رد: الصّوتيات عند ابن جني
الصّوتيات عند ابن جني
بَدر الدين قاسم الرفاعي
*-التقسيم الرابع:
وعلى نسق سيبويه يفرق ابن جني بين الحروف المطبقة والحروف المنفتحة.
والإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلى الحنك مطبقاً له. والحروف المطبقة أربعة: الضاد والطاء والصاد والظاء.
وأضاف سيبويه قوله: "هذه الحروف الأربعة إذا وضعت لسانك في مواضعهن انطبق لسانك إلى ما حاذى الحنك.. فالصوت محصور بين اللسان والحنك". ولذلك أسمى سيبويه الحروف المطبقة حروفاً محصورة.
يقابل الإطباق الانفتاح كما في الدال والذال والسين. يقول ابن جني مردداً قول سيبويه:
"لولا الإطباق لصارت الطاء دالاً والصاد سيناً والظاء ذالاً".
وإلى جانب الإطباق والانفتاح هناك تقسيم مقارب له: الحروف المستعلية والحروف المنخفضة.
وليس يخلو الاستعلاء من بعض الاتصال بالإطباق. يعرف الزمخشري الاستعلاء بقوله:
"ارتفاع اللسان إلى الحنك أطبقت أم لم تطبق ("المفصَّل"). والحروف المستعلية هي عند النحاة الحروف المطبقة الأربعة المذكورة "الطاء، الظاء، الصاد، والضاد" يضاف إليها القاف والخاء والغين. في هذه الحروف الأخيرة استعلاء وليس إطباق ولعله من الصعب أن نفرق بين التفخيم من جهة والإطباق والاستعلاء من جهة ثانية. وقد تحدث النحاة العرب عما يسمونه "التغليظ" أو "التسمين" ويقابله الترقيق. والراجح أن هذه الصفات تطلق على بعض الحروف التي يكون لها وقع خاص (أو وقع فخم) على السمع. كما في الحروف السبعة المشار إليها: الطاء والظاء والصاد والضاد والقاف والخاء والغين.
وتضاف إليها اللام والراء في حالات خاصة.
فقد كانوا يفرقون بين اللام المغلظة واللام المرققة. واتفقوا على أن اللام المضعفة في اسم "الله" تطلق مغلظة وجوباً إذا كانت مسبوقة بضمة أو فتحة. ومرققة وجوباً إذا كانت مسبوقة بكسرة فيجب القول (ورحمة الله) أو (ختم الله على قلوبهم( بتغليظ اللام.و (بسم الله( بترقيقها.
ويتولد أيضاً تفخيم الراء من الجوار الصوتي فسبب التفخيم هو جوار الفتحة أو الضمة أو الحروف المستعلية (الطاء، الظاء، الصاد، الضاد، القاف، الخاء، والغين".
مثلاً: قرطاس، مرصود، إرضاء، رقاب، رخاء، رغاء (صوت البعير) بتغليظ الراء.
وترقق الراء بجوار الكسرة أو الياء: قريب مريم.
وسواء كانت اللام مغلظة أو مرققة فإن التفخيم ظاهرة صوتية بحتة لا تغير من دلالة اللفظة شأنها في ذلك شأن الراء.
*-التقسيم الخامس:
يتعلق هذا التقسيم بالحروف التي جمعت بين الجهر Sonorité والشدة Occlusive وهي تمثل في خمسة حروف القاف والجيم والطاء الدال والباء (وإن كنا ذكرنا بأن القاف والطاء هما في نطقنا الحديث تفخيم للكاف والتاء وهما من الحروف المهموسة). سميت بحروف القلقلة لأن الوقف على هذه الحروف يسبب قلقلة كبرى أو حركة شديدة في الصوت. مثال: (قل أعوذ برب الفلق( (والله من ورائهم محيطْ(. (في جيدها حبل من مسد(. (ومن شر غاسق إذا وقب(.
