من هموم اللغة العربية
محمد المهدي عامر
إن المتبصر لتاريخ الحقبة الأولى التي عاشها العرب، ومن خلال ما وصلنا من أدبهم - شعرًا أو نثرًا - يمكنه القول بأنهم استطاعوا امتلاك زمام اللغة وتطويعها لسوق أفكارهم وعرض آرائهم ونشر حكمهم في الحياة، كما استطاعوا من خلال إخضاع جمالياتها أن يعطونا صورة كاملة وانطباعًا شاملاً لما وصلت إليه لغتهم من رقي وسمو، وكيف أنهم كانوا مهرة في وضع كل خيوطها بين أيديهم، فتفاوت أدبهم وصال وجال في ميادين البديع والبيان وجماليات الصور والتراكيب.
وشكل أهل الأدب صورة حول ما اتسم به أدبهم، ولاحظ من غاص في أعماق أعمالهم أنهم أهل اللغة وأصحاب الأدب وحماة البلاغة، كيف لا وقد نزل عليهم القرآن الكريم بتلك اللغة الغنية (بلسان عربي مبين) [الشعراء 195)].
لقد أصبحت اللغة العربية في عصرنا هذا ظاهرة غريبة علينا، بعد أن كانت سمة أهلها وديدن حياتهم وعملة التبادل الثقافي بينهم، أما نحن ففي عصرنا هذا أصابنا الوهن حتى في لغتنا، وأصبحنا نستهجنها ونصبر على مضض عند سماعها مرة في الأسبوع في خطبة الجمعة، أو في كلمات العلماء وأهل اللغة على شاشات التلفاز أو على صفحات الصحف والمجلات، لمن يتصفحها.
والناظر إلى حالنا وما وصلنا إليه من انحدار في طريق تكريم لغة القرآن الكريم، يلمس كم يحول المشاهدون قنوات التلفاز، إذا كان فيها من يخوض في بحر الأدب أو يناقش قضية تتصل باللغة، وكم يطوي قارئ الصحيفة صفحاتها الأدبية إلى صفحات الفن أو الحوادث التي تقشعر لها الأبدان غير عابئين باللغة قدر اهتمامهم بالأحداث الأخرى المختلفة. ومن عجيب الأقدار وغريب المصادفات أن نلمس ذلك أيضًا في مدارسنا مع أبنائنا وبناتنا، فنجد مدرسيهم ومدرساتهن في انخراط تام في العامية يصولون ويجولون بها بينهم، غير ناظرين إلى فداحة ما يصنعون، وخطورة ما يقترفون، إلى أن نفاجأ بجيل لا يتقن جملة ولا يجيد حتى كلمة في ضبط آخرها، وهو ما نلمسه في حديثهم عند الإجابة عن أسئلة السائل أو عند تعبيرهم عن فكرة أو رأي، فنشاهد ـ وكم نعجب لما نشاهد ـ لغة هابطة، وجملاً ركيكة وأفكارًا غير مترابطة، علاوة على الكم الهائل من العامية التي عجن بها الكلام واختمرت في لغة الحديث، ناهيك عن لغة التحاور في كثير من البرامج والاستضافات على مرأى ومسمع من المشاهدين. ولا عزاء لأهل العربية.
لقد أصبحنا - مع شديد الأسف - في كثير من مجالات حياتنا نسخر ممن يحاول مد يده للغة العربية ليرتفع بها مما وصلت إليه، فنضحك - على سبيل المثال - ملء أشداقنا إذا وجدنا ممثلاً يضيف فقرة منها إلى حواره.
ومن الحلول - من وجهة نظري - لهذه المأساة أن نعمق الإحساس باللغة، وكيفية التعامل بها ومعها، وعندنا - نحن العرب - من الخبراء فيها من يزيدون عن عدد أغاني الفيديو كليب في الفضائيات أو شرائط الأغاني في مكتباتها، وهؤلاء الخبراء يستطيعون - بحمد الله وتوفيقه - إعداد برامج تتواضع لفكر العامة، ومن لا يجيدون التحدث باللغة العربية، فيبسطونها لهم، ويحببونهم فيها.
فيا أهل العربية: القرآن َ. القرآن َ. اجعلوه مؤنس بيوتكم؛ ففيه سلوك حياتكم، وتربية نفوسكم، وإصلاح أبنائكم وبناتكم، وصلاح نياتكم، وتقويم لغتكم.
ألا هل بلغت..اللهم اشهد
