رد: تأملات في سورة النازعات
تأملات في سورة النازعات
رياض محمد المسيميري
فوائد الآيات:
1- مشروعية استخدام الداعية والمجادل للأدلة العقلية في دعوته ومناظرته.
2- بيان عظمة الخالق، وعجيب قدرته حيث خلق هذه المخلوقات العظيمة من العدم، وأحكم صنعها وتدبيرها.
3- عناية البارئ - سبحانه - بجنس الإنسان حيث سخّر له هذه المخلوقات من الليل والنهار، والماء والمرعى والجبال والأنعام.
4- من أساليب الخطاب القرآني: الإجمال في مواضع والتفصيل في أخرى فقد أجمل فائدة الليل والنهار هنا وفصّلها في مثل قوله: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) القصص: 73.
ولذا كان حرياً بالإنسان أن يقابل النعم بالشكر والاعتراف.
قوله - تعالى -: (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى* يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).
شرح الغريب:
(الطَّامَّةُ الْكُبْرَى): يوم القيامة، وسُمّيت طامة لأنها تطُّم على كلّ أمر، أي تفوقه شدة وفظاعة مهما كان فظيعاً وعظيماً.
(مَا سَعَى): أي ما قدّم من عمل سواء كان خيراً أم شراً.
(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى): أي ظهرت للناظرين فرآها الناس عياناً.
(خَافَ مَقَامَ رَبِّه): أي خاف القيام بين يدي الله - عز وجل - للحساب والجزاء.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ): أي يسألك الناس عن وقت القيامة.
(أَيَّانَ مُرْسَاهَا): أي متى تقوم على وجه التحديد.
(فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا): أي لست قادراً على ذكر موعد الساعة لأنك تجهله
(إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا): أي منتهى علم الساعة إلى الرب - تعالى -دون غيره لا يعلم بذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل.
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا): أي إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر فسيستقصرون مدة الحياة الدنيا حتى كأنها عندهم ساعة من آخر النهار أو أوله!!.
هداية الآيات:
في هذه الآيات المباركات يُذكّر الله - تعالى -الخلائق بذلك اليوم الرهيب والعصيب الذي سمّاه بالطامة حيث تهون عندها كلّ الطوام الأخرى وتتصاغر فلا أطمّ منها ولا أكبر.
إن التفكر بأحداث ذلك اليوم، وبعض أخباره الثابتة في الكتاب والسُنّة، بتدبر وتأمل عميقين كفيل بإحداث تغير أكيد بإذن الله في أعماق ضمير كلّ راغب في النجاة.
إن مشهد جموع البشر وقد ازدحمت في صعيد واحد وآن واحد، وقد ماج بعضهم في بعض في ازدحام يهون عنده كلُّ ازدحام.. وحرّ شديد، وغمّ لا يطاق، وهم فاق كلّ احتمال وانشغال كل أحد بنفسه حتى الرسل - عليهم السلام -.
إنّ مشهداً كهذا كفيل لمن تأمله وتفكر فيه أن يحسب ألف حساب قبل أن يرتكب ذنباً مهما كان صغيراً!.
إننا لو طالعنا جموع البشر تزدحم حول الكعبة شرفها الله في طواف الوداع أو نظرنا إلى بعض الزحام حول الجمار أيام التشريق لهالنا منظر تلك الجموع، وأصابتنا الرهبة..
مع أنّ هذا الجموع ما هي إلا نقطة في بحر نسبة إلى مجمع القيامة في يوم الخزي والندامة !.
قال الله: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا َ) الجاثية: 28.
وقال - تعالى -: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) الحاقة: 18.
وقال - تعالى -: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) الكهف: 99.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة: قال: (قال - صلى الله عليه وسلم -: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذلك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون.
فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً - عليه السلام - فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض، وسمّاك الله (عبداً شكوراً) اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم: إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنّه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -. فيأتون إبراهيم، فيقولون: أنت نبي الله - تعالى -، وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول إبراهيم: إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى - عليه السلام -، فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضّلك الله - تعالى -برسالته، وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى - عليه السلام - فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، (وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه) فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى - عليه السلام -: إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنباً نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي... الحديث).
تأمل أيها القارئ الكريم هذه الآيات العظيمة، وهذا الحديث الشريف، والذي فصّل فيه نبينا - عليه الصلاة والسلام - شيئاً من وقائع المحشر حيث يصيب الناس من الهم والغمّ، والكرب الشديد ما لا يطيقون وما لا يحتملون فينشدون الخلاص من هذا البلاء الجسيم، فينتقلون بين الأنبياء آدم وأولى العزم الخمسة فلا يجرؤ واحد منهم على الشفاعة لما علموه من غضب الجبار جلّ جلاله بحيث يعجزون عن البوح برغبتهم تخليص الخلائق من ذلك الموقف الجلل!.
ومن عجب أنّ كلّ واحد منهم لم يعد قادراً على مجرد الاهتمام بنفسه فيرددون واحد بعد الآخر نفسي نفسي!.
