وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
التهنئة بدخول شهر رمضان (1-2)
الحمد لله الذي مَنَّ على عباده المؤمنين بمواسم الخير، ليضاعف لهم الثواب والأَجر، وليكفِّر عنهم السيئات والوزر، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن على نهجهم يسير، أما بعد:
فالسلام عليكم معشر المسلمين ورحمة الله وبركاته، وأَسعد الله أوقاتكم، وطابت أَيامكم بكل خير وسرور، ومع مطلع شهر رمضان المبارك نقف الوقفات الآتية:
الوقفـة الأولـى:
أُهنئ كل مسلم ومسلمة ببلوغ هذا الشهر المبارك، وأَسأل الله تعالى أن يهلَّه علينا وعلى الأُمة الإسلامية بالأَمن والإِيمان والسلامة والإسلام، وأسأله جلَّت قدرته أن يبارك لي ولكم في أَيامه ولياليه، وأن يعيننا صيامه وقيامه، وأَن يلهمنا حسن القصد والعمل، ويجعلنا فيه من عباده السابقين إلى الخيرات، المتنافسين في الصالحات.
الوقفة الثانية:
يهنئ المسلمون في أَرجاء المعمورة كلها بعضهم بعضًا على مستوى الأَفراد والمجتمعات والدول بدخول هذا الشهر المبارك، قارنين هذه التهنئة بالدعوات الصادقة بأَن يضفي رمضان من نفحاته الإيمانية، وعبيره الفوَّاح، وخصائصه المتميزة، على كل فرد يؤمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا.
أقول: حق لكل مسلم أن يبادر أخاه بالتهنئة في هذا الشهر الكريم، حق له ذلك لأن الرسول ﷺ قدوتنا وأُسوتنا كان يبادر أصحابهرضوان الله عليهمبهذه التهنئة العظيمة، روى الترمذي وابن خزيمة وغيرهما بإسناد حسن أن رسول الله ﷺ كان يقول إذا هلَّ شهر رمضان: «إذا جاء شهر رمضان- أو إذا كان أول ليلة من رمضان – صفات الشياطين مردة الجن، وغلقت أبواب النيران، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أَقبِل ويا باغي الشر أَقصر، ولله عتقاء من النار«(1).
وروى الطبراني بإسناد رجاله ثقات عن عبادة بن الصامترضي الله عنهأن النبي ﷺ قال: «أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله«(2).
حق لهم التهنئة بهذا الشكر الكريم، فالله سبحانه وتعالى خصه بخصائص تميزه عن غيره من الشهور، ففرض سبحانه صوم نهاره، وسن رسول الله ﷺ قيام ليله، والأَجر فيه مضاعف أضعافًا لا حدَّ لها: «الصوم لي وأنا أجزي به«(3).
ومنح الله عباده ليلة القدر فيه، خير من ألف شهر، ومن فطر صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
الوقفة الثالثة:
ها نحن – أيها المسلمون الكرام – وقد تناءى بنا الزمن قرونًا عديدة عن العهد المشرق الذي شُرعَ فيه صيام رمضان، عهد رسول الله ﷺ وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم.
ولكن رغم هذه القرون لا يزال رمضان هو رمضان بمقامه العظيم، ومنزلته العالية في دين الله تعالى، فهو الشهر الذي نزل فيه القرآن، ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليهدي البشرية من التيه والضلال إلى الحق والهدى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}(4)، وهو شهر النصر والعزة والفرقان، الذي ظهر فيه الحلق على الباطل، وهو شهر المغفرة والرحمة والعتق من النار، والتقوى والثواب الجزيل.
هذا هو شهرنا الكريم يفد إلينا بمنابع الخير العامرة، وبروحانيته الضافية، فهل نحن معشر المسلمين أُمة وأَفرادًا على مستوى الوعي بقيمة رمضان، وعلى مستوى الهمة في استثمار خيراته، وبتعبئة النفس من نفحاته.
لقد استهلكنا لحظات من الزمن كثيرة قبل رمضان محسوبة علينا شهورها وأَسابيعها وأَيامها وساعاتها، بلغ فيها الكثير منَّا ما بلغ من الوقوع في الشهوات، واللهو بالملذات، والتقلب في أَحوال الحياة بين أَفراح وأَتراح؛ مما أَورث القلوب القسوة، والبعد عن رب الأرض والسماوات، والغفلة عن الدار الآخرة، وتناسي أَو نسيان الممات، ويأتي رمضان لعلَّه يوقظ النفوس الغافلة، والعقول الشاردة؛ لتقف مراجعةً حساباتها، آيبةً إلى رشدها، مُقوِّمةً ما اعوجَّ من سلوكها.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ
(1) رواه الترمذي (3/66)، برقم(682)، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، وابن ماجه (1/526) (1642) في الصيام، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، وابن خزيمة (1883)، وابن حبان كما في الإِحسان (8/221)، برقم(3435)، والحاكم (1/421)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) رواه الطبراني في الكبير كما في المجمع (3/142)
(3) رواه البخاري مع الفتح (4/118)، برقم(1904) في الصيام، باب هل يقول: إني صائم؟ ومسلم (2/806)، برقم(1151) في الصيام، باب فضل الصيام.
(4)
[البقرة: 185]
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 11)
الفطور والسحور (1-3)
الحمد لله واسع الفضل والعطاء، أعد للصائمين أفضل الجزاء، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه المتوالية، وآلائه المتتالية، وأصلي وأسلم على النبي الأُمي المبعوث رحمة للعالمين، وهداية للبشرية أجمعين، وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والسبق، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
فإن رمضان المبارك يجدد في القلوب الإيمان، ويبعث في النفوس خصال الخير، ويحيي فيها الاقتداء بنبيها محمد ﷺ في أفعاله وأقواله، في فعل الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات والمكروهات.
