الورع، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا.
قال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل، وهو أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه، لأن سعيدًا كان له نظراء.
قال ابن خزيمة: رحم الله أحمد بن حنبل، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها.
قال بشر الحافي: قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد عندنا امتحن بالسراء والضراء؛ فكان فيهما معتصمًا بالله.
والخلاصة:
أن هذه المحنة التي وقعت عامة بأرض الإسلام لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد، وقد تداول ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة والقادة العسكريين فبعضهم يسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد والوعيد بالقتل، وبعضهم جلده وعذبه وألقاه في غياهب السجون، وبعضهم بالنفي والتشريد والمطاردة، ثم كانت فتنة السراء أيام المتوكل، وقد خذله في ذلك أهل الأرض، حتى أصحابه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما قمع به البدع، ورفض كل المحاولات التي بذلها معه قرناؤه العلماء في إقناعه بقبول التقية، ورأى أن التقية لا تجوز إلا للمستضعفين، الذين يخشون ألا يثبتوا على الحق، والذين هم ليسوا بموضع القدوة للناس، أما أولوا العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، والإمام أحمد كان يرى نفسه ولم يبق أحد سواه أمام البدعة مسئولا عن إخمادها، والصمود أمامها مهما تكن العواقب، ولو أخذ بالتقية والرخصة لاستساغ الناس الرخصة، ولضلوا من ورائها؛ ولذلك كان الإمام أحمد هو إمام أهل السنة، وهو جبل الحق والسنة يوم أن حكمت البدعة، وثباته بإذن الله عز وجل كان ثباتًا للدين والسنة، وإنما تنال الإمامة بالصبر واليقين كما قال ربنا رب العالمين: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24].
المصادر والمراجع:
♦ سير أعلام النبلاء: (11/ 177).
♦ تاريخ بغدد: (4/ 412).
♦ طبقات الحنابلة: (1/ 20).
♦ وفيات الأعيان: (1/ 63).
♦ البداية والنهاية: (10/ 367).
♦ الكامل في التاريخ: (6/ 125).
♦ النجوم الزاهرة: (2/ 304).
♦ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي.
♦ شذرات الذهب: (2/ 96).
♦ حلية الأولياء: (9/ 161).
♦ تذكرة الحفاظ: (2/ 431).
♦ صفة الصفوة: (1/ 488)
♦ تراجم أعلام السلف: (369).