الإعاقة في الموروث الشعبي العربي القديم

الإعاقة في الموروث الشعبي العربي القديم

محمد فتحي النادي



كانت النظرة الطبقية العنصرية مسيطرة على العرب؛ إذ إن السيد الشريف المصاب بالمرض أو الإعاقة لا يستطيع أحد أن يعيره بذلك، بل قد يتمدحون ذلك فيه.


قال الجاحظ: «وقد فخروا بالعمى، وذلك كثير، واحتجوا بالعرج وذلك غير قليل.


وإذا كان الأعرابي يعتريه البرص فيجعله زيادة في الجمال ودليلا على المجد، فما ظنك بقوله في العرج والعمى، وهما لا يستقذران ولا يتقزز منهما ولا يعديان ولا يظن ذلك بهما، ولا ينقصان من تدبير، ولا يمنعان من سؤدد، وهذا المعنى نفسه قد ذكره شاعر قريش حين عدد أسماء من عمي من أشرافهم فقال في كلمة له:


ومطعم وعدي في سيادته


فذاك داء قريش آخر الزمن


وخير دائك داء لا تسب به


ولا تبيت تَمَنَّى لذةَ الوسن


داء كريم فلا دعوى فتحذره


فالحمد لله ذي الآلاء والمنن» (1)


و«عيرت أبا طالب بعض نسائه بالعرج فقال:


قالت عرجت فقد عرجت فما الذي


أنكرت من جلدي وحسن فعالي


وأنا ابن بجدتها وَفِي صُيَّابِهَا


وسليل كل مسود مفضال


أدع الرقاحة (2) لا أريد نماءها


كيما أفيد رغائب الأموال


وأكف سهمي عن وجوه جمة


حتى تصيب مقاتل البخال


وقال أبوطالب قولا هو أجمل وأرجح من قول الجميع؛ وذلك أنه قال وفسر:


أنا يوم السلم مكفي


ويوم الحرب فارس


أنا للخميسة أنف


حين ما للخمس عاطس


فزعم - كما ترى - أنه إذا كان في السلم فهو لا يحتاج مع الكفاية والأعوان إلى ابتذال نفسه في حوائجه، وإذا كان في الحرب فهو فارس يبلغ جميع إرادته.


وما ضر - أكرمك الله - هرثمة بن أعين (3) ونصر بن شبث (4) وغيرهما من الرؤساء المحاربين المقربين الذي كان يمنعهم من المشي إذا كانوا على ظهور الخيل أمثال العقبان (5)» (6).


ما سبق كان في السادة والأشراف والكبراء، لكننا إذا حولنا النظر لرأينا عكس ذلك، حيث الاستحقار والتقزز من ذوي العاهات والمرض؛ فهذا سعْد رأى أن له فضْلا على منْ دونه، فقال النبي مصححا له وموجها: «هلْ تنْصرون وترْزقون إلا بضعفائكمْ؟» (7).


و«كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، فقال بعضهم: إنما كان بهم التقذر والتقزز» (8).


وهذا كان نهج السابقين الذين ينظرون للخلق نظرة طبقية متعالية، وشعارهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } (هود:27)، أي: «ما نراك اتبعك إلا الذين هم سفلتنا من الناس، دون الكبراء والأشراف، فيما نرى ويظهر لنا» (9).


وللعرب أمثال كانوا يضربونها تعبر عن تجاربهم الحياتية ونظرتهم التي قد تتفق أو تختلف معها، وقد تناولوا من خلالها ذوي الحاجات، ومنها:


< أعمى يقود شجْعة


الشجْعة: الْزمْنى، أي: ضعيف يقود ضعيفا ويعينه (10).


< صاحب الحاجة أعْمى (11).


< يطْرق أعمى والبصير جاهل


الطرْق: الضرب بالحصى، وهو نوع من الكهانة.


يضرب لمن يتصرف في أمر ولا يعلم مصالحه، فيخبره بالمصلحة غيره من خارج (12).


< ربما أصاب الأعْمى رشْده


أي: ربما صادف الشيء وفْقه من غير طلب منه وقصد (13).