ونحن نعيش في رحاب هذا الشهر المبارك ومعاني الخير قائمة، يجتهد المسلم الصائم في تحري هدي نبينا محمد ﷺ فيقتدي به، ولرمضان والصيام خصوصية أعمالها التي تحتاج إلى وقفات وقفات، فتقف مع بعض خصوصيات رمضان والصيام تلكم ما جاءنا عن نبينا محمد ﷺ في الإِفطار والسحور:
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
الوقفة الأُولى:
السحور هي الأكلة الختام في آخر الليل للصائم، اهتم بها الرسول ﷺ ووجَّه إلى العناية بها، وتعاهدها، وكان يسميها: الغداء المبارك، كما أخرج النسائي أن رسول الله ﷺ قال: «عليكم بغداء السحور فإنه هو الغداء المبارك»(1).
وجاء تكرار هذه البركة في توجيهه ﷺ فيما رواه الشيخان وغيرهما أن رسول الله ﷺ قال: «تسحروا فإنَّ في السحور بركة»(2)، وأخرج الإِمام أحمد وأبوداود وغيرهما أن النبي ﷺ قال: «السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين»(3).
حريٌّ بك أخي المسلم أن تنشد هذه البركة التي تأتي – والله أعلم – من وجه كونها أكلة في وقت فاضل، وقت نزول الرب جل وعلا إلى سماء الدنيا، ومناداته لعباده المؤمنين التائبين المستغفرين الداعين المستغيثين؛ ليجيب دعاءهم، ويتوب على تائبهم، ويغفر لمستغفرهم، ويغيث مستغيثهم.
ووجه من أوجه البركة: أن هذا الوقت غالبًا ليس وقت شهوة أكل وشرب، وإنما يتناول مريد الصيام شيئًا من الأَكل والشرب استجابة لمراد الله تعالى وطاعة لرسوله ﷺ، وهذه من أهم صفات المؤمن الحق، أعني الاستجابة لله تعالى ولرسوله ﷺ.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
ومن أوجه البركة أيضًا: أن يتقوَّى به الصائم على الصيام فيؤدِّيه بنشاط وقوة، كما يعينه على أداء العبادات الأخرى، ومما يُظهر أثر بركة السحور: اتباع هدي نبينا محمد ﷺ فيه، فإن من هديه صلوات الله وسلامه عليه تأخيره إلى آخر الليل، روى الشيخان أن رسول الله ﷺ قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور»(4)، ولايعني هذا التأخير تجاوز الحدّ، فيأكل الإِنسان عند سماع الأذان حتى نهايته كما هو منتشر عند كثير من العامة.
حريٌّ بك أخي المسلم أن تطلب هذه الخيرية، وبخاصة في هذا الوقت المبارك الذي اجتمع فيه شرف اليوم وشرف الشهر، فتستغل هذه المنح العظيمة من الرب سبحانه وتعالى، فبعد استيقاظك وذكرك لله جل وعلا وتطهرك، تستفتح يومك بركعتين أو أكثر لله سبحانه وتعالى، وتدعو الله بما شئت من حاجاتك الدنيوية والأخروية.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
--------
(1) رواه النسائي (4/146)، برقم(2164) في الصيام، باب تسمية السحور غداء.
(2) رواه البخاري (4/139)، برقم(1923)، في الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب.
(3) رواه مسلم (2/770)، برقم(1095)، في الصيام، باب في فضل السحور، أحمد (3/44، و5/370).
(4) قوله: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» رواه البخاري (4/198)، برقم(1957) في الصيام، باب تعجيل الإفطار، ومسلم (2/771)، برقم(1098) في الصيام، باب فضل السحور وتأكيده، ورواه أحمد، برقم(22865).
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 12)
الفطور والسحور (2-3)
الوقفة الثانية:
من خصوصيات رمضان والصيام: الفطر عند الغروب، ويتم بعد تحقق غروب الشمس، ومن السنة تعجيله كما سبق في الحديث: «لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر وأخّروا السحور»(5)، وأن يكون هذا الإفطار على رطب، فإن لم يجد فتمر، فإن لم يجد فماء؛ لما روى الإِمام أحمد وأبوداود والترمذي عن أنس أنه قال: «كان رسول الله ﷺ يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتمر، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء»(6)، وأخرج الإمام مسلم وغيره عن سلمان بن عامر الضبيأن رسول الله ﷺ قال: «إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنه بركة، فإن لم يجد تمرًا فالماء فإنه طهور»(7).
وعند فرحة الإِفطار التي نبه إليها الرسول ﷺ بتمام صوم الصائم في كل يوم؛ ينبغي ألا يغفل عن شكر المنعم، والإِكثار من الدعاء عند الفطر، فقد روى ابن ماجه وغيره أن النبي ﷺ قال: «إن للصائم عند فطره دعوة لا تُرد»(8).
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
الوقفة الثالثة:
هذه النعم العظيمة؛ من تمام الصيام ذلك اليوم، وتحقيق فرحة الفطر التي قال عنها الرسول ﷺ: «للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه»(9) واستجابة دعوات الصائم عند فطره، كل هذه النعم تحتاج إلى وقفة مع النفس بتأمل ومحاسبة، ليشكر عليها ربه جل وعلا، الذي تفضَّل جل وعلا فأنعم عليه بهذه النعم وغيرها، ومن مقتضيات هذا الشكر: تجديد الإِخلاص لله سبحانه وتعالى في عبادة الصيام وفي كل عبادة، والثناء عليه جل وعلا، والدعاء المستمر بأن يديم هذه النعم الجزيلة، وعدم فعل ما يخالف شرعه جل وعلا، تجاه هذه النعم، فيكون جمع بين متناقضين، يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152]، ويقول سبحانه: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، وبالشكر تدوم النعم.
