رد: صفات إبراهيم عليه السلام
لم يختص إبراهيم عليه السلام بخُلَّة الرحمن سبحانه وتعالى ، بل شاركه فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
فعن جُنْدَب بنِ عَبْدِ الله البَجَلي رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ : (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا ، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) رواه مسلم (532) .
قال ابن القيم رحمه الله :
مرتبة الخلة التي انفرد بها الخليلان : إبراهيم ، ومحمد ، صلى الله عليهما وسلم ، كما صح عنه أنه قال : (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقال : (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صاحبكم خليل الرحمن) ، والحديثان في الصحيح ، وهما يبطلان قول من قال : "الخلة لإبراهيم ، والمحبة لمحمد ، فإبراهيم خليله ومحمد حبيبه" .
"مدارج السالكين" (3/30) .
وقد استحق كلا النبيين عليهما الصلاة والسلام هذه المنزلة لما لهما من الصفات ، والأفعال العظيمة الجميلة .
وبخصوص النبي إبراهيم عليه السلام : فإن الله تعالى قد أثنى عليه في القرآن ثناء عظيماً ، وذكر له من الصفات والأفعال ما استحق بها أن يكون خليلاً لربه تعالى ، وأعظم تلك الصفات والأفعال : تحقيقه للتوحيد ، وبراءته من الشرك والمشركين ، حتى نسب الدين والملَّة إليه عليه السلام ، ولذا فلا عجب إِنْ عَلِمْنَا أن الله تعالى أمر نبيَّه محمَّداً صلى الله عليه وسلم أن يتبع هذه الملَّة في قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) النحل/ 123 ، وأمر سبحانه عبادَه جميعهم بذلك الاتباع لتلك الملَّة إتباعه في قوله: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران/ 95 .
ومن عظيم صفات وأفعال إبراهيم عليه السلام :
1 –قال الله تعالى : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ) النحل/ 120، 122 .
والأمّة هو الإمام الجامع لخصال الخير الذي يُقتدى به .
والقانت هو الخاشع المطيع لربه دائماً .
والحنيف هو المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد ، ولهذا قال : (وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) و (شَاكِراً لأَنْعُمِهِ) أي : قائماً بشكر نعمة ربه عليه .
فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن (اجْتَبَاهُ) ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه ، وخيار عباده المقربين .
انظر : تفسير ابن كثير ، وتفسير السعدي .
2 – قال الله تعالى : (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) النجم/37 .
أي : قام بجميع ما أمره الله به .
3- قال الله تعالى : (إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) هود/ 75 .
و(حَلِيمٌ) "أي : ذو رحمةٍ ، وصفحٍ عما يصدر منهم إليه من الزلات ، لا يستفزه جهل الجاهلية ، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه" .
تفسير السعدي .
و(أَوَّاهٌ) أي : كثير التضرع والذكر والدعاء والاستغفار .
و(مُّنِيبٌ) "أي : راجع إلى الله بمعرفته ومحبته والإقبال عليه والإعراض عما سواه" .
تفسير السعدي .
4- كرمه وسخاؤه ، قال الله تعالى : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ . إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ . فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) الذاريات/ 24 – 27 .
5- عظم صبره ، قال الله تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف/ 35 ، وإبراهيم عليه السلام من أولي العزم من الرسل ، فهم المذكورون في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الشورى/13 .
6- البراءة من الشرك والمشركين ، وإعلانه ذلك ، قال الله تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وممَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ ...) الممتحنة/ 4 .
7- قيامه بجميع ما أمره الله به على أتم وجه ، قال الله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة/124 .
وغير ذلك من الصفات والأفعال ، التي بمجموعها استحق عليه السلام أن يكون خليلاً لله تعالى.
قال ابن كثير رحمه الله :
وإنما سمي خليل الله : لشدة محبة ربه عَزَّ وجَلَّ له ؛ لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها.
"تفسير ابن كثير" (2/423) .