رحماك يا إلهي، آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى - عليهم السلام - أرحم الناس وأرقهم قلوباً لا همّ لهم إلا أنفسهم!.
فما حال من دونهم إذاً؟ ما حال الأب مع أبنائه؟ وما حال الابن مع أبيه؟
وما حال الأم الحنون مع فلذات كبدها؟
وما حال الزوج مع زوجته؟
الجواب: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عبس: 37، 34).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) الحج (1-2).
إنها وقائع مذهلة حقاً، تجعل الحليم حيراناً، وهي عجيبة أيضاً تصيب المتأمل بالدهشة التامة فأي حدث هذا الذي جعل المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه؟!
أي حدث هذا يجعل الإنسان يهرب من أقرب الناس إليه ويجعلهم دبْر أذنيه طلباً لنجاة نفسه؟!
ما الذي أصاب الأم الحنون بل الأم المرضع كيما تذهل عن رضيعها الصغير الذي لا يملك أدنى قدرة لإنقاذ نفسه أو السعي لخلاصها فتتركه بلا حول ولا قوة شحاً بنفسها ونفاسة بنجاتها؟!
إنّ عرض القرآن لهذه المشاهد لهو دعوة مخلصة وجادة لكل من يفهم الخطاب أن يبادر إلى إنقاذ نفسه قبل أن تطم الطامة وتقع الواقعة، ويصبح الخبر معاينة والمستقبل حاضراً، والغائب شاهدا!.
إنها دعوة مخلصة لعامة الناس وخاصتهم بالاستعداد لذلك اللقاء الحاسم، وتلك الساعات العصيبة القاسية.
فهل يستجيب حكام المسلمين، فيقيموا شرع الله في البلاد، وينصفوا العباد، ويرفعوا ألوية الجهاد، ويطهروا بقاع المسلمين من الشرك والإلحاد، والزيغ والفساد، ويقيموا حدود الله على الكبير والصغير والذكر والأنثى؟
وهل يستجيب العلماء المسلمون فيصدعوا بكلمة الحق دون تردد أو مساومة، وهل ينزلون إلى الساحة آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر؟ متأسين بأسلافهم من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
وهل يستجيب دعاة الإسلام فيشمّروا عن ساعد الجدّ ويقوموا بواجبهم تجاه أمتهم نصحاً وإرشاداً وتوجيهاً؟ وهل يتخلون عن خصامهم مع رفقاء دربهم، ليتفرغوا للعدو المشترك المتربص بهم جميعاً؟
وهل يستجيب المبتلون بالمعاصي، فيكفوا عن مبارزة ربهم بتلك الذنوب والموبقات؟
هل يتوقف أكلة الربا عن مصارفهم الربوية، ويطهروا أموالهم من الحرام المبدد لكل بركة وطيب؟!
وهل يتوقف أصحاب القنوات، ومتابعوها عن عرض الفاحشة وترويجها، وتأجيج الشهوات وتفجير الغرائز؟!.
وهل يتوقف الإعلاميون والصحافيون عن العبث بأخلاق الأمة وقيمها، ويوجهون الناس إلى الفضيلة والعفة؟
وهل تبادر المرأة المسلمة إلى التوبة من تبرجها وسفورها وتتخلى عن ركضها خلف الموضة وتقليد الكافرات بحثاً عن السعادة الموهومة؟!
وبالجملة هل يعود الجميع إلى ربهم تائبين نادمين قبل أن تصطك أسنانهم وركبهم، وترتجف قلوبهم وترتعش أطرافهم من الخوف والهلع في عرصات القيامة القادمة عن قريب؟
قال - تعالى -: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور: 31).
وبعد هذا الاستطراد المهم في وصف شيء من أحداث القيامة نعود إلى السياق وفيه قوله - تعالى -: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى) أي يتذكر كل إنسان سعيه وعمله الذي قدمه في دنياه فإن كان سعيه صلاة وصوماً وزكاةً وحجاً وصلة وبراً وإحساناً ودعوة وعلماً وجهاداً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر فيا بشراه ويا سعداه، وإن كان سعيه كفراً وشركاً وفسقاً وبدعة، وإباحية وعهراً وسكراً، وفحشاً وبغياً، وظلماً، وعقوقاً وقطيعة فيا ويلاه ويا تعساه.
فقد برزت الجحيم، وأظهرت لكل ذي عينين، وجيء بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يا له من مشهد مروع مخيف !.
كيف ودار الأشقياء التي لو ألقى حجر من شفيرها ما بلغ قعرها إلا بعد سبعين خريفاً تجر جراً لإحراق كلّ خوان كفوراً؟!
ولذا قال الله: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى).
وللطغيان صور كثيرة، وأسباب متعددة، وهو تجاوز الحدّ في العصيان، ولذا سُمّي كلّ متعد وكلّ معبود من دون الله طاغوتاً.
وقد يكون الطغيان في الحكم أو في المال أ، في المعاصي وغير ذلك، ومن أسبابه جحود الخالق، أو الإشراك به أو العجب بالنفس أو الغرور أو كثرة المال.