وتسمى أيضاً بالحروف المشربة بسبب شدة الضغط والقلقلة الكبرى في نهاية العبارة والقلقلة الصغرى في وسطها والنوع الثاني من الحروف المشربة هي التي إذا وقفت عندها رافقها ما يشبه "النفخ" دون أن يكون لها الضغط نفسه كما في الحروف التالية: الزاي والظاء والذال والضاد (وهي أيضاً حروف مجهورة) مثال (إن كل نفس لمَّا عليها حافظ(. وهذا الحفيف الضئيل الذي يرافق الحرف الساكن ليس من صوت الصدر وهو يضعف إذا جمعت الحروف داخل الكلمة.
ثم تأتي فئة ثالثة من الحروف المجهورة لا يسمع بينها شيء لأنها لم تضغط ولم تجد لها منفذاً مثل: الهمزة والعين والغين واللام والميم والنون. "إن عذاب ربك لواقع". (فويل يومئذ للمكذبين( (يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم(.
*-التقسيم السادس:
ينوه ابن جني "بسر طريف" تمتاز به حروف الذلاقة وهي في الأصل الراء ويضيف إليها ثلاثة حروف شفوية الباء والغاء والميم مع حرفين آخرين اللام والنون. يقول ابن جني في هذه الحروف الستة:
إذا رأيت اسماً رباعياً أو خماسياً غير ذي زوائد فلا بد فيه من حرف أو حرفين أو ثلاثة من هذه الحروف الستة ويضرب مثلاً على ذلك: جعفر، سلهب (ويعني الطويل)، وسفرجل.
وغير هذه الحروف الستة يسميها ابن جني "مصمتة" يقول: ومتى وجدت كلمة رباعية معراة من الحروف الستة السابقة فاقضِ بأنها دخيل في كلام العرب" ويسوق مثالاً على ذلك "عسجد (الذهب أو الجوهر كالدر والياقوت) والفعل هدق" (أي كسر).
سميت هذه الحروف الأخيرة "مصمتة" أي صمت عنها ولا تبنى بها لفظة رباعية أو خماسية. وهي حروف ثقيلة في حين تعني الذلاقة هنا الخفة والرشاقة وهي تدخل الصيغة الرباعية والخماسية لثقل هاتين الصيغتين.
*-تركيب الحروف:
كيف تتركب الحروف داخل الكلمة العربية؟ القاعدة الأساسية التي يوردها ابن جني هي التالية:
"كلما تباعدت الحروف في المخرج كانت أفضل وإذا تقارب الحرفان في مخرجيهما قبح اجتماعهما ولا سيما حروف الحلق" لم تكن هذه القاعدة مجهولة عند الخليل لكن ابن جني أولى عنايته لحروف الحلق. فالألفاظ التي يتكرر فيها حرفان حلقيان نادة مثل :المهمه" (أي اللين) و"الفهه" (أي العي) وفي الأغلب لا تتكرر حروف الحلق ما لم يباعد بينها حرف يختلف مخرجه مثال الضعيفة (أي الروضة النضرة أو العجين الرقيق) ومن الواضح أنه يتعذر تعاقب حروف الحلق في لفظة واحدة مثل العين والغين والحاء والهاء والخاء.
وفي عهد متأخر أشار الشهاب الخفاجي في كتابه "شفاء الغليل" إلى عدد من المعايير التي تتميز بها اللفظة العربية من اللفظة الأجنبية وعني الشهاب الخفاجي بحرف الجيم خاصة.. وقال:
1-إنها لا تجتمع والقاف. فكانت كلمة "منجنيق" أعجمية.
2-إنها لا تجتمع والصاد "فلفظة جص أو صولجان" من المفردات الأعجمية.
3-إنها لا تجتمع والطاء في لفظة عربية الأصل. فهو يعتبر "طاجن" (ما يقلى عليه أو فيه) كلمة أعجمية.
كذلك يرى الشهاب الخفاجي أن حروف الزاي والذال والسين لا تجتمع في لفظة عربية الأصل بسبب قرب مخارجها.