الوقفة الرابعة:
ومما ينبغي أن يؤكد عليه بشأن الفطور والسحور: أن يجتهد المسلم في تحري الحلال الطيب فيهما، وفي كل مال يكتسبه، فيجتهد في طرائق الكسب الحلال وفي سبيل تصريف هذا المال؛ فمسؤوليته عظيمة، وعاقبته جسيمة، فالله سبحانه أمرنا بأن نتعامل بالطيبات والأَكل منها، وأخبرنا رسول الله ﷺ فأنه سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبًا، وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المسلمين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، ويقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنّى يُستجاب له(10).
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
فاحذر أخي المسلم أن تدخل إلى جوفك لقمة حرامًا أو شرابًا حرامًا، فهذه تمثل حاجزًا للدعاء فلا يُقبل، ثم إن تأثيرها يتعدّى إلى أسرتك وذريتك، فتبني بيتك على الحرام، والعياذ بالله.
--------
(5) تقدم تخريجه آنفًا.
(6) رواه أبوداود (1/719)، برقم(2356) في الصوم، باب ما يفطر عليه، وأحمد (3/164)، وابن خزيمة (2065)، والترمذي (696).
(7) رواه الترمذي (3/46)، برقم(658)، في الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على غير القرابة، وابن خزيمة (1699)، في الصيام، باب ما جاء على ما يستحب الفطر، وأحمد (4/17، 18).
(8) رواه ابن ماجه (1/557)، برقم(1753)، في الصيام، باب في الصائم لا ترد دعوته.
(9) رواه البخاري (3/118)، برقم(1904) في الصيام، باب هل يقول: إني صائم، ومسلم (2/807)، برقم(1151)، في الصيام، باب فضل الصيام.
(10) رواه مسلم (2/703)، برقم(1015)، في الزكاة، باب قبول الصدقة.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 13)
الفطور والسحور (3-3)
الوقفة الخامسة:
عندما يتناول المسلم وجبتي الإِفطار والسحور مع أولاده وأسرته، ويأكلون أطيب المطاعم والمشارب، بفرح وسرور وغبطة، وحمد وثناء، وشكر لله سبحانه على ما رزقهم من الطيبات، ينبغي للمسلم وهو في حاله هذه أن يتذكر إخوانًا له من المسلمين في بقاع من العالم مختلفة لا يجدون التمرة ليفطروا عليها، ولا كسرة خبز ليطعموا أولادهم، ولا كوبًا من الحليب ليرضعوا أطفالهم، فليكن – أخي المسلم – صومك وفطرك دافعًا لك لتذكر إخوانك هؤلاء فتجتهد كل الاجتهاد ليشاركك إخوانك في ثمراتك وأكلاتك، فتد يد العون والمساعدة لهم بأسرع وقت ممكن، والأجر بإذن الله تعالى أسبق: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّـهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المزمل: 20].
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
الوقفة السادسة:
مما نبّه إليه الرسول ﷺ في تناول السحور من المعاني الإِيمانية التي يجب تعميقها في النفوس: مخالفة أهل الكتاب في صيامهم، روى مسلم وغيره عن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال: «فصل ما بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحور»( 11).
حتى في وقت الأكل والشرب ينبغي مخالفة المشركين وأهل الكتاب، وهذا الأمر – أعني مخالفة الكفار – مبدأ من المبادئ التي وجه إليها الإسلام، وحذَّر المسلم من خرمها، والانسياق مع الأُمم الأُخرى في أفعالها وطرائق حياتها، فضلًا عن عباداتها وأعيادها، ولهذا قال النبي ﷺ: «من تشبه بقوم فهو منهم»(12)، ولقد كانت عزة الأُمة المسلمة وغلبتها واحترام الأُمم الأُخرى لها حينما وقفت على ما جاء به نبيها محمد ﷺ من عقائد وعبادات وشرائع، وشعرت أنها بما تحمله من هذا الدين فوق الأُمم الأُخرى؛ لأن معها الحق الـمنزَّل من عند الله تعالى، أما غيرها فليس لديه إلا أهواء البشر وفلسفات العقول البشرية.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
هذه قاعدة عظيمة – أعني عزة الأمة المسلمة بما تحمله من هذا الدين – فهل يبعث رمضان في نفوسنا هذه القاعدة، فنعلمها ونفقهها ثم نطبقها في جميع شؤون حياتنا صغيرها وكبيرها، فنعتز بديننا عقيدة وسلوكًا، شريعة ومنهاج حياة، حتى يعود للأمة المسلمة عزها ومجدها وسؤددها؟ إن كل فرد مسلم صائم ينطلق من صيامه في تطبيق هذا المبدأ العظيم في كل أمر من أمور الحياة، وينبذ كل تقليد وتشبه بالكفرة في دقائق الأشياء وجليلها، وإنك لترى أقوامًا ضعف اعتزازهم بدينهم فبهرهم ما عند الغرب والشرق من أفكار منحرفة، وأعرافٍ معوّجة، فظنوا أنهم رقوا بأنفسهم ومجتمعهم مراقي العلا، وما علموا أنهم أذابوا شخصياتهم وتقهقروا بمجتمعاتهم فأصبحوا أذلّاء تابعين لا خير فيهم، لا يحسب لهم حساب، ولا يقام لهم وزن.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
أيها المسلمون الكرام:
لنتعلم من مدرسة رمضان عزّنا بديننا، واستقلال شخصيتنا، وعلونا بتمسكنا بشريعة ربنا، أسأل الله تعالى أن يبصرنا بديننا ويفقهنا فيه، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأَفعال، إنه سميع مجيب وهو المستعان.