،قال ابن القيم رحمه الله ذلك ، فقال : "والخُلة هي : المحبة التي تخللت روح المحب ، وقلبه ، حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب كما قيل :
قد تخللتِ مسلك الروح منِّي ... ولذا سمي الخليل خليلاً
وهذا هو السر الذي لأجله - والله أعلم - أُمر الخليل بذبح ولده ، وثمرة فؤاده ، وفلذة كبده ؛ لأنه لما سأل الولدَ فأعطيه : تعلقت به شعبة من قلبه ، والخلة منصب لا يقبل الشِّركة ، والقسمة ، فغار الخليلُ على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره ، فأمره بذبح الولد ؛ ليُخرج المزاحم من قلبه ، فلما وطن نفسه على ذلك ، وعزم عليه عزماً جازماً : حصل مقصود الأمر ، فلم يبق في إزهاق نفس الولد مصلحة ، فحال بينه وبينه ، وفداه بالذبح العظيم ، وقيل له : (يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) ، أي : عملت عمل المصدق .
(إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نجزي من بادر إلى طاعتنا ، فنقر عينه ، كما أقررنا عينك بامتثال أوامرنا ، وإبقاء الولد ، وسلامته .
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) وهو اختبار المحبوب لمحبه ، وامتحانه إياه ليؤثر مرضاته ، فيتم عليه نعمَه ، فهو بلاء ، محنة ومنحة عليه معاً" انتهى .
"مدارج السالكين" (3/30 ، 31) .
المصدر: الإسلام سؤال وجواب
رد: صفات إبراهيم عليه السلام
إن إبراهيم كان أمة -- لما لم يستجب قوم إبراهيم له عندما دعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده و بين لهم بالحجة الواضحة ضلالهم.. أراد أن يثبت لهم مرة أخرى بالحجة أن العبادة لله وحده وأنه لا معبود بحق الا الله؛ قال تعالى فى وصف ابراهيم عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51]. وقد مدح الله سبحانه إبراهيم عليه السلام حيث إنه قد امتن عليه بالرشد والرسالة والخلة والاصطفاء في الدنيا والآخرة؛ لعلمه سبحانه أن إبراهيم عليه السلام كفء لهذا الأمر - فدعا ابراهيم قومه مرة أخرى وأثبت لهم بالبراهين العقلية الملموسة سفه ما يعتقدون، فقد انكر عليهم ما يعبدون من تماثيل لا تنفع ولا تضر بل هم من يصنعونها.. فكيف بعاقل أن يعبد ما يصنعه وينحته بيديه؟! {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، وما كان جوابهم إلا أن قالوا أن هذا من فعل آبائهم وهم يسيرون على خطى السابقين في عبادتهم لتلك التماثيل.. ويا لها من حجة واهية... فرد عليهم إبراهيم عليه السلام بأن هذا ضلال بين وشرك صريح بالله الواحد الأحد؛ {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:53، 54]. فلما رأوا ذلك منه استهزؤوا به وقالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] أي: الذين لا يعقلون ما يقولون. فمضى إبراهيم عليه السلام في كلامه ودعوته لهم وقال إن الله هو الذي خلق السموات والأرض وجميع المخلوقات وهذا هو الدليل العقلي على وجود الله سبحانه وتعالى، والدليل النقلي: بأنه سبحانه بعث إبراهيم رسولًا داعيًا إليه والرسل لا يكذبون ولا يخبرون على الله غير الحق، فهل يُعقل بعد كل هذا أن يشرك بالله مخلوق؟! {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56]. فلما أن رآهم ما زالوا يصرون على الكفر والعناد أقسم أن يهدم أصنامهم تلك حتى يكون ذلك حجة أكبر لهم على ضعف تلك الأصنام وأنها لا تملك لنفسها شيئًا ولا تستطيع الدفاع عن نفسها.. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]. وانتظر حتى تحين الفرصة المناسبة لذلك.. وجاء يوم عيدٍ لهم كانوا يخرجون للاحتفال به خارج البلدة.. فانتهز إبراهيم عليه السلام الفرصة ولم يخرج معهم لهذا العيد فلما كلموه وأرادوا أن يجبروه على الخروج معهم أخذ يفكر فيما يقوله لهم وفي النهاية تحجج لهم بأنه مريض ليتركوه وبالفعل تركوه وذهبوا لعيدهم.. قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:88- 90]. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل. قوله: {إني سقيم}، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا}...» (رواه البخاري ومسلم). