اللغة العربية في الجزائر
زهية فراح
إن المتأمل في المجتمع الجزائري بعين البصيرة، التي تخترق حدود الرؤى، وترى بعين ثاقبة ما لا يرى، يبصره سلسلة وثيقة، تشد فيها الحلقة أختها بقوة وإحكام؛ خشية أن تصبح تتناثر تلك السلسلة وينحل رباطها. وهذا البصر الدقيق لا يتأتى لمن يرى منه أفرادا يقطنون رقعة واحدة متدافعين في أنحاء إقليمها، كل يحمل في رأسه أحلامه وتطلعاته، مسوقا بما يختزن في عقله الباطن من ذكريات وحكايات وأهداف وطموحات.
وإن السر الدفين وراء هذا الإحكام، هو المثلث الذي كان يرفع شعاره الإمام المصلح الشيخ عبدالحميد بن باديس رحمه الله، ومن بعده أخوه الإمام الإبراهيمي وسائر علماء الجزائر؛ حيث كانوا في كل محفل يغرزون في ضمير الأمة ثلاث كلمات «الإسلام والعربية والجزائر»؛ فهذه الموروثات الجليلة التي استقرت في وجدان كل جزائري، هي التي توحد المجتمع وتجعله يدا واحدة، وإنها بحق موروثات كتب لها الدوام متى اعتز بها أبناؤها، ووضعوها فوق الرؤوس؛ شأنها في ذلك شأن كل عال سابح في الآفاق.
واللغة العربية - بعد الإسلام - هي أرفع الكلمات وأجلها، فهي لغة القرآن الكريم: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2)، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت:3)، {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } (الأحقاف:12). إنها لغة تعكس وجودنا، وتمنحنا الثقة في قيمتنا؛ فمن برزت لغته برز وقاد، ومن غابت لغته غاب وقيد، وما ذلت لغة إلا ذل شعبها، يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي: «وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار؛ ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد: أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا. وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا. وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تبع» (1).
ولما كانت للغة العربية هذه الأهمية البارزة، كانت أول باب طرقه المحتل الغاشم في جميع البلاد التي دمرها وأباد بركتها، ولكن الاحتلال الفرنسي له طعم آخر، يعرف الجزائريون مذاقه معرفة لا يخالطها شك، فهو أمر من العلقم، وأخبث من الجيفة؛ إنه احتلال همجي يدمر كل شيء، ولكن أولى أولياته في الإبادة والسحق إنهاء معالم الهوية وطمسها، وعلى رأسها الإسلام والعربية، ورحم الله الإمام عبدالحميد بن باديس حين قال: «إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد؛ في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج» (2).
فبفضل الله سبحانه وتعالى، ثم باجتهاد العلماء والمصلحين الجزائريين؛ حفظت اللغة العربية في الجزائر، وبقيت شوكة في حلوق المتفرنسين؛ ولا أدل على ذلك من كلمة الإبراهيمي رحمه الله، حيث أعلنها صريحة بقوله: «اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة ولا دخيلة، بل هي في دارها، وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل، ممتدة مع الماضي؛ لأنها دخلت هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين ترحل برحيلهم وتقيم بإقامتهم؛ فلما أقام الإسلام بهذا الشمال الأفريقي إقامة الأبد وضرب بجرانه فيه؛ أقامت معه العربية لا تريم ولا تبرح، ما دام الإسلام مقيما لا يتزحزح، ومن ذلك الحين بدأت تتغلغل في النفوس، وتنساغ في الألسنة واللهوات، وتنساب بين الشفاه والأفواه... فما مضى عليها جيل أو جيلان حتى اتسعت دائرتها، وخالطت الحواس والشواعر، وجاوزت الإبانة عن الدين إلى الإبانة عن الدنيا، فأصبحت لغة دين ودنيا معا» (3).
تلك قطرات منعشة من تاريخ ماضينا العريق الشاهد النزيه على وقت مضى، ولكن حاضرنا ينبغي أن يكون أهم وأجل؛ لا لشيء إلا لكونه مستقبل ماض ممتلئ بالتضحيات. فيا أهل الحاضر، ويا مستحضري الماضي، أما تجلت لنا الهوة بين عربية اليوم وسط نور الاستقلال، وبين عربية الأمس وسط ظلمة الاستدمار؟!
الهوامش
(1) وحي القلم، (3/27).
(2) آثار ابن باديس، 3/309.
(3) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، 3/206.