---------
(11) رواه مسلم في الصيام، برقم(1095).
(12) رواه أبوداود في اللباس، باب في لبس الشهرة، برقم(4031).
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 14)
الصحة ورمضان (1-2)
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واتبع رضوانه، أما بعد:
فقد تحدثنا فيما سبق عن بعض دروس رمضان، وفيما يلي نقف مع درس من هذه الدروس العظيمة، نستفيده من هذا الشهر المليء بالحِكم والأسرار، نعم أيها الإخوة المسلمون: إن المسلم يكفيه في الحث على الصيام وغيره من الطاعات أن يقال له: إن الله أمرك بالصيام، دون أن تعدّد فوائده وأسراره؛ وذلك لأَن المسلم مطلوب منه العبودية الكاملة لله، ولكن مع ذلك علّمنا الله سبحانه وتعالى سِرَّ كثير من العبادات وحِكَمِها؛ لنقف عندها متفكرين عاملين، مدركين أن هذا التشريع الإلهي قام على أَساس ما يحقق مصالح الناس وما يدفع عنهم الأضرار، ولذا نجد أن الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات التي بينت الأَحكام يعقبها بذكر الحكمة منها، فهو حين أمر المؤمنين بغض أبصارهم نبَّهنا إلى الفائدة من ذلك، فقال: ï´؟ذَظ°لِكَ أَزْكَىظ° لَهُمْï´¾ [النور: 30].
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وعلى هذا فالمدقق في الصيام يجد أن من أسراره العظيمة: حفظ الجسد والصحة، ومع بعض آثار الصوم الصحيحة نقف الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى:
جاء في بعض الآثار عن الرسول ï·؛ فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحوا، واغزوا تغنموا»(1) وهذا الحديث وإن كان في إسناده ضعف إلا أن معناه صحيح، وقد ذكر ابن القيم تأكيدًا لهذا ومبيِّنًا بعض آثار الصوم الصحيحة قائلًا: «وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والتقوى الباطنة، وحمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ القلب والجوارح صحتها، ويعيد ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَï´¾ [البقرة: 183]، وقال النبي ï·؛: «الصوم جنة»(2)، وأمر ï·؛ من اشتدت عليه شهوة النكاح – ولا قدرة له عليه – بالصيام، «وجعله وجاء هذه الشهوة»(3). انتهى كلامه.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
الوقفة الثانية:
إننا إذا دقَّقنا النظر في التشريع الإسلامي نجد أنه وضع للمسلم منهجًا متكاملًا في معاملته مع جسده، وهنا أذكر شيئًا من معالم ذلك المنهج:
أولًا: لا شكَّ أن الصحة والعافية من نعم الله، والكثير من الناس يفرِّطون في هذه النعمة، فلا يستغلونها بما يفيد وينفع، ولذا فقد ورد في الحديث الصحيح: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»(4)، وجاء الحث أيضًا بأن من أفضل الدعاء: سؤال الله العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، روى الترمذي وغيره عن أنس: أن رجلًا جاء إلى النبي ï·؛، فقال: يا رسول الله أي الدعاء أفضل؟ قال: «سل ربك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة»، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: يا رسول الله أي الدعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم قال: «فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت»(5).
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
والعافية في الدنيا من أغلى ما يطلبه الإِنسان ويتمناه، ومما يزيد العافية: الصوم؛ إذ به تحفظ الجوارح الظاهرة والباطنة.
------------
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/380).
(2) رواه البخاري مع الفتح (4/118)، برقم(1904) في الصيام، باب هل يقول: إني صائم، ومسلم(2/806)، برقم(1151) في الصيام، باب فضل الصيام.
(3) لفظ الحديث: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» رواه البخاري مع الفتح (9/106)، برقم(5065) في النكاح، باب قول النبي ï·؛: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج»، ومسلم(2/1018)، برقم(1400) في النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.
(4) رواه البخاري مع الفتح (11/229)، برقم(6412) في الرقاق، باب ما جاء في الرقاق.
(5) رواه الترمذي (5/499)، برقم(53120) في الدعوات، باب رقم(85)، وابن ماجه (2/1265)، برقم(3848) في الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 15)
الصحة ورمضان (2-2)
ثانيًا: لا شكَّ أن الإنسان في هذه الدنيا معرض لابتلاء الله تعالى، وعلى قدر إيمان الإنسان يكون ابتلاؤه، والأَمراض بمختلف أنواعها من أنواع الابتلاء، وقد علمنا الإِسلام طرقًا كثيرة للوقاية من تلك الأَمراض، ومن أهمها:
1- النظافة المستمرة للجسم ظاهرًا وباطنًا، ونظافة البيوت والمساجد والطرقات، كما أن نظافة الباطن من المعاصي حصانة كبرى من الأمراض الحسية والمعنوية، ومما ورد في ذلك قوله ﷺ فيما رواه الحاكم وغيره: «ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعمل بها علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم»(6).