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزًا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب»". ا.هـ. فهو عليه السلام لم يكن يقصد أنه مريض بدنيًا وإنما أراد أنه مريض القلب من عبادتهم الأوثان من دون الله عز وجل. فلما ذهبوا وتركوه أسرع عليه السلام إلى المعبد الذي فيه أصنامهم ووجد هناك بعض الطعام الذي وضعوه لتباركه لهم آلهتهم المزعومة.. فخاطب إبراهيم عليه السلام هذه الأصنام متهكمًا لِمَ لا يأكلون؟! بل لِمَ لا ينطقون؟! هذا إن كانوا آلهة كما يزعم قومه، قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات:91، 92]. ثم قام عليه السلام بتكسير هذه الأصنام جميعًا وترك أكبر صنمٍ لهم ولم يكسره وذلك حتى يقيم عليهم الحجة؛ {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58]. وهنا لطيفة جميلة ذكرها الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره فقال: "وتأمل هذا الاحتراز العجيب، فإن كل ممقوت عند الله، لا يُطلَق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول: "إلى عظيم الفرس"، "إلى عظيم الروم" ونحو ذلك، ولم يقل "إلى العظيم" وهنا قال تعالى: {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} ولم يقل: "كبيرا من أصنامهم"؛ فهذا ينبغي التنبيه له، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظَّمه". ا.هـ. فلما عادوا ووجدوا أن آلهتهم المزعومة قد تكسرت ذُهِلوا ودهشوا وأخذوا يتساءلون يا ترى من تجرأ على هذا الفعل الشنيع! وتذكروا أن إبراهيم عليه السلام هو الذي يُبغض هذه الأصنام وهو الذي يدعوهم لترك عبادتها وتوحيد الله سبحانه فقالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]. واتفقوا على أن يجمعوا كل أهل المدينة ويأتوا بإبراهيم عليه السلام ليؤنبوه ويوبخوه ويحكموا عليه بأشد أنواع العقاب لما فعله بآلهتهم، قال تعالى: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:61، 62] وكانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها إبراهيم عليه السلام ليقيم عليهم الدليل الواضح والحجة البينة أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئًا، فقال لهم إن هذا الصنم الكبير هو الذي كسر باقي الأصنام الصغيرة لأنه أنِف وتغيظ من أن تُعبَد هذه الأصنام الصغيرة معه فكسرها ليتفرد هو بالعبادة، وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه.. وطلب منهم أن يسألوا تلك الأصنام التي تحطمت ليعلموا الحقيقة.. وهنا نظر بعضهم إلى بعض باستغراب وقالوا وكيف نسأل تلك الأصنام ؟! إنها لا تتكلم أتستهزئ بنا يا إبراهيم؟! فما أضلكم إذًا وأسفه عقولكم وأحقر بصيرتكم تلك التي اتخذت آلهة من دون الله! فلما لم يجدوا سبيلًا معه استخدموا منطق القوي المتغطرس في كل زمانٍ ومكان وحكموا عليه أن يُلقى في النار جزاء ما فعل بأصنامهم قال تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:63- 68]. ولكن الله سبحانه وتعالى انتصر لخليله إبراهيم عليه السلام وأنقذه من هذه النار العظيمة التي جعلوها له وأخرجه سالمًا منها لم يُصبه أذى ولا مكروه.. وخرج عليه السلام من النار أمام مرأى جميع أهل البلدة في معجزة واضحة تدل على أنه نبي مرسل من الله تعالى. ومع هذا لم يتحرك لهؤلاء الكفار قلب ولم يتبينوا عظمة الله وقدرته ووحدانيته بل ظلوا في طغيانهم يعمهون.. وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم.. فمن يهدِ من أضل الله. {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69، 70]. ونجى الله سبحانه وتعالى نبيه الخليل إبراهيم عليه السلام ولم يؤمن من قومه أحد إلا امرأته سارة وابن أخيه لوط عليه السلام.. وأخزى الله الكافرين وجعلهم الأخسرين في الدنيا والآخرة
رد: صفات إبراهيم عليه السلام