فكانت لفظة "ساذج" معربة عن الفارسية. وقد لا توجد في العربية كلمة واحدة ضمت الزاي والسين، أو الزاي والذال.
*-حروف المد والحركات:
يعرف ابن جني حروف المد أو اللين بقوله: "إنها الحروف التي اتسعت مخارجها (آ/أ) وأوسعها الألف وألينها "عند لفظ الألف الممدود الساكنة لا يعترضها عارض في حين يضغط ظهر اللسان على الحنك عند النطق بالياء الممدودة الساكنة وأما الواو فيقتضي النطق بها ضم الشفتين على أن يكون بينهما بعض الانفراج". تختص حروف المد بحرية مرور النفس حال النطق بها لا يمنعه مانع وإنما ينسل إلى خارج الفم طليقاً.
وكان الخليل يؤكد على أن الألف اللينة والواو والياء هوائية (أو هاوية) تلك إذاً حروف تامة كاملة من حيث النطق بها وإذا تلتها همزة أو حرف مدغم ازدادت طولاً وامتداداً. نقول "يشاء، يسوء، يجيء" أو نقول مع الإدغام "مادة، شابة – ولا الضالين" ذلك لأن الهمزة على حد قول ابن جني "حرف حلقي نأى منشؤه وتراخى مخرجه. إذا نطقت بهذه الحروف اللينة قبل الهمزة ازدادت نعومة واستطالة".
وعند الوقف تأتي الهاء المسماة بهاء السكت للإطالة "واعجباه – وازيداه" لأن الوقف على حروف اللين ينقصها ويستهلك جزء من استطالتها ومدها فكان لا بد من الهاء لبيان حرف المد. وهاء السكت قد تزداد أهمية أحياناً لأنها لو أسقطت لأدى ذلك إلى طمس معالم الكلمة. مثل الأمر من فعل رأى "رَ" فنقول "ره". الأمر من أتى "ت" فنقول "تِه" ومنذ سيبويه عرض النحاة لظاهرة الإمالة فقالوا أن الألف تمال إذا كان في المقطع الذي يليها كسرة "عابد، عالم مساجد" أو كان في المقطع السابق للألف كسرة: "عماد سربال" (القميص أو الدرع) أو كان في أصل الكلمة ياء ومن ذلك إمالة الأفعال الناقصة: "بكى، رمى" أو الأسماء المنتهية بألف مقصورة (ثكلى، منأى) والماضي الأجوف اليائي: "زاد، حاد" وقد عمد القراء أحياناً إلى إمالة أفعال ناقصة واوية مثل "غزا" فنسبوا السبب في ذلك إلى الماضي المجهول "غُزي" أو صيغة المزيد "أغزى" بالألف المقصورة التي أصلها ياء (كما في قولك: "عرفت ما يُغزى من هذا الكلام") كذلك فسروا إمالة "مات (وأصلها "موت") باللجوء إلى صيغة المتكلم "مت" لاحتواء هذه الصيغة على الكسرة.
وميزوا في الإمالة وضع الألف داخل الجملة أو في نهايتها. يذكر سيبويه أن بعض القراء كانوا يقرؤون بالإمالة في آخر الجملة: "منها، منا، بنا" ويقرؤون الكلمات بغير إمالة إذا جاءت داخل الجملة.
أما التفخيم فهو الجنوح بالألف نحو الواو "الصلوة الزكوة الحيوة" والألف المفخمة دونت في بعض الكتابات واواً.
*-الحركات:
يرى ابن جني بين الحركات وحروف المد ما يسميه بالمضارعة أو المشابهة. فإذا أشبعت الحركة أنشأت حرفاً من حروف المد من جنسها. الفتحة المشبعة تصير ألفاً ممدودة، والكسرة المشبعة – ياء ممدودة، والضمة المشبعة – واواً ممدودة. وهو يجد الألف أقرب إلى الياء منها إلى الواو. الألف مخرجها من الحلق والياء من وسط الفم والواو تقتضي حركة الشفتين فيضيق بها مجرى النفس وكذلك الياء الساكنة التي تتطلب ضغط ظهر اللسان على الحنك. ومعناه أن الألف تحتاج إلى أقل جهد ممكن ثم تأتي الياء ثم الواو.