وكم من الأمراض تحصل بسبب مخالفة شرع الله وارتكاب نواهيه؟ وكم من أنواع البلايا حصلت بسبب اختلاط الجنسين اختلاطًا غير شرعي؟
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
2- ومن طرق الوقاية: الاهتمام بالمطعم والمشرب، وفي مقدمة ذلك: أن يكون حلالًا طيبًا، وأن لا يكون ضارًّا بالجسم أو العقل، وفي هذه المناسبة أوجِّه دعوة صادقة للذين ابتلاهم الله تعالى بتناول شيء من المخدرات أو المسكرات وما شابهها كالتدخين مثلًا، واعتادوا على ذلك: وأدمنوا عليه، أوجه دعوة لهم بمناسبة هذا الشهر الكريم أن يحاولوا جادين الإِقلاع عن هذه الأُمور المحرمة، مستغلين هذا الشهر المبارك بما يفرض عليهم من كسر شهوة أنفسهم، مستغلين فترات إجابة الدعاء ليرفعوا أيديهم سائلين الله أن يعافيهم مما ابتلاهم به، والله سبحانه وتعالى يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، أوجه دعوة صادقة ليرأفوا بأنفسهم وأجسادهم وأموالهم وأعراضهم وأولادهم، فخطر هذه الأُمور عظيم وشرها مستطير.
أيها المسلمون الكرام:
ومن طرق الوقاية أيضًا: الاعتدال في المطعم والمشرب، ومن ذلك ما ورد عن النبي ﷺ من آثار في ذلك، ومنها: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه»(7)، ومنها: «إياكم والبطنة فإنها مفسدة للدين، مورثة للسقم – يعني المرض – مكسلة عن العبادة»(8)، ومنها: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفَّس في الإِناء»(9)، وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي لا يتسع المجال لسردها.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
3- ومن منهج الإِسلام الصحي: الإيمان التام بأن ما حصل للإنسان من أمراض ونحوها بعد أخذه بالأسباب ما هو إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى، ولا يزل هذا المرض إلا هو سبحانه وتعالى، فإذا قابل هذا المرض بهذه العقيدة يكون مرضه أجرًا وثوابًا له، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به سيئاته كما تحطّ الشجرة ورقها»(10)، وروى البخاري أيضًا عن النبي ﷺ أنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»(11).
ومع ذلك أمرنا بالأخذ بالأَسباب قبل وقع المرض بالوقاية منه، وبعد وقوعه بالتداوي بما أحل الله لنا، روى مسلم عن جابر مرفوعًا: «لكل داء دواء فإن أصاب دواء الداء برأ بإذن الله»(12)، والآثار في هذا كثيرة، ومن أهم طرق العلاج قبل المرض وبعده: الصيام فرضًا ونفلًا، فلله الحكمة البالغة سبحانه من عليم حكيم.
أيها المسلمون الكرام:
ونحن على مشارف ختام شهرنا علينا أن نمعن النظر في مثل هذه الأَشياء، ليتقوى إيماننا وصلتنا بربنا سبحانه، ونمضي في هذه الحياة بعزم وصدق في التمسك بديننا، وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب وهو المستعان.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
_______
(6) رواه ابن ماجه (2/1332)، برقم(4019) في الفتن، باب العقوبات، والحاكم (4/540) في الفتن والملاحم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(7) رواه الترمذي (4/510)، برقم(2380) في الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، وأحمد (4/132)، وابن ماجه برقم(3349) في الأطعمة، باب الاقتصاد في الأكل.
(8) رواه ابن حبان في المجروحين (2/35) في ترجمة «عبد الله بن عبد الرحمن الجزري»، وذكره ابن حجر في اللسان (3/307).
(9) رواه البخاري (1/253)، برقم(153) في الوضوء، باب النهي عن الاستنجاء باليمين، ومسلم (1/225)، برقم(267) في الطهارة، باب النهي عن الاستنجاء باليمين.
(10) رواه البخاري (10/120)، برقم(5659) في المرضى، باب وضع اليد على المريض، ومسلم (4/1991)، برقم(2571) في البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من نصب أو حزن أو نحو ذلك.
(11) رواه مسلم (4/2295)، برقم(2990)، في الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير.
(12) رواه البخاري مع الفتح (10/134)، برقم(5678) في الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، ومسلم (4/1728)، برقم(2203) في السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 16)
التنافس في الخير (1-3)
الحمد لله الذي أمرنا بفعل الطاعات وترك السيئات، وحث على اغتنام الأوقات والمواسم الفاضلات بالاستباق إلى الخيرات، والمنافسة في الصالحات، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وزوجاته الطاهرات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم تبعث البريات، أما بعد:
ما أن يدخل شهر رمضان المبارك ويهل هلاله على المسلمين إلا ويحس المسلم وكأنه في دورة إيمانية يلين بها قلبه، ويطمئن بها فؤاده، ويتقرب فيها من ربه سبحانه وتعالى، وينعم فيها بالتقلب في الصالحات وكأنه ينتقل من روضة إلى روضة، وكيف لا وهو في شهر التنافس في الخير، والتسابق في ميدان العمل الصالح؟ مع هذا التنافس نعيش سويًّا تبيانًا له وتوضيحًا وتشجيعًا في الوقفات الآتية:
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
الوقفة الأولى:
خلق الله تعالى الإِنسان ومنحه إمكانات عظيمة، يقوم عليها معاشه وحياته، وفضَّله بها على المخلوقات، منحه سبحانه العقل الذي يفكر به، ويميز به بين الخير والشر، والنافع والضار، ومنحه الحواس التي يحس بها بما حوله، ومنحه الشعور والإِحساس الذي تتحرك به عواطفه؛ كل ذلك لتكتمل شخصيته، وتتوازن مقومات حياته.