أثنى الله على نبيه إبراهيم ووصفه بوصف عظيم (إذ جاء ربه بقلب سليم) من الشبهات والشهوات خالصا لله قصدا وإرادة وعملا ، وهذا من عناية الله بنبيه .. وفيها بيان لقوة إبراهيم في ذات الله وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم ، حيث أنكر على قومه بقوله (ماذا تعبدون) وهذا استفهام للتوبيخ ، كما وبخهم بقوله (فما ظنكم برب العالمين) إذا عبدتم غيره .. هل تظنونه ناقصا لا يستحق أن يعبد وحده ، أو غافلا عن عملكم فيدعكم بدون عقوبة ، أو أنه يرضى بأن يعبد معه غيره ؟! .. فظنكم ظن خاطئ .. وهذا من سفه هؤلاء القوم وجهلهم .. ثم نظر نظرة في النجوم من أجل محاجة قومه وإظهار عجزهم .. ولأن قومه كانوا يعبدون النجوم ويضعون لها الهياكل في الأرض وأصل العبادة للنجوم ، وإنما نظر فيها وهو لا يعتقدها من باب التورية بالفعل ، فلما نظر فيها قال إني سقيم أي سأسقم وهذه أيضا تورية قولية لأن سقيم اسم فاعل وهو صالح للزمان الحاضر والمستقبل .. فتولى قومه عنه وتركوه إلا حراس الأصنام فمال وانطلق في خفية إلى أصنامهم وكان عندها طعام .. فقال لها (ألا تأكلون) على سبيل الاستهزاء والسخرية فهي لا تعقل ولا تعلم فلا يمكن أن تكون معبودة ، ووضع الطعام عندها من قبلهم دليل على أنها ليست صالحة للألوهية لأن الإله مستغن عن غيره .. فقال لها (مالكم لا تنطقون) استفهام للتحقير وقد خاطبها مخاطبة العاقل فأتى بميم الجمع .. وفيه دلالة على أن عابديها لم ينصرفوا عنها كلهم بل عندها من الحراس ما يقتضي أن يتكلم إبراهيم على هذه الأصنام بمثل هذا الكلام وإلا لو لم يكن عندها أحد لكان كلامه هذا لغوا لا فائدة منه ... (فراغ عليهم ضربا باليمين) كسرها بقوة بيده اليمنى لأنها هي آلة العمل غالبا وهي أقوى من اليسرىفي الغالب .. فجاؤوا ينتصرون لأصنامهم .. ولكن إبراهيم كان قويا في ذات الله فقال لهم موبخا (أتعبدون ما تنحتون) استفهام للتوبيخ والانكار والاستهزاء بهم .. هل يليق عقلا أن يكون المعبود مصنوعا لعابده ؟!.. لايفعل هذا إلا أسفه السفهاء .. ولكن والعياذ بالله إذا أعمى الله بصيرة الإنسان لا يغنيه بصر العين .. فقد أقام عليهم الحجة والبينة بأنها لاتصلح أن تكون آلهة لأنها : لا تعقل ، لا تنطق ، لا تعرف ما ينفعها ، لا تجلب لنفسها نفعا فلغيرها من باب أولى .. (فأقبلوا) الفاء للترتيب والتعقيب والسببية أي بسبب ما عمل إبراهيم بالآلهة أقبلوا إليه وهذا من شدة انتصارهم لآلهتهم !!.. ثم أنكر على أهل الباطل باطلهم عن طريق العقل (أتعبدون ما تنحتون) كيف تصنعونه ثم تعبدونه ؟! .. أليس الأولى ومن الناحية العقلية أن يكون هذا المنحوت هو الذي يعبدكم ؟! .. لكن عقولهم منتكسة فصار الأمر بالعكس .. ثم أقام عليهم الدليل على أن الله وحده هو الذي يعبد لأنه الخالق عزوجل (والله خلقكم وما تعملون) .. (فقالوا ابنوا له بنيانا) أي لأجله وليست اللام للتمليك فبنوا بنيانا وملؤوه حطبا (فألقوه) الفاء للمبادرة فأوقدوا لاحراقه نارا عظيمة ورموه بالمنجنيق لبعدهم عنها بسبب شدة حرارتها .. فألقوه في النار ولكن خالق النار قال للنار (كوني بردا وسلاما على إبراهيم) فلم تكن بردا شديدة البرودة فيهلك ولا حارة .. بل عكس ما أراد أعداؤه فكانت باردة مسلمة .. وما ذكر من أن النار في جميع أقطار الدنيا كانت في تلك اللحظة باردة فضعيف جدا مخالف للقرآن فقوله (يا نار) موجه للمقصود .. نكرة مقصودة أي تلك النار التي خوطبت فقط ، فجعلهم الله الأسفلين وكان العلو لإبراهيم عليهم فخرج منها سالما وأكرمه الله بشيء لم يكن معهودا عند البشر وهو سلامته من النار التي ظنوا أنها ستحرقه !!..--
رد: صفات إبراهيم عليه السلام
-الدروس المستفادة - ----------------عدم تأثر إبراهيم عليه السلام ببيئته الكافرة فقد بصره الله بالحق وهداه إلى التوحيد (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل)-------------------لم ترهبه كثرة المبطلين بل كان امة وحده و بقي مستعليا عليهم وهذا بدا في قصة تكسير الأصنام ومحاجة قومه .ـ
لما لم ينفع جدال إبراهيم مع قومه ولم يؤثر فيهم قوله المدعوم بالحجة والبرهان تحول إلى وسيلة أخرى وهي تكسير الأصنام وباشرها بنفسه مع علمه بما قد يلحقه من أذى وضرر فقام بتكسيرها ليبين لهم بطلان وسخافة ما يقومون به من عبادة هذه الأصنام التي لم تستطع أن تمنع عن نفسها التحطيم والتكسير ،---------- البَدْء بدعوة أبيه؛ لأنه أقرب الأقربين إليه، ولأنه كان صانعًا للأصنام،
دعوته لقومه، وعلى رأسهم النمرود، وكان هذا في بابل محل نشأته الأولى، وهكذا يكون البَدْء.