لذلك يعتبر ابن جني الفتحة أولى الحركات وأدخلها في الحلق والكسرة بعدها والضمة بعد الكسرة. فإذا بدأت بالفتحة وتصعدت تطلب صدر الفم والشفتين اجتازت في مرورها مخرج الياء والواو فجاز أن تشمها شيئاً من الكسرة أو الضمة. ومن هنا كانت ظاهرة الإمالة وهي جنوح بالألف إلى الكسرة وظاهرة التفخيم وهي جنوح بالألف إلى الضمة. ويضيف ابن جني: "ولو تكلفت أن تشم الكسرة أو الضمة رائحة الفتحة لاحتجت إلى الرجوع إلى أول الحلق. وفي هذا التراجع مشقة. ولكن من الضمة إلى الكسرة هناك أيضاً تراجع وهو قليل مستكره" (قيل بيع)، ومما يلفت النظر استخدام لفظة "الإشمام" وفي معناها الواسع ظاهرة الإشمام هي إعارة حركة أو حرف رائحة حركة أخرى أو حرف آخر.
يتحدث ابن يعيش عن إشمام الصاد رائحة الزاي. مثال: الأسبوع – الأزبوع. قصد – قزد.
وعند الوقف في آخر الجملة بالسكون يراد الإشمام الرمز إلى الحركة بوضع الشفتين. فإذا قرأ القارئ الآية الكريمة: (ربي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير(. وقف القارئ على كلمة "فقير" بالسكون مع استدارة الشفتين ليرمز إلى الكلمة في حال الوقف مشكلة بالضم. فالحركة هنا لا تسمع بل ترى على الشفتين. وغالباً ما اختصوا الضم بظاهرة الإشمام وبخاصة عند البصريين.
وهناك ظاهرة ثانية عند الوقف هي اختلاس الحركة وتقصير زمن النطق بها فلا يدركها المستمع إلا في زمن أقصر مما تتطلبه الحركة العادية. أو كما يقول ابن يعيش، حتى تستطيع بانتباه شديد أن تفرق بين المذكر والمؤنث في الضمير أنتَ أنت" وقد سماها بعض النحاة "روما". وفي الحالتين يكون لدينا وقف في آخر الجملة بما يشبه الوصل بين العبارات.
والأصل في الكلام أن تتصل أجزاؤه اتصالاً وثيقاً. فإذا سجلنا على لوح حساس جملة مكونة من عدة كلمات وجدنا على اللوح خطا متعرجاً أو متموجاً ترمز أعاليه لأوضح الأصوات وأسافله لأقلها وضوحاً في السمع. ويتبين لنا من اتصال الخط أن الكلام كتلة واحدة لا يميز بين كلماتها إلا صاحب اللغة العارف بمعانيها. أما الأجنبي فلا يسمع إلا أصواتاً متصلة ومقاطع متداخلة لا يدرك فيها أين تنتهي الكلمة وأين تبدأ الكلمة اللاحقة.
ويترتب على وصل الكلمات أن نرى المقطع الأخير في اللفظة يأخذ صورة جديدة ولم يفرق النحاة بين الحرف المشكل بالسكون وبين حرف المد بل اعتبروا كلاًّ منهما ساكناً.
وتتلخص أقوالهم في التخلص من التقاء الساكنين بين كلمتين متجاورتين كما يلي:
1-يحذف حرف المد لفظاً لا كتابة حين يكون في آخر الكلمة ويليه ساكنان في الكلمة اللاحقة نحو "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" أو "وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم".
2-يحرك الأول من الساكنين حين لا يكون هناك حرف مد. ويكون تحريكه:
أ-إما بالكسر على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين: (قالت الأعراب آمنا(.
ب-وإما بالضم مع ميم لجماعة الذكور المتعلقة بالضمير المضموم (كتب عليكم الصيام( (لهم البشرى(.
