التعليم المستمر.. مطلب ديني وضرورة مجتمعية
التعليم المستمر.. مطلب ديني وضرورة مجتمعية
رشا عرفة
"إن التعلم الحقيقي يأتي بعد أن نترك المدرسة، ولا يوجد مبرر لتوقفه قبل الموت"، هذه المقولة وردت على لسان جون ديوي فيلسوف وعالم نفس أمريكي، لتوضح لنا أن التعليم عملية مستمرة لا تقتصر على مرحلة معينة من العمر، أو تنحصر في مرحلة دراسية محددة، بل هى متلاحمة مع سياق الحياة.
وهو ما يفسر لنا سبب الاهتمام المتزايد بما يعرف بالتعليم المستمر، والذي يعتبره البعض نظاما ثالثا في المجتمع، فالنظام الأول يشمل المدارس الابتدائية والثانوية، والثاني يشمل مؤسسات ما بعد المرحلة الثانوية، وهما يمثلان جزءا من العملية التربوية التي يمر بها الإنسان، في حين يشمل التعليم المستمر -النظام الثالث- كل المؤسسات التربوية التي يحصل الفرد من خلالها على فرص تعليمية سواء كانت قبل الالتحاق بالتعليم النظامي أو خلاله أو بعد التخرج منه، ومن هنا نستطيع القول أن التعليم المستمر ما هو إلا تمديد للنظام التربوي في الزمان والمكان، وتنظيم للخبرات والنشاطات التربوية، وجعلها متاحة لكل من يرغب فيها على مدى الحياة، فهو ينادي بالتحول والتغير الكيفي والنوعي للنظام التعليمي الحالي، ويهدف إلى مساعدة الفرد على تحقيق ذاته، مما يجعله عنصرا إيجابيا لنفسه ولمجتمعه.
مفهوم التعليم المستمر
لكن ترى ما هو التعليم المستمر؟ وما خصائصه؟ وما أنماطه؟ وكيف يخدم الفرد والمجتمع؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال هذا التقرير.
لا بد أن نعي جيدا أن التعليم المستمر ليس مفهوما جديدا ساقته لنا التربية الحديثة، بل هو مفهوم قديم قدم الحضارات، وهو ملازما للديانات السماوية، حيث نادت بالتربية المستمرة ضمانا لانتشارها بين الأجيال المتعاقبة، وبقائها في العصور المتعاقبة.
ويقصد بالتعليم المستمر، ذلك النوع من التعليم الذي يهدف إلى مساعدة الفرد على مواجهة المتغيرات الحضارية (الاجتماعية والتقنية) سواء في مجال العمل أو المجتمع، تحقيقا للتكامل والترابط بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها، ووصولا إلى النهوض بها عن طريق حشد الطاقات البشرية وإنمائها، وحشد طاقات البيئة والاستفادة منها، وذلك طبقا لخطط وإجراءات تنظيمية، تقوم بدور الوسيط بين هذه الطاقات كمدخلات، وبين المخرجات المستهدفة كنتائج.
ويأخذ التعليم المستمر عند بعض المفكرين معنى التدريب من أجل التغيير، وتعزيز التعلم الذاتي على مستوى كل من الفرد والجماعة، وأن وصفه بالمستمر لا يعني أنه ليس له حد يقف عنده، لأنه قد يتوقف، لكن سرعان ما يبدأ مجددا نظرا لحاجة تطرأ، سواء أكانت ممثلة في ظروف البيئة والمجتمع أم مستجدات الحضارة.
ويعتبر التعليم المستمرألصق أنواع التعليم بنظام التعلم عن بعد، فكلا منها يعتبر جزءا من التعليم المفتوح، ومكملا للآخر، كما أنهما يلتقيان في تعدد الوسائط التي تخدمهما، من مادة مطبوعة ومادة مسموعة أو مرئية مسموعة وغير ذلك من الأنماط والقنوات المستخدمة في اكتساب المعرفة والعلم.