< أقْرب منْ حبْل الوريد ومنْ عصا الأعْرج (14).


< أوْهى من الأعْرج (15).


< أسرع من لمع الأصم


لأنه يكتفي من الإشارة باللمعة (16).


< أصم عما ساءه سميع


أي: أصم عن القبيح الذي يكْرثه (تقول: كرثه الغم - من بابي ضرب ونصر - وأكرثه: إذا اشتد عليه) ويغمه، وسميع لما يسره، أي: يسمع الحسن، ويتصامم عن القبيح، فعل الرجل الكريم (17).


< كم من ذي عرج في درج المعالي عرج، وكم من صحيح قدم ليس له في الخير قدم.


وقيل: إن من الصم من يسمع السر فإذا رفعت إليه الصوت لم يسمعه.


ورأيت من العمش من لا ينظر صورة الإنسان من قريب، ولكن يقرأ الخط الرقيق الحواشي (18).


والأمثلة في كتب الحكم والأمثال كثيرة، وإنما أردنا أن نلقي نظرة سريعة عما يدور في خلد العرب تجاه المرضى وذوي الحاجات.
الهوامش
1- عمرو بن بحر بن محبوب، أبوعثمان الجاحظ: البرصان والعرجان والعميان والحولان، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ، ص(37-38).


2- «الرقاحة: الكسْب والتجارة» (لسان العرب، مادة: رقح).


3- «ابن أعين (000- 200هـ =000- 816م): هرثمة بن أعين: أمير، من القادة الشجعان. له عناية بالعمران.


ولاه «الرشيد» مصر (سنة 178هـ)، ثم وجهه إلى إفريقية لإخضاع عصاتها، فدخل «القيروان» (سنة 179هـ).


وطلب من الرشيد أن يعفيه، فنقله (سنة 181هـ) وعقد له على خراسان، فأقام فيها.


ولما بدأت الفتنة بين الأمين والمأمون، انحاز إلى المأمون، فقاد جيوشه وأخلص له الخدمة حتى سكنت الفتنة بمقتل الأمين.


وانتظمت الدولة للمأمون، فنقم عليه أمرا، فدعاه إليه وشتمه وضربه وحبسه.


وكان الفضل بن سهل (الوزير) يبغضه، فدس إليه من قتله في الحبس سرا، بمرو» (الأعلام، 8/82).


4- «نصر بن شبث» 000- بعد 210هـ - 000- بعد 825م: نصر بن شبث العقيلي: ثائر للعصبية العربية.


كان أسلافه من رجال بني أمية.


وفي أيامه مات هارون الرشيد، وحدثت الفتنة بين الأمين والمأمون، وقتل الأمين.


فامتنع نصر عن البيعة للمأمون، وثار في كيسوم، وتغلب على ما جاورها من البلاد، وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب، وقويت نفسه، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي (سنة 198هـ).


واستمر في امتناعه إلى أن ولى «المأمون» عبدالله بن طاهر (سنة 206هـ) من الرقة إلى مصر، وأمره بحرب نصر بن شبث، فذهب إلى الرقة، وقاتل نصرا وضيق عليه.


وانتهى أمره بالاستسلام فسيره عبدالله إلى المأمون، وهو ببغداد، فدخلها في صفر (سنة 210هـ) (السابق، 8/23-24).


5- «العقاب: طائر، وجمع القلة: أعْقب؛ لأنها مؤنثة، والكثير عقْبان» (الصحاح، مادة: عقب).


6- البرصان والعرجان والعميان والحولان، ص(46-47).


7- أخرجه البخاري في «الجهاد»، باب: «من اسْتعان بالضعفاء والصالحين في الْحرْب...»، ح (2896).


8- تفسير الطبري، (19/219).


9- السابق، (15/295).


10- أبوالفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري: مجمع الأمثال، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار المعرفة، بيروت، (2/29).


11- السابق، (1/417).


12- السابق، (2/423).


13- السابق، (1/307).


14- السابق، (2/129).


15- السابق، (2/382).


16- جمهرة الأمثال، (1/528).


17- مجمع الأمثال، (1/402).


18- المستطرف، (2/562).