جـ-يجوز الضم والكسر على السواء مع ميم الجماعة المتصلة بالضمير المكسور (عليهم الآن وزر ما اقترفوا(. وحين يكون ما بعد الساكن الثاني مضموماً أي (اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم(.
بدمشق-ويحرك الساكن الأول بالفتح في نون "من". الجارة إذا دخلت على "الـ". "من الله" "من الكتاب" وبذلك نرى أن ظاهرة الوقف بالسكون قد استأثرت بأحكام كثيرة ولم تكن أقل شأناً عند القرَّاء والنحاة من ظاهرة التحريك في أواخر الكلام.
والقاعدة الأساسية التي أخذ بها النحاة العرب هي أن الحركة مصدر قوة للحرف وبهذا يقول ابن جني: "الحروف الساكنة أميل إلى الحذف والزوال من الحروف المتحركة" ومنه كانت ظاهرة الإدغام التي تقتضي أن يكون الحرف الثاني متبوعاً بحركة وأن يكون الحرفان إما متماثلين (مدد – مدْدَ – مدٌ) أو متجانسين لهما نفس المخرج وتختلف صافتهما (وتد – وتد – ودد – ود) أو متقاربين في المخرج والصفات (احفظ ضانك – احفض ضانك) كان النحاة العرب يفسرون الإدغام بوجود حروف قوية تؤثر في حروف ضعيفة. ويمدون الياء مثلاً أقوى من الواو: يوم – أيوام – أيام (قلبت الواو الساكنة ياء وشددت) كويته كوياً – كياً – لويته لوياً – لياً.
ونحن اليوم نفسر الإدغام بأنه اقتصاد في المجهود العضلي. فإذا اجتمع صوتان أحدهما مهموس والآخر مجهور، أثر أحدهما في الآخر حتى يصبحا مجهورين معاً أو مهموسين معاً ليكون إخراجهما بأقل جهد ممكن أو كما يقول الخليل "ليكون عمل اللسان من وجه واحد".
*-قوة الحرف:
وفي مواضع متناثرة من كتابه "سر صناعة الإعراب" يتحدث ابن جني عمّا يسميه "قوة" الحرف ونصاعته. يقول مثلاً: "الخاء أقوى من العين والعين أقوى من الحاء" ونحن نقول اليوم العين حرف مجهور والحاء حرف مهموس وتتفقان في المخرج وهو الحلق. وقد نعتبر الخاء مفخمة والعين مرققة وتختلفان في المخرج.
ومفهوم "قوة" الحرف عند ابن جني يتجاوز الصوتيات إلى بحث الدلالة والمعاني.
يقول صاحبنا: في الفعلين توصل وتوسل "الصاد أقوى صوتاً من السين لما فيها من استعلاء فالتوسل دليل على الضعف كأن المتوسل أدنى مرتبة من المتوسل إليه".
فجعلت الصاد لقوتها للمعنى الأقوى والسين لضعفها للمعنى الأضعف.
ويمكن أن نضيف إلى مثال ابن جني: أزٌ وهزٌ (الهمزة بحد ذاتها أشد من الهاء) والأز معناه الإزعاج الشديد: (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً( (أزير القنابل) لكننا اليوم نقول: إن الوحدة الصوتية Phoneme ليست ذات معنى.. ولنضرب مثالاً على ذلك: سار (ذهب) وصار (تحول) وفيه اختلاف في المعنى مرده إلى اختلاف الحرف على أن معنى السير والذهاب غير منوط بالوحدة الصوتية "س" ومعنى الصيرورة أو التحول لا يتعلق بالوحدة الصوتية "ص" ونكتفي بالإشارة إلى أن الصاد هي سين مفخمة.