قال الله عن فرعون صاحب الحكم والمال: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)
وقال عن طغيان المال: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى) العلق: 6.
وقال - تعالى - عن طغيان المعاصي: (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) الكهف: 80.
فلا غرو أن تكون الجحيم هي المأوى المناسب لكلّ طاغية عنيد أدى به غروره إلى الإشراك بالله أو الكفر أو استمراء الفسوق والفجور عياذاً بالله.
وفي المقابل: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
فحقّ للمعظمين ربهم، الخائفين مقامهم بين يديه الناهين نفوسهم عن الهوى أن يهنأوا بجنة المأوى تكون لهم مأوى.
إنهم أناس عرفوا حقّ ربهم وواجبهم تجاهه فأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه، وهذا في حدّ ذاته كاف في لحاقهم بركاب المتقين.
كما أنهم أناس لا يتطرق الطغيان إلى أفعالهم وأقوالهم، كما لا رغبة لديهم ولا دافع عندهم إلى ممارسة شيء من البغي والظلم أو الشعور بالكبر والتعالي، فاستحقوا الفوز بجنات الله ونعيمه المقيم، يوم فازوا في صراعهم مع أنفسهم، وحظوظها العاجلة.
ثم اختمت السورة بتسجيل ضرب من طغيان المشركين المكذبين الذين ما برحوا يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤال تعنت واستكبار عن الساعة ولحظة قيامها إذ الأحرى هو الاستعداد لها لا السؤال عن وقتها فذلك أمر لا يفيد السائل أو المسؤول.
ففي الحديث الصحيح عن أنس بن مالك بينما أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدة المسجد، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما أعددت لها). فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: (أنت مع من أحببت) صحيح البخاري الرقم: 7153).
فتأمل كيف أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل إلى ما ينفعه وهو الإعداد للساعة لا معرفته لحظة وقوعها.
وقد استأثر الله - تعالى - بعلم الساعة وحجبه عن الخلق كلهم وأرشد نبيه إلى مصارحة الناس بهذه الحقيقة الأبدية: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) (الأحزاب: 63).
(فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا) يعني كما تقدم لست على ذكر وعلم بحقيقة وقتها وساعة حدوثها بل: (إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا) أي العلم بها وقفٌ على خالقها ومدبرها- عز وجل - أما أنت يا محمد فإنّ وظيفتك هو إنذار الناس عما يكون في عرصاتها، وما يتمخض عنها من انقسام الناس إلى فريق في الجنّة وفريق في السعير.
ثم كانت الآية الأخيرة في السورة: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) وهي جملة غاية في البلاغة والفصاحة، وغاية في تصوير قصر الدنيا وسرعة انقضائها وزوالها.
فإنّ الناس وهم في عرصات القيامة ينظرون إليها رأي العين، يتذكرون دنياهم الفاسدة، وأعمارهم الفانية، وقد مرت سريعاً كأنها عشية أو ضحاها.
إنه لموقف مثير حقاً أن تبدو الدنيا كلها بحقبها الزمنية الوافرة، وقرونها المتتابعة وأعوامها العديدة المتكاثرة أشبه بساعة من نهار!.
فهل يسوغ لعاقل والأمر ما ذكر أن يفرط في حياة لا تنقضي، وسعادة لا تقف عند حد من أجل ساعة مشوبة بالأكدار والآلام والمرارات؟!
فوائد الآيات:
1- عظم شأن القيامة، وشدة أهوالها، حيث سمّاها خالقها بالطامة الكبرى التي تطم كلّ داهية وتصغر أمامها كل مصيبة وكارثة!.
2- أنّ كل إنسان لا بد أن يتذكر سابق سعيه وعمله في دنياه، فإن كان حسناً فرح وسعد بسعيه وإن كان غير ذلك تعس وخسر. س
3- الإشارة والتنويه الجاد بما أعدّه الله - تعالى - للطاغين من العذاب الموجع المحرق في نار جهنم عياذاً بالله.
4- بيان عاقبة الطغيان، وتقديم هوى النفس على طاعة الرب - تعالى -، متمثلة في صلي الحميم، ومعالجة العذاب الأليم.
5- أهمية الخوف من الله وأنها سبب السعادة ونيل أعلى الدرجات في جنات النعيم.
6- فضل كف النفس عن الهوى وأنه سبب أيضاً للفوز بسعادة الدارين.
7- تعنت المشركين وعنادهم، وكثرة سؤالاتهم على سبيل المشاقة والاستهزاء حيث يسألون عن الساعة دون إيمان بها أو عمل لها.
8- أنّ علم الساعة محجوب حتى عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أحب الخلق إلى الله، وأنّ علمها مما اختص الله - تعالى - به وحده.
9- أنّ وظيفة الرسل، ومنهم محمد - صلى الله عليه وسلم - هو إنذار الناس وتبليغهم رسالات الله.
10- حقارة الدنيا، وسرعة انقضاءها، وقصر زمانها نسبة إلى دار الإقامة والبقاء