إدخال بعض حروف العطف في الاستفهام بالهمزة (أولم - أفلا - أثم) في النص القرآني

من مسائل النحو والبيان العربي:

إدخال بعض حروف العطف في الاستفهام

بالهمزة (أولم - أفلا - أثم) في النص القرآني


د .رفيق حسن الحليمي

لكل أسلوب في اللغات- على اختلافها- معنى يقصد إليه المتكلم، ويتخذ له المفردات اللغوية والأدوات النحوية والوسائل البلاغية التي تعبر له عن ذلك المعنى، ولكل معنى من المعاني هدف وغاية يتغياها المتكلم، وهي الإفصاح عما يجول في الخاطر من حوائج ومطالب وأفكار وآراء، وبقدر ما تدخل اللغات في حراك تاريخي وفكري بقدر ما تتقدم على غيرها، إذ إن المحك الحقيقي لحضارة اللغات وتطورها يكمن في قدرتها على التعبير عن أدق المعاني والأفكار، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال المران الطويل، والنمو الذاتي الداخلي للغة، عبر عقود وعقود من الزمن.
لغتنا العربية من بين اللغات الحية التي يحق لنا ولغيرنا من الباحثين والدارسين المنصفين أن نجعلها في مصاف اللغات التي تتمتع بقدر عال من التحضر اللغوي، ويكفي لغتنا العربية شرفًا أنها وسعت كتاب الله لفظًا وغاية، كما عبر عن ذلك شاعر النيل حافظ إبراهيم بقوله:
حفظت كتاب الله لفظًا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
وسوف نتوقف في هذه العجالة عند ظاهرة، تدل على حذف جملة للإيجاز، مع الإبقاء على قرينة معنوية تدل على المحذوف، وتعد هذه الظاهرة من مسائل النحو التي تحتاج إلى توضيح، إلى جانب كونها من خصائص البيان العربي.
ولعل قارئ القرآن يجد الكثير من الآيات التي بدئت بعض جملها بهمزة استفهام «أ»، وجاء بعدها أحد حروف العطف الآتية: «و- ف- ثم» ثم جاء بعدها حرفا النفي «لم - لا» في مثل قوله تعالى: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون} (يس: 71)، وقوله: {أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} (مريم: 67)، وقوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون} (يوسف: 109)، فأكثر ما تكون هذه الظاهرة في الاستفهام المنفي بلم أو بلا، وقد تأتي في جملة خبرية مثبتة، كقوله تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا} (فاطر: 8)، وقوله تعالى: {أثم إذا ما وقع آمنتم به} (يونس: 51).
فهذه المجموعة (أ) من الآيات اقترنت الهمزة فيها بحرف العطف، سواء أكانت الجملة مثبتة أم منفية.
وهناك مجموعة ثانية (ب) جاءت الهمزة فيها من دون حرف العطف، في مثل قوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا} (الأعراف: 148)، وقوله: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله} (النحل: 79)، وقوله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} (الأنعام: 6).
فما الفرق بين المجموعة الأولى (أ) التي وردت فيها الهمزة مقرونة بحروف العطف، وبين المجموعة الثانية (ب) التي لم ترد فيها حروف العطف؟
قد يظن ظان أن هذه الحروف ليست للعطف، وإنما هي حروف زائدة، زيدت في بعض الآيات ولم تزد في غيرها، وهذا رأي باطل وغير صحيح، وقد يتوهم آخرون أن تلك الحروف جاءت لجمال النطق ولسهولته، ولو كان الأمر كذلك لما وردت في آيات ولم ترد في غيرها- كما رأينا- ولعلي كنت واحدًا من هؤلاء فقد حملت هذه الفكرة فترة من الزمن إلى أن عدت لبعض كتب النحو المتعمقة فوجدت ما فيها صوابًا، ورأيي خطأ، فاتبعت الصواب، فالحق أحق أن يتبع.
جاء في مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري، أن همزة الاستفهام إذا كانت في جملة معطوفة بالواو أو بالفاء أو بثم قدمت على العاطف، تنبيهًا على أصالتها (1)، بمعنى أن همزة الاستفهام لها الصدارة في الجملة.
فالآية: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} (الحج: 46)، دخلت همزة الاستفهام على الفاء، ثم دخلتا معًا على جملة «لم يسيروا في الأرض»، وهذه الجملة- كما يقرر النحاة- معطوفة على جملة محذوفة، تقدر من السياق، كأن نقول: «ليس للكافرين قلوب يعقلون بها، ولو ساروا في الأرض لعقلوا ما فيها من عظات وعبر ودروس، ولصار لهم قلوب، ولكنهم لم يفعلوا»، فجاءت الآية متضمنة جملة «أفلم يسيروا» لتشير الى جملة محذوفة تؤكد جهل الكافرين بالماضي وبتاريخ الأمم الغابرة، ولتحضهم على السير في الأرض لاستخلاص العظات والعبر.
وقوله تعالى: {أفغير دين الله يبغون} (آل عمران: 83)، دخلت الهمزة على الفاء العاطفة: «غير دين الله يبغون» على جملة محذوفة، تقديرها «أيتولون»، فصارت في النص القرآني: «أفغير دين الله يبغون» (2)، فالتقدير للجمل المحذوفة يستخرج من مضمون الجملة المعطوفة في النص القرآني، ومنه قوله تعالى: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير} (العنكبوت: 19)، قال ابن هشام في هذه الآية: «لأن إعادة الخلق لم تقع بعد، فيقرروا رؤيتها» (3) وزاد في قوله: «ويؤيد الاستئناف فيه قوله تعالى على عقب ذلك: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} (العنكبوت: 20).
ويستنتج من هذا أن عطف جمل (أولم يسيروا - أفغير الله - أو لم يروا) وغيرها على جمل محذوفة يعد من أساليب التوكيد، فعطف جملة على جملة يأتي لتوكيد المعنى وبيانه، فإذا كان المعطوف عليه محذوفًا - كما هو في آيات المجموعة الأولى (أ) - دفعت العقل إلى مزيد من التفكر والتأمل في دلالة المعنى المحذوف، وفي ذلك يقول ابن هشام: «الحذف الذي يلزم النحوي النظر فيه هو ما اقتضته الصناعة وذلك بأن يجد (...) معطوفًا بدون معطوف عليه» (4)، فالبحث عن جملة المعطوف عليه المحذوفة هو ما تقتضيه صناعة النحوي وصناعة الأدب وما تقتضيه البلاغة والبيان.
المحك الحقيقي لحضارة اللغات يكمن في قدرتها على التعبير عن أدق المعاني والأفكار
أكاديمي فلسطيني

هوامش
1- مغني اللبيب ج1 ص14.
2- المرجع السابق ج1 ص15.
3- المرجع السابق ج2 ص47.
4- المرجع السابق ج2 ص176.