خصائص
وهناك مجموعة من الخصائص التي تميز التعليم المستمر، فالتعليم المستمر لا ينتهي مع نهاية الدراسة النظامية أو المدرسية، بل عملية مستمرة مدى الحياة، تشمل كل فترات حياة الفرد، وهو عملية تنمية تسهدف شخصية الإنسان من جوانبها المختلفة من عقلية، ومعرفية، إلى جسمية وانفعالية وجمالية، كما أنه يجعل الإنسان قادرا على التكيف مع مستجدات العصر، والتعليم المستمر يكون أكثر انسجاما في طبيعته مع الحياة من التعليم التقليدي، لما يتصف به من المرونة والتنوع في مواده وأساليبه وأوقاته، وهو ليس نظريا فحسب، ولكنه عملي ومهني، كما أن مدخلاته تصل إلى المتلقي عبر وسائط عديدة، فللبيت وللمجتمع ولوسائل الاتصال الجماهيري والمؤسسات المختلفة دور بارز في تحقيقه، عكس التعليم التقليدي الذي يقتصر على المدرس والكتاب، وهذا النوع من التعليم يساعد الفرد على تطوير وتحقيق ذاته من خلال الإفادة العملية من القدرات الإبداعية، كما أنه يعمل على زيادة الحصيلة المعرفية التي يكتسبها الفرد طوال حياته، مما ينعكس إيجابا على حياة المجتمع، ويعمل كذلك على تمكين الأفراد من الارتقاء الوظيفي، على طريق تحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، وذلك بما يتيحه لهم من تطوير قدراتهم، ورفع كفاءاتهم في المجالات المختلفة، ويعلمهم كذلك مهنا جديدة، تمكنهم من التكيف مع ظروف الحياة الطارئة، مما يسهم في سد حاجات المجتمع، وتلبية حاجات الأفراد.
أشكال التعليم المستمر
وهناك أشكال عديدة للتعليم المستمر، فالتعليم التقليدي -أي ما يطلق عليه النظامي أو المدرسي- يعد أحد أشكال التعليم المستمر، ومن أبرز أشكاله التعليم غير النظامي، ويقصد به كل ما يقدم للكبار من برامج توازي في طبيعتها ما يقدم للدارسين في المراحل النظامية المختلفة من إبتدائي وإعدادي وثانوي وجامعي، ومن مؤسسات هذا النمط مراكز محو الأمية والجامعات المفتوحة.
ومن أنماط التعليم المستمر أيضا، مانطلق عليه التعليم الحر غير المحدود، وهو التعليم الذي يكتسب بالتجربة ومعاركة الحياة، ومن مؤسسات هذا النمط: المكتبات، والمساجد، والنوادي، ووسائل الاتصال الجماهيري.
الدين الإسلامي والتعليم المستمر
ونظرا لأهمية هذا النوع من التعليم، فلقد حثنا ديننا الحنيف على ضرورة التعليم المستمر وأهميته في حياة المسلم، لمواجهة تحديات الزمان، والوصول إلى أرقى مراحل الإيمان، وهو ما أوضحته لنا الكثير من الآيات القرآنية ومنها، قوله تعالى {إنما يخشى اللهََ من عباده العلماءُ}، {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}، {وقل رب زدني علما} ، {وفوق كل ذي علم عليم}.
وكذلك الأحاديث النبويه الشريفه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"، "من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقا إلى الجنة"، وعندما نتأمل هذه الأحاديث الشريفه نجد أنها غير محدودة بزمان أو مكان، مما يدل على ضرورة استمرارية التعليم، لما يحققه من تمكين للفرد في حفظ دينه ودنياه، لأن في استمرار التربية والتعليم ضمان لاستمرارية القيادية والتقدم.
ولم تغفل التربية الإسلامية نصيب المرأة من العلم والتعلم، يقول الرسول صلى الله عله وسلم "ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم".
جذور
وتعود جذور التربية المستمرة أو التعليم المستمر في العصر الحديث إلى المفكر كومنيوس، الذي نادى في كتابه "فن التعليم الأكبر" إلى تربية عامة لكل المهنيين وجميع طبقات المجتمع، لا فرق في ذلك بين رجل وامرأة ولا غني وفقير، لأن في ذلك تحرير لهم من السلبية، وزيادة لإنسانيتهم التي تنمو بالعقل والفكر والعمل، وقد رفع كومينوس شعارا يردده التربويون وهو "تعليم الكل للكل بشكل كلي".
وفي الوقت الحاضر نضجت فكرة التعليم المستمر، واتضحت مفاهيمه على المستوى العالمي، فنجد الكثير من الدول تسعى إلى إيجاد الإمكانات المناسبة التي تخدم هذا التعليم وتلبي متطلباته، إيمانا منها بقيمته في مواجهة هذا العصر الذي يوصف أقل ما يوصف بأنه انفجار معرفي وعصر سرعة.