وهذا كله بلا شك من نعم الله سبحانه على الإنسان، ولذا امتد الناس في معاشهم في هذه الحياة، وصاروا يتنافسون باستغلال هذه الإمكانات، وصارت الحياة ميدانًا لهذا التسابق بمختلف أنواع المنافسات، فكلما قلبت طرفك في مشارق الأرض ومغاربها تجد أحوال الناس كذلك.
فهناك فئات من الناس همهم المال، ركزوا جهودهم في جمعه وتصريفه، ويختلف هؤلاء في النظر إليه وفي أساليب جمعه والصرف منه، وفئات أخرى همهم ما يجدُّ ويخترع في دنيا الناس، فما استحدث من آلة إلا والتفكير أسبق إلى ما بعدها، أيها أكثر تسهيلًا وأقل جمعًا، وفئات أخرى وجهوا همهم وإمكاناتهم إلى إرضاء رغباتهم وإشباع شهواتهم، كل بحسب ما يرغب ويهوى، مستغلًا ما استطاع من نعم الله سبحانه وتعالى، ومن الناس من استغل إمكاناته الجسمية والبدنية فوجهها إلى ميادين مناسبة لهذه الإِمكانات حتى على مستوى الأُمم بأكملها.
هذه الميادين وغيرها التي يتبارى فيها الناس: ما مكانها وقيمتها في شرع الله سبحانه وتعالى؟ أيعارضها؟ أم يوافقها؟ أم يوجهها ويرشدها نحو نفع البلاد والعباد؟ هذا ما نتناوله في بقية الوقفات:
الوقفة الثانية:
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
لا شكَّ أن ديننا دين الخير والصلاح، ودين السعادة والرخاء، دين يقر لك ما فيه صلاح الفرد والمجتمع، أقرّ مبدأ المنافسة، وشجع على استغلال إمكانات الإِنسان، ووجه إلى ما يستحق بذل الجهد فيه، وخطَّ خطوطًا عريضة وقواعد كلية وأهدافًا تقصد لتحقيقها، وجعل في مقدمة ما يسعى إليه الإنسان وينافس فيه: ما يسعد الإِنسان في آخرته، ويُقَوِّم حياته في هذه الدنيا بما لا يتعارض مع السعادة في الأخرى، يقول سبحانه: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77] فالهدف من السعي هو الدار الآخرة.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 17)
التنافس في الخير (2-3)
الوقفة الثالثة:
على هذا الأَساس المتين والقاعدة العامة وجه المولى سبحانه وتعالى إلى المنافسة والتباري، يقول جل من قائل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، ويقول جل شأنه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]، ويقول جل ذكره: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الحديد: 21] أما ميدان التسابق فهو العمل الصالح، يقول سبحانه: ﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9]، ويقول جل شأنه: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62].
وفي الحث على هذا التنافس الشريف، يوصي الرسول ﷺ بقوله فيما رواه مسلم: «بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»(1)، وروى الترمذي بإسناد حسّنه بعض أهل العلم أن النبي ﷺ قال: «بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنًى مطغيًّا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ؟»(2).
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
الوقفة الرابعة:
هذه الميادين الواسعة للتسابق هي ميادين المؤمنين الصادقين الذين قال الله عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ*وَ لَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون*وَال َذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ*أُول ـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57 – 61].
وقد تمثل صحابة رسول الله ﷺ هذا التسابق الشريف والمنافسة العظيمة على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي، وهاك مثالًا للتنافس الفردي لأَصحاب الهمم العالية والقلوب المؤمنة الصادقة: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرةأن النبي ﷺ قال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعم اليوم مسكينًا؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم مريضًا؟» قال أبو بكر: أنا، قال النبي ﷺ: «ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة»(3).
أما التنافس الجماعي، فمما ورد فيه ما جاء في الصحيح أن جملة من فقراء الصحابةجاؤوا إلى رسول الله ﷺ شاكين حالهم، غابطين إخوانهم الأَغنياء؛ لأنهم وجدوا ما ينفقونه، ويتصدقون به ويبذلون، فقالوا لرسول الله ﷺ: «ذهب أهل الدثور بالأُجور – أي أهل الأموال – يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق»(4) همهم ومشكلتهم أن إخوانهم سبقوهم في هذا الميدان العظيم، أحزنهم لأَنهم لم يجدوا ما ينفقون، لكن هذا الدين العظيم يجعل ميادين التنافس كثيرة، لذلك أرشدهم الرسول ﷺ إلى شيءٍ من تلك الميادين يعوض ما فقدوه، دلّهم على ذكر الله تعالى فيسبحونه ويحمدونه ويكبرونه، ثلاثًا وثلاثين دبر كل صلاة، ويختمون المائة بلا إله إلا الله، هكذا كان السلف رضوان الله عليهم، فهل لنا أن نتشبه بهم ونحن نعيش في رحاب هذا الشهر المبارك؟
__________
(1) رواه مسلم (1/118) في الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأَعمال، والإمام أحمد (2/304، 372، 523).
(2) رواه الترمذي (4/478)، برقم(2306) في الزهد، باب ما جاء في المبادرة بالعمل.
(3) رواه مسلم (2/713)، برقم(1028) في الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر.
(4) رواه البخاري (2/325)، برقم(843) في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، ومسلم (2/697)، برقم(1006) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 18)
التنافس في الخير (3-3)
الوقفة الخامسة:
كل منافس يطمح لنيل مركز متقدم، ولا شك أن ثمار التسابق في ميادين الخير عظيمة، ونتائجها مُرْضِية في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: ï´؟وَسَارِعُوا إِلَىظ° مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ غ— وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* َالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىظ° مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُو َـظ°ئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا غڑ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَï´¾ [آل عمران: 133 – 136].