ولو فرضنا جدلاً وجود تقارب بين الصوت والمعنى فإن هذا التقارب يقتضي ما نسميه "بالحدس" أو "السليقة" التي لا يملكها إلا الناطق باللغة. كانوا يقولون مثلاً: إن الحاء إذا أتت في آخر الكلمة بعد الألف الممدودة دلت على الاتساع والانتشار: ساح فاح صاح إلخ.. وإن اللفظة المبدوءة بالشين دلت على التفرق والتشتت مثل شتت وشطر وشعث وشع إلخ.. واللفظة المبدوءة بالغين دلت على الغموض: مثل غاب غطى غار غبس (غبس الليل: إذا خالط البياض ظلمته في آخره). وهذا ما يسميه ابن جني "الكلمات المتصاقبة الحروف متصاقبة المعاني" أي متقاربة الحروف متقاربة المعاني وهذا مرده إلى القول بأن اللغات الإنسانية ترجع في أساسها إلى تقليد أصوات الطبيعة. يقول "ذهب بعضهم (أي أن الرأي ليس من عنده أو أنه لم يتثبت من الأمر) إلى أن أصل اللغة كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء) ثم يضيف "وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل" ويقول في موضع آخر من كتابه "خصائص اللغة العربية": "وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأن العربية من عند الله عز وجل فقوى في نفسي اعتماد كونهما توقيفاً من الله سبحانه وأنها وحي". ولكي يشرح السبب الذي تقوم عليه النظرية التوقيفية يقول ابن جني: "ذلك إنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر..".
ومع ذلك كله يقول صاحبنا في موضع آخر: "إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة كما يفعل الصناع عندما يختارون آلات جديدة ويحددون أسماءها. وباختلاف المواضعة والمصطلحات تولدت لغات كثيرة مثل الرومية والزنجية وغيرهما. والنتيجة التي يخلص إليها صاحبنا: "واعلم فيما بعد أنني على تقادم العهد دائم التنقير والبحث عن هذا الموضوع..".
والرأي في اللسانيات الحديثة أن اللغة مجموعة من الرموز والإشارات التي اصطلح عليها الناس. ولكن تبقى قضية "المشاكلة الصوتية" التي يعمد إليها الشعراء وتشير بجرسها الموسيقي إلى الملائمة بين الأصوات والحروف وبين العواطف والمعاني التي يعبر عنها الشاعر.
وليسمح لي القارئ في نهاية المقال أن أعقد المقارنة التالية: عندما أراد الشاعر الفرنسي Racine أن يوحي بفحيح الأفاعي استعان بحروف الصفير في بيته المشهور:
Pour qui sont ces serpents qui sifflent sur vos têter
(لمن تلك الأفاعي التي يتصاعد صفيرها فوق رؤوسكم).
لكن البحتري عمد إلى حروف الصفير للتعبير عن الترفع والإباء والعزة والمنعة:
صنت نفسي عما يدنس نفسي
- وترفعت عن جدا كل جبس
وتماسكت حين زعزعني الدهـ
- ـر التماساً منه لتعسي ونكسي
فتكرار السين يوحي بالترفع عن عطاء الجبان الوغد اللئيم ويرافق السين حرف الزاي المتكرر (زعزعني) الذي يوحي بالترنح والسكون في هاء "الدهر" التي يختتم فيها الشطر وتبقى اللفظة معلقة في فراغ وكأن الدنيا تدور بك ثم العطف "لتعسي ونكسي" إشارة إلى الإصرار على شدة المحن والخطوب: هذا كله ينقش الفكرة في قلب القارئ نقشاً عميقاً.
اللغة هنا لم تعد سلكاً هاتفياً مغفلاً ينقل المعاني إنما أصبحت قطعة من الرخام يعجنها الشاعر حتى تتفجر بالحياة. هذه المصاقبة كما يقول ابن جني أو هذه المشاكلة الصوتية هي من إبداع الشاعر ولا وجود لها قبل هذا الإبداع. ذلك هو سر الفن الذي يجعل الحياة تنبض في إعادة الموات.
وإن من البيان لسحراً.
(1)-انظر كمال محمد بشر، علم اللغة العام – الأصوات. دار المعارف، مصر.