دعوته لأهل حران بعد تركه بابل؛ حيث كانوا يعبدون الكواكب.
قرار العزلة الذى اتخذه بعد حواره مع أبيه.
قرار الهجرة بعد محاجَّته للنمرود ونجاته من النار.
قرار تكسير الأصنام من باب تغيير المنكر باليد وإزالته بالقوة، وإعطاء درس عملي لعَبَدة الأصنام؛ لبيان أن هذه الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق، ولا تغني عن عابديها شيئًا؛ فهي ليست أهلاً للعبادة؛ إنما الأحق بالعبادة هو الله ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 78 -
بذل الجهد فى جميع مراحل الدعوة
في قصة إبراهيم مع أبيه كان الابن مؤمنًا والأب كافرًا، وفي قصة نوح عليه السلام كان الأب مؤمنًا والابن كافرًا، وبذَل إبراهيم عليه السلام جهده في دعوة أبيه كما بذل نوح عليه السلام جهده في دعوة ولده: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، ولكن لَمَّا تبيَّن لإبراهيم عليه السلام أن أباه عدوٌّ لله تبرَّأ منه، ولما تبيَّن لنوح عليه السلام أن ولده لن يؤمن وأنه عملٌ غيرُ صالح تبرَّأ منه، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، لنعلم أن الأمر بيد الله وحده، ولكن على الداعي أن يبذل وقته وجهده في الدعوة، وأن يبدأ بأقرب الأقربين إليه، ولا يمل دعوتهم، وأن يحرص على ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، ولكن التوفيق للإيمان لا يملكه إلا الله - فعلي الداعي أن يدعو، والنتائج على الله عز وجل.
قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ أن إبراهيم عليه السلام رتَّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان، ثم أمره باتِّباعه في النظر والاستدلال، وترك التقليد بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي".
التلطف والرفق والتودد في دعوته لأبيه، كما يظهر واضحًا جليًّا الأدب والاحترام للوالد، وخفض الجناح في قوله: (يا أبت، يا أبت، يا أبت، يا أبت).
خوفه على أبيه أن يناله عذاب الله؛ باتباعه للشيطان، أو عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل.
أن أباه كان صانعًا للأصنام، فإذا وجَّه إليه الدعوة، واعتقد بطلانها، ترك صناعة الأصنام، فيكون بذلك قد قضى على مصدر الشر في عقر داره
التدرجً؛ حيث كان البَدْء بالأهم وبالاقتراب، وهو يتمثل في دعوته لأبيه.
ثم الآيات: ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46]، واجه الأبُ وعْظَ ولده بالشدة والغلظة؛ حيث هدَّده بالضرب والشتم، وقابل رفق ولده (يا أبت) بالعنف؛ حيث لم يقل له: يا بُني، بل قال: يا إبراهيم، وأمره بالبعد عنه؛ كي لا يرى وجهه ولا يسمع كلامه، عند ذلك قال إبراهيم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾.
"وهذا دليل على جواز متاركة الموضوع إذا ظهر منه اللجاج، وعلى أنه تحسُن مقابلة الإساءة بالإحسان"
إن السلام هنا سلام متاركة، لا سلام تحية؛ بدليل قوله بعد ذلك وفعله: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُم ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 48]، ومن هنا تشرع العزلة والهجرة فرارًا من الأذى، أو فرارًا بالدين، وهكذا تتضح لنا سنة التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام؛ حيث بدأ بالأهم والأقرب ، ثم استعمال الرفق واللين، والصبر على ذلك ومقابلة الإساءة بالإحسان، ثم العزلة أو الهجرة عند اشتداد الأذى أو التهديد به.