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
إن التنافس في الأُمور الشريفة يزيد المنافس شرفًا وهدًى وتقًى، ويفتح له من الخير ما لم يخطر له على بال، يقول تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْï´¾ [محمد: 17].
إن التنافس في الطاعات يضاعف الحسنات ويرفع الدرجات، روى مسلم وغيره أن رسول الله ï·؛ قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء»(5)، ومن أعظم ثمرات المنافسة في الخير القرب من الرب جلا وعلا ï´؟وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ*أ ولَـظ°ئِكَ الْمُقَرَّبُونَï´¾ [الواقعة: 10 – 11].
أيها المسلمون:
إن أبواب الخير كثيرة ومفتوحة للراغبين، والمؤمن العاقل الحصيف هو الذي يبادر إلى الخيرات، ويقطف من ثمراتها، وبخاصة في هذا الشهر المبارك الذي تضاعف فيه الأُجور، فالله الله ما دام في الوقت مهلة، وفي العمر بقية، قبل فوات الأوان فيقول المفرط: ليت ليت، ولكن لا تنفع شيئًا ليت.
أسأل الله تعالى أن يرفع درجاتنا، ويكفر سيئاتنا، وأن يعافينا ويعفو عنَّا، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، إنه سميع مجيب وهو المستعان.
_________
(5) رواه مسلم (2/704)، برقم(1017)، في الزكاة، باب الحث على الصدقة، والنسائي (5/75 – 77) في الزكاة، باب التحريض على الصدقة.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 19)
الدعاء (1-3)
الحمد لله القوي العزيز، له ما في السموات والأَرض، يقول للشيء: «كن» فيكون، أحمده سبحانه من لطيف خبير، وأشكره على فضله وامتنانه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد البشير النذير، والسراج المنير، أفضل الدَّاعين إلى الله والملتجئين إليه في السرَّاء والضرَّاء، وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد:
فإن رمضان والصيام لهما ارتباط كبير، ووثاق شديد، مع كثير من الطاعات والقربات، فما أن يقدم شهر رمضان المبارك إلا ويتبارى الموفّقون للمزيد من تلك الطاعات، فيشدّون وثاقهم مع خالقهم رب الأَرض والسموات، ويرجعون إلى أنفسهم ليحاسبوها على التقصير والهفوات، ولازلنا نعيش في تلك الرياض المخضرة، المتزينة بزينة الإيمان.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
فنقف فيما يلي مع عبادة عظيمة جليلة، لها شأنها في رمضان، وارتباطها الوثيق بالمسلم في كل زمان ومكان وحال، عبادة مع شأنها العظيم هي يسيرة على من يسّرها الله تعالى عليه؛ ذلكم هو الدعاء، وما أدراكم ما الدعاء، إنه الحبل الوثيق الواصل بين الخالق والمخلوق، له فضل عظيم، وشروط وآداب مهمة، وثمار عاجلة وآجلة، نعرض ما يتيسر من ذلك في الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى:
حقيقة الدعاء: إظهار الافتقار إلى الله، والتبري من الحول والقوة إلا له سبحانه، والاستشعار للذلة، وهو سمة العبودية.
الدعاء هو الاستعانة بالله سبحانه واللجوء إليه ومناداته؛ لجلب النفع والخير، ودفع الأذى والشر، والدعاء هو الثناء على الله تعالى بما هو أهله وسؤاله خيري الدنيا والآخرة، هذا الدعاء له شأن عظيم في دين الله، فالعباد في هذه الحياة لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فلا غنى لهم عن خالقهم لحظة من اللحظات، تُرى هل يُقدِّر الإنسان ما يحصل له من خير أو شر في ساعاته المقبلة؟ وهل يعلم ما سيكون في غده ومستقبله؟
فالإِنسان معلق بالله سبحانه وتعالى، لا يملك لنفسه – فضلًا عن غيره – خيرًا ولا شرًّا، يقول جل ذكره: ï´؟وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًاï´¾ [الفرقان: 3]، ويقول جلت قدرته: ï´؟قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًاï´¾ [الفتح: 11]، ويقول: ï´؟قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُï´¾ [الأعراف: 188].
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
الوقفة الثانية:
هذا الدعاء الذي يتلفظ به الإنسان وهو مليء بالشعور بالحاجة إليه تعالى، يتلفظ به بتذلل ورغبة ورهبة، لا غنى لأَي فرد عنه في أي حال من أحواله، شدة ورخاء، صحة وعافية، كبيرًا وصغيرًا.
هذا الدعاء له فضله العظيم وآثاره المباركة، جاءت النصوص العظيمة ببيانها بصيغ مختلفة؛ بالحث عليه تارة، والتشجيع عليه، وبيان أهميته، وعظم نتائجه، تارة أخرى، يقول سبحانه: ï´؟وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ غڑ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَï´¾ [غافر: 60]، ويقول جل شأنه: ï´؟ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً غڑ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَï´¾ [الأعراف: 55].
ومن اللطيف ذكره أن الله جل وعلا قرن الدعاء بالصيام، فبعد أن ذكر الصيام ذكر بعده قوله جل شأنه: ï´؟ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ غ– أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ï´¾ [البقرة: 186].
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 20)
الدعاء (2-3)
الوقفة الثالثة:
الدعاء دأب الأنبياء والصالحين، فاستجاب الله لهم، ذكر الله سبحانه عن نوح: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ*فَد عَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ *فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ*وَحَمَلْ َاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ* وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 9- 15].
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقال عن زكريا: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا*وَإِنِ ي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا*يَرِثُ ِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: 4 – 6].
وهذا إبراهيم يتضرع إلى الله حتى رزقه الذرية على كبره فحمد الله وشكره، يقول تعالى عنه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ*رَبِ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 39 – 41] فلك – أخي في الله – قدوة في الصفوة من الخلق.
الوقفة الرابعة:
كان داعٍ يطمع في استجابة دعائه، وقبول تضرعه، وجلب الخير له، وفدع الشر عنه، وقد أخبر المولى جل وعلا بأن من كرمه وفضله وجوده أن ذلك حاصل لا محالة: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186].
ولكن لا تحصل الإِجابة إلا بحصول أسبابها، ومن أهمها: إخلاص هذا الدعاء لله وعدم إشراك أحد معه غيره من شجر أو حجر أو ضريح أو ولي أو سيد، أو كائنٍ من كان، يقول تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [غافر: 65] فمن دعا غير الله، نبيًّا من الأنبياء أو ملكًا من الملائكة، أو وليًّا من الأَولياء، أو صاحب ضريح مقبور؛ فقد وقع في الشرك الأَكبر، والعياذ بالله، الذي بيَّن الله مصير أهله: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة: 72].
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
ومن عوامل إجابة الدُّعاء: أن يكون مطعم العبد ومشربه حلالًا، فلا يتعامل إلا بالمال الطيب، فالله طيب لا يقبل إلا طيِّبًا، فقد جاء في الصحيح أن الرسول ﷺ: «ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له»(1)، فإلى من يتعاملون بالغش والخديعة وإلى من ينمون أموالهم بالربا، وإلى من يأكلون أموال الناس بالباطل: أن يعلموا أنهم حجبوا دعاءهم عن القبول، ألا فليتأملوا حالهم قبل فوات الأوان.
ومن المهم في الدعاء: ترك الاعتداء في الدعاء، وتعجُّل الإجابة، جاء في الصحيح عن الرسول ﷺ أنه قال: «ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل دعوته، وأما إن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها»(2).
________
(1) رواه مسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة (2/703)، برقم(1015).
(2) رواه أحمد (3/18)، والترمذي (5/529)، برقم(93573) في الدعوات، باب في انتظار الفرج، والحاكم (1/493) وقال: صحيح الإسناد إلا أن الشيخين لم يخرجاه.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif
رد: وقفات مع المشتاقين لرمضان (اللهم بلغنا رمضان)فلنستعد
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
وقفات مع الصائمين
أ. د. فالح بن محمد بن فـالح الصغيّر
(الحلقة 21)
الدعاء (3-3)
الوقفة الخامسة:
لا شكَّ أن الموفَّقين هم الذين يُلِحُّون على الله في الدعاء، ويتحررون أوقات الإِجابة وأمكنتها، كشهر رمضان، وحال الصيام، والحج وآخر الليل، وحال انتظار الصلوات، وفي السجود، وفي البيت الحرام.
كما أن الدعاء يكمل بآدابه، فإذا ما دعا الداعي بادئًا بحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله ﷺ ويختم بذلك، مستقبلًا القبلة، رافعًا يديه، متطهِّرًا، آخذًا بجوامع الدعاء، مجتنبًا الألفاظ الغامضة والمعاني المتشابهة، محيطًا ذلك بخشوع ورغب ورهب، وصدق لجوء، وحضور قلب، موقنًا بالإِجابة، صادق الرجاء؛ فحريٌّ أن يجيب الله تعالى دعاءه ويعطيه مسألته بمنِّه وكرمه سبحانه.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
الوقفة السادسة:
لا شكَّ أن الصدق في الدعاء وقت الرخاء عامل قوي لإجابة الدعاء وقت الشدة، فإن كثيرًا من الذين انشغلوا وقت رخائهم وتشاغلوا بالدنيا، وغفلوا عن الله سبحانه ونسوا طاعته، فإذا ما حل بهم مكروه وكرب أو حاقت به أزمة؛ ذكروا ربهم فأقبلوا عليه ليزيح عنهم هذه الكربة، فهؤلاء أخطأوا، وخالفوا توجيه الرسول ﷺ: «تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة»(3).
ومن المتناقضات في شأن الدعاء: أن يقبل العبد على الله تعالى داعيًا راجيًا، وهو في الوقت نفسه يشعل الحرب مع الله تعالى بارتكاب ما يسخطه، ويعمل ما يجر الظلم إلى خلقه، فهذا الصنف خادع نفسه وناقض قولُه فعلَهُ، نسأل الله العفو والعافية.
الوقفة السابعة:
إن الله سبحانه وتعالى كريم يحب الكرام، فهو أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، ويحب من عباده أن يكونوا كرامًا فيكثروا من الدعاء، ومن أنفع الدعاء: الدعاء للغير بظهر الغيب، فقد أخبر الرسول ﷺ بأن على رأس الداعي ملك يقول: ولك بمثل ذلك.
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.png
والداك وإن علوا، وزوجتك وذريتك، وأولياء الأمور والعلماء، وأحبابك وأصدقاؤك، ومن له حق عليك، وإخوانك المسلمين في كل مكان... لا تنسهم، فكن كريمًا وخَصِّص لهم جزءًا من دعائك، تقبل الله منا ومنك، أسأل الله الكريم أن يرزقنا إيمانًا خالصًا، ويقينًا صادقًا، وعملًا صالحًا، ودعاء متقبلًا، إنه سميع مجيب وهو المستعان.
___________
(3) رواه الإمام أحمد في المسند (1/307).
https://www.traidnt.net/vb/images/im...21903695-1.gif