إن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، هو ما يجب أن يلتزم به الداعي، ويُلزِم به نفسه قدرَ طاقته واستطاعته،
لقد سجَّل القرآن الكريم هذا الحوار بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه وقومه: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 52 - 58].
وصورة أخرى من الحوار: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 69 - 77].وفي تصوير آخر: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 83 - 93].لقد بات واضحًا أن الأمر له حدود، ولا بد له من نهاية، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يضع حدًّا لهذا اللجاج والفساد العقائدي، حطَّم تلك الأصنام المنحوتة المصنوعة، التي صنعها البشر بأيديهم؛ ليردَّهم إلى صوابهم، فعل ذلك موطِّنًا نفسه على تحمل الأذى في سبيل الله
يقول القرطبي - رحمه الله -:"إنه لم يكتفِ بالمحاجَّة باللسان، بل كسَّر أصنامهم فعلَ واثقٍ بالله تعالى، موطِّنٍ نفسَه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين
ولَمَّا كسر إبراهيم عليه السلام تلك الأصنام، ثارت ثائرتهم، وغضبوا لآلهتهم، وتحرَّكت أجهزة النمرود للقبض على إبراهيم، وعقدت محاكمةً علنية لإبراهيم؛ ليكون عبرة لغيره - هكذا أرادوا - ولكن الأمر كان عكس ما أرادوا: ﴿ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 61]، صدر قرار النمرود بالقبض على إبراهيم وإحالته إلى محاكمة عاجلة وعلنية.يقول ابن كثير - رحمه الله -:"أي في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد؛ لعلهم يشهدون مقالته، ويسمعون كلامه، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه، وكان هذا أكبر مقاصدِ إبراهيم عليه السلام؛ أن يجتمع الناس كلهم، فيقيم على عبَّاد الأصنام الحجَّة على بطلان ما هم عليه، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾
وكان الحكم مُعدًّا وجاهزًا، والمحاكمة سريعة وعاجلة، وأحكامها رادعة لإبراهيم ولأمثاله؛ الإعدام حرقًا، ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68].ويقول القرطبي: "لَمَّا انقطعوا بالحجة، أخذتهم عزةٌ بإثم، وانصرفوا إلى طريقة الغشم والغلبة، وقالوا: حرِّقوه
ولتقف الدنيا كلها للداعية بالكيد والمكر؛ مكر الليل والنهار، لكن الله معه ولن يخذُلَه، ولن يضيعه، صدر الأمر الإلهي للنار، إن النار تحرق ولكنها في هذه اللحظة لن تحرق، وإن النار تحرق كل شيء، ولكنها لن تحرق إبراهيم الأُمَّة، ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].
يقول القرطبي - رحمه الله تعالى -:"وهذه عادة الجبابرة، فإنهم إذا عُورضوا بشيء، وعجزوا عن الحجة، اشتغلوا بالعقوبة
وحدَث ما لم يكونوا يحتسبون، ورأَوا آية عظيمة، ومعجزة محيرة، ولكنهم لم يؤمنوا، ولم تهتز قلوبهم، وبعدها قرَّر إبراهيم عليه السلام الهجرة، لقد أصر القوم على الكفر والعداء، فما فائدة البقاء؟!إن في المناظرة تدرُّجًا من دليل إلى دليل أوضح وأكثر إلجامًا للخصم، كما أنه كذلك استدراج للخصم؛ ليقيم عليه الحجة، ويلزمه الإقرار بالحقيقة التي لا مفر منها ولا محيد عنها، "﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ أي: فبقي مغلوبًا لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جوابًا" ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [وبيانًا لسنة التدريج؛ نجد أن إبراهيم بدأ بأبيه وقومه ودعاهم بالحجة واللين، ثم بالتهديد، ثم تكسير الأصنام، ثم تحمُّل الأذى والاضطهاد في سبيل الله عز وجل، ثم في النهاية كان قرار الهجرة وترك موطن الكفر وأرض الباطل؛ للبحث عن منطلق جديد للدعوة، وبداية مرحلة جديدة.إن الهدف من التدرُّج هو حصول اليقين، أو الانتقال من الشك إلى اليقين، واليقين علمٌ يحصل بعد زوال الشبهة؛ بسبب التأمل وكثرة الدلائل وتنوُّعها وتدرجها، وإبراهيم عليه السلام آتاه الله الحُجة على قومه، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾
"إن العبد كلما كان تدبُّره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى، إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالَم، أن شمس العالَم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حدٌّ معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود، وأما شمس المعرفة والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها، ولا غاية لازديادها، فقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 75]، إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات، وقوله تعالى: ﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد[الرازى]
يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
العِبرَ من المناظرة و المنهجَ الدعوي من خلالها؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]:
إن مَن دعا غيره إلى الله تعالى، فإنه يُقدِّم الرفق على العنف، واللين على الغلظة، ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام، وهكذا فعل إبراهيم عليه السلام في بداية دعوته لأبيه وقومه، حتى عنَّفهم بعد ذلك وكسر آلهتهم. وكذلك فعل موسى عليه السلام مع فرعون فقد امره الله فى البداية بان يقولا له قولا لينا ثم بعد العناد قال له - وانى لاراك يا فرعون مثبورا
إن المناظرة إنما هي مناظرة استدراجية، فإنه لو صرَّح بالدعوة إلى الله أولاً، لم يقبلوا منه، ولو اصطدم بأفكارهم ومعتقدهم من أول الأمر، ما استطاع أن يحاورهم استدرجهم إلى استماع حجته، وليتمكن من ذكر الأدلة على بطلان ما هم عليه،
أرد إبراهيم عليه السلام بدايةً أن يُزحزِحَهم عن موقفهم شيئًا فشيئًا، وشكَّكهم أولاً فيما يعتقدونه، ثم ينقلُهم بعد ذلك إلى ما يريدُه منهم، وهو الإيمان بالله والكفر بالكواكب، لكنه يتمهل معهم؛ كي يصلوا هم بأنفسِهم إلى النتيجة والحقيقة، إنه أراد أن يقول لهم ويفهمهم
• إن أفولَ الكواكب يدل على كونها عاجزةً عن الخلق والإيجاد، وبالتالي فإنه يكون محتاجًا إلى غيره، ومَن كان محتاجًا إلى غيره يستحيل أن يكون إلهًا معبودًا.
• وفي قوله: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾ قصد إبراهيم عليه السلام حكاية قول الخصم، وافتراض الباطل؛ استدراجًا للخصم لا اعتقادًا أو إقرارًا بقوله، ونجده ذكر عقيبه ما يدل على فساده، وهو قوله: ﴿ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾.
• وفي قوله: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾؛ أي: في زعمكم،، فهل نعبد إلهًا يغيب ويأفل؟
• والقول في الكواكب هو القول في القمر، وهو القول في الشمس، كل ذلك يغيب ويأفل، وربنا الأحق بالعبادة لا يغيب -
الدين إنما يكون مبنيًّا على الدليل لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة ألبتة، كما تدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالاستدلال في أحوال مخلوقاته؛ إذ لو أمكن تحصليها بطريق آخر، لَمَا عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة"
المناظرة الاستدراجية، يستدرج القوم ويزحزحهم عن موقفهم شيئًا فشيئًا، ويترقَّى بهم في الأدلة، كما قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "فبيَّن لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب للعبادة، فبدأ بالزهرة، ثم ترقَّى منها إلى القمر، الذي هو أضوأ منها وأبقى من حسنها، ثم ترقَّى إلى الشمس، التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً، فبيَّن أنها مُسخَّرة مسيَّرة مقدَّرة، مربوبة
- البَدْء بالأهم، وهو الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، وكان ذلك بالبراهين والأدلة، والمناظرات العقلية، ومجادلة الخصم واستدراجه؛ لتظهر له الأدلة واضحة جلية فيقف في حيرة من أمره، لا يجد حجة،.
- البَدْء بالأقربين، وقد تمثَّل ذلك في البدء بدعوة أبيه، وقد كان صانعًا للتماثيل، وبهذا يستطيع إبراهيم عليه السلام أن يجتثَّ جذور الشرك، بالقضاء عليه من منابعه، ثم كانت دعوته لقومه.
- الترقي في استعمال الأدلة كما حدث في مناظرة عبدة الكواكب؛ حيث بدأ بالكواكب ثم القمر ثم الشمس.